الأربعاء، 31 أغسطس 2022

مج16و17.تاريخ الطبري = تاريخ الرسل والملوك، وصلة تاريخ الطبري محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري (المتوفى: 310هـ)

 

 مج16.تاريخ الطبري = تاريخ الرسل والملوك، وصلة تاريخ الطبري محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري (المتوفى: 310هـ)

مهموما، فوقفت بين يديه مليا من النهار، وهو على تلك الحال، فلما طال ذلك أقدمت عليه، فقلت: يا سيدي، جعلني الله فداك! ما حالك هكذا، عله فأخبرني بها، فلعله يكون عندي دواؤها، أو حادثة في بعض من تحب فذاك ما لا يدفع ولا حيلة فيه إلا التسليم والغم، لأدرك فيه، أو فتق ورد عليك في ملكك، فلم تخل الملوك من ذلك، وأنا أولى من افضيت اليه بالخبر، وتروجت إليه بالمشورة فقال: ويحك يا جبريل! ليس غمي وكربي لشيء مما ذكرت، ولكن لرؤيا رأيتها في ليلتي هذه، وقد أفزعتني وملأت صدري، واقرحت قلبي، قلت: فرجت عني يا أمير المؤمنين، فدنوت منه، فقبلت رجله، وقلت: أهذا الغم كله لرؤيا! الرؤيا انما تكون من خاطر او بخارات رديئه أو من تهاويل السوداء، وإنما هي أضغاث أحلام بعد هذا كله قَالَ:
فأقصها عليك، رأيت كأني جالس على سريري هذا، إذ بدت من تحتي ذراع أعرفها وكف أعرفها، لا أفهم اسم صاحبها، وفي الكف تربة حمراء، فقال لي قائل أسمعه ولا أرى شخصه: هذه التربة التي تدفن فيها، فقلت: وأين هذه التربة؟ قَالَ: بطوس وغابت اليد وانقطع الكلام، وانتبهت فقلت:
يا سيدي، هذه والله رؤيا بعيدة ملتبسة، أحسبك أخذت مضجعك، ففكرت في خراسان وحروبها وما قد ورد عليك من انتقاض بعضها قَالَ: قد كان ذاك، قَالَ: قلت: فلذلك الفكر خالطك في منامك ما خالطك، فولد هذه الرؤيا، فلا تحفل بها جعلني الله فداك! وأتبع هذا الغم سرورا، يخرجه من قلبك لا يولد علة قَالَ: فما برحت أطيب نفسه بضروب من الحيل، حتى سلا وانبسط، وأمر بإعداد ما يشتهيه، ويزيد في ذلك اليوم في لهوه.
ومرت الأيام فنسي، ونسينا تلك الرؤيا، فما خطرت لأحد منا ببال، ثم قدر مسيره إلى خراسان حين خرج رافع، فلما صار في بعض الطريق، ابتدأت به العلة فلم تزل تتزايد حتى دخلنا طوس، فنزلنا في منزل الجنيد بْن

(8/343)


عبد الرحمن في ضيعة له تعرف بسناباذ، فبينا هو يمرض في بستان له في ذلك القصر إذ ذكر تلك الرؤيا، فوثب متحاملا يقوم ويسقط، فاجتمعنا إليه، كل يقول: يا سيدي ما حالك؟ وما دهاك؟ فقال: يا جبريل، تذكر رؤياي بالرقة في طوس؟ ثم رفع رأسه إلى مسرور، فقال: جئني من تربة هذا البستان، فمضى مسرور، فأتى بالتربة في كفه حاسرا عن ذراعه، فلما نظر إليه قَالَ: هذه والله الذراع التي رأيتها في منامي، وهذه والله الكف بعينها، وهذه والله التربة الحمراء ما خرمت شيئا، وأقبل على البكاء والنحيب ثم مات بها والله بعد ثلاثة، ودفن في ذلك البستان.
وذكر بعضهم أن جبريل بْن بختيشوع كان غلط على الرشيد في علته في علاج عالجه به، كان سبب منيته، فكان الرشيد هم ليلة مات بقتله، وأن يفصله كما فصل أخا رافع، ودعا بجبريل ليفعل ذلك به، فقال له جبريل: أنظرني إلى غد يا أمير المؤمنين، فإنك ستصبح في عافية فمات في ذلك اليوم.
وذكر الحسن بْن علي الربعي أن أباه حدثه عن أبيه- وكان جمالا معه مائة جمل، قَالَ: هو حمل الرشيد إلى طوس- قَالَ: قَالَ الرشيد:
احفروا لي قبرا قبل أن أموت، فحفروا له، قَالَ: فحملته في قبة أقود به، حتى نظر إليه قَالَ، فقال: يا بن آدم تصير إلى هذا! وذكر بعضهم أنه لما اشتدت به العلة أمر بقبره فحفر في موضع من الدار التي كان فيها نازلا، بموضع يسمى المثقب، في دار حميد بْن أبي غانم الطائي، فلما فرغ من حفر القبر، أنزل فيه قوما فقرءوا فيه القرآن حتى ختموا، وهو في محفة على شفير القبر.
وذكر محمد بْن زياد بْن محمد بْن حاتم بْن عبيد الله بْن أبي بكرة، أن سهل بْن صاعد حدثه، قَالَ: كنت عند الرشيد في بيته الذي قبض فيه، وهو يجود بنفسه، فدعا بملحفة غليظة فاحتبى بها، وجعل يقاسي

(8/344)


ما يقاسي، فنهضت فقال لي: أقعد يا سهل، فقعدت وطال جلوسي لا يكلمني ولا أكلمه، والملحفة تنحل فيعيد الاحتباء بها، فلما طال ذلك نهضت، فقال لي: إلى أين يا سهل؟ قلت: يا أمير المؤمنين، ما يسع قلبي أن أرى أمير المؤمنين يعاني من العلة ما يعاني، فلو اضطجعت يا أمير المؤمنين كان أروح لك! قَالَ: فضحك ضحك صحيح، ثم قَالَ: يا سهل إني أذكر في هذه الحال قول الشاعر:
وإني من قوم كرام يزيدهم ... شماسا وصبرا شدة الحدثان
وذكر عن مسرور الكبير، قَالَ: لما حضرت الرشيد الوفاة، وأحس بالموت، أمرني أن أنشر الوشي فآتيه بأجود ثوب أقدر عليه وأغلاه قيمة، فلم أجد ذلك في ثوب واحد، ووجدت ثوبين أغلى شيء قيمة، وجدتهما متقاربين في اثمانهما، إلا أن أحدهما أغلى من الآخر شيئا، وأحدهما أحمر والآخر أخضر، فجئته بهما، فنظر إليهما وخبرته قيمتهما، فقال: اجعل أحسنهما كفني، ورد الآخر إلى موضعه.
وتوفي- فيما ذكر- في موضع يدعى المثقب، في دار حميد بْن أبي غانم، نصف الليل، ليلة السبت لثلاث خلون من جمادى الآخرة من هذه السنة، وصلى عليه ابنه صالح، وحضر وفاته الفضل بْن الربيع وإسماعيل بْن صبيح، ومن خدمه مسرور وحسين ورشيد.
وكانت خلافته ثلاثا وعشرين سنة وشهرين وثمانية عشر يوما، أولها ليلة الجمعة لأربع عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الأول سنة سبعين ومائة، وآخرها ليلة السبت لثلاث ليال خلون من جمادى الآخرة سنة ثلاث وتسعين ومائة.
وقال هشام بْن محمد: استخلف أبو جعفر الرشيد هارون بْن محمد ليلة الجمعة لأربع عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ سنة سبعين ومائة، وهو يومئذ ابن اثنتين وعشرين سنة، وتوفي ليلة الأحد غرة جمادى الأولى وهو ابن

(8/345)


خمس وأربعين سنة سنة ثلاث وتسعين ومائة، فملك ثلاثا وعشرين سنة وشهرا وستة عشر يوما وقيل: كان سنه يوم توفي سبعا وأربعين سنة وخمسة أشهر وخمسة أيام، أولها لثلاث بقين من ذي الحجة سنة خمسين وأربعين ومائة، وآخرها يومان مضيا من جمادى الآخرة سنة ثلاث وتسعين ومائة.
وكان جميلا وسيما أبيض جعدا، وقد وخطه الشيب.

ذكر ولاة الأمصار في أيام هارون الرشيد
ولاة المدينة: إسحاق بْن عيسى بْن علي، عبد الملك بْن صالح بْن علي، محمد بْن عبد الله، موسى بن عيسى بْن موسى، إبراهيم بْن محمد بْن إبراهيم، علي بْن عيسى بْن موسى، محمد بْن إبراهيم، عبد الله بْن مصعب الزبيري، بكار بْن عبد الله بْن مصعب، أبو البختري وهب بْن وهب.
ولاة مكة: العباس بْن محمد بْن ابراهيم، سليمان بن جعفر بن سليمان، موسى بْن عيسى بْن موسى، عبد الله بْن محمد بْن إبراهيم، عبد الله بْن قثم ابن العباس، محمد بن ابراهيم، عبيد الله بْن قثم، عبد الله بْن محمد بْن عمران، عبد الله بْن محمد بْن إبراهيم، العباس بْن موسى بْن عيسى، علي بْن موسى بْن عيسى، محمد بْن عبد الله العثماني، حماد البربرى، سليمان بن جعفر ابن سليمان، أحمد بْن إسماعيل بْن علي، الفضل بْن العباس بْن محمد.
ولاة الكوفة: موسى بْن عيسى بْن موسى، يعقوب بْن أبي جعفر، موسى ابن عيسى بْن موسى، العباس بْن عيسى بْن موسى، إسحاق بْن الصباح الكندي، جعفر بْن جعفر بْن أبي جعفر، موسى بْن عيسى بْن موسى، العباس بْن عيسى بْن موسى، موسى بْن عيسى بْن موسى.
ولاة البصرة: محمد بْن سليمان بْن علي، سليمان بْن ابى جعفر، عيسى ابن جعفر بْن أبي جعفر، خزيمة بْن خازم، عيسى بْن جعفر، جرير بْن يزيد، جعفر بْن سليمان، جعفر بْن أبي جعفر، عبد الصمد بن على، مالك

(8/346)


ابن علي الخزاعي، إسحاق بْن سليمان بْن علي، سليمان بن ابى جعفر، عيسى ابن جعفر، الحسن بْن جميل مولى أمير المؤمنين، إسحاق بْن عيسى بْن علي.
ولاة خراسان: أبو العباس الطوسي، جعفر بْن محمد بْن الأشعث، العباس بْن جعفر، الغطريف بْن عطاء، سليمان بن راشد على الخراج، حمزه ابن مالك، الفضل بْن يحيى، منصور بْن يزيد بْن منصور، جعفر بْن يحيى خليفته بها، علي بْن الحسن بْن قحطبة، علي بْن عيسى بْن ماهان، هرثمة بْن أعين.

ذكر بعض سير الرشيد
ذكر العباس بْن محمد عن أبيه، عن العباس، قَالَ: كان الرشيد يصلي في كل يوم مائة ركعة إلى أن فارق الدنيا، إلا أن تعرض له علة، وكان يتصدق من صلب ماله في كل يوم بألف درهم بعد زكاته، وكان إذا حج حج معه مائة من الفقهاء وابنائهم، وإذا لم يحج أحج ثلاثمائه رجل بالنفقة السابغة والكسوة الباهرة، وكان يقتفي آثار المنصور، ويطلب العمل بها إلا في بذل المال، فإنه لم ير خليفة قبله كان أعطى منه للمال، ثم المأمون من بعده وكان لا يضيع عنده إحسان محسن، ولا يؤخر ذلك في أول ما يجب ثوابه وكان يحب الشعراء والشعر، ويميل إلى أهل الأدب والفقه، ويكره المراء في الدين، ويقول: هو شيء لا نتيجة له، وبالحري إلا يكون فيه ثواب، وكان يحب المديح، ولا سيما من شاعر فصيح، ويشتريه بالثمن الغالي.
وذكر ابن أبي حفصة أن مروان بْن أبي حفصة دخل عليه في سنة إحدى وثمانين ومائة يوم الأحد لثلاث خلون من شهر رمضان، فأنشده شعره الذي يقول فيه:
وسدت بهارون الثغور فأحكمت ... به من أمور المسلمين المرائر

(8/347)


وما انفك معقودا بنصر لواؤه ... له عسكر عنه تشظى العساكر
وكل ملوك الروم أعطاه جزيه ... على الرغم قسرا عن يد وهو صاغر
لقد ترك الصفصاف هارون صفصفا ... كأن لم يُدَمِّنْهُ من الناس حاضر
أناخ على الصفصاف حتى استباحه ... فكابره فيها ألج مكابر
إلى وجهه تسمو العيون وما سمت ... إلى مثل هارون العيون النواظر
ترى حوله الأملاك من آل هاشم ... كما حفت البدر النجوم الزواهر
يسوق يديه من قريش كرامها ... وكلتاهما بحر على الناس زاخر
إذا فقد الناس الغمام تتابعت ... عليهم بكفيك الغيوم المواطر
على ثقة ألقت إليك أمورها ... قريش، كما ألقى عصاه المسافر
أمور بميراث النبي وليتها ... فأنت لها بالحزم طاو وناشر
إليكم تناهت فاستقرت وإنما ... إلى أهله صارت بهن المصاير
خلفت لنا المهدي في العدل والندى ... فلا العرف منزور ولا الحكم جائر
وأبناء عباس نجوم مضيئة ... إذا غاب نجم لاح آخر زاهر
على بنى ساقي الحجيج تتابعت ... أوائل من معروفكم وأواخر
فأصبحت قد أيقنت أن لست بالغا ... مدى شكر نعماكم وإني لشاكر
وما الناس إلا وارد لحياضكم ... وذو نهل بالري عنهن صادر
حصون بني العباس في كل مأزق ... صدور العوالي والسيوف البواتر
فطورا يهزون القواطع والقنا ... وطورا بايديهم تهز المخاصر
بأيدي عظام النفع والضر لا تنى ... بهم للعطايا والمنايا بوادر
ليهنكم الملك الذي أصبحت بكم ... أسرته مختالة والمنابر

(8/348)


أبوك ولي المصطفى دون هاشم ... وإن رغمت من حاسديك المناخر
فأعطاه خمسة آلاف دينار، فقبضها بين يديه وكساه خلعته، وأمر له بعشرة من رقيق الروم، وحمله على برذون من خاص مراكبه.
وذكر أنه كان مع الرشيد ابن أبي مريم المدني، وكان مضحاكا له محداثا فكيها، فكان الرشيد لا يصبر عنه ولا يمل محادثته، وكان ممن قد جمع إلى ذلك المعرفة بأخبار أهل الحجاز وألقاب الأشراف ومكايد المجان، فبلغ من خاصته بالرشيد أن بوأه منزلا في قصره، وخلطه بحرمه وبطانته ومواليه وغلمانه، فجاء ذات ليلة وهو نائم وقد طلع الفجر، وقام الرشيد إلى الصلاة فألفاه نائما، فكشف اللحاف عن ظهره، ثم قَالَ له: كيف أصبحت؟ قَالَ: يا هذا ما أصبحت بعد، اذهب إلى عملك، قَالَ: ويلك! قم إلى الصلاة، قَالَ:
هذا وقت صلاة أبي الجارود، وأنا من أصحاب أبي يوسف القاضي فمضى وتركه نائما، وتأهب الرشيد للصلاة، فجاء غلامه فقال: أمير المؤمنين قد قام إلى الصلاة، فقام فألقى عليه ثيابه، ومضى نحوه، فإذا الرشيد يقرأ في صلاة الصبح، فانتهى إليه وهو يقرأ: «وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي» فقال ابن أبي مريم: لا أدري والله! فما تمالك الرشيد أن ضحك في صلاته، ثم التفت اليه وهو كالمغضب، فقال: يا بن أبي مريم، في الصلاة أيضا! قَالَ:
يا هذا وما صنعت؟ قَالَ: قطعت علي صلاتي، قَالَ: والله ما فعلت، إنما سمعت منك كلاما غمني حين قلت: «وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي» فقلت: لا أدري والله! فعاد فضحك، وقال: إياك والقرآن والدين، ولك ما شئت بعدهما.
وذكر بعض خدم الرشيد أن العباس بْن محمد أهدى غالية إلى الرشيد، فدخل عليه وقد حملها معه، فقال: يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداك! قد جئتك بغالية ليس لأحد مثلها، أما مسكها فمن سرر الكلاب التبتيه

(8/349)


العتيقة، وأما عنبرها فمن عنبر بحر عدن، وأما بانها فمن فلان المدني المعروف بجودة عمله، وأما مركبها فإنسان بالبصرة عالم بتأليفها، حاذق بتركيبها، فإن رأى أمير المؤمنين أن يمن علي بقبولها فعل، فقال الرشيد لخاقان الخادم وهو على رأسه: يا خاقان، أدخل هذه الغالية، فأدخلها خاقان، فإذا هي في برنية عظيمة من فضة، وفيها ملعقة، فكشف عنها وابن أبي مريم حاضر، فقال: يا أمير المؤمنين، هبها لي، قَالَ: خذها إليك فاغتاظ العباس، وطار أسفا، وقال: ويلك! عمدت إلى شيء منعته نفسي، وآثرت به سيدي فأخذته! فقال: أمه فاعلة إن دهن بها إلا استه! قَالَ: فضحك الرشيد، ثم وثب ابن أبي مريم، فألقى طرف قميصه على رأسه، وأدخل يده في البرنية، فجعل يخرج منها ما حملت يده، فيضعه في استه مرة وفي أرفاغه ومغابنه أخرى، ثم سود بها وجهه ورأسه وأطرافه، حتى أتى على جميع جوارحه، وقال لخاقان: أدخل إلي غلامي، فقال الرشيد وما يعقل مما هو فيه من الضحك، ادع غلامه، فدعاه، فقال له: اذهب بهذه الباقية، إلى فلانة، امرأته، فقل لها: ادهني بهذا حرك إلى أن أنصرف فانيكك فأخذها الغلام ومضى، والرشيد يضحك، فذهب به الضحك ثم أقبل على العباس فقال: والله أنت شيخ أحمق، تجيء إلى خليفة الله فتمدح عنده غالية! أما تعلم أن كل شيء تمطر السماء وكل شيء تخرج الأرض له، وكل شيء هو في الدنيا فملك يده، وتحت خاتمه وفي قبضته! وأعجب من هذا أنه قيل لملك الموت: أنظر كل شيء يقول لك هذا فأنفذه، فمثل هذا تمدح عنده الغالية، ويخطب في ذكرها، كأنه بقال أو عطار أو تمار! قَالَ: فضحك الرشيد حتى كاد ينقطع نفسه، ووصل ابن أبي مريم في ذلك اليوم بمائة ألف درهم.
وذكر عن زيد بْن علي بن حسين بن زيد بن علي بن الحسين بن على ابن أبي طالب، قَالَ: أراد الرشيد أن يشرب الدواء يوما، فقال له ابن أبي مريم: هل لك أن تجعلني حاجبك غدا عند أخذك الدواء، وكل شيء

(8/350)


أكسبه فهو بيني وبينك؟ قَالَ: أفعل، فبعث إلى الحاجب: الزم غدا منزلك، فإني قد وليت ابن ابى مريم الحجابه وبكر ابن أبي مريم، فوضع له الكرسي، وأخذ الرشيد دواءه، وبلغ الخبر بطانته، فجاء رسول أم جعفر يسأل عن أمير المؤمنين وعن دوائه، فأوصله إليه، وتعرف حاله وانصرف بالجواب، وقال للرسول: أعلم السيدة ما فعلت في الإذن لك قبل الناس، فأعلمها، فبعثت إليه بمال كثير، ثم جاء رسول يحيى بْن خالد، ففعل به مثل ذلك، ثم جاء رسول جعفر والفضل، ففعل كذلك، فبعث إليه كل واحد من البرامكة بصلة جزيلة، ثم جاء رسول الفضل بْن الربيع فرده ولم يأذن له، وجاءت رسل القواد والعظماء، فما أحد سهل إذنه إلا بعث إليه بصلة جزيلة، فما صار العصر حتى صار إليه ستون ألف دينار، فلما خرج الرشيد من العلة، ونقي بدنه من الدواء دعاه، فقال له: ما صنعت في يومك هذا؟ قَالَ: يا سيدي، كسبت ستين ألف دينار، فاستكثرها وقال: وأين حاصلي؟ قَالَ:
معزول، قَالَ: قد سوغناك حاصلنا، فأهد إلينا عشرة آلاف تفاحة، ففعل، فكان أربح من تاجره الرشيد وذكر عن إسماعيل بْن صبيح، قَالَ: دخلت على الرشيد، فإذا جاريه على راسه، وفي يدها صحيفه وملعقة في يدها الأخرى، وهي تلعقه أولا فأولا، قَالَ: فنظرت إلى شيء أبيض رقيق فلم أدر ما هو! قَالَ: وعلم أني أحب أن أعرفه، فقال: يا إسماعيل بْن صبيح، قلت: لبيك يا سيدي، قَالَ: تدري ما هذا؟ قلت: لا، قَالَ: هذا جشيش الأرز والحنطة وماء نخالة السميد، وهو نافع للأطراف المعوجة وتشنيج الأعصاب ويصفي البشرة، ويذهب بالكلف، ويسمن البدن، ويجلو الأوساخ.
قَالَ: فلم تكن لي همة حين انصرفت إلا أن دعوت الطباخ، فقلت: بكر علي كل غداة بالجشيش، قَالَ: وما هو؟ فوصفت له الصفة التي سمعتها.
قَالَ: تضجر من هذا في اليوم الثالث، فعمله في اليوم الأول فاستطبته،

(8/351)


وعمله في اليوم الثاني فصار دونه، وجاء به في اليوم الثالث، فقلت: لا تقدمه.
وذكر أن الرشيد اعتل علة، فعالجه الأطباء، فلم يجد من علته إفاقة، فقال له أبو عمر الأعجمي: بالهند طبيب يقال له منكه، رأيتهم يقدمونه على كل من بالهند، وهو أحد عبادهم وفلاسفتهم، فلو بعث إليه أمير المؤمنين لعل الله أن يبعث له الشفاء على يده! قَالَ: فوجه الرشيد من حمله، ووجه إليه بصلة تعينه على سفره قَالَ: فقدم فعالج الرشيد فبرئ من علته بعلاجه، فأجرى له رزقا واسعا وأموالا كافية، فبينا منكه مارا بالخلد، إذا هو برجل من المانيين قد بسط كساءه، وألقى عليه عقاقير كثيرة، وقام يصف دواء عنده معجونا، فقال في صفته: هذا دواء للحمى الدائمة وحمى الغب وحمى الربع، والمثلثة، ولوجع الظهر والركبتين والبواسير والرياح، ولوجع المفاصل ووجع العينين، ولوجع البطن والصداع والشقيقة ولتقطير البول والفالج والارتعاش فلم يدع علة في البدن إلا ذكر أن ذلك الدواء شفاء منها، فقال منكه لترجمانه: ما يقول هذا؟ فترجم له ما سمع، فتبسم منكه، وقال: على كل حال ملك العرب جاهل، وذاك أنه إن كان الأمر على ما قَالَ هذا، فلِمَ حملني من بلادي، وقطعني عن اهلى، وتكلف الغليظ من مئونتي، وهو يجد هذا نصب عينه وبإزائه! وإن كان الأمر ليس كما يقول هذا فلم لا يقتله! فإن الشريعة قد أباحت دمه ودم من أشبهه، لأنه إن قتل، فإنما هي نفس يحيا بقتلها خلق كثير، وإن ترك هذا الجاهل قتل في كل يوم نفسا، وبالحري أن يقتل اثنتين وثلاثا وأربعا في كل يوم، وهذا فساد في التدبير، ووهن في المملكة.
وذكر أن يحيى بْن خالد بْن برمك ولى رجلا بعض أعمال الخراج بالسواد، فدخل إلى الرشيد يودعه، وعنده يحيى وجعفر بن بْن يحيى، فقال الرشيد ليحيى وجعفر: أوصياه، فقال له يحيى: وفر واعمر، وقال له جعفر: انصف

(8/352)


وانتصف، فقال له الرشيد: اعدل وأحسن.
وذكر عن الرشيد أنه غضب على يزيد بْن مزيد الشيباني، ثم رضي عنه، وأذن له، فدخل عليه، فقال: يا أمير المؤمنين، الحمد لله الذي سهل لنا سبيل الكرامة، وحل لنا النعمة بوجه لقائك، وكشف عنا صبابة الكرب بإفضالك، فجزاك الله في حال سخطك رضا المنيبين، وفي حال رضاك جزاء المنعمين الممتنين المتطولين، فقد جعلك الله وله الحمد، تتثبت تحرجا عند الغضب، وتتطول ممتنا بالنعم، وتعفو عن المسيء تفضلا بالعفو وذكر مصعب بْن عبد الله الزبيري أن أباه عبد الله بْن مصعب أخبره أن الرشيد قَالَ له: ما تقول في الذين طعنوا على عثمان؟ قَالَ: قلت: يا أمير المؤمنين، طعن عليه ناس، وكان معه ناس، فأما الذين طعنوا عليه فتفرقوا عنه، فهم أنواع الشيع، وأهل البدع، وأنواع الخوارج، وأما الذين كانوا معه فهم أهل الجماعة إلى اليوم فقال لي: ما أحتاج أن أسأل بعد هذا.
اليوم عن هذا.
قَالَ مصعب: وقال أبي- وسألني عن منزلة أبي بكر وعمر كانت من رسول الله ص، فقلت له: كانت منزلتهما في حياته منه منزلتهما في مماته، فقال: كفيتني ما أحتاج إليه.
قَالَ: وولى سلام، أو رشيد الخادم- بعض خدام الخاصة- ضياع الرشيد بالثغور والشامات، فتواترت الكتب بحسن سيرته وتوفيره وحمد الناس له، فأمر الرشيد بتقديمه والإحسان إليه، وضم ما أحب أن يضم إليه من ضياع الجزيرة ومصر قَالَ: فقدم فدخل عليه وهو يأكل سفر جلا قد أتى به من بلخ، وهو يقشره ويأكل منه، فقال له: يا فلان، ما أحسن ما انتهى إلى مولاك عنك، ولك عنده ما تحب، وقد أمرت لك بكذا وكذا، ووليتك كذا وكذا، فسل حاجتك، قَالَ: فتكلم وذكر حسن سيرته، وقال: أنسيتهم

(8/353)


والله يا أمير المؤمنين سيرة العمرين قَالَ: فغضب واستشاط، وأخذ سفرجلة فرماه بها، وقال: يا بن اللخناء، العمرين، العمرين، العمرين! هبنا احتملناها لعمر بْن عبد العزيز، نحتملها لعمر بْن الخطاب! وذكر عبد الله بْن محمد بْن عبد الله بْن عبد العزيز بْن عبد الله بْن عبد الله ابن عمر بْن الخطاب، أن أبا بكر بْن عبد الرحمن بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عمر ابن عبد العزيز حدثه، عن الضحاك بْن عبد الله، وأثنى عليه خيرا، قَالَ:
أخبرني بعض ولد عبد الله بْن عبد العزيز، قَالَ: قَالَ الرشيد: والله ما أدري ما آمر في هذا العمري! أكره أن أقدم عليه وله خلف أكرههم، وإني لأحب أن أعرف طريقه ومذهبه، وما أثق بأحد أبعثه إليه، فقال عمر بن بزيع والفضل ابن الربيع: فنحن يا أمير المؤمنين، قَالَ: فأنتما، فخرجا من العرج إلى موضع من البادية يقال له خلص، وأخذا معهما أدلاء من أهل العرج، حتى إذا وردا عليه في منزله أتياه مع الضحى، فإذا هو في المسجد، فأناخا راحلتيهما ومن كان معهما من أصحابهما، ثم أتياه على زي الملوك من الريح والثياب والطيب، فجلسا إليه وهو في مسجد له، فقالا له: يا أبا عبد الرحمن، نحن رسل من خلفنا من أهل المشرق، يقولون لك: اتق الله ربك، فإذا شئت فقم فأقبل عليهما، وقال: ويحكما! فيمن ولمن! قالا: أنت، فقال: والله ما أحب أني لقيت الله بمحجمة دم امرئ مسلم، وإن لي ما طلعت عليه الشمس، فلما أيسا منه قالا: فإن معنا شيئا تستعين به على دهرك، قَالَ:
لا حاجة لي فيه، أنا عنه في غنى، فقالا له: إنها عشرون ألف دينار، قَالَ:
لا حاجة لي فيها، قالا: فأعطها من شئت، قَالَ: أنتما، فأعطياها من رأيتما، ما أنا لكما بخادم ولا عون قَالَ: فلما يئسا منه ركبا راحلتيهما حتى أصبحا مع الخليفة بالسقيا في المنزل الثاني، فوجدا الخليفة ينتظرهما، فلما دخلا عليه حدثاه بما كان بينهما وبينه، فقال: ما أبالي ما أصنع بعد هذا.
فحج عبد الله في تلك السنة، فبينا هو واقف على بعض أولئك الباعة يشتري لصبيانه، إذا هارون يسعى بين الصفا والمروة على دابة، إذ عرض له عبد الله

(8/354)


وترك ما يريد، فأتاه حتى أخذ بلجام دابته، فأهوت إليه الأجناد والأحراس، فكفهم عنه هارون فكلمه قَالَ: فرأيت دموع هارون، وإنها لتسيل على معرفة دابته، ثم انصرف.
وذكر محمد بْن أحمد مولى بني سليم قَالَ: حدثني الليث بْن عبد العزيز الجوزجاني- وكان مجاورا بمكة أربعين سنة- أن بعض الحجبة حدثه أن الرشيد لما حج دخل الكعبة، وقام على أصابعه، وقال: يا من يملك حوائج السائلين، ويعلم ضمير الصامتين، فإن لكل مسألة منك ردا حاضرا، وجوابا عتيدا، ولكل صامت منك علم محيط ناطق بمواعيدك الصادقة، وأياديك الفاضلة، ورحمتك الواسعة صل على محمد وعلى آل محمد، واغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا يا من لا تضره الذنوب، ولا تخفى عليه العيوب، ولا تنقصه مغفرة الخطايا يا من كبس الأرض على الماء، وسد الهواء بالسماء، واختار لنفسه الأسماء، صل على محمد، وخر لي في جميع أمري يا من خشعت له الأصوات بألوان اللغات يسألونك الحاجات، إن من حاجتي إليك أن تغفر لي إذا توفيتني، وصرت في لحدي، وتفرق عني أهلي وولدي اللهم لك الحمد حمدا يفضل على كل حمد كفضلك على جميع الخلق اللهم صلى على محمد صلاة تكون له رضا، وصل على محمد صلاة تكون له حرزا، وأجزه عنا خير الجزاء في الآخرة والأولى اللهم أحينا سعداء وتوفنا شهداء، واجعلنا سعداء مرزوقين، ولا تجعلنا أشقياء محرومين! وذكر عَلِيّ بْن مُحَمَّدٍ عن عَبْد اللَّهِ، قَالَ: أخبرني القاسم بْن يحيى، قَالَ: بعث الرشيد إلى ابن أبي داود والذين يخدمون قبر الحسين بْن علي في الحير، قَالَ: فأتى بهم، فنظر إليه الحسن بْن راشد، وقال: ما لك؟
قَالَ: بعث إلي هذا الرجل- يعني الرشيد- فأحضرني، ولست آمنه على نفسي، قَالَ له: فإذا دخلت عليه فسألك، فقل له: الحسن بْن راشد وضعني في ذلك الموضع فلما دخل عليه قَالَ هذا القول، قَالَ: ما أخلق أن يكون هذا من تخليط الحسن! أحضروه، قَالَ: فلما حضر قَالَ: ما حملك

(8/355)


على أن صيرت هذا الرجل في الحير؟ قَالَ: رحم الله من صيره في الحير، أمرتني أم موسى أن أصيره فيه، وأن أجري عليه في كل شهر ثلاثين درهما فقال: ردوه إلى الحير، وأجروا عليه ما أجرته أم موسى- وأم موسى هي أم المهدي ابنة يزيد بْن منصور.
وذكر علي بْن محمد أن أباه حدثه قَالَ: دخلت على الرشيد في دار عون العبادي فإذا هو في هيئة الصيف، في بيت مكشوف، وليس فيه فرش على مقعد عند باب في الشق الأيمن من البيت، وعليه غلالة رقيقة، وإزار رشيدي عريض الأعلام، شديد التضريج، وكان لا يخيش البيت الذي هو فيه، لأنه كان يؤذيه، ولكنه كان يدخل عليه برد الخيش، ولا يجلس فيه وكان أول من اتخذ في بيت مقيله في الصيف سقفا دون سقف، وذلك أنه لما بلغه أن الأكاسرة كانوا يطينون ظهور بيوتهم في كل يوم من خارج ليكف عنهم حر الشمس، فاتخذ هو سقفا يلي سقف البيت الذي يقيل فيه.
وقال علي عن أبيه: خبرت انه كان في كل يوم القيظ تغار من فضة يعمل فيه العطار الطيب والزعفران والأفاويه وماء الورد، ثم يدخل إلى بيت مقيله، ويدخل معه سبع غلائل قصب رشيدية تقطيع النساء، ثم تغمس الغلال في ذلك الطيب، ويؤتى في كل يوم بسبع جوار، فتخلع عن كل جارية ثيابها ثم تخلع عليها غلالة، وتجلس على كرسي مثقب، وترسل الغلالة على الكرسي فتجلله، ثم تبخر من تحت الكرسي بالعود المدرج في العنبر أمدا حتى يجف القميص عليها، يفعل ذلك بهن، ويكون ذلك في بيت مقيله، فيعبق ذلك البيت بالبخور والطيب.
وذكر علي بْن حمزة أن عبد الله بْن عباس بن الحسن بن عبيد الله بن على ابن أبي طالب قَالَ: قَالَ لي العباس بْن الحسن: قَالَ لي الرشيد: أراك تكثر من ذكر ينبع وصفتها، فصفها لي وأوجز، قَالَ: قلت: بكلام أو بشعر؟

(8/356)


قَالَ: بكلام وشعر، قَالَ: قلت: جدتها في أصل عذقها، وعذقها مسرح شأنها، قَالَ: فتبسم، فقلت له:
يا وادي القصر نعم القصر والوادي ... من منزل حاضر إن شئت أو بادي
ترى قراقيره والعيس واقفة ... والضب والنون والملاح والحادي
وذكر محمد بْن هارون، عن أبيه، قَالَ: حضرت الرشيد، وقال له الفضل بْن الربيع: يا أمير المؤمنين، قد أحضرت ابن السماك كما أمرتني، قَالَ:
أدخله، فدخل، فقال له: عظني، قَالَ: يا أمير المؤمنين، اتق الله وحده لا شريك له، واعلم أنك واقف غدا بين يدي الله ربك، ثم مصروف إلى إحدى منزلتين لا ثالثة لهما، جنة أو نار قَالَ: فبكى هارون حتى اخضلت لحيته، فأقبل الفضل على ابن السماك، فقال: سبحان الله! وهل يتخالج أحدا شك في أن أمير المؤمنين مصروف إلى الجنة إن شاء الله! لقيامه بحق الله وعدله في عباده، وفضله! قَالَ: فلم يحفل بذلك ابن السماك من قوله، ولم يلتفت إليه، وأقبل على أمير المؤمنين، فقال: يا أمير المؤمنين، إن هذا- يعني الفضل بْن الربيع- ليس والله معك ولا عندك في ذلك اليوم، فاتق الله وانظر لنفسك قَالَ: فبكى هارون حتى أشفقنا عليه وأفحم الفضل بْن الربيع فلم ينطق بحرف حتى خرجنا.
قَالَ: ودخل ابن السماك على الرشيد يوما، فبينا هو عنده إذ استسقى ماء، فأتى بقلة من ماء، فلما أهوى بها إلى فيه ليشربها، قَالَ له ابن السماك: على رسلك يا أمير المؤمنين، بقرابتك من رسول الله ص، لو منعت هذه الشربه فبكم كنت تشتريها؟ قَالَ: بنصف ملكي، قَالَ: اشرب هنأك الله، فلما شربها، قَالَ له: أسألك بقرابتك من رسول الله ص، لو منعت خروجها من بدنك، فبماذا كنت تشتريها؟ قَالَ: بجميع ملكي، قَالَ ابن السماك: أن ملكا قيمته شربة ماء، لجدير ألا ينافس فيه فبكى هارون،

(8/357)


فأشار الفضل بْن الربيع إلى ابن السماك بالانصراف فانصرف.
قَالَ: ووعظ الرشيد عبد الله بْن عبد العزيز العمري، فتلقى قوله بنعم يا عم، فلما ولى لينصرف، بعث إليه بألفي دينار في كيس مع الأمين والمأمون فاعترضاه بها، وقالا: يا عم، يقول لك أمير المؤمنين: خذها وانتفع بها أو فرقها، فقال: هو أعلم بمن يفرقها عليه، ثم أخذ من الكيس دينارا، وقال: كرهت أن أجمع سوء القول وسوء الفعل وشخص إليه إلى بغداد بعد ذلك، فكره الرشيد مصيره إلى بغداد، وجمع العمريين، فقال: ما لي ولابن عمكم! احتملته بالحجاز، فشخص إلى دار مملكتي، يريد أن يفسد علي أوليائي! ردوه عني، فقالوا: لا يقبل منا، فكتب إلى موسى بْن عيسى أن يرفق به حتى يرده، فدعا له عيسى ببني عشر سنين، قد حفظ الخطب والمواعظ، فكلمه كلاما كثيرا، ووعظه بما لم يسمع العمري بمثله، ونهاه عن التعرض لأمير المؤمنين، فأخذ نعله، وقام وهو يقول: «فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ» .
وذكر بعضهم أنه كان مع الرشيد بالرقة بعد أن شخص من بغداد، فخرج يوما مع الرشيد إلى الصيد، فعرض له رجل من النساك، فقال: يا هارون، اتق الله، فقال لإبراهيم بْن عثمان بْن نهيك: خذ هذا الرجل إليك حتى أنصرف، فلما رجع دعا بغدائه، ثم أمر أن يطعم الرجل من خاص طعامه، فلما أكل وشرب دعا به، فقال: يا هذا، أنصفني في المخاطبة والمسألة، قَالَ: ذاك أقل ما يجب لك، قَالَ: فأخبرني: أنا شر وأخبث أم فرعون؟
قَالَ: بل فرعون، قال: «أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى» وقال: «مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي» ، قَالَ: صدقت، فأخبرني فمن خير؟ أنت أم موسى ابن عمران؟ قَالَ: موسى كليم الله وصفيه، أصطنعه لنفسه، واتمنه على وحيه، وكلمه من بين خلقه، قَالَ: صدقت، أفما تعلم أنه لما بعثه وأخاه إلى فرعون

(8/358)


قَالَ لهما: «فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى» ، ذكر المفسرون أنه أمرهما أن يكنياه، وهذا وهو في عتوه وجبريته، على ما قد علمت، وأنت جئتني وأنا بهذه الحالة التي تعلم، أؤدي أكثر فرائض الله علي، ولا أعبد أحدا سواه، أقف عند أكبر حدوده وأمره ونهيه، فوعظتني بأغلظ الألفاظ وأشنعها وأخشن الكلام وأفظعه، فلا بأدب الله تأدبت، ولا بأخلاق الصالحين أخذت، فما كان يؤمنك أن أسطو بك! فإذا أنت قد عرضت نفسك لما كنت عنه غنيا قَالَ الزاهد: أخطأت يا أمير المؤمنين، وأنا أستغفرك، قَالَ: قد غفر لك الله، وامر له بعشرين ألف درهم، فأبى أن يأخذها، وقال:
لا حاجة لي في المال، أنا رجل سائح فقال هرثمة- وخزرة: ترد على أمير المؤمنين يا جاهل صلته! فقال الرشيد: أمسك عنه، ثم قَالَ له: لم نعطك هذا المال لحاجتك إليه، ولكن من عادتنا أنه لا يخاطب الخليفة أحد ليس من أوليائه ولا أعدائه إلا وصله ومنحه، فاقبل من صلتنا ما شئت، وضعها حيث أحببت فأخذ من المال ألفي درهم، وفرقها على الحجاب ومن حضر الباب
. ذكر من كان عند الرشيد من النساء المهائر
قيل: إنه تزوج زبيدة، وهي أم جعفر بنت جعفر بْن المنصور، وأعرس بها في سنة خمس وستين ومائة في خلافة المهدي ببغداد، في دار محمد بْن سليمان- التي صارت بعد للعباسة، ثم صارت للمعتصم بالله- فولدت له محمدا الأمين، وماتت ببغداد في جمادى الأولى سنة ست عشرة ومائتين.
وتزوج أمة العزيز أم ولد موسى، فولدت له على بن الرشيد.
وتزوج أم محمد ابنة صالح المسكين، وأعرس بها بالرقة في ذي الحجة سنة سبع وثمانين ومائة، وأمها أم عبد الله ابنة عيسى بْن علي صاحبة دار أم عبد الله بالكرخ التي فيها أصحاب الدبس، كانت أملكت من إبراهيم بْن

(8/359)


المهدي، ثم خلعت منه فتزوجها الرشيد.
وتزوج العباسة ابنة سليمان بْن أبي جعفر، وأعرس بها في ذي الحجة سنة سبع وثمانين ومائة، حملت هي وأم محمد ابنة صالح إليه.
وتزوج عزيزة ابنة الغطريف، وكانت قبله عند سليمان بْن أبي جعفر فطلقها، فخلف عليها الرشيد، وهي ابنة أخي الخيزران وتزوج الجرشية العثمانية، وهي ابنة عبد الله بْن محمد بن عبد الله بن عمرو ابن عثمان بْن عفان، وسميت الجرشية لأنها ولدت بجرش باليمن، وجدة أبيها فاطمة بنت الحسين بْن علي بْن أبي طالب، وعم أبيها عبد الله بْن حسن بْن حسن بْن علي بْن أبي طالب رضي الله عنهم.
ومات الرشيد عن أربع مهائر: أم جعفر، وأم محمد ابنة صالح، وعباسة ابنة سليمان، والعثمانية.

ذكر ولد الرشيد
وولد للرشيد من الرجال:
محمد الأكبر وأمه زبيدة، وعبد الله المأمون وأمه أم ولد يقال لها مراجل، والقاسم المؤتمن وأمه أم ولد يقال لها قصف، ومحمد أبو إسحاق المعتصم وأمه أم ولد يقال لها ماردة، وعلى وأمه أمة العزيز، وصالح وأمه أم ولد يقال لها رثم، ومحمد أبو عيسى وأمه أم ولد يقال لها عرابة، ومحمد أبو يعقوب وأمه أم ولد يقال لها شذرة، ومحمد أبو العباس وأمه أم ولد يقال لها خبث، ومحمد أبو سليمان وأمه أم ولد يقال لها رواح، ومحمد أبو علي وأمه أم ولد يقال لها دواج، ومحمد ابو احمد وأمه أم ولد يقال لها كتمان.
ومن النساء: سكينة وأمها قصف وهي أخت القاسم، وأم حبيب وأمها ماردة وهي أخت أبي إسحاق المعتصم، وأروى أمها حلوب، وأم الحسن وأمها عرابة، وأم محمد وهي حمدونة، وفاطمة وأمها غصص واسمها مصفى، وأم أبيها وأمها سكر، وأم سلمة وأمها رحيق، وخديجة وأمها شجر، وهي أخت كريب، وأم القاسم وأمها خزق، ورملة أم جعفر وأمها حلى، وأم علي أمها أنيق، وأم الغالية أمها سمندل، وريطة وأمها زينه.

(8/360)


بقية ذكر بعض سير الرشيد
ذكر يعقوب بن إسحاق الاصفهانى، قال: قَالَ المفضل بْن محمد الضبي:
وجه إلي الرشيد، فما علمت الا وقد جاءتني الرسل ليلا، فقالوا: أجب أمير المؤمنين، فخرجت حتى صرت إليه، وذلك في يوم خميس، وإذا هو متكئ ومحمد بن زبيدة عن يساره، والمأمون عن يمينه، فسلمت، فأومأ إلي فجلست، فقال لي: يا مفضل، قلت: لبيك يا أمير المؤمنين، قَالَ كم اسما في:
فَسَيَكْفِيكَهُمُ؟ قلت: ثلاثة أسماء يا أمير المؤمنين، قَالَ: وما هي؟
قلت: الكاف لرسول الله ص، والهاء والميم، وهي للكفار، والياء وهي لله عز وجل قال: صدقت، هكذا أفادنا هذا الشيخ- يعني الكسائي- ثم التفت إلى محمد، فقال له: أفهمت يا محمد؟ قَالَ: نعم، قَالَ: أعد علي المسألة كما قَالَ المفضل، فأعادها، ثم التفت إلي فقال:
يا مفضل، عندك مسألة تسألنا عنها بحضرة هذا الشيخ؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، قَالَ: وما هي؟ قلت: قول الفرزدق:
أخذنا بآفاق السماء عليكم ... لنا قمراها والنجوم الطوالع
قَالَ: هيهات أفادناها متقدما قبلك هذا الشيخ، لنا قمراها، يعني الشمس والقمر كما قالوا سنة العمرين: سنة أبي بكر وعمر، قَالَ: قلت:
فأزيد في السؤال؟ قَالَ: زد، قلت: فلم استحسنوا هذا؟ قَالَ: لأنه إذا اجتمع اسمان من جنس واحد، وكان أحدهما أخف على أفواه القائلين غلبوه وسموا به الآخر، فلما كانت أيام عمر أكثر من أيام أبي بكر وفتوحه أكثر واسمه أخف غلبوه، وسموا أبا بكر باسمه، قَالَ الله عز وجل: «بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ» وهو المشرق والمغرب قلت: قد بقيت زيادة في المسألة! فالتفت الى الكسائي فقال: يقال في هذا غير ما قلنا؟ قَالَ: هذا أوفى ما قالوا، وتمام المعنى عند العرب قَالَ: ثم التفت إلي فقال: ما الذي بقي؟ قلت: بقيت الغاية التي إليها أجرى الشاعر المفتخر في شعره، قَالَ: وما هي؟ قلت: أراد بالشمس إبراهيم، وبالقمر

(8/361)


محمدا ص، وبالنجوم الخلفاء الراشدين من آبائك الصالحين قَالَ:
فاشرأب أمير المؤمنين، وقال: يا فضل بْن الربيع، احمل إليه مائة ألف درهم لقضاء دينه، وانظر من بالباب من الشعراء فيؤذن لهم، فإذا العماني ومنصور النمري، فأذن لهما، فقال: أدن مني الشيخ، فدنا منه وهو يقول:
قل للإمام المقتدي بأمه ... ما قاسم دون مدى ابن أمه
فقد رضيناه فقم فسمه.
فقال الرشيد: ما ترضى أن تدعو إلى عقد البيعة له وأنا جالس حتى تنهضني قائما! قَالَ: قيام عزم يا أمير المؤمنين، لا قيام حتم، فقال: يؤتى بالقاسم، فأتي به، وطبطب في أرجوزته، فقال الرشيد للقاسم: إن هذا الشيخ قد دعا إلى عقد البيعة لك، فأجزل له العطية، فقال: حكم أمير المؤمنين، قَالَ: وما أنا وذاك! هات النمري، فدنا منه، وأنشده:
ما تنقضي حسرة مني ولا جزع.
- حتى بلغ-
ما كان أحسن أيام الشباب وما ... أبقى حلاوة ذكراه التي تدع
ما كنت أوفي شبابي كنه غرته ... حتى مضى فإذا الدنيا له تبع
قَالَ الرشيد: لا خير في دنيا لا يخطر فيها ببرد الشباب.
وذكر أن سعيد بْن سلم الباهلي دخل على الرشيد، فسلم عليه، فأومأ إليه الرشيد فجلس، فقال: يا أمير المؤمنين، أعرابي من باهلة واقف على باب أمير المؤمنين، ما رأيت قط اشعر منه، قال: اما انك استبحت هذين- يعني العماني ومنصور النمري، وكانا حاضريه- نهبى لهما أحجارك، قَالَ: هما يا أمير المؤمنين يهباني لك، فيؤذن للأعرابي؟ فأذن له، فإذا أعرابي في جبة

(8/362)


خز، ورداء يمان، قد شد وسطه ثم ثناه على عاتقه، وعمامة قد عصبها على خديه، وأرخى لها عذبة، فمثل بين يدي أمير المؤمنين، وألقيت الكراسي، فجلس الكسائي والمفضل وابن سلم والفضل بْن الربيع، فقال ابن سلم للأعرابي:
خذ في شرف أمير المؤمنين، فاندفع الأعرابي في شعره، فقال أمير المؤمنين:
أسمعك مستحسنا، وأنكرك متهما عليك، فإن يكن هذا الشعر لك وأنت قلته من نفسك، فقل لنا في هذين بيتين- يعني محمدا والمأمون- وهما حفافاه فقال: يا أمير المؤمنين حملتني على القدر في غير الحذر روعة الخلافة، وبهر البديهة، ونفور القوافي عن الروية، فيمهلني أمير المؤمنين، يتألف إلي نافراتها، ويسكن روعي قَالَ: قد أمهلتك يا أعرابي، وجعلت اعتذارك بدلا من امتحانك، فقال: يا أمير المؤمنين نفست الخناق، وسهلت ميدان النفاق، ثم أنشأ يقول:
هما طنباها بارك الله فيهما ... وأنت أمير المؤمنين عمودها
بنيت بعبد الله بعد محمد ... ذرى قبة الإسلام فاهتز عودها
فقال: وأنت يا أعرابي بارك الله فيك، فسلنا، ولا تكن مسألتك دون إحسانك، قَالَ: الهنيدة يا أمير المؤمنين، قَالَ: فتبسم أمير المؤمنين، وامر له بمائة ألف درهم وسبع خلع.
وذكر أن الرشيد قَالَ لابنه القاسم- وقد دخل عليه قبل أن يبايع له:
أنت للمأمون ببعض لحمك هذا، قال: ببعض حظه.
وقال للقاسم يوما قبل البيعة له: قد أوصيت الأمين والمأمون بك، قَالَ:
أما أنت يا أمير المؤمنين فقد توليت النظر لهما، ووكلت النظر لي إلى غيرك.
وقال مصعب بْن عبد الله الزبيري: قدم الرشيد مدينه الرسول ص ومعه ابناه محمد الأمين وعبد الله المأمون، فأعطى فيها العطايا وقسم

(8/363)


في تلك السنة في رجالهم ونسائهم ثلاثة أعطية، فكانت الثلاثة الأعطية التي قسمها فيهم ألف ألف دينار وخمسين ألف دينار، وفرض في تلك السنه لخمسمائه من وجوه موالي المدينة، ففرض لبعضهم في الشرف منهم يحيى بْن مسكين وابن عثمان، ومخراق مولى بنى تميم، وكان يقرئ القرآن بالمدينة.
وقال إسحاق المولى: لما بايع الرشيد لولده، كان فيمن بايع عبد الله بْن مصعب بْن ثابت بْن عبد الله بْن الزبير، فلما قدم ليبايع، قَالَ:
لا قصرا عنها ولا بلغتهما ... حتى يطول على يديك طوالها
فاستحسن الرشيد ما تمثل، وأجزل له صلته قَالَ: والشعر لطريح بْن إسماعيل، قاله في الوليد بْن يزيد وفي ابنيه.
وقال أبو الشيص يرثي هارون الرشيد:
غربت في الشرق شمس ... فلها عينان تدمع
ما رأينا قط شمسا ... غربت من حيث تطلع
وقال أبو نواس الحسن بْن هانئ:
جرت جوار بالسعد والنحس ... فنحن في مأتم وفي عرس
القلب يبكي والسن ضاحكة ... فنحن في وحشة وفي انس
يضحكنا القائم الامين و ... يبكينا وفاه الامام بالأمس
بدران: بدر اضحى ببغداد بالخلد، وبدر بطوس في رمس وقيل: مات هارون الرشيد، وفي بيت المال تسعمائة ألف ألف ونيف.

(8/364)


خلافة الأمين
وفي هذه السنة بويع لمحمد الامين بن هارون بالخلافة في عسكر الرشيد، وعبد الله بْن هارون المأمون يومئذ بمرو، وكان- فيما ذكر- قد كتب حمويه مولى المهدي صاحب البريد بطوس إلى أبي مسلم سلام، مولاه وخليفته ببغداد على البريد والأخبار، يعلمه وفاة الرشيد فدخل على محمد فعزاه وهنأه بالخلافة، وكان أول الناس فعل ذلك، ثم قدم عليه رجاء الخادم يوم الأربعاء لأربع عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة، كان صالح بن الرشيد ارسله اليه بالخبر بذلك- وقيل: أتاه الخبر بذلك- ليلة الخميس للنصف من جمادى الآخرة، فأظهره يوم الجمعة، وستر خبره بقية يومه وليلته، وخاض الناس في أمره.
ولما قدم كتاب صالح على محمد الأمين مع رجاء الخادم بوفاة الرشيد- وكان نازلا في قصره بالخلد- تحول إلى قصر أبي جعفر بالمدينة، وأمر الناس بالحضور ليوم الجمعة، فحضروا وصلى بهم، فلما قضى صلاته صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ونعى الرشيد إلى الناس، وعزى نفسه والناس، ووعدهم خيرا، وبسط الآمال، وآمن الأسود والأبيض، وبايعه جلة أهل بيته وخاصته ومواليه وقواده، ثم دخل ووكل ببيعته على من بقي منهم عم أبيه سليمان بْن أبي جعفر، فبايعهم، وأمر السندي بمبايعة جميع الناس من القواد وسائر الجند، وأمر للجند ممن بمدينة السلام برزق أربعة وعشرين شهرا، وبخواص من كانت له خاصة بهذه الشهور.

ذكر الخبر عن بدء الخلاف بين الامين والمأمون
وفي هذه السنة كان بدء اختلاف الحال بين الأمين محمد وأخيه المأمون، وعزم كل واحد منهما بالخلاف على صاحبه فيما كان والدهما هارون أخذ عليهما العمل به، في الكتاب الذى ذكرنا انه كان كتبه عليهما وبينهما

(8/365)


ذكر الخبر عن السبب الذي كان أوجب اختلاف حالهما فيما ذكرت:
قال أبو جعفر: قد ذكرنا قبل أن الرشيد جدد حين شخص إلى خراسان البيعة للمأمون على القواد الذين معه، وأشهد من معه من القواد وسائر الناس وغيرهم أن جميع من معه من الجند مضمومون إلى المأمون، وأن جميع ما معه من مال وسلاح وآلة وغير ذلك للمأمون فلما بلغ محمد بْن هارون أن أباه قد اشتدت علته، وأنه لمآبه، بعث من يأتيه بخبره في كل يوم، وارسل بكر بْن المعتمر، وكتب معه كتبا، وجعلها في قوائم صناديق منقوره وألبسها جلود البقر، وقال: لا يظهرن أمير المؤمنين ولا أحد ممن في عسكره على شيء من أمرك وما توجهت فيه، ولا ما معك، ولو قتلت حتى يموت أمير المؤمنين، فإذا مات فادفع إلى كل رجل منهم كتابه.
فلما قدم بكر بْن المعتمر طوس، بلغ هارون قدومه، فدعا به، فسأله:
ما أقدمك؟ قَالَ: بعثني محمد لأعلم له علم خبرك وآتيه به، قَالَ: فهل معك كتاب؟ قَالَ: لا، فأمر بما معه ففتش فلم يصيبوا معه شيئا، فهدده بالضرب فلم يقر بشيء، فأمر به فحبس وقيد فلما كان في الليلة التي مات فيها هارون أمر الفضل بْن الربيع أن يصير إلى محبس بكر بْن المعتمر فيقرره، فإن أقر وإلا ضرب عنقه، فصار إليه، فقرره فلم يقر بشيء، ثم غشي على هارون، فصاح النساء، فأمسك الفضل عن قتله، وصار إلى هارون ليحضره، ثم أفاق هارون وهو ضعيف، قد شغل عن بكر وعن غيره لحس الموت، ثم غشي عليه غشية ظنوا أنها هي، وارتفعت الضجة، فبعث بكر بْن المعتمر برقعة منه إلى الفضل بْن الربيع مع عبد الله بن ابى نعيم، يسأله الا يعجلوا بأمر، ويعلمه أن معه أشياء يحتاجون إلى علمها- وكان بكر محبوسا عند حسين الخادم- فلما توفي هارون في الوقت الذي توفي فيه، دعا الفضل بْن الربيع ببكر من ساعته، فسأله عما عنده، فأنكر أن يكون عنده شيء، وخشي على نفسه من أن يكون هارون حيا، حتى صح عنده موت هارون، وأدخله عليه، فأخبره أن عنده كتبا من أمير المؤمنين محمد، وأنه لا يجوز له إخراجها، وهو على حاله في قيوده وحبسه، فامتنع حسين الخادم من إطلاقه حتى أطلقه الفضل، فأتاهم

(8/366)


بالكتب التي عنده، وكانت في قوائم المطابخ المجلدة بجلود البقر، فدفع إلى كل إنسان منهم كتابه وكان في تلك الكتب كتاب من محمد بْن هارون إلى حسين الخادم بخطه، يأمره بتخلية بكر بْن المعتمر وإطلاقه، فدفعه إليه، وكتاب إلى عبد الله المأمون، فاحتبس كتاب المأمون عنده ليبعثه إلى المأمون بمرو، وأرسلوا الى صالح بن الرشيد- وكان مع أبيه بطوس، وذلك أنه كان أكبر من يحضر هارون من ولده- فأتاهم في تلك الساعة، فسألهم عن أبيه هارون، فأعلموه، فجزع جزعا شديدا، ثم دفعوا إليه كتاب أخيه محمد الذي جاء به بكر وكان الذين حضروا وفاة هارون هم الذين ولوا أمره وغسله وتجهيزه، وصلى عليه ابنه صالح.
وكانت نسخة كتاب محمد إلى أخيه عبد الله المأمون:
إذا ورد عليك كتاب أخيك- أعاذه الله من فقدك- عند حلول ما لا مرد له ولا مدفع مما قد اخلف وتناسخ في الأمم الخالية والقرون الماضيه فعز نفسك بما عزاك الله به واعلم أن الله جل ثناؤه قد اختار لأمير المؤمنين أفضل الدارين، وأجزل الحظين فقبضه الله طاهرا زاكيا، قد شكر سعيه، وغفر ذنبه إن شاء الله فقم في أمرك قيام ذي الحزم والعزم، والناظر لأخيه ونفسه وسلطانه وعامة المسلمين وإياك أن يغلب عليك الجزع، فإنه يحبط الأجر، ويعقب الوزر وصلوات الله على أمير المؤمنين حيا وميتا، وإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! وخذ البيعه عمن قبلك من قوادك وجندك وخاصتك وعامتك لأخيك ثم لنفسك، ثم للقاسم ابْن أمير المؤمنين، على الشريطة التي جعلها لك أمير المؤمنين من نسخها له وإثباتها، فإنك مقلد من ذاك ما قلدك الله وخليفته وأعلم من قبلك رأيي في صلاحهم وسد خلتهم والتوسعة عليهم، فمن أنكرته عند بيعته أو اتهمته على طاعته، فابعث إلي برأسه مع خبره وإياك وإقالته، فإن النار أولى به.
واكتب إلى عمال ثغورك وأمراء أجنادك بما طرقك من المصيبة بأمير المؤمنين، وأعلمهم أن الله لم يرض الدنيا له ثوابا حتى قبضه إلى روحه وراحته وجنته، مغبوطا محمودا قائدا لجميع خلفائه إلى الجنة إن شاء الله ومرهم أن يأخذوا البيعه

(8/367)


على أجنادهم وخواصهم وعوامهم على مثل ما أمرتك به من أخذها على من قبلك وأوعز إليهم في ضبط ثغورهم، والقوة على عدوهم واعلمهم إني متفقد حالاتهم ولام شعثهم، وموسع عليهم، ولا تنى في تقويه اجنادى وانصارى، ولتكن كتبك إليهم كتبا عامة، لتقرأ عليهم، فإن في ذلك ما يسكنهم ويبسط أملهم.
واعمل بما تامر به لمن حضرك، أو نأى عنك من أجنادك، على حسب ما ترى وتشاهد، فإن أخاك يعرف حسن اختيارك، وصحة رأيك، وبعد نظرك، وهو يستحفظ الله لك، ويسأله أن يشد بك عضده، ويجمع بك أمره، إنه لطيف لما يشاء وكتب بكر بْن المعتمر بين يدي وإملائي في شوال سنه ثنتين وتسعين ومائة.
وإلى أخيه صالح:
بسم الله الرحمن الرحيم. إذا ورد عليك كتابي هذا عند وقوع ما قد سبق في علم الله ونفذ من قضائه في خلفائه وأوليائه، وجرت به سنته في الأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين، فقل: «كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» ، فاحمدوا الله ما صار إليه أمير المؤمنين من عظيم ثوابه ومرافقه انبيائه، صلوات الله عليهم، وإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ. وإياه نسأل أن يحسن الخلافة على أمه نبيه محمد ص، وقد كان لهم عصمة وكهفا، وبهم رءوفا رحيما، فشمر في أمرك، وإياك أن تلقي بيديك، فإن أخاك قد اختارك لما استنهضك له، وهو متفقد مواقع فقدانك، فحقق ظنه ونسأل الله التوفيق وخذ البيعة على من قبلك من ولد أمير المؤمنين وأهل بيته ومواليه وخاصته وعامته لمحمد أمير المؤمنين، ثم لعبد الله بن أمير المؤمنين، ثم للقاسم بْن أمير المؤمنين، على الشريطة التي جعلها أمير المؤمنين صلوات الله عليه من فسخها على القاسم أو إثباتها، فإن السعادة واليمن في الأخذ بعهده، والمضي على مناهجه وأعلم من قبلك من الخاصة والعامة رأيي في استصلاحهم، ورد مظالمهم وتفقد حالاتهم، وأداء أرزاقهم وأعطياتهم عليهم، فإن شغب شاغب، أو نعر ناعر، فاسط به سطوة تجعله نَكَالا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خلفها

(8/368)


وموعظه للمتقين واضمم الى الميمون بن الميمون الفضل بن الربيع ولد أمير المؤمنين وخدمه وأهله، ومره بالمسير معهم فيمن معه من جنده ورابطته، وصير إلى عبد الله بْن مالك أمر العسكر وأحداثه، فإنه ثقة على ما يلي، مقبول عند العامة، واضمم إليه جميع جند الشرط من الروابط وغيرهم إلى من معه من جنده، ومره بالجد والتيقظ وتقديم الحزم في أمره كله، ليله ونهاره، فإن أهل العداوة والنفاق لهذا السلطان يغتنمون مثل حلول هذه المصيبة وأقر حاتم بْن هرثمة على ما هو عليه، ومره بحراسة ما يحفظ به قصور أمير المؤمنين، فإنه ممن لا يعرف إلا بالطاعة، ولا يدين إلا بها بمعاقد من الله مما قدم له من حال أبيه المحمود عند الخلفاء ومر الخدم باحضار روابطهم ممن يسد بهم وبأجنادهم مواضع الخلل من عسكرك، فإنهم حد من حدودك، وصير مقدمتك إلى أسد بْن يزيد بْن مزيد، وساقتك إلى يحيى بْن معاذ، فيمن معه من الجنود، ومرهما بمناوبتك في كل ليلة، والزم الطريق الأعظم، ولا تعدون المراحل، فإن ذلك أرفق بك ومر أسد بْن يزيد أن يتخير رجلا من أهل بيته أو قواده، فيصير الى مقدمته ثم يصير أمامه لتهيئة المنازل، أو بعض الطريق، فإن لم يحضرك في عسكرك بعض من سميت، فاختر لمواضعهم من تثق بطاعته ونصيحته وهيبته عند العوام، فإن ذلك لن يعوزك من قوادك وأنصارك إن شاء الله وإياك أن تنفذ رأيا أو تبرم أمرا إلا برأي شيخك وبقية آبائك الفضل بْن الربيع، وأقرر جميع الخدم على ما في أيديهم من الأموال والسلاح والخزائن وغير ذلك، ولا تخرجن أحدا منهم من ضمن ما يلي إلى أن تقدم علي.
وقد أوصيت بكر بْن المعتمر بما سيبلغكه، واعمل في ذلك بقدر ما تشاهد وترى، وإن أمرت لأهل العسكر بعطاء أو رزق، فليكن الفضل بْن الربيع المتولي لإعطائهم على دواوين يتخذها لنفسه، بمحضر من أصحاب الدواوين، فإن الفضل بْن الربيع لم يزل يتقلد مثل ذلك لمهمات الأمور وأنفذ إلي عند وصول كتابي هذا إليك إسماعيل بْن صبيح وبكر بْن المعتمر على مركبيهما من البريد، ولا يكون لك عرجة ولا مهلة بموضعك الذي أنت فيه حتى توجه إلي بعسكرك

(8/369)


بما فيه من الأموال والخزائن إن شاء الله أخوك يستدفع الله عنك، ويسأله لك حسن التأييد برحمته.
وكتب بكر بْن المعتمر بين يدي واملائى في شوال سنه ثنتين وتسعين ومائة.
وخرج رجاء الخادم بالخاتم والقضيب والبردة، وبنعي هارون حين دفن حتى قدم بغداد ليلة الخميس- وقيل يوم الأربعاء- فكان من الخبر ما قد ذكرت قبل.
وقيل: إن نعي الرشيد لما ورد بغداد صعد إسحاق بْن عيسى بْن عَلَى الْمِنْبَرِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قال: اعظم الناس رزيئه، واحسن الناس بقية رزؤنا، فإنه لم يرزأ أحد كرزئنا، فمن له مثل عوضنا! ثم نعاه إلى الناس، وحض الناس على الطاعة.
وذكر الحسن الحاجب أن الفضل بْن سهل أخبره، قَالَ: استقبل الرشيد وجوه أهل خراسان، وفيهم الحسين بْن مصعب قَالَ: ولقيني فقال لي:
الرشيد ميت أحد هذين اليومين، وامر محمد بن الرشيد ضعيف، والأمر أمر صاحبك، مد يدك فمد يده فبايع للمأمون بالخلافة قال: ثم أتاني بعد أيام ومعه الخليل بْن هشام، فقال: هذا ابن أخي، وهو لك ثقة خذ بيعته.
وكان المأمون قد رحل من مرو إلى قصر خالد بْن حماد على فرسخ من مرو يريد سمرقند، وأمر العباس بْن المسيب بإخراج الناس واللحوق بالعسكر، فمر به إسحاق الخادم ومعه نعي الرشيد، فغم العباس قدومه، فوصل إلى المأمون فأخبره، فرجع المأمون إلى مرو، ودخل دار الإمارة، دار أبي مسلم، ونعى الرشيد على المنبر، وشق ثوبه ونزل، وأمر للناس بمال، وبايع لمحمد ولنفسه وأعطى الجند رزق اثني عشر شهرا.
قَالَ: ولما قرأ الذين وردت عليهم كتب محمد بطوس من القواد والجند وأولاد هارون، تشاوروا في اللحاق بمحمد، فقال الفضل بْن الربيع:
لا أدع ملكا حاضرا لآخر لا يدرى ما يكون من أمره، وأمر الناس بالرحيل، ففعلوا ذلك محبة منهم للحوق بأهلهم ومنازلهم ببغداد، وتركوا العهود التي كانت أخذت عليهم للمأمون، فانتهى الخبر بذلك من أمرهم إلى المأمون بمرو،

(8/370)


فجمع من معه من قواد أبيه، فكان معه منهم عبد الله بْن مالك، ويحيى ابن معاذ، وشبيب بْن حميد بْن قحطبة، والعلاء مولى هارون، والعباس بْن المسيب بْن زهير وهو على شرطته، وأيوب بْن أبي سمير وهو على كتابته، وكان معه من أهل بيته عبد الرحمن بْن عبد الملك بْن صالح، وذو الرياستين، وهو عنده من أعظم الناس قدرا وأخصهم به، فشاورهم وأخبرهم الخبر، فأشاروا عليه أن يلحقهم في ألفي فارس جريدة، فيردهم، وسمى لذلك قوم، فدخل عليه ذو الرياستين، فقال له: إن فعلت ما أشاروا به عليك جعلت هؤلاء هدية إلى محمد، ولكن الرأي أن تكتب إليهم كتابا، وتوجه إليهم رسولا، فتذكرهم البيعة، وتسألهم الوفاء، وتحذرهم الحنث، وما يلزمهم في ذلك في الدنيا والدين قَالَ: قلت له: إن كتابك ورسلك تقوم مقامك، فتستبرئ ما عند القوم، وتوجه سهل بْن صاعد- وكان على قهرمته- فإنه يأملك، ويرجو أن ينال أمله، فلن يألوك نصحا، وتوجه نوفلا الخادم مولى موسى أمير المؤمنين- وكان عاقلا فكتب كتابا، ووجههما فلحقاهم بنيسابور قد رحلوا ثلاث مراحل.
فذكر الحسن بْن ابى سعيد عن سهل بن صاعد، انه قال له: فاوصلت إلى الفضل بْن الربيع كتابه، فقال لي: إنما أنا واحد منهم، قَالَ لي سهل:
وشد علي عبد الرحمن بْن جبلة بالرمح، فأمره على جنبي، ثم قال لي:
قل لصاحبك: والله لو كنت حاضرا لوضعت الرمح في فيك، هذا جوابي.
قَالَ: ونال من المأمون، فرجعت بالخبر.
قَالَ الفضل بْن سهل: فقلت للمأمون: أعداء قد استرحت منهم، ولكن افهم عني ما أقول لك، إن هذه الدولة لم تكن قط أعز منها أيام أبي جعفر، فخرج عليه المقنع وهو يدعي الربوبية، وقال بعضهم: طلب بدم أبي مسلم، فتضعضع العسكر بخروجه بخراسان، فكفاه الله المؤنة ثم خرج بعده يوسف البرم وهو عند بعض المسلمين كافر، فكفى الله المؤنة، ثم خرج استاذسيس

(8/371)


يدعو إلى الكفر، فسار المهدي من الري الى نيسابور فكفى المؤنه، ولكن ما أصنع! أكثر عليك! أخبرني كيف رأيت الناس حين ورد عليهم خبر رافع؟ قَالَ: رأيتهم اضطربوا اضطرابا شديدا، قلت: وكيف بك وأنت نازل في أخوالك، وبيعتك في أعناقهم! كيف يكون اضطراب أهل بغداد! اصبر وأنا أضمن لك الخلافة- ووضعت يدي على صدري- قَالَ: قد فعلت، وجعلت الأمر إليك فقم به قَالَ: قلت: والله لأصدقنك، أن عبد الله بْن مالك ويحيى بْن معاذ ومن سمينا من أمراء الرؤساء، إن قاموا لك بالأمر كانوا انفع منى لك برياستهم المشهورة، ولما عندهم من القوة على الحرب، فمن قام بالأمر كنت خادما له حتى تصير إلى محبتك، وترى رأيك في فلقيتهم في منازلهم، وذكرتهم البيعة التي في أعناقهم وما يجب عليهم من الوفاء.
قَالَ: فكأني جئتهم بجيفة على طبق، فقال بعضهم: هذا لا يحل، اخرج، وقال بعضهم: من الذي يدخل بين امير المؤمنين وأخيه! فجئت فاخبرته، قَالَ: قم بالأمر، قَالَ: قلت: قد قرأت القرآن، وسمعت الأحاديث، وتفقهت في الدين، فالرأي أن تبعث إلى من بالحضرة من الفقهاء، فتدعوهم إلى الحق والعمل به وإحياء السنة، وتقعد على اللبود، وترد المظالم ففعلنا وبعثنا إلى الفقهاء، وأكرمنا القواد والملوك وأبناء الملوك، فكنا نقول للتميمي: نقيمك مقام موسى بْن كعب، وللربعى: نقيمك مقام أبي داود خالد بْن إبراهيم، ولليماني:
نقيمك مقام قحطبة ومالك بْن الهيثم، فكنا ندعو كل قبيله الى نقباء رءوسهم، واستملنا الرءوس، وقلنا لهم مثل ذلك، وحططنا عن خراسان ربع الخراج، فحسن موقع ذلك منهم، وسروا به، وقالوا: ابن أختنا، وابن عم النبي ص.
قَالَ علي بْن إسحاق: لما أفضت الخلافة الى محمد، وهذا الناس ببغداد، أصبح صبيحة السبت بعد بيعته بيوم، فأمر ببناء ميدان حول قصر أبي جعفر في المدينة للصوالجة واللعب، فقال في ذلك شاعر من أهل بغداد:

(8/372)


بنى أمين الله ميدانا ... وصير الساحة بستانا
وكانت الغزلان فيه بانا ... يهدي إليه فيه غزلانا
وفي هذه السنة شخصت أم جعفر من الرقة بجميع ما كان معها هنالك من الخزائن وغير ذلك في شعبان، فتلقاها ابنها محمد الأمين بالأنبار في جميع من كان ببغداد من الوجوه، وأقام المأمون على ما كان يتولى من عمل خراسان ونواحيها إلى الري، وكاتب الأمين، وأهدى إليه هدايا كثيرة، وتواترت كتب المأمون إلى محمد بالتعظيم والهدايا إليه من طرف خراسان من المتاع والآنية والمسك والدواب والسلاح.
وفي هذه السنة دخل هرثمة حائط سمرقند، ولجأ رافع إلى المدينة الداخلة، وراسل رافع الترك فوافوه، فصار هرثمة بين رافع والترك، ثم انصرف الترك، فضعف رافع.
وقتل في هذه السنة نقفور ملك الروم في حرب برجان، وكان ملكه- فيما قيل- سبع سنين، وملك بعده إستبراق بْن نقفور وهو مجروح، فبقي شهرين ومات وملك ميخائيل بْن جورجس ختنه على أخته.
وحج بالناس في هذه السنة داود بْن عيسى بْن موسى بْن محمد بْن علي، وكان والي مكة.
وأقر محمد بْن هارون أخاه القاسم بْن هارون في هذه السنة على ما كان أبوه هارون ولاه من عمل الجزيرة، واستعمل عليها خزيمة بْن خازم، وأقر القاسم على قنسرين والعواصم.

(8/373)


ثم دخلت

سنة أربع وتسعين ومائة
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك ما كان من مخالفة أهل حمص عاملهم إسحاق بْن سليمان، وكان محمد ولاه إياها، فلما خالفوه انتقل إلى سلمية، فصرفه محمد عنهم، وولى مكانه عبد الله بْن سعيد الحرشي ومعه عافية بْن سليمان، فحبس عدة من وجوههم، وضرب مدينتهم من نواحيها بالنار، وسألوه الأمان فأجابهم، وسكنوا ثم هاجوا، فضرب أيضا أعناق عدة منهم.
وفيها عزل محمد أخاه القاسم عن جميع ما كان أبوه هارون ولاه من عمل الشام وقنسرين والعواصم والثغور، وولى مكانه خزيمة بْن خازم، وأمره بالمقام بمدينة السلام.
وفي هذه السنة أمر محمد بالدعاء لابنه موسى على المنابر بالإمرة.

ذكر تفاقم الخلاف بين الامين والمأمون
وفيها مكر كل واحد منهما بصاحبه: محمد الأمين وعبد الله المأمون، وظهر بينهما الفساد.
ذكر الخبر عن سبب ذلك:
ذكر أن الفضل بن الربيع فكر بعد مقدمه العراق على محمد منصرفا عن طوس، وناكثا للعهود التي كان الرشيد أخذها عليه لابنه عبد الله، وعلم أن الخلافة إن أفضت إلى المأمون يوما وهو حي لم يبق عليه، وكان في ظفره به عطبه، فسعى في إغراء محمد به، وحثه على خلعه، وصرف ولاية العهد من بعده إلى ابنه موسى، ولم يكن ذلك من رأي محمد ولا عزمه، بل كان عزمه- فيما ذكر عنه- الوفاء لأخويه: عبد الله والقاسم، بما كان أخذ عليه لهما والده من العهود والشروط، فلم يزل الفضل به يصغر في عينه شأن المأمون،

(8/374)


ويزين له خلعه، حتى قَالَ له: ما تنتظر يا أمير المؤمنين بعبد الله والقاسم أخويك! فإن البيعة كانت لك متقدمة قبلهما، وإنما أدخلا فيها بعدك واحدا بعد واحد، وأدخل في ذلك من رأيه معه علي بْن عيسى بْن ماهان والسندي وغيرهما ممن بحضرته، فأزال محمدا عن رأيه.
فأول ما بدأ به محمد عن رأي الفضل بْن الربيع فيما دبر من ذلك، أن كتب إلى جميع العمال في الأمصار كلها بالدعاء لابنه موسى بالإمرة بعد الدعاء له وللمأمون والقاسم بن الرشيد، فذكر الفضل بْن إسحاق بْن سليمان ان المأمون لما بلغه ما امر به محمد من الدعاء لابنه موسى وعزله القاسم عما كان الرشيد ضم إليه من الأعمال وإقدامه إياه مدينة السلام، علم أنه يدبر عليه في خلعه، فقطع البريد عن محمد، واسقط اسمه من الطرز والضرب.
وكان رافع بْن الليث بْن نصر بْن سيار لما انتهى إليه من الخبر عن المأمون وحسن سيرته في أهل عمله وإحسانه إليهم، بعث في طلب الأمان لنفسه، فسارع إلى ذلك هرثمة وخرج رافع فلحق بالمأمون، وهرثمة بعد مقيم بسمرقند فأكرم المأمون رافعا وكان مع هرثمة في حصار رافع طاهر بن الحسين، فلما دخل رافع في الأمان، استأذن هرثمة المأمون في القدوم عليه، فعبر نهر بلخ بعسكره والنهر جامد، فتلقاه الناس، وولاه المأمون الحرس فأنكر ذلك كله محمد، فبدأ بالتدبير على المأمون، فكان من التدبير أنه كتب إلى العباس بْن عبد الله بْن مالك- وهو عامل المأمون على الري- وأمره أن يبعث إليه بغرائب غروس الري- مريدا بذلك امتحانه- فبعث اليه ما امره به، وكتم المأمون وذا الرياستين.
فبلغ ذلك من أمره المأمون، فوجه الحسن بن على المامونى واردفه بالرستمى على البريد، وعزل العباس بْن عبد الله بن مالك، فذكر عن الرستمي أنه لم ينزل عن دابته حتى اجتمع إليه ألف رجل من أهل الري.
ووجه محمد إلى المأمون ثلاثة أنفس رسلا: أحدهم العباس بْن موسى بْن عيسى، والآخر صالح صاحب المصلى، والثالث محمد بْن عيسى بْن نهيك،

(8/375)


وكتب معهم كتابا إلى صاحب الري، أن استقبلهم بالعدة والسلاح الظاهر.
وكتب إلى والي قومس ونيسابور وسرخس بمثل ذلك، ففعلوا ثم وردت الرسل مرو، وقد أعد لهم من السلاح وضروب العدد والعتاد، ثم صاروا إلى المأمون، فأبلغوه رسالة محمد بمسألته تقديم موسى على نفسه، ويذكر له أنه سماه الناطق بالحق، وكان الذي أشار عليه بذلك علي بْن عيسى بْن ماهان، وكان يخبره أن أهل خراسان يطيعونه، فرد المأمون ذلك وأباه قَالَ: فقال لي ذو الرئاستين: قَالَ العباس بْن موسى بْن عيسى بْن موسى: وما عليك أيها الأمير من ذلك، فهذا جدي عيسى بْن موسى قد خلع فما ضره ذلك، قَالَ: فصحت به: اسكت، فإن جدك كان في أيديهم أسيرا، وهذا بين أخواله وشيعته قَالَ: فانصرفوا، وأنزل كل واحد منهم منزلا قال ذو الرياستين: فأعجبني ما رأيت من ذكاء العباس بْن موسى، فخلوت به فقلت: ايذهب عليك في فهمك وسنك أن تأخذ بحظك من الإمام- وسمي المأمون في ذلك اليوم بالإمام ولم يسم بالخلافة، وكان سبب ما سمي به الإمام ما جاء من خلع محمد له، وقد كان محمد قَالَ للذين أرسلهم: قد تسمى المأمون بالإمام، فقال لي العباس: قد سميتموه الإمام! قَالَ: قلت له: قد يكون إمام المسجد والقبيلة، فإن وفيتم لم يضركم، وإن غدرتم فهو ذاك.
قَالَ: ثم قلت للعباس: لك عندي ولاية الموسم، ولا ولاية أشرف منها، ولك من مواضع الأعمال بمصر ما شئت.
قَالَ: فما برح حتى أخذت عليه البيعة للمأمون بالخلافة، فكان بعد ذلك يكتب إلينا بالأخبار، ويشير علينا بالرأي.
قَالَ: فأخبرني علي بْن يحيى السرخسي، قَالَ: مر بي العباس بْن موسى ذاهبا إلى مرو- وقد كنت وصفت له سيرة المأمون وحسن تدبير ذي الرياستين واحتماله الموضع، فلم يقبل ذلك مني- فلما رجع مر بي، فقلت له: كيف رأيت؟ قال: ذو الرياستين أكثر مما وصفت، فقلت: صافحت

(8/376)


الإمام؟ قَالَ: نعم، قلت: امسح يدك على رأسي قَالَ: ومضى القوم إلى محمد فأخبروه بامتناعه، قَالَ: فألح الفضل بْن الربيع وعلي بْن عيسى على محمد في البيعة لابنه وخلع المأمون، وأعطى الفضل الأموال حتى بايع لابنه موسى، وسماه الناطق بالحق، وأحضنه علي بْن عيسى وولاه العراق قَالَ: وكان أول من أخذ له البيعة بشر بْن السميدع الأزدي، وكان واليا على بلد، ثم أخذها صاحب مكة وصاحب المدينة على خواص من الناس قليل، دون العامة.
قَالَ: ونهى الفضل بْن الربيع عن ذكر عبد الله والقاسم والدعاء لهما على شيء من المنابر، ودس لذكر عبد الله والوقيعة فيه، ووجه إلى مكة كتابا مع رسول من حجبة البيت يقال له محمد بْن عبد الله بْن عثمان بْن طلحة في أخذ الكتابين اللذين كان هارون كتبهما، وجعلهما في الكعبة لعبد الله على محمد، فقدم بهما عليه، وتكلم في ذلك بقية الحجبة، فلم يحفل بهم، وخافوا على أنفسهم، فلما صار بالكتابين إلى محمد قبضهما منه، واجازه بجائزه عظيمة، ومزقهما وأبطلهما.
وكان محمد- فيما ذكر- كتب إلى المأمون قبل مكاشفة المأمون إياه بالخلاف عليه، يسأله أن يتجافى له عن كور من كور خراسان- سماها- وأن يوجه العمال إليها من قبل محمد، وأن يحتمل توجيه رجل من قبله يوليه البريد عليه ليكتب إليه بخبره فلما ورد إلى المأمون الكتاب بذلك، كبر ذلك عليه واشتد، فبعث إلى الفضل بْن سهل وإلى أخيه الحسن، فشاورهما في ذلك، فقال الفضل: الأمر مخطر، ولك من شيعتك وأهل بيتك بطانة، ولهم تأنيس بالمشاورة، وفي قطع الأمر دونهم وحشة، وظهوره قلة ثقة، فرأي الأمير في ذلك وقال الحسن: كان يقال: شاور في طلب الرأي من تثق بنصيحته، وتألف العدو فيما لا اكتتام له بمشاورته، فأحضر المأمون الخاصة من الرؤساء والأعلام، وقرأ عليهم الكتاب، فقالوا جميعا له: أيها الأمير،

(8/377)


تشاور في مخطر، فاجعل لبديهتنا حظا من الروية، فقال المأمون: ذلك هو الحزم، وأجلهم ثلاثا، فلما اجتمعوا بعد ذلك، قَالَ أحدهم: أيها الأمير، قد حملت على كرهين، ولست أرى خطأ مدافعة بمكروه أولهما مخافة مكروه آخرهما وقال آخر: كان يقال أيها الأمير، أسعدك الله، إذا كان الأمر مخطرا، فإعطاؤك من نازعك طرفا من بغيته أمثل من أن تصير بالمنع إلى مكاشفته.
وقال آخر: إنه كان يقال: إذا كان علم الأمور مغيبا عنك، فخذ ما امكنك من هدنة يومك، فإنك لا تأمن أن يكون فساد يومك راجعا بفساد غدك وقال آخر: لئن خيفت للبذل عاقبة، إن أشد منها لما يبعث الآباء من الفرقة وقال آخر: لا أرى مفارقة منزلة سلامة، فلعلي أعطى معها العافية فقال الحسن: فقد وجب حقكم باجتهادكم، وإن كنت من الرأي على مخالفتكم، فقال له المأمون: فناظرهم، قَالَ: لذلك ما كان الاجتماع.
وأقبل الحسن عليهم، فقال: هل تعلمون أن محمدا تجاوز إلى طلب شيء ليس له بحق؟ قالوا: نعم، ويحتمل ذلك لما نخاف من ضرر منعه قال: فهل تثقون بكفه بعد إعطائه إياها، فلا يتجاوز بالطلب إلى غيرها؟ قالوا: لا، ولعل سلامة تقع من دون ما يخاف ويتوقع قَالَ: فإن تجاوز بعدها بالمسألة، أفما ترونه قد توهن بما بذل منها في نفسه! قالوا: ندفع ما يعرض له في عاقبة بمدافعه محذور في عاجله! قَالَ: فهذا خلاف ما سمعناه من قول الحكماء قبلنا، قالوا: استصلح عاقبة أمرك باحتمال ما عرض من كره يومك، ولا تلتمس هدنة يومك بإخطار أدخلته على نفسك في غدك قَالَ المأمون للفضل:
ما تقول فيما اختلفوا فيه؟ قَالَ: أيها الأمير، أسعدك الله، هل يؤمن محمد أن يكون طالبك بفضل قوتك ليستظهر بها عليك غدا على مخالفتك! وهل يصير الحازم إلى فضلة من عاجل الدعة بخطر يتعرض له في عاقبة، بل إنما أشار الحكماء بحمل ثقل فيما يرجون به صلاح عواقب أمورهم فقال المأمون:
بل بإيثار العاجلة صار من صار إلى فساد العاقبة في امر دنيا او امر آخره.
قَالَ القوم: قد قلنا بمبلغ الرأي، والله يؤيد الأمير بالتوفيق فقال: اكتب

(8/378)


يا فضل إليه، فكتب:
قد بلغني كتاب امير المؤمنين يسألني التجافي عن مواضع سماها مما أثبته الرشيد في العقد، وجعل أمره إلي، وما أمر رآه أمير المؤمنين أحد يجاوز أكثره، غير أن الذي جعل إلي الطرف الذي أنابه، لا ظنين في النظر لعامته، ولا جاهل بما أسند إلي من أمره، ولو لم يكن ذلك مثبتا بالعهود والمواثيق المأخوذة، ثم كنت على الحال التي أنا عليها من إشراف عدو مخوف الشوكة، وعامة لا تتألف عن هضمها، وأجناد لا يستتبع طاعتها إلا بالأموال وطرف من الإفضال- لكان في نظر أمير المؤمنين لعامته وما يحب من لم أطرافه ما يوجب عليه أن يقسم له كثيرا من عنايته، وأن يستصلحه ببذل كثير من ماله، فكيف بمسألة ما أوجبه الحق، ووكد به مأخوذ العهد! وإني لأعلم أن أمير المؤمنين لو علم من الحال ما علمت لم يطلع بمسألة ما كتب بمسألته إلي ثم أنا على ثقة من القبول بعد البيان إن شاء الله.
وكان المأمون قد وجه حارسة إلى الحد، فلا يجوز رسول من العراق حتى يوجهوه مع ثقات من الأمناء، ولا يدعه يستعلم خبرا ولا يؤثر أثرا، ولا يستتبع بالرغبة ولا بالرهبة أحدا، ولا يبلغ أحدا قولا ولا كتابا فحصر أهل خراسان من أن يستمالوا برغبة، أو أن تودع صدورهم رهبة، أو يحملوا على منزل خلاف أو مفارقة ثم وضع على مراصد الطرق ثقات من الحراس لا يجوز عليهم إلا من لا يدخل الظنة في أمره ممن أتى بجواز في مخرجه إلى دار مآبه، أو تاجر معروف مأمون في نفسه ودينه، ومنع الإشتاتات من جواز السبل والقطع بالمتاجر والوغول في البلدان في هيئة الطارئة والسابلة، وفتشت الكتب.
وكان- فيما ذكر- أول من أقبل من قبل محمد مناظرا في منعه ما كان سأل جماعة، وإنما وجهوا ليعلم أنهم قد عاينوا وسمعوا، ثم يلتمس منهم ان يبذلوا او يحرموا فيكون مما قالوا حجة يحتج بها، أو ذريعه الى ما التمس منها فلما صاروا إلى حد الري، وجدوا تدبيرا مؤيدا، وعقدا مستحصدا متأكدا، وأخذتهم الأحراس من جوانبهم، فحفظوا في حال ظعنهم وإقامتهم من أن يخبروا أو يستخبروا، وكتب بخبرهم من مكانهم، فجاء الإذن في حملهم

(8/379)


فحملوا محروسين، لا خبر يصل إليهم، ولا خبر يتطلع منهم إلى غيرهم، وقد كانوا معدين لبث الخبر في العامة وإظهار الحجة بالمفارقة والدعاء لأهل القوة إلى المخالفة، يبذلون الأموال، ويضمنون لهم معظم الولايات والقطائع والمنازل، فوجدوا جميع ذلك ممنوعا محسوما، حتى صاروا إلى باب المأمون.
وكان الكتاب النافذ معهم إلى المأمون:
أما بعد، فإن أمير المؤمنين الرشيد وإن كان أفردك بالطرف، وضم ما ضم إليك من كور الجبل، تأييدا لأمرك، وتحصينا لطرفك، فإن ذلك لا يوجب لك فضلة المال عن كفايتك وقد كان هذا الطرف وخراجه كافيا لحدثه، ثم تتجاوز بعد الكفاية إلى ما يفضل من رده، وقد ضم لك إلى الطرف كورا من أمهات كور الأموال لا حاجة لك فيها، فالحق فيها أن تكون مردودة في أهلها، ومواضع حقها فكتبت إليك أسألك رد تلك الكور الى ما كانت عليه من حالها، لتكون فضول ردها مصروفة إلى مواضعها، وأن تأذن لقائم بالخبر يكون بحضرتك يؤدي إلينا علم ما نعني به من خبر طرفك، فكتبت تلط دون ذلك بما أن تم أمرك عليه صيرنا الحق إلى مطالبتك، فاثن عن همك أثن عن مطالبتك، إن شاء الله.
فلما قرأ المأمون الكتاب كتب مجيبا له:
أما بعد، فقد بلغني كتاب أمير المؤمنين، ولم يكتب فيما جهل فأكشف له عن وجهه، ولم يسال ما يوجبه حق فيلزمني الحجة بترك إجابته، وإنما يتجاوز المتناظران منزلة النصفة ما ضاقت النصفة عن أهلها، فمتى تجاوز متجاوز- وهي موجودة الوسع- ولم يكن تجاوزها إلا عن نقضها واحتمال ما في تركها، فلا تبعثني يا بن أبي علي مخالفتك وأنا مذعن بطاعتك، ولا على قطيعتك وأنا على إيثار ما تحب من صلتك، وارض بما حكم به الحق في أمرك أكن بالمكان الذي أنزلني به الحق فيما بيني وبينك والسلام.
ثم أحضر الرسل، فقال: إن أمير المؤمنين كتب في امر كتبت له في جوابه، فأبلغوه الكتاب، وأعلموه أني لا أزال على طاعته، حتى يضطرني

(8/380)


بترك الحق الواجب إلى مخالفته فذهبوا يقولون، فقال: قفوا أنفسكم حيث وقفنا بالقول بكم، وأحسنوا تأدية ما سمعتم، فقد أبلغتمونا من كتابنا ما عسى ان تقولوه لنا فانصرف الرسل ولم يثبتوا لأنفسهم حجة، ولم يحملوا خبرا يؤدونه إلى صاحبهم، ورأوا جدا غير مشوب بهزل، في منع ما لهم من حقهم الواقع- بزعمهم.
فلما وصل كتاب المأمون إلى محمد وصل منه ما فظع به، وتخمط غيظا بما تردد منه في سمعه، وأمر عند ذلك بما ذكرناه من الإمساك عن الدعاء له على المنابر، وكتب إليه:
أما بعد، فقد بلغني كتابك غامطا لنعمة الله عليك فيما مكن لك من ظلها، متعرضا لحراق نار لا قبل لك بها، ولحظك عن الطاعة كان أودع لك، وإن كان قد تقدم مني متقدم، فليس بخارج من مواضع نفعك إذ كان راجعا على العامة من رعيتك، وأكثر من ذلك ما يمكن لك من منزله السلامة، ويثبت لك من حال الهدنة، فأعلمني رأيك أعمل عليه إن شاء الله.
وذكر سهل بْن هارون عن الحسن بْن سهل، أن المأمون قال لذى الرياستين:
إن ولدي وأهلي ومالي الذي أفرده الرشيد لي بحضرة محمد- وهو مائة ألف ألف- وأنا إليها محتاج، وهي قبله فما ترى في ذلك؟ وراجعه في ذلك مرارا فقال له ذو الرياستين: أيها الأمير، بك حاجة إلى فضلة مالك، وأن يكون أهلك في دارك وجنابك، وإن أنت كتبت فيه كتاب عزمة فمنعك صار إلى خلع عهده، فإن فعل حملك ولو بالكره على محاربته، وأنا أكره أن تكون المستفتح باب الفرقة ما أرتجه الله دونك، ولكن تكتب كتاب طالب لحقك، وتوجيه أهلك على ما لا يوجب عليه المنع نكثا لعهدك، فإن أطاع فنعمة وعافية، وإن ابى لم تكن بعثت على نفسك حربا او مشاقه فاكتب إليه، فكتب عنه:
أما بعد، فإن نظر أمير المؤمنين للعامة نظر من لا يقتصر عنه على إعطاء النصفة من نفسه حتى يتجاوزها إليهم ببره وصلته، وإذا كان ذلك رأيه في

(8/381)


عامته، فأحر بأن يكون على مجاوزة ذلك بصنوه وقسيم نسبه، فقد تعلم يا أمير المؤمنين حالا أنا عليها من ثغور حللت بين لهواتها، وأجناد لا تزال موقنة بنشر غيها وبنكث آرائها، وقلة الخرج قبلي، والأهل والولد قبل أمير المؤمنين، وما للأهل- وإن كانوا في كفاية من بر أمير المؤمنين، فكان لهم والدا- بد من الإشراف والنزوع إلى كنفى، وما لي بالمال من القوة والظهير على لم الشعث بحضرتي، وقد وجهت لحمل العيال وحمل ذلك المال، فرأي أمير المؤمنين في إجازة فلان إلى الرقة في حمل ذلك المال، والأمر بمعونته عليه، غير محرج له فيه إلى ضيقة تقع بمخالفته، أو حامل له على رأي يكون على غير موافقة والسلام.
فكتب إليه محمد:
أما بعد، فقد بلغني كتابك بما ذكرت مما عليه رأي أمير المؤمنين في عامته فضلا عما يجب من حق لذي حرمته وخليط نفسه، ومحلك بين لهوات ثغور، وحاجتك لمحلك بينها إلى فضلة من المال لتأييد أمرك، والمال الذي سمي لك من مال الله، وتوجيهك من وجهت في حمله وحمل أهلك من قبل أمير المؤمنين.
ولعمري ما ينكر أمير المؤمنين رأيا هو عليه مما ذكرت لعامته، يوجب عليه من حقوق أقربيه وعامته وبه إلى ذلك المال الذي ذكرت حاجة في تحصين أمور المسلمين، فكان أولى به إجراؤه منه على فرائضه، ورده على مواضع حقه، وليس بخارج من نفعك ما عاد بنفع العامة من رعيتك وأما ما ذكرت من حمل أهلك، فإن رأي أمير المؤمنين تولي أمرهم، وإن كنت بالمكان الذي أنت به من حق القرابة ولم أر من حملهم على سفرهم مثل الذي رايت من تعريضهم بالسفر للتشتت، وان أر ذلك من قبلي أوجههم إليك مع الثقة من رسلي إن شاء الله والسلام.
قَالَ: ولما ورد الكتاب على المأمون، قَالَ: لاط دون حقنا يريد أن نتوهن مما يمنع من قوتنا، ثم يتمكن للوهنة من الفرصة في مخالفتنا فقال له ذو الرياستين: أو ليس من المعلوم دفع الرشيد ذلك المال إلى الأمين لجمعه، وقبض الأمين إياه على أعين الملأ من عامته، على أنه يحرسه قنيه، فهو

(8/382)


لا ينزع إليها، فلا تأخذ عليه مضايقها، وامل له ما لم تضطرك جريرته إلى مكاشفته بها، والرأي لزوم عروة الثقه، وحسم الفرقة، فان امسك فبنعمه وان تطلع إليها فقد تعرض لله بالمخالفة، وتعرضت منه بالإمساك للتأييد والمعونة.
قَالَ: وعلم المأمون والفضل أنه سيحدث بعد كتابه من الحدث ما يحتاج الى لمه، ومن الخبر ما يحتاج أن يباشره بالثقة من أصحابه، وأنه لا يحدث في ذلك حدثا دون مواطأة رجال النباهة والأقدار من الشيعة وأهل السابقة، فرأى أن يختار رجلا يكتب معه إلى أعيان أهل العسكر من بغداد، فإن أحدث محمد خلعا للمأمون صار الى دفعها، وتلطف لعلم حالات أهلها، وإن لم يفعل من ذلك شيئا خنس في حقته، وأمسك عن إيصالها، وتقدم إليه في التعجيل.
ولما قدم أوصل الكتب، وكان كتابه مع الرسول الذي وجهه لعلم الخبر:
أما بعد، فإن أمير المؤمنين كأعضاء البدن، يحدث العلة في بعضها، فيكون كره ذلك مؤلما لجميعها، وكذلك الحدث في المسلمين، يكون في بعضهم فيصل كره ذلك إلى سائرهم، للذي يجمعهم من شريعة دينهم، ويلزمهم من حرمه اخوتهم، ثم ذلك من الأئمة أعظم للمكان الذي به الأئمة من سائر أممهم، وقد كان من الخبر ما لا احسبه الا سيعرب عن محنته، ويسفر عما استتر من وجهه، وما اختلف مختلفان فكان أحدهما مع امر الله إلا كان أول معونة المسلمين وموالاتهم في ذات الله، وأنت يرحمك الله من الأمر بمرأى ومسمع، وبحيث إن قلت آذن لقولك، وإن لم تجد للقول مساغا فأمسكت عن مخوف أقتدي فيه بك، ولن يضيع علي الله ثواب الإحسان مع ما يجب علينا بالإحسان من حقك، ولحظ حاز لك النصيبين أو أحدهما أمثل من الإشراف لأحد الحظين، مع التعرض لعدمهما، فاكتب إلي برأيك، وأعلم ذلك لرسولي ليؤديه إلي عنك إن شاء الله.
وكتب إلى رجال النباهة من أهل العسكر بمثل ذلك.
قَالَ: فوافق قدوم الرسول بغداد ما أمر به من الكف عن الدعاء للمأمون

(8/383)


في الخطبة يوم الجمعة، وكان بمكان الثقة من كل من كتب إليه معه، فمنهم من أمسك عن الجواب وأعرب للرسول عما في نفسه، ومنهم من أجاب عن كتابه، فكتب أحدهم:
أما بعد فقد بلغني كتابك وللحق برهان يدل على نفسه تثبت به الحجة على كل من صار إلى مفارقته، وكفى غبنا بإضاعة حظ من حظ العاقبه، لمامول من حظ عاجله، وأبين من الغبن إضاعة حظ عاقبه مع التعرض للنكبة والوقائع، ولى من العلم بمواضع حظى ما أرجو أن يحسن معه النظر مني لنفسي، ويضع عني مؤنة استزادتي إن شاء الله قال: وكتب الرسول المتوجه الى بغداد الى المأمون وذي الرياستين:
أما بعد، فإني وافيت البلدة، وقد أعلن خليطك بتنكره، وقدم علما من اعتراضه ومفارقته وامسك عما كان يجب ذكره وتوفيته بحضرته، ودفعت كتبك فوجدت أكثر الناس ولاة السريره ونفاه العلانية، ووجدت المشرفين بالرعية لا يحوطون الا عنها ولا يبالون ما احتملوا فيها، والمنازع مختلج الرأي، لا يجد دافعا منه عن همه، ولا راغبا في عامه، والمحلون بانفسهم يحلون تمام الحدث، ليسلموا من منهزم حدثهم، والقوم على جد، ولا تجعلوا للتوانى في امركم نصيبا إن شاء الله والسلام.
قَالَ: ولما قدم على محمد من معسكر المأمون سعيد بْن مالك بْن قادم وعبد الله بْن حميد بْن قحطبة والعباس بْن الليث مولى أمير المؤمنين ومنصور بْن أبي مطر وكثير بْن قادره، الطفهم وقربهم، وأمر لمن كان قبض منهم الستة الأشهر برزق اثني عشر شهرا، وزادهم في الخاصة والعامة، ولمن لم يقبضها بثمانية عشر شهرا.
قال: ولما عزم محمد على خلع المأمون دعا يحيى بْن سليم فشاوره في ذلك، فقال يحيى: يا أمير المؤمنين، كيف بذلك لك مع ما قد وكد الرشيد من بيعته، وتوثق بها من عهده، والأخذ للأيمان والشرائط في الكتاب الذي

(8/384)


كتبه! فقال له محمد: إن رأي الرشيد كان فلتة شبهها عليه جعفر بْن يحيى بسحره، واستماله برقاه وعقده، فغرس لنا غرسا مكروها لا ينفعنا ما نحن فيه معه إلا بقطعه، ولا تستقيم لنا الأمور إلا باجتثاثه والراحة منه فقال:
أما إذا كان راى امير المؤمنين خلعه، فلا يجاهره مجاهرة فيستنكرها الناس، ويستشنعها العامة، ولكن تستدعي الجند بعد الجند والقائد بعد القائد، وتؤنسه بالألطاف والهدايا، وتفرق ثقاته ومن معه، وترغبهم بالأموال، وتستميلهم بالأطماع، فإذا أوهنت قوته، واستفرغت رجاله، أمرته بالقدوم عليك، فإن قدم صار إلى الذي تريد منه، وإن أبى كنت قد تناولته وقد كل حده وهيض جناحه، وضعف ركنه وانقطع عزه فقال محمد: ما قطع أمرا كصريمة، أنت مهذار خطيب، ولست بذي رأي، فزل عن هذا الرأي إلى الشيخ الموفق والوزير الناصح، قم فالحق بمدادك وأقلامك، قال يحيى:
فقلت: غضب يشوبه صدق ونصيحه، اشرت الى راى يخلطه غش وجهل قال: فو الله ما ذهبت الأيام حتى ذكر كلامه، وقرعه بخطئه وخرقه.
قال سهل بْن هارون: وقد كان الفضل بْن سهل دس قوما اختارهم ممن يثق به من القواد والوجوه ببغداد ليكاتبوه بالأخبار يوما يوما، فلما هم محمد بخلع المأمون، بعث الفضل بْن الربيع إلى أحد هؤلاء الرجال يشاوره فيما يرى من ذلك، فعظم الرجل عليه أمر نقض العهد للمأمون، وقبح الغدر به.
فقال له الفضل: صدقت، ولكن عبد الله قد أحدث الحدث الذي وجب به نقض ما أخذ الرشيد له قال: افتثبت الحجة عند العوام بمعلوم حدثه كما تثبت الحجة بما جدد من عهده! قَالَ: لا، قَالَ: أفحدث هذا منكم يوجب عند العامة نقض عهدكم ما لم يكن حدثه معلوما يجب به فسخ عهده! قَالَ: نعم، قَالَ الرجل- ورفع صوته: بالله ما رأيت كاليوم رأي رجل يرتاد به النظر، يشاور في رفع ملك في يده بالحجة ثم يصير إلى مطالبته بالعناد والمغالبة! قَالَ: فأطرق الفضل مليا، ثم قال: صدقتني الرأي، واحتملت ثقل الأمانة، ولكن أخبرني ان نحن أغمضنا من قالة العامة ووجدنا مساعدين

(8/385)


من شيعتنا وأجنادنا، فما القول؟ قَالَ: أصلحك الله، وهل أجنادك إلا من عامتك في أخذ بيعتهم وتمكن برهان الحق في قلوبهم! افليسوا وان اعطوك ظاهر طاعه هم مع ما تأكد من وثائق العهد في معارفهم، قال: فان أعطونا بذلك الطاعة قال: لا طاعه دون ان تكون على تثبت من البصائر.
قَالَ: نرغبهم بتشريف حظوظهم، قال: إذا يصيروا الى التقبل، ثم إلى خذلانك عند حاجتك إلى مناصحتهم قَالَ: فما ظنك بأجناد عبد الله؟ قَالَ: قوم على بصيره من امرهم لتقدم بيعتهم وما يتعاهدون من حظهم، قَالَ: فما ظنك بعامتهم؟ قَالَ: قوم كانوا في بلوى عظيمه من تحيف ولاتهم في أموالهم، ثم في أنفسهم صاروا به إلى الأمنية من المال والرفاغة في المعيشة، فهم يدافعون عن نعمة حادثة لهم، ويتذكرون بليه لا يأمنون العودة إليها قال: فهل من سبيل الى استفساد عظماء البلاد عليه، لتكون محاربتنا اياه بالمكيدة من ناحيته، لا بالزخرف نحوه لمناجزته! قال: اما الضعفاء فقد صاروا له البا لما نالوا به من الأمان والنصفة، وأما ذوو القوة فلم يجدوا مطعنا ولا موضع حجه والضعفاء السواد الأكثر قال: ما أراك ابقيت لنا موضع راى في اعتزالك الى اجنادنا، ولا تمكن النظر في ناحيته باحتيالنا، ثم أشد من ذلك ما قلت به وهنة أجنادنا وقوة أجناده في مخالفته وما تسخو نفس امير المؤمنين بترك ما لا يعرف من حقه، ولا نفسي بالهدنة مع تقدم جرى في امره، وربما اقبلت الأمور مشرفه بالمخالفة، ثم تكشف عن الفلج والدرك في العاقبه ثم تفرقا.
قال: وكان الفضل بْن الربيع أخذ بالمراصد لئلا تجاوز الكتب الحد، فكتب الرسول مع امرأة، وجعل الكتاب وديعة في عود منقور من أعواد الأكاف، وكتب إلى صاحب البريد بتعجيل الخبر، وكانت المرأة تمضي على المسالح كالمجتازة من القرية إلى القرية، لا تهاج ولا تفتش وجاء الخبر إلى المأمون موافقا لسائر ما ورد عليه من الكتب، قد شهد بعضها ببعض، فقال لذى الرياستين: هذه أمور قد كان الرأي أخبر عن عيبها، ثم هذه طوالع تخبر عن أواخرها، وكفانا أن نكون مع الحق، ولعل كرها يسوق خيرا.
قال: وكان أول ما دبره الفضل بْن سهل بعد ترك الدعاء للمأمون وصحه

(8/386)


الخبر به، أن جمع الأجناد التي كان أعدها بجنبات الري مع أجناد قد كان مكنها فيها، واجناد للقيام بامرهم، وكانت البلاد اجدبت بحضرتهم، فأعد لهم من الحمولة ما يحمل إليهم من كل فج وسبيل، حتى ما فقدوا شيئا احتاجوا إليه، وأقاموا بالحد لا يتجاوزونه ولا يطلقون يدا بسوء في عامد ولا مجتاز ثم أشخص طاهر بْن الحسين فيمن ضم إليه من قواده وأجناده، فسار طاهر مغذا لا يلوي على شيء، حتى ورد الري، فنزلها ووكل بأطرافها، ووضع مسالحه، وبث عيونه وطلائعه، فقال بعض شعراء خراسان:
رمى أهل العراق ومن عليها ... إمام العدل والملك الرشيد
بأحزم من مشى رأيا وحزما ... وكيدا نافذا فيما يكيد
بداهيه ناد خنفقيق ... يشيب لهول صولتها الوليد
وذكر أن محمدا وجه عصمة بْن حماد بْن سالم إلى همذان في ألف رجل، وولاه حرب كور الجبل، وأمره بالمقام بهمذان، وأن يوجه مقدمته إلى ساوة، واستخلف أخاه عبد الرحمن بْن حماد على الحرس، وجعل الفضل بْن الربيع وعلي بْن عيسى يلهبان محمدا، ويبعثانه على خلع المأمون والبيعه لابنه موسى.
[أخبار متفرقة]
وفي هذه السنة عقد محمد بْن هارون في شهر ربيع الأول لابنه موسى على جميع ما استخلفه عليه، وجعل صاحب أمره كله علي بْن عيسى بْن ماهان، وعلى شرطه محمد بْن عيسى بْن نهيك، وعلى حرسه عثمان بن عيسى ابن نهيك، وعلى خراجه عبد الله بْن عبيدة وعلى ديوان رسائله علي بْن صالح صاحب المصلى.
وفي هذه السنة وثب الروم على ميخائيل صاحب الروم فهرب وترهب، وكان ملكه سنتين فيما قيل

(8/387)


وفيها ملك على الروم ليون القائد.
وفيها صرف محمد بْن هارون إسحاق بْن سليمان عن حمص، وولاها عبد الله بْن سعيد الحرشي، ومعه عافية بْن سليمان، فقتل عدة من وجوههم، وحبس عدة، وحرق مدينتهم من نواحيها بالنار، فسألوه الأمان، فأجابهم فسكنوا ثم هاجوا، فضرب أعناق عدة منهم.

(8/388)


ثم دخلت

سنة خمس وتسعين ومائة
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك ما كان من أمر محمد بْن هارون بإسقاط ما كان ضرب لأخيه عبد الله المأمون من الدنانير والدراهم بخراسان في سنة أربع وتسعين ومائة، لأن المأمون كان أمر ألا يثبت فيها اسم محمد، وكان يقال لتلك الدنانير والدراهم الرباعية، وكانت لا تجوز حينا.

النهى عن الدعاء للمأمون على المنابر
وفيها نهى الأمين عن الدعاء على المنابر في عمله كله للمأمون والقاسم، وأمر بالدعاء له عليها ثم من بعده لابنه موسى، وذلك في صفر من هذه السنة، وابنه موسى يومئذ طفل صغير، فسماه الناطق بالحق، وكان ما فعل من ذلك عن رأي الفضل بْن الربيع، فقال في ذلك بعض الشعراء:
أضاع الخلافة غش الوزير ... وفسق الأمير، وجهل المشير
ففضل وزير، وبكر مشير ... يريدان ما فيه حتف الأمير
فبلغ ذلك المأمون، فتسمى بإمام الهدى، وكوتب بذلك
. عقد الإمرة لعلى بن عيسى
وفيها عقد محمد لعلي بْن عيسى بْن ماهان يوم الأربعاء لليلة خلت من شهر ربيع الآخر على كور الجبل كلها: نهاوند وهمذان وقم وأصفهان،

(8/389)


حربها وخراجها، وضم إليه جماعة من القواد وأمر له- فيما ذكر- بمائتي ألف دينار، ولولده بخمسين ألف دينار، وأعطى الجند مالا عظيما، وأمر له من السيوف المحلاة بألفي سيف وستة آلاف ثوب للخلع، وأحضر محمد أهل بيته ومواليه وقواده المقصورة بالشماسية يوم الجمعة لثمان خلون من جمادى الآخرة، فصلى محمد الجمعة، ودخل وجلس لهم ابنه موسى في المحراب، ومعه الفضل ابن الربيع وجميع من أحضر، فقرأ عليهم كتابا من الأمين يعلمهم رأيه فيهم وحقه عليهم، وما سبق لهم من البيعة متقدما مفردا بها، ولزوم ذلك لهم، وما أحدث عبد الله من التسمي بالإمامة، والدعاء إلى نفسه، وقطع ذكره في دور الضرب والطرز، وأن ما أحدث من ذلك ليس له، ولا ما يدعي من الشروط التي شرطت له بجائزة له وحثهم على طاعته، والتمسك ببيعته.
وقام سعيد بْن الفضل الخطيب بعد قراءة الكتاب، فعارض ما في الكتاب بتصديقه والقول بمثله ثم تكلم الفضل بْن الربيع وهو جالس، فبالغ في القول وأكثر، وذكر أنه لا حق لأحد في الإمامة والخلافة إلا لأمير المؤمنين محمد الأمين، وأن الله لم يجعل لعبد الله ولا لغيره في ذلك حظا له ولا نصيبا فلم يتكلم أحد من أهل بيت محمد ولا غيرهم بشيء إلا محمد بْن عيسى بْن نهيك ونفر من وجوه الحرس وقال الفضل بْن الربيع في كلامه: إن الأمير موسى ابْن أمير المؤمنين قد أمر لكم يا معاشر أهل خراسان من صلب ماله بثلاثة آلاف ألف درهم تقسم بينكم ثم انصرف الناس، وأقبل علي بْن عيسى علي محمد يخبره أن أهل خراسان كتبوا إليه يذكرون أنه إن خرج هو أطاعوه وانقادوا معه
. شخوص على بن عيسى الى حرب المأمون
وفيها شخص علي بْن عيسى إلى الري إلى حرب المأمون.
ذكر الخبر عن شخوصه إليها وما كان من أمره في شخوصه ذلك:
ذكر الفضل بْن إسحاق، أن علي بْن عيسى شخص من مدينة السلام

(8/390)


عشية الجمعة لخمس عشرة خلت من جمادى الآخرة سنة خمس وتسعين ومائة، شخص عشية تلك فيما بين صلاة الجمعة إلى صلاة العصر الى معسكره بنهر بين، فأقام فيه في زهاء أربعين ألفا، وحمل معه قيد فضة ليقيد به المأمون بزعمه، وشخص معه محمد الأمين إلى النهروان يوم الأحد لست بقين من جمادى الأخرة، فعرض بها الذين ضموا إلى علي بْن عيسى، ثم أقام بقية يومه ذلك بالنهروان، ثم انصرف إلى مدينة السلام وأقام علي بْن عيسى بالنهروان ثلاثة أيام، ثم شخص إلى ما وجه له مسرعا حتى نزل همذان، فولى عليها عبد الله بْن حميد بْن قحطبة وقد كان محمد كتب إلى عصمة بْن حماد بالانصراف في خاصة أصحابه وضم بقية العسكر وما فيه من الأموال وغير ذلك إلى علي بْن عيسى، وكتب إلى أبي دلف القاسم بْن عيسى بالانضمام إليه فيمن معه من اصحابه، ووجه معه هلال بْن عبد الله الحضرمي، وأمر له بالفرض، ثم عقد لعبد الرحمن بْن جبله الابناوى على الدينور، وأمره بالسير في بقية أصحابه، ووجه معه الفى الف درهم حملت إليه قبل ذلك، ثم شخص علي بْن عيسى من همذان يريد الري قبل ورود عبد الرحمن عليه، فسار حتى بلغ الري على تعبئة، فلقيه طاهر بْن الحسين وهو في أقل من أربعة آلاف- وقيل كان في ثلاثة آلاف وثمانمائه- وخرج من عسكر طاهر ثلاثة أنفس إلى علي بْن عيسى يتقربون إليه بذلك، فسألهم: من هم؟
ومن أي البلدان هم؟ فأخبره احدهم انه كان من جند عيسى ابيه الذي قتله رافع قَالَ: فأنت من جندي! فأمر به فضرب مائتي سوط، واستخف بالرجلين وانتهى الخبر إلى أصحاب طاهر، فازدادوا جدا في محاربته ونفورا منه.
فذكر أحمد بْن هشام أنه لم يكن ورد عليهم الكتاب من المأمون، بان تسمى بالخلافة، إذ التقيا- وكان أحمد على شرطة طاهر- فقلت لطاهر:
قد ورد علي بْن عيسى فيمن ترى، فإن ظهرنا له، فقال: أنا عامل أمير المؤمنين وأقررنا له بذلك، لم يكن لنا أن نحاربه فقال لي طاهر: لم يجئني في هذا

(8/391)


شيء، فقلت: دعني وما أريد، قَالَ: شأنك، قَالَ: فصعدت المنبر، فخلعت محمدا، ودعوت للمأمون بالخلافة، وسرنا من يومنا أو من غد يوم السبت، وكان ذلك في شعبان سنة خمس وتسعين ومائة، فنزلنا قسطانة، وهي أول مرحلة من الري إلى العراق وانتهى علي بْن عيسى إلى برية يقال لها مشكويه، وبيننا وبينه سبعه فراسخ، وجعلنا مقدمتنا على فرسخين من جنده وكان علي بْن عيسى ظن أن طاهرا إذا رآه يسلم إليه العمل، فلما رأى الجد منه، قال: هذا موضع مفازة، وليس موضع مقام.
فأخذ يساره إلى رستاق يقال له رستاق بني الرازي، وكان معنا الأتراك، فنزلنا على نهر، ونزل قريبا منا، وكان بيننا وبينه دكادك وجبال، فلما كان في آخر الليل جاءني رجل فأخبرني أن علي بْن عيسى دخل الري- وقد كان كاتبهم فأجابوه- فخرجت معه إلى الطريق، فقلت له: هذا طريقهم، وما هنا أثر حافر، وما يدل على أنه سار وجئت إلى طاهر فأنبهته، فقلت له: تصلي؟ قَالَ: نعم، فدعا بماء فتهيأ، فقلت له: الخبر كيت وكيت.
وأصبحنا، فقال لي: تركب، فوقفنا على الطريق، فقال لي: هل لك أن تجوز هذه الدكادك؟ فأشرفنا على عسكر علي بْن عيسى وهم يلبسون السلاح، فقال: ارجع، أخطأنا، فرجعنا فقال لي: اخرج أصحابنا قَالَ: فدعوت المأموني والحسن بْن يونس المحاربي والرستمي، فخرجوا جميعا، فكان على الميمنة المأموني، وعلى الميسره الرستمي ومحمد بْن مصعب.
قَالَ: وأقبل علي في جيشه، فامتلأت الصحراء بياضا وصفرة من السلاح والمذهب، وجعل على ميمنته الحسين بْن علي ومعه أبو دلف القاسم بْن عيسى بْن إدريس، وعلى ميسرته آخر، وكروا، فهزمونا حتى دخلوا العسكر، فخرج إليهم الساعة السوعاء فهزموهم.
قَالَ: وقال طاهر لما رأى علي بْن عيسى: هذا ما لا قبل لنا به، ولكن نجعلها خارجية، فقصد قصد القلب، فجمع سبعمائة رجل من الخوارزمية،

(8/392)


فيهم ميكائيل وسبسل وداود سياه.
قَالَ أحمد بْن هشام: قلنا لطاهر: نذكر علي بْن عيسى البيعة التي كانت، والبيعة التي أخذها هو للمأمون خاصة على معاشر أهل خراسان، فقال: نعم، قَالَ: فعلقناهما على رمحين، وقمت بين الصفين، فقلت: الأمان! لا ترمونا ولا نرميكم، فقال علي بْن عيسى: ذلك لك، فقلت: يا علي بْن عيسى، ألا تتقي الله! أليس هذه نسخة البيعة التي أخذتها أنت خاصة! اتق الله فقد بلغت باب قبرك، فقال: من أنت؟ قلت: أحمد بْن هشام- وقد كان علي بْن عيسى ضربه أربعمائة سوط- فصاح علي بْن عيسى: يا أهل خراسان، من جاء به فله ألف درهم قَالَ: وكان معنا قوم بخارية، فرموه، وقالوا: نقتلك ونأخذ مالك: وخرج من عسكره العباس بْن الليث مولى المهدي، وخرج رجل يقال له حاتم الطائي، فشد عليه طاهر، وشد يديه على مقبض السيف، فضربه فصرعه فقتله، وشد داود سياه على علي بْن عيسى فصرعه، وهو لا يعرفه وكان علي بْن عيسى على برذون أرحل، حمله عليه محمد- وذلك يكره في الحرب ويدل على الهزيمة- قَالَ: فقال داود: ناري أسنان كتبتم قَالَ: فقال طاهر الصغير- وهو طاهر بْن التاجي: علي بْن عيسى أنت؟ قَالَ: نعم، أنا على بن عيسى، وظن انه يهاب فلا يقدم عليه أحد، فشد عليه فذبحه بالسيف ونازعهم محمد بْن مقاتل بْن صالح الرأس، فنتف محمد خصلة من لحيته، فذهب بها إلى طاهر وبشره، وكانت ضربة طاهر هي الفتح، فسمي يومئذ ذا اليمينين بذلك السبب لأنه أخذ السيف بيديه جميعا وتناول أصحابه النشاب ليرمونا، فلم أعلم بقتل علي حتى قيل: قتل والله الأمير فتبعناهم فرسخين، وواقفونا اثني عشرة مرة، كل ذلك نهزمهم، فلحقني طاهر بن التاجى، ومعه راس على ابن عيسى، وكان آلى أن ينصب رأس أحمد عند المنبر الذي خلع عليه محمد، وقد كان على أمر أن يهيأ له الغداء بالري قَالَ: فانصرفت فوجدت عيبه

(8/393)


على فيها دراعة وجبة وغلالة، فلبستها، وصليت ركعتين شكرا لله تبارك وتعالى ووجدنا في عسكره سبعمائة كيس، في كل كيس ألف درهم، ووجدنا عدة بغال عليها صناديق في أيدي أولئك البخارية الذين شتموه، وظنوا أنه مال، فكسروا الصناديق، فإذا فيها خمر سوادي، وأقبلوا يفرقون القناني، وقالوا: عملنا الجد حتى نشرب.
قَالَ أحمد بْن هشام: وجئت إلى مضرب طاهر، وقد اغتم لتأخري عنه، فقال: لي البشرى! هذه خصله من لحيه على، فقلت له: البشرى! هذا رأس علي قَالَ: فأعتق طاهر من كان بحضرته من غلمانه شكرا لله، ثم جاءوا بعلي وقد شد الأعوان يديه الى رجليه، فحمل على خشبة كما يحمل الحمار الميت وأمر به فلف في لبد وألقي في بئر قال: وكتب الى ذي الرياستين بالخبر.
قَالَ: فسارت الخريطة وبين مرو وذلك الموضع نحو من خمسين ومائتي فرسخ، ليلة الجمعة وليلة السبت وليلة الأحد، ووردت عليهم يوم الأحد.
قال ذو الرياستين: كنا قد وجهنا هرثمة، واحتشدنا في السلاح مددا، وسار في ذلك اليوم، وشيعه المأمون فقلت للمأمون: لا تبرح، حتى يسلم عليك بالخلافة فقد وجبت لك، ولا نامن ان يقال: يصلح بين الأخوين، فإذا سلم عليك بالخلافة لم يمكن أن ترجع فتقدمت أنا وهرثمة والحسن بْن سهل، فسلمنا عليه بالخلافة، وتبادر شيعة المأمون، فرجعت وأنا كال تعب لم أنم ثلاثة أيام في جهاز هرثمة، فقال لي الخادم: هذا عبد الرحمن بْن مدرك- وكان يلي البريد، ونحن نتوقع الخريطة لنا أو علينا- فدخل وسكت، قلت:
ويلك! ما وراءك؟ قَالَ: الفتح، فإذا كتاب طاهر إلي: أطال الله بقاءك، وكبت اعداءك، وجعل من يشنؤك فداءك، كتبت إليك ورأس علي بْن عيسى بين يدي، وخاتمه في أصبعي، والحمد لله رب العالمين فوثبت إلى دار أمير المؤمنين، فلحقني الغلام بالسواد، فدخلت على المأمون فبشرته، وقرأت عليه الكتاب، فأمر بإحضار أهل بيته والقواد ووجوه الناس، فدخلوا فسلموا عليه بالخلافة، ثم ورد رأس علي يوم الثلاثاء، فطيف به في خراسان

(8/394)


وذكر الحسن بْن أبي سعيد، قَالَ: عقدنا لطاهر سنة أربع وتسعين ومائة فاتصل عقده إلى الساعة.
وذكر محمد بْن يحيى بْن عبد الملك النيسابوري، قَالَ: لما جاء نعي علي ابن عيسى وقتله الى محمد بن زبيدة- وكان في وقته ذلك على الشط يصيد السمك- فقال للذي أخبره: ويلك! دعني، فإن كوثرا قد اصطاد سمكتين وأنا ما اصطدت شيئا بعد قال: وكان بعض اهل الحسد يقول: ظن طاهر إن عليا يعلو عليه، وقال: متى يقوم طاهر لحرب علي مع كثرة جيشه وطاعة أهل خراسان له! فلما قتل علي تضاءل، وقال: والله لو لقيه طاهر وحده لقاتله في جيشه حتى يغلب أو يقتل دونه.
وقال رجل من أصحاب علي له بأس ونجده في قتل على ولقاء طاهر:
لقينا الليث مفترسا لديه ... وكنا ما ينهنهنا اللقاء
نخوض الموت والغمرات قدما ... إذا ما كر ليس به خفاء
فضعضع ركبنا لما التقينا ... وراح الموت وانكشف الغطاء
وأردى كبشنا والرأس منا ... كأن بكفه كان القضاء
ولما انتهى الخبر بقتل علي بْن عيسى إلى محمد والفضل، بعث إلى نوفل خادم المأمون- وكان وكيل المأمون ببغداد وخازنه، وقيمه في أهله وولده وضياعه وأمواله- عن لسان محمد، فأخذ منه الألف ألف درهم التي كان الرشيد وصل بها المأمون، وقبض ضياعه وغلاته بالسواد، وولى عمالا من قبله، ووجه عبد الرحمن الأبناوي بالقوة والعدة فنزل همذان.
وذكر بعض من سمع عبد الله بْن خازم عند ذلك يقول: يريد محمد إزالة الجبال وفل العساكر بتدبيره والمنكوس من تظهيره، هيهات! هو والله كما قَالَ الأول:
قد ضيع الله ذودا أنت راعيها

(8/395)


ولما بايع محمد لابنه موسى ووجه علي بْن عيسى، قَالَ الشاعر من أهل بغداد في ذلك لما رأى تشاغل محمد بلهوه وبطالته وتخليته عن تدبير على والفضل ابن الربيع:
أضاع الخلافة غش الوزير ... وفسق الإمام وجهل المشير؟
ففضل وزير، وبكر مشير ... يريدان ما فيه حتف الأمير
وما ذاك إلا طريق غرور ... وشر المسالك طرق الغرور
لواط الخليفة أعجوبة ... وأعجب منه خلاق الوزير
فهذا يدوس وهذا يداس ... كذاك لعمري اختلاف الأمور
فلو يستعينان هذا بذاك ... لكانا بعرضة أمر ستير
ولكن ذا لج في كوثر ... ولم يشف هذا دعاس الحمير
فشنع فعلاهما منهما ... وصارا خلافا كبول البعير
وأعجب من ذا وذا أننا ... نبايع للطفل فينا الصغير
ومن ليس يحسن غسل استه ... ولم يخل من بوله حجر ظير
وما ذاك إلا بفضل وبكر ... يريدان نقض الكتاب المنير
وهذان لولا انقلاب الزمان ... أفي العير هذان أم في النفير
ولكنها فتن كالجبال ... ترفع فيها الوضيع الحقير
فصبرا ففي الصبر خير كثير ... وإن كان قد ضاق صدر الصبور
فيا رب فاقبضهما عاجلا ... إليك واوردهم عذاب السعير
ونكل بفضل وأشياعه ... وصلبهم حول هذي الجسور
وذكر أن محمدا لما بعث إلى المأمون في البيعة لابنه موسى، ووجه الرسل إليه في ذلك، كتب المأمون جواب كتابه:

(8/396)


أما بعد، فقد انتهى إلي كتاب أمير المؤمنين منكرا لإبائي منزلة تهضمني بها، وأرادني على خلاف ما يعلم من الحق فيها، ولعمري ان لو رد امير المؤمنين الأمر الى النصفة فلم يطالب إلا بها، ولم يوجب نكرة على تركها، لانبسطت بالحجة مطالع مقالته، ولكنت محجوجا بمفارقه ما يجب من طاعته، فأما وأنا مذعن بها وهو على ترك أعمالها، فأولى به أن يدير الحق في أمره، ثم يأخذ به، ويعطي من نفسه، فإن صرت إلى الحق فرغت عن قلبه، وان أبيت الحق قام الحق بمعذرته واما ما وعد من بر بطاعته، وأوعد من الوطأة بمخالفته، فهل أحد فارق الحق في فعله فابقى للمستبين موضع ثقة بقوله! والسلام.
قَالَ: وكتب إلى علي بْن عيسى لما بلغه ما عزم عليه:
أما بعد، فإنك في ظل دعوة لم تزل أنت وسلفك بمكان ذب عن حريمها، وعلى العنايه بحفظها ورعاية لحقها، توجبون ذلك لأئمتكم، وتعتصمون بحبل جماعتكم، وتعطون بالطاعة من أنفسكم، وتكونون يدا على اهل مخالفتكم، وحزبا وأعوانا لأهل موافقتكم، تؤثرونهم على الآباء والأبناء، وتتصرفون فيما تصرفوا فيه من منزله شديده ورجاء، لا ترون شيئا أبلغ في صلاحكم من الأمر الجامع لألفتكم، ولا أحرى لبواركم مما دعا الى شتات كلمتكم، ترون من رغب عن ذلك جائرا عن القصد وعن أمه على منهاج الحق، ثم كنتم على أولئك سيوفا من سيوف نقم الله، فكم من أولئك قد صاروا وديعة مسبعة، وجزرا جامدة، قد سفت الرياح في وجهه، وتداعت السباع إلى مصرعه، غير ممهد ولا موسد قد صار إلى أمة، وغير عاجل حظه، ممن كانت الأئمة تنزلكم لذلك، بحيث أنزلتم أنفسكم، من الثقة بكم في أمورها، والتقدمة في آثارها، وأنت مستشعر دون كثير من ثقاتها وخاصتها، حتى بلغ الله بك في نفسك أن كنت قريع اهل دعوتك، والعلم القائم بمعظم امر ائمتك، إن قلت: ادنوا دنوا وإن أشرت: أقبلوا أقبلوا وان امسكت وقفوا وأقروا، وئاما لك واستنصاحا، وتزداد نعمة مع الزيادة في نفسك، ويزدادون نعمة مع الزيادة لك بطاعتك، حتى حللت المحل الذي

(8/397)


قربت به من يومك، وانقرض فيما دونه أكثر مدتك، لا ينتظر بعدها إلا ما يكون ختام عملك من خير فيرضى ما تقدم من صالح فعلك، أو خلاف فيضل له متقدم سعيك، وقد ترى يا أبا يحيى حالا عليها جلوت أهل نعمتك، والولاة القائمة بحق إمامتك، من طعن في عقده كنت القائم بشدها، وخثر بعهود توليت معاقد أخذها، يبدأ فيها بالأخصين، حتى أفضى الأمر إلى العامة من المسلمين، بالأيمان المحرجه والمواثيق المؤكدة وما طلع مما يدعو الى نشر كلمه، وتفريق امر أمه وشت امر جماعة، وتتعرض به لتبديل نعمة وزوال ما وطأت الأسلاف من الأئمة، ومتى زالت نعمة من ولاة أمركم وصل زوالها إليكم في خواص انفسكم، ولن يغير الله ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وليس الساعي في نشرها بساع فيها على نفسه دون السعى على حملتها، القائمين بحرمتها، قد عرضوهم أن يكونوا جزرا لاعدائهم، وطعمه قوم تتظفر مخالبهم في دمائهم ومكانك المكان الذي إن قلت رجع إلى قولك، وإن أشرت لم تتهم في نصيحتك، ولك مع إيثار الحق الحظوة عند أهل الحق ولا سواء من حظي بعاجل مع فراق الحق فأوبق نفسه في عاقبته، ومن أعان الحق فأدرك به صلاح العاقبة، مع وفور الحظ في عاجلته، وليس لك ما تستدعى ولا عليه ما تستعطف، ولكنه حق من حق إحسابك يجب ثوابه على ربك، ثم على من قمت بالحق فيه من أهل إمامتك، فإن أعجزك قول أو فعل فصر إلى الدار التي تأمن فيها على نفسك وتحكم فيها برأيك، وتنحاز إلى من يحسن تقبلا لصالح فعلك، ويكون مرجعك إلى عقدك وأموالك، ولك بذلك الله، وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا* وإن تعذر ذلك بقية على نفسك، فإمساكا بيدك، وقولا بحق، ما لم تخف وقوعه بكرهك، فلعل مقتديا بك، ومغتبطا بنهيك.
ثم أعلمني رأيك أعرفه إن شاء الله.
قَالَ: فأتى علي بالكتاب إلى محمد، فشب أهل النكث من الكفاة من تلهيبه، وأوقدوا نيرانه، وأعان على ذلك حميا قدرته، وتساقط طبيعته، ورد الرأي إلى الفضل بْن الربيع لقيامه كان بمكانفته.
وكانت كتب ذي الرياستين ترد إلى الدسيس الذي كان يشاوره في امره: ان

(8/398)


ابى القوم الا عزمه الخلاف، فالطف لأن يجعلوا أمره لعلي بْن عيسى وانما خص ذو الرياستين عليا بذلك لسوء أثره في أهل خراسان، واجتماع رأيهم على ما كرهه، وأن العامة قائلة بحربه فشاور الفضل الدسيس الذي كان يشاوره، فقال: على بن عيسى ان فعل فلم ترمهم بمثله، في بعد صوبه وسخاوة نفسه، ومكانه في بلاد خراسان في طول ولايته عليهم وكثرة صنائعه فيهم، ثم هو شيخ الدعوة وبقية أهل المشايعة، فأجمعوا على توجيه علي، فكان من توجيهه ما كان وكان يجتمع للمأمون بتوجيه علي جندان: أجناده الذين يحاربه بهم، والعامه من اهل خراسان حرب عليه لسوء أثره فيهم، وذلك رأي يكثر الإخطار به إلا في صدور رجال ضعاف الرأي لحال علي في نفسه، وما تقدم له ولسلفه، فكان ما كان من أمره ومقتله.
وذكر سهل أن عمرو بْن حفص مولى محمد قَالَ: دخلت على محمد في جوف الليل- وكنت من خاصته أصل إليه حيث لا يصل إليه أحد من مواليه وحشمه- فوجدته والشمع بين يديه، وهو يفكر، فسلمت عليه فلم يرد علي، فعلمت أنه في تدبير بعض أموره، فلم أزل واقفا على رأسه حتى مضى أكثر الليل، ثم رفع رأسه إلي، فقال: أحضرني عبد الله بْن خازم، فمضيت إلى عبد الله، فأحضرته، فلم يزل في مناظرته حتى انقضى الليل، فسمعت عبد الله وهو يقول: أنشدك الله يا أمير المؤمنين أن تكون أول الخلفاء نكث عهده، ونقض ميثاقه، واستخف بيمينه، ورد رأي الخليفة قبله! فقال: أسكت، لله أبوك! فعبد الملك كان أفضل منك رأيا، وأكمل نظرا، حيث يقول: لا يجتمع فحلان في هجمة قَالَ عمرو بْن حفص: وسمعت محمدا يقول للفضل ابن الربيع: ويلك يا فضل! لا حياة مع بقاء عبد الله وتعرضه، ولا بد من خلعه، والفضل يعينه على ذلك، ويعده أن يفعل، وهو يقول: فمتى ذلك! إذا غلب على خراسان وما يليها! وذكر بعض خدم محمد أن محمدا لما هم بخلع المأمون والبيعة لابنه، جمع وجوه القواد، فكان يعرض عليهم واحدا واحدا، فيأبونه، وربما

(8/399)


ساعده قوم حتى بلغ إلى خزيمة بْن خازم، فشاوره في ذلك، فقال:
يا أمير المؤمنين، لم ينصحك من كذبك ولم يغشك من صدقك، لا تجرئ القواد على الخلع فيخلعوك، ولا تحملهم على نكث العهد فينكثوا عهدك وبيعتك، فإن الغادر مخذول، والناكث مفلول وأقبل علي بْن عيسى بْن ماهان، فتبسم محمد، ثم قَالَ: لكن شيخ هذه الدعوة، وناب هذه الدولة لا يخالف على إمامه، ولا يوهن طاعته، ثم رفعه إلى موضع لم أره رفعه إليه فيما مضى، فيقال: إنه أول القواد أجاب إلى خلع عبد الله، وتابع محمدا على رأيه.
قَالَ أبو جعفر: ولما عزم محمد على خلع عبد الله، قال له الفضل بن الربيع: الا تعذر إليه يا أمير المؤمنين فإنه أخوك، ولعله يسلم هذا الأمر في عافية، فتكون قد كفيت مؤونته، وسلمت من محاربته ومعاندته! قَالَ:
فأفعل ماذا؟ قَالَ: تكتب إليه كتابا، تستطيب به نفسه، وتسكن وحشته، وتسأله الصفح لك عما في يده، فإن ذلك أبلغ في التدبير، وأحسن في القالة من مكاثرته بالجنود، ومعالجته بالكيد فقال له: أعمل في ذلك برأيك فلما حضر إسماعيل بْن صبيح للكتاب إلى عبد الله قَالَ: يا أمير المؤمنين، إن مسألتك الصفح عما في يديه توليد للظن، وتقوية للتهمة، ومدعاة للحذر، ولكن اكتب إليه فأعلمه حاجتك إليه، وما تحب من قربه والاستعانة برأيه، وسله القدوم إليك، فإن ذلك أبلغ وأحرى أن يبلغ فيما يوجب طاعته وإجابته فقال الفضل: القول ما قَالَ يا أمير المؤمنين، قَالَ: فليكتب بما رأى، قَالَ: فكتب إليه:
من عند الأمين محمد أمير المؤمنين إلى عبد الله بْن هارون أمير المؤمنين.
أما بعد، فإن أمير المؤمنين روى في امرك، والموضع الذى أنت فيه من ثغره، وما يؤمل في قربك من المعاونة والمكانفه على ما حمله الله، وقلده من أمور عباده وبلاده، وفكر فيما كان أمير المؤمنين الرشيد أوجب لك من الولاية، وأمر به من افرادك على ما يصير إليك منها، فرجا أمير المؤمنين ألا يدخل عليه وكف في دينه، ولا نكث في يمينه، إذ كان إشخاصه إياك فيما يعود على

(8/400)


المسلمين نفعه، ويصل إلى عامتهم صلاحه وفضله وعلم أمير المؤمنين أن مكانك بالقرب منه أسد للثغور، وأصلح للجنود، وآكد للفيء، وأرد على العامة من مقامك ببلاد خراسان منقطعا عن أهل بيتك، متغيبا عن أمير المؤمنين وما يجب الاستمتاع به من رأيك وتدبيرك وقد رأى أمير المؤمنين أن يولي موسى بن أمير المؤمنين فيما يقلده من خلافتك ما يحدث إليه من أمرك ونهيك فاقدم على أمير المؤمنين على بركة الله وعونه، بأبسط أمل وأفسح رجاء وأحمد عاقبة، وأنفذ بصيرة، فإنك أولى من استعان به أمير المؤمنين على أموره، واحتمل عنه النصب فيما فيه من صلاح اهل ملته وذمته والسلام ودفع الكتاب إلى العباس بْن موسى بْن عيسى بْن موسى بْن محمد بْن علي، وإلى عيسى بْن جعفر بْن أبي جعفر، وإلى محمد بْن عيسى بْن نهيك، وإلى صالح صاحب المصلى، وأمرهم أن يتوجهوا به الى عبد الله المأمون، والا يدعوا وجها من اللين والرفق إلا بلغوه، وسهلوا الأمر عليه فيه، وحمل بعضهم الأموال والألطاف والهدايا، وذلك في سنة أربع وتسعين ومائة فتوجهوا بكتابه، فلما وصلوا إلى عبد الله، أذن لهم، فدفعوا إليه كتاب محمد، وما كان بعث به معهم من الأموال والالطاف والهدايا ثم تكلم العباس بْن موسى بْن عيسى، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ:
أَيُّهَا الأمير، إن أخاك قد تحمل من الخلافة ثقلا عظيما، ومن النظر في أمور الناس عبئا جليلا، وقد صدقت نيته في الخير، فأعوزه الوزراء والأعوان والكفاه في العدل، وقليل ما يأنس بأهل بيته، وأنت أخوه وشقيقه، وقد فزع إليك في أموره، واملك للموازره والمكانفه، ولسنا نستبطئك في بره اتهاما لنصرك له، ولا نحضك على طاعة تخوفا لخلافك عليه، وفي قدومك عليه أنس عظيم، وصلاح لدولته وسلطانه، فأجب أيها الأمير دعوة أخيك وآثر طاعته، وأعنه على ما استعانك عليه في أمره، فإن في ذلك قضاء الحق، وصلة الرحم، وصلاح الدولة، وعز الخلافة عزم الله للأمير على الرشد في أموره، وجعل له الخيرة والصلاح في عواقب رأيه

(8/401)


وتكلم عيسى بْن جعفر بْن أبي جعفر، فقال: ان الاكثار على الأمير- ايده الله- في القول خرق، والاقتصاد في تعريفه ما يجب من حق أمير المؤمنين تقصير، وقد غاب الأمير أكرمه الله عن أمير المؤمنين، ولم يستغن عن قربه، ومن شهد غيره من اهل بيته فلا يجد عنده غناء، ولا يجد منه خلفا ولا عوضا، والأمير أولى من بر أخاه، وأطاع إمامه، فليعمل الأمير فيما كتب به إليه أمير المؤمنين، بما هو أرضى وأقرب من موافقة أمير المؤمنين ومحبته، فإن القدوم عليه فضل وحظ عظيم، والإبطاء عنه وكف في الدين، وضرر ومكروه على المسلمين.
وتكلم محمد بْن عيسى بْن نهيك، فقال: أيها الأمير، إنا لا نزيدك بالإكثار والتطويل فيما أنت عليه من المعرفة بحق امير المؤمنين، ولا نشحذ نيتك بالأساطير والخطب فيما يلزمك من النظر والعناية بأمور المسلمين وقد أعوز أمير المؤمنين الكفاة والنصحاء بحضرته، وتناولك فزعا إليك في المعونة والتقوية له على أمره، فإن تجب امير المؤمنين فيما دعاك فنعمه عظيمه تتلافى بها رعيتك وأهل بيتك، وإن تقعد يغن الله أمير المؤمنين عنك، ولن يضعه ذلك مما هو عليه من البر بك والاعتماد على طاعتك ونصيحتك.
وتكلم صاحب المصلى، فقال: أيها الأمير، إن الخلافة ثقيلة والأعوان قليل، ومن يكيد هذه الدولة وينطوي على غشها والمعاندة لأوليائها من أهل الخلاف والمعصية كثير، وأنت أخو أمير المؤمنين وشقيقه، وصلاح الأمور وفسادها راجع عليك وعليه، إذ أنت ولي عهده، والمشارك في سلطانه وولايته، وقد تناولك أمير المؤمنين بكتابه، ووثق بمعاونتك على ما استعانك عليه من أموره، وفي إجابتك إياه إلى القدوم عليه صلاح عظيم في الخلافة، وأنس وسكون لأهل الملة والذمة وفق الله الأمير في أموره، وقضى له بالذي هو أحب إليه وأنفع له! فحمد الله المأمون وأثنى عليه، ثم قَالَ: قد عرفتموني من حق أمير المؤمنين أكرمه الله ما لا أنكره، ودعوتموني من الموازرة والمعونة إلى ما أوثره ولا أدفعه، وأنا لطاعة أمير المؤمنين مقدم، وعلى المسارعة إلى ما سره ووافقه حريص، وفي

(8/402)


الروية تبيان الرأي، وفي أعمال الرأي نصح الاعتزام، والأمر الذي دعاني إليه أمير المؤمنين أمر لا أتأخر عنه تثبطا ومدافعة، ولا أتقدم عليه اعتسافا وعجلة، وأنا في ثغر من ثغور المسلمين كلب عدوه، شديد شوكته، وإن أهملت أمره لم آمن دخول الضرر والمكروه على الجنود والرعية، وان اقمت لم آمن فوت ما أحب من معونة أمير المؤمنين وموازرته، وإيثار طاعته، فانصرفوا حتى أنظر في أمري، ونصح الرأي فيما أعتزم عليه من مسيري إن شاء الله ثم أمر بإنزالهم وإكرامهم والإحسان إليهم.
فذكر سفيان بْن محمد أن المأمون لما قرأ الكتاب أسقط في يده، وتعاظمه ما ورد عليه منه، ولم يدر ما يرد عليه، فدعا الفضل بْن سهل، فأقرأه الكتاب، وقال: ما عندك في هذا الأمر؟ قَالَ: أرى أن تتمسك بموضعك، ولا تجعل عليك سبيلا، وأنت تجد من ذلك بدا قَالَ: وكيف يمكنني التمسك بموضعي ومخالفة محمد، وعظم القواد والجنود معه، وأكثر الأموال والخزائن قد صارت إليه، مع ما قد فرق في أهل بغداد من صلاته وفوائده! وإنما الناس مائلون مع الدراهم، منقادون لها، لا ينظرون إذا وجدوها حفظ بيعة، ولا يرغبون في وفاء عهد ولا أمانة فقال له الفضل: إذا وقعت التهمه حق الاحتراس، وانا الغدر محمد متخوف، ومن شرهه إلى ما في يديك مشفق، ولأن تكون في جندك وعزك مقيما بين ظهراني أهل ولايتك أحرى، فإن دهمك منه أمر جردت له وناجزته وكايدته، فإما أعطاك الله الظفر عليه بوفائك ونيتك، أو كانت الأخرى فمت محافظا مكرما، غير ملق بيديك، ولا ممكن عدوك من الاحتكام في نفسك ودمك قَالَ: إن هذا الأمر لو كان أتاني وأنا في قوة من أمري، وصلاح من الأمور، كان خطبه يسيرا، والاحتيال في دفعه ممكنا، ولكنه أتاني بعد إفساد خراسان واضطراب عامرها وغامرها، ومفارقه جبغويه الطاعة، والتواء خاقان صاحب التبت، وتهيؤ ملك كابل للغارة على ما يليه من بلاد خراسان، وامتناع ملك ابراز بنده بالضريبة التي كان يؤديها، وما لي بواحدة من هذه الأمور يد، وأنا أعلم أن محمدا لم يطلب قدومي

(8/403)


إلا لشر يريده، وما أرى إلا تخلية ما أنا فيه، واللحاق بخاقان ملك الترك، والاستجارة به وببلاده، فبالحرى أن آمن على نفسي، وأمتنع ممن أراد قهري والغدر بي.
فقال له الفضل: أيها الأمير، إن عاقبة الغدر شديدة، وتبعه الظلم والبغي غير مأمون شرها، ورب مستذل قد عاد عزيزا، ومقهور قد عاد قاهرا مستطيلا، وليس النصر بالقلة والكثرة، وحرج الموت أيسر من حرج الذل والضيم، وما أرى أن تفارق ما أنت فيه وتصير إلى طاعة محمد متجردا من قوادك وجندك كالرأس المختزل عن بدنه، يجري عليك حكمه، فتدخل في جملة أهل مملكته من غير أن تبلي عذرا في جهاد ولا قتال، ولكن اكتب الى جبغويه وخاقان، فولهما بلادهما، وعدهما التقوية لهما في محاربة الملوك، وابعث إلى ملك كابل بعض هدايا خراسان وطرفها، وسله الموادعة تجده على ذلك حريصا، وسلم الملك ابراز بنده ضريبته في هذه السنه، وصيرها صله منك وصلته بها، ثم اجمع إليك أطرافك، واضمم إليك من شذ من جندك، ثم اضرب الخيل بالخيل، والرجال بالرجال، فإن ظفرت وإلا كنت على ما تريد من اللحاق بخاقان قادرا فعرف عبد الله صدق ما قَالَ، فقال: اعمل في هذا الأمر وغيره من أموري بما ترى، وأنفذ الكتب إلى أولئك العصاة، فرضوا وأذعنوا، وكتب إلى من كان شاذا عن مرو من القواد والجنود، فأقدمهم عليه، وكتب إلى طاهر بْن الحسين وهو يومئذ عامل عبد الله علي الري، فأمره أن يضبط ناحيته، وأن يجمع إليه أطرافه، ويكون على حذر وعده من جيش ان طرقه، أو عدو ان هجم عليه واستعد للحرب، وتهيأ لدفع محمد عن بلاد خراسان.
ويقال: إن عبد الله بعث إلى الفضل بْن سهل فاستشاره في أمر محمد، فقال: ايها الأمير، انظرنى في يومي هذا أغد عليك برأي، فبات يدبر الرأي ليلته، فلما أصبح غدا عليه، فأعلمه أنه نظر في النجوم فرأى أنه سيغلبه، وأن العاقبة له فأقام عبد الله بموضعه، ووطن نفسه على محاربة محمد ومناجزته

(8/404)


فلما فرغ عبد الله مما أراد إحكامه من امر خراسان، كتب الى محمد:
لعبد الله محمد أمير المؤمنين من عبد الله بْن هارون، أما بعد، فقد وصل إلي كتاب أمير المؤمنين، وإنما أنا عامل من عماله وعون من أعوانه، أمرني الرشيد صلوات الله عليه بلزوم هذا الثغر، ومكايدة من كايد أهله من عدو أمير المؤمنين، ولعمري أن مقامي به، أرد على أمير المؤمنين وأعظم غناء عن المسلمين من الشخوص إلى أمير المؤمنين، وإن كنت مغتبطا بقربه، مسرورا بمشاهدة نعمة الله عنده، فإن رأى أن يقرني على عملي، ويعفيني من الشخوص إليه، فعل إن شاء الله والسلام.
ثم دعا العباس بْن موسى وعيسى بْن جعفر ومحمدا وصالحا، فدفع الكتاب إليهم، وأحسن إليهم في جوائزهم، وحمل إلى محمد ما تهيأ له من ألطاف خراسان، وسألهم أن يحسنوا أمره عنده، وأن يقوموا بعذره.
قَالَ سفيان بْن محمد: لما قرأ محمد كتاب عبد الله، عرف أن المأمون لا يتابعه على القدوم عليه، فوجه عصمة بْن حماد بْن سالم صاحب حرسه، وأمره أن يقيم مسلحة فيما بين همذان والري، وأن يمنع التجار من حمل شيء إلى خراسان من الميرة، وأن يفتش المارة، فلا يكون معهم كتب باخباره وما يريد، وذلك سنة أربع وتسعين ومائة ثم عزم على محاربته، فدعا على ابن عيسى بْن ماهان، فعقد له على خمسين الف فارس ورجل من أهل بغداد، ودفع إليه دفاتر الجند، وأمره أن ينتقي ويتخير من أراد على عينه، ويخص من أحب ويرفع من أراد إلى الثمانين، وأمكنه من السلاح وبيوت الأموال، ثم وجهوا إلى المأمون.
فذكر يزيد بْن الحارث، قَالَ: لما أراد علي الشخوص إلى خراسان ركب إلى باب أم جعفر، فودعها، فقالت: يا علي، إن أمير المؤمنين وإن كان ولدي، إليه تناهت شفقتي، وعليه تكامل حذري، فإني على عبد الله منعطفة مشفقة، لما يحدث عليه من مكروه وأذى، وإنما ابني ملك نافس أخاه في

(8/405)


سلطانه، وغاره على ما في يده، والكريم يأكل لحمه ويمنعه غيره، فاعرف لعبد الله حق والده وأخوته، ولا تجبهه بالكلام، فإنك لست نظيره، ولا تقتسره اقتسار العبيد، ولا ترهقه بقيد ولا غل، ولا تمنع منه جارية ولا خادما، ولا تعنف عليه في السير، ولا تساوه في المسير، ولا تركب قبله، ولا تستقل على دابتك حتى تأخذ بركابه، وإن شتمك فاحتمل منه، وإن سفه عليك فلا تراده ثم دفعت إليه قيدا من فضة، وقالت: إن صار في يدك فقيده بهذا القيد فقال لها: سأقبل أمرك، وأعمل في ذلك بطاعتك.
وأظهر محمد خلع المأمون، وبايع لابنيه- في جميع الآفاق إلا خراسان- موسى وعبد الله، واعطى عند بيعتهما بني هاشم والقواد والجند الأموال والجوائز، وسمى موسى الناطق بالحق، وسمى عبد الله القائم بالحق ثم خرج علي بْن عيسى لسبع ليال خلون من شعبان سنة خمس وتسعين ومائة من بغداد حتى عسكر بالنهروان، وخرج معه يشيعه محمد، وركب القواد والجنود، وحشرت الأسواق، وأشخص معه الصناع والفعلة، فيقال: أن عسكره كان فرسخا بفسطاطيه وأهبته وأثقاله، فذكر بعض أهل بغداد أنهم لم يروا عسكرا كان أكثر رجالا، وأفره كراعا، وأظهر سلاحا، وأتم عدة، وأكمل هيئة، من عسكره.
وذكر عمرو بْن سعيد أن محمدا لما جاز باب خراسان نزل على فترجل، وأقبل يوصيه، فقال: امنع جندك من العبث بالرعية والغارة على أهل القرى وقطع الشجر وانتهاك النساء، وول الري يحيى بْن علي، واضمم إليه جندا كثيفا، ومره ليدفع الى جنده أرزاقهم مما يجبى من خراجها، وول كل كورة ترحل عنها رجلا من أصحابك، ومن خرج إليك من جند أهل خراسان ووجوهها فأظهر إكرامه وأحسن جائزته، ولا تعاقب أخا بأخيه، وضع عن أهل خراسان ربع الخراج، ولا تؤمن أحدا رماك بسهم، أو طعن في أصحابك برمح، ولا تأذن لعبد الله في المقام أكثر من ثلاثة من اليوم الذي تظهر فيه عليه، فإذا اشخصته فليكن مع أوثق أصحابك عندك، فإن غره الشيطان فناصبك

(8/406)


فاحرص على أن تأسره أسرا، وإن هرب منك إلى بعض كور خراسان، فتول إليه المسير بنفسك أفهمت كل ما أوصيك به؟ قَالَ: نعم، أصلح الله أمير المؤمنين! قَالَ: سر على بركة الله وعونه! وذكر أن منجمه أتاه فقال: أصلح الله الأمير! لو انتظرت بمسيرك صلاح القمر، فإن النحوس عليه عالية، والسعود عنه ساقطة منصرفة! فقال لغلام له: يا سعيد، قل لصاحب المقدمة يضرب بطبله ويقدم علمه، فإنا لا ندري ما فساد القمر من صلاحه، غير أنه من نازلنا نازلناه، ومن وادعنا وادعناه وكففنا عنه، ومن حاربنا وقاتلنا لم يكن لنا إلا ارواء السيف من دمه إنا لا نعتد بفساد القمر، فإنا وطنا أنفسنا على صدق اللقاء ومناجزة الأعداء.
قَالَ أبو جعفر: وذكر بعضهم أنه قَالَ: كنت فيمن خرج في عسكر علي بْن عيسى بْن ماهان، فلما جاز حلوان لقيته القوافل من خراسان، فكان يسألها عن الأخبار، يستطلع علم أهل خراسان، فيقال له: إن طاهرا مقيم بالري يعرض أصحابه، ويرم آلته، فيضحك ثم يقول: وما طاهر! فو الله ما هو إلا شوكة من أغصاني، أو شرارة من ناري، وما مثل طاهر يتولى على الجيوش، ويلقى الحروب، ثم التفت إلى أصحابه فقال: والله ما بينكم وبين أن ينقصف انقصاف الشجر من الريح العاصف، إلا أن يبلغه عبورنا عقبة همذان، فإن السخال لا تقوى على النطاح، والثعالب لا صبر لها على لقاء الأسد، فإن يقم طاهر بموضعه يكن أول معرض لظباة السيوف وأسنة الرماح.
وذكر يزيد بْن الحارث أن علي بْن عيسى لما صار إلى عقبة همذان استقبل قافلة قدمت من خراسان، فسألهم عن الخبر، فقالوا: إن طاهرا مقيم بالري، وقد استعد للقتال، واتخذ آلة الحرب، وإن المدد يترى عليه من خراسان وما يليها من الكور، وإنه في كل يوم يعظم أمره، ويكثر

(8/407)


أصحابه، وإنهم يرون أنه صاحب جيش خراسان قَالَ علي: فهل شخص من أهل خراسان احد يعتد به؟ قالوا: لا، غير أن الأمور بها مضطربة، والناس رعبون، فأمر بطي المنازل والمسير، وقال لأصحابه: إن نهاية القوم الري، فلو قد صيرناها خلف ظهورنا فت ذلك في أعضادهم، وانتشر نظامهم، وتفرقت جماعتهم ثم أنفذ الكتب إلى ملوك الديلم وجبال طبرستان وما والاها من الملوك، يعدهم الصلات والجوائز وأهدى اليهم التيجان والأسورة والسيوف المحلاة بالذهب، وأمرهم أن يقطعوا طريق خراسان، ويمنعوا من أراد الوصول إلى طاهر من المدد، فأجابوه إلى ذلك، وسار حتى صار في أول بلاد الري، وأتاه صاحب مقدمته، فقال: لو كنت- أبقى الله الأمير- أذكيت العيون، وبعثت الطلائع، وارتدت موضعا تعسكر فيه، وتتخذ خندقا لأصحابك يأمنون به، كان ذلك أبلغ في الرأي، وآنس للجند قَالَ: لا، ليس مثل طاهر يستعد له بالمكايد والتحفظ، إن حال طاهر تؤول إلى أحد أمرين:
إما أن يتحصن بالري فيبيته أهلها فيكفوننا مؤنته، أو يخليها ويدبر راجعا لو قربت خيولنا وعساكرنا منه وأتاه يحيى بْن علي، فقال: اجمع متفرق العسكر، واحذر على جندك البيات، ولا تسرح الخيل إلا ومعها كنف من القوم، فإن العساكر لا تساس بالتواني، والحروب لا تدبر بالاغترار، والثقة أن تحترز، ولا تقل: إن المحارب لي طاهر، فالشرارة الخفية ربما صارت ضراما، والثلمة من السيل ربما اغتر بها وتهون فصارت بحرا عظيما، وقد قربت عساكرنا من طاهر، فلو كان رأيه الهرب لم يتأخر إلى يومه هذا قَالَ:
اسكت، فإن طاهرا ليس في هذا الموضع الذى ترى، وانما تتحفظ الرجال إذا لقيت أقرانها، وتستعد إذا كان المناوئ لها أكفاءها ونظراءها وذكر عبد الله بْن مجالد، قَالَ: أقبل علي بْن عيسى حتى نزل من الري على عشرة فراسخ، وبها طاهر قد سد أبوابها، ووضع المسالح على طرقها، واستعد لمحاربته، فشاور طاهر أصحابه، فأشاروا عليه أن يقيم بمدينة الري، ويدافع القتال ما قدر عليه إلى أن يأتيه من خراسان المدد من الخيل، وقائد

(8/408)


يتولى الأمر دونه، وقالوا: إن مقامك بمدينة الري ارفق باصحابك، وأقدر لهم على الميرة، وأكن من البرد، وأحرى إن دهمك قتال أن يعتصموا بالبيوت، وتقوى على المماطلة والمطاولة، إلى أن يأتيك مدد، أو ترد عليك قوة من خلفك فقال طاهر: إن الرأي ليس ما رأيتم، إن أهل الري لعلي هائبون، ومن معرته وسطوته متقون، ومعه من قد بلغكم من أعراب البوادي وصعاليك الجبال ولفيف القرى، ولست آمن إن هجم علينا مدينة الري أن يدعو أهلها خوفهم إلى الوثوب بنا، ويعينوه على قتالنا، مع أنه لم يكن قوم قط روعبوا في ديارهم، وتورد عليهم عسكرهم إلا وهنوا وذلوا، وذهب عزهم، واجترأ عليهم عدوهم وما الرأي إلا أن نصير مدينة الري قفا ظهورنا، فإن أعطانا الله الظفر، وإلا عولنا عليها فقاتلنا في سككها، وتحصنا في منعتها إلى أن يأتينا مدد أو قوة من خراسان قالوا: الرأي ما رأيت فنادى طاهر في أصحابه فخرجوا فعسكروا على خمسة فراسخ من الري بقرية يقال لها كلواص، وأتاه محمد بْن العلاء فقال: أيها الأمير، إن جندك قد هابوا هذا الجيش، وامتلأت قلوبهم خوفا ورعبا منه، فلو أقمت بمكانك، ودافعت القتال إلى أن يشامهم أصحابك، ويأنسوا بهم، ويعرفوا وجه المأخذ في قتالهم! فقال: لا، إني لا أوتى من قلة تجربة وحزم، إن أصحابي قليل، والقوم عظيم سوادهم كثير عددهم، فإن دافعت القتال، وأخرت المناجزة لم آمن أن يطلعوا على قلتنا وعورتنا، وأن يستميلوا من معي برغبة أو رهبة، فينفر عني أكثر أصحابي، ويخذلني أهل الحفاظ والصبر، ولكن ألف الرجال بالرجال، وألحم الخيل بالخيل، واعتمد على الطاعة والوفاء، واصبر صبر محتسب للخير، حريص على الفوز بفضل الشهاده، فان يرزق الله الظفر والفلج فذلك الذي نريد ونرجو، وإن تكن الأخرى، فلست بأول من قاتل فقتل، وما عند الله أجزل وأفضل.
وقال علي لأصحابه: بادروا القوم، فان عددهم قليل، ولو زحفتم إليهم لم يكن لهم صبر على حرارة السيوف وطعن الرماح وعبا جنده ميمنة

(8/409)


وميسرة وقلبا، وصير عشر رايات، في كل راية ألف رجل، وقدم الرايات راية راية، فصير بين كل رايه ورايه غلوة، وأمر أمراءها: إذا قاتلت الأولى فصبرت وحمت وطال بها القتال أن تقدم التي تليها وتؤخر التي قاتلت حتى ترجع إليها أنفسها، وتستريح وتنشط للمحاربة والمعاودة وصير أصحاب الدروع والجواشن والخوذ أمام الرايات، ووقف في القلب في أصحابه من أهل البأس والحفاظ والنجدة منهم وكتب طاهر بْن الحسين كتائبه وكردس كراديسه، وسوى صفوفه، وجعل يمر بقائد قائد، وجماعة جماعة، فيقول: يا أولياء الله واهل الوفاء والشكر، انكم لستم كهؤلاء الذين ترون من أهل النكث والغدر، إن هؤلاء ضيعوا ما حفظتم وصغروا ما عظمتم، ونكثوا الإيمان التي رعيتم، وإنما يطلبون الباطل ويقاتلون على الغدر والجهل، أصحاب سلب ونهب، فلو قد غضضتم الأبصار، وأثبتم الأقدام! قد أنجز الله وعده، وفتح عليكم أبواب عزه ونصره، فجالدوا طواغيت الفتنة ويعاسيب النار عن دينكم، ودافعوا بحقكم باطلهم، فإنما هي ساعة واحدة حتى يحكم الله بينكم وهو خير الحاكمين.
وقلق قلقا شديدا، وأقبل يقول: يا أهل الوفاء والصدق، الصبر الصبر الحفاظ الحفاظ! وتزاحف الناس بعضهم الى بعض، ووثب أهل الري، فغلقوا أبواب المدينة، ونادى طاهر: يا أولياء الله، اشتغلوا بمن أمامكم عمن خلفكم، فإنه لا ينجيكم إلا الجد والصدق وتلاحموا واقتتلوا قتالا شديدا، وصبر الفريقان جميعا، وعلت ميمنة علي على ميسرة طاهر ففضتها فضا منكرا، وميسرته على ميمنته فأزالتها عن موضعها وقال طاهر: اجعلوا بأسكم وجدكم على كراديس القلب، فإنكم لو فضضتم منها راية واحدة رجعت أوائلها على أواخرها فصبر أصحابه صبرا صادقا، ثم حملوا على اوائل رايات القلب فهزموهم، وأكثروا فيهم القتل، ورجعت الرايات بعضها على بعض، وانتقضت ميمنة علي ورأى أصحاب ميمنة طاهر وميسرته ما عمل أصحابه، فرجعوا على من كان في وجوههم، فهزموهم، وانتهت الهزيمة إلى علي

(8/410)


فجعل ينادي أصحابه: أين أصحاب الأسورة والأكاليل! يا معشر الأبناء، إلى الكرة بعد الفرة، معاودة الحرب من الصبر فيها ورماه رجل من أصحاب طاهر بسهم فقتله، ووضعوا فيهم السيوف يقتلونهم ويأسرونهم، حتى حال الليل بينهم وبين الطلب، وغنموا غنيمة كثيرة، ونادى طاهر في أصحاب علي:
من وضع سلاحه فهو آمن، فطرحوا أسلحتهم، ونزلوا عن دوابهم، ورجع طاهر إلى مدينة الري، وبعث بالأسرى والرءوس إلى المأمون.
وذكر أن عبد الله بْن علي بْن عيسى طرح نفسه في ذلك اليوم بين القتلى، وقد كانت به جراحات كثيرة، فلم يزل بين القتلى متشبها بهم يومه وليلته، حتى أمن الطلب، ثم قام فانضم إلى جماعة من فل العسكر، ومضى إلى بغداد، وكان من أكابر ولده.
وذكر سفيان بْن محمد أن عليا لما توجه إلى خراسان بعث المأمون إلى من كان معه من القواد يعرض عليهم قتاله رجلا رجلا، فكلهم يصرح بالهيبة، ويعتل بالعلل، ليجدوا إلى الإعفاء من لقائه ومحاربته سبيلا.
وذكر بعض أهل خراسان أن المأمون لما أتاه كتاب طاهر، بخبر علي وما أوقع الله به، قعد للناس، فكانوا يدخلون فيهنئونه ويدعون له بالعز والنصر.
وإنه في ذلك اليوم اعلن خلع محمد، ودعى له بالخلافة في جميع كور خراسان وما يليها، وسر أهل خراسان، وخطب بها الخطباء، وأنشدت الشعراء، وفي ذلك يقول شاعر من اهل خراسان:
أصبحت الأمة في غبطة ... من أمر دنياها ومن دينها
إذ حفظت عهد إمام الهدى ... خير بني حواء مأمونها
على شفا كانت فلما وفت ... تخلصت من سوء تحيينها
قامت بحق الله إذ زبرت ... في ولده كتب دواوينها
ألا تراها كيف بعد الردى ... وفقها الله لتزيينها!
وهي أبيات كثيره

(8/411)


وذكر علي بْن صالح الحربي أن علي بن عيسى لما قتل، ارجف الناس ببغداد إرجافا شديدا، وندم محمد على ما كان من نكثه وغدره، ومشى القواد بعضهم إلى بعض، وذلك يوم الخميس للنصف من شوال سنة خمس وتسعين ومائة، فقالوا: إن عليا قد قتل، ولسنا نشك أن محمدا يحتاج إلى الرجال واصطناع أصحاب الصنائع، وإنما يحرك الرجال أنفسها، ويرفعها بأسها وإقدامها، فليأمر كل رجل منكم جنده بالشغب وطلب الأرزاق والجوائز، فلعلنا أن نصيب منه في هذه الحالة ما يصلحنا، ويصلح جندنا فاتفق على ذلك رأيهم وأصبحوا، فتوافوا إلى باب الجسر وكبروا، فطلبوا الأرزاق والجوائز وبلغ الخبر عبد الله بْن خازم، فركب إليهم في أصحابه وفي جماعة غيره من قواد الأعراب، فتراموا بالنشاب والحجارة، واقتتلوا قتالا شديدا، وسمع محمد التكبير والضجيج، فأرسل بعض مواليه أن يأتيه بالخبر، فرجع إليه فأعلمه أن الجند قد اجتمعوا وشغبوا لطلب أرزاقهم قَالَ: فهل يطلبون شيئا غير الأرزاق؟ قَالَ: لا، قَالَ: ما أهون ما طلبوا! ارجع إلى عبد الله ابن خازم فمره فلينصرف عنهم، ثم أمر لهم بأرزاق أربعة أشهر، ورفع من كان دون الثمانين إلى الثمانين، وأمر للقواد والخواص بالصلات والجوائز
. توجيه الامين عبد الرحمن بن جبله لحرب طاهر
وفي هذه السنة وجه محمد المخلوع عبد الرحمن بْن جبلة الأبناوي إلى همذان لحرب طاهر.
ذكر الخبر عن ذلك:
ذكر عبد الله بْن صالح أن محمدا لما انتهى إليه قتل علي بْن عيسى بْن ماهان، واستباحة طاهر عسكره، وجه عبد الرحمن الأبناوي في عشرين ألف رجل من الأبناء، وحمل معه الأموال، وقواه بالسلاح والخيل، وأجازه بجوائز، وولاه حلوان إلى ما غلب عليه من أرض خراسان، وندب معه فرسان الأبناء وأهل البأس والنجدة والغناء منهم، وأمره بالإكماش في السير، وتقليل اللبث

(8/412)


والتضجع، حتى ينزل مدينة همذان، فيسبق طاهرا إليها، ويخندق عليه وعلى أصحابه، ويجمع إليه آله الحرب، ويغادي طاهرا وأصحابه إلى القتال وبسط يده وأنفذ أمره في كل ما يريد العمل به، وتقدم إليه في التحفظ والاحتراس، وترك ما عمل به علي من الاغترار والتضجع، فتوجه عبد الرحمن حتى نزل مدينة همذان، فضبط طرقها، وحصن سورها وأبوابها، وسد ثلمها، وحشر إليها الأسواق والصناع، وجمع فيها الآلات والمير، واستعد للقاء طاهر ومحاربته وكان يحيى بْن علي لما قتل أبوه هرب في جماعة من أصحابه، فأقام بين الري وهمذان، فكان لا يمر به أحد من فل أبيه إلا احتبسه، وكان يرى أن محمدا سيوليه مكان أبيه، ويوجه إليه الخيل والرجال، فأراد أن يجمع الفل إلى أن يوافيه القوة والمدد، وكتب إلى محمد يستمده ويستنجده، فكتب إليه محمد يعلمه توجيه عبد الرحمن الأبناوي، ويأمره بالمقام موضعه، وتلقى طاهر فيمن معه، وإن احتاج إلى قوة ورجال كتب إلى عبد الرحمن فقواه وأعانه.
فلما بلغ طاهرا الخبر توجه نحو عبد الرحمن وأصحابه، فلما قرب من يحيى، قَالَ يحيى لأصحابه: إن طاهرا قد قرب منا ومعه من تعرفون من رجال خراسان وفرسانها، وهو صاحبكم بالأمس، ولا آمن إن لقيته بمن معي من هذا الفل أن يصدعنا صدعا يدخل وهنه على من خلفنا، وأن يعتل عبد الرحمن بذلك، ويقلدني به العار والوهن والعجز عند أمير المؤمنين، وأن أستنجد به واقمت على انتظار مدده، لم آمن أن يمسك عنا ضنا برجاله وإبقاء عليهم، وشحا بهم على القتل، ولكن نتزاحف إلى مدينة همذان فنعسكر قريبا من عبد الرحمن، فإن استعنا به قرب منا عونه، وإن احتاج إلينا أعناه وكنا بفنائه، وقاتلنا معه قالوا: الرأي ما رأيت، فانصرف يحيى، فلما قرب من مدينة همذان خذله أصحابه، وتفرق أكثر من كان اجتمع إليه، وقصد طاهر لمدينة همذان، فأشرف عليها، ونادى عبد الرحمن في أصحابه، فخرج على تعبئة، فصادف طاهرا، فاقتتلوا قتالا شديدا، وصبر الفريقان جميعا، وكثر القتلى

(8/413)


والجرحى فيهم ثم إن عبد الرحمن انهزم، فدخل مدينة همذان، فأقام بها أياما حتى قوي أصحابه، واندمل جرحاهم، ثم أمر بالاستعداد، وزحف إلى طاهر، فلما رأى طاهر أعلامه وأوائل أصحابه قد طلعوا، قَالَ لأصحابه:
إن عبد الرحمن يريد ان يتراءى لكم، فإذا قربتم منه قاتلكم، فإن هزمتموه بادر إلى المدينة فدخلها، وقاتلكم على خندقها، وامتنع بأبوابها وسورها، وإن هزمكم اتسع لهم المجال عليكم، وأمكنته سعة المعترك من قتالكم، وقتل من انهزم، وولى منكم، ولكن قفوا من خندقنا وعسكرنا قريبا، فإن تقارب منا قاتلناه، وإن بعد من خندقهم قربنا منه فوقف طاهر مكانه، وظن عبد الرحمن أن الهيبة بطأت به من لقائه والنهود إليه، فبادر قتاله فاقتتلوا قتالا شديدا، وصبر طاهر، وأكثر القتل في أصحاب عبد الرحمن، وجعل عبد الرحمن يقول لأصحابه: يا معشر الأبناء، يا أبناء الملوك وألفاف السيوف، إنهم العجم، وليسوا بأصحاب مطاولة ولا صبر، فاصبروا لهم فداكم أبي وأمي! وجعل يمر على راية رايه، فيقول: اصبروا، انما صبرنا ساعه، هذا أول الصبر والظفر وقاتل بيديه قتالا شديدا، وحمل حملات منكرة ما منها حملة إلا وهو يكثر في أصحاب طاهر القتل، فلا يزول أحد ولا يتزحزح ثم إن رجلا من أصحاب طاهر حمل على أصحاب علم عبد الرحمن فقتله، وزحمهم أصحاب طاهر زحمة شديدة، فولوهم أكتافهم، فوضعوا فيهم السيوف، فلم يزالوا يقتلونهم حتى انتهوا بهم إلى باب مدينة همذان، فأقام طاهر على باب المدينة محاصرا لهم وله، فكان عبد الرحمن يخرج في كل يوم فيقاتل على أبواب المدينة، ويرمي أصحابه بالحجارة من فوق السور، واشتد بهم الحصار، وتأذى بهم أهل المدينة، وتبرموا بالقتال والحرب، وقطع طاهر عنهم المادة من كل وجه فلما رأى عبد الرحمن، ورأى أصحابه قد هلكوا وجهدوا، وتخوف أن يثب به أهل همذان أرسل إلى طاهر فسأله

(8/414)


الأمان له ولمن معه، فآمنه طاهر ووفى له، واعتزل عبد الرحمن فيمن كان استأمن معه من أصحابه وأصحاب يحيى بْن علي.

تسميه طاهر بن الحسين ذا اليمينين
وفي هذه السنة سمي طاهر بْن الحسين ذا اليمينين.
ذكر الخبر عن ذلك:
قد مضى الخبر عن السبب الذي من أجله سمى بذلك، ونذكر الذي سماه بذلك.
ذكر أن طاهرا لما هزم جيش علي بْن عيسى بْن ماهان، وقتل علي بْن عيسى، كتب إلى الفضل بْن سهل: أطال الله بقاءك، وكبت أعداءك، وجعل من يشنؤك فداك! كتبت إليك ورأس علي بْن عيسى في حجري، وخاتمه في يدي، والحمد لله رب العالمين فنهض الفضل، فسلم على المأمون بأمير المؤمنين، فأمد المأمون طاهر بْن الحسين بالرجال والقواد، وسماه ذا اليمينين، وصاحب حبل الدين، ورفع من كان معه في دون الثمانين الى الثمانين.

ظهور السفياني بالشام
وفي هذه السنة ظهر بالشام السفياني علي بْن عبد الله بْن خالد بْن يزيد بْن معاوية، فدعا إلى نفسه، وذلك في ذي الحجة منها، فطرد عنها سليمان بْن أبي جعفر بعد حصره إياه بدمشق- وكان عامل محمد عليها- فلم يفلت منه إلا بعد اليأس، فوجه إليه محمد المخلوع الحسين بْن علي بْن عيسى بْن ماهان، فلم ينفذ إليه، ولكنه لما صار إلى الرقة اقام بها.

طرد طاهر عمال الامين عن قزوين وكور الجبال
وفي هذه السنة طرد طاهر عمال محمد عن قزوين وسائر كور الجبال.
ذكر الخبر عن سبب لك:
ذكر علي بْن عبد الله بْن صالح أن طاهرا لما توجه إلى عبد الرحمن

(8/415)


الأبناوي بهمذان، تخوف أن يثب به كثير بن قادره- وهو بقزوين عامل من عمال محمد- في جيش كثيف إن هو خلفه وراء ظهره، فلما قرب طاهر من همذان أمر أصحابه بالنزول فنزلوا ثم ركب في ألف فارس وألف راجل، ثم قصد قصد كثير بْن قادرة، فلما قرب منه هرب كثير وأصحابه، وأخلى قزوين، وجعل طاهر فيها جندا كثيفا، وولاها رجلا من أصحابه، وأمر أن يحارب من أراد دخولها من اصحاب عبد الرحمن الابناوى وغيرهم.

ذكر قتل عبد الرحمن بن جبله الابناوى
وفي هذه السنة قتل عبد الرحمن بْن جبلة الأبناوي بأسداباذ.
ذكر الخبر عن مقتله:
ذكر عبد الرحمن بْن صالح أن محمدا المخلوع لما وجه عبد الرحمن الأبناوي إلى همذان، أتبعه بابني الحرشي: عبد الله وأحمد، في خيل عظيمة من أهل بغداد، وأمرهما أن ينزلا قصر اللصوص، وأن يسمعا ويطيعا لعبد الرحمن، ويكونا مددا له إن احتاج إلى عونهما فلما خرج عبد الرحمن إلى طاهر في الأمان أقام عبد الرحمن يري طاهرا وأصحابه أنه له مسالم، راض بعهودهم وأيمانهم، ثم اغترهم وهم آمنون فركب في أصحابه، فلم يشعر طاهر وأصحابه حتى هجموا عليهم، فوضعوا فيهم السيوف، فثبت لهم رجاله أصحاب طاهر بالسيوف والتراس والنشاب، وجثوا على الركب، فقاتلوه كأشد ما يكون من القتال، ودافعهم الرجال إلى أن أخذت الفرسان عدتها وأهبتها، وصدقوهم القتال، فاقتتلوا قتالا منكرا، حتى تقطعت السيوف، وتقصفت الرماح ثم إن أصحاب عبد الرحمن هربوا، وترجل هو في ناس من أصحابه، فقاتل حتى قتل، فجعل أصحابه يقولون له: قد أمكنك الهرب فاهرب، فإن القوم قد كلوا من القتال، وأتعبتهم الحرب، وليس بهم حراك ولا قوة على الطلب، فيقول: لا أرجع أبدا، ولا يرى أمير المؤمنين وجهي منهزما وقتل من أصحابه مقتلة عظيمة، واستبيح عسكره، وانتهى من أفلت من أصحابه إلى عسكر عبد الله وأحمد ابني الحرشي، فدخلهم الوهن والفشل، وامتلأت

(8/416)


قلوبهم خوفا ورعبا فولوا منهزمين لا يلوون على شيء من غير أن يلقاهم أحد، حتى صاروا إلى بغداد، وأقبل طاهر وقد خلت له البلاد، يجوز بلدة بلدة، وكورة وكوره، حتى نزل بقرية من قرى حلوان يقال لها شلاشان، فخندق بها، وحصن عسكره، وجمع إليه أصحابه وقال رجل من الأبناء يرثي عبد الرحمن الأبناوي:
ألا إنما تبكي العيون لفارس نفى العار عنه بالمناصل والقنا تجلى غبار الموت عن صحن وجهه وقد أحرز العليا من المجد واقتنى فتى لا يبالي ان دنا من مروءة أصاب مصون النفس أو ضيع الغنى يقيم لأطراف الذوابل سوقها ولا يرهب الموت المتاح إذا دنا وكان العامل في هذه السنة على مكة والمدينة من قبل محمد بْن هارون داود بْن عيسى بْن موسى بْن محمد بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس، وهو الذي حج بالناس في هذه السنة وسنتين قبلها وذلك سنة ثلاث وتسعين ومائة، وأربع وتسعين ومائة.
وعلى الكوفة العباس بْن موسى الهادي من قبل محمد.
وعلى البصرة منصور بْن المهدي من قبل محمد.
وبخراسان المأمون، وببغداد أخوه محمد.

(8/417)


ثم دخلت

سنة ست وتسعين ومائة
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)

ذكر توجيه الامين الجيوش لحرب طاهر بن الحسين
فمما كان من ذلك حبس محمد بْن هارون أسد بْن يزيد بْن مزيد، وتوجيهه أحمد بْن مزيد وعبد الله بْن حميد بْن قحطبة إلى حلوان لحرب طاهر.
ذكر الخبر عن سبب حبسه وتوجيهه من ذكرت:
ذكر عن عبد الرحمن بْن وثاب أن أسد بْن يزيد بْن مزيد حدثه، أن الفضل بن الربيع بعث إليه بعد مقتل عبد الرحمن الأبناوي قَالَ: فأتيته، فلما دخلت عليه وجدته قاعدا في صحن داره، وفي يده رقعة قد قرأها، واحمرت عيناه، واشتد غضبه، وهو يقول: ينام نوم الظربان، وينتبه انتباه الذئب، همه بطنه، يخاتل الرعاء والكلاب ترصده.
لا يفكر في زوال نعمة، ولا يروي في إمضاء رأي ولا مكيدة، قد ألهاه كأسه، وشغله قدحه، فهو يجري في لهوه، والأيام توضع في هلاكه، قد شمر عبد الله له عن ساقه، وفوق له اصوب أسهمه، يرميه على بعد الدار بالحتف النافذ، والموت القاصد، قد عبى له المنايا على متون الخيل، وناط له البلاء في أسنة الرماح وشفار السيوف ثم استرجع، وتمثل بشعر البعيث:
ومجدولة جدل العنان خريدة ... لها شعر جعد ووجه مقسم
وثغر نقي اللون عذب مذاقه ... تضيء لها الظلماء ساعة تبسم
وثديان كالحقين، والبطن ضامر ... خميص، وجهم ناره تتضرم
لهوت بها ليل التمام ابن خالد ... وأنت بمرو الروذ غيظا تجرم

(8/418)


أظل أناغيها وتحت ابن خالد ... أمية نهد المركلين عثمثم
طواها طراد الخيل في كل غارة ... لها عارض فيه الأسنة ترزم
يقارع أتراك ابن خاقان ليلة ... إلى أن يرى الإصباح لا يتلعثم
فيصبح من طول الطراد، وجسمه ... نحيل واضحى في النعيم اصمصم
أباكرها صهباء كالمسك ريحها ... لها ارج في دنها حين ترشم
فشتان ما بيني وبين ابن خالد ... أمية في الرزق الذي الله قاسم
ثم التفت إلي فقال: يا أبا الحارث، إنا وإياك نجري إلى غاية، إن قصرنا عنها ذممنا، وإن اجتهدنا في بلوغها انقطعنا، وإنما نحن شعب من أصل، إن قوي قوينا، وإن ضعف ضعفنا، إن هذا قد ألقى بيده إلقاء الأمة الوكعاء، يشاور النساء، ويعتزم على الرؤيا، وقد امكن مسامعه من أهل اللهو والجسارة، فهم يعدونه الظفر، ويمنونه عقب الأيام، والهلاك أسرع إليه من السيل إلى قيعان الرمل، وقد خشيت والله أن نهلك بهلاكه، ونعطب بعطبه، وأنت فارس العرب وابن فارسها، قد فزع إليك في لقاء هذا الرجل واطمعه فيما قبلك أمران، أما أحدهما فصدق طاعتك وفضل نصيحتك، والثاني يمن نقيبتك وشدة بأسك، وقد أمرني إزاحة علتك وبسط يدك فيما أحببت، غير أن الاقتصاد رأس النصيحة ومفتاح اليمن والبركة، فأنجز حوائجك، وعجل المبادرة إلى عدوك، فإني أرجو أن يوليك الله شرف هذا الفتح، ويلم بك شعث هذه الخلافة والدولة فقلت: أنا لطاعة أمير المؤمنين- أعزه الله- وطاعتك مقدم، ولكل ما أدخل الوهن والذل على عدوه وعدوك حريص، غير أن المحارب لا يعمل بالغرور، ولا يفتتح أمره بالتقصير والخلل، وإنما ملاك المحارب الجنود، وملاك الجنود المال، وقد ملأ أمير المؤمنين أعزه الله أيدي من شهد العسكر من جنوده، وتابع لهم الأرزاق الدارة والصلات والفوائد

(8/419)


الجزيلة، فإن سرت بأصحابي وقلوبهم متطلعة إلى من خلفهم من إخوانهم لم أنتفع بهم في لقاء من امامى، وقد فضل اهل السلم على اهل الحرب، وجاز باهل الدعة منازل أهل النصب والمشقة، والذي أسأل أن يؤمر لأصحابي برزق سنة، ويحمل معهم أرزاق سنة، ويخص من لا خاصة له منهم من أهل الغناء والبلاء، وأبدل من فيهم من الزمنى والضعفاء، وأحمل ألف رجل ممن معى على الخيل، ولا أسأل عن محاسبة ما افتتحت من المدن والكور.
فقال: قد اشتططت، ولا بد من مناظرة أمير المؤمنين ثم ركب وركبت معه، فدخل قبلي على محمد، وأذن لي فدخلت، فما كان بيني وبينه إلا كلمتان حتى غضب وأمر بحبسي.
وذكر عن بعض خاصة محمد أن أسدا قَالَ لمحمد: ادفع إلي ولدي عبد الله المأمون حتى يكونا أسيرين في يدي، فإن أعطاني الطاعة، وألقى إلي بيده، وإلا عملت فيهما بحكمي، وأنفذت فيهما أمري فقال: أنت أعرابي مجنون، أدعوك إلى ولاء أعنة العرب والعجم، وأطعمك خراج كور الجبال إلى خراسان، وأرفع منزلتك عن نظرائك من أبناء القواد والملوك، وتدعونني إلى قتل ولدي، وسفك دماء أهل بيتي! إن هذا للخرق والتخليط وكان ببغداد ابنان لعبد الله المأمون، وهما مع أمهما أم عيسى ابنة موسى الهادي، نزولا في قصر المأمون بغداد، فلما ظفر المأمون ببغداد خرجا إليه مع أمهما إلى خراسان، فلم يزالا بها حتى قدموا بغداد، وهما أكبر ولده.
وذكر زياد بْن علي، قَالَ: لما غضب محمد على أسد بْن يزيد، وأمر بحبسه، قَالَ: هل في أهل بيت هذا من يقوم مقامه، فانى اكره ان استفسدهم مع سابقتهم وما تقدم من طاعتهم ونصيحتهم؟ قالوا: نعم، فيهم أحمد بْن مزيد، وهو أحسنهم طريقة، وأصحهم نية في الطاعة، وله مع هذا بأس ونجدة وبصر بسياسة الجنود ولقاء الحروب، فأنفذ إليه محمد بريدا يأمره بالقدوم عليه، فذكر بكر بْن أحمد، قَالَ: كان أحمد

(8/420)


متوجها إلى قرية تدعى إسحاقية، ومعه نفر من أهل بيته ومواليه وحشمه، فلما جاوز نهر أبان سمع صوت بريد في جوف الليل، فقال: ان هذا لعجيب، بريد في مثل هذه الساعة وفي مثل هذا الموضع! إن هذا الأمر لعجيب ثم لم يلبث البريد أن وقف، ونادى الملاح: هل معك احمد ابن مزيد؟ قَالَ: نعم، فنزل فدفع إليه كتاب محمد، فقراه ثم قال: انى قد بلغت ضيعتي، وإنما بيني وبينها ميل، فدعني أقعها وقعة فآمر فيها بما أريد ثم أغدو معك، فقال: لا، إن أمير المؤمنين أمرني ألا أنظرك ولا أرفهك، وأن أشخصك أي ساعة صادفتك فيها، من ليل أو نهار.
فانصرف معه حتى أتى الكوفة، فأقام بها يوما حتى تجمل وأخذ أهبة السفر، ثم مضى إلى محمد.
فذكر عن أحمد، قَالَ: لما دخلت بغداد، بدأت بالفضل بْن الربيع، فقلت: أسلم عليه، وأستعين بمنزلته ومحضره عند محمد، فلما أذن لي دخلت عليه، وإذا عنده عبد الله بْن حميد بْن قحطبة، وهو يريده على الشخوص إلى طاهر، وعبد الله يشتط عليه في طلب المال والإكثار من الرجال، فلما رآني رحب بي وأخذ بيدي، ورفعنى حتى صيرني معه على صدر المجلس، وأقبل على عبد الله يداعبه ويمازحه، فتبسم في وجهه، ثم قَالَ:
إنا وجدنا لكم إذ رث حبلكم ... من آل شيبان أما دونكم وأبا
الأكثرون إذا عد الحصى عددا ... والأقربون إلينا منكم نسبا
فقال عبد الله: إنهم لكذلك، وإن منهم لسد الخلل ونكاء العدو، ودفع معرة أهل المعصية عن أهل الطاعة ثم أقبل علي الفضل، فقال: إن أمير المؤمنين أجرى ذكرك، فوصفتك له بحسن الطاعة وفضل النصيحة والشدة على أهل المعصية، والتقدم بالرأي، فأحب اصطناعك والتنويه باسمك، وأن يرفعك إلى منزلة لم يبلغها أحد من أهل بيتك والتفت إلى خادمه، فقال:
يا سراج، مر دوابي، فلم ألبث أن أسرج له، فمضى ومضيت معه، حتى دخلنا على محمد وهو في صحن داره، له ساج، فلم يزل يأمرني بالدنو حتى كدت

(8/421)


ألاصقه، فقال: إنه قد كثر علي تخليط ابن أخيك وتنكره، وطال خلافه علي حتى أوحشني ذلك منه، وولد في قلبي التهمة له، وصيرني لسوء المذهب وخبث الطاعة إلى أن تناولته من الأدب والحبس بما لم أحب أن أكون أتناوله به، وقد وصفت لي بخير، ونسبت إلي جميل، فأحببت أن أرفع قدرك، وأعلي منزلتك، وأقدمك على أهل بيتك، وإن أوليك جهاد هذه الفئة الباغية الناكثة، وأعرضك للأجر والثواب في قتالهم ولقائهم، فانظر كيف تكون، وصحح نيتك، وأعن أمير المؤمنين على اصطناعك، وسره في عدوه ينعم سرورك وتشريفك فقلت: سأبذل في طاعة أمير المؤمنين أعزه الله مهجتي، وأبلغ في جهاد عدوه أفضل ما أمله عندي، ورجاه من غنائي وكفايتي، إن شاء الله فقال: يا فضل، قَالَ: لبيك يا أمير المؤمنين! قَالَ: ادفع إليه دفاتر أصحاب أسد، واضمم إليه من شهد العسكر من رجال الجزيرة والأعراب، وقال: أكمش على أمرك، وعجل المسير إليه فخرجت فانتخبت الرجال واعترضت الدفاتر، فبلغت عدة من صححت اسمه عشرين ألف رجل ثم توجهت بهم إلى حلوان.
وذكر أن أحمد بْن مزيد لما أراد الشخوص دخل على محمد، فقال:
أوصني أكرم الله أمير المؤمنين! فقال: أوصيك بخصال عدة: إياك والبغي، فإنه عقال النصر، ولا تقدم رجلا إلا باستخارة، ولا تشهر سيفا الا بعد اعذار، ومهما قدرت باللين فلا تتعده إلى الخرق والشره، وأحسن صحابة من معك من الجند، وطالعني بأخبارك في كل يوم، ولا تخاطر بنفسك طلب الزلفه عندي، ولا تستقها فيما تتخوف رجوعه علي، وكن لعبد الله أخا مصافيا، وقرينا برا، وأحسن مجامعته وصحبته ومعاشرته، ولا تخذله إن استنصرك، ولا تبطئ عنه إذا استصرخك، ولتكن أيديكما واحدة، وكلمتكما متفقة ثم قَالَ: سل حوائجك، وعجل السراح إلى عدوك فدعا له أحمد، وقال: يا أمير المؤمنين، كثر لي الدعاء ولا تقبل في قول باغ، ولا ترفضني قبل المعرفة بموضع قدمي لك، ولا تنقض على ما استجمع من راى، ومن على بالصفح عن ابن أخي، قال: ذلك لك ثم بعث إلى أسد فحل قيوده وخلي

(8/422)


سبيله، فقال أبو الأسد الشيباني في ذلك يمدح احمد ويذكر حاله ومنزلته.
ليهن أبا العباس رأي إمامه ... وما عنده منه القضا بمزيد
دعاه أمير المؤمنين إلى التي ... يقصر عنها ظل كل عميد
فبادرها بالرأي والحزم والحجى ... ورأي أبي العباس رأي سديد
نهضت بما أعيا الرجال بحمله ... وأنت بسعد حاضر وسعيد
رددت بها للرائدين أعزهم ... ومثلك والى طارفا بتليد
كفى أسدا ضيق الكبول وكربها ... وكان عليه عاطفا كيزيد
وحصله فيها كليث غضنفر ... أبي أشبل عبل الذراع مديد
وذكر يزيد بْن الحارث أن محمدا وجه أحمد بْن مزيد في عشرين ألف رجل من الأعراب، وعبد الله بْن حميد بْن قحطبة في عشرين ألف رجل من الأبناء، وأمرهما أن ينزلا حلوان، ويدفعا طاهرا وأصحابه عنها، وإن أقام طاهر بشلاشان أن يتوجها إليه في أصحابهما حتى يدفعاه، وينصبا له الحرب، وتقدم إليهما في اجتماع الكلمة والتواد والتحاب على الطاعة، فتوجها حتى نزلا قريبا من حلوان بموضع يقال له خانقين، وأقام طاهر بموضعه، وخندق عليه وعلى أصحابه، ودس الجواسيس والعيون إلى عسكريهما، فكانوا يأتونهم بالأراجيف، ويخبرونهم أن محمدا قد وضع العطاء لأصحابه، وقد أمر لهم من الأرزاق بكذا وكذا، ولم يزل يحتال في وقوع الاختلاف والشغب بينهم حتى اختلفوا، وانتقض أمرهم، وقاتل بعضهم بعضا، فأخلوا خانقين، ورجعوا عنها من غير أن يلقوا طاهرا، ويكون بينهم وبينه قتال وتقدم طاهر حتى نزل حلوان، فلما دخل طاهر حلوان لم يلبث إلا يسيرا حتى أتاه هرثمة ابن اعين بكتاب المأمون والفضل بن سهل، يأمرانه بتسليم ما حوى من المدن والكور إليه، والتوجه إلى الأهواز، فسلم ذلك إليه، وأقام هرثمة بحلوان فحصنها ووضع مسالحه ومراصده في طرقها وجبالها، وتوجه طاهر الى الاهواز

(8/423)


ذكر رفع منزله الفضل بن سهل عند المأمون
وفي هذه السنة رفع المأمون منزلة الفضل بْن سهل وقدره.
(ذكر الخبر عما كان من المأمون إليه في ذلك:) ذكر أن المأمون لما انتهى إليه الخبر عن قتل طاهر علي بْن عيسى واستيلائه على عسكره وتسميته إياه أمير المؤمنين، وسلم الفضل بْن سهل عليه بذلك، وصح عنده الخبر عن قتل طاهر عبد الرحمن بْن جبلة الأبناوي وغلبته على عسكره، دعا الفضل بْن سهل، فعقد له في رجب من هذه السنة على المشرق، من جبل همذان إلى جبل سقينان والتبت طولا، ومن بحر فارس والهند إلى بحر الديلم وجرجان عرضا، وجعل عمالته ثلاثة آلاف ألف درهم، وعقد له لواء على سنان ذي شعبتين، وأعطاه علما، وسماه ذا الرياستين، فذكر بعضهم أنه رأى سيفه عند الحسن بْن سهل مكتوبا عليه بالفضة من جانب: رياسه الحرب، ومن الجانب الآخر: رياسه التدبير فحمل اللواء علي بْن هشام، وحمل العلم نعيم بْن حازم، وولى الحسن بْن سهل ديوان الخراج
. ذكر خبر ولايه عبد الملك بن صالح على الشام
وفي هذه السنة ولى محمد بْن هارون عبد الملك بْن صالح بْن علي على الشام وأمره بالخروج إليها، وفرض له من رجالها جنودا يقاتل بها طاهرا وهرثمة.
(ذكر الخبر عن سبب توليته ذلك:) ذكر داود بْن سليمان أن طاهرا لما قوي واستعلى أمره، وهزم من هزم من قواد محمد وجيوشه، دخل عبد الملك بْن صالح على محمد- وكان عبد الملك محبوسا في حبس الرشيد، فلما توفي الرشيد، وأفضى الأمر إلى محمد امر

(8/424)


بتخلية سبيله، وذلك في ذي القعدة سنة تسع وثلاثين ومائة، فكان عبد الملك يشكر ذلك لمحمد، ويوجب به على نفسه طاعته ونصيحته- فقال: يا أمير المؤمنين، إني أرى الناس قد طمعوا فيك وأهل العسكرين قد اعتمدوا ذلك، وقد بذلت سماحتك، فإن أتممت على أمرك أفسدتهم وأبطرتهم، وإن كففت أمرك عن العطاء والبذل أسخطتهم وأغضبتهم، وليس تملك الجنود بالإمساك، ولا يبقى ثبوت الأموال على الإنفاق والسرف، ومع هذا فإن جندك قد رعبتهم الهزائم، ونهكتهم وأضعفتهم الحرب والوقائع، وامتلأت قلوبهم هيبة لعدوهم، ونكولا عن لقائهم ومناهضتهم، فإن سيرتهم إلى طاهر غلب بقليل من معه كثيرهم، وهزم بقوة نيته ضعف نصائحهم ونياتهم، وأهل الشام قوم قد ضرستهم الحروب، وأدبتهم الشدائد، وجلهم منقاد إلي، مسارع إلى طاعتي، فإن وجهني أمير المؤمنين اتخذت له منهم جندا تعظم نكايتهم في عدوه، ويؤيد الله بهم أولياءه وأهل طاعته فقال محمد: فإني موليك أمرهم، ومقويك بما سألت من مال وعدة، فعجل الشخوص إلى ما هنالك، فاعمل عملا يظهر أثره، ويحمد بركته برأيك ونظرك فيه إن شاء الله فولاه الشام والجزيرة، واستحثه بالخروج استحثاثا شديدا، ووجه معه كنفا من الجند والأبناء وفي هذه السنة سار عبد الملك بْن صالح إلى الشام، فلما بلغ الرقة اقام بها.
وانفذ رسله وكتبه الى رؤساء اجناد اهل الشام بجمع الرجال بها، وامداد محمد بهم لحرب طاهر.
ذكر الخبر عن ذلك:
قد تقدم ذكري سبب توجيه محمد إياه لذلك، فذكر داود بْن سليمان أنه لما قدم عبد الملك الرقة، أنفذ رسله، وكتب إلى رؤساء أجناد الشام ووجوه الجزيرة، فلم يبق أحد ممن يرجى ويذكر بأسه وغناؤه إلا وعده وبسط له في أمله وأمنيته، فقدموا عليه رئيسا بعد رئيس، وجماعة بعد جماعة، فكان لا يدخل عليه أحد إلا أجازه وخلع عليه وحمله، فأتاه أهل الشام:
الزواقيل والأعراب من كل فج، واجتمعوا عنده حتى كثروا ثم ان

(8/425)


بعض جند أهل خراسان نظر إلى دابة كانت أخذت منه في وقعة سليمان بْن أبي جعفر تحت بعض الزواقيل، فتعلق بها، فجرى الأمر بينهما إلى أن اختلفا، واجتمعت جماعة من الزواقيل والجند، فتلاحموا، وأعان كل فريق منهم صاحبه، وتلاطموا وتضاربوا بالأيدي، ومشى بعض الأبناء إلى بعض، فاجتمعوا إلى محمد بن ابى خالد، فقالوا: أنت شيخنا وفارسنا، وقد ركب الزواقيل منا ما قد بلغك، فاجمع أمرنا وإلا استذلونا، وطمعوا فينا، وركبوا بمثل هذا في كل يوم فقال: ما كنت لأدخل في شغب، ولا أشاهدكم على مثل الحالة فاستعد الأبناء وتهيئوا، وأتوا الزواقيل وهم غارون، فوضعوا فيهم السيوف، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة وذبحوهم في رحالهم، وتنادى الزواقيل، فركبوا خيولهم، ولبسوا أسلحتهم، ونشبت الحرب بينهم وبلغ ذلك عبد الملك بْن صالح، فوجه إليهم رسولا يأمرهم بالكف ووضع السلاح، فرموه بالحجارة، واقتتلوا يومهم ذلك قتالا شديدا، وأكثرت الأبناء القتل في الزواقيل، فأخبر عبد الملك بكثرة من قتل- وكان مريضا مدنفا- فضرب بيده على يد، ثم قال: وا ذلاه! تستضام العرب في دارها ومحلها وبلادها! فغضب من كان أمسك عن الشر من الأبناء، وتفاقم الأمر فيما بينهم، وقام بأمر الأبناء الحسين بْن علي بْن عيسى بْن ماهان، وأصبح الزواقيل، فاجتمعوا بالرقة، واجتمع الأبناء وأهل خراسان بالرافقة، وقام رجل من أهل حمص، فقال: يا أهل حمص، الهرب أهون من العطب، والموت أهون من الذل، إنكم بعدتم عن بلادكم، وخرجتم من أقاليمكم، ترجون الكثرة بعد القلة والعزة بعد الذلة! ألا وفي الشر وقعتم، وإلى حومة الموت أنختم إن المنايا في شوارب المسودة وقلانسهم النفير النفير، قبل أن ينقطع السبيل، وينزل الأمر الجليل، ويفوت المطلب، ويعسر المذهب، ويبعد العمل، ويقترب الأجل! وقام رجل من كلب في غرز ناقته، ثم قَالَ:
شؤبوب حرب خاب من يصلاها ... قد شرعت فرسانها قناها

(8/426)


فأورد الله لظى لظاها ... إن غمرت كلب بها لحاها
ثم قَالَ: يا معشر كلب، إنها الراية السوداء، والله ما ولت ولا عدلت ولا ذل ناصرها، ولا ضعف وليها، وإنكم لتعرفون مواقع سيوف أهل خراسان في رقابكم، وآثار أسنتهم في صدوركم اعتزلوا الشر قبل أن يعظم، وتخطوه قبل أن يضطرم شامكم شأمكم، داركم داركم! الموت الفلسطيني خير من العيش الجزري ألا وإني راجع، فمن أراد الانصراف فلينصرف معي.
ثم سار وسار معه عامة أهل الشام، وأقبلت الزواقيل حتى أضرموا ما كان التجار جمعوا من الأعلاف بالنار، وأقام الحسين بْن علي بْن عيسى بْن ماهان مع جماعة أهل خراسان والأبناء على باب الرافقة تخوفا لطوق بْن مالك.
فأتى طوقا رجل من بني تغلب، فقال: ألا ترى ما لقيت العرب من هؤلاء! انهض فإن مثلك لا يقعد عن هذا الأمر، قد مد أهل الجزيرة أعينهم إليك، وأملوا عونك ونصرك فقال: والله ما أنا من قيسها ولا يمنها، ولا كنت في أول هذا الأمر لأشهد آخره، وإني لأشد إبقاء على قومي، وأنظر لعشيرتي من أن أعرضهم للهلاك بسبب هؤلاء السفهاء من الجند وجهال قيس، وما أرى السلامة إلا في الاعتزال وأقبل نصر بْن شبث في الزواقيل على فرس كميت أغر، عليه دراعة سوداء قد ربطها خلف ظهره، وفي يده رمح وترس، وهو يقول:
فرسان قيس اصمدن للموت ... لا ترهبنى عن لقاء الفوت
دعى التمنى بعسى وليت.
ثم حمل هو وأصحابه، فقاتل قتالا شديدا، فصبر لهم الجند، وكثر القتل في الزواقيل، وحملت الأبناء حملات، في كلها يقتلون ويجرحون، وكان أكثر القتل والبلاء في تلك الدفعة لكثير بْن قادرة وأبي الفيل وداود بن موسى ابن عيسى الخراساني، وانهزمت الزواقيل، وكان على حاميتهم يومئذ نصر ابن شبث وعمرو السلمي والعباس بْن زفر

(8/427)


وتوفي في هذه السنة عبد الملك بْن صالح
. ذكر خلع الامين والمبايعة للمأمون
وفي هذه السنة خلع محمد بْن هارون، وأخذت عليه البيعة لأخيه عبد الله المأمون ببغداد.
وفيها حبس محمد بْن هارون في قصر أبي جعفر مع أم جعفر بنت جعفر.
ابن أبي جعفر.
ذكر الخبر عن سبب خلعه:
ذكر عن داود بْن سليمان أن عبد الملك بْن صالح لما توفي بالرقة، نادى الحسين بْن علي بْن عيسى بْن ماهان في الجند، فصير الرجالة في السفن والفرسان على الظهر ووصلهم، وقوى ضعفاءهم، ثم حملهم حتى أخرجهم من بلاد الجزيرة، وذلك في سنة ست وتسعين ومائة.
وذكر أحمد بْن عبد الله، أنه كان فيمن شهد مع عبد الملك الجزيرة لما انصرف بهم الحسين بْن علي، وذلك في رجب من سنة ست وتسعين ومائة وذكر أنه تلقاه الأبناء وأهل بغداد بالتكرمة والتعظيم، وضربوا له القباب، واستقبله القواد والرؤساء والأشراف، ودخل منزله في أفضل كرامة وأحسن هيئة، فلما كان في جوف الليل بعث اليه محمد يأمره بالركوب إليه، فقال للرسول: والله ما أنا بمغن ولا بمسامر ولا مضحك، ولا وليت له عملا، ولا جرى له على يدي مال، فلأي شيء يريدني في هذه الساعة! انصرف، فإذا أصبحت غدوت إليه إن شاء الله.
فانصرف الرسول، وأصبح الحسين فوافى باب الجسر، واجتمع إليه الناس، فأمر بإغلاق الباب الذى يخرج منه الى قصر عبد الله بْن علي وباب سوق يحيى، وقال: يا معشر الأبناء، إن خلافة الله لا تجاور بالبطر، ونعمه

(8/428)


لا تستصحب بالتجبر والتكبر، وأن محمدا يريد أن يوتغ أديانكم، وينكث بيعتكم، ويفرق جمعكم، وينقل عزكم إلى غيركم، وهو صاحب الزواقيل بالأمس، وبالله إن طالت به مدة وراجعه من أمره قوة، ليرجعن وبال ذلك عليكم، وليعرفن ضرره ومكروهه في دولتكم ودعوتكم، فاقطعوا أثره قبل أن يقطع أثاركم، وضعوا عزه قبل ان يضع عزكم، فو الله لا ينصره منكم ناصر إلا خذل، ولا يمنعه مانع إلا قتل، وما عند الله لأحد هوادة، ولا يراقب على الاستخفاف بعهوده والحنث بأيمانه ثم أمر الناس بعبور الجسر فعبروا، حتى صاروا إلى سكة باب خراسان، واجتمعت الحربية وأهل الأرباض مما يلي باب الشام، وباب الأنبار وشط الصراة مما يلى باب الكوفه.
وتسرعت خيول من خيول محمد من الأعراب وغيرهم إلى الحسين بْن علي، فاقتتلوا قتالا شديدا مليا من النهار، وأمر الحسين من كان معه من قواده وخاصة أصحابه بالنزول فنزلوا إليهم بالسيوف والرماح، وصدقوهم القتال، وكشفوهم حتى تفرقوا عن باب الخلد.
قَالَ: فخلع الحسين بْن علي محمدا يوم الأحد لإحدى عشرة ليلة خلت من رجب سنة ست وتسعين ومائة، وأخذ البيعة لعبد الله المأمون من غد يوم الاثنين إلى الليل، وغدا إلى محمد يوم الثلاثاء، فوثب بعد الوقعة التي كانت بين الحسين وبين أصحاب محمد العباس بْن موسى بْن عيسى الهاشمي على محمد، ودخل عليه فأخرجه من قصر الخلد إلى قصر أبي جعفر، فحبسه هناك إلى صلاة الظهر، ثم وثب العباس بْن موسى بْن عيسى على أم جعفر فأمرها بالخروج من قصرها إلى مدينة أبي جعفر، فأبت، فدعا لها بكرسي، وأمرها بالجلوس فيه، فقنعها بالسوط وساءها، وأغلظ لها القول، فجلست فيه، ثم أمر بها فأدخلت المدينة مع ابنها وولدها فلما أصبح الناس من الغد طلبوا من الحسين بْن علي الأرزاق وماج الناس بعضهم في بعض، وقام محمد بْن أبي خالد بباب الشام، فقال: أيها الناس، والله ما أدري بأي سبب يتأمر الحسين بْن علي علينا، ويتولى هذا الأمر دوننا! ما هو بأكبرنا سنا، ولا أكرمنا حسبا، ولا أعظمنا منزلة، وإن فينا من لا يرضى بالدنية، ولا يقاد بالمخادعة،

(8/429)


وانى أولكم نقض عهده، واظهر التغيير عليه، والإنكار لفعله، فمن كان رأيه رأيي فليعتزل معي.
وقام أسد الحربي، فقال: يا معشر الحربية، هذا يوم له ما بعده، إنكم قد نمتم وطال نومكم، وتأخرتم فقدم عليكم غيركم، وقد ذهب أقوام بذكر خلع محمد وأسره، فاذهبوا بذكر فكه وإطلاقه.
فأقبل شيخ كبير من أبناء الكفاية على فرس، فصاح بالناس:
اسكتوا، فسكتوا، فقال: أيها الناس، هل تعتدون على محمد بقطع منه لأرزاقكم؟ قالوا: لا، قَالَ: فهل قصر بأحد منكم أو من رؤسائكم وكبرائكم؟
قالوا: ما علمنا، قَالَ: فهل عزل أحدا من قوادكم؟ قالوا: معاذ الله أن يكون فعل ذلك! قَالَ: فما بالكم خذلتموه وأعنتم عدوه على اضطهاده وأسره! أما والله ما قتل قوم خليفتهم قط إلا سلط الله عليهم السيف القاتل، والحتف الجارف، انهضوا إلى خليفتكم وادفعوا عنه، وقاتلوا من أراد خلعه والفتك به.
ونهضت الحربية، ونهض معهم عامه اهل الارباض في المشهرات والعدة الحسنة فقاتلوا الحسين بْن علي وأصحابه قتالا شديدا منذ ارتفاع النهار إلى انكسار الشمس، وأكثروا في أصحابه الجراح، وأسر الحسين بْن علي، ودخل أسد الحربي على محمد، فكسر قيوده وأقعده في مجلس الخلافة، فنظر محمد إلى قوم ليس عليهم لباس الحرب والجند، ولا عليهم سلاح، فأمرهم فأخذوا من السلاح الذي في الخزائن حاجتهم ووعدهم ومناهم، وانتهب الغوغاء بذلك السبب سلاحا كثيرا ومتاعا من خز وغير ذلك، وأتى بالحسين بْن على، فلامه محمد على خلافه وقال له: ألم أقدم أباك على الناس، وأوله أعنة الخيل وأملأ يده من الأموال، وأشرف أقداركم في أهل خراسان، وأرفع منازلكم على غيركم من القواد! قَالَ: بلى، قَالَ: فما الذي استحققت به منك أن تخلع طاعتي، وتؤلب الناس علي، وتندبهم إلى قتالي! قَالَ: الثقة بعفو أمير المؤمنين وحسن الظن بصفحه وتفضله قَالَ: فإن أمير المؤمنين قد فعل ذلك بك، وولاك الطلب بثأرك، ومن قتل من أهل بيتك ثم دعا له بخلعة فخلعها

(8/430)


عليه، وحمله على مراكب، وأمره بالمسير إلى حلوان، وولاه ما وراء بابه.
وذكر عن عثمان بْن سعيد الطائي، قَالَ: كانت لي من الحسين بْن علي ناحية خاصة، فلما رضي عنه محمد، ورد إليه قيادته ومنزلته، عبرت إليه مع المهنئين، فوجدته واقفا بباب الجسر، فهنأته ودعوت له، ثم قلت له:
إنك قد أصبحت سيد العسكرين، وثقة أمير المؤمنين، فاشكر العفو والإقالة، ثم داعبته ومازحته، ثم أنشأت أقول:
هم قتلوه حين تم تمامه ... وصار معزا بالندى والتمجد
أغر كأن البدر سنة وجهه ... إذا جاء يمشي في الحديد المسرد
إذا جشأت نفس الجبان وهللت ... مضى قدما بالمشرفي المهند
حليم لدى النادي جهول لدى الوغى ... عكور على الأعداء قليل التزيد
فثأرك أدركه من القوم إنهم ... رموك على عمد بشنعا مزند
فضحك، ثم قَالَ: ما أحرصني على ذاك إن ساعدني عمر، وأيدت بفتح ونصر ثم وقف على باب الجسر، وهرب في نفر من خدمه ومواليه، فنادى محمد في الناس، فركبوا في طلبه، فأدركوه بمسجد كوثر، فلما بصر بالخيل نزل وقيد فرسه، وصلى ركعتين وتحرم، ثم لقيهم فحمل عليهم حملات في محلها يهزمهم ويقتل فيهم ثم أن فرسه عثر به وسقط، وابتدره الناس طعنا وضربا وأخذوا راسه، وفي ذلك يقول علي بْن جبلة- وقيل الخريمى:
الا قاتل الله الالى كفروا به ... وفازوا برأس الهرثمى حسين
لقد أوردوا منه قناه صليبه ... بشطب يماني ورمح رديني
رجا في خلاف الحق عزا وإمرة ... فألبسه التأميل خف حنين
وقيل: إن محمدا لما صفح عن الحسين استوزره ودفع إليه خاتمه.
وقتل الحسين بْن علي بْن عيسى بْن ماهان للنصف من رجب من هذه

(8/431)


السنة في مسجد كوثر، وهو على فرسخ من بغداد في طريق النهرين.
وجدد البيعة لمحمد يوم الجمعة لست عشرة خلت من رجب من هذه السنة، وكان حبس الحسين محمدا في قصر أبي جعفر يومين.
وفي الليلة التي قتل فيها حسين بْن علي هرب الفضل بْن الربيع.
وفي هذه السنة توجه طاهر بْن الحسين حين قدم عليه هرثمة من حلوان إلى الأهواز، فقتل عامل محمد عليها، وكان عامله عليها محمد بْن يزيد المهلبي بعد تقديم طاهر جيوشا أمامه إليها قبل انفصاله إليه لحربه.

ذكر الخبر عن مقتل محمد بْن يزيد المهلبي ودخول طاهر إلى الأهواز
ذكر عن يزيد بْن الحارث، قَالَ: لما نزل طاهر شلاشان، وجه الحسين ابن عمر الرستمي إلى الأهواز، وأمره أن يسير سيرا مقتصدا، ولا يسير إلا بطلائع، ولا ينزل إلا في موضع حصين يأمن فيه على أصحابه فلما توجه أتت طاهرا عيونه، فأخبروه أن محمد بْن يزيد المهلبي- وكان عاملا لمحمد على الأهواز- قد توجه في جمع عظيم يريد نزول جندي سابور- وهو حد ما بين الأهواز والجبل- ليحمي الأهواز، ويمنع من أراد دخولها من أصحاب طاهر، وإنه في عدة وقوة، فدعا طاهر عدة من أصحابه، منهم محمد بْن طالوت ومحمد بن العلاء والعباس بن بخار اخذاه والحارث بْن هشام وداود بْن موسى وهادي بْن حفص، وأمرهم أن يكمشوا السير حتى يتصل أولهم بآخر أصحاب الحسين بْن عمر الرستمي، فإن احتاج إلى إمداد أمدوه، أو لقيه جيش كانوا ظهرا له.
فوجه تلك الجيوش، فلم يلقهم أحد حتى شارفوا الأهواز.
وبلغ محمد بْن يزيد خبرهم، فعرض أصحابه، وقوى ضعفاءهم، وحمل الرجالة على البغال، وأقبل حتى نزل سوق عسكر مكرم، وصير العمران والماء وراء ظهره، وتخوف طاهر أن يعجل إلى أصحابه، فأمدهم بقريش بْن شبل، وتوجه هو بنفسه حتى كان قريبا منهم، ووجه الحسن بْن علي المأموني،

(8/432)


وأمره بمضامة قريش بْن شبل والحسين بْن عمر الرستمي، وسارت تلك العساكر حتى قاربوا محمد بْن يزيد بعسكر مكرم، فجمع أصحابه فقال: ما ترون؟
أطاول القوم القتال وأماطلهم اللقاء، أم أناجزهم كانت لي أم علي؟ فو الله ما ارى ان ارجع الى امير المؤمنين ابدا، ولا انصرف عن الاهواز، فقالوا له: الرأي ان ترجع الى الاهواز، فتتحصن بها وتغادى طاهرا القتال وتبعث الى البصره فتفرض بها الفروض، وتستجيش من قدرت عليه وتابعك من قومك فقبل ما أشاروا عليه، وتابعه قومه، فرجع حتى صار بسوق الأهواز وأمر طاهر قريش بْن شبل أن يتبعه، وأن يعاجله قبل أن يتحصن بسوق الأهواز، وأمر الحسن بْن علي المأموني والحسين بْن عمر الرستمي أن يسيرا بعقبه، فإن احتاج إلى معونتهما أعاناه ومضى قريش بْن شبل يقفو محمد بْن يزيد، كلما ارتحل محمد بْن يزيد من قرية نزلها قريش، حتى صاروا إلى سوق الأهواز.
وسبق محمد بْن يزيد إلى المدينة فدخلها، واستند إلى العمران، فصيره وراء ظهره، وعبى أصحابه، وعزم على مواقعتهم، ودعا بالأموال فصبت بين يديه، وقال لأصحابه: من أحب منكم الجائزة والمنزلة فليعرفني أثره وأقبل قريش بْن شبل حتى صار قريبا منه، وقال لأصحابه: الزموا مواضعكم ومصافكم، وليكن أكثر ما قاتلتموهم وأنتم مريحون، فقاتلوهم بنشاط وقوة، فلم يبق أحد من أصحابه إلا جمع بين يديه ما قدر عليه من الحجارة، فلم يعبر إليهم محمد بْن يزيد، حتى أوهنوهم بالحجارة، وجرحوهم جراحات كثيرة بالنشاب، وعبرت طائفة من أصحاب محمد بْن يزيد، فأمر قريش أصحابه أن ينزلوا إليهم فنزلوا إليهم، فقاتلوهم قتالا شديدا حتى رجعوا، وتراد الناس بعضهم إلى بعض.
والتفت محمد بْن يزيد إلى نفر كانوا معه من مواليه، فقال: ما رأيكم؟ قالوا:
فيما ذا؟ قَالَ: إني أرى من معي قد انهزم، ولست آمن من خذلانهم، ولا آمل رجعتهم، وقد عزمت على النزول والقتال بنفسي، حتى يقضي الله ما أحب، فمن أراد منكم الانصراف فلينصرف، فو الله لأن تبقوا أحب إلي من أن تعطبوا وتهلكوا فقالوا: والله ما أنصفناك، إذا تكون أعتقتنا من الرق

(8/433)


ورفعتنا من الضعة، ثم أغنيتنا بعد القلة، ثم نخذلك على هذه الحال، بل نتقدم أمامك ونموت تحت ركابك، فلعن الله الدنيا والعيش بعدك ثم نزلوا فعرقبوا دوابهم، وحملوا على أصحاب قريش حملة منكرة، فأكثروا فيهم القتل، وشدخوهم بالحجارة وغير ذلك، وانتهى بعض أصحاب طاهر إلى محمد بْن يزيد، فطعنه بالرمح فصرعه، وتبادروا إليه بالضرب والطعن حتى قتلوه، فقال بعض اهل البصره يرثيه، ويذكر مقتله:
من ذاق طعم الرقاد من فرح ... فإنني قد أضر بي سهري
ولى فتى الرشد فافتقدت به ... قلبي وسمعي وغرني بصري
كان غياثا لدى المحول فقد ... ولى غمام الربيع والمطر
وفي العييني للإمام ولم ... يرهبه وقع المشطب الذكر
ساور ريب المنون داهية ... لولا خضوع العباد للقدر
فامض حميدا فكل ذي أجل ... يسعى إلى ما سعيت بالأثر
وقال بعض المهالبة، وجرح في تلك الوقعة جراحات كثيرة وقطعت يده:
فما لمت نفسي غير انى لم أطق ... حراكا وأني كنت بالضرب مثخنا
ولو سلمت كفاي قاتلت دونه ... وضاربت عنه الطاهرى الملعنا
فتى لا يرى أن يخذل السيف في الوغى ... إذا ادرع الهيجاء في النقع واكتنى
وذكر عن الهيثم بْن عدي، قَالَ: لما دخل ابن أبي عيينة على طاهر فأنشده قوله:
من آنسته البلاد لم يرم ... منها ومن أوحشته لم يقم
حتى انتهى إلى قوله:
ما ساء ظني إلا لواحدة ... في الصدر محصورة عن الكلم
فتبسم طاهر، ثم قَالَ: أما والله لقد ساءني من ذلك ما ساءك، وآلمني ما آلمك، ولقد كنت كارها لما كان، غير أن الحتف واقع، والمنايا نازله،

(8/434)


ولا بد من قطع الأواصر والتنكر للأقارب في تأكيد الخلافة، والقيام بحق الطاعة، فظننا أنه يريد محمد بْن يزيد بْن حاتم.
وذكر عمر بْن أسد، قَالَ: أقام طاهر بالأهواز بعد قتله محمد بْن يزيد ابن حاتم، وأنفذ عماله في كورها، وولى على اليمامة والبحرين وعمان مما يلي الأهواز، ومما يلي عمل البصرة، ثم أخذ على طريق البر متوجها إلى واسط، وبها يومئذ السندي بن يحيى بن الحرشي والهيثم خليفة خزيمة بْن خازم، فجعلت المسالح والعمال تتقوض، مسلحة مسلحة، وعاملا عاملا، كلما قرب طاهر منهم تركوا أعمالهم وهربوا عنها، حتى قرب من واسط، فنادى السندي بْن يحيى والهيثم بْن شعبة في أصحابهما، فجمعاهم إليهما، وهما بالقتال، وأمر الهيثم بْن شعبة صاحب مراكبه أن يسرج له دوابه، فقرب إليه فرسا، فأقبل يقسم طرفه بينها، واستقبلته عدة، فرأى المراكبي التغير والفزع في وجهه فقال: إن أردت الهرب فعليك بها، فإنها أبسط في الركض، وأقوى على السفر فضحك ثم قَالَ: قرب فرس الهرب، فإنه طاهر، ولا عار علينا في الهرب منه، فتركا واسطا، وهربا عنها ودخل طاهر واسطا، وتخوف إن سبق الهيثم والسندي إلى فم الصلح فيتحصنا بها فوجه محمد بْن طالوت، وأمره أن يبادرهما إلى فم الصلح، ويمنعهما من دخولها إن أرادا ذلك، ووجه قائدا من قواده يقال له أحمد بْن المهلب نحو الكوفة، وعليها يومئذ العباس بْن موسى الهادي، فلما بلغ العباس خبر أحمد بْن المهلب خلع محمدا، وكتب بطاعته إلى طاهر وببيعته للمأمون، ونزلت خيل طاهر فم النيل، وغلب على ما بين واسط والكوفة، وكتب المنصور بْن المهدي- وكان عاملا لمحمد على البصرة- إلى طاهر بطاعته، ورحل طاهر حتى نزل طرنايا، فأقام بها يومين فلم يرها موضعا للعسكر، فأمر بجسر فعقد وخندق له، وأنفذ كتبه بالتولية إلى العمال.
وكانت بيعة المنصور بْن المهدي بالبصرة وبيعة العباس بْن موسى الهادي

(8/435)


بالكوفه، وبيعة المطلب بْن عبد الله بْن مالك بالموصل للمأمون، وخلعهم محمدا في رجب من سنة ست وتسعين ومائة.
وقيل: إن الذي كان على الكوفة حين نزل طاهر من قبل محمد الفضل بْن العباس بْن موسى بْن عيسى.
ولما كتب من ذكرت إلى طاهر ببيعتهم للمأمون وخلعهم محمدا، أقرهم طاهر على أعمالهم، وولى داود بْن عيسى بْن موسى بْن محمد بْن علي الهاشمي مكة والمدينة، ويزيد بْن جرير البجلي اليمن، ووجه الحارث بْن هشام وداود ابن موسى الى قصر ابن هبيرة
. ذكر خبر استيلاء طاهر على المدائن ونزوله بصرصر
وفي هذه السنة أخذ طاهر بْن الحسين من اصحاب محمد المدائن، ثم صار منها إلى صرصر، فعقد جسرا، ومضى إلى صرصر.
ذكر الخبر عن سبب دخوله المدائن ومصيره إلى صرصر:
ذكر أن طاهرا لما وجه إلى قصر ابن هبيرة الحارث بن هشام وداود بن موسى، وبلغ محمدا خبر عامله بالكوفة وخلعه إياه وبيعته للمأمون، وجه محمد ابن سليمان القائد ومحمد بْن حماد البربري، وأمرهما أن يبيتا الحارث وداود بالقصر، فقيل لهما: إن سلكتما الطريق الأعظم لم يخف ذلك عليهما، ولكن اختصر الطريق إلى فم الجامع، فإنه موضع سوق ومعسكر، فانزلاه وبيتاهما إن أردتما ذلك، وقد قربتما منهما، فوجها الرجال من الياسرية إلى فم الجامع.
وبلغ الحارث وداود الخبر، فركبا في خيل مجرد، وتهيأ للرجالة، فعبرا من مخاضة في سوراء إليهم، وقد نزلوا إلى جنبها، فأوقعا بهم وقعة شديدة.
ووجه طاهر محمد بْن زياد ونصير بْن الخطاب مددا للحارث وداود، فاجتمعت العساكر بالجامع، وساروا حتى لقوا محمد بْن سليمان ومحمد بن حماد فيما ما بين نهر درقيط والجامع، فاقتتلوا قتالا شديدا، وانهزم أهل بغداد، وهرب

(8/436)


محمد بْن سليمان حتى صار إلى قرية شاهي، وعبر الفرات، وأخذ على طريق البرية إلى الأنبار، ورجع محمد بْن حماد إلى بغداد، وقال ابو يعقوب الخريمى في ذلك:
هما عدوا بالنكث كي يصدعا به ... صفا الحق فانفضا بجمع مبدد
وأفلتنا ابن البربري مضمر ... من الخيل يسمو للجياد ويهتدى
وذكر يزيد بن الحارث، ان محمد بْن حماد البربري لما دخل بغداد، وجه محمد المخلوع الفضل بْن موسى بْن عيسى الهاشمي إلى الكوفة، وولاه عليها، وضم إليه أبا السلاسل وإياس الحرابي وجمهورا النجاري، وأمره بسرعة السير، فتوجه الفضل، فلما عبر نهر عيسى عثر به فرسه، فتحول منه إلى غيره وتطير، وقال: اللهم إني أسألك بركة هذا الوجه وبلغ طاهرا الخبر، فوجه محمد بْن العلاء، وكتب إلى الحارث بْن هشام وداود بْن موسى بالطاعة له، فلقي محمد بْن العلاء الفضل بقرية الأعراب، فبعث إليه الفضل: إني سامع مطيع لطاهر، وإنما كان مخرجي بالكيد مني لمحمد، فخل لي الطريق حتى أصير إليه، فقال له محمد: لست أعرف ما تقول ولا أقبله ولا أنكره، فإن أردت الأمير طاهرا فارجع وراءك، فخذ أسهل الطريق وأقصدها، فرجع وقال محمد لأصحابه: كونوا على حذر، فإني لست آمن مكر هذا، فلم يلبث أن كبر وهو يرى أن محمد بْن العلاء قد آمنه، فوجده على عدة وأهبة، واقتتلوا كأشد ما يكون من القتال، وكبا بالفضل فرسه، فقاتل عنه أبو السلاسل حتى ركب، وقال: أذكر هذا الموقف لأمير المؤمنين وحمل اصحاب محمد ابن العلاء على اصحاب الفضل فهزموه، ولم يزالوا يقتلونهم إلى كوثى، وأسر في تلك الوقعة إسماعيل بْن محمد القرشي وجمهور النجارى، وتوجه طاهر إلى المدائن، وفيها جند كثير من خيول محمد، عليهم البرمكي قد تحصن بها، والمدد يأتيه في كل يوم، والصلات والخلع من قبل محمد فلما قرب طاهر من المدائن- وكان منها على رأس فرسخين- نزل فصلى ركعتين، وسبح فأكثر التسبيح، فقال: اللهم إنا نسألك نصرا كنصرك المسلمين يوم المدائن ووجه

(8/437)


الحسن بْن علي المأموني وقريش بْن شبل، ووجه الهادي بْن حفص على مقدمته وسار فلما سمع أصحاب البرمكي صوت طبوله، أسرجوا الدواب، وأخذوا في تعبيتهم، وجعل من في أوائل الناس ينضم إلى أواخرهم، وأخذ البرمكي في تسوية الصفوف، فكلما سوى صفا انتقض واضطرب عليه أمرهم، فقال: اللهم إنا نعوذ بك من الخذلان، ثم التفت إلى صاحب ساقته، فقال:
خل سبيل الناس، فإني أرى جندا لا خير عندهم، فركب بعضهم بعضا نحو بغداد، فنزل طاهر المدائن، وقدم منها قريش بن شبل والعباس بن بخار اخذاه إلى الدرزيجان، وأحمد بْن سعيد الحرشي ونصر بْن منصور بْن نصر بْن مالك معسكران بنهر ديائى، فمنعا أصحاب البرمكي من الجواز إلى بغداد، وتقدم طاهر حتى صار إلى الدرزيجان حيال أحمد ونصر بْن منصور، فسير إليهما الرجال، فلم يجر بينهما كثير قتال حتى انهزموا، وأخذ طاهر ذات اليسار إلى نهر صرصر، فعقد بها جسرا ونزلها
. ذكر خبر خلع داود بن عيسى الامين
وفي هذه السنة خلع داود بْن عيسى عامل مكة والمدينة محمدا- وهو عامله يومئذ عليهما- وبايع للمأمون، وأخذ البيعة بهما على الناس له، وكتب بذلك إلى طاهر والمأمون، ثم خرج بنفسه إلى المأمون.
ذكر الخبر عن ذلك وكيف جرى الأمر فيه:
ذكر أن الأمين لما أفضت الخلافة إليه، بعث إلى مكة والمدينة داود بْن عيسى بْن موسى بْن محمد بْن عَلِيّ بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس، وعزل عامل الرشيد على مكة، وكان عامله عليها محمد بْن عبد الرحمن بْن محمد المخزومي، وكان إليه الصلاة بها وأحداثها والقضاء بين أهلها، فعزل محمد عن ذلك كله بداود ابن عيسى، سوى القضاء فإنه أقره على القضاء فأقام داود واليا على مكة والمدينة لمحمد، وأقام للناس أيضا الحج سنة ثلاث وأربع وخمس وتسعين ومائة، فلما دخلت سنة ست وتسعين ومائة، بلغه خلع عبد الله المأمون أخاه،

(8/438)


وما كان فعل طاهر بقواد محمد، وقد كان محمد كتب إلى داود بْن عيسى يأمره بخلع عبد الله المأمون والبيعة لابنه موسى، وبعث محمد إلى الكتابين اللذين كان الرشيد كتبهما وعلقهما في الكعبة فأخذهما، فلما فعل ذلك جمع داود حجبة الكعبة والقرشيين والفقهاء ومن كان شهد على ما في الكتابين من الشهود- وكان داود أحدهم- فقال داود: قد علمتم ما أخذ علينا وعليكم الرشيد من العهد والميثاق عند بيت الله الحرام حين بايعنا لابنيه، لنكونن مع المظلوم منهما على الظالم، ومع المبغي عليه على الباغي، ومع المغدور به على الغادر، فقد رأينا ورأيتم أن محمدا قد بدأ بالظلم والبغي والغدر على أخويه عبد الله المأمون والقاسم المؤتمن، وخلعهما وبايع لابنه الطفل، رضيع صغير لم يفطم، واستخرج الشرطين من الكعبة عاصيا ظالما، فحرقهما بالنار وقد رأيت خلعه، وإن أبايع لعبد الله المأمون بالخلافة، إذ كان مظلوما مبغيا عليه.
فقال له أهل مكة: رأينا تبع لرأيك، ونحن خالعوه معك، فوعدهم صلاة الظهيرة، وأرسل في فجاج مكة صائحا يصيح: الصلاة جامعة! فلما جاء وقت صلاة الظهر- وذلك يوم الخميس لسبع وعشرين ليلة خلت من رجب سنة ست وتسعين ومائة- خرج داود بْن عيسى، فصلى بالناس صلاة الظهر، وقد وضع له المنبر بين الركن والمقام، فصعد فجلس عليه، وأمر بوجوه الناس وأشرافهم فقربوا من المنبر، وكان داود خطيبا فصيحا جهير الصوت، فلما اجتمع الناس قام خطيبا، فقال:
الحمد لله مالك الملك، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء، بيده الخير وهو عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شريك له، قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالدين، وختم به النبيين، وجعله رحمة للعالمين، صلى الله عليه في الأولين والآخرين أما بعد يا أهل مكة، فأنتم الأصل والفرع، والعشيرة والأسرة، والشركاء في النعمة، إلى بلدكم نفذ وفد الله، وإلى قبلتكم يأتم المسلمون، وقد علمتم ما أخذ عليكم الرشيد هارون رحمه الله عليه وصلاته حين بايع لا بينه محمد وعبد الله بين أظهركم من العهد والميثاق

(8/439)


لتنصرن المظلوم منهما على الظالم، والمبغى عليه على الباغي، والمغدور به على الغادر، ألا وقد علمتم وعلمنا أن محمد بْن هارون قد بدأ بالظلم والبغي والغدر، وخالف الشروط التي أعطاها من نفسه في بطن البيت الحرام، وقد حل لنا ولكم خلعه من الخلافة وتصييرها إلى المظلوم المبغي عليه المغدور به.
ألا وإني أشهدكم أني قد خلعت محمد بْن هارون من الخلافة كما خلعت قلنسوتي هذه من رأسي- وخلع قلنسوته عن رأسه فرمى بها إلى بعض الخدم تحته، وكانت من برود حبرة مسلسلة حمراء، وأتى بقلنسوة سوداء هاشمية فلبسها- ثم قَالَ: قد بايعت لعبد الله عبد الله المأمون أمير المؤمنين بالخلافة، ألا فقوموا إلى البيعة لخليفتكم فصعد جماعة من الوجوه إليه إلى المنبر، رجل فرجل، فبايعه لعبد الله المأمون بالخلافة، وخلع محمدا، ثم نزل عن المنبر، وحانت صلاة العصر، فصلى بالناس، ثم جلس في ناحية المسجد، وجعل الناس يبايعونه جماعة بعد جماعة، يقرأ عليهم كتاب البيعة، ويصافحونه على كفه، ففعل ذلك أياما.
وكتب الى ابنه سليمان بْن داود بْن عيسى وهو خليفته على المدينة، يأمره أن يفعل بأهل المدينة مثل ما فعل هو بأهل مكة، من خلع محمد والبيعة لعبد الله المأمون فلما رجع جواب البيعة من المدينة إلى داود وهو بمكة، رحل من فوره بنفسه وجماعة من ولده يريد المأمون بمرو على طريق البصرة، ثم على فارس، ثم على كرمان، حتى صار إلى المأمون بمرو، فأعلمه ببيعته وخلعه محمدا ومسارعة أهل مكة وأهل المدينة إلى ذلك، فسر بذلك المأمون، وتيمن ببركة مكة والمدينة، إذ كانوا أول من بايعه، وكتب إليهم كتابا لينا لطيفا يعدهم فيه الخبر، ويبسط أملهم وأمر أن يكتب لداود عهد على مكة والمدينة وأعمالها من الصلاة والمعاون والجباية، وزيد له ولاية عك، وعقد له على ذلك ثلاثة ألوية، وكتب له إلى الري بمعونة خمسمائة ألف درهم، وخرج داود بْن عيسى مسرعا مغذا مبادرا لإدراك الحج، ومعه ابن أخيه العباس بن موسى ابن عيسى بْن موسى بْن محمد بْن علي بْن عبد الله بْن العباس، وقد عقد

(8/440)


المأمون للعباس بْن موسى بْن عيسى على ولاية الموسم، فسار هو وعمه داود حتى نزلا بغداد على طاهر بْن الحسين، فأكرمهما وقربهما، وأحسن معونتهما، ووجه معهما يزيد بْن جرير بْن يزيد بْن خالد بْن عبد الله القسري، وقد عقد له طاهر على ولاية اليمن، وبعث معه خيلا كثيفة، وضمن لهم يزيد بْن جرير بْن يزيد بْن خالد بْن عبد الله القسري أن يستميل قومه وعشيرته من ملوك أهل اليمن وأشرافهم، ليخلعوا محمدا ويبايعوا عبد الله المأمون.
فساروا جميعا حتى دخلوا مكة وحضر الحج، فحج باهل الموسم العباس ابن موسى بْن عيسى، فلما صدروا عن الحج انصرف العباس حتى اتى طاهر ابن الحسين- وهو على حصار محمد- وأقام داود بْن عيسى على عمله بمكة والمدينة، ومضى يزيد بْن جرير إلى اليمن، فدعا أهلها إلى خلع محمد وبيعة عبد الله على المأمون، وقرأ عليهم كتابا من طاهر بْن الحسين يعدهم العدل والإنصاف، ويرغبهم في طاعة المأمون، ويعلمهم ما بسط المأمون من العدل في رعيته، فأجاب أهل اليمن إلى بيعة المأمون، واستبشروا بذلك، وبايعوا للمأمون، وخلعوا محمد، فسار فيهم يزيد بْن جرير بْن يزيد بأحسن سيرة، وأظهر عدلا وإنصافا، وكتب بإجابتهم وبيعتهم الى المأمون والى طاهر ابن الحسين.
وفي هذه السنة عقد محمد في رجب وشعبان منها نحوا من أربعمائة لواء لقواد شتى، وأمر على جميعهم علي بْن محمد بْن عيسى بْن نهيك، وأمرهم بالمسير إلى هرثمة بْن أعين، فساروا فالتقوا بجللتا في رمضان على أميال من النهروان، فهزمهم هرثمة، وأسر علي بْن محمد بْن عيسى بْن نهيك، وبعث به هرثمة إلى المأمون، وزحف هرثمة فنزل النهروان
. ذكر خبر شغب الجند على طاهر بن الحسين
4 وفي هذه السنة استأمن إلى محمد من طاهر جماعة كثيرة، وشغب الجند

(8/441)


على طاهر، ففرق محمد فيمن صار إليه من أصحاب طاهر مالا عظيما، وقود رجالا، وغلف لحاهم بالغالية، فسموا بذلك قواد الغالية.
ذكر الخبر عن سبب ذلك وإلى ما آل إليه الأمر فيه:
ذكر عن يزيد بْن الحارث، قَالَ: أقام طاهر على نهر صرصر لما صار إليها، وشمر في محاربة محمد وأهل بغداد، فكان لا يأتيه جيش إلا هزمه، فاشتد على أصحابه ما كان محمد يعطي من الأموال والكسا، فخرج من عسكره نحو من خمسة آلاف رجل من أهل خراسان ومن التف إليهم، فسر بهم محمد، ووعدهم ومناهم، وأثبت أسماءهم في الثمانين قَالَ: فمكثوا بذلك أشهرا، وقود جماعة من الحربية وغيرهم ممن تعرض لذلك وطلبه، وعقد لهم، ووجههم إلى دسكرة الملك والنهروان، ووجه إليهم حبيب بْن جهم النمري الأعرابي في أصحابه، فلم يكن بينهم كثير قتال، وندب محمد قوادا من قواد بغداد، فوجههم الى الياسرية والكوثرية والسفينتين، وحمل إليهم الأطعمة، وقواهم بالأرزاق، وصيرهم ردءا لمن خلفهم، وفرق الجواسيس في أصحاب طاهر، ودس إلى رؤساء الجند الكتب بالأطماع والترغيب، فشغبوا على طاهر، واستأمن كثير منهم إلى محمد، ومع كل عشرة أنفس منهم طبل، فارعدوا وابرقوا واجلبوا، ودنوا حتى أشرفوا على نهر صرصر، فعبى طاهر أصحابه كراديس، ثم جعل يمر على كل كردوس منهم، فيقول: لا يغرنكم كثرة من ترون، ولا يمنعكم استئمان من استأمن منهم، فإن النصر مع الصدق والثبات، والفتح مع الصبر، ورب فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ثم أمرهم بالتقدم، فتقدموا واضطربوا بالسيوف مليا ثم إن الله ضرب أكتاف أهل بغداد فولوا منهزمين، وأخلوا موضع عسكرهم، فانتهب أصحاب طاهر كل ما كان فيه من سلاح ومال وبلغ الخبر محمدا، فأمر بالعطاء فوضع، وأخرج خزائنه وذخائره، وفرق الصلات وجمع أهل الأرباض، واعترض الناس على عينه، فكان لا يرى أحدا وسيما حسن الرواء إلا خلع عليه وقوده، وكان لا يقود أحدا إلا غلفت لحيته بالغالية، وهم الذين

(8/442)


يسمون قواد الغالية قَالَ: وفرق في قواده المحدثين لكل رجل منهم خمسمائة درهم وقارورة غالية، ولم يعط جند القواد وأصحابهم شيئا وأتت عيون طاهر وجواسيسه طاهرا بذلك، فراسلهم وكاتبهم، ووعدهم واستمالهم، وأغرى أصاغرهم بأكابرهم، فشغبوا على محمد يوم الأربعاء لست خلون من ذي الحجة سنة ست وتسعين ومائة، فقال رجل من أبناء أهل بغداد في ذلك:
قل للأمين الله في نفسه ... ما شتت الجند سوى الغالية
وطاهر نفسي تقي طاهرا ... برسله والعدة الكافية
أضحى زمام الملك في كفه ... مقاتلا للفئة الباغية
يا ناكثا أسلمه نكثه ... عيوبه من خبثه فاشية
قد جاءك الليث بشداته ... مستكلبا في أسد ضاريه
فاهرب ولا مهرب من مثله ... إلا إلى النار أو الهاويه
قَالَ: ولما شغب الجند، وصعب الأمر على محمد شاور قواده، فقيل له: تدارك القوم، فتلاف امرك، فان بهم قوام ملك، وهم بعد الله أزالوه عنك أيام الحسين، وهم ردوه عليك، وهم من قد عرفت نجدتهم وبأسهم.
فلج في أمرهم وأمر بقتالهم، فوجه إليهم التنوخي وغيره من المستأمنة والأجناد الذين كانوا معه، فعاجل القوم القتال وراسلهم طاهر وراسلوه، فأخذ رهائنهم على بذل الطاعة له، وكتب إليهم، فأعطاهم الأمان، وبذل لهم الأموال، ثم قدم فصار إلى البستان الذي على باب الأنبار يوم الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة خلت من ذي الحجة، فنزل البستان بقواده وأجناده وأصحابه، ونزل من لحق بطاهر من المستأمنة من قواد محمد وجنده في البستان وفي الأرباض، وألحقهم جميعا بالثمانين في الأرزاق، وأضعف للقواد وأبناء القواد الخواص، وأجرى عليهم وعلى كثير من رجالهم الأموال، ونقب أهل السجون السجون وخرجوا منها، وفتن الناس، ووثب على أهل الصلاح الدعار والشطار، فعز الفاجر، وذل المؤمن، واختل الصالح، وساءت حال الناس إلا من كان في

(8/443)


عسكر طاهر لتفقده أمرهم، وأخذه على أيدي سفهائهم وفساقهم، واشتد في ذلك عليهم، وغادى القتال وراوحه، حتى تواكل الفريقان، وخربت الدار.
وحج بالناس في هذه السنة العباس بْن موسى بْن عيسى بْن موسى بْن محمد بْن علي من قبل طاهر، ودعا للمأمون بالخلافة، وهو أول موسم دعي له فيه بالخلافة بمكة والمدينة.

(8/444)


ثم دخلت

سنة سبع وتسعين ومائة
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) ففي هذه السنة لحق القاسم بْن هارون الرشيد ومنصور بن المهدي بالمأمون من العراق، فوجه المأمون القاسم الى جرجان.

ذكر خبر حصار الامين ببغداد
وفيها حاصر طاهر وهرثمة وزهير بْن المسيب محمد بْن هارون ببغداد.
ذكر الخبر عما آل إليه أمر حصارهم في هذه السنة، وكيف كان الحصار فيها:
ذكر محمد بْن يزيد التميمي وغيره أن زهير بْن المسيب الضبي نزل قصر رقة كلواذى، ونصب المجانيق والعرادات واحتفر الخنادق، وجعل يخرج في الأيام عند اشتغال الجند بحرب طاهر، فيرمي بالعرادات من أقبل وأدبر، ويعشر أموال التجار ويجبي السفن، وبلغ من الناس كل مبلغ، وبلغ أمره طاهرا وأتاه الناس فشكوا إليه ما نزل بهم من زهير بْن المسيب، وبلغ ذلك هرثمة، فأمده بالجند، وقد كاد يؤخذ، فأمسك عنه الناس، فقال الشاعر من أهل الجانب الشرقي- لم يعرف اسمه- في زهير وقتله الناس بالمجانيق:
لا تقرب المنجنيق والحجرا ... فقد رأيت القتيل إذ قبرا
باكر كي لا يفوته خبر ... راح قتيلا وخلف الخبرا
ماذا به كان من نشاط ومن ... صحة جسم به إذا ابتكرا
أراد ألا يقال كان له ... أمر فلم يدر من به امرا

(8/445)


يا صاحب المنجنيق ما فعلت ... كفاك، لم تبقيا ولم تذرا
كان هواه سوى الذي قدرا ... هيهات لن يغلب الهوى القدرا
ونزل هرثمة نهر بين، وجعل عليه حائطا وخندقا، وأعد المجانيق والعرادات، وأنزل عبيد الله بْن الوضاح الشماسية، ونزل طاهر البستان بباب الأنبار، فذكر عن الحسين الخليع أنه قَالَ: لما تولى طاهر البستان بباب الأنبار، دخل محمدا أمر عظيم من دخوله بغداد، وتفرق ما كان في يده من الأموال، وضاق ذرعا، وتحرق صدرا، فأمر ببيع كل ما في الخزائن من الأمتعة، وضرب آنية الذهب والفضة دنانير ودراهم، وحملها إليه لأصحابه وفي نفقاته، وأمر حينئذ برمي الحربية بالنفط والنيران والمجانيق والعرادات، يقتل بها المقبل والمدبر، ففي ذلك يقول عمرو بْن عبد الملك العتري الوراق:
يا رماة المنجنيق ... كلكم غير شفيق
ما تبالون صديقا ... كان او غير صديق
ويلكم تدرون ما ... ترمون مرار الطريق
رب خود ذات دل ... وهي كالغصن الوريق
اخرجت من جوف دنياها ... ومن عيش أنيق
لم تجد من ذاك بدا ... أبرزت يوم الحريق
وذكر عن محمد بْن منصور الباوردي، قَالَ: لما اشتدت شوكة طاهر على محمد، وهزمت عساكره، وتفرق قواده كان فيمن استأمن إلى طاهر سعيد بْن مالك بْن قادم، فلحق به، فولاه ناحية البغيين والأسواق هنالك وشاطئ دجلة، وما اتصل به أمامه إلى جسور دجلة، وأمره بحفر الخنادق وبناء الحيطان في كل ما غلب عليه من الدور والدروب، وأمده بالنفقات والفعلة والسلاح، وأمر الحربية بلزومه على النوائب، ووكل بطريق دار الرقيق وباب الشام واحدا بعد واحد، وأمر بمثل الذي أمر به سعيد بْن مالك، وكثر الخراب

(8/446)


والهدم حتى درست محاسن بغداد، ففي ذلك يقول العتري:
من ذا أصابك يا بغداد بالعين ... ألم تكوني زمانا قرة العين!
ألم يكن فيك قوم كان مسكنهم ... وكان قربهم زينا من الزين
صاح الغراب بهم بالبين فافترقوا ... ماذا لقيت بهم من لوعة البين!
أستودع الله قوما ما ذكرتهم ... إلا تحدر ماء العين من عيني
كانوا ففرقهم دهر وصدعهم ... والدهر يصدع ما بين الفريقين
قَالَ: ووكل محمد عليا فراهمرد، فيمن ضم إليه من المقاتلة، بقصر صالح وقصر سليمان بْن أبي جعفر إلى قصور دجلة وما والاها، فألح في إحراق الدور والدروب وهدمها بالمجانيق والعرادات على يدي رجل كان يعرف بالسمرقندي، فكان يرمي بالمنجنيق، وفعل طاهر مثل ذلك، وأرسل إلى أهل الأرباض من طريق الأنبار وباب الكوفة وما يليها، وكلما أجابه أهل ناحية خندق عليهم، ووضع مسالحه وأعلامه، ومن أبى إجابته والدخول في طاعته ناصبه وقاتله، وأحرق منزله، فكان كذلك يغدو ويروح بقواده وفرسانه ورجالته، حتى أوحشت بغداد، وخاف الناس أن تبقى خرابا، وفي ذلك يقول الحسين الخليع:
اتسرع الرجله إغذاذا ... عن جانبي بغداذ أم ماذا!
ألم تر الفتنة قد ألفت ... الى اولى الفتنة شذاذا
وانتقضت بغداذ عمرانها ... عن رأي لا ذاك ولا هذا
هدما وحرقا قد أبيد أهلها ... عقوبة لاذت بمن لاذا
ما أحسن الحالات إن لم تعد ... بغداذ في القلة بغداذا
قَالَ: وسمى طاهر الأرباض التي خالفه أهلها ومدينة أبي جعفر الشرقية، وأسواق الكرخ والخلد وما والاها دار النكث، وقبض ضياع من

(8/447)


لم ينحز إليه من بني هاشم والقواد والموالي وغلاتهم، حيث كانت من عمله، فذلوا وانكسروا وانقادوا، وذلت الأجناد وتواكلت عن القتال، إلا باعة الطريق والعراة وأهل السجون والأوباش والرعاع والطرارين وأهل السوق وكان حاتم بْن الصقر قد أباحهم النهب، وخرج الهرش والأفارقة، فكان طاهر يقاتلهم لا يفتر عن ذلك ولا يمله، ولا ينى فيه فقال الخريمى يذكر بغداد، ويصف ما كان فيها:
قالوا: ولم يلعب الزمان ببغداد ... وتعثر بها عواثرها
إذ هي مثل العروس باطنها ... مشوق للفتى وظاهرها
جنه خلد ودار مغبطه ... قل من النائبات واترها
درت خلوف الدنيا لساكنها ... وقل معسورها وعاسرها
وانفرجت بالنعيم وانتجعت ... فيها بلذاتها حواضرها
فالقوم منها في روضه انف ... اشرق غب القطار زاهرها
من غره العيش في بلهنية ... لو أن دنيا يدوم عامرها
دار ملوك رست قواعدها ... فيها وقرت بها منابرها
اهل العلا والندى وأندية الفخر ... إذا عددت مفاخرها
أفراخ نعمى في إرث مملكة ... شد عراها لها أكابرها
فلم يزل والزمان ذو غير ... يقدح في ملكها أصاغرها
حتى تساقت كأسا مثملة ... من فتنة لا يقال عاثرها
وافترقت بعد ألفة شيعا ... مقطوعه بينها اواصرها
يا هل رأيت الأملاك ما صنعت ... إذ لم يرعها بالنصح زاجرها
أورد أملاكنا نفوسهم ... هوة غي اعيت مصادرها

(8/448)


ما ضرها لو وفت بموثقها ... واستحكمت في التقى بصائرها
ولم تسافك دماء شيعتها ... وتبتعث فتية تكابرها
وأقنعتها الدنيا التي جمعت ... لها ورعب النفوس ضائرها
ما زال حوض الاملاك يحفره ... مسجورها بالهوى وساجرها
تبغى فضول الدنيا مكاثرة ... حتى أبيحت كرها ذخائرها
تبيع ما جمع الأبوة ... للأبناء لا أربحت متاجرها
يا هل رأيت الجنان زاهرة ... يروق عين البصير زاهرها!
وهل رأيت القصور شارعة ... تكن مثل الدمى مقاصرها
وهل رأيت القرى التي غرس ... الأملاك مخضرة دساكرها
محفوفة بالكروم والنخل و ... الريحان ما يستغل طائرها
فإنها اصبحت خلايا من ... الإنسان قد ادميت محاجرها
قفرا خلاء تعوي الكلاب بها ... ينكر منها الرسوم زائرها
وأصبح البؤس ما يفارقها ... إلفا لها والسرور هاجرها
بزندورد والياسرية والشطين ... حيث انتهت معابرها
ويا ترلحى والخيزرانية العليا ... التي أشرفت قناطرها
وقصر عبدويه عبره وهدى ... لكل نفس زكت سرائرها
فأين حراسها وحارسها ... وأين مجبورها وجابرها!
وأين خصيانها وحشوتها ... وأين سكانها وعامرها
أين الجرادية الصقالب والأحبش ... تعدو هدلا مشافرها
ينصدع الجند عن مواكبها ... تعدو بها سربا ضوامرها.

(8/449)


بالسند والهند والصقالب و ... النوبه شيبت بها برابرها
طيرا أبابيل أرسلت عبثا ... يقدم سودانها أحامرها
أين الظباء الأبكار في روضة الملك ... تهادى بها غرائرها!
أين غضاراتها ولذتها ... وأين محبورها وحابرها!
بالمسك والعنبر اليمان و ... اليلنجوج مشبوبه مجامرها
يرفلن في الخز والمجاسد و ... الموشى محطومه مزامرها
فأين رقاصها وزامرها ... يجبن حيث انتهت حناجرها
تكاد اسماعهم تسك إذا ... عارض عيدانها مزاهرها
أمست كجوف الحمار خالية ... يسعرها بالجحيم ساعرها
كأنما أصبحت بساحتهم ... عاد ومستهم صراصرها
لا تعلم النفس ما يبايتها ... من حادث الدهر أو يباكرها
تضحي وتمسي درية غرضا ... حيث استقرت بها شراشرها
لأسهم الدهر وهو يرشقها ... محنطها مرة وباقرها
يا بؤس بغداد دار مملكة ... دارت على أهلها دوائرها
أمهلها الله ثم عاقبها ... لما أحاطت بها كبائرها
بالخسف والقذف والحريق و ... بالحرب التي أصبحت تساورها
كم قد رأينا من المعاصي ببغداد ... فهل ذو الجلال غافرها!
حلت ببغداد وهي آمنة ... داهية لم تكن تحاذرها
طالعها السوء من مطالعه ... وأدركت أهلها جرائرها
رق بها الدين واستخف بذي ... الفضل وعز النساك فاجرها
وخطم العبد أنف سيده ... بالرغم واستعبدت حرائرها.

(8/450)


وصار رب الجيران فاسقهم ... وابتز أمر الدروب ذاعرها
من ير بغداد والجنود بها ... قد ربقت حولها عساكرها
كل طحون شهباء باسلة ... تسقط أحبالها زماجرها
تلقي بغي الردى أوانسها ... يرهقها للقاء طاهرها
والشيخ يعدو حزما كتائبه ... يقدم اعجازها يعاورها
ولزهير بالفرك مأسدة ... مرقومة صلبة مكاسرها
كتائب الموت تحت ألوية ... أبرح منصورها وناصرها
يعلم أن الأقدار واقعة ... وقعا على ما أحب قادرها
فتلك بغداد ما يبنى من ... الذلة في دورها عصافرها
محفوفة بالردى منطقة ... بالصغر محصورة جبابرها
ما بين شط الفرات منه الى ... دجلة حيث انتهت معابرها
بارك هادي الشقراء نافره ... تركض من حولها أشاقرها
يحرقها ذا وذاك يهدمها ... ويشتفي بالنهاب شاطرها
والكرخ أسواقها معطلة ... يستن عيارها وعائرها
أخرجت الحرب من سواقطها ... آساد غيل غلبا تساورها
من البواري تراسها ومن ... الخوص إذا استلأمت مغافرها
تغدو إلى الحرب في جواشنها ... الصوف إذا ما عدت أساورها
كتائب الهرش تحت رايته ... ساعد طرارها مقامرها
لا الرزق تبغي ولا العطاء ولا ... يحشرها للقاء حاشرها
في كل درب وكل ناحية ... خطارة يستهل خاطرها
بمثل هام الرجال من فلق ... الصخر يزود المقلاع بائرها.

(8/451)


كأنما فوق هامها فرق ... من القطا الكدر هاج نافرها
والقوم من تحتها لهم زجل ... وهي ترامي بها خواطرها
بل هل رأيت السيوف مصلتة ... أشهرها في الأسواق شاهرها
والخيل تستن في أزقتها ... بالترك مسنونة خناجرها
والنفط والنار في طرائقها ... وهابيا للدخان عامرها
والنهب تعدو به الرجال وقد ... أبدت خلاخيلها حرائرها
معصوصبات وسط الأزقة قد ... أبرزها للعيون ساترها
كل رقود الضحى مخبأة ... لم تبد في أهلها محاجرها
بيضة خدر مكنونة برزت ... للناس منشورة غدائرها
تعثر في ثوبها وتعجلها ... كبه خيل ريعت حوافرها
تسأل أين الطريق والهة ... والنار من خلفها تبادرها
لم تجتل الشمس حسن بهجتها ... حتى اجتلتها حرب تباشرها
يا هل رأيت الثكلى مولولة ... في الطرق تسعى والجهد باهرها!
في إثر نعش عليه واحدها ... في صدره طعنه يساورها
فرغاء ينقى الشنار مربدها ... يهزها بالسنان شاجرها
تنظر في وجهه وتهتف بالثكل ... وجارى الدموع حادرها
غرغر بالنفس ثم أسلمها ... مطلولة لا يخاف ثائرها
وقد رأيت الفتيان في عرصة ... المعرك معفوره مناخرها
كل فتى مانع حقيقته ... تشقى به في الوغى مساعرها
باتت عليه الكلاب تنهشه ... مخضوبة من دم أظافرها
أما رأيت الخيول جائلة ... بالقوم منكوبة دوائرها

(8/452)


تعثر بالأوجه الحسان من ... القتلى وغلت دما أشاعرها
يطأن أكباد فتية نجد ... يفلق هاماتهم حوافرها
أما رأيت النساء تحت المجانيق ... تعادي شعثا ضفائرها
عقائل القوم والعجائز و ... العنس لم تحتبر معاصرها
يحملن قوتا من الطحين على ... الأكتاف معصوبه مهاجرها
وذات عيش ضنك ومقعسة ... تشدخها صخرة تعاورها
تسأل عن أهلها وقد سلبت ... وابتز عن راسها غفائرها
يا ليت شعرى والدهر ذو دول ... يرجى وأخرى تخشى بوادرها
هل ترجعن أرضنا كما غنيت ... وقد تناهت بنا مصايرها
من مبلغ ذا الرياستين رسا ... لات تأتى للنصح شاعرها
بأن خير الولاة قد علم ... الناس إذا عددت مآثرها
خليفة الله في بريته ... المأمون منتاشها وجابرها
سمت إليه آمال أمته ... منقادة برها وفاجرها
شاموا حيا العدل من مخايله ... وأصحرت بالتقى بصائرها
وأحمدوا منك سيرة جلت ... الشك وأخرى صحت معاذرها
واستجمعت طاعة برفقك ... للمأمون نجديها وغائرها
وأنت سمع في العالمين له ... ومقلة ما يكل ناظرها
فاشكر لذي العرش فضل نعمته ... اوجب فضل المزيد شاكرها
واحذر فداء لك الرعية و ... الأجناد مأمورها وآمرها
لا تردن غمرة بنفسك لا ... يصدر عنها بالرأي صادرها
عليك ضحضاحها فلا تلج الغمرة ... ملتجة زواخرها
والقصد أن الطريق ذو شعب ... أشأمها وعثها وجائرها

(8/453)


أصبحت في أمة أوائلها ... قد فارقت هديها أواخرها
وأنت سرسورها وسائسها ... فهل على الحق أنت قاسرها!
أدب رجالا رأيت سيرتهم ... خالف حكم الكتاب سائرها
وامدد إلى الناس كف مرحمة ... تسد منهم بها مفاقرها
أمكنك العدل إذ هممت به ... ووافقت مده مقادرها
وأبصر الناس قصد وجههم ... وملكت أمة أخايرها
تشرع أعناقها إليك إذ ... السادات يوما جمت عشائرها
كم عندنا من نصيحة لك في الله ... وقربى عزت زوافرها
وحرمه قربت اواصرها ... منك، وأخرى هل أنت ذاكرها!
سعي رجال في العلم مطلبهم ... رائحها باكر وباكرها
دونك غراء كالوذيلة لا ... تفقد في بلدة سوائرها
لا طمعا قلتها ولا بطرا ... لكل نفس هوى يؤامرها
سيرها الله بالنصيحة و ... الخشيه فاستدمجت مرائرها
جاءتك تحكي لك الأمور كما ... ينشر بز التجار ناشرها
حملتها صاحبا أخا ثقة ... يظل عجبا بها يحاضرها
وفي هذه السنة استأمن الموكلون بقصر صالح من قبل محمد

ذكر خبر وقعه قصر صالح
وفيها كانت الوقعة التي كانت على أصحاب طاهر بقصر صالح.
ذكر الخبر عن هذه الوقعة:
ذكر عن محمد بْن الحسين بْن مصعب، أن طاهرا لم يزل مصابرا محمدا وجنده على ما وصفت من أمره، حتى مل أهل بغداد من قتاله، وأن علي

(8/454)


فراهمرد الموكل بقصري صالح وسليمان بْن أبي جعفر من قبل محمد، كتب إلى طاهر يسأله الأمان، ويضمن له أن يدفع ما في يده من تلك الأموال ومن الناحية إلى الجسور وما فيها من المجانيق والعرادات إليه، وأنه قبل ذلك منه، وأجابه إلى ما سأل، ووجه إليه أبا العباس يوسف بْن يعقوب الباذغيسي صاحب شرطه فيمن ضم إليه من قواده وذوي البأس من فرسانه ليلا، فسلم إليه كل ما كان محمد وكله به من ذلك ليلة السبت للنصف من جمادى الآخرة سنة سبع وتسعين ومائة واستأمن إليه محمد بْن عيسى صاحب شرطه محمد، وكان يقاتل مع الأفارقة وأهل السجون والأوباش، وكان محمد بْن عيسى غير مداهن في أمر محمد، وكان مهيبا في الحرب، فلما استأمن هذان إلى طاهر، أشفى محمد على الهلاك، ودخله من ذلك ما أقامه وأقعده حتى استسلم، وصار على باب أم جعفر يتوقع ما يكون، وأقبلت الغواة من العيارين وباعة الطرق والأجناد، فاقتتلوا داخل قصر صالح وخارجه إلى ارتفاع النهار قَالَ: فقتل في داخل القصر أبو العباس يوسف بْن يعقوب الباذغيسي ومن كان معه من القواد والرؤساء المعدودين، وقاتل فراهمرد وأصحابه خارجا من القصر حتى فل وانحاز إلى طاهر، ولم تكن وقعة قبلها ولا بعدها أشد على طاهر وأصحابه منها، ولا أكثر قتيلا وجريحا معقورا من أصحاب طاهر من تلك الوقعة، فأكثرت الشعراء فيها القول من الشعر، وذكر ما كان فيها من شدة الحرب وقال فيها الغوغاء والرعاع، وكان مما قيل في ذلك قول الخليع:
أمين الله ثق بالله ... تعط الصبر والنصره
كل الأمر إلى الله ... كلاك الله ذو القدره
لنا النصر بعون الله ... والكرة لا الفره
وللمراق أعدائك ... يوم السوء والدبره
وكأس تلفظ الموت ... كريه طعمها مره

(8/455)


سقينا وسقيناهم ... ولكن بهم الحره
كذاك الحرب أحيانا ... علينا ولنا مره
فذكر عن بعض الأبناء أن طاهرا بث رسله، وكتب إلى القواد والهاشميين وغيرهم بعد أن حاز ضياعهم وغلاتهم يدعوهم إلى الأمان والدخول في خلع محمد والبيعة للمأمون، فلحق به جماعة، منهم عبد الله بْن حميد بْن قحطبة الطائي وإخوته، وولد الحسن بْن قحطبة ويحيى بْن علي بْن ماهان ومحمد بْن أبي العاص، وكاتبه قوم من القواد والهاشميين في السر، وصارت قلوبهم وأهواؤهم معه.
قَالَ: ولما كانت وقعة قصر صالح أقبل محمد على اللهو والشرب، ووكل الأمر إلى محمد بْن عيسى بْن نهيك وإلى الهرش، فوضعا مما يليهما من الدروب والأبواب وكلاءهما بأبواب المدينة والأرباض وسوق الكرخ وفرض دجلة وباب المحول والكناسة، فكان لصوصها وفساقها يسلبون من قدروا عليه من الرجال والنساء والضعفاء من اهل الملة والذمة، فكان منهم في ذلك ما لم يبلغنا أن مثله كان في شيء من سائر بلاد الحروب.
قَالَ: ولما طال ذلك بالناس، وضاقت بغداد بأهلها، خرج عنها من كانت به قوة بعد الغرم الفادح والمضايقة الموجعة والخطر العظيم، فأخذ طاهر أصحابه بخلاف ذلك، واشتد فيه، وغلظ على اهل الريب وامر محمد ابن أبي خالد بحفظ الضعفاء والنساء وتجويزهم وتسهيل أمرهم، فكان الرجل والمرأة إذا تخلص من أيدي أصحاب الهرش، وصار إلى أصحاب طاهر ذهب عنه الروع وأمن، وأظهرت المرأة ما معها من ذهب وفضة أو متاع أو بز، حتى قيل: إن مثل أصحاب طاهر ومثل أصحاب الهرش وذويه ومثل الناس إذا تخلصوا، مثل السور الذي قَالَ الله تعالى ذكره: «فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ» فلما طال على الناس ما بلوا به ساءت حالهم، وضاقوا به ذرعا، وفي ذلك يقول بعض فتيان بغداد:

(8/456)


بكيت دما على بغداد لما ... فقدت غضارة العيش الأنيق
تبدلنا هموما من سرور ... ومن سعة تبدلنا بضيق
أصابتها من الحساد عين ... فافنت أهلها بالمنجيق
فقوم أحرقوا بالنار قسرا ... ونائحة تنوح على غريق
وصائحه تنادى وا صباحا ... وباكية لفقدان الشفيق
وحوراء المدامع ذات دل ... مضمخة المجاسد بالخلوق
تفر من الحريق إلى انتهاب ... ووالدها يفر إلى الحريق
وسالبة الغزالة مقلتيها ... مضاحكها كلالاة البروق
حيارى كالهدايا مفكرات ... عليهن القلائد في الحلوق
ينادين الشفيق ولا شفيق ... وقد فقد الشقيق من الشقيق
وقوم أخرجوا من ظل دنيا ... متاعهم يباع بكل سوق
ومغترب قريب الدار ملقى ... بلا رأس بقارعة الطريق
توسط من قتالهم جميعا ... فما يدرون من أي الفريق
فلا ولد يقيم على أبيه ... وقد هرب الصديق بلا صديق
ومهما أنس من شيء تولى ... فإني ذاكر دار الرقيق
وذكر أن قائدا من قواد أهل خراسان ممن كان مع طاهر من أهل النجدة والبأس، خرج يوما إلى القتال، فنظر إلى قوم عراة، لا سلاح معهم، فقال لأصحابه: ما يقاتلنا إلا من أرى، استهانة بأمرهم واحتقارا لهم، فقيل له: نعم هؤلاء الذين ترى هم الآفة، فقال: أف لكم حين تنكصون عن هؤلاء وتخيمون عنهم، وأنتم في السلاح الظاهر، والعده والقوه، ولكم ما لكم من

(8/457)


الشجاعة والنجدة! وما عسى أن يبلغ كيد من أرى من هؤلاء ولا سلاح معهم ولا عدة لهم ولا جنة تقيهم! فأوتر قوسه وتقدم، وابصره بعضهم فقصد نحوه وفي يده بارية مقيرة، وتحت إبطه مخلاة فيها حجارة، فجعل الخراساني كلما رمى بسهم استتر منه العيار، فوقع في باريته أو قريبا منه، فيأخذه فيجعله في موضع من باريته، قد هيأه لذلك، وجعله شبيها بالجعبة وجعل كلما وقع سهم أخذه، وصاح: دانق، أي ثمن النشابة دانق قد أحرزه، ولم يزل تلك حالة الخراساني وحال العيار حتى أنفذ الخراساني سهامه، ثم حمل على العيار ليضربه بسيفه، فأخرج من مخلاته حجرا، فجعله في مقلاع ورماه فما أخطأ به عينه، ثم ثناه بآخر، فكاد يصرعه عن فرسه لولا تحاميه، وكر راجعا وهو يقول: ليس هؤلاء بإنس، قَالَ: فحدثت أن طاهرا حدث بحديثه فاستضحك وأعفى الخراساني من الخروج إلى الحرب، فقال بعض شعراء بغداد في ذلك:
خرجت هذه الحروب رجالا ... لا لقحطانها ولا لنزار
معشرا في جواشن الصوف يغدون ... إلى الحرب كالأسود الضواري
وعليهم مغافر الخوص تجزيهم ... عن البيض، والتراس البواري
ليس يدرون ما الفرار إذا الأبطال ... عاذوا من القنا بالفرار
واحد منهم يشد على الفين ... عريان ماله من إزار
ويقول الفتى إذا طعن الطعنة ... : خذها من الفتى العيار
كم شريف قد أخملته وكم قد ... رفعت من مقامر طرار

ذكر خبر منع طاهر الملاحين من ادخال شيء الى بغداد
قال محمد بن جرير: وفي هذه السنه منع طاهر الملاحين وغيرهم من ادخال شيء الى بغداد الا الى من كان من عسكره منهم، ووضع الرصيد عليهم بسبب ذلك.

(8/458)


ذكر الخبر عما كان منه ومن أصحاب محمد المخلوع في ذلك
وعن السبب الذي من أجله فعل ذلك طاهر:
أما السبب في ذلك فإنه- فيما ذكر- كان أن طاهرا لما قتل من قتل في قصر صالح من أصحابه، ونالهم فيه من الجراح ما نالهم، مضه ذلك وشق عليه، لأنه لم يكن له وقعة إلا كانت له لا عليه، فلما شق عليه أمر بالهدم والإحراق عند ذلك، فهدم دور من خالفه ما بين دجلة ودار الرقيق وباب الشام وباب الكوفه، الى الصراة وارجاء أبي جعفر وربض حميد ونهر كرخايا والكناسة، وجعل يبايت أصحاب محمد ويدالجهم، ويحوي في كل يوم ناحية، ويخندق عليها المراصد من المقاتلة، وجعل أصحاب محمد ينقصون، ويزيدون، حتى لقد كان اصحاب طاهر يهدمون الدار وينصرفون، فيقلع أبوابها وسقوفها أصحاب محمد، ويكونون أضر على أصحابهم من أصحاب طاهر تعديا، فقال شاعر منهم- وذكر أنه عمرو بْن عبد الملك الوراق العتري- في ذلك:
لنا كل يوم ثلمة لا نسدها ... يزيدون فيما يطلبون وننقص
إذا هدموا دارا أخذنا سقوفها ... ونحن لأخرى غيرها نتربص
وإن حرصوا يوما على الشر جهدهم ... فغوغاؤنا منهم على الشر أحرص
فقد ضيقوا من أرضنا كل واسع ... وصار لهم اهل بها، وتعرصوا
يثيرون بالطبل القنيص فإن بدا ... لهم وجه صيد من قريب تقنصوا
لقد أفسدوا شرق البلاد وغربها ... علينا فما ندري إلى أين نشخص!
إذا حضروا قالوا بما يعرفونه ... وان يروا شيئا قبيحا تخرصوا
وما قتل الأبطال مثل مجرب ... رسول المنايا ليلة يتلصص
ترى البطل المشهور في كل بلدة ... إذا ما رأى العريان يوما يبصبص

(8/459)


إذا ما رآه الشمري مقزلا ... على عقبيه للمخافة ينكص
يبيعك رأسا للصبي بدرهم ... فإن قَالَ إني مرخص فهو مرخص
فكم قاتل منا لآخر منهم ... بمقتله عنه الذنوب تمحص
تراه إذا نادى الأمان مبارزا ... ويغمزنا طورا وطورا يخصص
وقد رخصت قراؤنا في قتالهم ... وما قتل المقتول إلا المرخص
وقال أيضا في ذلك:
الناس في الهدم وفي الانتقال ... قد عرض الناس بقيل وقال
يايها السائل عن شأنهم ... عينك تكفيك مكان السؤال
قد كان للرحمن تكبيرهم ... فاليوم تكبيرهم للقتال
اطرح بعينيك إلى جمعهم ... وانتظر الروح وعد الليال
لم يبق في بغداد إلا امرؤ ... حالفه الفقر كثير العيال
لا أم تحمي عن حماها ولا ... خال له يحمي ولا غير خال
ليس له مال سوى مطرد ... مطرده في كفه رأس مال
هان على الله فأجرى على ... كفيه للشقوة قتل الرجال
إن صار ذا الأمر إلى واحد ... صار إلى القتل على كل حال
ما بالنا نقتل من أجلهم ... سبحانك اللهم يا ذا الحلال!
وقال أيضا:
ولست بتارك بغداد يوما ... ترحل من ترحل أو أقاما
إذا ما العيش ساعدنا فلسنا ... نبالي بعد من كان الإماما
قَالَ عمرو بْن عبد الملك العتري: لما رأى طاهر أنهم لا يحفلون بالقتل والهدم والحرق امر عند ذلك بمنع التجار ان يجوزوا بشيء من الدقيق وغيره من

(8/460)


المنافع من ناحيته إلى مدينة أبي جعفر والشرقية والكرخ، وأمر بصرف سفن البصرة وواسط بطرنايا إلى الفرات، ومنه إلى المحول الكبير وإلى الصراة، ومنها إلى خندق باب الأنبار، بما كان زهير بْن المسيب يبذرقه إلى بغداد، وأخذ من كل سفينة فيها حمولة ما بين الألف درهم إلى الألفين والثلاثة، وأكثر وأقل، وفعل عمال طاهر وأصحابه ببغداد في جميع طرقها مثل ذلك وأشد، فغلت الأسعار، وصار الناس في أشد الحصار، فيئسوا او كثير منهم من الفرج والروح، واغتبط من كان خرج منها، وأسف على مقامه من أقام.
وفي هذه السنة استأمن ابن عائشة إلى طاهر، وكان قد قاتل مع محمد حينا بالياسريه
. ذكر خبر وقعه الكناسة
وفيها جعل طاهر قوادا من قواده بنواحي بغداد، فجعل العلاء بْن الوضاح الأزدي في اصحابه ومن ضم اليه بالوضاحيه على المحول الكبير، وجعل نعيم بْن الوضاح أخاه فيمن كان معه من الأتراك وغيرهم مما يلي ربض أبي أيوب على شاطئ الصراة، ثم غادى القتال وراوح أشهرا، وصبر الفريقان جميعا، فكانت لهم فيها وقعة بالكناسة، باشرها طاهر بنفسه، قتل فيها بشر كثير من أصحاب محمد، فقال عمرو بْن عبد الملك:
وقعة يوم الأحد ... صارت حديث الأبد
كم جسد أبصرته ... ملقى وكم من جسد
وناظر كانت له ... منيه بالرصد
أتاه سهم عائر ... فشك جوف الكبد
وصائح يا والدي ... وصائح يا ولدي!

(8/461)


وكم غريق سابح ... كان متين الجلد!
لم يفتقده أحد ... غير بنات البلد
وكم فقيد بئس ... عز على المفتقد
كان من النظارة ... الأولى شديد الحرد
لو أنه عاين ما ... عاينه لم يعد
لم يبق من كهل لهم ... فات ولا من أمرد
وطاهر ملتهم ... مثل التهام الأسد
خيم لا يبرح في ... العرصة مثل اللبد
تقذف عيناه لدى ... الحرب بنار الوقد
فقائل قد قتلوا ... ألفا ولما يزد
وقائل أكثر بل ... ما لهم من عدد
وهارب نحوهم ... يرهب من خوف غد
هيهات لا تبصر ممن ... قد مضى من احد
لا يرجع الماضى الى ... الباقى طوال الأبد
قلت لمطعون وفيه ... روحه لم تبد
من أنت يا ويلك يا ... مسكين من محمد
فقال لا من نسب ... دان ولا من بلد
لم أره قط ولم ... أجد له من صفد
وقال لا للغي ... قاتلت ولا للرشد
إلا لشيء عاجل ... يصير منه في يدي

(8/462)


وذكر عن عمرو بْن عبد الملك أن محمدا أمر زريحا غلامه بتتبع الأموال وطلبها عند أهل الودائع وغيرهم، وأمر الهرش بطاعته، فكان يهجم على الناس في منازلهم، ويبيتهم ليلا، ويأخذ بالظنة، فجبى بذلك السبب أموالا كثيرة، وأهلك خلقا، فهرب الناس بعلة الحج، وفر الأغنياء، فقال القراطيسي في ذلك:
أظهروا الحج وما ينوونه ... بل من الهرش يريدون الهرب
كم أناس أصبحوا في غبطة ... وكل الهرش عليهم بالعطب
كل من راد زريح بيته ... لقى الذل ووافاه الحرب

ذكر خبر وقعه درب الحجاره
وفيها كانت وقعة درب الحجارة.
ذكر الخبر عنها:
ذكر أن هذه الوقعة كانت بحضرة درب الحجارة، وكانت لأصحاب محمد على أصحاب طاهر، قتل فيها خلق كثير، فقال في ذلك عمرو بْن عبد الملك العتري:
وقعة السبت يوم درب الحجارة ... قطعت قطعة من النظاره
ذاك من بعد ما تفانوا ولكن ... أهلكتهم غوغاؤنا بالحجارة
قدم الشورجين للقتل عمدا ... قَالَ إني لكم أريد الإماره
فتلقاه كل لص مريب ... عمر السجن دهره بالشطاره
ما عليه شيء يواريه منه ... أيره قائم كمثل المنارة
فتولوا عنهم وكانوا قديما ... يحسنون الضراب في كل غاره

(8/463)


هؤلا مثل هؤلاك لدينا ... ليس يرعون حق جار وجاره
كل من كان خاملا صار رأسا ... من نعيم في عيشه وغضاره
حامل في يمينه كل يوم ... مطردا فوق رأسه طياره
أخرجته من بيتها أم سوء ... طلب النهب أمه العياره
يشتم الناس ما يبالي ... بإفصاح لذي الشتم لا يشير إشاره
ليس هذا زمان حر كريم ... ذا زمان الأنذال أهل الزعاره
كان فيما مضى القتال قتالا ... فهو اليوم يا علي تجاره
وقال أيضا:
بارية قيرت ظاهرها ... محمد فيها ومنصور
العز والأمن أحاديثهم ... وقولهم قد أخذ السور
وأي نفع لك في سورهم ... وأنت مقتول وما سور؟
قد قتلت فرسانكم عنوة ... وهدمت من دوركم دور
هاتوا لكم من قائد واحد ... مهذب في وجهه نور
يأيها السائل عن شأننا ... محمد في القصر محصور.

ذكر خبر وقعه باب الشماسيه
وفيها أيضا كانت وقعة بباب الشماسية، أسر فيها هرثمة.
ذكر الخبر عن سبب ذلك وكيف كان وإلى ما آل الأمر فيه:
ذكر عن علي بْن يزيد أنه قَالَ: كان ينزل هرثمة نهر بين، وعليه حائط وخندق، وقد أعد المجانيق والعرادات، وأنزل عبيد الله بْن الوضاح الشماسية، وكان يخرج أحيانا، فيقف بباب خراسان مشفقا من اهل

(8/464)


العسكر، كارها للحرب، فيدعو الناس إلى ما هو عليه فيشتمه، ويستخف به فيقف ساعة ثم ينصرف وكان حاتم بْن الصقر من قواد محمد، وكان قد واعد اصحابه الغزاة والعيارين ان يوافوا عبيد الله بْن الوضاح ليلا، فمضوا إلى عبيد الله مفاجأة وهو لا يعلم، فأوقعوا به وقعة أزالوه عن موضعه، وولى منهزما، فأصابوا له خيلا وسلاحا ومتاعا كثيرا، وغلب على الشماسيه حاتم ابن الصقر وبلغ الخبر هرثمة، فأقبل في أصحابه لنصرته، وليرد العسكر عنه إلى موضعه، فوافاه أصحاب محمد، ونشب الحرب بينهم، وأسر رجل من الغزاة هرثمة ولم يعرفه، فحمل بعض أصحاب هرثمة على الرجل، فقطع يده وخلصه، فمر منهزما، وبلغ خبره أهل عسكره، فتقوض بما فيه، وخرج أهله هاربين على وجوههم نحو حلوان، وحجز أصحاب محمد الليل عن الطلب، وما كانوا فيه من النهب والأسر فحدثت أن عسكر هرثمة لم يتراجع أهله يومين، وقويت الغزاة بما سار في أيديهم.
وقيل في تلك الوقعة أشعار كثيرة، فمن ذلك قول عمرو الوراق:
عريان ليس بذي قميص ... يغدو على طلب القميص
يعدو على ذي جوشن ... يعمي العيون من البصيص
في كفه طرادة ... حمراء تلمع كالفصوص
حرصا على طلب القتال ... أشد من حرص الحريص
سلس القياد كأنما ... يغدو على أكل الخبيص
ليثا مغيرا لم يزل ... رأسا يعد من اللصوص
أجرى وأثبت مقدما ... في الحرب من أسد رهيص
يدنو على سنن الهوان ... وعيصه من شر عيص
ينجو إذا كان النجاء ... على أخف من القلوص
ما للكمي إذا لمقتله ... تعرض من محيص

(8/465)


كم من شجاع فارس ... قد باع بالثمن الرخيص
يدعو: ألا من يشتري ... رأس الكمي بكف شيص!
وقال بعض أصحاب هرثمة:
يفنى الزمان وما يفنى قتالهم ... والدور تهدم والأموال تنتقص
والناس لا يستطيعون الذي طلبوا ... لا يدفعون الردى عنهم وإن حرصوا
يأتوننا بحديث لا ضياء له ... في كل يوم لأولاد الزنا قصص
قَالَ: ولما بلغ طاهرا ما صنع الغزاة وحاتم بْن الصقر بعبيد الله بْن الوضاح وهرثمة اشتد ذلك عليه، وبلغ منه، وأمر بعقد جسر على دجلة فوق الشماسية، ووجه أصحابه وعبأهم، وخرج معهم إلى الجسر، فعبروا إليهم وقاتلوهم أشد القتال، وأمدهم بأصحابه ساعة بعد ساعة حتى ردوا أصحاب محمد، وأزالوهم عن الشماسية، ورد المهاجر عبيد الله بْن الوضاح وهرثمة.
قَالَ: وكان محمد أعطى بنقض قصوره ومجالسه الخيزرانيه بعد ظفر الغزاة ألفي ألف درهم، فحرقها أصحاب طاهر كلها، وكانت السقوف مذهبه، وقتلوا من الغزاة والمنتهبين بشرا كثيرا، وفي ذلك يقول عمرو الوراق:
ثقلان وطاهر بْن الحسين ... صبحونا صبيحة الاثنين
جمعوا جمعهم بليل ونادوا ... اطلبوا اليوم ثأركم بالحسين
ضربوا طبلهم فثار إليهم ... كل صلب القناة والساعدين
يا قتيلا بالقاع ملقى على الشط ... هواه بطييء الجبلين
ما الذي في يديك أنت إذا ما ... اصطلح الناس أنت بالخلتين
أوزير أم قائد، بل بعيد ... أنت من ذين موضع الفرقدين
كم بصير غدا بعينين كي ... يبصر ما حالهم فعاد بعين
ليس يخطون ما يريدون ما ... يعمد راميهم سوى الناظرين

(8/466)


سائلي عنهم هم شر من ... أبصرت في الناس ليس غير كذين
شر باق وشر ماض من الناس ... مضى أو رأيت في الثقلين
قَالَ: وبلغ ذلك من فعل طاهر محمدا، فاشتد عليه وغمه واحزنه، فذكر كاتب لكوثر أن محمدا قَالَ- أو قيل على لسانه هذه الأبيات:
منيت بأشجع الثقلين قلبا ... إذا ما طال ليس كما يطول
له مع كل ذي بدن رقيب ... يشاهده ويعلم ما يقول
فليس بمغفل أمرا عنادا ... إذا ما الأمر ضيعه الغفول
وفي هذه السنة ضعف أمر محمد، وأيقن بالهلاك، وهرب عبد الله بْن خازم بْن خزيمة من بغداد إلى المدائن، فذكر عن الحسين بْن الضحاك أن عبد الله بْن خازم بْن خزيمة ظهرت له التهمة من محمد والتحامل عليه من السفلة والغوغاء، فهم على نفسه وماله، فلحق بالمدائن ليلا في السفن بعياله وولده، فأقام بها ولم يحضر شيئا من القتال.
وذكر غيره أن طاهرا كاتبه وحذره قبض ضياعه واستئصاله، فحذره ونجا من تلك الفتنة وسلم، فقال بعض قرائبه في ذلك:
وما جبن ابن خازم من رعاع ... وأوباش الطغام من الأنام
ولكن خاف صولة ضيغمي ... هصور الشد مشهور العرام
فذاع أمره في الناس، ومشى تجار الكرخ بعضهم إلى بعض، فقالوا:
ينبغي لنا أن نكشف أمرنا لطاهر ونظهر له براءتنا من المعونة عليه، فاجتمعوا وكتبوا كتابا أعلموه فيه أنهم أهل السمع والطاعة والحب له، لما يبلغهم من إيثاره طاعة الله والعمل بالحق، والأخذ على يد المريب، وأنهم غير مستحلي النظر إلى الحرب، فضلا عن القتال، وأن الذي يكون حزبه من جانبهم ليس منهم، قد ضاقت بهم طرق المسلمين، حتى ان الرجال الذين بلوا من حربه من جانبهم ليس منهم، ولا لهم بالكرخ دور ولا عقار، وإنما هم

(8/467)


بين طرار وسواط ونطاف، وأهل السجون وإنما مأواهم الحمامات والمساجد، والتجار منهم إنما هم باعه الطريق يتجرون في محقرات البيوع، قد ضاقت بهم طرق المسلمين، حتى إن الرجل ليستقبل المرأة في زحمه الناس فيلتثان قبل التخلص، وحتى أن الشيخ ليسقط لوجهه ضعفا، وحتى أن الحامل الكيس في حجزته وكفه ليطر منه، وما لنا بهم يدان ولا طاقة، ولا نملك لأنفسنا معهم شيئا، وأن بعضنا يرفع الحجر عن الطريق لما جاء فيه من الحديث عن النبي ص، فكيف لو اقتدرنا على من في إقامته عن الطريق، وتخليده السجن، وتنفيته عن البلاد وحسم الشر والشغب ونفى الزعارة والطر والسرق، وصلاح الدين والدنيا، وحاش لله أن يحاربك منا أحد! فذكر أنهم كتبوا بهذا قصه، واتعد قوم على الانسلال إليه بها، فقال لهم أهل الرأي منهم والحزم: لا تظنوا أن طاهرا غبي عن هذا أو قصر عن إذكاء العيون فيكم وعليكم، حتى كأنه شاهدكم، والرأي ألا تشهروا أنفسكم بهذا، فإنا لا نأمن إن رآكم أحد من السفلة أن يكون به هلاككم وذهاب أموالكم، والخوف من تعرضكم لهؤلاء السفلة أعظم من طلبكم براءة الساحة عند طاهر خوفا، بل لو كنتم من أهل الآثام والذنوب لكنتم إلى صفحه وتغمده وعفوه أقرب، فتوكلوا على الله تبارك وتعالى وأمسكوا فأجابوهم وأمسكوا وقال ابن أبي طالب المكفوف:
دعوا أهل الطريق فعن قليل ... تنالهم مخاليب الهصور
فتهتك حجب أفئدة شداد ... وشيكا ما تصير إلى القبور
فإن الله مهلكهم جميعا ... بأسباب التمني والفجور
وذكر أن الهرش خرج ومعه الغوغاء والغزاة ولفيفهم حتى صار إلى جزيرة

(8/468)


العباس، وخرجت عصابة من أصحاب طاهر، فاقتتلوا قتالا شديدا، وكانت ناحية لم يقاتل فيها، فصار ذلك على الوجه بعد ذلك اليوم موضعا للقتال، حتى كان الفتح منه، وكان أول يوم قاتلوا فيه استعلى أصحاب محمد على أصحاب طاهر حتى بلغوا بهم دار ابى يزيد الشروى وخاف أهل الأرباض في تلك النواحي مما يلي طريق باب الأنبار، فذكر أن طاهرا لما رأى ذلك وجه إليهم قائدا من أصحابه، وكان مشتغلا بوجوه كثيرة يقاتل منها اصحاب محمد، فاوقع بهم فيها وقعة صعبة، وغرق في الصراة بشر كثير، وقتل آخرون، فقال في هزيمة طاهر في أول يوم عمرو الوراق:
نادى منادي طاهر عندنا ... يا قوم كفوا واجلسوا في البيوت
فسوف يأتيكم غد فاحذروا ... ليثا هريت الشدق فيه عيوت
فثارت الغوغاء في وجهه ... بعد انتصاف الليل قبل القنوت
في يوم سبت تركوا جمعه ... في ظلمة الليل سمودا خفوت
وقال في الوقعة التي كانت على أصحاب محمد:
كم قتيل قد رأينا ... ما سألناه لايش
دارعا يلقاه عريان ... بجهل وبطيش
إن تلقاه برمح ... يتلقاه بفيش
حبشيا يقتل الناس ... على قطعة خيش
مرتدٍ بالشمس راض ... بالمنى من كل عيش
يحمل الحملة لا يقتل ... إلا رأس جيش
كعلي أفراهمرد ... أو علاء أو قريش
احذر الرمية يا ... طاهر من كف الحبيشي

(8/469)


وقال أيضا عمرو الوراق في ذلك:
ذهبت بهجة بغداد ... وكانت ذات بهجه
فلها في كل يوم ... رجة من بعد رجه
ضجت الأرض إلى الله ... من المنكر ضجه
أيها المقتول ما أنت ... على دين المحجه
ليت شعري ما الذي نلت ... وقد أدلجت دلجه
أإلى الفردوس وجهت ... أم النار توجه
حجر أرداك أم ... أرديت قسرا بالأزجه
إن تكن قاتلت برا ... فعلينا ألف حجه
وذكر عن علي بْن يزيد أن بعض الخدم حدثه أن محمدا أمر ببيع ما بقي في الخزائن التي كانت أنهبت، فكتم ولاتها ما فيها لتسرق، فتضايق على محمد أمره، وفقد ما كان عنده، وطلب الناس الأرزاق، فقال يوما وقد ضجر مما يرد عليه: وددت أن الله عز وجل قتل الفريقين جميعا، وأراح الناس منهم، فما منهم إلا عدو ممن معنا وممن علينا، أما هؤلاء فيريدون مالي، وأما أولئك فيريدون نفسي وذكرت أبياتا قيل إنه قالها:
تفرقوا ودعوني ... يا معشر الأعوان
فكلكم ذو وجوه ... كخلقة الإنسان
وما أرى غير إفك ... وترهات الأماني
ولست أملك شيئا ... فسائلوا خزاني
فالويل لي ما دهاني ... من ساكن البستان

(8/470)


قَالَ: وضعف أمر محمد، وانتشر جنده وارتاع في عسكره، وأحس من طاهر بالعلو عليه وبالظفر به.
وحج بالناس في هذه السنة العباس بْن موسى بْن عيسى بتوجيه طاهر إياه على الموسم بأمر المأمون بذلك وكان على مكة في هذه السنة داود بْن عيسى.

(8/471)


ثم دخلت

سنة ثمان وتسعين ومائة
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)

ذكر خبر استيلاء طاهر على بغداد
فمن ذلك ما كان من خلاف خزيمة بْن خازم محمد بْن هارون ومفارقته إياه واستئمانه إلى طاهر بْن الحسين ودخول هرثمة الجانب الشرقي.
ذكر الخبر عن سبب فراقه إياه وكيف كان الأمر في مصيره والدخول في طاعة طاهر:
ذكر أن السبب في ذلك كان أن طاهرا كتب إلى خزيمة يذكر له أن الأمر إن يقطع بينه وبين محمد ولم يكن له اثر في نصرته، لم يقصر في أمره.
فلما وصل كتابه إليه شاور ثقات أصحابه وأهل بيته، فقالوا له: نرى والله أن هذا الرجل أخذ بقفا صاحبنا، فاحتل لنفسك ولنا، فكتب إلى طاهر بطاعته، وأخبره أنه لو كان هو النازل في الجانب الشرقي مكان هرثمة لكان يحمل نفسه له على كل هول، وأعلمه قلة ثقته بهرثمة، ويناشده ألا يحمله على مكروه من أمره إلا أن يضمن له القيام دونه، وإدخال هرثمة إليه ليقطع الجسور، ويتبع هو أمرا يؤثر رأيه ورضاه، وأنه إن لم يضمن له ذلك، فليس يسعه تعريضه للسفله والغوغاء والرعاع والتلف فكتب طاهر إلى هرثمة يلومه ويعجزه، ويقول: جمعت الأجناد، وأتلفت الأموال، وأقطعتها دون أمير المؤمنين ودوني، وفي مثل حاجتي إلى الكلف والنفقات، وقد وقفت على قوم هينة شوكتهم، يسير أمرهم، وقوف المحجم الهائب، إن في ذلك جرما، فاستعد للدخول، فقد أحكمت الأمر على دفع العسكر وقطع الجسور،

(8/472)


وأرجو ألا يختلف عليك في ذلك اثنان إن شاء الله.
قَالَ: وكتب إليه هرثمة: أنا عارف ببركة رأيك، ويمن مشورتك، فمر بما أحببت، فلن أخالفك، قَالَ: فكتب طاهر بذلك إلى خزيمة.
وقد ذكر أن طاهرا لما كاتب خزيمة كتب أيضا إلى محمد بْن علي بْن عيسى بْن ماهان بمثل ذلك قيل: فلما كانت ليلة الأربعاء لثمان بقين من المحرم سنة ثمان وتسعين ومائة وثب خزيمة بْن خازم ومحمد بْن علي بْن عيسى على جسر دجلة فقطعاه، وركزا أعلامهما عليه، وخلعا محمدا، ودعوا لعبد الله المأمون، وسكن أهل عسكر المهدي ولزموا منازلهم وأسواقهم في يومهم ذلك، ولم يدخل هرثمة حتى مضى إليه نفر يسير غيرهما من القواد، فحلفوا له أنه لا يرى منهم مكروها، فقبل ذلك منهم، فقال حسين الخليع في قطع خزيمة الجسر:
علينا جميعا من خزيمة منة ... بها أخمد الرحمن ثائرة الحرب
تولى أمور المسلمين بنفسه ... فذب وحامى عنهم أشرف الذب
ولولا أبو العباس ما انفك دهرنا ... يبيت على عتب ويغدو على عتب
خزيمة لم ينكر له مثل هذه ... إذا اضطربت شرق البلاد مع الغرب
أناخ بجسري دجلة القطع والقنا ... شوارع والأرواح في راحة العضب
وأم المنايا بالمنايا مخيلة ... تفجع عن خطب، وتضحك عن خطب
فكانت كنار ماكرتها سحابة ... فأطفأت اللهب الملفف باللهب
وما قتل نفس في نفوس كثيرة ... إذا صارت الدنيا إلى الأمن والخصب
بلاء أبي العباس غير مكفر ... إذا فزع الكرب المقيم إلى الكرب
فذكر عن يحيى بْن سلمة الكاتب أن طاهرا غدا يوم الخميس على المدينة الشرقية وأرباضها، والكرخ وأسواقها، وهدم قنطرتي الصراة العتيقة والحديثه

(8/473)


واشتد عندهما القتال، واشتد طاهر على أصحابه، وباشر القتال بنفسه، وقاتل من كان معه بدار الرقيق فهزمهم حتى ألحقهم بالكرخ، وقاتل طاهر بباب الكرخ وقصر الوضاح، فهزمهم أصحاب محمد وردوا على وجوههم، ومر طاهر لا يلوي على أحد حتى دخل قسرا بالسيف وأمر مناديه فنادى بالأمان لمن لزم منزله، ووضع بقصر الوضاح وسوق الكرخ والأطراف قوادا وجندا في كل موضع على قدر حاجته منهم، وقصد إلى مدينة أبي جعفر، فأحاط بها وبقصر زبيدة وقصر الخلد من لدن باب الجسر إلى باب خراسان وباب الشام وباب الكوفة وباب البصرة وشاطئ الصراة إلى مصبها في دجلة بالخيول والعدة والسلاح، وثبت على قتال طاهر حاتم بْن الصقر والهرش والأفارقة، فنصب المجانيق خلف السور على المدينة وبإزاء قصر زبيدة وقصر الخلد ورمى، وخرج محمد بأمه وولده إلى مدينة أبي جعفر، وتفرق عنه عامة جنده وخصيانه وجواريه في السكك والطرق، لا يلوي منهم أحد على أحد، وتفرق الغوغاء والسفلة، وفي ذلك يقول عمرو الوراق:
يا طاهر الظهر الذي ... مثاله لم يوجد
يا سيد بن السيد ... بن السيد بن السيد
رجعت إلى أعمالها ... الأولى غزاة محمد
من بين نطاف وسواط ... وبين مقرد
ومجرد يأوي إلى ... عيارة ومجرد
ومقيد نقب السجون ... فعاد غير مقيد
ومسود بالنهب ساد ... وكان غير مسود
ذلوا لعزك واستكانوا ... بعد طول تمرد
وذكر عن علي بْن يزيد، أنه قَالَ: كنت يوما عند عمرو الوراق أنا وجماعة، فجاء رجل، فحدثنا بوقعة طاهر بباب الكرخ وانهزام الناس عنه،

(8/474)


فقال عمرو: ناولني قدحا، وقال في ذلك:
خذها فللخمرة أسماء ... لها دواء ولها داء
يصلحها الماء إذا صفقت ... يوما وقد يفسدها الماء
وقائل كانت لهم وقعة ... في يومنا هذا وأشياء
قلت له: أنت امرؤ جاهل ... فيك عن الخيرات إبطاء
اشرب ودعنا من أحاديثهم ... يصطلح الناس إذا شاءوا
قَالَ: ودخل علينا آخر، فقال: قاتل فلان الغزاة، وأقدم فلان، وانتهب فلان قَالَ: فقال أيضا:
أي دهر نحن فيه ... مات فيه الكبراء
هذه السفلة والغوغاء ... فينا أمناء
ما لنا شيء من الأشياء ... إلا ما يشاء
ضجت الأرض وقد ضجت ... إلى الله السماء
رفع الدين وقد هانت ... على الله الدماء
يا أبا موسى لك الخيرات ... قد حان اللقاء
هاكها صرفا عقارا ... قد أتاك الندماء
وقال أيضا عمرو الوراق في ذلك:
إذا ما شئت أن تغضب ... جنديا وتستأمر
فقل: يا معشر الأجناد ... قد جاءكم طاهر
قَالَ وتحصن محمد بالمدينة هو ومن يقاتل معه، وحصره طاهر وأخذ عليه الأبواب، ومنع منه ومن أهل المدينة الدقيق والماء وغيرهما

(8/475)


فذكر عن الحسين بْن أبي سعيد أن طارقا الخادم- وكان من خاصة محمد، وكان المأمون بعد مقدمه أخبره أن محمدا سأله يوما من الأيام وهو محصور، أو قَالَ في آخر يوم من أيامه، أن يطعمه شيئا- قَالَ: فدخلت المطبخ فلم أجد شيئا، فجئت الى جمره العطارة- وكانت جارية الجوهر- فقلت لها: إن أمير المؤمنين جائع، فهل عندك شيء، فإني لم أجد في المطبخ شيئا؟ فقالت لجارية لها يقال لها بنان: أي شيء عندك؟ فجاءت بدجاجة ورغيف، فأتيته بهما فأكل، وطلب ماء يشربه فلم يوجد في خزانة الشراب، فأمسى وقد كان عزم على لقاء هرثمة، فما شرب ماء حتى أتى عليه.
وذكر عن محمد بْن راشد أن إبراهيم بْن المهدي أخبره أنه كان نازلا مع محمد المخلوع في مدينة المنصور في قصره بباب الذهب، لما حصره طاهر.
قَالَ: فخرج ذات ليلة من القصر يريد أن يتفرج من الضيق الذي هو فيه، فصار إلى قصر القرار- في قرن الصراة، أسفل من قصر الخلد- في جوف الليل، ثم أرسل إلي فصرت إليه، فقال: يا إبراهيم، أما ترى طيب هذه الليلة، وحسن القمر في السماء، وضوءه في الماء! ونحن حينئذ في شاطئ دجلة، فهل لك في الشرب! فقلت: شأنك، جعلني الله فداك! فدعا برطل نبيذ فشربه، ثم أمر فسقيت مثله قَالَ: فابتدأت أغنيه من غير أن يسألني، لعلمي بسوء خلقه، فغنيت ما كنت أعلم أنه يحبه، فقال لي:
ما تقول فيمن يضرب عليك؟ فقلت: ما أحوجني إلى ذلك، فدعا بجارية متقدمة عنده يقال لها ضعف، فتطيرت من اسمها، ونحن في تلك الحال التي هو عليها، فلما صارت بين يديه، قَالَ: تغني، فغنت بشعر النابغة الجعدى:
كليب لعمري كان أكثر ناصرا ... وأيسر ذنبا منك ضرج بالدم
قَالَ: فاشتد ما غنت به عليه، وتطاير منه، وقال لها: غني غير هذا، فتغنت:

(8/476)


أبكى فراقهم عيني وأرقها ... إن التفرق للأحباب بكاء
ما زال يعدو عليهم ريب دهرهم ... حتى تفانوا وريب الدهر عداء
فقال لها: لعنك الله! أما تعرفين من الغناء شيئا غير هذا! قالت:
يا سيدي، ما تغنيت إلا بما ظننت أنك تحبه، وما أردت ما تكرهه، وما هو إلا شيء جاءني ثم أخذت في غناء آخر:
أما ورب السكون والحرك ... إن المنايا كثيرة الشرك
ما اختلف الليل والنهار ولا ... دارت نجوم السماء في الفلك
إلا لنقل النعيم من ملك ... عان بحب الدنيا إلى ملك
وملك ذي العرش دائم أبدا ... ليس بفان ولا بمشترك
فقال لها: قومي غضب الله عليك! قَالَ: فقامت وكان له قدح بلور حسن الصنعة، وكان محمد يسميه زب رباح، وكان موضوعا بين يديه، فقامت الجارية منصرفة فتعثرت بالقدح فكسرته- قَالَ إبراهيم: والعجب أنا لم نجلس مع هذه الجارية قط إلا رأينا ما نكره في مجلسنا ذلك- فقال لي:
ويحك يا إبراهيم! ما ترى ما جاءت به هذه الجارية، ثم ما كان من أمر القدح! والله ما أظن أمري إلا وقد قرب، فقلت: يطيل الله عمرك، ويعز ملكك، ويديم لك، ويكبت عدوك فما استتم الكلام حتى سمعنا صوتا من دجلة: «قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ» ، فقال: يا إبراهيم، ما سمعت ما سمعت! قلت: لا والله، ما سمعت شيئا- وقد كنت سمعت- قَالَ:
تسمع حسا! قَالَ: فدنوت من الشط فلم أر شيئا، ثم عاودنا الحديث، فعاد الصوت: «قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ» ، فوثب من مجلسه ذلك مغتما، ثم ركب فرجع إلى موضعه بالمدينة، فما كان بعد هذا إلا ليلة أو ليلتان حتى حدث ما حدث من قتله، وذلك يوم الأحد لست- أو لأربع- خلون من صفر، سنة ثمان وتسعين ومائة

(8/477)


وذكر عن أبي الحسن المدائني، قَالَ: لما كان ليلة الجمعة لسبع بقين من المحرم سنة ثمان وتسعين ومائة، دخل محمد بْن هارون مدينة السلام هاربا من القصر الذي كان يقال له الخلد، مما كان يصل إليه من حجارة المنجنيق، وأمر بمجالسه وبسطه أن تحرق فأحرقت، ثم صار إلى المدينة، وذلك لأربع عشرة شهرا، منذ ثارت الحرب مع طاهر الا اثنى عشر يوما
. ذكر الخبر عن قتل الامين
وفي هذه السنة قتل محمد بْن هارون.
ذكر الخبر عن مقتله:
ذكر عن محمد بْن عيسى الجلودي أنه قَالَ: لما صار محمد إلى المدينة، وقر فيها، وعلم قواده أنه ليس لهم ولا له فيها عدة للحصار، وخافوا أن يظفر بهم، دخل على محمد حاتم بْن الصقر ومحمد بْن إبراهيم بْن الأغلب الإفريقي وقواده، فقالوا: قد آلت حالك وحالنا إلى ما ترى، وقد رأينا رأيا نعرضه عليك، فانظر فيه واعتزم عليه، فإنا نرجو أن يكون صوابا، ويجعل الله فيه الخيرة إن شاء الله قَالَ: ما هو؟ قالوا: قد تفرق عنك الناس، وأحاط بك عدوك من كل جانب، وقد بقي من خيلك معك ألف فرس من خيارها وجيادها، فنرى أن نختار من قد عرفناه بمحبتك من الأبناء سبعمائة رجل، فنحملهم على هذه الخيل ونخرج ليلا على باب من هذه الأبواب فإن الليل لأهله، ولن يثبت لنا أحد إن شاء الله، فنخرج حتى نلحق بالجزيرة والشام فتفرض الفروض، وتجبي الخراج، وتصير في مملكة واسعة، وملك جديد، فيسارع إليك الناس، وينقطع عن طلبك الجنود، والى ذلك ما قد أحدث الله عز وجل في مكر الليل والنهار أمورا فقال لهم: نعم ما رأيتم، واعتزم على ذلك.
وخرج الخبر إلى طاهر، فكتب إلى سليمان بْن أبي جعفر، وإلى محمد بْن

(8/478)


عيسى بْن نهيك وإلى السندي بْن شاهك: والله لئن لم تقروه وتردوه عن هذا الرأي لا تركت لكم ضيعة إلا قبضتها، ولا تكون لي همة إلا أنفسكم.
فدخلوا على محمد، فقالوا: قد بلغنا الذي عزمت عليه، فنحن نذكرك الله في نفسك! إن هؤلاء صعاليك، وقد بلغ الأمر إلى ما ترى من الحصار، وضاق عليهم المذهب، وهم يرون ألا أمان لهم على أنفسهم وأموالهم عند أخيك وعند طاهر وهرثمة لما قد انتشر عنهم من مباشره الحرب والجد فيها، ولسنا نأمن إذا برزوا بك، وحصلت في أيديهم أن يأخذوك أسيرا، ويأخذوا رأسك فيتقربوا بك، ويجعلوك سبب أمانهم، وضربوا له فيه الأمثال.
قَالَ محمد بْن عيسى الجلودي: وكان أبي وأصحابه قعودا في رواق البيت الذي محمد وسليمان وأصحابه فيه قَالَ: فلما سمعوا كلامهم، ورأوا أنه قد قبله مخافة أن يكون الأمر على ما قالوا له، هموا أن يدخلوا عليهم فيقتلوا سليمان وأصحابه، ثم بدا لهم وقالوا: حرب من داخل، وحرب من خارج.
فكفوا وأمسكوا.
قَالَ محمد بن عيسى: فلما نكت ذلك في قلب محمد، ووقع في نفسه ما وقع منه، أضرب عما كان عزم عليه، ورجع إلى قبول ما كانوا بذلوا له من الأمان والخروج، فأجاب سليمان والسندي ومحمد بْن عيسى إلى ما سألوه من ذلك، فقالوا: إنما غايتك اليوم السلامة واللهو، وأخوك يتركك حيث أحببت، ويفردك في موضع، ويجعل لك كل ما يصلحك وكل ما تحب وتهوى، وليس عليك منه بأس ولا مكروه فركن إلى ذلك، وأجابهم إلى الخروج إلى هرثمة.
قَالَ محمد بْن عيسى: وكان أبي وأصحابه يكرهون الخروج إلى هرثمة، لأنهم كانوا من أصحابه، وقد عرفوا مذاهبه، وخافوا أن يجفوهم ولا يخصهم، ولا يجعل لهم مراتب، فدخلوا على محمد فقالوا له: إذ أبيت أن تقبل منا ما أشرنا عليك- وهو الصواب- وقبلت من هؤلاء المداهنين، فالخروج الى

(8/479)


طاهر خير لك من الخروج إلى هرثمة قَالَ محمد بْن عيسى: فقال لهم: ويحكم! أنا أكره طاهرا، وذلك أني رأيت في منامي كأني قائم على حائط من آجر شاهق في السماء، عريض الأساس وثيق، لم أر حائطا يشبهه في الطول والعرض والوثاقة، وعلى سوادي ومنطقتي وسيفي وقلنسوتي وخفي، وكان طاهر في أصل ذلك الحائط، فما زال يضرب أصله حتى سقط الحائط وسقطت، وندرت قلنسوتي من رأسي، وأنا أتطير من طاهر، وأستوحش منه، وأكره الخروج إليه لذلك، وهرثمة مولانا وبمنزلة الوالد، وأنا به أشد أنسا وأشد ثقة وذكر عن محمد بْن إسماعيل، عن حفص بْن أرميائيل، أن محمدا لما أراد أن يعبر من الدار بالقرار إلى منزل كان في بستان موسى- وكان له جسر في ذلك الموضع- أمر أن يفرش في ذلك المجلس ويطيب قَالَ: فمكثت ليلتي أنا وأعواني نتخذ الروائح والطيب ونكثب التفاح والرمان والأترج، ونضعه في البيوت، فسهرت ليلتي أنا وأعواني، ولما صليت الصبح دفعت إلى عجوز قطعة بخور من عنبر، فيها مائة مثقال كالبطيخة، وقلت لها: إني سهرت ونعست نعاسا شديدا، ولا بد لي من نومة، فإذا نظرت إلى أمير المؤمنين قد أقبل على الجسر، فضعي هذا العنبر على الكانون وأعطيتها كانونا من فضة صغيرا عليه جمر، وأمرتها أن تنفخ حتى تحرقها كلها، ودخلت حراقة فنمت، فما شعرت إلا وبالعجوز قد جاءت فزعة حتى أيقظتني، فقالت لي:
قم يا حفص، فقد وقعت في بلاء، قلت: وما هو؟ قالت: نظرت إلى رجل مقبل على الجسر منفرد، شبيه الجسم بجسم أمير المؤمنين، وبين يديه جماعة وخلفه جماعة، فلم أشك أنه هو، فأحرقت العنبرة، فلما جاء، فإذا هو عبد الله بْن موسى، وهذا أمير المؤمنين قد أقبل قَالَ: فشتمتها وعنفتها قَالَ: وأعطيتها أخرى مثل تلك لتحرقها بين يديه، ففعلت، وكان هذا من أوائل الأدبار.
وذكر علي بْن يزيد، قَالَ: لما طال الحصار على محمد، فارقه سليمان بْن أبي جعفر وإبراهيم بْن المهدي ومحمد بْن عيسى بْن نهيك، ولحقوا جميعا

(8/480)


بعسكر المهدي، ومكث محمد محصورا في المدينة يوم الخميس ويوم الجمعة والسبت وناظر محمد أصحابه ومن بقي معه في طلب الأمان، وسألهم عن الجهة في النجاة من طاهر، فقال له السندي: والله يا سيدي، لئن ظفر بنا المأمون لعلى رغم منا وتعس جدودنا، وما أرى فرجا إلا هرثمة قَالَ له:
وكيف بهرثمة وقد أحاط الموت بي من كل جانب! وأشار عليه آخرون بالخروج إلى طاهر وقالوا: لو حلفت له بما يتوثق به منك أنك مفوض إليه ملكك، فلعله كان سيركن إليك فقال لهم: أخطأتم وجه الرأي، وأخطأت في مشاورتكم، هل كان عبد الله أخي لو جهد نفسه وولى الأمور برأيه بالغا عشر ما بلغه له طاهر! وقد محصته وبحثت عن رأيه، فما رأيته يميل إلى غدر به، ولا طمع فيما سواه، ولو أجاب إلى طاعتي، وانصرف إلي ثم ناصبني أهل الأرض ما اهتممت بأمر، ولوددت أنه أجاب إلى ذلك، فمنحته خزائني وفوضت إليه أمري، ورضيت أن أعيش في كنفه، ولكني لا أطمع في ذلك منه فقال له السندي: صدقت يا أمير المؤمنين، فبادر بنا إلى هرثمة، فإنه يرى ألا سبيل عليك إذا خرجت إليه من الملك، وقد ضمن إلي أنه مقاتل دونك إن هم عبد الله بقتلك، فاخرج ليلا في ساعة قد نوم الناس فيها، فإني أرجو أن يغبى على الناس أمرنا.
وقال أبو الحسن المدائني: لما هم محمد بالخروج إلى هرثمة، وأجابه إلى ما أراد، اشتد ذلك على طاهر، وأبى أن يرفه عنه ويدعه يخرج، وقال: هو في حيزي والجانب الذي أنا فيه، وأنا أخرجته بالحصار والحرب، حتى صار إلى طلب الأمان، ولا أرضى أن يخرج إلى هرثمة دوني، فيكون الفتح له.
ولما رأى هرثمة والقواد ذلك، اجتمعوا في منزل خزيمة بْن خازم، فصار إليهم طاهر وخاصة قواده، وحضرهم سليمان بْن المنصور ومحمد بْن عيسى بْن نهيك والسندي بْن شاهك، وأداروا الرأي بينهم، ودبروا الأمر، وأخبروا طاهرا أنه لا يخرج إليه أبدا، وأنه إن لم يجب إلى ما سأل لم يؤمن أن يكون الأمر في أمره مثله في أيام الحسين بْن علي بْن عيسى بْن ماهان، فقالوا له:

(8/481)


يخرج ببدنه إلى هرثمة- إذ كان يأمن به ويثق بناحيته، وكان مستوحشا منك، ويدفع إليك الخاتم والقضيب والبردة- وذلك الخلافة- ولا تفسد هذا الأمر واغتنمه إذ يسره الله فأجاب إلى ذلك ورضي به ثم قيل: إن الهرش لما علم بالخبر، أراد التقرب إلى طاهر، فخبره أن الذي جرى بينهم وبينه مكر، وأن الخاتم والبردة والقضيب تحمل مع محمد إلى هرثمة فقبل طاهر ذلك منه، وظن أنه كما كتب به إليه، فاغتاظ وكمن حول قصر أم جعفر وقصور الخلد كمناء بالسلاح ومعهم العتل والفؤوس، وذلك ليلة الأحد لخمس بقين من المحرم سنة ثمان وتسعين ومائة، وفي الشهر السرياني خمسة وعشرون من أيلول.
فذكر الحسن بْن أبي سعيد، قَالَ: أخبرني طارق الخادم، قَالَ: لما هم محمد بالخروج إلى هرثمة عطش قبل خروجه، فطلبت له في خزانة شرابه ماء فلم أجده قَالَ: وأمسى فبادر يريد هرثمة للوعد الذي كان بينه وبينه، ولبس ثياب الخلافة، دراعة وطيلسانا والقلنسوة الطويلة، وبين يديه شمعة.
فلما انتهينا إلى دار الحرس من باب البصرة، قَالَ: اسقني من جباب الحرس، فناولته كوزا من ماء، فعافه لزهوكته فلم يشرب منه، وصار إلى هرثمة.
فوثب به طاهر، وأكمن له نفسه في الخلد، فلما صار إلى الحراقة، خرج طاهر وأصحابه فرموا الحراقة بالسهام والحجارة، فمالوا ناحية الماء، وانكفأت الحراقة، فغرق محمد وهرثمة ومن كان فيها، فسبح محمد حتى عبر وصار إلى بستان موسى، وظن أن غرقه إنما كان حيلة من هرثمة، فعبر دجلة حتى صار إلى قرب الصراة، وكان على المسلحة إبراهيم بن جعفر البلخى ومحمد بن حميد هو ابن أخي شكلة أم إبراهيم بْن المهدي- وكان طاهر ولاه وكان إذا ولى رجلا من أصحابه خراسانيا ضم إليه قوما- فعرفه محمد بْن حميد وهو المعروف بالطاهري، وكان طاهر يقدمه في الولايات، فصاح بأصحابه فنزلوا، فأخذوه، فبادر محمدا لما، فأخذ بساقيه فجذبه، وحمل على

(8/482)


برذون، وألقي عليه إزار من أزر الجند غير مفتول، وصار به إلى منزل إبراهيم بْن جعفر البلخي، وكان ينزل بباب الكوفة، وأردف رجلا خلفه يمسكه لئلا يسقط، كما يفعل بالأسير.
فذكر عن الحسن بْن أبي سعيد، أن خطاب بْن زياد حدثه أن محمدا وهرثمة لما غرقا، بادر طاهر إلى بستان مؤنسة، بإزاء باب الأنبار، موضع معسكره لئلا يتهم بغرق هرثمة قَالَ: فلما انتهى طاهر- ونحن معه في الموكب والحسن ابن علي المأموني والحسن الكبير الخادم للرشيد- إلى باب الشام، لحقنا محمد بْن حميد، فترجل ودنا من طاهر، فأخبره أنه قد أسر محمدا، ووجه به إلى باب الكوفة إلى منزل إبراهيم البلخي قَالَ: فالتفت إلينا طاهر، فأخبرنا الخبر، وقال: ما تقولون؟ فقال له المأموني: مكن، أي لا تفعل فعل حسين ابن علي قَالَ: فدعا طاهر بمولى له يقال له قريش الدنداني، فأمره بقتل محمد قَالَ: وأتبعه طاهر يريد باب الكوفة إلى الموضع.
وأما المدائني فإنه ذكر عن محمد بْن عيسى الجلودي، قَالَ: لما تهيأ للخروج- وكان بعد عشاء الآخرة من ليلة الأحد- خرج إلى صحن القصر، فقعد على كرسي، وعليه ثياب بيض وطيلسان أسود، فدخلنا عليه، فقمنا بين يديه بالأعمدة قَالَ: فجاء كتلة الخادم، فقال: يا سيدي، أبو حاتم يقرئك السلام، ويقول: يا سيدي وافيت للميعاد لحملك، ولكني أرى ألا تخرج الليلة، فإني رأيت في دجلة على الشط أمرا قد رابني، وأخاف أن أغلب فتؤخذ من يدي أو تذهب نفسك، ولكن أقم بمكانك حتى أرجع ثم استعد ثم آتيك القابلة فأخرجك، فإن حوربت حاربت دونك ومعي عدتي قَالَ: فقال له محمد: ارجع إليه، فقل له: لا تبرح، فإني خارج إليك الساعة لا محالة، ولست أقيم إلى غد قَالَ: وقلق وقال: قد تفرق عني الناس ومن على بابي من الموالي والحرس، ولا آمن إن أصبحت وانتهى الخبر بتفريقهم إلى طاهر أن يدخل علي فيأخذني ودعا بفرس له أدهم محذوف أغر محجل، كان يسميه الزهري، ثم دعا بابنيه فضمهما إليه، وشمهما وقبلهما،

(8/483)


وقال: أستودعكما الله، ودمعت عيناه، وجعل يمسح دموعه بكمه، ثم قام فوثب على الفرس، وخرجنا بين يديه إلى باب القصر، حتى ركبنا دوابنا، وبين يديه شمعة واحدة فلما صرنا الى الطاقات مما يلى باب خراسان، قَالَ لي أبي: يا محمد، ابسط يدك عليه، فإني أخاف أن يضربه إنسان بالسيف، فإن ضرب كان الضرب بك دونه قَالَ: فألقيت عنان فرسي بين معرفته، وبسطت يدي عليه حتى انتهينا إلى باب خراسان، فأمرنا به ففتح، ثم خرجنا إلى المشرعة، فإذا حراقة هرثمة، فرقي إليها، فجعل الفرس يتلكأ وينفر، وضربه بالسوط وحمله عليها، حتى ركبها في دجلة، فنزل في الحراقة، وأخذنا الفرس، ورجعنا إلى المدينة، فدخلناها وأمرنا بالباب فأغلق، وسمعنا الواعية، فصعدنا على القبة التي على الباب، فوقفنا فيها نسمع الصوت.
فذكر عن أحمد بْن سلام صاحب المظالم أنه قَالَ: كنت فيمن ركب مع هرثمة من القواد في الحراقة، فلما نزلها محمد قمنا على أرجلنا إعظاما، وجثى هرثمة على ركبتيه، وقال له: يا سيدي، ما أقدر على القيام لمكان النقرس الذي بي، ثم احتضنه وصيره في حجره، ثم جعل يقبل يديه ورجليه وعينيه، ويقول: يا سيدي ومولاي وابن سيدي ومولاي قَالَ: وجعل يتصفح وجوهنا، قَالَ: ونظر إلى عبيد الله بْن الوضاح، فقال له: أيهم أنت؟ قَالَ:
أنا عبيد الله بْن الوضاح، قَالَ: نعم، فجزاك الله خيرا، فما أشكرني لما كان منك من أمر الثلج! ولو قد لقيت أخي أبقاه الله لم أدع أن أشكرك عنده، وسألته مكافأتك عني قَالَ: فبينا نحن كذلك- وقد أمر هرثمة بالحراقة أن تدفع- إذ شد علينا أصحاب طاهر في الزواريق والشذوات وعطعطوا وتعلقوا بالسكان، فبعض يقطع السكان، وبعض ينقب الحراقة، وبعض يرمي بالآجر والنشاب قَالَ: فنقبت الحراقة، فدخلها الماء فغرقت، وسقط هرثمة إلى الماء، فأخرجه ملاح، وخرج كل واحد منا على حيله، ورايت

(8/484)


محمدا حين صار إلى تلك الحال قد شق عليه ثيابه، ورمى بنفسه إلى الماء.
قَالَ: فخرجت إلى الشط، فعلقني رجل من أصحاب طاهر، فمضى بي إلى رجل قاعد على كرسي من حديد على شط دجلة في ظهر قصر أم جعفر، بين يديه نار توقد، فقال بالفارسية: هذا رجل خرج من الماء ممن غرق من أهل الحراقة، فقال لي: من أنت؟ قلت: من أصحاب هرثمة، انا احمد ابن سلام صاحب شرطة مولى أمير المؤمنين، قَالَ: كذبت فاصدقني، قَالَ: قلت قد صدقتك، قَالَ: فما فعل المخلوع؟ قلت: قد رأيته حين شق عليه ثيابه، وقذف بنفسه في الماء قَالَ: قدموا دابتي، فقدموا دابته، فركب وأمر بي أن أجنب قَالَ: فجعل في عنقي حبل وجنبت، وأخذ في درب الرشدية، فلما انتهى إلى مسجد أسد بْن المرزبان، انبهرت من العدو فلم أقدر أن أعدو، فقال الذي يجنبني: قد قام هذا الرجل، وليس يعدو، قال: انزل، فحذ رأسه، فقلت له: جعلت فداك! لم تقتلني وأنا رجل علي من الله نعمة، ولم أقدر على العدو، وأنا أفدي نفسي بعشرة آلاف درهم قَالَ: فلما سمع ذكر العشرة آلاف درهم، قلت: تحبسني عندك حتى تصبح وتدفع إلي رسولا حتى أرسله إلى وكيلي في منزلي في عسكر المهدي، فإن لم يأتك بالعشرة آلاف فاضرب عنقي قَالَ: قد أنصفت، فأمر بحملي، فحملت ردفا لبعض أصحابه، فمضى بي إلى دار صاحبه، دار أبي صالح الكاتب، فأدخلني الدار، وأمر غلمانه أن يحتفظوا بي، وتقدم إليهم، وأوعز وتفهم مني خبر محمد ووقوعه في الماء، ومضى إلى طاهر ليخبره خبره، فإذا هو إبراهيم البلخي قَالَ: فصيرني غلمانه في بيت من بيوت الدار فيه بوار ووسادتان أو ثلاث- وفي رواية حصر مدرجة- قَالَ: فقعدت في البيت، وصيروا فيه سراجا، وتوثقوا من باب الدار، وقعدوا يتحدثون قَالَ: فلما ذهب من الليل ساعة، إذا نحن بحركة الخيل فدقوا الباب، ففتح لهم، فدخلوا وهم يقولون: يسر زبيدة قَالَ: فأدخل علي رجل عريان عليه سراويل وعمامة متلثم بها، وعلى كتفيه خرقة خلقة، فصيروه معي، وتقدموا إلى من في الدار في حفظه، وخلفوا معهم قوما آخرين أيضا منهم

(8/485)


قَالَ: فلما استقر في البيت حسر العمامة عن وجهه، فإذا هو محمد، فاستعبرت واسترجعت فيما بيني وبين نفسي قَالَ: وجعل ينظر إلي، ثم قَالَ:
أيهم أنت؟ قَالَ: قلت: أنا مولاك يا سيدي، قَالَ: وأي الموالي؟ قلت:
أحمد بْن سلام صاحب المظالم، فقال: وأعرفك بغير هذا، كنت تأتيني بالرقة؟
قَالَ: قلت: نعم، قَالَ: كنت تأتيني وتلطفني كثيرا، لست مولاي بل أنت أخي ومني ثم قَالَ: يا أحمد، قلت: لبيك يا سيدي، قال: ادن منى وضمني إليك، فانى أجد وحشة شديدة قَالَ: فضممته إلي، فإذا قلبه يخفق خفقا شديدا كاد أن يفرج عن صدره فيخرج قَالَ: فلم أزل أضمه إلي وأسكنه قَالَ: ثم قَالَ: يا أحمد، ما فعل أخي؟ قَالَ: قلت: هو حي، قَالَ: قبح الله صاحب بريدهم ما أكذبه! كان يقول: قد مات، شبه المعتذر من محاربته، قال: قلت: بل قبح الله وزراءك! قَالَ: لا تقل لوزرائي إلا خيرا، فما لهم ذنب، ولست بأول من طلب أمرا فلم يقدر عليه قَالَ: ثم قَالَ: يا أحمد، ما تراهم يصنعون بي؟ أتراهم يقتلوني أو يفون لي بأيمانهم؟ قَالَ:
قلت: بل يفون لك يا سيدي قَالَ: وجعل يضم على نفسه الخرقة التي على كتفيه، ويضمها ويمسكها بعضده يمنة ويسرة قَالَ: فنزعت مبطنة كانت علي ثم قلت: يا سيدي، ألق هذه عليك قَالَ: ويحك! دعني، هذا من الله عز وجل، لي في هذا الموضع خير.
قَالَ: فبينا نحن كذلك، إذ دق باب الدار، ففتح، فدخل علينا رجل عليه سلاحه، فتطلع في وجهه مستثبتا له، فلما أثبته معرفة، انصرف وغلق الباب، وإذا هو محمد بْن حميد الطاهري، قَالَ: فعلمت أن الرجل مقتول.
قَالَ: وكان بقي علي من صلاتي الوتر، فخفت أن أقتل معه ولم أوتر، قَالَ:
فقمت أوتر، فقال لي: يا أحمد، لا تتباعد مني، وصل إلى جانبي، أجد وحشة شديدة قَالَ: فاقتربت منه، فلما انتصف الليل أو قارب، سمعت حركة الخيل، ودق الباب، ففتح، فدخل الدار قوم من العجم بأيديهم السيوف مسللة، فلما رآهم قام قائما، وقال: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! ذهبت والله

(8/486)


نفسي في سبيل الله! أما من حيلة! أما من مغيث! أما من أحد من الأبناء! قَالَ: وجاءوا حتى قاموا على باب البيت الذي نحن فيه، فأحجموا عن الدخول، وجعل بعضهم يقول لبعض: تقدم، ويدفع بعضهم بعضا قَالَ: فقمت فصرت خلف الحصر المدرجة في زاوية البيت، وقام محمد، فأخذ بيده وسادة، وجعل يقول: ويحكم! إني ابن عم رسول الله ص، أنا ابن هارون، وأنا أخو المأمون، الله الله في دمي! قَالَ: فدخل عليه رجل منهم يقال له خمارويه- غلام لقريش الدنداني مولى طاهر- فضربه بالسيف ضربة وقعت على مقدم رأسه، وضرب محمد وجهه بالوسادة التي كانت في يده، واتكأ عليه ليأخذ السيف من يده فصاح خمارويه: قتلني قتلني- بالفارسية قَالَ: فدخل منهم جماعة، فنخسه واحد منهم بالسيف في خاصرته، وركبوه فذبحوه ذبحا من قفاه، وأخذوا رأسه، فمضوا به إلى طاهر، وتركوا جثته.
قَالَ: ولما كان في وقت السحر جاءوا إلى جثته فأدرجوها في جل، وحملوها.
قَالَ: فأصبحت فقيل لي: هات العشرة آلاف درهم وإلا ضربنا عنقك.
قَالَ: فبعثت إلى وكيلي فأتاني، فأمرته فأتاني بها، فدفعتها إليه قَالَ: وكان دخول محمد المدينة يوم الخميس، وخرج إلى دجلة يوم الأحد وذكر عن أحمد بْن سلام في هذه القصة أنه قَالَ: قلت لمحمد لما دخل علي البيت وسكن: لا جزى الله وزراءك خيرا، فإنهم أوردوك هذا المورد! فقال لي: يا أخي، ليس بموضع عتاب ثم قَالَ: أخبرني عن المأمون أخي، أحي هو؟ قلت: نعم، هذا القتال عمن إذا! هو إلا عنه! قَالَ: فقال لي:
أخبرني يحيى أخو عامر بْن إسماعيل بْن عامر- وكان يلي الخبر في عسكر هرثمة- أن المأمون مات، فقلت له: كذب قَالَ: ثم قلت له: هذا الإزار الذي عليك إزار غليظ فالبس إزاري وقميصي هذا فإنه لين، فقال لي: من كانت حاله مثل حالي فهذا له كثير قَالَ: فلقنته ذكر الله والاستغفار، فجعل يستغفر قَالَ: وبينا نحن كذلك، إذ هدة تكاد الأرض ترجف منها، وإذا أصحاب طاهر قد دخلوا الدار وأرادوا البيت، وكان في الباب ضيق، فدافعهم محمد بمجنة كانت معه في البيت، فما وصلوا إليه حتى عرقبوه، ثم

(8/487)


هجموا عليه، فحزوا رأسه واستقبلوا به طاهرا، وحملوا جثته إلى بستان مؤنسة إلى معسكره، إذ أقبل عبد السلام بْن العلاء صاحب حرس هرثمة فأذن له- وكان عبر إليه على الجسر الذي كان بالشماسية- فقال له: أخوك يقرئك السلام، فما خبرك؟ قَالَ: يا غلام، هات الطس، فجاءوا به وفيه رأس محمد، فقال: هذا خبري فأعلمه فلما أصبح نصب رأس محمد على باب الأنبار، وخرج من أهل بغداد للنظر إليه ما لا يحصى عددهم، وأقبل طاهر يقول: رأس المخلوع محمد.
وذكر محمد بْن عيسى أنه رأى المخلوع على ثوبه قملة، فقال: ما هذا؟
فقالوا: شيء يكون في ثياب الناس، فقال: أعوذ بالله من زوال النعمة! فقتل من يومه.
وذكر عن الحسن بْن أبي سعيد أن الجندين: جند طاهر وجند أهل بغداد، ندموا على قتل محمد، لما كانوا يأخذون من الأموال.
وذكر عنه أنه ذكر أن الخزانة التي كان فيها رأس محمد ورأس عيسى ابن ماهان ورأس أبي السرايا كانت إليه قَالَ: فنظرت في رأس محمد، فإذا فيه ضربة في وجهه، وشعر رأسه ولحيته صحيح لم يتحات منه شيء، ولونه على حاله قَالَ: وبعث طاهر برأس محمد إلى المأمون مع البردة والقضيب والمصلى- وهو من سعف مبطن- مع محمد بْن الحسن بْن مصعب ابن عمه، فامر له بألف الف درهم، فرايت ذا الرياستين، وقد أدخل رأس محمد على ترس بيده إلى المأمون، فلما رآه سجد.
قَالَ الحسن: فأخبرني ابن أبي حمزة، قَالَ: حدثني علي بْن حمزة العلوي، قَالَ: قدم جماعة من آل أبي طالب على طاهر وهو بالبستان حين قتل محمد بن زبيدة ونحن بالحضرة، فوصلهم ووصلنا، وكتب إلى المأمون بالإذن لنا أو لبعضنا، فخرجنا إلى مرو، وانصرفنا إلى المدينة، فهنئونا بالنعمة، ولقينا من بها من أهلها وسائر أهل المدينة، فوصفنا لهم قتل محمد، وأن طاهر بْن الحسين دعا مولى يقال له قريش الدنداني، وأمره بقتله قَالَ: فقال لنا شيخ منهم:

(8/488)


كيف قلت! فأخبرته، فقال الشيخ: سبحان الله! كنا نروي هذا أن قريشا يقتله، فذهبنا إلى القبيلة، فوافق الاسم الاسم! وذكر عن محمد بْن أبي الوزير أن علي بْن محمد بْن خالد بْن برمك أخبره أن إبراهيم بْن المهدي لما بلغه قتل محمد، استرجع وبكى طويلا، ثم قَالَ:
عوجا بمغنى طلل داثر بالخلد ذات الصخر والآجر والمرمر المسنون يطلى به والباب باب الذهب الناضر عوجا بها فاستيقنا عندها على يقين قدرة القادر وأبلغا عني مقالا إلى المولى على المأمور والأمر قولا له: يا بن ولي الهدى طهر بلاد الله من طاهر لم يكفه أن حز أوداجه ذبح الهدايا بمدى الجازر حتى أتى يسحب أوصاله في شطن يفنى مدى السائر قد برد الموت على جنبه وطرفه منكسر الناظر قَالَ: وبلغ ذلك المأمون فاشتد عليه.
وذكر عن المدائني أن طاهرا كتب إلى المأمون بالفتح:
أما بعد، فالحمد لله المتعالي ذي العزة والجلال، والملك والسلطان، الذي إذا أراد أمرا فإنما يقول له كن فيكون، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم.
كان فيما قدر الله فأحكم، ودبر فأبرم، انتكاث المخلوع ببيعته، وانتقاضه بعهده، وارتكاسه في فتنته، وقضاؤه عليه القتل بما كسبت يداه وما الله بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ* وقد كتبت إلى أمير المؤمنين- أطال الله بقاءه- في

(8/489)


إحاطة جند الله بالمدينة والخلد، وأخذهم بأفواهها وطرقها ومسالكها في دجلة نواحي أزقة مدينة السلام وانتظام المسالح حواليها وحدرى السفن والزواريق بالعرادات والمقاتلة، إلى ما واجه الخلد وباب خراسان، تحفظا بالمخلوع، وتخوفا من أن يروغ مراغا، ويسلك مسلكا يجد به السبيل إلى اثاره فتنه، واحياء ثائره، أو يهايج قتالا بعد أن حصره الله عز وجل وخذله، ومتابعة الرسل بما يعرض عليه هرثمة بْن أعين مولى أمير المؤمنين، ويسألني من تخلية الطريق له في الخروج إليه واجتماعي وهرثمة بْن أعين، لنتناظر في ذلك، وكراهتي ما أحدث وراءه من أمره بعد إرهاق الله إياه، وقطعه رجاءه من كل حيلة ومتعلق، وانقطاع المنافع عنه، وحيل بينه وبين الماء، فضلا عن غيره، حتى هم به خدمه وأشياعه من أهل المدينة ومن نجا معه إليها، وتحزبوا على الوثوب به للدفع عن أنفسهم والنجاة بها، وغير ذلك مما فسرت لأمير المؤمنين أطال الله بقاءه مما أرجو أن يكون قد أتاه.
وإني أخبر أمير المؤمنين أني رويت فيما دبر هرثمة بْن أعين مولى أمير المؤمنين في المخلوع، وما عرض عليه وأجابه إليه، فوجدت الفتنة في تخلصه من موضعه الذي قد أنزله الله فيه بالذلة والصغار وصيره فيه إلى الضيق والحصار تزداد، ولا يزيد أهل التربص في الأطراف إلا طمعا وانتشارا، وأعلمت ذلك هرثمة بْن أعين، وكراهتي ما أطمعه فيه وأجابه إليه، فذكر أنه لا يرى الرجوع عما أعطاه، فصادرته- بعد يأس من انصرافه- عن رأيه، على أن يقدم المخلوع رداء رسول الله ص وسيفه وقضيبه قبل خروجه، ثم أخلى له طريق الخروج إليه، كراهة أن يكون بيني وبينه اختلاف نصير منه إلى أمر يطمع الأعداء فينا، أو فراق القلوب بخلاف ما نحن عليه من الائتلاف والاتفاق على ذلك، وعلى أن نجتمع لميعادنا عشية السبت.
فتوجهت في خاصة ثقاتي الذين اعتمدت عليهم، وأثق بهم، بربط الجأش، وصدق البأس، وصحة المناصحة، حتى طالعت جميع أمر كل

(8/490)


من كنت وكلت بالمدينة والخلد برا وبحرا، والتقدمة إليهم في التحفظ والتيقظ والحراسة والحذر، ثم انكفأت إلى باب خراسان، وكنت أعددت حراقات وسفنا، سوى العدة التي كانت لأركبها بنفسي لوقت ميعادي بيني وبين هرثمة، فنزلتها في عدة ممن كان ركب معي من خاصة ثقاتي وشاكريتي، وصيرت عدة منهم فرسانا ورجالة بين باب خراسان والمشرعة وعلى الشط وأقبل هرثمة بْن أعين حتى صار بقرب باب خراسان معدا مستعدا، وقد خاتلني بالرسالة إلى المخلوع إلى أن يخرج إليه إذا وافى المشرعة، ليحمله قبل أن أعلم، أو يبعث إلي بالرداء والسيف والقضيب، على ما كان فارقني عليه من ذلك فلما وافى خروج المخلوع على من وكلت بباب خراسان، نهضوا عند طلوعه عليهم ليعرفوا الطابع لأمري كان أتاهم، وتقدمي إليهم ألا يدعو أحدا يجوزهم إلا بأمري فبادرهم نحو المشرعة، وقرب هرثمة إليه الحراقة، فسبق الناكث أصحابي إليها، وتأخر كوثر، فظفر به قريش مولاي، ومعه الرداء والقضيب والسيف، فأخذه وما معه، فنفر اصحاب المخلوع عند ما رأوا من إرادة أصحابي منع مخلوعهم من الخروج، فبادر بعضهم حراقة هرثمة، فتكفأت بهم حتى أغرقت في الماء ورسبت، فانصرف بعضهم إلى المدينة، ورمى المخلوع عند ذلك بنفسه من الحراقة في دجلة متخلصا إلى الشط، نادما على ما كان من خروجه، ناقضا للعهد، داعيا بشعاره، فابتدره عدة من أوليائي الذين كنت وكلتهم بما بين مشرعة باب خراسان وركن الصراة، فأخذوه عنوة قهرا بلا عهد ولا عقد، فدعا بشعاره، وعاد في نكثه، فعرض عليهم مائة حبة، ذكر أن قيمة كل حبة مائة ألف درهم، فأبوا إلا الوفاء لخليفتهم أبقاه الله، وصيانة لدينهم، وإيثارا للحق الواجب عليهم، فتعلقوا به، قد أسلمه الله وأفرده، كل يرغبه، ويريد أن يفوز بالحظوة عندي دون صاحبه، حتى اضطربوا فيما بينهم، وتناولوه

(8/491)


بأسيافهم منازعة فيه، وتشاحا عليه، إلى أن اتيح له مغيظ لله ودينه ورسوله وخليفته، فاتى عليه وأتاني الخبر بذلك، فأمرت بحمل رأسه إلي، فلما أتيت به تقدمت إلى من كنت وكلت بالمدينة والخلد وما حواليها وسائر من في المسالح، في لزوم مواضعهم، والاحتفاظ بما يليهم، إلى أن يأتيهم أمري.
ثم انصرفت فأعظم الله لأمير المؤمنين الصنع والفتح عليه وعلى الإسلام به وفيه.
فلما أصبحت هاج الناس واختلفوا في المخلوع، فمصدق بقتله، ومكذب وشاك وموقن، فرأيت أن أطرح عنهم الشبهة في أمره، فمضيت برأسه، لينظروا إليه فيصح بعينهم، وينقطع بذلك بعل قلوبهم، ودخل التياث المستشرفين للفساد والمستوفزين للفتنة، وغدوت نحو المدينة فاستسلم من فيها، وأعطى أهلها الطاعة، واستقام لأمير المؤمنين شرقي ما يلي مدينة السلام وغربيه وأرباعه وأرباضه ونواحيه، وقد وضعت الحرب أوزارها وتلافى بالسلام والإسلام أهله، وبعد الله الدغل عنهم، وأصارهم ببركة أمير المؤمنين إلى الأمن والسكون والدعة والاستقامة والاغتباط، والصنع من الله جل وعز والخيرة، والحمد لله على ذلك.
فكتبت إلى أمير المؤمنين حفظه الله، وليس قبلي داع إلى فتنة، ولا متحرك ولا ساع في فساد، ولا أحد إلا سامع مطيع باخع حاضر، قد أذاقه الله حلاوة أمير المؤمنين ودعة ولايته، فهو يتقلب في ظلها، يغدو في متجره ويروح في معايشه، والله ولى صنع من ذلك، والمتمم له، والمان بالزيادة فيه برحمته.
وانا اسال الله ان تهني أمير المؤمنين نعمته، ويتابع له فيها مزيده ويوزعه عليها شكره، وأن يجعل منته لديه متواليه دائما متواصلة، حتى يجمع الله له خير الدنيا والآخرة، ولأوليائه وأنصار حقه ولجماعة المسلمين ببركته وبركة ولايته ويمن خلافته، إنه ولي ذلك منهم وفيه، إنه سميع لطيف لما يشاء

(8/492)


وكتب يوم الأحد لأربع بقين من المحرم سنة ثمان وتسعين ومائة.
وذكر عن محمد المخلوع انه قبل مقتله، وبعد ما صار في المدينة، ورأى الأمر قد تولى عنه، وأنصاره يتسللون فيخرجون إلى طاهر، قعد في الجناح الذي كان عمله على باب الذهب- وكان تقدم في بنائه قبل ذلك- وأمر بإحضار كل من كان معه في المدينة من القواد والجند، فجمعوا في الرحبة، فأشرف عليهم، وقال:
الحمد لله الذي يرفع ويضع، ويعطي ويمنع، ويقبض ويبسط، وإليه المصير أحمده على نوائب الزمان، وخذلان الأعوان، وتشتت الرجال، وذهاب الأموال، وحلول النوائب، وتوفد المصائب، حمدا يدخر لي به أجزل الجزاء، ويرفدني أحسن العزاء وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شريك له كما شهد لنفسه، وشهدت له ملائكته، وأن محمدا عبده الامين، ورسوله الى المسلمين، ص، آمين رب العالمين.
أما بعد يا معشر الأبناء، وأهل السبق إلى الهدى، فقد علمتم غفلتي كانت أيام الفضل بْن الربيع وزير علي ومشير، فمادت به الأيام بما لزمني به من الندامة في الخاصة والعامة، إلى ان نبهتمونى فانتبهت، واستعنتموني في جميع ما كرهتهم من نفسي وفيكم، فبذلت لكم ما حواه ملكي، ونالته مقدرتي، مما جمعته وورثته عن آبائي، فقودت من لم يجز، واستكفيت من لم يكف، واجتهدت- علم الله- في طلب رضاكم بكل ما قدرت عليه، واجتهدتم- علم الله- في مساءتي في كل ما قدرتم عليه، من ذلك توجيهى إليكم علي بْن عيسى شيخكم وكبيركم وأهل الرأفة بكم والتحنن عليكم، فكان منكم ما يطول ذكره، فغفرت الذنب، وأحسنت واحتملت، وعزيت نفسي عند معرفتي بشرود الظفر، وحرصي على مقامكم مسلحة بحلوان مع ابن كبير صاحب دعوتكم، ومن على يدي أبيه كان فخركم، وبه تمت طاعتكم: عبد الله بْن حميد بْن قحطبة، فصرتم من التألب عليه إلى ما لا طاقة

(8/493)


له به، ولا صبر عليه يقودكم رجل منكم وأنتم عشرون ألفا، الى عامدين، وعلى سيدكم متوثبين مع سعيد الفرد، سامعين له مطيعين ثم وثبتم مع الحسين علي، فخلعتموني وشتمتموني، وانتهبتموني وحبستموني، وقيدتموني، وأشياء منعتموني من ذكرها، حقد قلوبكم وتلكؤ طاعتكم أكبر وأكثر.
فالحمد لله حمد من أسلم لأمره، ورضي بقدره، والسلام وقيل: لما قتل محمد، وارتفعت الثائرة، وأعطي الأمان الأبيض والأسود، وهدأ الناس، ودخل طاهر المدينة يوم الجمعة، فصلى بالناس، وخطبهم خطبة بليغة، نزع فيها من قوارع القرآن، فكان مما حفظ من ذلك أن قَالَ:
الحمد لله مالك الملك يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الخير وهو عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
في آي من القرآن أتبع بعضها بعضا، وحض على الطاعة ولزوم الجماعة، ورغبهم في التمسك بحبل الطاعة وانصرف إلى معسكره.
وذكر أنه لما صعد المنبر يوم الجمعة، وحضره من بني هاشم والقواد وغيرهم جماعة كثيرة، قَالَ:
الحمد لله مالك الملك، يؤتيه من يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير، وهو عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لا يصلح عمل المفسدين، ولا يهدي كيد الخائنين، إن ظهور غلبتنا لم يكن من أيدينا ولا كيدنا، بل اختار الله للخلافة إذ جعلها عمادا لدينه، وقواما لعباده، وضبط الأطراف وسد الثغور، وإعداد العدة، وجمع الفيء، وإنفاذ الحكم، ونشر العدل، وإحياء السنة، بعد إذبال البطالات، والتلذذ بموبق الشهوات والمخلد إلى الدنيا مستحسن لداعي غرورها، محتلب دره نعمتها، الف لزهره روضتها، كلف برونق بهجتها وقد رأيتم من وفاء موعود الله عز وجل لمن بغى عليه، وما أحل به من بأسه ونقمته، لما نكب عن عهده، وارتكب معصيته، وخالف أمره، وغيره ناهيه، وعظته مرديه، فتمسكوا بوثائق عصم الطاعة، واسلكوا مناحي سبيل الجماعة، واحذروا مصارع أهل الخلاف

(8/494)


والمعصية، الذين قدحوا زناد الفتنة، وصدعوا شعب الألفة، فأعقبهم الله خسار الدنيا والآخرة.
ولما فتح طاهر بغداد كتب إلى أبي إسحاق المعتصم- وقد ذكر بعضهم أنه إنما كتب بذلك إلى إبراهيم بْن المهدي، وقال الناس: كتبه إلى أبي إسحاق المعتصم:
أما بعد، فإنه عزيز علي أن أكتب إلى رجل من أهل بيت الخلافة بغير التأمير، ولكنه بلغني أنك تميل بالرأي، وتصغي بالهوى، إلى الناكث المخلوع، وإن كان كذلك فكثير ما كتبت به إليك، وإن كان غير ذلك فالسلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته وكتب في أسفل الكتاب هذه الأبيات:
ركوبك الأمر ما لم تبل فرصته ... جهل ورأيك بالتغرير تغرير
أقبح بدنيا ينال المخطئون بها ... حظ المصيبين والمغرور مغرور.

وثوب الجند بطاهر بن الحسين بعد مقتل الامين
وفي هذه السنة وثب الجند بعد مقتل محمد بطاهر، فهرب منهم وتغيب أياما حتى أصلح أمرهم.
ذكر الخبر عن سبب وثوبهم به وإلى ما آل أمره وأمرهم:
ذكر عن سعيد بْن حميد، أنه ذكر أن أباه حدثه، أن أصحاب طاهر

(8/495)


بعد مقتل محمد بخمسة أيام، وثبوا به، ولم يكن في يديه مال، فضاق به أمره، وظن أن ذلك عن مواطأة من اهل الارباض إياهم، وانهم معهم عليه، ولم يكن تحرك في ذلك من أهل الأرباض أحد، فاشتدت شوكة أصحابه، وخشي على نفسه، فهرب من البستان، وانتهبوا بعض متاعه، ومضى الى عقرقوف وكان قد أمر بحفظ أبواب المدينة وباب القصر على أم جعفر، وموسى وعبد الله ابني محمد، ثم أمر بتحويل زبيدة وموسى وعبد الله ابني محمد معها من قصر أبي جعفر إلى قصر الخلد، فحولوا ليلة الجمعة لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ربيع الأول، ثم مضى بهم من ليلتهم في حراقة إلى همينيا على الغربي من الزاب الأعلى، ثم أمر بحمل موسى وعبد الله إلى عمهما بخراسان على طريق الأهواز وفارس.
قَالَ: ولما وثب الجند بطاهر، وطلبوا الأرزاق، أحرقوا باب الأنبار الذي على الخندق وباب البستان، وشهروا السلاح، وكانوا كذلك يومهم ومن الغد، ونادوا موسى: يا منصور وصوب الناس إخراج طاهر موسى وعبد الله، وقد كان طاهر انحاز ومن معه من القواد، وتعبأ لقتالهم ومحاربتهم، فلما بلغ ذلك القواد والوجوه صاروا إليه واعتذروا، وأحالوا على السفهاء والأحداث، وسألوه الصفح عنهم وقبول عذرهم والرضا عنهم، وضمنوا له ألا يعودوا لمكروه له ما أقام معهم فقال لهم طاهر: والله ما خرجت عنكم إلا لوضع سيفي فيكم، وأقسم بالله لئن عدتم لمثلها لأعودن إلى رأيي فيكم، ولأخرجن إلى مكروهكم، فكسرهم بذلك، وأمر لهم برزق أربعة أشهر، فقال في ذلك بعض الأبناء:
آلى الأمير- وقوله وفعاله ... حق- بجمع معاشر الزعار
إن هاج هائجهم وشغب شاغب ... من كل ناحية من الأقطار
ألا يناظر معشرا من جمعهم ... إمهال ذي عدل وذي إنظار
حتى ينيخ عليهم بعظيمة ... تدع الديار بلاقع الآثار

(8/496)


فذكر عن المدائني أن الجند لما شغبوا، وانحاز طاهر، ركب اليه سعيد ابن مالك بْن قادم ومحمد بْن أبي خالد وهبيرة بْن خازم، في مشيخة من أهل الأرباض، فحلفوا بالمغلظة من الأيمان، أنه لم يتحرك في هذه الأيام أحد من أبناء الأرباض، ولا كان ذلك عن رأيهم، ولا أرادوه، وضمنوا له صلاح نواحيهم من الأرباض، وقيام كل إنسان منهم في ناحيته بكل ما يجب عليه، حتى لا يأتيه من ناحية أمر يكرهه وأتاه عميرة- أبو شيخ بن عميرة الأسدي- وعلى ابن يزيد، في مشيخة من الأبناء، فلقوه بمثل ما لقيه به ابن أبي خالد وسعيد ابن مالك وهبيرة، وأعلموه حسن رأي من خلفهم من الأبناء ولين طاعتهم له، وأنهم لم يدخلوا في شيء مما صنع أصحابه في البستان فطابت نفسه إلا أنه قَالَ لهم: إن القوم يطلبون أرزاقهم، وليس عندي مال فضمن لهم سعيد ابن مالك عشرين ألف دينار، وحملها إليه، فطابت بها نفسه، وانصرف إلى معسكره بالبستان وقال طاهر لسعيد: إني أقبلها منك على أن تكون علي دينا، فقال له: بل هي إنما صلة وقليل لغلامك وفيما أوجب الله من حقك.
فقبلها منه، وأمر للجند برزق أربعة أشهر، فرضوا وسكنوا.
قَالَ المدائني: وكان مع محمد رجل يقال له السمرقندي، وكان يرمي عن مجانيق كانت في سفن من باطن دجلة، وربما كان يشتد أمر أهل الأرباض على من بإزائهم من أصحاب محمد في الخنادق، فكان يبعث إليه، فيجيء به فيرميهم- وكان راميا لم يكن حجره يخطئ- ولم يقتل الناس يومئذ بالحجارة كما قيل، فلما قتل محمد قطع الجسر، وأحرقت المجانيق التي كانت في دجلة يرمي عنها، فأشفق على نفسه، وتخوف من بعض من وتره أن يطلبه، فاستخفى، وطلبه الناس، فتكارى بغلا، وخرج إلى ناحية خراسان هاربا، فمضى حتى إذا كان في بعض الطريق استقبله رجل فعرفه، فلما جازه قَالَ الرجل للمكاري:
ويحك! أين تذهب مع هذا الرجل! والله لئن ظفر بك معه لتقتلن، وأهون ما هو مصيبك أن تحبس، قَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! قد والله عرفت اسمه، وسمعت به قتله الله! فانطلق المكاري إلى أصحابه- أو مسلحة انتهى إليها- فاخبرهم خبره، وكانوا من اصحاب كند غوش من أصحاب هرثمة،

(8/497)


فأخذوه وبعثوا به إلى هرثمة، وبعث به هرثمة إلى خزيمة بْن خازم بمدينة السلام، فدفعه خزيمة إلى بعض من وتره فأخرجه إلى شاطئ دجلة من الجانب الشرقي فصلب حيا، فذكروا أنه لما أرادوا شدة على خشبته، اجتمع خلق كثير، فجعل يقول قبل أن يشدوه: أنتم بالأمس تقولون: لا قطع الله يا سمرقندي يدك، واليوم قد هيأتم حجارتكم ونشابكم لترموني! فلما رفعت الخشبة أقبل الناس عليه رميا بالحجارة والنشاب وطعنا بالرماح حتى قتلوه، وجعلوا يرمونه بعد موته، ثم أحرقوه من غد، وجاءوا بنار ليحرقوه بها، وأشعلوها فلم تشتعل، وألقوا عليه قصبا وحطبا، فأشعلوها فيه، فاحترق بعضه، وتمزقت الكلاب بعضه، وذلك يوم السبت لليلتين خلتا من صفر.

ذكر الخبر عن صفه محمد ابن هارون وكنيته وقدر ما ولي ومبلغ عمره
قَالَ هشام بْن محمد وغيره: ولي محمد بْن هارون وهو أبو موسى يوم الخميس لإحدى عشرة بقيت من جمادى الأولى سنة ثلاث وتسعين ومائه، وقتل ليله الأحد لست بقين من صفر سنة سبع وتسعين ومائة وأمه زبيدة ابنة جعفر الأكبر بْن أبي جعفر، فكانت خلافته أربع سنين وثمانية أشهر وخمسة أيام:
وقد قيل: كانت كنيته أبا عبد الله.
وأما محمد بْن موسى الخوارزمي فإنه ذكر عنه أنه قَالَ: أتت الخلافة محمد بْن هارون للنصف من جمادى الآخرة سنة ثلاث وتسعين ومائة، وحج بالناس في هذه السنة التي ولي فيها داود بْن عيسى بْن موسى، وهو على مكة وأبو البختري على ولايته، وبعد ولايته بعشره اشهر وخمسه ايام وجه عصمه ابن أبي عصمة ألى ساوة، وعقد ولايته لابنه موسى بولاية العهد لثلاث خلون من شهر ربيع الأول، وكان على شرطه علي بْن عيسى بْن ماهان.
وحج بالناس سنة أربع وتسعين ومائه على بن الرشيد، وعلى المدينة إسماعيل بْن العباس بْن محمد، وعلى مكة داود بْن عيسى، وكان بين ان

(8/498)


عقد لابنه الى التقاء علي بْن عيسى بْن ماهان وطاهر بْن الحسين وقتل علي بْن عيسى بْن ماهان سنة خمس وتسعين ومائة، سنة وثلاثة أشهر وتسعة وعشرون يوما قَالَ: وقتل المخلوع ليلة الأحد لخمس بقين من المحرم، قَالَ: فكانت ولايته مع الفتنة أربع سنين وسبعة أشهر وثلاثة أيام.
ولما قتل محمد ووصل خبره إلى المأمون في خريطة من طاهر يوم الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة خلت من صفر سنة ثمان وتسعين ومائة أظهر المأمون الخبر، وأذن للقواد فدخلوا عليه وقام الفضل بْن سهل فقرا الكتاب بالخبر، فهنىء بالظفر، ودعوا الله له وورد الكتاب من المأمون بعد قتل محمد على طاهر وهرثمة بخلع القاسم بْن هارون، فأظهرا ذلك، ووجها كتبهما به، وقرئ الكتاب بخلعه يوم الجمعة لليلتين بقيتا من شهر ربيع الأول سنة سبع وتسعين ومائة، وكان عمر محمد كله- فيما بلغني- ثمانيا وعشرين سنة وكان سبطا أنزع أبيض صغير العينين أقنى، جميلا، عظيم الكراديس، بعيد ما بين المنكبين وكان مولده بالرصافة.
وذكر أن طاهرا قَالَ حين قتله:
قتلت الخليفة في داره ... وأنهبت بالسيف أمواله
وقال أيضا:
ملكت الناس قسرا واقتدارا ... وقتلت الجبابرة الكبارا
ووجهت الخلافة نحو مرو ... إلى المأمون تبتدر ابتدارا.

(8/499)


ذكر ما قيل في محمد بْن هارون ومرثيته
فما قيل في هجائه:
لم نبكيك لماذا؟ للطرب! ... يا أبا موسى وترويج اللعب
ولترك الخمس في أوقاتها ... حرصا منك على ماء العنب
وشنيف أنا لا أبكي له ... وعلى كوثر لا أخشى العطب
لم تكن تعرف ما حد الرضا ... لا ولا تعرف ما حد الغضب
لم تكن تصلح للملك ولم ... تعطك الطاعة بالملك العرب
أيها الباكي عليه لا بكت ... عين من أبكاك إلا للعجب
لم نبكيك لما عرضتنا ... للمجانيق وطورا للسلب
ولقوم صيرونا اعبدا ... لهم ينزو على الرأس الذنب
في عذاب وحصار مجهد ... سدد الطرق فلا وجه طلب
زعموا أنك حي حاشر ... كل من قال بهذا قد كذب
ليت من قد قاله في وحدة ... من جميع ذاهب حيث ذهب
أوجب الله علينا قتله ... فإذا ما أوجب الأمر وجب
كان والله علينا فتنة ... غضب الله عليه وكتب
وقال عمرو بْن عبد الملك الوراق يبكي بغداد، ويهجو طاهرا ويعرض به:
من ذا أصابك يا بغداد بالعين ... ألم تكوني زمانا قرة العين!
ألم يكن فيك أقوام لهم شرف ... بالصالحات وبالمعروف يلقوني
ألم يكن فيك قوم كان مسكنهم ... وكان قربهم زينا من الزين
صاح الزمان بهم بالبين فانقرضوا ... ماذا الذي فجعتني لوعة البين

(8/500)


أستودع الله قوما ما ذكرتهم ... إلا تحدر ماء العين من عيني
كانوا ففرقهم دهر وصدعهم ... والدهر يصدع ما بين الفريقين
كم كان لي مسعد منهم على زمني ... كم كان منهم على المعروف من عون
لله در زمان كان يجمعنا ... أين الزمان الذي ولى ومن اين!
يا من يخرب بغدادا ليعمرها ... أهلكت نفسك ما بين الطريقين
كانت قلوب جميع الناس واحدة ... عينا، وليس لكون العين كالدين
لما أشتهم فرقتهم فرقا ... والناس طرا جميعا بين قلبين
وذكر عمر بْن شبة أن محمد بْن أحمد الهاشمي حدثه، ان لبانه ابنه على ابن المهدي قالت:
أبكيك لا للنعيم والأنس ... بل للمعالي والرمح والترس
أبكي على هالك فجعت به ... أرملني قبل ليلة العرس
وقد قيل إن هذا الشعر لابنة عيسى بْن جعفر، وكانت مملكة بمحمد.
وقال الحسين بْن الضحاك الأشقر، مولى باهلة، يرثي محمدا، وكان من ندمائه، وكان لا يصدق بقتله، ويطمع في رجوعه:
يا خير أسرته وإن زعموا ... إني عليك لمثبت أسف
الله يعلم أن لي كبدا ... حرى عليك ومقلة تكف
ولئن شجيت بما رزئت به ... إني لأضمر فوق ما أصف
هلا بقيت لسد فاقتنا ... أبدا، وكان لغيرك التلف!

(8/501)


فلقد خلفت خلائفا سلفوا ... ولسوف يعوز بعدك الخلف
لا بات رهطك بعد هفوتهم ... إني لرهطك بعدها شنف
هتكوا بحرمتك التي هتكت ... حرم الرسول ودونها السجف
وثبت أقاربك التي خذلت ... وجميعها بالذل معترف
لم يفعلوا بالشط إذ حضروا ... ما تفعل الغيرانة الأنف
تركوا حريم أبيهم نفلا ... والمحصنات صوارخ هتف
أبدت مخلخلها على دهش ... أبكارهن ورنت النصف
سلبت معاجرهن واجتليت ... ذات النقاب ونوزع الشنف
فكأنهن خلال منتهب ... در تكشف دونه الصدف
ملك تخون ملكه قدر ... فوهى وصرف الدهر مختلف
هيهات بعدك أن يدوم لنا ... عز وأن يبقى لنا شرف
لا هيبوا صحفا مشرفة ... للغادرين وتحتها الجدف
أفبعد عهد الله تقتله ... والقتل بعد أمانة سرف
فستعرفون غدا بعاقبة ... عز الإله فأوردوا وقفوا
يا من يخون نومه أرق ... هدت الشجون وقلبه لهف
قد كنت لي أملا غنيت به ... فمضى وحل محله الأسف
مرج النظام وعاد منكرنا ... عرفا وأنكر بعدك العرف
فالشمل منتشر لفقدك والدنيا ... سدى والبال منكسف

(8/502)


وقال أيضا يرثيه:
إذا ذكر الأمين نعى الأمينا ... وإن رقد الخلي حمى الجفونا
وما برحت منازل بين بصرى ... وكلواذى تهيج لي شجونا
عراص الملك خاوية تهادى ... بها الأرواح تنسجها فنونا
تخون عز ساكنها زمان ... تلعب بالقرون الأولينا
فشتت شملهم بعد اجتماع ... وكنت بحسن ألفتهم ضنينا
فلم أر بعدهم حسنا سواهم ... ولم ترهم عيون الناظرينا
فوا أسفا وإن شمت الأعادي ... وآه على أمير المؤمنينا
أضل العرف بعدك متبعوه ... ورفه عن مطايا الراغبينا
وكن الى جنابك كل يوم ... يرحن على السعود ويغتدينا
هو الجبل الذي هوت المعالي ... لهدته وريع الصالحونا
ستندب بعدك الدنيا جوارا ... وتندب بعدك الدين المصونا
فقد ذهبت بشاشة كل شيء ... وعاد الدين مطروحا مهينا
تعقد عز متصل بكسرى ... وملته وذل المسلمونا
وقال أيضا يرثيه:
أسفا عليك سلاك أقرب قربة ... مني وأحزاني عليك تزيد
وقال عبد الرحمن بْن أبي الهداهد يرثي محمدا:
يا غرب جودي قد بت من وذمه ... فقد فقدنا العزيز من ديمه
ألوت بدنياك كف نائبة ... وصرت مغضى لنا على نقمه
أصبح للموت عندنا علم ... يضحك سن المنون من علمه
ما استنزلت درة المنون على ... أكرم من حل في ثرى رحمه
خليفة الله في بريته ... تقصر أيدي الملوك عن شيمه

(8/503)


يفتر عن وجهه سنا قمر ... ينشق عن نوره دجى ظلمه
زلزلت الأرض من جوانبها ... إذ أولغ السيف من نجيع دمه
من سكتت نفسه لمصرعة ... من عمم الناس أو ذوي رحمه
رأيته مثل ما رآه به ... حتى تذوق الأمر من سقمه
كم قد رأينا عزيز مملكة ... ينقل عن أهله وعن خدمه
يا ملكا ليس بعده ملك ... لخاتم الأنبياء في أممه
جاد وحيا الذي أقمت به ... سح غزير الوكيف من ديمه
لو أحجم الموت عن أخي ثقة ... أسوي في العز مستوى قدمه
أو ملك لا ترام سطوته ... إلا مرام الشتيم في أجمه
خلدك العز ما سرى سدف ... أو قام طفل العشي في قدمه
أصبح ملك إذا اتزرت به ... يقرع سن الشقاة من ندمه
أثر ذو العرش في عداك كما ... أثر في عاده وفي إرمه
لا يبعد الله سوره تليت ... لخير داع دعاه في حرمه
ما كنت إلا كحلم ذي حلم ... أولج باب السرور في حلمه
حتى إذا أطلقته رقدته ... عاد إلى ما اعتراه من عدمه
وقال أيضا يرثيه:
أقول وقد دنوت من الفرار ... سقيت الغيث يا قصر القرار
رمتك يد الزمان بسهم عين ... فصرت ملوحا بدخان نار
أبن لي عن جميعك أين حلوا ... وأين مزارهم بعد المزار
وأين محمد وابناه ما لي ... أرى أطلالهم سود الديار!
كأن لم يؤنسوا بأنيس ملك ... يصون على الملوك بخير جار
إمام كان في الحدثان عونا ... لنا والغيث يمنح بالقطار

(8/504)


لقد ترك الزمان بني أبيه ... وقد غمرتهم سود البحار
أضاعوا شمسهم فجرت بنحس ... فصاروا في الظلام بلا نهار
وأجلوا عنهم قمرا منيرا ... وداستهم خيول بني الشرار
ولو كانوا لهم كفوا ومثلا ... إذا ما توجوا تيجان عار
ألا بان الإمام ووارثاه ... لقد ضرما الحشا منا بنار
وقالوا الخلد بيع فقلت ذلا ... يصير ببائعيه إلى صغار
كذاك الملك يتبع أوليه ... إذا قطع القرار من القرار
وقال مقدس بْن صيفي يرثيه:
خليلي ما أتتك به الخطوب ... فقد أعطتك طاعته النحيب
تدلت من شماريخ المنايا ... منايا ما تقوم لها القلوب
خلال مقابر البستان قبر ... يجاور قبره أسد غريب
لقد عظمت مصيبته على من ... له في كل مكرمة نصيب
على أمثاله العبرات تذرى ... وتهتك في مآتمه الجيوب
وما اذخرت زبيدة عنه دمعا ... تخص به النسيبة والنسيب
دعوا موسى ابنه لبكاء دهر ... على موسى ابنه دخل الحزيب
رأيت مشاهد الخلفاء منه ... خلاء ما بساحتها مجيب
ليهنك أنني كهل عليه ... أذوب، وفي الحشا كبد تذوب
أصيب به البعيد فخر حزنا ... وعاين يومه فيه المريب
أنادي من بطون الأرض شخصا ... يحركه النداء فما يجيب
لئن نعت الحروب إليه نفسا ... لقد فجعت بمصرعه الحروب

(8/505)


وقال خزيمة بْن الحسن يرثيه على لسان أم جعفر:
لخير إمام قام من خير عنصر ... وأفضل سام فوق أعواد منبر
لوارث علم الأولين وفهمهم ... وللملك المأمون من أم جعفر
كتبت وعيني مستهل دموعها ... إليك ابن عمي من جفوني ومحجري
وقد مسني ضر وذل كابه ... وارق عيني يا بن عمي تفكري
وهمت لما لاقيت بعد مصابه ... فأمري عظيم منكر جد منكر
سأشكو الذي لاقيته بعد فقده ... إليك شكاة المستهام المقهر
وأرجو لما قد مر بي مذ فقدته ... فأنت لبثي خير رب مغير
أتى طاهر لا طهر الله طاهرا ... فما طاهر فيما أتى بمطهر
فأخرجني مكشوفة الوجه حاسرا ... وأنهب أموالي وأحرق آدري
يعز على هارون ما قد لقيته ... وما مر بي من ناقص الخلق أعور
فإن كان ما أسدى بأمر أمرته ... صبرت لأمر من قدير مقدر
تذكر أمير المؤمنين قرابتي ... فديتك من ذي حرمة متذكر
وقال أيضا يرثيه:
سبحان ربك رب العزة الصمد ... ماذا أصبنا به في صبحة الأحد
وما أصيب به الإسلام قاطبة ... من التضعضع في ركنيه والاود
من لم يصب بأمير المؤمنين ولم ... يصبح بمهلكة والهم في صعد
فقد أصبت به حتى تبين في ... عقلي وديني وفي دنياى والجسد
يا ليلة يشتكي الإسلام مدتها ... والعالمون جميعا آخر الأبد

(8/506)


غدرت بالملك الميمون طائره ... وبالإمام وبالضرغامة الأسد
سارت إليه المنايا وهي ترهبه ... فواجهته بأوغاد ذوي عدد
بشورجين واغتام يقودهم ... قريش بالبيض في قمص من الزرد
فصادفوه وحيدا لا معين له ... عليهم غائب الأنصار بالمدد
فجرعوه المنايا غير ممتنع ... فردا فيا لك من مستسلم فرد
يلقى الوجوه بوجه غير مبتذل ... ابهى وانقى من القوهية الجدد
وا حسرتا وقريش قد أحاط به ... والسيف مرتعد في كف مرتعد
فما تحرك بل ما زال منتصبا ... منكس الرأس لم يبدي ولم يعد
حتى إذا السيف وافى وسط مفرقه ... أذرته عنه يداه فعل متئد
وقام فاعتلقت كفاه لبته ... كضيغم شرس مستبسل لبد
فاحتزه ثم أهوى فاستقل به ... للأرض من كف ليث محرج حرد
فكاد يقتله لو لم يكاثره ... وقام منفلتا منه ولم يكد
هذا حديث أمير المؤمنين وما ... نقصت من أمره حرفا ولم أزد
لا زلت أندبه حتى الممات وإن ... أخنى عليه الذي أخنى على لبد
وذكر عن الموصلي أنه قَالَ: لما بعث طاهر برأس محمد إلى المأمون بكى ذو الرياستين، وقال: سل علينا سيوف الناس والسنتهم، أمرناه أن يبعث به أسيرا فبعث به عقيرا! وقال له المأمون: قد مضى ما مضى فاحتل في الاعتذار منه، فكتب الناس فأطالوا، وجاء أحمد بْن يوسف بشبر من قرطاس فيه:
أما بعد، فإن المخلوع كان قسيم أمير المؤمنين في النسب واللحمة، وقد فرق الله بينه وبينه في الولاية والحرمه، لمفارقته عصم الدين، وخروجه من الأمر الجامع للمسلمين، يقول الله عز وجل حين اقتص علينا نبأ ابن نوح: «إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ» ، فلا طاعة لأحد في معصية

(8/507)


الله، ولا قطيعة إذا كانت القطيعة في جنب الله وكتابي إلى أمير المؤمنين وقد قتل الله المخلوع، ورداه رداء نكثه، وأحصد لأمير المؤمنين أمره، وأنجز له وعده، وما ينتظر من صادق وعده حين رد به الإلفة بعد فرقتها، وجمع الأمة بعد شتاتها، وأحيا به أعلام الإسلام بعد دروسها.

ذكر الخبر عن بعض سير المخلوع محمد بْن هارون
ذكر عن حميد بْن سعيد، قَالَ: لما ملك محمد، وكاتبه المأمون، وأعطاه بيعته، طلب الخصيان وابتاعهم، وغالى بهم، وصيرهم لخلوته في ليله ونهاره، وقوام طعامه وشرابه، وأمره ونهيه، وفرض لهم فرضا سماهم الجرادية، وفرضا من الحبشان سماهم الغرابية، ورفض النساء الحرائر والإماء حتى رمى بهن، ففي ذلك يقول بعضهم:
ألا يا مزمن المثوى بطوس ... عزيبا ما يفادى بالنفوس
لقد أبقيت للخصيان بعلا ... تحمل منهم شؤم البسوس
فأما نوفل فالشأن فيه ... وفي بدر، فيا لك من جليس!
وما العصمي بشار لديه ... إذا ذكروا بذي سهم خسيس
وما حسن الصغير أخس حالا ... لديه عند مخترق الكئوس
لهم من عمره شطر وشطر ... يعاقر فيه شرب الخندريس
وما للغانيات لديه حظ ... سوى التقطيب بالوجه العبوس
إذا كان الرئيس كذا سقيما ... فكيف صلاحنا بعد الرئيس!
فلو علم المقيم بدار طوس ... لعز على المقيم بدار طوس
قَالَ حميد: ولما ملك محمد وجه إلى جميع البلدان في طلب الملهين وضمهم إليه، وأجرى لهم الأرزاق، ونافس في ابتياع فره الدواب، وأخذ

(8/508)


الوحوش والسباع والطير وغير ذلك، واحتجب عن إخوته وأهل بيته وقواده، واستخف بهم، وقسم ما في بيوت الأموال وما بحضرته من الجوهر في خصيانه وجلسائه ومحدثيه، وحمل إليه ما كان في الرقة من الجوهر والخزائن والسلاح، وأمر ببناء مجالس لمتنزهاته ومواضع خلوته ولهوه ولعبه بقصر الخلد والخيزرانية وبستان موسى وقصر عبدويه وقصر المعلى ورقة كلواذى وباب الأنبار وبناورى والهوب، وأمر بعمل خمس حراقات في دجلة على خلقة الأسد والفيل والعقاب والحية والفرس، وأنفق في عملها مالا عظيما، فقال أبو نواس يمدحه:
سخر الله للأمين مطايا ... لم تسخر لصاحب المحراب
فإذا ما ركابه سرن برا ... سار في الماء راكبا ليث غاب
أسدا باسطا ذراعيه يهوى ... اهرت الشدق كالح الأنياب
لا يعانيه باللجام ولا السوط ... ولا غمز رجله في الركاب
عجب الناس إذ رأوك على صورة ... ليث تمر مر السحاب
سبحوا إذ رأوك سرت عليه ... كيف لو أبصروك فوق العقاب
ذات زور ومنسر وجناحين ... تشق العباب بعد العباب
تسبق الطير في السماء إذا ما ... استعجلوها بجيئة وذهاب
بارك الله للأمير وأبقاه ... وأبقى له رداء الشباب
ملك تقصر المدائح عنه ... هاشمي موفق للصواب
وذكر عن الحسين بْن الضحاك، قَالَ: ابتنى الأمير سفينة عظيمة، أنفق عليها ثلاثة آلاف ألف درهم، واتخذ أخرى على خلقة شيء يكون في البحر يقال له الدلفين، فقال في ذلك أبو نواس الحسن بن هانئ:

(8/509)


قد ركب الدلفين بدر الدجى ... مقتحما في الماء قد لججا
فأشرقت دجلة في حسنه ... واشرق الشطان واستبهجا
لم تر عيني مثله مركبا ... أحسن ان سار وان احنجا
إذا استحثثته مجاديفه ... أعنق فوق الماء أو هملجا
خص به الله الأمين الذي ... أضحى بتاج الملك قد توجا
وذكر عن أحمد بْن إسحاق بْن برصوما المغني الكوفي أنه قَالَ: كان العباس بْن عبد الله بْن جعفر بْن أبي جعفر من رجالات بني هاشم جلدا وعقلا وصنيعا، وكان يتخذ الخدم، وكان له خادم من آثر خدمه عنده يقال له منصور، فوجد الخادم عليه، فهرب إلى محمد، وأتاه وهو بقصر أم جعفر المعروف بالقرار، فقبله محمد أحسن قبول، وحظي عنده حظوة عجيبة.
قَالَ: فركب الخادم يوما في جماعة خدم كانوا لمحمد يقال لهم السيافة، فمر بباب العباس بْن عبد الله، يريد بذلك أن يري خدم العباس هيئته وحاله التي هو عليها وبلغ ذلك الخبر العباس، فخرج محضرا في قميص حاسرا، في يده عمود عليه كيمخت، فلحقه في سويقة أبي الورد، فعلق بلجامه، ونازعه أولئك الخدم، فجعل لا يضرب أحدا منهم إلا أوهنة، حتى تفرقوا عنه، وجاء به يقوده حتى أدخله داره وبلغ الخبر محمدا، فبعث إلى داره جماعه، فوقفوا حيالها، وصف العباس غلمانه ومواليه على سور داره، ومعهم الترسه والسهام، فقام أحمد بْن إسحاق: فخفنا والله النار أن تحرق منازلنا، وذلك أنهم أرادوا أن يحرقوا دار العباس قَالَ: وجاء رشيد الهاروني، فاستأذن عليه فدخل إليه، فقال: ما تصنع! أتدري ما أنت فيه وما قد جاءك! لو أذن لهم لاقتلعوا دارك بالأسنة، ألست في الطاعة! قَالَ: بلى، قَالَ: فقم فاركب قَالَ: فخرج في سواده، فلما صار على باب داره، قَالَ: يا غلام، هلم دابتي

(8/510)


فقال رشيد: لا ولا كرامة! ولكن تمضي راجلا قَالَ: فمضى، فلما صار إلى الشارع نظر، فإذا العالمون قد جاءوا، وجاءه الجلودي والإفريقي وأبو البط وأصحاب الهرش قَالَ: فجعل ينظر إليهم، وأنا أراه راجلا ورشيد راكب قَالَ: وبلغ أم جعفر الخبر، فدخلت على محمد، وجعلت تطلب إلى محمد، فقال لها: نفيت من قرابتي من رسول الله ص إن لم أقتله! وجعلت تلح عليه، فقال لها: والله إني لأظنني سأسطو بك قَالَ: فكشفت شعرها، وقالت: ومن يدخل علي وأنا حاسر! قَالَ: فبينا محمد كذلك- ولم يأت العباس بعد- إذ قدم صاعد الخادم عليه بقتل علي بْن عيسى بْن ماهان، فاشتغل بذلك، وأقام العباس في الدهليز عشرة أيام، ونسيه ثم ذكره، فقال:
يحبس في حجرة من حجر داره، ويدخل عليه ثلاثة رجال من مواليه من مشايخهم يخدمونه، ويجعل له وظيفة في كل يوم ثلاثة ألوان قَالَ: فلم يزل على هذه الحال حتى خرج حسين بْن علي بْن عيسى بْن ماهان، ودعا إلى المأمون، وحبس محمد قَالَ: فمر إسحاق بْن عيسى بْن علي ومحمد بْن محمد المعبدي بالعباس بْن عبد الله وهو في منظرة، فقالا له: ما قعودك؟ اخرج إلى هذا الرجل- يعنيان حسين بْن علي- قَالَ: فخرج فأتى حسينا، ثم وقف عند باب الجسر، فما ترك لأم جعفر شيئا من الشتم إلا قاله، وإسحاق بْن موسى يأخذ البيعة للمأمون قَالَ: ثم لم يكن إلا يسيرا حتى قتل الحسين، وهرب العباس الى نهر بين إلى هرثمة، ومضى ابنه الفضل بْن العباس إلى محمد، فسعى إليه بما كان لأبيه، ووجه محمد إلى منزله، فأخذ منه أربعة آلاف الف درهم وثلاثمائة ألف دينار، وكانت في قماقم في بئر، وأنسوا قمقمين من تلك القماقم، فقال: ما بقي من ميراث أبي سوى هذين القمقمين، وفيهما سبعون ألف دينار.
فلما انقضت الفتنة وقتل محمد رجع إلى منزله فأخذ القمقمين وجعلهما.
وحج في تلك السنه، وهي سنه ثمان وتسعين ومائة.
قَالَ أحمد بْن إسحاق: وكان العباس بْن عبد الله يحدث بعد ذلك،

(8/511)


فيقول: قَالَ لي سليمان بْن جعفر ونحن في دار المأمون: أما قتلت ابنك بعد؟
فقلت: يا عم، جعلت فداك! ومن يقتل ابنه! فقال لي: اقتله، فهو الذي سعى بك وبمالك فأفقرك.
وذكر عن أحمد بْن إسحاق بْن برصوما، قَالَ: لما حصر محمد وضغطه الأمر، قَالَ: ويحكم! ما أحد يستراح إليه! فقيل له: بلى، رجل من العرب من أهل الكوفة، يقال له وضاح بْن حبيب بْن بديل التميمي، وهو بقية من بقايا العرب، وذو رأي أصيل، قَالَ: فأرسلوا إليه، قَالَ: فقدم علينا، فلما صار إليه قَالَ له: إني قد خبرت بمذهبك ورأيك، فأشر علينا في أمرنا، قَالَ له: يا أمير المؤمنين، قد بطل الرأي اليوم وذهب، ولكن استعمل الأراجيف، فإنها من آلة الحرب، فنصب رجلا كان ينزل دجيلا يقال له بكير بْن المعتمر، فكان إذا نزلت بمحمد نازلة وحادثة هزيمة قَالَ له:
هات، فقد جاءنا نازلة، فيضع له الأخبار، فإذا مشى الناس تبينوا بطلانها.
قَالَ أحمد بْن إسحاق: كأني أنظر إلى بكير بْن المعتمر شيخ عظيم الخلق.
وذكر عن العباس بْن أحمد بْن أبان الكاتب، قَالَ: حدثنا إبراهيم بْن الجراح، قَالَ: حدثني كوثر، قَالَ: أمر محمد بن زبيدة يوما أن يفرش له على دكان في الخلد، فبسط له عليه بساط زرعي، وطرحت عليه نمارق وفرش مثله، وهيئ له من آنية الفضة والذهب والجوهر أمر عظيم، وامر قيمه جواريه ان تهيئ له مائة جارية صانعة، فتصعد إليه عشرا عشرا، بأيديهن العيدان يغنين بصوت واحد، فأصعدت إليه عشرا، فلما استوين على الدكان اندفعن فغنين:
هم قتلوه كي يكونوا مكانه ... كما غدرت يوما بكسرى مرازبه
قَالَ: فتأفف من هذا، ولعنها ولعن الجواري، فأمر بهن فأنزلن، ثم لبث هنيهة وأمرها أن تصعد عشرا، فلما استوين على الدكان اندفعن فغنين:

(8/512)


من كان مسرورا بمقتل مالك ... فليأت نسوتنا بوجه نهار
يجد النساء حواسرا يندبنه ... يلطمن قبل تبلج الأسحار
قَالَ: فضجر وفعل مثل فعلته الأولى، وأطرق طويلا، ثم قَالَ:
أصعدي عشرا، فأصعدتهن، فلما وقفن على الدكان، اندفعن يغنين بصوت واحد:
كليب لعمري كان أكثر ناصرا ... وأيسر ذنبا منك ضرج بالدم
قَالَ: فقام من مجلسه، وأمر بهدم ذلك المكان تطيرا مما كان.
وذكر عن محمد بْن عبد الرحمن الكندي، قَالَ: حدثني محمد بْن دينار، قَالَ: كان محمد المخلوع قاعدا يوما، وقد اشتد عليه الحصار، فاشتد اغتمامه، وضاق صدره، فدعا بندمائه والشراب ليتسلى به، فأتى به، وكانت له جارية يتحظاها من جواريه، فأمرها أن تغني، وتناول كأسا ليشربه، فحبس الله لسانها عن كل شيء، فغنت:
كليب لعمري كان أكثر ناصرا ... وأيسر ذنبا منك ضرج بالدم
فرماها بالكأس الذي في يده، وأمر بها فطرحت للأسد، ثم تناول كأسا أخرى، ودعا بأخرى فغنت:
هم قتلوه كي يكونوا مكانه ... كما غدرت يوما بكسرى مرازبه
فرمى وجهها بالكأس، ثم تناول كأسا أخرى ليشربها، وقال لأخرى:
غني، فغنت:
قومي هم قتلوا اميم أخي

(8/513)


قال: فرمى وجهها بالكأس، ورمى الصينية برجله، وعاد إلى ما كان فيه من همه، وقتل بعد ذلك بأيام يسيرة.
وذكر عن أبي سعيد أنه قَالَ: ماتت فطيم- وهي أم موسى بْن محمد بْن هارون المخلوع- فجزع عليها جزعا شديدا، وبلغ أم جعفر، فقالت: احملوني إلى أمير المؤمنين، قَالَ: فحملت إليه، فاستقبلها، فقال: يا سيدتي، ماتت فطيم، فقالت:
نفسي فداؤك لا يذهب بك اللهف ... ففي بقائك ممن قد مضى خلف
عوضت موسى فهانت كل مرزئة ... ما بعد موسى على مفقودة أسف
وقالت: أعظم الله أجرك، ووفر صبرك، وجعل العزاء عنها ذخرك! وذكر عن إبراهيم بْن إسماعيل بْن هانئ، ابن أخي أبي نواس، قَالَ:
حدثني أبي قَالَ: هجا عمك أبو نواس مضر في قصيدته التي يقول فيها:
أما قريش فلا افتخار لها ... إلا التجارات من مكاسبها
وأنها إن ذكرت مكرمة ... جاءت قريش تسعى بغالبها
إن قريشا إذا هي انتسبت ... كان لها الشطر من مناسبها
قَالَ: يريد أن أكرمها يغالب قَالَ: فبلغ ذلك الرشيد في حياته، فأمر بحبسه، فلم يزل محبوسا حتى ولي محمد، فقال يمدحه، وكان انقطاعه إليه أيام إمارته، فقال:
تذكر أمين الله والعهد يذكر ... مقامي وإنشاديك والناس حضر
ونثري عليك الدر يا در هاشم ... فيأمن رأى درا على الدر ينثر!
أبوك الذي لم يملك الأرض مثله ... وعمك موسى عدله المتخير
وجدك مهدي الهدى وشقيقه ... أبو أمك الأدنى أبو الفضل جعفر

(8/514)


وما مثل منصوريك: منصور هاشم ... ومنصور قحطان إذا عد مفخر
فمن ذا الذي يرمي بسهميك في العلا ... وعبد مناف والداك وحمير
قَالَ: فتغنت بهذه الأبيات جارية بين يدي محمد، فقال لها: لمن الأبيات؟ فقيل له: لأبي نواس، فقال: وما فعل؟ فقيل له: محبوس، فقال: ليس عليه بأس قَالَ: فبعث إليه إسحاق بْن فراشة وسعيد بْن جابر أخا محمد من الرضاعة، فقالا: إن أمير المؤمنين ذكرك البارحة فقال:
ليس عليه بأس، فقال أبياتا، وبعث بها إليه، وهي هذه الأبيات:
أرقت وطار عن عيني النعاس ... ونام السامرون ولم يؤاسوا
أمين الله قد ملكت ملكا ... عليك من التقى فيه لباس
ووجهك يستهل ندى فيحيا ... به في كل ناحية أناس
كأن الخلق في تمثال روح ... له جسد وأنت عليه راس
أمين الله إن السجن بأس ... وقد أرسلت: ليس عليك باس
فلما أنشده قَالَ: صدق، علي به، فجيء به في الليل، فكسرت قيوده، وأخرج حتى أدخل عليه، فأنشأ يقول:
مرحبا مرحبا بخير إمام ... صيغ من جوهر الخلافة نحتا
يا أمين الإله يكلؤك الله ... مقيما وظاعنا حيث سرتا
إنما الأرض كلها لك دار ... فلك الله صاحب حيث كنتا

(8/515)


قَالَ: فخلع عليه، وخلى سبيله، وجعله في ندمائه.
وذكر عن عبد الله بْن عمرو التميمي، قَالَ: حدثني أحمد بْن إبراهيم الفارسي، قَالَ: شرب أبو نواس الخمر، فرفع ذلك إلى محمد في أيامه، فأمر بحبسه، فحبسه الفضل بْن الربيع ثلاثة أشهر، ثم ذكره محمد، فدعا به وعنده بنو هاشم وغيرهم، ودعا له بالسيف والنطع يهدده بالقتل، فأنشده أبو نواس هذه الأبيات:
تذكر أمين الله والعهد يذكر.
الشعر الذي ذكرناه قبل، وزاد فيه:
تحسنت الدنيا بحسن خليفة ... هو البدر إلا أنه الدهر مقمر
إمام يسوس الناس سبعين حجة ... عليه له منها لباس ومئزر
يشير إليه الجود من وجناته ... وينظر من أعطافه حين ينظر
أيا خير مأمول يرجى، أنا امرؤ ... رهين أسير في سجونك مقفر
مضى أشهر لي مذ حبست ثلاثة ... كأني قد أذنبت ما ليس يغفر
فإن كنت لم أذنب ففيم تعقبي! ... وإن كنت ذا ذنب فعفوك أكثر
قَالَ: فقال له محمد: فإن شربتها؟ قَالَ: دمي لك حلال يا أمير المؤمنين، فأطلقه قَالَ: فكان أبو نواس يشمها ولا يشربها وهو قوله:
لا أذوق المدام إلا شميما
وذكر عن مسعود بْن عيسى العبدي، قَالَ: أخبرني يحيى بْن المسافر القرقسائي، قَالَ: أخبرني دحيم غلام أبي نواس، أن أبا نواس عتب عليه محمد في شرب الخمر، فطبق به- وكان للفضل بْن الربيع خال يستعرض أهل السجون ويتعاهدهم ويتفقدهم- ودخل في حبس الزنادقة، فرأى فيه أبا نواس- ولم يكن يعرفه- فقال له: يا شاب، أنت مع الزنادقة! قَالَ:
معاذ الله، قَالَ: فلعلك ممن يعبد الكبش! قَالَ: أنا آكل الكبش بصوفه،

(8/516)


قَالَ: فلعلك ممن يعبد الشمس؟ قَالَ: إني لأتجنب القعود فيها بغضا لها، قَالَ: فبأي جرم حبست؟ قَالَ: حبست بتهمة أنا منها بريء، قَالَ: ليس إلا هذا؟ قَالَ: والله لقد صدقتك قَالَ: فجاء إلى الفضل، فقال له:
يا هذا، لا تحسنون جوار نعم الله عز وجل! أيحبس الناس بالتهمة! قَالَ: وما ذاك؟ فأخبره بما ادعى من جرمه، فتبسم الفضل، ودخل على محمد، فأخبره بذلك، فدعا به، وتقدم إليه أن يجتنب الخمر والسكر، قَالَ:
نعم، قيل له: فبعهد الله! قَالَ: نعم، قَالَ: فأخرج، فبعث إليه فتيان من قريش فقال لهم: إني لا أشرب، قالوا: وإن لم تشرب فآنسنا بحديثك، فأجاب، فلما دارت الكأس بينهم، قالوا: ألم ترتح لها؟ قال: لا سبيل والله الى شربها، وأنشأ يقول:
أيها الرائحان باللوم لوما ... لا أذوق المدام إلا شميما
نالني بالملام فيها إمام ... لا أرى في خلافه مستقيما
فاصرفاها إلى سواي فإني ... لست إلا على الحديث نديما
إن حظي منها إذا هي دارت ... أن أراها وأن أشم النسيما
فكأني وما أحسن منها ... قعدي يزين التحكيما
كل عن حملة السلاح إلى الحرب ... فأوصى المطيق ألا يقيما
وذكر عن أبي الورد السبعي أنه قَالَ: كنت عند الفضل بْن سهل بخراسان، فذكر الأمين، فقال: كيف لا يستحل قتال محمد وشاعره يقول في مجلسه:
ألا سقني خمرا وقل لي هي الخمر ... ولا تسقني سرا إذا أمكن الجهر
قَالَ: فبلغت القصة محمدا، فأمر الفضل بْن الربيع فأخذ أبا نواس فحبسه

(8/517)


وذكر كامل بْن جامع عن بعض أصحاب أبي نواس ورواته، قَالَ:
كان أبو نواس قَالَ أبياتا بلغت الأمين في آخرها:
وقد زادني تيها على الناس أنني ... أراني أغناهم إذا كنت ذا عسر
ولو لم أنل فخرا لكانت صيانتي ... فمي عن جميع الناس حسبي من الفخر
ولا يطمعن في ذاك مني طامع ... ولا صاحب التاج المحجب في القصر
قَالَ: فبعث إليه الأمين- وعنده سليمان بْن أبي جعفر- فلما دخل عليه، قَالَ: يا عاض بظر أمه العاهره! يا بن اللخناء- وشتمه أقبح الشتم- أنت تكسب بشعرك أوساخ أيدي اللئام، ثم تقول:
ولا صاحب التاج المحجب في القصر.
أما والله لا نلت مني شيئا أبدا فقال له سليمان بْن أبي جعفر: والله يا أمير المؤمنين، وهو من كبار الثنوية، فقال محمد: هل يشهد عليه بذلك شاهد؟
فاستشهد سليمان جماعة، فشهد بعضهم أنه شرب في يوم مطير، ووضع قدحه تحت السماء، فوقع فيه القطر، وقال: يزعمون أنه ينزل مع كل قطرة ملك، فكم ترى أني أشرب الساعة من الملائكة! ثم شرب ما في القدح، فأمر محمد بحبسه، فقال أبو نواس في ذلك:
يا رب إن القوم قد ظلموني ... وبلا اقتراف تعطل حبسوني
وإلى الجحود بما عرفت خلافه ... مني إليه بكيدهم نسبوني
ما كان إلا الجري في ميدانهم ... في كل جري والمخافة ديني
لا العذر يقبل لي فيفرق شاهدي ... منهم ولا يرضون حلف يميني
ولكان كوثر كان أولى محبسا ... في دار منقصة ومنزل هون
أما الأمين فلست أرجو دفعه ... عني، فمن لي اليوم بالمأمون!

(8/518)


قَالَ: وبلغت المأمون أبياته، فقال: والله لئن لحقته لأغنينه غنى لا يؤمله، قَالَ: فمات قبل دخول المأمون مدينة السلام.
قَالَ: ولما طال حبس أبي نواس، قَالَ في حبسه- فيما ذكر- عن دعامة:
احمدوا الله جميعا ... يا جميع المسلمينا
ثم قولوا لا تملوا ... ربنا أبق الأمينا
صير الخصيان حتى ... صير التعنين دينا
فاقتدى الناس جميعا ... بأمير المؤمنينا
قَالَ: وبلغت هذه الأبيات أيضا المأمون وهو بخراسان، فقال: إني لأتوكفه أن يهرب إلي.
وذكر يعقوب بْن إسحاق، عمن حدثه، عن كوثر خادم المخلوع، أن محمدا أرق ذات ليلة، وهو في حربه مع طاهر، فطلب من يسامره فلم يقرب إليه أحد من حاشيته، فدعا حاجبه، فقال: ويلك! قد خطرت بقلبي خطرات فأحضرني شاعرا ظريفا أقطع به بقية ليلتي، فخرج الحاجب، فاعتمد أقرب من بحضرته، فوجد أبا نواس، فقال له: أجب أمير المؤمنين، فقال له: لعلك أردت غيري! قَالَ: لم أرد أحدا سواك فأتاه به، فقال: من أنت؟ قَالَ: خادمك الحسن بْن هانئ، وطليقك بالأمس، قَالَ: لا ترع، إنه عرضت بقلبي أمثال أحببت أن تجعلها في شعر، فإن فعلت ذلك أجزت حكمك فيما تطلب، فقال: وما هي يا أمير المؤمنين؟ قَالَ: قولهم: عفا الله عما سلف، وبئس والله ما جرى فرسي، واكسري عودا على أنفك، وتمنعي أشهى لك قَالَ: فقال أبو نواس حكمي أربع وصائف مقدودات، فأمر بإحضارهن، فقال:
فقدت طول اعتلالك ... وما أرى في مطالك
لقد اردت جفائى ... وقد اردت وصالك

(8/519)


ماذا أردت بهذا! ... تمنعي أشهى لك
وأخذ بيد وصيفة فعزلها، ثم قَالَ:
قد صحت الأيمان من حلفك ... وصحت حتى مت من خلفك
بالله يا ستي احنثي مرة ... ثم اكسري عودا على أنفك
ثم عزل الثانية، ثم قَالَ:
فديتك ماذا الصلف ... وشتمك أهل الشرف!
صلى عاشقا مدنفا ... قد أعتب مما اقترف
ولا تذكري ما مضى ... عفا الله عما سلف
ثم عزل الثالثة، وقال:
وباعثات إلي في الغلس ... أن ائتنا واحترس من العسس
حتى إذا نوم العداة ولم ... أخش رقيبا ولا سنا قبس
ركبت مهري وقد طربت إلى ... حور حسان نواعم لعس
فجئت والصبح قد نهضت له ... فبئس والله ما جرى فرسي
فقال: خذهن لا بارك الله لك فيهن! وذكر عن الموصلي، عن حسين خادم الرشيد، قَالَ: لما صارت الخلافة إلى محمد هيئ له منزل من منازله على الشط، بفرش أجود ما يكون من فرش الخلافة وأسواه، فقال: يا سيدي، لم يكن لأبيك فرش يباهي به الملوك والوفود الذين يردون عليه أحسن من هذا، فأحببت أن أفرشه لك، قَالَ: فأحببت أن يفرش لي في أول خلافتي المردراج، وقال: مزقوه، قَالَ: فرأيت والله الخدم والفراشين قد صيروه ممزقا وفرقوه.
وذكر عن محمد بْن الحسن، قَالَ: حدثني أحمد بْن محمد البرمكي أن إبراهيم بن المهدى غنى محمد بن زبيده:

(8/520)


هجرتك حتى قيل لا يعرف القلى ... وزرتك حتى قيل ليس له صبر
فطرب محمد، وقال: أوقروا زورقه ذهبا.
وذكر عن علي بْن محمد بْن إسماعيل، عن مخارق، قَالَ: انى لعند محمد بن زبيدة يوما ماطرا، وهو مصطبح، وأنا جالس بالقرب منه، وأنا أغني وليس معه أحد، وعليه جبة وشي، لا والله ما رأيت أحسن منها فأقبلت أنظر إليها، فقال: كأنك استحسنتها يا مخارق! قلت: نعم يا سيدي، عليك لأن وجهك حسن فيها، فأنا أنظر إليه وأعوذك قَالَ: يا غلام، فأجابه الخادم، قَالَ: فدعا بجبة غير تلك، فلبسها وخلع التي عليه علي، ومكثت هنيهة ثم نظرت إليه، فعاودني بمثل ذلك الكلام، وعاودته، فدعا بأخرى حتى فعل ذلك بثلاث جباب ظاهرت بينها قَالَ: فلما رآها علي ندم وتغير وجهه، وقال: يا غلام، اذهب إلى الطباخين فقل لهم: يطبخوا لنا مصليه، ويجيدوا صنعتها، وأتني بها الساعة، فما هو إلا أن ذهب الغلام حتى جاء الخوان، وهو لطيف صغير، في وسطه غضارة ضخمة ورغيفان، فوضعت بين يديه، فكسر لقمة فأهوى بها إلى الصحيفة، ثم قَالَ: كل يا مخارق، قلت: يا سيدي، أعفني من الأكل، قَالَ: لست أعفيك فكل، فكسرت لقمة، ثم تناولت شيئا، فلما وضعته في فمي، قَالَ: لعنك الله! ما أشرهك! نغصتها علي وأفسدتها، وأدخلت يدك فيها، ثم رفع الغضارة بيده، فإذا هي في حجري، وقال: قم لعنك الله! فقمت، وذاك الودك والمرق يسيل من الجباب، فخلعتها وأرسلت بها الى منزلي، ودعوت القصارين والوشاءين، فجهدت جهدي أن تعود كما كانت فما عادت.
وذكر عن البحتري أبي عبادة، عن عبيد الله بْن أبي غسان، قَالَ: كنت عند محمد في يوم شات شديد البرد، وهو في مجلس له مفرد مفروش بفرش، قلما رأيت أرفع قيمة مثله ولا أحسن، وأنا في ذلك اليوم طاو ثلاثة أيام ولياليهن إلا من النبيذ، والله لا أستطيع أن أتكلم ولا أعقل، فنهض نهضة

(8/521)


البول، فقلت لخادم من خدم الخاصة: ويلك! قد والله مت، فهل من حيلة إلى شيء تلقيه في جوفي يبرد عني ما أنا فيه! فقال: دعني حتى أحتال لك وأنظر ما أقول، وصدق مقالتي، فلما رجع محمد وجلس نظر الخادم إلي نظرة، فتبسم، فرآه محمد، فقال: مم تبسمت؟ قَالَ: لا شيء يا سيدي، فغضب قَالَ البحتري: فقال: شيء في عبيد الله بْن أبي غسان، لا يستطيع أن يشم رائحة البطيخ ولا يأكله، ويجزع منه جزعا شديدا فقال: يا عبيد الله هذا فيك؟ قَالَ: قلت: إي والله يا سيدي، ابتليت به، قَالَ: ويحك! مع طيب البطيخ وطيب ريحه! قَالَ: فقلت: أنا كذا، قَالَ: فتعجب ثم قَالَ: علي ببطيخ، فأتى منه بعدة، فلما رأيته أظهرت القشعريرة منه، وتنحيت قَالَ: خذوه، وضعوا البطيخ بين يديه، قَالَ: فأقبلت أريه الجزع والاضطراب من ذلك، وهو يضحك، ثم قَالَ: كل واحدة، قَالَ:
فقلت: يا سيدي، تقتلني وترمي بكل شيء في جوفي وتهيج علي العلل، الله الله في! قَالَ: كل بطيخة ولك فرش هذا البيت، علي عهد الله بذلك وميثاقه، قلت: ما أصنع بفرش بيت، وأنا اموت ان أكلت! قَالَ: فتأبيت، وألح علي، وجاء الخادم بالسكاكين فقطعوا بطيخة، فجعلوا يحشونها في فمي، وأنا أصرخ وأضطرب، وأنا مع ذلك أبلع، وأنا أريه أني بكره أفعل ذلك وألطم رأسي، وأصيح وهو يضحك، فلما فرغت تحول إلى بيت آخر، ودعا الفراشين، فحملوا فرش ذلك البيت إلى منزلي، ثم عاودني في فرش ذلك البيت في بطيخة أخرى، ثم فعل كفعله الأول، وأعطاني فرش البيت، حتى أعطاني فرش ثلاثة أبيات، وأطعمني ثلاث بطيخات، قَالَ: وحسنت والله حالي، واشتد ظهري.
قَالَ: وكان منصور بْن المهدي يريه أنه ينصح له، فجاء وقد قام محمد يتوضأ، وعلمت ان محمدا سيعقبنى بشر ندامة على ما خرج من يديه، فأقبل علي منصور ومحمد غائب عن المجلس، وقد بلغه الخبر، فقال: يا بن الفاعلة، تخدع أمير المؤمنين، فتأخذ متاعه! والله لقد هممت أفعل وأفعل، فقلت:
يا سيدي، قد كان ذاك، وكان السبب فيه كذا وكذا، فإن احببت ان

(8/522)


تقتلني فتأثم فشأنك، وإن تفضلت فأهل لذلك أنت، ولست أعود قَالَ:
فإني أتفضل عليك قَالَ: وجاء محمد، فقال: افرشوا لنا على تلك البركة، ففرشوا له عليها، فجلس وجلسنا وهي مملوءة ماء، فقال: يا عم، اشتهيت أن اصنع شيئا، أرمي بعبيد الله إلى البركة وتضحك منه قَالَ: يا سيدي إن فعلت هذا قتلته لشدة برد الماء وبرد يومنا هذا، ولكني أدلك على شيء خيرت به، طيب، قَالَ: ما هو؟ قَالَ: تأمر به يشد في تخت، ويطرح على باب المتوضأ، ولا يأتي باب المتوضأ أحد إلا بال على رأسه فقال: طيب والله، ثم أتى بتخت فأمر فشددت فيه، ثم أمر فحملت والقيت على باب المتوضإ، وجاء الخدم فأرخوا الرباط عني، وأقبلوا يرونه أنهم يبولون علي وأنا أصرخ، فمكث بذلك ما شاء الله وهو يضحك ثم أمر بي فحللت وأريته أني تنظفت وأبدلت ثيابي وجاوزت عليه وذكر عن عبد الله بن العباس بن الفضل بْن الربيع عن أبيه وكان حاجب المخلوع- قَالَ: كنت قائما على رأسه، فأتي بغداء فتغدى وحده، وأكل أكلا عجيبا، وكان يوما يعد للخلفاء قبله على هيئة ما كان يهيأ لكل واحد منهم يأكل من كل طعام، ثم يؤتى بطعامه قَالَ: فأكل حتى فرغ ثم رفع رأسه إلى أبي العنبر- خادم كان لأمه- فقال: اذهب إلى المطبخ، فقل لهم يهيئون لي بزماورد، ويتركونه طوالا لا يقطعونه، ويكون حشوة شحوم الدجاج والسمن والبقل والبيض والجبن والزيتون والجوز، ويكثرون منه ويعجلونه، فما مكث إلا يسيرا حتى جاءوا به في خوان مربع، وقد جعل عليه البزماورد الطوال، على هيئة القبة العبد صمدية، حتى صير أعلاها بزماوردة واحدة، فوضع بين يديه، فتناول واحدة فأكلها، ثم لم يزل كذلك حتى لم يبق على الخوان شيئا.
وذكر عن علي بْن محمد أن جابر بْن مصعب حدثه، قَالَ: حدثني مخارق، قَالَ: مرت بي ليلة ما مرت بي مثلها قط، إني لفي منزلي بعد ليل،

(8/523)


إذ أتاني رسول محمد- وهو خليفة- فركض بي ركضا، فانتهى بي إلى داره، فأدخلت فإذا إبراهيم بْن المهدي قد أرسل إليه كما أرسل إلي، فوافينا جميعا، فانتهى إلى باب مفض إلى صحن، فإذا الصحن مملوء شمعا من شمع محمد العظام، وكأن ذلك الصحن في نهار، وإذا محمد في كرج، وإذا الدار مملوءة وصائف وخدما، وإذا اللعابون يلعبون، ومحمد وسطهم في الكرج يرقص فيه، فجاءنا رسول يقول: قَالَ لكما: قوما في هذا الموضع على هذا الباب مما يلي الصحن، ثم ارفعا أصواتكما معبرا ومقصرا عن السورناي، واتبعاه في لحنة قَالَ: وإذا السورناي والجواري واللعابون في شيء واحد:
هذي دنانير تنساني واذكرها.
تتبع الزمار قال: فو الله ما زلت وإبراهيم قائمين نقولها، نشق بها حلوقنا حتى انفلق الصبح، ومحمد في الكرج ما يسأمه ولا يمله حتى أصبح يدنو منا، أحيانا نراه، وأحيانا يحول بيننا وبينه الجواري والخدم.
وذكر الحسين بْن فراس مولى بني هاشم، قَالَ: غزا الناس في زمان محمد على أن يرد عليهم الخمس، فرد عليهم، فأصاب الرجل ستة دنانير، وكان ذلك مالا عظيما.
وذكر عن ابن الإعرابي، قَالَ: كنت حاضر الفضل بْن الربيع، وأتي بالحسن بْن هانئ، فقال: رفع إلى أمير المؤمنين إنك زنديق، فجعل يبرأ من ذلك ويحلف، وجعل الفضل يكرر عليه، وسأله أن يكلم الخليفة فيه، ففعل وأطلقه، فخرج وهو يقول:
أهلي أتيتكم من القبر ... والناس محتبسون للحشر
لولا أبو العباس ما نظرت ... عيني إلى ولد ولا وفر
فالله ألبسني به نعما ... شغلت حسابتها يدي شكري
لقيتها من مفهم فهم ... فمددتها بأنامل عشر

(8/524)


وذكر عن الرياشي أن أبا حبيب الموشي حدثه، قال: كنت مع مؤنس ابن عمران، ونحن نريد الفضل بْن الربيع ببغداد، فقال لي مؤنس: لو دخلنا على أبي نواس! فدخلنا عليه السجن، فقال لمؤنس: يا أبا عمران، أين تريد؟
قَالَ: أردت أبا العباس الفضل بْن الربيع، قَالَ: فتبلغه رقعة أعطيكها؟
قَالَ: نعم، قَالَ: فأعطاه رقعة فيها:
ما من يد في الناس واحدة ... إلا أبو العباس مولاها
نام الثقات على مضاجعهم ... وسرى إلى نفسي فأحياها
قد كنت خفتك ثم أمنني ... من أن أخافك خوفك الله
فعفوت عني عفو مقتدر ... وجبت له نقم فألغاها
قَالَ: فكانت هذه الأبيات سبب خروجه من الحبس وذكر عن محمد بْن خلاد الشروي، قَالَ: حدثني أبي قَالَ: سمع محمد شعر أبي نواس وقوله:
ألا سقني خمرا وقل لي هي الخمر.
وقوله:
اسقنيها يا ذفافه ... مزة الطعم سلافه
ذل عندي من قلاها ... لرجاء أو مخافه
مثل ما ذلت وضاعت ... بعد هارون الخلافه
قَالَ: ثم أنشد له:
فجاء بها زيتية ذهبية ... فلم نستطع دون السجود لها صبرا
قَالَ: فحبسه محمد على هذا، وقال: إيه! أنت كافر، وأنت زنديق.
فكتب في ذلك إلى الفضل بْن الربيع:

(8/525)


أنت يا بن الربيع علمتني الخير ... وعودتنيه والخير عاده
فارعوى باطلي وأقصر جهلي ... وأظهرت رهبة وزهاده
لو تراني شبهت بي الحسن البصري ... في حال نسكه وقتاده
بركوع أزينه بسجود ... واصفرار مثل اصفرار الجراده
فادع بي لا عدمت تقويم مثلي ... فتأمل بعينك السجاده
لو رآها بعض المرائين يوما ... لاشتراها يعدها للشهاده.

(8/526)


خلافة المأمون عبد الله بْن هارون
وفي هذه السنة وضعت الحرب- بين محمد وعبد الله ابنى هارون الرشيد- أوزارها، واستوسق الناس بالمشرق والعراق والحجاز لعبد الله المأمون بالطاعة.
وفيها خرج الحسن بن الهرش في ذي الحجة منها يدعو إلى الرضى من آل محمد- بزعمه- في سفلة الناس، وجماعة كثيرة من الأعراب، حتى أتى النيل، فجبى الأموال، وأغار على التجار، وانتهب القرى، واستاق المواشي.
وفيها ولى المأمون كل ما كان طاهر بْن الحسين افتتحه من كور الجبال وفارس والأهواز والبصرة والكوفة والحجاز واليمن الحسن بن سهل أخا الفضل ابن سهل، وذلك بعد مقتل محمد المخلوع ودخول الناس في طاعة المأمون.
وفيها كتب المأمون إلى طاهر بْن الحسين، وهو مقيم ببغداد بتسليم جميع ما بيده من الأعمال في البلدان كلها إلى خلفاء الحسن بْن سهل، وأن يشخص عن ذلك كله إلى الرقة، وجعل إليه حرب نصر بْن شبث وولاه الموصل والجزيرة والشام والمغرب.
وفيها قدم علي بْن أبي سعيد العراق خليفة للحسن بْن سهل على خراجها، فدافع طاهر عليا بتسليم الخراج إليه، حتى وفى الجند أرزاقهم، فلما وفاهم سلم إليه العمل.
وفيها كتب المأمون إلى هرثمة يأمره بالشخوص إلى خراسان.
وحج بالناس في هذه السنة العباس بْن موسى بْن عيسى بْن موسى بْن محمد بن على

(8/527)


ثم دخلت

سنة تسع وتسعين ومائة

ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث المشهورة
فمن ذلك قدوم الحسن بْن سهل فيها بغداد من عند المأمون، وإليه الحرب والخراج، فلما قدمها فرق عماله في الكور والبلدان.
وفيها شخص طاهر إلى الرقة في جمادى الأولى، ومعه عيسى بْن محمد بْن أبي خالد وفيها شخص أيضا هرثمة إلى خراسان.
وفيها خرج أزهر بْن زهير بْن المسيب إلى الهرش، فقتله في المحرم.
وفيها خرج بالكوفة محمد بْن إبراهيم بْن إسماعيل بْن ابراهيم بن الحسن ابن الحسن بْن علي بْن أبي طالب يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الآخرة يدعو إلى الرضى من آل محمد والعمل بالكتاب والسنة، وهو الذي يقال له ابن طباطبا، وكان القيم بأمره في الحرب وتدبيرها وقيادة جيوشه ابو السرايا، واسمه السري بْن منصور، وكان يذكر أنه من ولد هانئ بْن قبيصة بْن هانئ بْن مسعود بْن عامر بْن عمرو بْن أبي ربيعة بْن ذهل بْن شيبان.

ذكر الخبر عن سبب خروج محمد بْن إبراهيم بْن طباطبا
اختلف في ذلك، فقال بعضهم: كان سبب خروجه صرف المأمون طاهر ابن الحسين عما كان إليه من أعمال البلدان التي فتحها وتوجيهه إلى ذلك الحسن بْن سهل، فلما فعل ذلك تحدث الناس بالعراق بينهم أن الفضل بْن سهل قد غلب على المأمون، وانه قد انزله قصرا حجبه فيه عن أهل بيته ووجوه قواده من الخاصة والعامة، وأنه يبرم الأمور على هواه، ويستبد بالرأي دونه.
فغضب لذلك بالعراق من كان بها من بني هاشم ووجوه الناس، وأنفوا من

(8/528)


غلبة الفضل بْن سهل على المأمون، واجترءوا على الحسن بْن سهل بذلك، وهاجت الفتن في الأمصار، فكان أول من خرج بالكوفة ابن طباطبا الذي ذكرت.
وقيل كان سبب خروجه أن أبا السرايا كان من رجال هرثمة، فمطله بأرزاقه وأخره بها، فغضب أبو السرايا من ذلك، ومضى إلى الكوفة فبايع محمد بن ابراهيم وأخذ الكوفه، واستوسق له أهلها بالطاعة، وأقام محمد بْن إبراهيم بالكوفه، وأتاه الناس من نواحي الكوفه والاعراب وغيرهم.

ذكر الوقعة بين أهل الكوفة وزهير بْن المسيب
وفيها وجه الحسن بْن سهل زهير بْن المسيب في أصحابه إلى الكوفة- وكان عامل الكوفة يومئذ حين دخلها ابن طباطبا سليمان بْن أبي جعفر المنصور- من قبل الحسن بْن سهل، وكان خليفة سليمان بْن أبي جعفر بها خالد بْن محجل الضبي- فلما بلغ الخبر الحسن بْن سهل عنف سليمان وضعفه، ووجه زهير بْن المسيب في عشرة آلاف فارس وراجل، فلما توجه إليهم وبلغهم خبر شخوصه إليهم تهيئوا للخروج إليه، فلم تكن لهم قوة على الخروج، فأقاموا حتى إذا بلغ زهير قرية شاهي خرجوا فأقاموا حتى إذا بلغوا القنطرة أتاهم زهير، فنزل عشية الثلاثاء صعنبا، ثم واقعهم من الغد فهزموه واستباحوا عسكره، وأخذوا ما كان معه من مال وسلاح ودواب وغير ذلك يوم الأربعاء.
فلما كان من غد اليوم الذي كانت فيه الوقعة بين اهل الكوفه وزهير ابن المسيب- وذلك يوم الخميس لليلة خلت من رجب سنة تسع وتسعين ومائة- مات محمد بْن إبراهيم بْن طباطبا فجاءة، فذكر أن أبا السرايا سمه، وكان السبب في ذلك- فيما ذكر- أن ابن طباطبا لما أحرز ما في عسكر زهير من المال والسلاح والدواب وغير ذلك منعه أبا السرايا، وحظره عليه، وكان الناس له مطيعين، فعلم أبو السرايا أنه لا أمر له معه فسمه، فلما مات ابن طباطبا أقام أبو السرايا مكانه غلاما أمرد حدثا يقال له محمد بْن محمد بْن زيد بْن علي بْن الحسين بْن علي بْن أبي طالب، فكان أبو السرايا هو الذي ينفذ

(8/529)


الأمور، ويولي من رأى، ويعزل من أحب، وإليه الأمور كلها، ورجع زهير من يومه الذي هزم فيه إلى قصر ابن هبيرة، فأقام به وكان الحسن بْن سهل قد وجه عبدوس بْن محمد بْن أبي خالد المروروذي إلى النيل حين وجه زهير إلى الكوفة، فخرج بعد ما هزم زهير عبدوس يريد الكوفة بأمر الحسن بْن سهل، حتى بلغ الجامع هو وأصحابه، وزهير مقيم بالقصر، فتوجه أبو السرايا إلى عبدوس، فواقعه بالجامع، يوم الأحد لثلاث عشرة بقيت من رجب فقتله، وأسر هارون بْن محمد بْن أبي خالد، واستباح عسكره وكان عبدوس- فيما ذكر- في أربعة آلاف فارس، فلم يفلت منهم أحد، كانوا بين قتيل وأسير، وانتشر الطالبيون في البلاد، وضرب أبو السرايا الدراهم بالكوفة، ونقش عليها: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ» ، ولما بلغ زهيرا قتل أبي السرايا عبدوسا وهو بالقصر، انحاز بمن معه إلى نهر الملك.
ثم إن أبا السرايا أقبل حتى نزل قصر ابن هبيرة بأصحابه، وكانت طلائعه تأتي كوثى ونهر الملك، فوجه أبو السرايا جيوشا إلى البصرة وواسط فدخلوهما، وكان بواسط ونواحيها عبد الله بْن سعيد الحرشي واليا عليها من قبل الحسن ابن سهل، فواقعه جيش أبي السرايا قريبا من واسط فهزموه، فانصرف راجعا إلى بغداد، وقد قتل من أصحابه جماعة وأسر جماعة فلما راى الحسن ابن سهل أن أبا السرايا ومن معه لا يلقون له عسكرا إلا هزموه، ولا يتوجهون إلى بلدة إلا دخلوها، ولم يجد فيمن معه من القواد من يكفيه حربه، اضطر إلى هرثمة- وكان هرثمة حين قدم عليه الحسن بْن سهل العراق واليا عليها من قبل المأمون، سلم ما كان بيده من الأعمال، وتوجه نحو خراسان مغاضبا للحسن، فسار حتى بلغ حلوان- فبعث إليه السندي وصالحا صاحب المصلى يسأله الانصراف إلى بغداد لحرب أبي السرايا، فامتنع وأبى وانصرف الرسول إلى الحسن بإبائه، فأعاد إليه السندي بكتب لطيفة، فأجاب، وانصرف إلى

(8/530)


بغداد، فقدمها في شعبان، فتهيأ للخروج إلى الكوفة، وأمر الحسن بْن سهل علي بْن أبي سعيد أن يخرج إلى ناحية المدائن وواسط والبصرة، فتهيئوا لذلك.
وبلغ الخبر أبا السرايا وهو بقصر ابن هبيرة، فوجه إلى المدائن، فدخلها أصحابه في رمضان، وتقدم هو بنفسه وبمن معه حتى نزل نهر صرصر مما يلي طريق الكوفة في شهر رمضان وكان هرثمة لما احتبس قدومه على الحسن ببغداد أمر المنصور بْن المهدي أن يخرج فيعسكر بالياسرية إلى قدوم هرثمة، فخرج فعسكر، فلما قدم هرثمة خرج فعسكر بالسفينتين بين يدي منصور، ثم مضى حتى عسكر بنهر صرصر بإزاء أبي السرايا، والنهر بينهما، وكان على ابن أبي سعيد معسكرا بكلواذى، فشخص يوم الثلاثاء بعد الفطر بيوم، ووجه مقدمته إلى المدائن، فقاتل بها أصحاب أبي السرايا غداة الخميس إلى الليل قتالا شديدا فلما كان الغد غدا وأصحابه على القتال فانكشف أصحاب أبي السرايا وأخذ ابن أبي سعيد المدائن وبلغ الخبر أبا السرايا وأخذ ابن أبي سعيد المدائن، فلما كان ليلة السبت لخمس خلون من شوال رجع أبو السرايا من نهر صرصر إلى قصر ابن هبيرة، فنزل به، وأصبح هرثمة فجد في طلبه، فوجد جماعة كثيرة من أصحابه فقتلهم، وبعث برءوسهم إلى الحسن ابن سهل، ثم صار هرثمة إلى قصر ابن هبيرة، فكانت بينه وبين أبي السرايا وقعة قتل فيها من أصحاب أبي السرايا خلق كثير، فانحاز أبو السرايا إلى الكوفة، فوثب محمد بْن محمد ومن معه من الطالبيين على دور بني العباس ودور مواليهم وأتباعهم بالكوفة، فانتهبوها وخربوها وأخرجوهم من الكوفة، وعملوا في ذلك عملا قبيحا، واستخرجوا الودائع التي كانت لهم عند الناس فأخذوها وكان هرثمة- فيما ذكر- يخبر الناس أنه يريد الحج، فكان قد حبس من يريد الحج من خراسان والجبال والجزيرة وحاج بغداد وغيرهم، فلم يدع أحدا يخرج، رجاء أن يأخذ الكوفة، ووجه أبو السرايا إلى مكة والمدينة من يأخذهما، ويقيم الحج للناس.
وكان الوالي على مكة والمدينة داود بْن عيسى بْن موسى بْن محمد بْن علي بْن عبد الله بْن العباس، وكان الذي وجهه أبو السرايا الى مكة

(8/531)


حسين بْن حسن الأفطس بْن علي بْن الحسين بْن علي بْن أبي طالب والذي وجهه إلى المدينة محمد بْن سليمان بْن داود بن الحسن بْن الحسن بْن علي بْن أبي طالب، فدخلها ولم يقاتله بها أحد، ومضى حسين بْن حسن يريد مكة فلما قرب منها وقف هنيهة لمن فيها وكان داود بْن عيسى لما بلغه توجيه أبي السرايا حسين بن حسن إلى مكة لإقامة الحج للناس جمع موالي بني العباس وعبيد حوائطهم، وكان مسرور الكبير الخادم قد حج في تلك السنة في مائتي فارس من أصحابه، فتعبأ لحرب من يريد دخول مكة وأخذها من الطالبيين، فقال لداود بْن عيسى: أقم لي شخصك أو شخص بعض ولدك، وأنا أكفيك قتالهم، فقال له داود: لا أستحل القتال في الحرم، والله لئن دخلوا من هذا الفج لأخرجن من هذا الفج الآخر، فقال له مسرور: تسلم ملكك وسلطانك إلى عدوك ومن لا يأخذه فيك لومة لائم في دينك ولا حرمك ولا مالك! قَالَ له داود: أي ملك لي! والله لقد أقمت معهم حتى شيخت فما ولوني ولاية حتى كبرت سني، وفني عمري، فولوني من الحجاز ما فيه القوت، إنما هذا الملك لك وأشباهك، فقاتل إن شئت أو دع فانحاز داود من مكة إلى ناحية المشاش، وقد شد أثقاله على الإبل، فوجه بها في طريق العراق، وافتعل كتابا من المأمون بتولية ابنه محمد بْن داود على صلاة الموسم، فقال له:
اخرج فصل بالناس الظهر والعصر بمنى، والمغرب والعشاء، وبت بمنى، وصل بالناس الصبح، ثم اركب دوابك فانزل طريق عرفه، وخذ على يسارك في شعب عمرو، حتى تأخذ طريق المشاش، حتى تلحقني ببستان ابن عامر.
ففعل ذلك، وافترق الجمع الذي كان داود بْن عيسى معهم بمكة من موالي بني العباس وعبيد الحوائط، وفت ذلك في عضد مسرور الخادم، وخشي إن قاتلهم أن يميل أكثر الناس معهم، فخرج في أثر داود راجعا إلى العراق، وبقي الناس بعرفة، فلما زالت الشمس وحضرت الصلاة، تدافعها قوم من أهل مكة، فقال أحمد بْن محمد بْن الوليد الردمي- وهو المؤذن وقاضي الجماعة والإمام بأهل المسجد الحرام: إذ لم تحضر الولاة- لقاضي مكة محمد بْن عبد الرحمن

(8/532)


المخزومي: تقدم فاخطب بالناس، وصل بهم الصلاتين، فإنك قاضي البلد.
قَالَ: فلمن أخطب وقد هرب الإمام، وأطل هؤلاء القوم على الدخول! قَالَ: لا تدع لأحد، قَالَ له محمد: بل أنت فتقدم واخطب، وصل بالناس، فأبى، حتى قدموا رجلا من عرض أهل مكة، فصلى بالناس الظهر والعصر بلا خطبة، ثم مضوا فوقفوا جميعا بالموقف من عرفة حتى غربت الشمس، فدفع الناس لأنفسهم من عرفة بغير إمام، حتى أتوا مزدلفة، فصلى بهم المغرب والعشاء رجل أيضا من عرض الناس وحسين بْن حسن يتوقف بسرف يرهب أن يدخل مكة، فيدفع عنها ويقاتل دونها، حتى خرج إليه قوم من أهل مكة ممن يميل إلى الطالبيين، ويتخوف من العباسيين، فأخبروه أن مكة ومنى وعرفة قد خلت ممن فيها من السلطان، وأنهم قد خرجوا متوجهين إلى العراق.
فدخل حسين بْن حسن مكة قبل المغرب من يوم عرفة، وجميع من معه لا يبلغون عشرة، فطافوا بالبيت وسعوا بين الصفا والمروة، ومضوا إلى عرفة في الليل، فوقفوا بها ساعة من الليل، ثم رجع إلى مزدلفة فصلى بالناس الفجر، ووقف على قزح، ودفع بالناس منه.
وأقام بمنى ايام الحج، فلم يزل مقيما حتى انقضت سنة تسع وتسعين ومائة، وأقام محمد بْن سليمان بْن داود الطالبي بالمدينة السنة أيضا، فانصرف الحاج ومن كان شهد مكة والموسم، على أن أهل الموسم قد أفاضوا من عرفة بغير إمام.
وقد كان هرثمة لما تخوف أن يفوته الحج- وقد نزل قرية شاهي- واقع أبا السرايا وأصحابه في المكان الذي واقعه فيه زهير، فكانت الهزيمة على هرثمة في أول النهار، فلما كان آخر النهار كانت الهزيمة على أصحاب أبي السرايا، فلما رأى هرثمة أنه لم يصر إلى ما أراد، أقام بقرية شاهي، ورد الحاج وغيرهم، وبعث إلى المنصور بْن المهدي فأتاه بقرية شاهي، وصار يكاتب رؤساء أهل الكوفة، وقد كان علي بْن أبي سعيد لما أخذ المدائن توجه إلى واسط فأخذها، ثم إنه توجه إلى البصرة فلم يقدر على أخذها حتى انقضت سنة تسع وتسعين ومائه.

(8/533)


ثم دخلت

سنة مائتين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)

ذكر الخبر عن هرب ابى السرايا وما آل اليه امره
فمما كان فيها من ذلك هرب أبي السرايا من الكوفة ودخول هرثمة إليها.
ذكر أن أبا السرايا هرب هو ومن معه من الطالبيين من الكوفة ليلة الأحد لأربع عشرة ليلة بقيت من المحرم من سنة مائتين، حتى اتى القادسية ودخل منصور ابن المهدي وهرثمة الكوفة صبيحة تلك الليلة، وآمنوا أهلها، ولم يعرضوا لأحد منهم، فأقاموا بها يومهم إلى العصر، ثم رجعوا إلى معسكرهم، وخلفوا بها رجلا منهم يقال له غسان بْن أبي الفرج أبو إبراهيم بْن غسان صاحب حرس صاحب خراسان، فنزل في الدار التي كان فيها محمد بْن محمد وأبو السرايا ثم أن أبا السرايا خرج من القادسية هو ومن معه حتى أتوا ناحية واسط، وكان بواسط علي بْن أبي سعيد، وكانت البصرة بيد العلويين بعد، فجاء أبو السرايا حتى عبر دجلة أسفل من واسط، فأتى عبدسي، فوجد بها مالا كان حمل من الأهواز، فأخذه ثم مضى حتى أتى السوس، فنزلها ومن معه، وأقام بها أربعة ايام، وجعل يعطى الفارس ألفا والراجل خمسمائة، فلما كان اليوم الرابع أتاهم الحسن بْن علي الباذغيسي المعروف بالمأموني فأرسل إليهم: اذهبوا حيث شئتم، فإنه لا حاجة لي في قتالكم، وإذا خرجتم من عملي فلست أتبعكم فأبى أبو السرايا إلا القتال، فقاتلهم، فهزمهم الحسن، واستباح عسكرهم، وجرح أبو السرايا جراحة شديده، فهرب، واجتمع هو ومحمد بن محمد وأبو الشوك، وقد تفرق أصحابهم، فأخذوا ناحية طريق الجزيرة يريدون منزل أبي السرايا برأس العين، فلما انتهوا إلى جلولاء عثر بهم، فأتاهم حماد الكندغوش فأخذهم، فجاء بهم إلى الحسن بْن سهل، وكان مقيما بالنهروان

(8/534)


حين طردته الحربية، فقدم بأبي السرايا، فضرب عنقه يوم الخميس لعشر خلون من ربيع الاول وذكروا أن الذي تولى ضرب عنقه هارون بْن محمد بْن أبي خالد، وكان أسيرا في أيدي ابى السرايا وذكروا أنه لم يروا أحدا عند القتل أشد جزعا من أبي السرايا، كان يضطرب بيديه ورجليه، ويصيح أشد ما يكون من الصياح، حتى جعل في رأسه حبل، وهو في ذلك يضطرب ويلتوي ويصيح، حتى ضربت عنقه ثم بعث برأسه فطيف به في عسكر الحسن بْن سهل، وبعث بجسده إلى بغداد، فصلب نصفين على الجسر، في كل جانب نصف، 4 وكان بين خروجه بالكوفة وقتله عشرة أشهر.
وكان علي بْن أبي سعيد حين عبر أبو السرايا توجه إليه، فلما فاته توجه إلى البصرة فافتتحها والذي كان بالبصرة من الطالبيين زيد بْن موسى بْن جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ بْن علي بْن أبي طالب ومعه جماعة من أهل بيته، وهو الذي يقال له زيد النار- وإنما سمي زيد النار لكثرة ما حرق من الدور بالبصرة من دور بني العباس وأتباعهم، وكان إذا أتي برجل من المسودة كانت عقوبته عنده أن يحرقه بالنار- وانتهبوا بالبصرة أموالا، فأخذه علي بْن أبي سعيد أسيرا وقيل إنه طلب الأمان فآمنه وبعث علي بْن أبي سعيد ممن كان معه من القواد عيسى بْن يزيد الجلودي وورقاء بْن جميل وحمدويه بْن علي بْن عيسى بْن ماهان وهارون بْن المسيب إلى مكة والمدينة واليمن، وأمرهم بمحاربة من بها من الطالبيين وقال التميمي في قتل الحسن بْن سهل أبا السرايا:
ألم تر ضربة الحسن بْن سهل ... بسيفك يا أمير المؤمنينا
أدارت مرو رأس أبي السرايا ... وأبقت عبرة للعابرينا
وبعث الحسن بْن سهل محمد بْن محمد حين قتل ابو السرايا الى المأمون بخراسان
. ذكر الخبر عن خروج ابراهيم بن موسى باليمن
وفي هذه السنة خرج إبراهيم بْن موسى بْن جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ بْن علي بْن أبي طالب باليمن

(8/535)


ذكر الخبر عنه وعن أمره:
وكان إبراهيم بْن موسى- فيما ذكر- وجماعة من أهل بيته بمكة حين خرج أبو السرايا وأمره وأمر الطالبيين بالعراق ما ذكر وبلغ إبراهيم بْن موسى خبرهم، فخرج من مكة مع من كان معه من أهل بيته يريد اليمن، ووالي اليمن يومئذ المقيم بها من قبل المأمون إسحاق بْن موسى بْن عيسى بْن موسى بْن محمد بن عَلِيّ بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس فلما سمع بإقبال إبراهيم بْن موسى العلوي وقربه من صنعاء، خرج منصرفا عن اليمن، في الطريق النجدية بجميع من في عسكره من الخيل والرجل، وخلى لإبراهيم بْن موسى بْن جعفر اليمن وكره قتاله، وبلغه ما كان من فعل عمه داود بْن عيسى بمكة والمدينة، ففعل مثل فعله، وأقبل يريد مكة، حتى نزل المشاش، فعسكر هناك، وأراد دخول مكة، فمنعه من كان بها من العلويين، وكانت أم إسحاق بْن موسى بْن عيسى متوارية بمكة من العلويين، وكانوا يطلبونها فتوارت منهم، ولم يزل إسحاق بْن موسى معسكرا بالمشاش، وجعل من كان بمكة مستخفيا يتسللون من رءوس الجبال، فأتوا بها ابنها في عسكره وكان يقال لإبراهيم بْن موسى:
الجزار، لكثرة من قتل باليمن من الناس وسبى وأخذ من الأموال
. ذكر ما فعله الحسين بن الحسن الافطس بمكة
وفي هذه السنة في أول يوم من المحرم منها بعد ما تفرق الحاج من مكة جلس حسين بْن حسن الأفطس خلف المقام على نمرقة مثنية، فأمر بثياب الكعبة التي عليها فجردت منها حتى لم يبق عليها من كسوتها شيئا، وبقيت حجارة مجردة، ثم كساها ثوبين من قز رقيق، كان ابو السرايا وجه بهما معه مكتوب عليهما: أمر به الأصفر بْن الأصفر أبو السرايا داعية آل محمد، لكسوة بيت الله الحرام، وأن يطرح عنه كسوة الظلمه من ولد العباس، لتطهر من كسوتهم وكتب في سنة تسع وتسعين ومائة.
ثم أمر حسين بْن حسن بالكسوة التي كانت على الكعبة فقسمت بين أصحابه من العلويين وأتباعهم على قدر منازلهم عنده، وعمد إلى ما في خزانة

(8/536)


الكعبة من مال فأخذه، ولم يسمع بأحد عنده وديعة لأحد من ولد العباس وأتباعهم إلا هجم عليه في داره، فإن وجد من ذلك شيئا أخذه وعاقب الرجل، وإن لم يجد عنده شيئا حبسه وعذبه حتى يفتدي نفسه بقدر طوله، ويقر عند الشهود أن ذلك للمسودة من بني العباس وأتباعهم، حتى عم هذا خلقا كثيرا.
وكان الذي يتولى العذاب لهم رجلا من أهل الكوفة يقال له محمد بْن مسلمة، كان ينزل في دار خالصة عند الحناطين، فكان يقال لها دار العذاب، وأخافوا الناس، حتى هرب منهم خلق كثير من أهل النعم، فتعقبوهم بهدم دورهم حتى صاروا من أمر الحرم، وأخذ أبناء الناس في أمر عظيم، وجعلوا يحكون الذهب الرقيق الذي في رءوس أساطين المسجد، فيخرج من الأسطوانة بعد التعب الشديد قدر مثقال ذهب أو نحوه، حتى عم ذلك أكثر أساطين المسجد الحرام، وقلعوا الحديد الذي على شبابيك زمزم، ومن خشب الساج، فبيع بالثمن الخسيس فلما رأى حسين بْن حسن ومن معه من أهل بيته تغير الناس لهم بسيرتهم، وبلغهم أن أبا السرايا قد قتل، وأنه قد طرد من الكوفة والبصرة وكور العراق من كان بها من الطالبيين، ورجعت الولاية بها لولد العباس، اجتمعوا إلى محمد بْن جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ بْن علي بْن أبي طالب- وكان شيخا وداعا محببا في الناس، مفارقا لما عليه كثير من أهل بيته من قبح السيرة، وكان يروي العلم عن أبيه جعفر بْن محمد، وكان الناس يكتبون عنه، وكان يظهر سمتا وزهدا- فقالوا له: قد تعلم حالك في الناس، فأبرز شخصك نبايع لك بالخلافة، فإنك إن فعلت ذلك لم يختلف عليك رجلان، فأبى ذلك عليهم، فلم يزل به ابنه علي بْن محمد بْن جعفر وحسين بْن حسن الأفطس حتى غلبا الشيخ على رأيه، فأجابهم فأقاموه يوم صلاة الجمعة بعد الصلاة لست خلون من ربيع الآخر، فبايعوه بالخلافة، وحشروا إليه الناس من أهل مكة والمجاورين، فبايعوه طوعا وكرها، وسموه بإمرة المؤمنين، فأقام بذلك أشهرا، وليس له من الأمر إلا اسمه، وابنه علي وحسين بْن حسن وجماعة منهم أسوأ ما كانوا سيرة، وأقبح ما كانوا فعلا، فوثب حسين بْن حسن على امرأة من قريش من بني فهر- وزوجها رجل من بني مخزوم، وكان لها

(8/537)


جمال بارع- فأرسل إليها لتأتيه، فامتنعت عليه، فأخاف زوجها وامر بطلبها فتوارت منه، فأرسل ليلا جماعة من أصحابه فكسروا باب الدار، واغتصبوها نفسها، وذهبوا بها إلى حسين، فلبثت عنده إلى قرب خروجه من مكة، فهربت منه، ورجعت إلى أهلها وهم يقاتلون بمكة ووثب علي بْن محمد بْن جعفر على غلام من قريش، ابن قاض بمكة يقال له إسحاق بْن محمد، وكان جميلا بارعا في الجمال- فاقتحم عليه بنفسه نهارا جهارا في داره على الصفا مشرفا على المسعى، حتى حمله على فرسه في السرج وركب علي بْن محمد على عجز الفرس، وخرج به يشق السوق حتى أتى بئر ميمون- وكان ينزل في دار داود بْن عيسى في طريق منى- فلما رأى ذلك أهل مكة ومن بها من المجاورين، خرجوا فاجتمعوا في المسجد الحرام، وغلقت الدكاكين، ومال معهم أهل الطواف بالكعبة، حتى أتوا محمد بْن جعفر بْن محمد، وهو نازل دار داود، فقالوا: والله لنخلعنك ولنقتلنك، أو تردن إلينا هذا الغلام الذي ابنك أخذه جهرة فأغلق باب الدار، وكلمهم من الشباك الشارع في المسجد، فقال: والله ما علمت، وأرسل إلى حسين بْن حسن يسأله أن يركب إلى ابنه علي فيستنقذ الغلام منه فأبى ذلك حسين، وقال: والله إنك لتعلم أني لا أقوى على ابنك، ولو جئته لقاتلني وحاربني في أصحابه فلما رأى ذلك محمد قَالَ لأهل مكة: آمنوني حتى أركب إليه وآخذ الغلام منه فآمنوه وأذنوا له في الركوب، فركب بنفسه حتى صار إلى ابنه، فأخذ الغلام منه وسلمه إلى أهله قَالَ: فلم يلبثوا إلا يسيرا حتى أقبل إسحاق بْن موسى بْن عيسى العباسي مقبلا من اليمن حتى نزل المشاش، فاجتمع العلويون إلى محمد بْن جعفر بْن محمد، فقالوا له: يا أمير المؤمنين، هذا إسحاق بْن موسى مقبلا إلينا في الخيل والرجال، وقد رأينا أن نخندق خندقا بأعلى مكة، وتبرز شخصك ليراك الناس ويحاربوا معك وبعثوا إلى من حولهم من الأعراب، ففرضوا لهم، وخندقوا على مكة ليقاتلوا إسحاق بْن موسى من ورائه، فقاتلهم إسحاق أياما ثم أن إسحاق كره القتال والحرب، وخرج يريد العراق، فلقيه ورقاء بْن جميل في أصحابه ومن كان معه من اصحاب الجلودي، فقالوا:
ارجع معنا إلى مكة ونحن نكفيك القتال فرجع معهم حتى أتوا مكة

(8/538)


فنزلوا المشاش واجتمع إلى محمد بْن جعفر من كان معه من غوغائها، ومن سودان أهل المياه، ومن فرض له من الأعراب، فعبأهم ببئر ميمون، وأقبل إليهم إسحاق بْن موسى وورقاء بْن جميل بمن معه من القواد والجند، فقاتلهم ببئر ميمون، فوقعت بينهم قتلى وجراحات ثم رجع إسحاق وورقاء إلى معسكرهم، ثم عاودهم بعد ذلك بيوم فقاتلهم، فكانت الهزيمة على محمد بْن جعفر وأصحابه، فلما رأى ذلك محمد، بعث رجالا من قريش فيهم قاضي مكة يسألون لهم الأمان، حتى يخرجوا من مكة، ويذهبوا حيث شاءوا، فأجابهم إسحاق وورقاء بْن جميل إلى ذلك، وأجلوهم ثلاثة أيام، فلما كان في اليوم الثالث، دخل إسحاق وورقاء إلى مكة في جمادى الآخرة وورقاء الوالي على مكة للجلودي، وتفرق الطالبيون من مكة، فذهب كل قوم ناحية، فأما محمد بْن جعفر فأخذ ناحية جده، ثم خرج يريد الجحفة، فعرض له رجل من موالي بني العباس يقال له محمد بْن حكيم بْن مروان، قد كان الطالبيون انتهبوا داره بمكة، وعذبوه عذابا شديدا، وكان يتوكل لبعض العباسيين بمكة لآل جعفر بْن سليمان، فجمع عبيد الحوائط من عبيد العباسيين حتى لحق محمد بْن جعفر بين جدة وعسفان، فانتهب جميع ما معه مما خرج به من مكة، وجرده حتى تركه في سراويل، وهم بقتله، ثم طرح عليه بعد ذلك قميصا وعمامة ورداء ودريهمات يتسبب بها، فخرج محمد بْن جعفر حتى أتى بلاد جهينة على الساحل، فلم يزل مقيما هنالك حتى انقضى الموسم، وهو في ذلك يجمع الجموع وقد وقع بينه وبين هارون بْن المسيب والي المدينة وقعات عند الشجرة وغيرها، وذلك أن هارون بعث ليأخذه، فلما راى ذلك أتاه بمن اجتمع حتى بلغ الشجرة، فخرج إليه هارون فقاتله، فهزم محمد بْن جعفر، وفقئت عينه بنشابة، وقتل من أصحابه بشر كثير، فرجع حتى أقام بموضعه الذي كان فيه ينتظر ما يكون من أمر الموسم، فلم يأته من كان وعده فلما رأى ذلك وانقضى الموسم، طلب الأمان من الجلودي ومن رجاء ابن عم الفضل بْن سهل، وضمن له رجاء على المأمون وعلى الفضل بْن سهل ألا يهاج، وأن يوفى له بالأمان، فقبل ذلك ورضيه، ودخل به إلى مكة، يوم الأحد بعد النفر الأخير بثمانية أيام لعشر بقين من ذي الحجة، فأمر عيسى بْن يزيد

(8/539)


الجلودي ورجاء بْن أبي الضحاك ابن عم الفضل بْن سهل بالمنبر، فوضع بين الركن والمقام حيث كان محمد بْن جعفر بويع له فيه، وقد جمع الناس من القريشيين وغيرهم، فصعد الجلودي رأس المنبر، وقام محمد بْن جعفر تحته بدرجة، وعليه قباء أسود وقلنسوة سوداء، وليس عليه سيف ليخلع نفسه.
ثم قام محمد، فقال:
أيها الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا محمد بْن جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ بْن علي بن أبي طالب، فإنه كان لعبد الله عبد الله أمير المؤمنين في رقبتي بيعة بالسمع والطاعة، طائعا غير مكره، وكنت أحد الشهود الذين شهدوا في الكعبة في الشرطين لهارون الرشيد على ابنيه: محمد المخلوع وعبد الله المأمون أمير المؤمنين ألا وقد كانت فتنة غشيت عامة الأرض منا ومن غيرنا وكان نمي إلي خبر، أن عبد الله عبد الله المأمون أمير المؤمنين كان توفي، فدعاني ذلك إلى أن بايعوا لي بإمرة المؤمنين، واستحللت قبول ذلك لما كان علي من العهود والمواثيق في بيعتي لعبد الله عبد الله الإمام المأمون، فبايعتموني- أو من فعل منكم- ألا وقد بلغني وصح عندي أنه حي سوي ألا وإني أستغفر الله مما دعوتكم إليه من البيعة، وقد خلعت نفسي من بيعتي التي بايعتموني عليها، كما خلعت خاتمي هذا من أصبعي، وقد صرت كرجل من المسلمين فلا بيعة لي في رقابهم، وقد أخرجت نفسي من ذلك، وقد رد الله الحق إلى الخليفة المأمون عبد الله عبد الله المأمون أمير المؤمنين، والحمد لله رب العالمين، والصلاة على محمد خاتم النبيين والسلام عليكم أيها المسلمون ثم نزل فخرج به عيسى بْن يزيد الجلودي إلى العراق، واستخلف على مكة ابنه محمد بْن عيسى في سنة إحدى ومائتين، وخرج عيسى ومحمد بْن جعفر حتى سلمة إلى الحسن بْن سهل، فبعث به الحسن بْن سهل إلى المأمون بمرو مع رجاء بْن أبي الضحاك.
وفي هذه السنة وجه إبراهيم بْن موسى بْن جعفر بْن محمد الطالبي بعض ولد عقيل بْن أبي طالب من اليمن في جند كثيف إلى مكة ليحج بالناس، فحورب العقيلي فهزم، ولم يقدر على دخول مكة.

(8/540)


ذكر الخبر عن امر ابراهيم والعقيلي الذي ذكرنا أمره
ذكر أن أبا إسحاق بْن هارون الرشيد حج بالناس في سنة مائتين، فسار حتى دخل مكة، ومعه قواد كثير، فيهم حمدويه بْن علي بْن عيسى بْن ماهان، وقد استعمله الحسن بْن سهل على اليمن، ودخلوا مكة، وبها الجلودي في جنده وقواده، ووجه إبراهيم بْن موسى بْن جعفر بن محمد العلوي من اليمن راجلا من ولد عقيل بْن أبي طالب، وأمره أن يحج بالناس، فلما صار العقيلي إلى بستان ابْن عامر، بلغه أن أبا إسحاق بْن هارون الرشيد قد ولي الموسم، وأن معه من القواد والجنود مالا قبل لأحد به، فأقام ببستان ابن عامر، فمرت به قافلة من الحاج والتجار، فيها كسوة الكعبة وطيبها، فأخذ أموال التجار وكسوة الكعبة وطيبها، وقدم الحاج والتجار مكة عراة مسلبين، فبلغ ذلك أبا إسحاق بن الرشيد وهو نازل بمكة في دار القوارير، فجمع إليه القواد فشاورهم، فقال له الجلودي- وذلك قبل التروية بيومين أو ثلاثة: أصلح الله الأمير! أنا أكفيكهم، أخرج إليهم في خمسين من نخبة أصحابي، وخمسين أنتخبهم من سائر القواد.
فأجابوه إلى ذلك، فخرج الجلودي في مائة حتى صبح العقيلي وأصحابه ببستان ابن عامر، فأحدق بهم، فأسر أكثرهم وهرب من هرب منهم يسعى على قدميه، فأخذ كسوة الكعبة إلا شيئا كان هرب به من هرب قبل ذلك بيوم واحد، وأخذ الطيب وأموال التجار والحاج، فوجه به إلى مكة، ودعا بمن أسر من أصحاب العقيلي، فأمر بهم فقنع كل رجل منهم عشرة أسواط، ثم قَالَ:
اعزبوا يا كلاب النار، فو الله ما قتلكم وعر، ولا في أسركم جمال وخلى سبيلهم، فرجعوا إلى اليمن يستطعمون في الطريق حتى هلك أكثرهم جوعا وعريا.
وخالف ابن أبي سعيد على الحسن بْن سهل، فبعث المأمون بسراج الخادم، وقال له: إن وضع على يده في يد الحسن او شخص الى بمرو والا فاضرب عنقه فشخص إلى المأمون مع هرثمة بْن أعين.
وفي هذه السنة شخص هرثمة في شهر ربيع الأول منها من معسكره إلى المأمون بمرو.

(8/541)


ذكر الخبر عن شخوص هرثمة إلى المأمون وما آل إليه أمره في مسيره ذلك
ذكر أن هرثمة لما فرغ من أمر أبي السرايا ومحمد بْن محمد العلوي، ودخل الكوفة، أقام في معسكره إلى شهر ربيع الأول، فلما أهل الشهر خرج حتى أتى نهر صرصر، والناس يرون أنه يأتي الحسن بْن سهل بالمدائن، فلما بلغ نهر صرصر خرج على عقرقوف، ثم خرج حتى أتى البردان، ثم أتى النهروان، ثم خرج حتى اتى الى خراسان، وقد اتته كتب المأمون في غير منزل، أن يرجع فيلي الشام أو الحجاز، فأبى وقال: لا أرجع حتى ألقى أمير المؤمنين، أدلالا منه عليه، لما كان يعرف من نصيحته له ولآبائه، وأراد أن يعرف المأمون ما يدبر عليه الفضل بْن سهل، وما يكتم عنه من الأخبار، وألا يدعه حتى يرده إلى بغداد، دار خلافة آبائه وملكهم ليتوسط سلطانه، ويشرف على أطرافه فعلم الفضل ما يريد، فقال للمأمون: إن هرثمة قد أنغل عليك البلاد والعباد، وظاهر عليك عدوك، وعادى وليك، ودس أبا السرايا، وهو جندي من جنده حتى عمل ما عمل، ولو شاء هرثمة ألا يفعل ذلك أبو السرايا ما فعله وقد كتب إليه أمير المؤمنين عدة كتب، أن يرجع فيلي الشام أو الحجاز فأبى، وقد رجع إلى باب أمير المؤمنين عاصيا مشاقا، يظهر القول الغليظ، ويتواعد بالأمر الجليل، وان اطلق هذا كان مفسدة لغيره فأشرب قلب أمير المؤمنين عليه.
وأبطأ هرثمة في المسير فلم يصل إلى خراسان حتى كان ذو القعدة، فلما بلغ مرو خشي أن يكتم المأمون قدومه، فضرب بالطبول لكي يسمعها المأمون، فسمعها فقال: ما هذا؟ قالوا: هرثمة قد أقبل يرعد ويبرق، وظن هرثمة أن قوله المقبول فأمر بإدخاله، فلما أدخل- وقد أشرب قلبه ما

(8/542)


أشرب- قَالَ له المأمون: مالأت أهل الكوفة والعلويين وداهنت ودسست إلى أبي السرايا حتى خرج وعمل ما عمل، وكان رجلا من أصحابك، ولو أردت أن تأخذهم جميعا لفعلت، ولكنك أرخيت خناقهم، وأجررت لهم رسنهم فذهب هرثمة ليتكلم ويعتذر، ويدفع عن نفسه ما قرف به فلم يقبل ذلك منه، وأمر به فوجئ على أنفه، وديس بطنه، وسحب من بين يديه وقد تقدم الفضل بْن سهل إلى الأعوان بالغلظ عليه والتشديد حتى حبس، فمكث في الحبس أياما، ثم دسوا اليه فقتلوه وقالوا له: انه مات.

ذكر الخبر عن وثوب الحربية ببغداد
وفي هذه السنة هاج الشغب ببغداد بين الحربية والحسن بْن سهل.
ذكر الخبر عن ذلك وكيف كان:
ذكر أن الحسن بْن سهل كان بالمدائن حين شخص هرثمة إلى خراسان، ولم يزل مقيما بها إلى أن اتصل بأهل بغداد والحربية ما صنع به، فبعث الحسن ابن سهل إلى علي بْن هشام- وهو والي بغداد، من قبله: إن أمطل الجند من الحربية والبغداديين أرزاقهم، ومنهم ولا تعطهم وقد كان الحسن قبل ذلك اتعدهم أن يعطيهم أرزاقهم، وكانت الحربية حين خرج هرثمة إلى خراسان وثبوا وقالوا: لا نرضى حتى نطرد الحسن بْن سهل عن بغداد، وكان من عماله بها محمد بْن أبي خالد وأسد بْن أبي الأسد، فوثبت الحربية عليهم فطردوهم، وصيروا إسحاق بْن موسى بْن المهدي خليفة للمأمون ببغداد، فاجتمع أهل الجانبين على ذلك، ورضوا به، فدس الحسن إليهم، وكاتب قوادهم حتى وثبوا من جانب عسكر المهدي، وجعل يعطي الجند أرزاقهم لستة أشهر عطاء نزرا، فحول الحربية إسحاق إليهم، وأنزلوه على دجيل.
وجاء زهير بْن المسيب فنزل في عسكر المهدي، وبعث الحسن بْن سهل علي بْن هشام، فجاء من الجانب الآخر، حتى نزل نهر صرصر، ثم جاء هو

(8/543)


ومحمد بْن أبي خالد وقوادهم ليلا، حتى دخلوا بغداد، فنزل علي بْن هشام دار العباس بْن جعفر بْن محمد بْن الأشعث الخزاعي على باب المحول لثمان خلون من شعبان، وقبل ذلك ما كان الحربية حين بلغهم أن أهل الكرخ يريدون أن يدخلوا زهيرا وعلي بْن هشام، شدوا على باب الكرخ فاحرقوه، وانهبوا من حد قصر الوضاح إلى داخل باب الكرخ إلى أصحاب القراطيس ليلة الثلاثاء، ودخل علي بْن هشام صبيحة تلك الليلة، فقاتل الحربية ثلاثة أيام على قنطرة الصراة العتيقة والجديدة والأرحاء.
ثم أنه وعد الحربية أن يعطيهم رزق ستة أشهر إذا أدركت الغلة، فسألوه أن يعجل لهم خمسين درهما لكل رجل لينفقوها في شهر رمضان، فأجابهم إلى ذلك، وجعل يعطي، فلم يتم لهم إعطاءهم، حتى خرج زيد بْن موسى بْن جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ بْن علي بْن أبي طالب، الخارج بالبصرة المعروف بزيد النار، كان أفلت من الحبس عند علي بْن أبي سعيد، فخرج في ناحية الأنبار ومعه أخو أبي السرايا في ذي القعدة سنة مائتين، فبعثوا إليه، فأخذ، فأتى به علي بْن هشام، فلم يلبث إلا جمعة حتى هرب من الحربية، فنزل نهر صرصر، وذلك أنه كان يكذبهم، ولم يف لهم بإعطاء الخمسين، إلى أن جاء الأضحى، وبلغهم خبر هرثمة وما صنع به، فشدوا على علي فطردوه.
وكان المتولي ذلك والقائم بأمر الحرب محمد بْن أبي خالد، وذلك ان على ابن هشام لما دخل بغداد كان يستخف به، فوقع بين محمد بْن أبي خالد وبين زهير بْن المسيب إلى أن قنعه زهير بالسوط فغضب محمد من ذلك، وتحول إلى الحربية في ذي القعدة، ونصب لهم الحرب، واجتمع إليه الناس فلم يقو بهم علي بْن هشام حتى أخرجوه من بغداد، ثم اتبعه حتى هزمهم من نهر صرصر.
وفي هذه السنة وجه المأمون رجاء بن أبي الضحاك وفرناس الخادم لإشخاص علي بْن موسى بْن جعفر بْن محمد ومحمد بْن جعفر

(8/544)


وأحصي في هذه السنة ولد العباس، فبلغوا ثلاثة وثلاثين ألفا ما بين ذكر واثنى.
وفي هذه السنة قتلت الروم ملكها ليون، فكان قد ملك عليهم سبع سنين وستة أشهر، وملكوا عليهم ميخائيل بْن جورجس ثانية.
وفيها قتل المأمون يحيى بْن عامر بْن إسماعيل، وذلك أن يحيى أغلظ له، فقال له: يا أمير الكافرين، فقتل بين يديه.
وأقام للناس الحج في هذه السنة أبو إسحاق بن الرشيد.

(8/545)


ثم دخلت

سنة إحدى ومائتين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)

ولايه منصور بن المهدى ببغداد
فمما كان فيها من ذلك مراودة أهل بغداد منصور بْن المهدي على الخلافة وامتناعه عليهم، فلما امتنع من ذلك راوده على الإمرة عليهم، على أن يدعو للمأمون بالخلافة، فأجابهم إلى ذلك.
ذكر الخبر عن سبب ذلك وكيف كان الأمر فيه:
قد ذكرنا قبل ذلك سبب إخراج أهل بغداد علي بْن هشام من بغداد.
ويذكر عن الحسن بن سهل ان الخبر عن إخراج أهل بغداد علي بْن هشام من بغداد لما اتصل به وهو بالمدائن، انهزم حتى صار إلى واسط، وذلك في أول سنة إحدى ومائتين.
وقد قيل إن سبب إخراج أهل بغداد علي بْن هشام من بغداد، كان أن الحسن بْن سهل وجه محمد بْن خالد المروروذي بعد ما قتل أبو السرايا، أفسده وولي علي بْن هشام الجانب الغربي من بغداد وزهير بْن المسيب يلي الجانب الشرقي، وأقام هو بالخيزرانية، وضرب الحسن عبد الله بْن علي بْن عيسى ابن ماهان حدا بالسياط، فغضب الأبناء، فشغب الناس، فهرب الى بربخا ثم إلى باسلاما، وأمر بالأرزاق لأهل عسكر المهدي، ومنع أهل الغربي، واقتتل أهل الجانبين، ففرق محمد بْن أبي خالد على الحربية مالا، فهزم على ابن هشام، فانهزم الحسن بْن سهل بانهزام علي بْن هشام، فلحق بواسط، فتبعه محمد بْن أبي خالد بْن الهندوان مخالفا له، وقد تولى القيام بأمر الناس، وولي سعيد بْن الحسن بْن قحطبة الجانب الغربي ونصر بْن حمزة بْن مالك الشرقي، وكنفه ببغداد منصور بْن المهدي وخزيمة بْن خازم والفضل بْن الربيع

(8/546)


وقد قيل إن عيسى بْن محمد بْن أبي خالد قدم في هذه السنة من الرقة، وكان عند طاهر بْن الحسين، فاجتمع هو وأبوه على قتال الحسن، فمضيا حتى انتهيا ومن معهما من الحربية وأهل بغداد إلى قرية أبي قريش قرب واسط، وكان كلما أتيا موضعا فيه عسكر من عساكر الحسن فيكون بينهما فيه وقعة، تكون الهزيمة فيه على أصحاب الحسن.
ولما انتهى محمد بن خالد إلى دير العاقول، أقام به ثلاثا، وزهير بْن المسيب حينئذ مقيم بإسكاف بني الجنيد، وهو عامل الحسن على جوخى مقيم في عمله، فكان يكاتب قواد أهل بغداد فبعث ابنه الأزهر، فمضى حتى انتهى إلى نهر النهروان، فلقي محمد بْن أبي خالد، فركب إليه، فأتاه بإسكاف، فأحاط به فأعطاه الأمان، وأخذه أسيرا، فجاء به إلى عسكره بدير العاقول، وأخذ أمواله ومتاعه وكل قليل وكثير وجد له ثم تقدم محمد بْن أبي خالد، فلما صار إلى واسط بعث به إلى بغداد، فحبسه عند ابن له مكفوف، يقال له جعفر، فكان الحسن مقيما بجرجرايا، فلما بلغه خبر زهير، وأنه قد صار في يد محمد بْن أبي خالد ارتحل حتى دخل واسط، فنزل بفم الصلح، ووجه محمد من دير العاقول ابنه هارون إلى النيل وبها سعيد بْن الساجور الكوفي، فهزمه هارون، ثم تبعه حتى دخل الكوفة، فأخذها هارون، وولى عليها وقدم عيسى ابن يزيد الجلودي من مكة، ومعه محمد بْن جعفر، فخرجوا جميعا حتى أتوا واسط في طريق البر، ثم رجع هارون إلى أبيه، فاجتمعوا جميعا في قرية أبي قريش ليدخلوا واسط، وبها الحسن بْن سهل، فتقدم الحسن بْن سهل، فنزل خلف واسط في أطرافها.
وكان الفضل بْن الربيع مختفيا من حين قتل المخلوع، فلما راى ان محمد ابن أبي خالد قد بلغ واسط بعث إليه يطلب الأمان منه، فأعطاه إياه وظهر.
ثم تعبأ محمد بْن أبي خالد للقتال، فتقدم هو وابنه عيسى وأصحابهما، حتى صاروا على ميلين من واسط، فوجه إليهم الحسن أصحابه وقواده، فاقتتلوا قتالا شديدا عند أبيات واسط فلما كان بعد العصر هبت ريح شديدة وغبرة حتى اختلط القوم بعضهم ببعض، وكانت الهزيمة على أصحاب محمد بْن

(8/547)


أبي خالد، فثبت للقوم فأصابته جراحات شديدة في جسده، فانهزم هو وأصحابه هزيمة شديدة قبيحة، فهزم أصحابه الحسن، وذلك يوم الأحد لسبع بقين من شهر ربيع الأول سنة إحدى ومائتين.
فلما بلغ محمد فم الصلح خرج عليهم أصحاب الحسن فصافهم للقتال، فلما جنهم الليل، ارتحل هو وأصحابه حتى نزلوا المبارك، فأقاموا به، فلما أصبحوا غدا عليهم أصحاب الحسن فصافوهم، واقتتلوا.
فلما جنهم الليل ارتحلوا حتى أتوا جبل، فأقاموا بها، ووجه ابنه هارون إلى النيل، فأقام بها، وأقام محمد بجرجرايا، فلما اشتدت به الجراحات خلف قواده في عسكره، وحمله ابنه أبو زنبيل حتى أدخله بغداد ليلة الاثنين لست خلون من شهر ربيع الآخر، فدخل أبو زنبيل ليلة الاثنين، ومات محمد بْن أبي خالد من ليلته من تلك الجراحات، ودفن من ليلته في داره سرا.
وكان زهير بْن المسيب محبوسا عند جعفر بْن محمد بْن أبي خالد، فلما قدم أبو زنبيل أتى خزيمة بْن خازم يوم الاثنين لثمان خلون من شهر ربيع الآخر، فأعلمه أمر أبيه، فبعث خزيمة إلى بني هاشم والقواد وأعلمهم ذلك، وقرأ عليهم كتاب عيسى بْن محمد بْن أبي خالد، وأنه يكفيهم الحرب فرضوا بذلك، فصار عيسى مكان أبيه على الحرب، وانصرف أبو زنبيل من عند خزيمة حتى أتى زهير بْن المسيب، فأخرجه من حبسه، فضرب عنقه.
ويقال: إنه ذبحه ذبحا وأخذ رأسه، فبعث به إلى عيسى في عسكره، فنصبه على رمح وأخذوا جسده، فشدوا في رجليه حبلا، ثم طافوا به في بغداد، ومروا به على دوره ودور أهل بيته عند باب الكوفة، ثم طافوا به في الكرخ، ثم ردوه إلى باب الشام بالعشي، فلما جنهم الليل طرحوه في دجلة، وذلك يوم الاثنين لثمان خلون من شهر ربيع الآخر.
ثم رجع أبو زنبيل حتى انتهى إلى عيسى فوجهه عيسى إلى فم الصراة.
وبلغ الحسن بْن سهل موت محمد بْن أبي خالد، فخرج من واسط حتى

(8/548)


انتهى إلى المبارك، فأقام بها فلما كان جمادى الآخرة وجه حميد بْن عبد الحميد الطوسى ومعه عركو الأعرابي وسعيد بن الساجور وأبو البط ومحمد بْن إبراهيم الإفريقي، وعدة سواهم من القواد، فلقوا أبا زنبيل بفم الصراة فهزموه، وانحاز إلى أخيه هارون بالنيل، فالتقوا عند بيوت النيل، فاقتتلوا ساعة، فوقعت الهزيمة على أصحاب هارون، وأبي زنبيل، فخرجوا هاربين حتى أتوا المدائن، وذلك يوم الاثنين لخمس بقين من جمادى الآخرة ودخل حميد وأصحابه النيل فانتهبوها ثلاثة أيام، فانتهبوا أموالهم وأمتعتهم، وانتهبوا ما كان حولهم من القرى، وقد كان بنو هاشم والقواد حين مات محمد بْن أبي خالد تكلموا في ذلك، وقالوا: نصير بعضنا خليفة ونخلع المأمون، فكانوا يتراضون في ذلك، إذ بلغهم خبر هارون وأبي زنبيل وهزيمتهم، فجدوا فيما كانوا فيه، وأرادوا منصور بْن المهدي على الخلافة، فأبى ذلك عليهم، فلم يزالوا به حتى صيروه أميرا خليفة للمأمون ببغداد والعراق، وقالوا: لا نرضى بالمجوسي ابن المجوسي الحسن بْن سهل، ونطرده حتى يرجع إلى خراسان.
وقد قيل: إن عيسى بْن محمد بْن أبي خالد لما اجتمع إليه أهل بغداد، وساعدوه على حرب الحسن بْن سهل، رأى الحسن أنه لا طاقة له بعيسى، فبعث إليه وهب بْن سعيد الكاتب، وبذل له المصاهرة ومائة ألف دينار والأمان له ولأهل بيته ولأهل بغداد وولاية أي النواحي أحب، فطلب كتاب المأمون بذلك بخطه، فرد الحسن بْن سهل وهبا بإجابته، فغرق وهب بين المبارك وجبل، فكتب عيسى إلى أهل بغداد: إني مشغول بالحرب عن جباية الخراج، فولوا رجلا من بني هاشم، فولوا منصور بْن المهدي، وعسكر منصور بْن المهدي بكلواذى، وأرادوه على الخلافة فأبى، وقال: أنا خليفة أمير المؤمنين حتى يقدم أو يولي من أحب، فرضي بذلك بنو هاشم والقواد والجند، وكان القيم بهذا الأمر خزيمة بْن خازم، فوجه القواد في كل ناحية، وجاء حميد الطوسي من فوره في طلب بني محمد حتى انتهى إلى المدائن، فأقام بها يومه، ثم انصرف إلى النيل

(8/549)


فلما بلغ منصورا خبره خرج حتى عسكر بكلواذى، وتقدم يحيى بْن علي بْن عيسى بْن ماهان إلى المدائن.
ثم أن منصورا وجه إسحاق بْن العباس بْن محمد الهاشمي من الجانب الآخر، فعسكر بنهر صرصر، ووجه غسان بْن عباد بْن أبي الفرج أبا إبراهيم بْن غسان صاحب حرس صاحب خراسان ناحية الكوفة، فتقدم حتى أتى قصر ابن هبيرة، فأقام به فلما بلغ حميدا الخبر لم يعلم غسان إلا وحميد قد أحاط بالقصر، فأخذ غسان أسيرا، وسلب أصحابه، وقتل منهم، وذلك يوم الاثنين لأربع خلون من رجب.
ثم لم يزل كل قوم مقيمين في عساكرهم، إلا أن محمد بْن يقطين بْن موسى كان مع الحسن بْن سهل، فهرب منه إلى عيسى، فوجهه عيسى إلى منصور، فوجهه منصور إلى ناحية حميد، وكان حميد مقيما بالنيل إلا أن له خيلا بالقصر.
وخرج ابن يقطين من بغداد يوم السبت لليلتين خلتا من شعبان حتى أتى كوثى وبلغ حميدا الخبر، فلم يعلم ابن يقطين حتى أتاه حميد وأصحابه إلى كوثى، فقاتلوه فهزموه، وقتلوا من أصحابه، وأسروا، وغرق منهم بشر كثير، وانتهب حميد وأصحابه ما كان حول كوثي من القرى وأخذوا البقر والغنم والحمير وما قدروا عليه من حلى ومتاع وغير ذلك، ثم انصرف حتى النيل، وراجع ابن يقطين، فأقام بنهر صرصر.
وفي محمد بْن أبي خالد قَالَ أبو الشداخ:
هوى خيل الأبناء بعد محمد ... وأصبح منها كاهل العز أخضعا
فلا تشمتوا يا آل سهل بموته ... فإن لكم يوما من الدهر مصرعا
وأحصى عيسى بْن محمد بْن أبي خالد ما كان في عسكره، فكانوا مائة ألف وخمسة وعشرين ألفا بين فارس وراجل، فأعطى الفارس اربعين درهما، والراجل عشرين درهما.

(8/550)


ذكر خبر خروج المطوعة للنكير على الفساق
وفي هذه السنة تجردت المطوعة للنكير على الفساق ببغداد، ورئيسهم خالد الدريوش وسهل بْن سلامة الأنصاري أبو حاتم من أهل خراسان.
ذِكْرُ الْخَبَرِ عَنِ السَّبَبِ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ فعلت المطوعة ما ذكرت:
كان السبب في ذلك أن فساق الحربية والشطار الذين كانوا ببغداد والكرخ آذوا الناس أذى شديدا، وأظهروا الفسق وقطع الطريق وأخذ الغلمان والنساء علانية من الطرق، فكانوا يجتمعون فيأتون الرجل، فيأخذون ابنه، فيذهبون به فلا يقدر أن يمتنع، وكانوا يسألون الرجل أن يقرضهم أو يصلهم فلا يقدر أن يمتنع عليهم، وكانوا يجتمعون فيأتون القرى، فيكاثرون أهلها، ويأخذون ما قدروا عليه من متاع ومال وغير ذلك، لا سلطان يمنعهم، ولا يقدر على ذلك منهم، لأن السلطان كان يعتز بهم، وكانوا بطانته، فلا يقدر أن يمنعهم من فسق يركبونه، وكانوا يجبون المارة في الطرق وفي السفن وعلى الظهر ويخفرون البساتين، ويقطعون الطرق علانية، ولا أحد يعدو عليهم، وكان الناس منهم في بلاء عظيم، ثم كان آخر أمرهم أنهم خرجوا إلى قطربل، فانتهبوها علانية، وأخذوا المتاع والذهب والفضة والغنم والبقر والحمير وغير ذلك، وأدخلوها بغداد، وجعلوا يبيعونها علانية، وجاء أهلها فاستعدوا السلطان عليهم، فلم يمكنه اعداؤهم عليهم، ولم يرد عليهم شيئا مما كان أخذ منهم، وذلك آخر شعبان.
فلما رأى الناس ذلك وما قد أخذ منهم، وما بيع من متاع الناس في أسواقهم، وما قد أظهروا من الفساد في الأرض والظلم والبغي وقطع الطريق، وأن السلطان لا يغير عليهم، قام صلحاء كل ربض وكل درب، فمشى بعضهم إلى بعض، وقالوا: إنما في الدرب الفاسق والفاسقان إلى العشرة، وقد غلبوكم وأنتم أكثر منهم، فلو اجتمعتم حتى يكون أمركم واحدا، لقمعتم هؤلاء

(8/551)


الفساق، وصاروا لا يفعلون ما يفعلون من إظهار الفسق بين أظهركم.
فقام رجل من ناحية طريق الأنبار يقال له خالد الدريوش، فدعا جيرانه وأهل بيته وأهل محلته على أن يعاونوه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأجابوه إلى ذلك، وشد على من يليه من الفساق والشطار، فمنعهم مما كانوا يصنعون، فامتنعوا عليه، وأرادوا قتاله، فقاتلهم فهزمهم وأخذ بعضهم، فضربهم وحبسهم ورفعهم إلى السلطان، إلا أنه كان لا يرى أن يغير على السلطان شيئا، ثم قام من بعده رجل من أهل الحربية، يقال له سهل بْن سلامة الأنصاري من أهل خراسان، يكنى أبا حاتم، فدعا الناس إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والعمل بكتاب الله جل وعز وسنة نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعلق مصحفا في عنقه، ثم بدأ بجيرانه وأهل محلته، فأمرهم ونهاهم فقبلوا منه، ثم دعا الناس جميعا إلى ذلك، الشريف منهم والوضيع، بني هاشم ومن دونهم، وجعل له ديوانا يثبت فيه اسم من أتاه منهم، فبايعه على ذلك، وقتال من خالفه وخالف ما دعا إليه كائنا من كان، فأتاه خلق كثير، فبايعوا.
ثم إنه طاف ببغداد وأسواقها وأرباضها وطرقها، ومنع كل من يخفر ويجبي المارة والمختلفة، وقال: لا خفارة في الإسلام- والخفارة أنه كان يأتي الرجل بعض أصحاب البساتين فيقول: بستانك في خفري، أدفع عنه من أراده بسوء، ولي في عنقك كل شهر كذا وكذا درهما، فيعطيه ذلك شائيا وآبيا- فقوي على ذلك إلا أن الدريوش خالفه، وقال: أنا لا أعيب على السلطان شيئا ولا أغيره، ولا أقاتله، ولا آمره بشيء ولا أنهاه وقال سهل بْن سلامة:
لكني أقاتل كل من خالف الكتاب والسنة كائنا من كان، سلطانا أو غيره، والحق قائم في الناس أجمعين، فمن بايعني على هذا قبلته، ومن خالفني قاتلته فقام في ذلك سهل يوم الخميس لأربع خلون من شهر رمضان سنة إحدى ومائتين في مسجد طاهر بْن الحسين، الذي كان بناه في الحربية

(8/552)


وكان خالد الدريوش قام قبله بيومين أو ثلاثة، وكان منصور بْن المهدي مقيما بعسكره بجبل، فلما كان من ظهور سهل بْن سلامة وأصحابه ما كان، وبلغ ذلك منصورا وعيسى- وإنما كان عظم أصحابهما الشطار، ومن لا خير فيه- كسرهما ذلك، ودخل منصور بغداد.
وقد كان عيسى يكاتب الحسن بْن سهل، فلما بلغه خبر بغداد، سأل الحسن بْن سهل أن يعطيه الأمان له ولأهل بيته ولأصحابه، على أن يعطي الحسن أصحابه وجنده وسائر أهل بغداد رزق ستة أشهر إذا أدركت له الغلة، فأجابه الحسن، وارتحل عيسى من معسكره، فدخل بغداد يوم الاثنين لثلاث عشرة خلت من شوال، وتقوضت جميع عساكرهم، فدخلوا بغداد، فأعلمهم عيسى ما دخل لهم فيه من الصلح، فرضوا بذلك.
ثم رجع عيسى الى المدائن، وجاء يحيى بْن عبد الله، ابن عم الحسن بْن سهل، حتى نزل دير العاقول، فولوه السواد، وأشركوا بينه وبين عيسى في الولاية، وجعلوا لكل عدة من الطساسيج وأعمال بغداد فلما دخل عيسى فيما دخل فيه- وكان أهل عسكر المهدي مخالفين له- وثب المطلب بْن عبد الله بْن مالك الخزاعي يدعو إلى المأمون وإلى الفضل والحسن ابني سهل، فامتنع عليه سهل بْن سلامة، وقال: ليس على هذا بايعتني.
وتحول منصور بْن المهدي وخزيمة بْن خازم والفضل بْن الربيع- وكانوا يوم تحولوا بايعوا سهل بْن سلامة على ما يدعو إليه من العمل بالكتاب والسنة- فنزلوا بالحربيه فرارا من الطلب، وجاء سهل بْن سلامة إلى الحسن، وبعث إلى المطلب أن يأتيه، وقال: ليس على هذا بايعتني، فأبى المطلب أن يجيئه، فقاتله سهل يومين أو ثلاثة قتالا شديدا، حتى اصطلح عيسى والمطلب، فدس عيسى إلى سهل من اغتاله فضربه ضربة بالسيف، إلا أنها لم تعمل فيه، فلما اغتيل سهل رجع إلى منزله، وقام عيسى بأمر الناس، فكفوا عن القتال.
وقد كان حميد بْن عبد الحميد مقيما بالنيل، فلما بلغه هذا الخبر

(8/553)


دخل الكوفة، فأقام بها أياما ثم أنه خرج منها حتى أتى قصر ابن هبيرة، فأقام به، واتخذ منزلا وعمل عليه سورا وخندقا، وذلك في آخر ذي القعدة.
وأقام عيسى ببغداد يعرض الجند ويصححهم، إلى أن تدرك الغلة، وبعث إلى سهل بْن سلامة فاعتذر إليه مما كان صنع به، وبايعه وأمره أن يعود إلى ما كان عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنه عونه على ذلك، فقام سهل بما كان قام به أولا من الدعاء إلى العمل بالكتاب والسنه
. ذكر خبر البيعه لعلى بن موسى بولاية العهد
وفي هذه السنة جعل المأمون علي بْن موسى بْن جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ بْن عَلِيّ بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ولي عهد المسلمين والخليفة من بعده، وسماه الرضى من آل محمد ص، وأمر جنده بطرح السواد ولبس ثياب الخضرة، وكتب بذلك إلى الآفاق.
ذكر الخبر عن ذلك وعما كان سبب ذلك وما آل الأمر فيه إليه:
ذكر أن عيسى بْن محمد بْن أبي خالد، بينما هو فيما هو فيه من عرض أصحابه بعد منصرفه من عسكره إلى بغداد، إذ ورد عليه كتاب من الحسن بْن سهل يعلمه أن أمير المؤمنين المأمون قد جعل علي بْن موسى بْن جعفر بْن محمد ولي عهده من بعده، وذلك أنه نظر في بني العباس وبني علي، فلم يجد أحدا هو أفضل ولا أورع ولا أعلم منه، وأنه سماه الرضى من آل محمد، وأمره بطرح لبس الثياب السود ولبس ثياب الخضرة، وذلك يوم الثلاثاء لليلتين خلتا من شهر رمضان سنة إحدى ومائتين، ويأمره أن يأمر من قبله من أصحابه والجند والقواد وبني هاشم بالبيعة له، وأن يأخذهم بلبس الخضرة في أقبيتهم وقلانسهم وأعلامهم، ويأخذ أهل بغداد جميعا بذلك.
فلما أتى عيسى الخبر دعا أهل بغداد إلى ذلك على أن يعجل لهم رزق شهر، والباقي إذا أدركت الغلة، فقال بعضهم: نبايع ونلبس الخضرة، وقال

(8/554)


بعضهم: لا نبايع ولا نلبس الخضرة، ولا نخرج هذا الأمر من ولد العباس، وإنما هذا دسيس من الفضل بْن سهل، فمكثوا بذلك أياما وغضب ولد العباس من ذلك، واجتمع بعضهم إلى بعض، وتكلموا فيه، وقالوا: نولي بعضنا، ونخلع المأمون، وكان المتكلم في هذا والمختلف والمتقلد له إبراهيم ومنصور ابنا المهدى.

ذكر الدعوة لمبايعه ابراهيم بن المهدى وخلع المأمون
وفي هذه السنة بايع أهل بغداد إبراهيم بْن المهدي بالخلافة وخلعوا المأمون.
ذكر السبب في ذلك:
قد ذكرنا سبب إنكار العباسيين ببغداد على المأمون ما أنكروا عليه، واجتماع من اجتمع على محاربة الحسن بْن سهل منهم، حتى خرج عن بغداد ولما كان من بيعة المأمون لعلي بْن موسى بْن جعفر- وأمره الناس بلبس الخضرة ما كان، وورود كتاب الحسن على عيسى بْن محمد بْن أبي خالد يأمره بذلك، وأخذ الناس به ببغداد، وذلك يوم الثلاثاء لخمس بقين من ذي الحجة- أظهر العباسيون ببغداد أنهم قد بايعوا إبراهيم بْن المهدي بالخلافة، ومن بعده ابن أخيه إسحاق بْن موسى بْن المهدي، وأنهم قد خلعوا المأمون، وأنهم يعطون عشرة دنانير كل إنسان، أول يوم من المحرم أول يوم من السنة المستقبلة.
فقبل بعض ولم يقبل بعض حتى يعطى، فلما كان يوم الجمعة وأرادوا الصلاة أرادوا أن يجعلوا إبراهيم خليفة للمأمون مكان منصور، فأمروا رجلا يقول حين أذن المؤذن: إنا نريد أن ندعو للمأمون ومن بعده لإبراهيم يكون خليفة، وكانوا قد دسوا قوما، فقالوا لهم: إذا قام يقول: ندعو للمأمون، فقوموا أنتم فقولوا:
لا نرضى إلا أن تبايعوا لإبراهيم ومن بعده لإسحاق، وتخلعوا المأمون أصلا، ليس نريد ان تأخذوا أموالنا كما صنع منصور، ثم تجلسوا في بيوتكم فلما قام من يتكلم أجابه هؤلاء، فلم يصل بهم تلك الجمعة صلاة الجمعة، ولا خطب أحد، إنما صلى الناس أربع ركعات ثم انصرفوا، وذلك يوم الجمعة لليلتين بقيتا من ذي الحجة سنة إحدى ومائتين

(8/555)


وفي هَذِهِ السنة افتتح عَبْد اللَّهِ بْن خرداذ به وهو والي طبرستان اللارز والشيرز، من بلاد الديلم، وزادهما في بلاد الإسلام، وافتتح جبال طبرستان، وأنزل شهريار بْن شروين عنها، فقال سلام الخاسر:
إنا لنأمل فتح الروم والصين ... بمن ادال لنا من ملك شروين
فاشدد يديك بعبد الله إن له ... مع الأمانة رأي غير موهون
وأشخص مازيار بْن قارن إلى المأمون، وأسر أبا ليلى ملك الديلم بغير عهد في هذه السنة.
وفيها مات محمد بْن محمد صاحب أبي السرايا.
وفيها تحرك بابك الخرمي في الجاويذانية أصحاب جاويذان بْن سهل، صاحب البذ، وادعى أن روح جاويذان دخلت فيه، وأخذ في العيث والفساد.
وفيها أصاب أهل خراسان والري وأصبهان مجاعة، وعز الطعام، ووقع الموت.
وحج بالناس فيها إسحاق بْن موسى بْن عيسى بْن موسى بْن محمد بن على.

(8/556)


ثم دخلت

سنة اثنتين ومائتين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)

ذكر الخبر بيعه ابراهيم بن المهدى
فمما كان فيها من ذلك بيعة أهل بغداد لإبراهيم بْن المهدي بالخلافة، وتسميتهم إياه المبارك وقيل إنهم بايعوه في أول يوم من المحرم بالخلافة، وخلعوا المأمون، فلما كان يوم الجمعة صعد إبراهيم المنبر، فكان أول من بايعه عبيد الله بْن العباس بْن محمد الهاشمي، ثم منصور بْن المهدي، ثم سائر بني هاشم، ثم القواد وكان المتولي لأخذ البيعة المطلب بْن عبد الله بْن مالك، وكان الذي سعى في ذلك وقام به السندي وصالح صاحب المصلى ومنجاب ونصير الوصيف وسائر الموالي، إلا أن هؤلاء كانوا الرؤساء والقادة غضبا منهم على المأمون حين أراد إخراج الخلافة من ولد العباس إلى ولد علي، ولتركه لباس آبائه من السواد ولبسه الخضرة.
ولما فرغ من البيعة وعد الجند ان يعطيهم ارزاق سته الأشهر، فدافعهم بها، فلما رأوا ذلك شغبوا عليه، فأعطاهم مائتي درهم لكل رجل، وكتب لبعضهم الى السواد بقيمة بقية مالهم حنطة وشعيرا فخرجوا في قبضها فلم يمروا بشيء إلا انتهبوه، فأخذوا النصيبين جميعا، نصيب أهل البلاد ونصيب السلطان وغلب إبراهيم مع أهل بغداد على أهل الكوفة والسواد كله، وعسكر بالمدائن وولى الجانب الشرقي من بغداد العباس بْن موسى الهادي والجانب الغربي إسحاق بْن موسى الهادي وقال إبراهيم بْن المهدي:
ألم تعلموا يا آل فهر بأنني ... شريت بنفسي دونكم في المهالك.

(8/557)


خبر تحكيم مهدى بن علوان الحروري
وفي هذه السنة حكم مهدي بْن علوان الحروري، وكان خروجه ببزرجسابور، وغلب على طساسيج هنالك وعلى نهر بوق والراذانين وقد قيل: إن خروج مهدي كان في سنة ثلاث ومائتين في شوال منها، فوجه إليه إبراهيم بْن المهدي أبا إسحاق بن الرشيد في جماعة من القواد، منهم أبو البط وسعيد بْن الساجور، ومع أبي إسحاق غلمان له أتراك، فذكر عن شبيل صاحب السلبة، أنه كان معه وهو غلام، فلقوا الشراة، فطعن رجل من الأعراب أبا إسحاق، فحامى عنه غلام له تركي، وقال له: أشناس مرا، أي اعرفني، فسماه يومئذ أشناس، وهو أبو جعفر أشناس، وهزم مهدي إلى حولايا.
وقال بعضهم: إنما وجه إبراهيم إلى مهدى بن علوان الدهقاني الحروري المطلب، فسار إليه، فلما قرب منه أخذ رجلا من قعد الحرورية يقال له أقذى، فقتله، واجتمعت الأعراب فقاتلوه فهزموه حتى أدخلوه بغداد.
وفي هذه السنة وثب أخو أبي السرايا بالكوفة، فبيض، واجتمعت إليه جماعة، فلقيه غسان بْن أبي الفرج في رجب فقتله، وبعث برأسه الى ابراهيم ابن المهدي
. ذكر الخبر عن تبييض أخي أبي السرايا وظهوره بالكوفة
ذكر أن الحسن بْن سهل أتاه وهو مقيم بالمبارك في معسكره كتاب المأمون يأمره بلبس الخضرة، وأن يبايع لعلي بْن موسى بْن جعفر بْن محمد بولاية العهد من بعده، ويأمره أن يتقدم إلى بغداد حتى يحاصر أهلها، فارتحل حتى نزل سمر، وكتب إلى حميد بْن عبد الحميد أن يتقدم إلى بغداد حتى يحاصر أهلها من ناحية أخرى، ويأمره بلباس الخضرة، ففعل ذلك حميد وكان سعيد بْن

(8/558)


الساجور وأبو البط وغسان بْن أبي الفرج ومحمد بْن إبراهيم الإفريقي وعدة من قواد حميد كاتبوا إبراهيم بْن المهدي، على أن يأخذوا له قصر ابن هبيرة.
وكان قد تباعد ما بينهم وبين حميد، فكانوا يكتبون إلى الحسن بْن سهل يخبرونه أن حميدا يكاتب ابراهيم، وكان يكتب فيهم بمثل ذلك، وكان الحسن يكتب إلى حميد يسأله أن يأتيه فلم يفعل، وخاف إن هو خرج إلى الحسن أن يثب الآخرون بعسكره، فكانوا يكتبون إلى الحسن أنه ليس يمنعه من إتيانك إلا أنه مخالف لك، وأنه قد اشترى الضياع بين الصراة وسورا والسواد فلما ألح عليه الحسن بالكتب، خرج إليه يوم الخميس لخمس خلون من ربيع الآخر فكتب سعيد وأصحابه إلى إبراهيم يعلمونه، ويسألون أن يبعث إليهم عيسى بْن محمد بْن أبي خالد، حتى يدفعوا إليه القصر وعسكر حميد، وكان إبراهيم قد خرج من بغداد يوم الثلاثاء حتى عسكر بكلواذى يريد المدائن، فلما أتاه الكتاب وجه عيسى إليهم.
فلما بلغ أهل عسكر حميد خروج عيسى ونزوله قرية الأعراب على فرسخ من القصر تهيئوا للهرب، وذلك ليلة الثلاثاء، وشد أصحاب سعيد وأبي البط والفضل بْن محمد بْن الصباح الكندي الكوفي على عسكر حميد، فانتهبوا ما فيه، وأخذوا لحميد- فيما ذكر- مائة بدرة أموالا ومتاعا، وهرب ابن لحميد ومعاذ بْن عبد الله، فأخذ بعضهم نحو الكوفة وبعض نحو النيل، فأما ابن حميد، فإنه انحدر بجواري أبيه إلى الكوفة، فلما أتى الكوفة اكترى بغالا ثم أخذ الطريق، ثم لحق بأبيه بعسكر الحسن، ودخل عيسى القصر وسلمه له سعيد وأصحابه، وصار عيسى وأخذه منهم، وذلك يوم الثلاثاء لعشر خلون من ربيع الآخر وبلغ الحسن بْن سهل وحميد عنده، فقال له حميد:
ألم أعلمك بذلك! ولكن خدعت، وخرج من عنده حتى أتى الكوفة، فأخذ أموالا له كانت هنالك ومتاعا وولى على الكوفة العباس بْن موسى بْن جعفر العلوي، وامره بلباس الحضره، وأن يدعو للمأمون ومن بعده لأخيه علي بْن موسى، وأعانه بمائة ألف درهم، وقال له: قاتل عن أخيك، فإن أهل الكوفة يجيبونك إلى ذلك، وأنا معك

(8/559)


فلما كان الليل خرج حميد من الكوفة وتركه، وقد كان الحسن وجه حكيما الحارثي حين بلغه الخبر إلى النيل، فلما بلغ ذلك عيسى وهو بالقصر تهيأ هو وأصحابه، حتى خرجوا إلى النيل، فلما كان ليلة السبت لأربع عشرة ليلة خلت من ربيع الآخر طلعت حمرة في السماء، ثم ذهبت الحمرة، وبقي عمودان أحمران في السماء إلى آخر الليل، وخرج غداة السبت عيسى وأصحابه من القصر إلى النيل، فواقعهم حكيم، وأتاهم عيسى وسعيد وهم في الوقعة، فانهزم حكيم، ودخلوا النيل.
فلما صاروا بالنيل، بلغهم خبر العباس بْن موسى بْن جعفر العلوي، وما يدعو إليه أهل الكوفة، وأنه قد أجابه قوم كثير منهم، وقال له قوم آخرون:
إن كنت تدعو للمأمون ثم من بعده لأخيك فلا حاجة لنا في دعوتك، وإن كنت تدعو إلى أخيك أو بعض أهل بيتك أو إلى نفسك أجبناك فقال:
أنا أدعو إلى المأمون ثم من بعده لأخي، فقعد عنه الغالية من الرافضة وأكثر الشيعة وكان يظهر أن حميدا يأتيه فيعينه ويقويه، وأن الحسن يوجه إليه قوما من قبله مددا، فلم يأته منهم أحد، وتوجه إليه سعيد وأبو البط من النيل إلى الكوفة، فلما صاروا بدير الأعور، أخذوا طريقا يخرج بهم إلى عسكر هرثمة عند قرية شاهي.
فلما التأم إليه أصحابه، خرجوا يوم الاثنين لليلتين خلتا من جمادى الأولى.
فلما صاروا قرب القنطرة خرج عليهم علي بْن محمد بن جعفر العلوي، ابن المبايع له بمكة، وأبو عبد الله أخو أبي السرايا ومعهم جماعة كثيرة، وجههم مع علي بْن محمد ابن عمه صاحب الكوفة العباس بْن موسى بْن جعفر، فقاتلوهم ساعة، فانهزم علي وأصحابه حتى دخلوا الكوفة، وجاء سعيد وأصحابه حتى نزلوا الحيرة، فلما كان يوم الثلاثاء غدوا فقاتلوهم مما يلي دار عيسى بْن موسى، وأجابهم العباسيون ومواليهم، فخرجوا إليهم من الكوفة، فاقتتلوا يومهم إلى الليل، وشعارهم: يا إبراهيم يا منصور، لا طاعة للمأمون، وعليهم السواد، وعلى العباس وأصحابه من أهل الكوفة الخضرة.
فلما كان يوم الأربعاء اقتتلوا في ذلك الموضع، فكان كل فريق منهم إذا

(8/560)


ظهروا على شيء أحرقوه فلما رأى ذلك رؤساء أهل الكوفة، أتوا سعيدا وأصحابه، فسألوه الأمان للعباس بْن موسى بْن جعفر وأصحابه، على أن يخرج من الكوفة، فأجابوهم إلى ذلك، ثم أتوا العباس فأعلموه، وقالوا: إن عامة من معك غوغاء، وقد ترى ما يلقى الناس من الحرق والنهب والقتل، فأخرج من بين أظهرنا، فلا حاجة لنا فيك فقبل منهم، وخاف أن يسلموه، وتحول من منزله الذي كان فيه بالكناسة، ولم يعلم أصحابه بذلك، وانصرف سعيد وأصحابه إلى الحيرة، وشد أصحاب العباس بْن موسى على من بقي من أصحاب سعيد وموالي عيسى بْن موسى العباسي، فهزموهم حتى بلغوا بهم الخندق، ونهبوا ربض عيسى بْن موسى، فأحرقوا الدور، وقتلوا من ظهروا به فبعث العباسيون ومواليهم إلى سعيد يعلمونه بذلك، وأن العباس قد رجع عما كان طلب من الأمان فركب سعيد وأبو البط وأصحابهما حتى أتوا الكوفة عتمة، فلم يظفروا بأحد منهم ينتهب إلا قتلوه، ولم يظهروا على شيء مما كان في أيدي أصحاب العباس إلا أحرقوه، حتى بلغوا الكناسة، فمكثوا بذلك عامة الليل حتى خرج إليهم رؤساء أهل الكوفة، فأعلموهم أن هذا من عمل الغوغاء، وأن العباس لم يرجع عن شيء فانصرفوا عنهم.
فلما كان غداة الخميس لخمس خلون من جمادى الأولى، جاء سعيد وأبو البط حتى دخلوا الكوفة، ونادى مناديهم: أمن الأبيض والأسود، ولم يعرضوا لأحد من الخلق إلا بسبيل خير، وولوا على الكوفة الفضل بْن محمد بْن الصباح الكندي، من أهلها فكتب إليهم إبراهيم بْن المهدي يأمرهم بالخروج إلى ناحية واسط، وكتب إلى سعيد أن يستعمل على الكوفة غير الكندي، لميله إلى أهل بلده، فولاها غسان بن ابى الفرج، ثم عزله بعد ما قتل أبا عبد الله أخا أبي السرايا، فولاها سعيد ابن أخيه الهول، فلم يزل واليا عليها حتى قدمها حميد ابن عبد الحميد، وهرب الهول منها، وأمر إبراهيم بن المهدى عيسى بن محمد ابن أبي خالد أن يسير إلى ناحية واسط على طريق النيل، وأمر ابن عائشة الهاشمي ونعيم بن خازم ان يسيرا جميعا، فخرجا مما يلي جوخى، وبذلك

(8/561)


أمرهما، وذلك في جمادى الأولى ولحق بهما سعيد وأبو البط والإفريقي حتى عسكروا بالصيادة قرب واسط، فاجتمعوا جميعا في مكان واحد، وعليهم عيسى بْن محمد بْن أبي خالد، فكانوا يركبون حتى يأتوا عسكر الحسن وأصحابه بواسط في كل يوم، فلا يخرج إليهم من أصحاب الحسن أحد، وهم متحصنون بمدينة واسط.
ثم أن الحسن أمر أصحابه بالتهيؤ للخروج للقتال، فخرجوا إليهم يوم السبت لأربع بقين من رجب، فاقتتلوا قتالا شديدا إلى قريب الظهر ثم وقعت الهزيمة على عيسى وأصحابه، فانهزموا حتى بلغوا طرنايا والنيل، وأخذ أصحاب الحسن جميع ما كان في عسكرهم من سلاح ودواب وغير ذلك
. ظفر إبراهيم بْن المهدي بسهل بْن سلامة المطوعى
وفي هذه السنة ظفر إبراهيم بْن المهدي بسهل بْن سلامة المطوعي فحبسه وعاقبه.
ذكر الخبر عن سبب ظفره به وحبسه إياه:
ذكر أن سهل بْن سلامة كان مقيما ببغداد، يدعو إلى العمل بكتاب الله وسنه نبيه ص، فلم يزل كذلك حتى اجتمع إليه عامة أهل بغداد ونزلوا عنده، سوى من هو مقيم في منزله، وهواه ورأيه معه، وكان إبراهيم قد هم بقتاله قبل الوقعة، ثم أمسك عن ذلك، فلما كانت هذه الوقعة وصارت الهزيمة على أصحاب عيسى ومن معه أقبل على سهل بْن سلامة، فدس إليه وإلى أصحابه الذين بايعوه على العمل بالكتاب والسنة، وألا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فكان كل من أجابه إلى ذلك قد عمل على باب داره برجا بجص وآجر، ونصب عليه السلاح والمصاحف، حتى بلغوا قرب باب الشام، سوى من أجابه من أهل الكرخ وسائر الناس، فلما رجع عيسى من الهزيمة إلى بغداد، أقبل هو وإخوته وجماعة اصحابه نحو سهل

(8/562)


ابن سلامة، لأنه كان يذكرهم بأسوأ أعمالهم وفعالهم، ويقول: الفساق، لم يكن لهم عنده اسم غيره، فقاتلوه أياما، وكان الذي تولى قتاله عيسى ابن محمد بْن أبي خالد، فلما صار إلى الدروب التي قرب سهل أعطى أهل الدروب الالف الدرهم والألفين درهما، على ان يتنحوا له عن الدروب، فأجابوه إلى.
ذلك، فكان نصيب الرجل الدرهم والدرهمين ونحو ذلك، فلما كان يوم السبت لخمس بقين من شعبان تهيئوا له من كل وجه، وخذله أهل الدروب حتى وصلوا إلى مسجد طاهر بْن الحسين وإلى منزله، وهو بالقرب من المسجد، فلما وصلوا إليه اختفى منهم، وألقى سلاحه، واختلط بالنظارة، ودخل بين النساء فدخلوا منزله.
فلما لم يظفروا به جعلوا عليه العيون، فلما كان الليل أخذوه في بعض الدروب التي قرب منزله، فأتوا به إسحاق بْن موسى الهادي- وهو ولي العهد بعد عمه إبراهيم بْن المهدي وهو بمدينة السلام- فكلمه وحاجه، وجمع بينه وبين أصحابه، وقَالَ له: حرضت علينا الناس، وعبت أمرنا! فقال له:
إنما كانت دعوتي عباسية، وإنما كنت أدعو إلى العمل بالكتاب والسنة، وأنا على ما كنت عليه أدعوكم إليه الساعة فلم يقبلوا ذلك منه ثم قالوا له:
اخرج إلى الناس، فقل لهم: إن ما كنت أدعوكم إليه باطل فأخرج إلى الناس وقال: قد علمتم ما كنت أدعوكم إليه من العمل بالكتاب والسنة، وأنا أدعوكم إليه الساعة فلما قَالَ لهم هذا وجئوا عنقه، وضربوا وجهه، فلما صنعوا ذلك به قَالَ: المغرور من غررتموه يا أصحاب الحربية، فأخذ فأدخل إلى إسحاق، فقيده، وذلك يوم الأحد فلما كان ليلة الاثنين خرجوا به إلى إبراهيم بالمدائن، فلما دخل عليه كلمه بما كلم به إسحاق، فرد عليه مثل ما رد على إسحاق وقد كانوا أخذوا رجلا من أصحابه يقال له محمد الرواعى، فضربه إبراهيم، ونتف لحيته، وقيده وحبسه، فلما أخذ سهل ابن سلامه حبسوه أيضا، وادعوا أنه كان دفع إلى عيسى، وأن عيسى قتله،

(8/563)


وإنما أشاعوا ذلك تخوفا من الناس أن يعلموا بمكانه فيخرجوه، فكان بين خروجه وبين اخذه وحبسه اثنا عشر شهرا.

ذكر خبر شخوص المأمون الى العراق
وفي هذه السنة شخص المأمون من مرو يريد العراق.
ذكر الخبر عن شخوصه منها:
ذكر أن علي بْن موسى بْن جعفر بْن محمد العلوي أخبر المأمون بما فيه الناس من الفتنة والقتال منذ قتل أخوه، وبما كان الفضل بْن سهل يستر عنه من الأخبار، وأن أهل بيته والناس قد نقموا عليه أشياء، وأنهم يقولون إنه مسحور مجنون، وأنهم لما رأوا ذلك بايعوا لعمه إبراهيم بْن المهدي بالخلافة.
فقال المأمون: إنهم لم يبايعوا له بالخلافة، وإنما صيروه أميرا يقوم بأمرهم، على ما أخبره به الفضل، فأعلمه أن الفضل قد كذبه وغشه، وأن الحرب قائمة بين إبراهيم والحسن بْن سهل، وأن الناس ينقمون عليك مكانه ومكان أخيه ومكاني ومكان بيعتك لي من بعدك، فقال: ومن يعلم هذا من أهل عسكري؟ فقال له: يحيى بْن معاذ وعبد العزيز بْن عمران وعدة من وجوه أهل العسكر، فقال له: أدخلهم علي حتى أسائلهم عما ذكرت، فأدخلهم عليه، وهم يحيى بْن معاذ وعبد العزيز بْن عمران وموسى وعلي بْن أبي سعيد- وهو ابن أخت الفضل- وخلف المصري، فسألهم عما أخبره، فأبوا أن يخبروه حتى يجعل لهم الأمان من الفضل بْن سهل، ألا يعرض لهم، فضمن ذلك لهم، وكتب لكل رجل منهم كتابا بخطه، ودفعه إليهم، فاخبروه بما فيه الناس من الفتن، وبينوا ذلك له، وأخبروه بغضب أهل بيته ومواليه وقواده عليه في أشياء كثيرة، وبما موه عليه الفضل من أمر هرثمة، وأن هرثمة إنما جاءه لينصحه وليبين له ما يعمل عليه، وأنه إن لم يتدارك أمره خرجت الخلافة منه ومن أهل بيته، وأن الفضل دس إلى هرثمة من قتله، وأنه أراد

(8/564)


نصحه، وأن طاهر بْن الحسين قد أبلى في طاعته ما أبلى، وافتتح ما افتتح، وقاد إليه الخلافة مزمومة، حتى إذا وطأ الأمر أخرج من ذلك كله، وصير في زاوية من الأرض بالرقة، قد حظرت عليه الأموال حتى ضعف أمره فشغب عليه جنده، وأنه لو كان على خلافتك ببغداد لضبط الملك، ولم يجترأ عليه بمثل ما اجترئ به على الحسن بْن سهل، وأن الدنيا قد تفتقت من أقطارها، وأن طاهر بْن الحسين قد تنوسي في هذه السنين منذ قتل محمد في الرقة، لا يستعان به في شيء من هذه الحروب، وقد استعين بمن هو دونه أضعافا، وسألوا المأمون الخروج الى بغداد في بني هاشم والموالي والقواد، والجند لو رأوا عزتك سكنوا الى ذلك، وبخعوا بالطاعة.
فلما تحقق ذلك عند المأمون أمر بالرحيل إلى بغداد، فلما أمر بذلك علم الفضل بْن سهل ببعض ذلك من أمرهم، فتعنتهم حتى ضرب بعضهم بالسياط وحبس بعضا، ونتف لحى بعض، فعاوده علي بْن موسى في أمرهم، وأعلمه ما كان من ضمانه لهم، فأعلمه أنه يداري ما هو فيه ثم ارتحل من مرو فلما أتى سرخس شد قوم على الفضل بْن سهل وهو في الحمام، فضربوه بالسيوف حتى مات، وذلك يوم الجمعة لليلتين خلتا من شعبان سنة اثنتين ومائتين فأخذوا وكان الذين قتلوا الفضل من حشم المأمون وهم أربعة نفر:
أحدهم غالب المسعودي الأسود، وقسطنطين الرومي، وفرج الديلمي، وموفق الصقلبي، وقتلوه وله ستون سنة، وهربوا فبعث المأمون في طلبهم، وجعل لمن جاء بهم عشرة آلاف دينار، فجاء بهم العباس بْن الهيثم بْن بزرجمهر الدينوري، فقالوا للمأمون: أنت أمرتنا بقتله، فأمر بهم فضربت أعناقهم.
وقد قيل: إن الذين قتلوا الفضل لما أخذوا ساءلهم المأمون، فمنهم من قَالَ: إن علي بْن أبي سعيد، ابن أخت الفضل دسهم، ومنهم من أنكر ذلك.
وأمر بهم فقتلوا ثم بعث إلى عبد العزيز بْن عمران وعلي وموسى وخلف فساء لهم فأنكروا ان يكونوا علموا بشيء من ذلك، فلم يقبل ذلك منهم وأمر بهم فقتلوا، وبعث برءوسهم إلى الحسن بْن سهل إلى واسط، وأعلمه ما دخل عليه من المصيبة بقتل الفضل، وأنه قد صيره مكانه ووصل الكتاب بذلك إلى الحسن

(8/565)


في شهر رمضان، فلم يزل الحسن وأصحابه حتى أدركت الغلة وجبي بعض الخراج، ورحل المأمون من سرخس نحو العراق يوم الفطر، وكان ابراهيم ابن المهدي بالمدائن وعيسى وأبو البط وسعيد بالنيل وطرنايا يراوحون القتال ويغادونه، وقد كان المطلب بْن عبد الله بْن مالك بْن عبد الله قدم من المدائن، فاعتل بأنه مريض، وجعل يدعو في السر إلى المأمون، على أن المنصور بْن المهدي خليفة المأمون، ويخلعون إبراهيم، فأجابه إلى ذلك منصور وخزيمة بْن خازم وقواد كثير من أهل الجانب الشرقي، وكتب المطلب الى حميد وعلى ابن هشام أن يتقدما فينزل حميد نهر صرصر وعلي النهروان، فلما تحقق عند إبراهيم الخبر خرج من المدائن إلى بغداد، فنزل زندورد يوم السبت لأربع عشرة خلت من صفر، وبعث إلى المطلب ومنصور وخزيمة، فلما أتاهم رسوله اعتلوا عليه، فلما رأى ذلك بعث إليهم عيسى بْن محمد بْن أبي خالد وإخوته، فأما منصور وخزيمة فأعطوا بأيديهما، وأما المطلب فإن مواليه وأصحابه قاتلوا عن منزله حتى كثر الناس عليهم، وامر ابراهيم مناديا فنادى:
من أراد النهب فليأت دار المطلب، فلما كان وقت الظهر وصلوا إلى داره، فانتهبوا ما وجدوا فيها، وانتهبوا دور أهل بيته، وطلبوه فلم يظفروا به، وذلك يوم الثلاثاء لثلاث عشرة بقيت من صفر.
فلما بلغ حميدا وعلي بْن هشام الخبر بعث حميد قائدا فأخذ المدائن، وقطع الجسر، ونزل بها، وبعث علي بْن هشام قائدا فنزل المدائن، وأتى نهر ديالي فقطعه، وأقاموا بالمدائن، وندم إبراهيم حيث صنع بالمطلب ما صنع، ثم لم يظفر به.

وفي هذه السنة تزوج المأمون بوران بنت الحسن بْن سهل
. وفيها زوج المأمون علي بْن موسى الرضى ابنته أم حبيب، وزوج محمد ابن علي بْن موسى ابنته أم الفضل

(8/566)


وحج بالناس في هذه السنة إبراهيم بْن موسى بْن جعفر بْن محمد، فدعا لأخيه بعد المأمون بولاية العهد.
وكان الحسن بْن سهل كتب إلى عيسى بْن يزيد الجلودي، وكان بالبصرة فوافى مكة في أصحابه، فشهد الموسم، ثم انصرف ومضى إبراهيم بْن موسى إلى اليمن، وكان قد غلب عليها حمدويه بْن علي بْن عيسى بْن ماهان

(8/567)


ثم دخلت

سنة ثلاث ومائتين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)

موت على بن موسى الرضى
ذكر أن مما كان فيها موت علي بْن موسى بْن جعفر ذكر الخبر عن سبب وفاته:
ذكر أن المأمون شخص من سرخس حتى صار إلى طوس، فلما صار بها أقام بها عند قبر أبيه أياما ثم أن علي بْن موسى أكل عنبا فأكثر منه، فمات فجأة، وذلك في آخر صفر، فامر به المأمون فدفن عند قبر الرشيد، وكتب في شهر ربيع الأول إلى الحسن بْن سهل يعلمه أن علي بْن موسى بْن جعفر مات، ويعلمه ما دخل عليه من الغم والمصيبة بموته، وكتب إلى بني العباس والموالي وأهل بغداد يعلمهم موت علي بْن موسى، وأنهم إنما نقموا بيعته له من بعده، ويسألهم الدخول في طاعته فكتبوا إليه وإلى الحسن جواب الكتاب بأغلظ ما يكتب به إلى أحد وكان الذي صلى على علي بْن موسى المأمون.
ورحل المأمون في هذه السنة من طوس يريد بغداد، فلما صار إلى الري أسقط من وظيفتها ألفي ألف درهم.
وفي هذه السنة غلبت السوداء على الحسن بْن سهل، فذكر سبب ذلك أنه كان مرض مرضا شديدا، فهاج به من مرضه تغير عقله، حتى شد في الحديد وحبس في بيت وكتب بذلك قواد الحسن إلى المأمون، فأتاهم

(8/568)


جواب الكتاب أن يكون على عسكره دينار بْن عبد الله، ويعلمهم أنه قادم على اثر كتابه
. خبر حبس إبراهيم بْن المهدي عيسى بْن محمد بْن ابى خالد
وفي هذه السنة ضرب إبراهيم بْن المهدي عيسى بْن محمد بْن أبي خالد وحبسه.
ذكر الخبر عن سبب ذلك:
ذكر أن عيسى بْن محمد بْن أبي خالد كان يكاتب حميدا والحسن، وكان الرسول بينهم محمد بْن محمد المعبدي الهاشمي، وكان يظهر لإبراهيم الطاعة والنصيحة، ولم يكن يقاتل حميدا ولا يعرض له في شيء من عمله، وكان كلما قَالَ إبراهيم: تهيأ للخروج لقتال حميد، يعتل عليه بأن الجند يريدون أرزاقهم، ومرة يقول: حتى تدرك الغلة، فما زال بذلك حتى إذا توثق مما يريد مما بينه وبين الحسن وحميد فارقهم، على أن يدفع إليهم إبراهيم بْن المهدي يوم الجمعة لانسلاخ شوال وبلغ الخبر إبراهيم، فلما كان يوم الخميس، جاء عيسى إلى باب الجسر، فقال للناس: إني قد سالمت حميدا، وضمنت له الا ادخل عمله، وضمن لي الا يدخل عملي ثم أمر أن يحفر خندق بباب الجسر وباب الشام، وبلغ إبراهيم ما قَالَ وما صنع، وقد كان عيسى سأل إبراهيم أن يصلي الجمعة بالمدينة، فأجابه إلى ذلك، فلما تكلم عيسى بما تكلم به، وبلغ إبراهيم الخبر وأنه يريد أخذه حذر.
وذكر أن هارون أخا عيسى أخبر إبراهيم بما يريد أن يصنع به عيسى، فلما أخبره، بعث إليه أن يأتيه حتى يناظره في بعض ما يريد، فاعتل عليه عيسى، فلم يزل إبراهيم يعيد إليه الرسل حتى أتاه إلى قصره بالرصافة، فلما دخل عليه حجب الناس، وخلا إبراهيم وعيسى، وجعل يعاتبه، وأخذ عيسى يعتذر إليه مما يعتبه به، وينكر بعض ما يقول، فلما قرره بأشياء أمر به فضرب.
ثم أنه حبسه وأخذ عدة من قواده فحبسهم، وبعث إلى منزله، فأخذ أم ولده

(8/569)


وصبيانا له صغارا، فحبسهم، وذلك ليلة الخميس لليلة بقيت من شوال.
وطلب خليفة له يقال له العباس فاختفى فلما بلغ حبس عيسى أهل بيته وأصحابه، مشى بعضهم إلى بعض، وحرض أهل بيته وإخوته الناس على إبراهيم واجتمعوا، وكان رأسهم عباس خليفة عيسى، فشدوا على عامل إبراهيم على الجسر فطردوه، وعبر إلى إبراهيم فأخبره الخبر، وأمر بقطع الجسر فطردوا كل عامل كان لإبراهيم في الكرخ وغيره، وظهر الفساق والشطار، فقعدوا في المسالح وكتب عباس إلى حميد يسأله أن يقدم إليهم حتى يسلموا إليه بغداد، فلما كان يوم الجمعة صلوا في مسجد المدينة أربع ركعات، صلى بهم المؤذن بغير خطبه
. ذكر خبر خلع اهل بغداد ابراهيم بن المهدى
وفي هذه السنة خلع أهل بغداد إبراهيم بْن المهدي، ودعوا للمأمون بالخلافة.
ذكر الخبر عن سبب ذلك:
قد ذكرنا قبل ما كان من إبراهيم وعيسى بْن محمد بْن أبي خالد وحبس إبراهيم إياه، واجتماع عباس خليفة عيسى وإخوة عيسى على إبراهيم، وكتابهم إلى حميد يسألونه المصير إليهم ليسلموا بغداد إليه، فذكر أن حميدا لما أتاه كتابهم، وفيه شرط منهم عليه أن يعطي جند أهل بغداد، كل رجل منهم خمسين درهما، فأجابهم الى ذلك، وجاء حتى نزل صرصر بطريق الكوفة يوم الأحد، وخرج إليه عباس وقواد اهل بغداد، فلقوه غداه الاثنين، فوعدهم ومناهم، وقبلوا ذلك منه، فوعدهم أن يضع لهم العطاء يوم السبت في الياسرية، على أن يصلوا الجمعة فيدعو للمأمون، ويخلعوا إبراهيم، فأجابوه إلى ذلك فلما بلغ ابراهيم الخبر اخرج عيسى واخوته من الحبس، وسأله أن يرجع إلى منزله، ويكفيه أمر هذا الجانب، فأبى ذلك عليه.
فلما كان يوم الجمعة بعث عباس إلى محمد بْن أبي رجاء الفقيه، فصلى بالناس الجمعة، ودعا للمأمون، فلما كان يوم السبت جاء حميد إلى الياسرية

(8/570)


فعرض حميد جند أهل بغداد، وأعطاهم الخمسين التي وعدهم، فسألوه أن ينقصهم عشرة عشرة، فيعطيهم أربعين أربعين درهما لكل رجل منهم، لما كانوا تشاءموا به من علي بْن هشام حين أعطاهم الخمسين فغدر بهم، وقطع العطاء عنهم، فقال لهم حميد: لا بل أزيدكم وأعطيكم ستين درهما لكل رجل فلما بلغ ذلك إبراهيم دعا عيسى فسأله أن يقاتل حميدا، فأجابه إلى ذلك، فخلى سبيله، وأخذ منه كفلاء، فكلم عيسى الجند أن يعطيهم مثل ما أعطى حميد، فأبوا ذلك عليه، فلما كان يوم الاثنين عبر إليهم عيسى وإخوته وقواد أهل الجانب الشرقي، فعرضوا على أهل الجانب الغربي أن يزيدوهم على ما أعطى حميد، فشتموا عيسى وأصحابه، وقالوا: لا نريد إبراهيم.
فخرج عيسى وأصحابه حتى دخلوا المدينة، وأغلقوا الأبواب، وصعدوا السور، وقاتلوا الناس ساعة فلما كثر عليهم الناس انصرفوا راجعين، حتى أتوا باب خراسان، فركبوا في السفن، ورجع عيسى كأنه يريد أن يقاتلهم، ثم احتال حتى صار في أيديهم شبه الأسير، فأخذه بعض قواده فأتي به منزله، ورجع الباقون إلى إبراهيم فأخبروه الخبر، فاغتم لذلك غما شديدا، وقد كان المطلب ابن عبد الله بْن مالك اختفى من إبراهيم، فلما قدم حميد أراد العبور إليه فأخذه المعبر، فذهب إلى إبراهيم فحبسه عنده ثلاثة أيام أو أربعة، ثم أنه خلى عنه ليلة الاثنين لليلة خلت من ذي الحجه.

ذكر خبر اختفاء ابراهيم بن المهدى
وفي هذه السنة اختفى إبراهيم بْن المهدي، وتغيب بعد حرب بينه وبين حميد بْن عبد الحميد، وبعد أن أطلق سعد بْن سلامة من حبسه.
ذكر الخبر عن اختفائه والسبب في ذلك:
ذكر أن سهل بْن سلامة كان الناس يذكرون أنه مقتول، وهو عند إبراهيم محبوس، فلما صار حميد إلى بغداد ودخلها أخرجه ابراهيم وكان

(8/571)


يدعو في مسجد الرصافة كما كان يدعو، فإذا كان الليل رده إلى حبسه، فمكث بذلك أياما، فأتاه أصحابه ليكونوا معه، فقال لهم: الزموا بيوتكم، فانى ارزا هذا- يعنى ابراهيم- فلما كان ليلة الاثنين لليلة خلت من ذي الحجة خلى سبيله، فذهب فاختفى، فلما رأى أصحاب إبراهيم وقواده أن حميدا قد نزل في ارحاء عبد الله بْن مالك، تحول عامتهم إليه، وأخذوا له المدائن، فلما رأى ذلك إبراهيم، أخرج جميع من عنده حتى يقاتلوا، فالتقوا على جسر نهر ديالي، فاقتتلوا، فهزمهم حميد، فقطعوا الجسر، فتبعهم أصحابه حتى أدخلوهم بيوت بغداد، وذلك يوم الخميس لانسلاخ ذي القعدة.
فلما كان يوم الأضحى أمر إبراهيم القاضي أن يصلي بالناس في عيساباذ، فصلى بهم فانصرف الناس، واختفى الفضل بْن الربيع، ثم تحول الى حميد، ثم تحول على بن ريطة إلى عسكر حميد، وجعل الهاشميون والقواد يلحقون بحميد واحدا بعد واحد، فلما رأى ذلك إبراهيم أسقط في يديه، فشق عليه.
وكان المطلب يكاتب حميدا على أن يأخذ له الجانب الشرقى، وكان سعيد ابن الساجور وأبو البط وعبدويه وعدة معهم من القواد يكاتبون علي بْن هشام، على أن يأخذوا له إبراهيم، فلما علم إبراهيم بأمرهم وما اجتمع عليه كل قوم من أصحابه، وأنهم قد أحدقوا به، جعل يداريهم، فلما جنه الليل اختفى ليلة الأربعاء لثلاث عشرة بقيت من ذي الحجة سنة ثلاث ومائتين، وبعث المطلب إلى حميد يعلمه أنه قد أحدق بدار إبراهيم هو وأصحابه، فإن كان يريده فليأته.
وكتب ابن الساجور وأصحابه إلى علي بْن هشام، فركب حميد من ساعته، وكان نازلا في ارحاء عبد الله، فأتى باب الجسر، وجاء علي بن هشام حتى نزل نهر بين، وتقدم الى مسجد كوثر، وخرج إليه ابن الساجور وأصحابه، وجاء المطلب إلى حميد، فلقوه بباب الجسر، فقربهم ووعدهم ونبأهم أن يعلم المأمون ما صنعوا، فأقبلوا إلى دار إبراهيم، وطلبوه فيها فلم يجدوه، فلم يزل إبراهيم متواريا حتى قدم المأمون وبعد ما قدم، حتى كان من أمره ما كان

(8/572)


وقد كان سهل بْن سلامة حيث اختفى وتحول إلى منزله وظهر، وبعث إليه حميد، فقربه وأدناه، وحمله على بغل، ورده إلى أهله، فلم يزل مقيما حتى قدم المأمون، فأتاه فأجازه ووصله، وأمره أن يجلس في منزله.
وفي هذه السنة انكسفت الشمس يوم الأحد لليلتين بقيتا من ذي الحجة حتى ذهب ضوءها، وكان غاب أكثر من ثلثيها، وكان انكسافها ارتفاع النهار، فلم يزل كذلك حتى قرب الظهر ثم انجلت.
فكانت أيام إبراهيم بْن المهدي كلها سنة وأحد عشر شهرا واثني عشر يوما.
وغلب علي بْن هشام على شرقي بغداد وحميد بْن عبد الحميد على غربيها، وصار المأمون إلى همذان في آخر ذي الحجة وحج بالناس في هذه السنة سليمان بْن عبد الله بْن سليمان بن على.

(8/573)


ثم دخلت

سنة أربع ومائتين
(ذكر الأحداث التي كانت فيها)

خبر قدوم المأمون الى بغداد
فمما كان فيها من ذلك قدوم المأمون العراق، وانقطاع مادة الفتن ببغداد.
ذكر الخبر عن مقدمه العراق وما كان فيه بها عند مقدمه:
ذكر عن المأمون أنه لما قدم جرجان أقام بها شهرا، ثم خرج منها، فصار إلى الري في ذي الحجة، فأقام بها أياما، ثم خرج منها، فجعل يسير المنازل، ويقيم اليوم واليومين حتى صار إلى النهروان، وذلك يوم السبت، فأقام فيه ثمانية أيام، وخرج إليه أهل بيته والقواد ووجوه الناس، فسلموا عليه، وقد كان كتب إلى طاهر بْن الحسين من الطريق وهو بالرقة، أن يوافيه إلى النهروان، فوافاه بها، فلما كان السبت الآخر دخل بغداد ارتفاع النهار، لأربع عشرة ليلة بقيت من صفر سنة أربع ومائتين، ولباسه ولباس أصحابه، أقبيتهم وقلانسهم وطراداتهم وأعلامهم كلها الخضرة فلما قدم نزل الرصافة، وقدم معه طاهر، فأمره بنزول الخيزرانية مع أصحابه، ثم تحول فنزل قصره على شط دجلة، وأمر حميد بْن عبد الحميد وعلي بْن هشام وكل قائد كان في عسكره أن يقيم في عسكره، فكانوا يختلفون إلى دار المأمون في كل يوم، ولم يكن يدخل عليه أحد إلا في الثياب الخضر، ولبس ذلك أهل بغداد وبنو هاشم أجمعون، فكانوا يخرقون كل شيء يرونه من السواد على إنسان إلا القلنسوة، فإنه كان يلبسها الواحد بعد الواحد على خوف ووجل، فأما قباء أو علم فلم يكن أحد يجترئ أن يلبس شيئا من ذلك ولا يحمله فمكثوا بذلك ثمانية أيام، فتكلم في ذلك بنو هاشم وولد العباس خاصة، وقالوا له:

(8/574)


يا أمير المؤمنين، تركت لباس آبائك وأهل بيتك ودولتهم، ولبست الخضرة.
وكتب إليه في ذلك قواد أهل خراسان.
وقيل إنه أمر طاهر بْن الحسين أن يسأله حوائجه، فكان أول حاجة سأله أن يطرح لباس الخضرة، ويرجع إلى لبس السواد وزي دولة الآباء، فلما رأى طاعة الناس له في لبس الخضرة وكراهتهم لها، وجاء السبت قعد لهم وعليه ثياب خضر، فلما اجتمعوا عنده دعا بسواد فلبسه، ودعا بخلعه سواد فألبسها طاهرا، ثم دعا بعدة من قواده، فألبسهم أقبية وقلانس سودا، فلما خرجوا من عنده وعليهم السواد، طرح سائر القواد والجند لبس الخضرة، ولبسوا السواد، وذلك يوم السبت لسبع بقين من صفر.
وقد قيل: إن المأمون لبس الثياب الخضر بعد دخوله بغداد سبعة وعشرين، ثم مزقت.
وقيل: إنه لم يزل مقيما ببغداد في الرصافة حتى بنى منازل على شط دجلة عند قصره الأول، وفي بستان موسى.
وذكر عن إبراهيم بْن العباس الكاتب، عن عمرو بن مسعده، ان احمد ابن أبي خالد الأحول قَالَ: لما قدمنا من خراسان مع المأمون وصرنا في عقبة حلوان- وكنت زميله- قَالَ لي: يا أحمد، إني أجد رائحة العراق، فأجبت بغير جوابه، وقلت: ما أخلقه! قَالَ: ليس هذا جوابي، ولكني أحسبك سهوت أو كنت مفكرا، قَالَ: قلت: نعم يا أمير المؤمنين، قَالَ: فيم فكرت؟
قَالَ: قلت: يا أمير المؤمنين، فكرت في هجومنا على أهل بغداد وليس معنا إلا خمسون ألف درهم، مع فتنة غلبت على قلوب الناس، فاستعذبوها، فكيف يكون حالنا إن هاج هائج، او تحرك متحرك! قَالَ: فأطرق مليا، ثم قَالَ: صدقت يا أحمد، ما أحسن ما فكرت، ولكني أخبرك، الناس على طبقات ثلاث في هذه المدينة: ظالم، ومظلوم، ولا ظالم ولا مظلوم، فأما الظالم فليس يتوقع إلا عفونا وإمساكنا، وأما المظلوم فليس يتوقع أن ينتصف إلا بنا، ومن كان لا ظالما ولا مظلوما فبيته يسعه فو الله ما كان إلا كما قَالَ

(8/575)


وأمر المأمون في هذه السنة بمقاسمة أهل السواد على الخمسين، وكانوا يقاسمون على النصف، واتخذ القفيز الملجم- وهو عشرة مكاكيك بالمكوك الهاروني- كيلا مرسلا.
وفي هذه السنة واقع يحيى بْن معاذ بابك، فلم يظفر واحد منهما بصاحبه.
وولى المأمون صالح بن الرشيد البصرة، وولى عبيد الله بْن الحسن بن عبيد الله بن العباس بن علي بْن أبي طالب الحرمين.
وحج بالناس في هذه السنة عبيد الله بْن الحسن.

(8/576)


ثم دخلت

سنة خمس ومائتين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِي هَذِهِ السنة من الأحداث)

ولايه طاهر بن الحسين خراسان
فمن ذلك تولية المأمون فيها طاهر بْن الحسين من مدينة السلام إلى أقصى عمل المشرق، وقد كان قبل ذلك ولاه الجزيرة والشرط وجانبي بغداد ومعاون السواد، وقعد للناس.
ذكر الخبر عن سبب توليته:
وكان سبب توليته إياه خراسان والمشرق، ما ذكر عن حماد بْن الحسن، عن بشر بْن غياث المريسي، قَالَ: حضرت عبد الله المأمون أنا وثمامة ومحمد ابن أبي العباس وعلي بْن الهيثم، فتناظروا في التشيع، فنصر محمد بن ابى العباس الإمامة، ونصر علي بْن الهيثم الزيدية، وجرى الكلام بينهما، إلى أن قَالَ محمد لعلي: يا نبطي، ما أنت والكلام! قَالَ: فقال المأمون- وكان متكئا فجلس: الشتم على، والبذاء لؤم، إنا قد أبحنا الكلام، وأظهرنا المقالات، فمن قَالَ بالحق حمدناه، ومن جهل ذلك وقفناه، ومن جهل الأمرين حكمنا فيه بما يجب، فاجعلا بينكما أصلا، فإن الكلام فروع، فإذا افترعتم شيئا رجعتم إلى الأصول قَالَ: فإنا نقول: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ له، وأن محمدا عبده ورسوله، وذكرا الفرائض والشرائع في الإسلام، وتناظرا بعد ذلك.
فأعاد محمد لعلي بمثل المقالة الأولى، فقال له علي: والله لولا جلالة مجلسه وما وهب الله من رأفته، ولولا ما نهى عنه لأعرقت جبينك، وبحسبك من جهلك غسلك المنبر بالمدينة.
قَالَ: فجلس المأمون- وكان متكئا- فقال: وما غسلك المنبر؟
ألتقصير مني في أمرك أو لتقصير المنصور كان في أمر أبيك؟ لولا أن الخليفة

(8/577)


إذا وهب شيئا استحيا أن يرجع فيه لكان أقرب شيء بيني وبينك إلى الأرض رأسك، قم وإياك ما عدت.
قَالَ: فخرج محمد بْن أبي العباس، ومضى إلى طاهر بْن الحسين- وهو زوج أخته- فقال له: كان من قصتي كيت وكيت، وكان يحجب المأمون على النبيذ فتح الخادم، وياسر يتولى الخلع، وحسين يسقي، وأبو مريم غلام سعيد الجوهري يختلف في الحوائج فركب طاهر إلى الدار، فدخل فتح، فقال: طاهر بالباب، فقال: إنه ليس من أوقاته، ائذن له: فدخل طاهر فسلم عليه، فرد ع، وقال: اسقوه رطلا، فأخذه في يده اليمنى، وقال له: اجلس، فخرج فشربه ثم عاد، وقد شرب المأمون رطلا آخر، فقال: اسقوه ثانيا، ففعل كفعله الأول، ثم دخل، فقال له المأمون:
اجلس، فقال يا أمير المؤمنين، ليس لصاحب الشرطة أن يجلس بين يدي سيده، فقال له المأمون: ذلك في مجلس العامة، فأما مجلس الخاصة فطلق، قَالَ: وبكى المأمون، وتغرغرت عيناه، فقال له طاهر: يا أمير المؤمنين، لم تبكي لا أبكى الله عينيك! فو الله لقد دانت لك البلاد، وأذعن لك العباد، وصرت إلى المحبة في كل أمرك فقال: أبكي لأمر ذكره ذل، وستره حزن، ولن يخلو أحد من شجن، فتكلم بحاجة إن كانت لك، قَالَ: يا أمير المؤمنين، محمد بْن أبي العباس أخطأ فأقله عثرته، وارض عنه قَالَ: قد رضيت عنه، وأمرت بصلته، ورددت عليه مرتبته، ولولا أنه ليس من أهل الإنس لأحضرته.
قَالَ: وانصرف طاهر، فأعلم ابن ابى العباس ذلك، ودعا بهارون بن جبغويه، فقال له: إن للكتاب عشيرة، وإن أهل خراسان يتعصب بعضهم لبعض، فخذ معك ثلاثمائة ألف درهم، فأعط الحسين الخادم مائتي ألف، وأعط كاتبه محمد بْن هارون مائة ألف، وسله ان يسال المأمون: لم بكى؟
قَالَ: ففعل ذلك، قَالَ: فلما تغدى قَالَ: يا حسين اسقني، قَالَ: لا والله

(8/578)


لاسقينك أو تقول لي: لم بكيت حين دخل عليك طاهر؟ قَالَ: يا حسين، وكيف عنيت بهذا حتى سألتني عنه! قَالَ: لغمي بذاك، قَالَ: يا حسين هو أمر إن خرج من رأسك قتلتك، قَالَ: يا سيدي، ومتى أخرجت لك سرا! قَالَ: إني ذكرت محمدا أخي، وما ناله من الذلة، فخنقتني العبرة فاسترحت إلى الإفاضة، ولن يفوت طاهرا مني ما يكره قَالَ: فأخبر حسين طاهرا بذلك، فركب طاهر إلى أحمد بْن أبي خالد، فقال له: إن الثناء مني ليس برخيص، وإن المعروف عندي ليس بضائع، فغيبني عن عينه، فقال له: سأفعل، فبكر إلي غدا قَالَ: فركب ابن أبي خالد إلى المأمون، فلما دخل عليه قَالَ: ما نمت البارحة، فقال: لم ويحك! فقال: لأنك وليت غسان خراسان، وهو ومن معه أكلة رأس، فأخاف أن يخرج عليه خارجة من الترك فتصطلمه، فقال له: لقد فكرت فيما فكرت فيه، قَالَ: فمن ترى؟
قَالَ: طاهر بْن الحسين، قَالَ: ويلك يا أحمد! هو والله خالع، قَالَ:
أنا الضامن له، قَالَ: فأنفذه، قَالَ: فدعا بطاهر من ساعته، فعقد له، فشخص من ساعته، فنزل في بستان خليل بْن هاشم، فحمل إليه في كل يوم ما أقام فيه مائة ألف فأقام شهرا، فحمل إليه عشرة آلاف ألف، التي تحمل إلى صاحب خراسان.
قَالَ أبو حسان الزيادي: وكان قد عقد له على خراسان والجبال من حلوان إلى خراسان، وكان شخوصه من بغداد يوم الجمعة لليلة بقيت من ذي القعدة سنة خمس ومائتين، وقد كان عسكر قبل ذلك بشهرين، فلم يزل مقيما في عسكره قَالَ أبو حسان: وكان سبب ولايته- فيما اجتمع الناس عليه- أن عبد الرحمن المطوعي جمع جموعا بنيسابور ليقاتل بهم الحرورية بغير أمر والي خراسان، فتخوفوا أن يكون ذلك لاصل عمله عليه وكان غسان بْن عباد يتولى خراسان من قبل الحسن بْن سهل، وهو ابْن عم الفضل بْن سهل.
وذكر عن علي بْن هارون أن طاهر بْن الحسين قبل خروجه إلى خراسان وولايته لها، ندبه الحسن بْن سهل للخروج إلى محاربة نصر بْن شبث، فقال:

(8/579)


حاربت خليفة، وسقت الخلافة إلى خليفة، وأومر بمثل هذا! وإنما كان ينبغي أن توجه لهذا قائدا من قوادي، فكان سبب المصارمة بين الحسن وطاهر.
قَالَ: وخرج طاهر إلى خراسان لما تولاها، وهو لا يكلم الحسن بْن سهل، فقيل له في ذلك، فقال: ما كنت لأحل عقدة عقدها لي في مصارمته.
وفي هذه السنة ورد عبد الله بْن طاهر بغداد منصرفا من الرقة، وكان أبوه طاهر استخلفه عليها، وأمره بقتال نصر بْن شبث، وقدم يحيى بْن معاذ فولاه المأمون الجزيرة.
وفيها ولى المأمون عيسى بْن محمد بْن أبي خالد أرمينية وأذربيجان ومحاربة بابك.
وفيها مات السري بْن الحكم بمصر، وكان واليها.
وفيها مات داود بْن يزيد عامل السند، فولاها المأمون بشر بْن داود على أن يحمل إليه في كل سنة ألف ألف درهم.
وفيها ولى المأمون عيسى بْن يزيد الجلودي محاربة الزط.
وفيها شخص طاهر بْن الحسين إلى خراسان في ذي القعدة، وأقام شهرين حتى بلغه خروج عبد الرحمن النيسابوري المطوعي بنيسابور، فشخص ووافى التغرغزيه أشروسنة.
وفيها أخذ فرج الرخجي عبد الرحمن بْن عمار النيسابوري.
وحج بالناس في هذه السنة عبيد الله بْن الحسن، وهو والي الحرمين.

(8/580)


ثم دخلت

سنة ست ومائتين
(ذكر مَا كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمما كان فيها من ذلك توليه المأمون داود بْن ماسجور محاربة الزط وأعمال البصرة وكور دجلة واليمامة والبحرين.
وفيها كان المد الذي غرق منه السواد وكسكر وقطيعة أم جعفر وقطيعة العباس وذهب بأكثرها.
وفيها نكب بابك بعيسى بْن محمد بن ابى خالد.

ولايه عبد الله بن طاهر على الرقة
وفيها ولى المأمون عبد الله بْن طاهر الرقة لحرب نصر بْن شبث ومضر.
ذكر الخبر عن سبب توليته إياه:
وكان السبب في ذلك- فيما ذكر- أن يحيى بْن معاذ كان المأمون ولاه الجزيرة، فمات في هذه السنة، واستخلف ابنه أحمد على عمله، فذكر عن يحيى بْن الحسن بْن عبد الخالق، أن المأمون دعا عبد الله بْن طاهر في شهر رمضان، فقال بعض: كان ذلك في سنة خمس ومائتين، وقال بعض: في سنة ست وقال بعض: في سنة سبع فلما دخل عليه، قَالَ: يا عبد الله أستخير الله منذ شهر، وأرجو أن يخير الله لي، ورأيت الرجل يصف ابنه ليطريه لرأيه فيه، وليرفعه، ورأيتك فوق ما قال ابوك فيك، وقد مات يحيى ابن معاذ، واستخلف ابنه أحمد بْن يحيى، وليس بشيء، وقد رأيت توليتك مضر ومحاربة نصر بْن شبث، فقال: السمع والطاعة يا أمير المؤمنين، وأرجو أن يجعل الله الخيرة لأمير المؤمنين وللمسلمين.
قَالَ: فعقد له، ثم أمر أن تقطع حبال القصارين عن طريقه، وتنحى عن الطرقات المظال، كيلا يكون في طريقه ما يرد لواءه، ثم عقد له لواء

(8/581)


مكتوبا عليه بصفرة ما يكتب على الألوية، وزاد فيه المأمون: يا منصور، وخرج ومعه الناس فصار إلى منزله، ولما كان من غد ركب إليه الناس، وركب إليه الفضل بْن الربيع، فأقام عنده إلى الليل، فقام الفضل، فقال عبد الله: يا أبا العباس، قد تفضلت وأحسنت، وقد تقدم أبي وأخوك الى الا أقطع أمرا دونك، وأحتاج أن أستطلع رأيك، وأستضيء بمشورتك، فإن رأيت أن تقيم عندي إلى أن نفطر فافعل.
فقال له: إن لي حالات ليس يمكنني معها الافطار هاهنا قَالَ: إن كنت تكره طعام أهل خراسان فابعث الى مطبخك يأتون بطعامك، فقال له:
إن لي ركعات بين العشاء والعتمة، قَالَ: ففي حفظ الله، وخرج معه إلى صحن داره يشاوره في خاص أموره.
وقيل: كان خروج عبد الله الصحيح إلى مضر، لقتال نصر بْن شبث بعد خروج ابيه الى خراسان، بسته اشهر.

وصيه طاهر الى ابنه عبد الله
وكان طاهر حين ولى ابنه عبد الله ديار ربيعه، كتب اليه كتابا نسخته:
(بسم الله الرحمن الرحيم) عليك بتقوى الله وحده لا شريك له، وخشيته ومراقبته ومزايلة سخطه وحفظ رعيتك، والزم ما ألبسك الله من العافية بالذكر لمعادك، وما أنت صائر إليه، وموقوف عليه، ومسئول عنه، والعمل في ذلك كله بما يعصمك الله، وينجيك يوم القيامة من عذابه وأليم عقابه، فإن الله قد أحسن إليك وأوجب عليك الرأفة بمن استرعاك أمرهم من عباده، وألزمك العدل عليهم، والقيام بحقه وحدوده فيهم، والذب عنهم، والدفع عن حريمهم وبيضتهم، والحقن لدمائهم، والأمن لسبيلهم، وإدخال الراحة عليهم في معايشهم، ومؤاخذك بما فرض عليك من ذلك، وموقفك عليه، ومسائلك عنه، ومثيبك عليه بما قدمت

(8/582)


واخرت، ففرغ لذلك فكرك وعقلك وبصرك ورؤيتك، ولا يذهلك عنه ذاهل، ولا يشغلك عنه شاغل، فإنه رأس أمرك، وملاك شأنك، وأول ما يوفقك الله به لرشدك.
وليكن أول ما تلزم به نفسك، وتنسب إليه فعالك، المواظبة على ما افترض الله عليك من الصلوات الخمس، والجماعة عليها بالناس قبلك في مواقيتها على سننها، في إسباغ الوضوء لها، وافتتاح ذكر الله فيها وترتل في قراءتك، وتمكن في ركوعك وسجودك وتشهدك، ولتصدق فيها لربك نيتك.
واحضض عليها جماعة من معك وتحت يدك، واداب عليها فإنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ثم أتبع ذلك الأخذ بسنن رسول الله ص والمثابرة على خلائفه، واقتفاء آثار السلف الصالح من بعده، وإذا ورد عليك أمر فاستعن عليه باستخارة الله وتقواه ولزوم ما أنزل الله في كتابه، من أمره ونهيه، وحلاله وحرامه، وائتمام ما جاءت به الآثار على النبي ص، ثم قم فيه بما يحق لله عليك، ولا تمل عن العدل فيما أحببت أو كرهت لقريب من الناس أو بعيد وآثر الفقه واهله، والدين وحملته، وكتاب الله والعاملين به، فإن أفضل ما تزين به المرء الفقه في دين الله، والطلب له، والحث عليه، والمعرفة بما يتقرب فيه منه إلى الله، فإنه الدليل على الخير كله، والقائد له، والآمر به، والناهي عن المعاصي والموبقات كلها وبها مع توفيق الله تزداد العباد معرفة بالله عز وجل، وإجلالا له، ودركا للدرجات العلا في المعاد، مع ما في ظهوره للناس من التوقير لأمرك، والهيبة لسلطانك، والأنسة بك والثقة بعدلك.
وعليك بالاقتصاد في الأمور كلها، فليس شيء أبين نفعا، ولا أحضر أمنا، ولا أجمع فضلا من القصد، والقصد داعية إلى الرشد، والرشد دليل على التوفيق، والتوفيق منقاد إلى السعادة، وقوام الدين والسنن الهادية بالاقتصاد،

(8/583)


فآثره في دنياك كلها، ولا تقصر في طلب الآخرة والأجر والأعمال الصالحة والسنن المعروفة، ومعالم الرشد فلا غاية للاستكثار من البر والسعي له، إذا كان يطلب به وجه الله ومرضاته، ومرافقة أوليائه في دار كرامته.
واعلم أن القصد في شأن الدنيا يورث العز، ويحصن من الذنوب، وإنك لن تحوط نفسك ومن يليك، ولا تستصلح أمورك بأفضل منه، فاته واهتد به، تتم امورك، وتزدد مقدرتك، وتصلح خاصتك وعامتك.
وأحسن الظن بالله عز وجل تستقم لك رعيتك، والتمس الوسيلة إليه في الأمور كلها تستدم به النعمة عليك، ولا تنهض أحدا من الناس فيما توليه من عملك قبل تكشف أمره بالتهمة، فإن إيقاع التهم بالبراء والظنون السيئة بهم مأثم واجعل من شانك حسن الظن باصحابك واطرد عنهم سوء الظن بهم، وارفضه عنهم يعنك ذلك على اصطناعهم ورياضتهم.
ولا يجدن عدو الله الشيطان في أمرك مغمزا، فإنه إنما يكتفي بالقليل من وهنك فيدخل عليك من الغم في سوء الظن ما ينغصك لذاذة عيشك.
واعلم أنك تجد بحسن الظن قوة وراحة، وتكفي به ما أحببت كفايته من أمورك، وتدعو به الناس إلى محبتك والاستقامة في الأمور كلها لك ولا يمنعك حسن الظن بأصحابك والرأفة برعيتك أن تستعمل المسألة والبحث عن أمورك، والمباشرة لأمور الأولياء، والحياطة للرعية والنظر فيما يقيمها ويصلحها، بل لتكن المباشرة لأمور الأولياء والحياطة للرعية والنظر في حوائجهم وحمل مؤناتهم آثر عندك مما سوى ذلك، فإنه أقوم للدين، وأحيا للسنة.
وأخلص نيتك في جميع هذا، وتفرد بتقويم نفسك تفرد من يعلم أنه مسئول عما صنع، ومجزي بما أحسن، ومأخوذ بما أساء، فإن الله جعل الدين حرزا وعزا، ورفع من اتبعه وعززه، فاسلك بمن تسوسه وترعاه نهج الدين وطريقة الهدى وأقم حدود الله في أصحاب الجرائم على قدر منازلهم، وما استحقوه.
ولا تعطل ذلك ولا تهاون به ولا تؤخر عقوبة أهل العقوبة، فإن في تفريطك

(8/584)


في ذلك لما يفسد عليك حسن ظنك واعزم على أمرك في ذلك بالسنن المعروفة، وجانب الشبه والبدعات، يسلم لك دينك، وتقم لك مروءتك وإذا عاهدت عهدا فف به، وإذا وعدت الخير فأنجزه، واقبل الحسنة، وادفع بها، واغمض عن عيب كل ذي عيب من رعيتك، واشدد لسانك عن قول الكذب والزور، وابغض أهله، وأقص أهل النميمة، فإن أول فساد أمرك في عاجل الأمور وآجلها تقريب الكذوب والجرأة على الكذب، لأن الكذب رأس المآثم، والزور والنميمة خاتمتها، لأن النميمة لا يسلم صاحبها، وقائلها لا يسلم له صاحب، ولا يستقيم لمطيعها أمر.
وأحب أهل الصدق والصلاح، وأعن الأشراف بالحق، وواصل الضعفاء، وصل الرحم، وابتغ بذلك وجه الله وعزة أمره، والتمس فيه ثوابه والدار الآخرة.
واجتنب سوء الأهواء والجور، واصرف عنهما رأيك، وأظهر براءتك من ذلك لرعيتك، وانعم بالعدل سياستهم، وقم بالحق فيهم وبالمعرفة التي تنتهي بك إلى سبيل الهدى، واملك نفسك عند الغضب، وآثر الوقار والحلم، وإياك والحدة والطيرة والغرور فيما أنت بسبيله.
وإياك أن تقول إني مسلط أفعل ما أشاء، فإن ذلك سريع فيك إلى نقص الرأي، وقلة اليقين بالله وحده لا شريك له وأخلص لله النية فيه واليقين به، واعلم أن الملك لله يعطيه من يشاء، وينزعه ممن يشاء، ولن تجد تغير النعمة وحلول النقمة إلى أحد أسرع منه إلى حملة النعمة من أصحاب السلطان والمبسوط لهم في الدولة إذا كفروا بنعم الله وإحسانه، واستطالوا بما آتاهم الله من فضله.
ودع عنك شره نفسك ولتكن ذخائرك وكنوزك التي تدخر وتكنز البر والتقوى والمعدلة واستصلاح الرعية، وعمارة بلادهم، والتفقد لأمورهم، والحفظ لدهمائهم، والإغاثة لملهوفهم.
واعلم أن الأموال إذا كثرت وذخرت في الخزائن لا تثمر، وإذا كانت في إصلاح الرعية وإعطاء حقوقهم وكف المؤنة عنهم نمت وربت، وصلحت

(8/585)


به العامه، وتزينت الولاة، وطاب به الزمان، واعتقد فيه العز والمنعة، فليكن كنز خزائنك تفريق الأموال في عمارة الإسلام وأهله، ووفر منه على أولياء أمير المؤمنين قبلك حقوقهم، وأوف رعيتك من ذلك حصصهم، وتعهد ما يصلح أمورهم ومعايشهم، فإنك إذا فعلت ذلك قرت النعمة عليك، واستوجبت المزيد من الله، وكنت بذلك على جباية خراجك وجمع أموال رعيتك وعملك أقدر، وكان الجمع لما شملهم من عدلك وإحسانك أسلس لطاعتك، وأطيب أنفسا لكل ما أردت.
فاجهد نفسك فيما حددت لك في هذا الباب، ولتعظم حسبتك فيه، فإنما يبقى من المال ما أنفق في سبيل حقه، واعرف للشاكرين شكرهم وأثبهم عليه وإياك أن تنسيك الدنيا وغرورها هول الآخرة فتتهاون بما يحق عليك، فإن التهاون يوجب التفريط، والتفريط يورث البوار وليكن عملك لله وفيه تبارك وتعالى، وارج الثواب، فإن الله قد أسبغ عليك نعمته في الدنيا، وأظهر لديك فضله، فاعتصم بالشكر، وعليه فاعتمد يزدك الله خيرا وإحسانا، فإن الله يثيب بقدر شكر الشاكرين وسيرة المحسنين، وقض الحق فيما حمل من النعم، وألبس من العافية والكرامة ولا تحقرن ذنبا، ولا تمايلن حاسدا، ولا ترحمن فاجرا، ولا تصلن كفورا، ولا تداهنن عدوا، ولا تصدقن نماما، ولا تأمنن غدارا، ولا توالين فاسقا، ولا تتبعن غاويا، ولا تحمدن مرائيا، ولا تحقرن إنسانا، ولا تردن سائلا فقيرا، ولا تجيبن باطلا، ولا تلاحظن مضحكا، ولا تخلفن وعدا، ولا ترهبن فجرا، ولا تعملن غضبا، ولا تأتين بذخا، ولا تمشين مرحا، ولا تركبن سفها، ولا تفرطن في طلب الآخرة، ولا تدفع الأيام عيانا، ولا تغمضن عن الظالم رهبة أو مخافة، ولا تطلبن ثواب الآخرة بالدنيا وأكثر مشاورة الفقهاء، واستعمل نفسك بالحلم، وخذ عن أهل التجارب وذوي العقل والرأي والحكمة،

(8/586)


ولا تدخلن في مشورتك أهل الدقة والبخل، ولا تسمعن لهم قولا، فإن ضررهم أكثر من منفعتهم، وليس شيء أسرع فسادا لما استقبلت في أمر رعيتك من الشح واعلم إنك إذا كنت حريصا كنت كثير الأخذ، قليل العطية، وإذا كنت كذلك لم يستقم لك أمرك إلا قليلا، فإن رعيتك إنما تعتقد على محبتك بالكف عن أموالهم وترك الجور عنهم، ويدوم صفاء أوليائك لك بالأفضال عليهم وحسن العطية لهم، فاجتنب الشح، واعلم إنه أول ما عصى به الإنسان ربه، وأن العاصي بمنزلة خزي، وهو قول الله عز وجل: «وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ*» ، فسهل طريق الجود بالحق، واجعل للمسلمين كلهم من نيتك حظا ونصيبا، وأيقن أن الجود من أفضل أعمال العباد، فاعدده لنفسك خلقا، وارض به عملا ومذهبا.
وتفقد أمور الجند في دواوينهم ومكاتبهم، وأدرر عليهم أرزاقهم، ووسع عليهم في معايشهم، ليذهب بذلك الله فاقتهم، ويقوم لك أمرهم، ويزيد به قلوبهم في طاعتك وأمرك خلوصا وانشراحا، وحسب ذي سلطان من السعادة أن يكون على جنده ورعيته رحمة في عدله وحيطته وإنصافه وعنايته وشفقته وبره وتوسعته، فزايل مكروه إحدى البليتين باستشعار تكملة الباب الآخر، ولزوم العمل به تلق إن شاء الله نجاحا وصلاحا وفلاحا.
واعلم إن القضاء من الله بالمكان الذي ليس به شيء من الأمور، لأنه ميزان الله الذى تعتدل عليه الأحوال في الأرض، وبإقامة العدل في القضاء والعمل، تصلح الرعية، وتأمن السبل، وينتصف المظلوم، ويأخذ الناس حقوقهم وتحسن المعيشة، ويؤدى حق الطاعة، ويرزق الله العافية والسلامة، ويقوم الدين، وتجري السنن والشرائع، وعلى مجاريها ينتجز الحق والعدل في القضاء.
واشتد في أمر الله، وتورع عن النطف وامض لإقامة الحدود، وأقلل العجلة، وابعد من الضجر والقلق، واقنع بالقسم، ولتسكن ريحك، ويقر جدك، وانتفع بتجربتك، وانتبه في صمتك، واسدد في منطقك، وأنصف الخصم،

(8/587)


وقف عند الشبهة، وأبلغ في الحجة، ولا يأخذك في أحد من رعيتك محاباة ولا محاماة، ولا لوم لائم، وتثبت وتأن، وراقب وانظر، وتدبر وتفكر، واعتبر، وتواضع لربك، وارأف بجميع الرعية، وسلط الحق على نفسك، ولا تسرعن إلى سفك دم- فإن الدماء من الله بمكان عظيم- انتهاكا لها بغير حقها وانظر هذا الخراج الذي قد استقامت عليه الرعية، وجعله الله للإسلام عزا ورفعة، ولأهله سعة ومنعة، ولعدوه وعدوهم كبتا وغيظا، ولأهل الكفر من معاهدتهم ذلا وصغارا، فوزعه بين أصحابه بالحق والعدل، والتسوية والعموم فيه، ولا ترفعن منه شيئا عن شريف لشرفه، وعن غني لغناه، ولا عن كاتب لك، ولا أحد من خاصتك، ولا تأخذن منه فوق الاحتمال له، ولا تكلفن أمرا فيه شطط واحمل الناس كلهم على مر الحق، فإن ذلك أجمع لألفتهم وألزم لرضا العامة واعلم أنك جعلت بولايتك خازنا وحافظا وراعيا، وإنما سمي أهل عملك رعيتك، لأنك راعيهم وقيمهم، تأخذ منهم ما أعطوك من عفوهم ومقدرتهم، وتنفقه في قوام أمرهم وصلاحهم، وتقويم أودهم، فاستعمل عليهم في كور عملك ذوي الرأي والتدبير والتجربه والخبره بالعمل والعلم بالسياسة والعفاف، ووسع عليهم في الرزق، فإن ذلك من الحقوق اللازمة لك فيما تقلدت وأسند إليك، ولا يشغلنك عنه شاغل، ولا يصرفنك عنه صارف، فإنك متى آثرته وقمت فيه بالواجب استدعيت به زيادة النعمة من ربك، وحسن الاحدوثه في اعمالك، واحترزت النصيحة من رعيتك، وأعنت على الصلاح، فدرت الخيرات ببلدك، وفشت العمارة بناحيتك، وظهر الخصب في كورك، فكثر خراجك، وتوفرت أموالك، وقويت بذلك على ارتباط جندك، وإرضاء العامة بإقامة العطاء فيهم من نفسك، وكنت محمود السياسة، مرضي العدل في ذلك عند عدوك، وكنت في أمورك كلها

(8/588)


ذا عدل وقوه، وآله وعده، وفنافس في هذا ولا تقدم عليه شيئا تحمد مغبة أمرك إن شاء الله.
واجعل في كل كورة من عملك أمينا يخبرك أخبار عمالك، ويكتب إليك بسيرتهم وأعمالهم، حتى كأنك مع كل عامل في عمله، معاين لأمره كله وإن أردت أن تأمره بأمر فانظر في عواقب ما أردت من ذلك، فإن رأيت السلامة فيه والعافية، ورجوت فيه حسن الدفاع والنصح والصنع فأمضه، وإلا فتوقف عنه وراجع أهل البصر والعلم، ثم خذ فيه عدته، فإنه ربما نظر الرجل في أمر من أمره قد واتاه على ما يهوى، فقواه ذلك وأعجبه، وإن لم ينظر في عواقبه أهلكه، ونقض عليه أمره.
فاستعمل الحزم في كل ما أردت، وباشره بعد عون الله بالقوة، وأكثر استخارة ربك في جميع أمورك، وافرغ من عمل يومك ولا تؤخره لغدك، وأكثر مباشرته بنفسك، فإن لغد أمورا وحوادث تلهيك عن عمل يومك الذي أخرت وأعلم أن اليوم إذا مضى ذهب بما فيه، وإذا أخرت عمله اجتمع عليك أمر يومين، فشغلك ذلك حتى تعرض عنه، فإذا أمضيت لكل يوم عمله أرحت نفسك وبدنك، وأحكمت أمور سلطانك.
وانظر أحرار الناس وذوي الشرف منهم، ثم استيقن صفاء طويتهم وتهذيب مودتهم لك، ومظاهرتهم بالنصح والمخالصة على أمرك، فاستخلصهم وأحسن إليهم، وتعاهد أهل البيوتات ممن قد دخلت عليهم الحاجة، فاحتمل مؤنتهم، وأصلح حالهم، حتى لا يجدوا لخلتهم مسا وأفرد نفسك للنظر في أمور الفقراء والمساكين، ومن لا يقدر على رفع مظلمة إليك والمحتقر الذي لا علم له بطلب حقه، فاسأل عنه احفى مسألة، ووكل بأمثاله أهل الصلاح من رعيتك، ومرهم برفع حوائجهم وحالاتهم إليك، لتنظر فيها بما يصلح الله أمرهم وتعاهد ذوي البأساء ويتاماهم وأراملهم، واجعل لهم أرزاقا من بيت المال اقتداء بأمير المؤمنين أعزه الله، في العطف عليهم، والصلة لهم، ليصلح

(8/589)


الله بذلك عيشهم ويرزقك به بركة وزيادة واجر للإضراء من بيت المال، وقدم حملة القرآن منهم والحافظين لأكثره في الجراية على غيرهم، وانصب لمرضى المسلمين دورا تؤويهم، وقواما يرفقون بهم، وأطباء يعالجون أسقامهم، وأسعفهم بشهواتهم ما لم يؤد ذلك إلى سرف في بيت المال واعلم أن الناس إذا أعطوا حقوقهم وأفضل أمانيهم لم يرضهم ذلك، ولم تطب أنفسهم دون رفع حوائجهم إلى ولاتهم طمعا في نيل الزيادة، وفضل الرفق منهم، وربما برم المتصفح لأمور الناس لكثرة ما يرد عليه، ويشغل فكره وذهنه منها ما يناله به مؤنة ومشقة، وليس من يرغب في العدل، ويعرف محاسن أموره في العاجل وفضل ثواب الآجل، كالذي يستقبل ما يقربه إلى الله، ويلتمس رحمته به وأكثر الإذن للناس عليك، وأبرز لهم وجهك، وسكن لهم أحراسك، واخفض لهم جناحك، وأظهر لهم بشرك، ولن لهم في المسألة والمنطق، واعطف عليهم بجودك وفضلك، وإذا أعطيت فأعط بسماحة وطيب نفس، والتمس الصنيعة والأجر غير مكدر ولا منان، فإن العطية على ذلك تجارة مربحة إن شاء الله.
واعتبر بما ترى من أمور الدنيا ومن مضى من قبلك من أهل السلطان والرياسة في القرون الخالية والأمم البائدة، ثم اعتصم في أحوالك كلها بأمر الله، والوقوف عند محبته، والعمل بشريعته وسنته وإقامة دينه وكتابه، واجتنب ما فارق ذلك وخالفه، ودعا إلى سخط الله واعرف ما يجمع عمالك من الأموال وينفقون منها ولا تجمع حراما، ولا تنفق إسرافا، وأكثر مجالسة العلماء ومشاورتهم ومخالطتهم وليكن هواك اتباع السنن وإقامتها، وإيثار مكارم الأمور ومعاليها، وليكن أكرم دخلائك وخاصتك عليك من إذا رأى عيبا فيك لم تمنعه هيبتك من إنهاء ذلك إليك في سر، وإعلامك ما فيه من النقص، فإن أولئك أنصح أوليائك ومظاهريك.
وانظر عمالك الذين بحضرتك وكتابك، فوقت لكل رجل منهم في كل

(8/590)


يوم وقتا يدخل عليك فيه بكتبه ومؤامرته، وما عنده من حوائج عمالك، وأمر كورك ورعيتك، ثم فرغ لما يورده عليك من ذلك سمعك وبصرك وفهمك وعقلك، وكرر النظر إليه والتدبير له، فما كان موافقا للحزم والحق فأمضه واستخر الله فيه، وما كان مخالفا لذلك فاصرفه إلى التثبت فيه، والمسألة عنه.
ولا تمنن على رعيتك ولا على غيرهم بمعروف تأتيه إليهم، ولا تقبل من أحد منهم إلا الوفاء والاستقامة والعون في أمور أمير المؤمنين، ولا تضعن المعروف إلا على ذلك.
وتفهم كتابي إليك، وأكثر النظر فيه والعمل به، واستعن بالله على جميع أمورك واستخره، فإن الله مع الصلاح وأهله، وليكن أعظم سيرتك وأفضل رغبتك ما كان لله رضا ولدينه نظاما، ولأهله عزا وتمكينا، وللذمة والملة عدلا وصلاحا.
وأنا أسأل الله أن يحسن عونك وتوفيقك ورشدك وكلاءك، وأن ينزل عليك فضله ورحمته بتمام فضله عليك وكرامته لك، حتى يجعلك افضل مثالك نصيبا، وأوفرهم حظا، وأسناهم ذكرا، وأمرا، وأن يهلك عدوك ومن ناوأك وبغى عليك، ويرزقك من رعيتك العافية، ويحجز الشيطان عنك وساوسه، حتى يستعلي أمرك بالعز والقوة والتوفيق، إنه قريب مجيب.
وذكر أن طاهرا لما عهد إلى ابنه عبد الله هذا العهد تنازعه الناس وكتبوه، وتدارسوه وشاع أمره، حتى بلغ المأمون فدعا به وقرئ عليه، فقال: ما بقي أبو الطيب شيئا من أمر الدين والدنيا والتدبير والرأي والسياسة وإصلاح الملك والرعية وحفظ البيضة وطاعة الخلفاء وتقويم الخلافة إلا وقد أحكمه، وأوصى به وتقدم، وأمر أن يكتب بذلك إلى جميع العمال في نواحي الأعمال.
وتوجه عبد الله إلى عمله فسار بسيرته، واتبع أمره وعمل بما عهد إليه

(8/591)


وفي هذه السنة ولى عبد الله بن طاهر إسحاق بْن إبراهيم الجسرين، وجعله خليفته على ما كان طاهر أبوه استخلفه فيه من الشرط وأعمال بغداد، وذلك حين شخص إلى الرقة لحرب نصر بْن شبث.
وحج بالناس في هذه السنة عبيد الله بْن الحسن، وهو والي الحرمين.

(8/592)


ثم دخلت

سنة سبع ومائتين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)

ذكر خروج عبد الرحمن بن احمد العلوي باليمن
فمن ذلك خروج عبد الرحمن بْن أحمد بْن عبد الله بْن محمد بْن عمر بن على بن ابى طالب ببلادعك من اليمن يدعو إلى الرضى من آل محمد ص.
ذكر الخبر عن سبب خروجه:
وكان السبب في خروجه أن العمال باليمن أساءوا السيرة، فبايعوا عبد الرحمن هذا، فلما بلغ ذلك المأمون وجه إليه دينار بْن عبد الله في عسكر كثيف، وكتب معه بأمانه، فحضر دينار بْن عبد الله الموسم وحج، فلما فرغ من حجه سار إلى اليمن حتى أتى عبد الرحمن، فبعث إليه بأمانه من المأمون، فقبل ذلك، ودخل ووضع يده في يد دينار، فخرج به إلى المأمون، فمنع المأمون عند ذلك الطالبين من الدخول عليه، وأمر بأخذهم بلبس السواد، وذلك يوم الخميس لليلة بقيت من ذي القعده
. ذكر الخبر عن وفاه طاهر بن الحسين
وفي هذه السنة كانت وفاة طاهر بْن الحسين.
ذكر الخبر عن وفاته:
ذكر عن مطهر بْن طاهر، أن وفاة ذي اليمينين كانت من حمى وحرارة أصابته، وأنه وجد في فراشه ميتا

(8/593)


وذكر أن عميه علي بْن مصعب وأخاه أحمد بْن مصعب، صارا إليه يعودانه، فسألا الخادم عن خبره- وكان يغلس بصلاة الصبح- فقال الخادم هو نائم لم ينتبه، فانتظراه ساعة، فلما انبسط الفجر، وتأخر عن الحركة في الوقت الذي كان يقوم فيه للصلاة، أنكرا ذلك، وقالا للخادم:
أيقظه، فقال الخادم: لست أجسر على ذلك، فقالا له: اطرق لنا لندخل إليه، فدخلا فوجداه ملتفا في دواج، قد أدخله تحته، وشده عليه من عند رأسه ورجليه، فحركاه فلم يتحرك، فكشفا عن وجهه فوجداه قد مات.
ولم يعلما الوقت الذي توفي فيه، ولا وقف أحد من خدمه على وقت وفاته، وسألا الخادم عن خبره وعن آخر ما وقف عليه منه، فذكر أنه صلى المغرب والعشاء الآخرة، ثم التف في دواجه قَالَ الخادم: فسمعته يقول بالفارسية كلاما وهو در مرك ينز مردى ويذ، تفسيره أنه يحتاج في الموت أيضا إلى الرجلة.
وذكر عن كلثوم بْن ثابت بْن أبي سعد- وكان يكنى أبا سعدة- قَالَ: كنت على بريد خراسان، ومجلسي يوم الجمعة في أصل المنبر، فلما كان في سنة سبع ومائتين، بعد ولاية طاهر بْن الحسين بسنتين، حضرت الجمعة، فصعد طاهر المنبر، فخطب، فلما بلغ إلى ذكر الخليفة أمسك عن الدعاء له، فقال: اللهم أصلح أمة محمد بما اصلحت به أولياءك، واكفها مئونة من بغى فيها، وحشد عليها، بلم الشعث، وحقن الدماء، وإصلاح ذات البين قَالَ: فقلت في نفسي: أنا أول مقتول، لأني لا أكتم الخبر، فانصرفت واغتسلت بغسل الموتى، وائتزرت بإزار الموتى، ولبست قميصا، وارتديت رداء، وطرحت السواد، وكتبت إلى المأمون قَالَ: فلما صلى العصر دعاني، وحدث به حادث في جفن عينه وفي مأقه، فخر ميتا قَالَ: فخرج طلحه ابن طاهر، فقال: ردوه ردوه- وقد خرجت- فردوني، فقال: هل كتبت

(8/594)


بما كان؟ قلت: نعم، قَالَ: فاكتب بوفاته، وأعطاني خمسمائة ألف ومائتي ثوب، فكتبت بوفاته وبقيام طلحة بالجيش.
قَالَ: فوردت الخريطة على المأمون بخلعه غدوة، فدعا ابن أبي خالد فقال له: اشخص: فأت به- كما زعمت، وضمنت- قَالَ: أبيت ليلتي، قَالَ: لا لعمري لا تبيت إلا على ظهر فلم يزل يناشده حتى أذن له في المبيت قَالَ: ووافت الخريطة بموته ليلا، فدعاه فقال: قد مات، فمن ترى؟ قَالَ: ابنه طلحة، قَالَ: الصواب ما قلت، فاكتب بتوليته فكتب بذلك، وأقام طلحة واليا على خراسان في أيام المأمون سبع سنين بعد موت طاهر، ثم توفي، وولي عبد الله خراسان- وكان يتولى حرب بابك- فأقام بالدينور، ووجه الجيوش، ووردت وفاة طلحة على المأمون، فبعث إلى عبد الله يحيى بْن أكثم يعزيه عن أخيه ويهنئه بولاية خراسان، وولى علي بْن هشام حرب بابك.
وذكر عن العباس أنه قَالَ: شهدت مجلسا للمأمون، وقد أتاه نعي الطاهر، فقال: لليدين وللفم! الحمد لله الذي قدمه وأخرنا.
وقد ذكر في أمر ولاية طلحة خراسان بعد أبيه طاهر غير هذا القول، والذي قيل من ذلك، أن طاهرا لما مات- وكان موته في جمادى الأولى- وثب الجند، فانتهبوا بعض خزائنه، فقام بأمرهم سلام الأبرش الخصي، فأمر فأعطوا رزق ستة أشهر فصير المأمون عمله إلى طلحة خليفة لعبد الله بْن طاهر، وذلك أن المأمون ولى عبد الله في قول هؤلاء بعد موت طاهر عمل طاهر كله- وكان مقيما بالرقة على حرب نصر بْن شبث- وجمع له مع ذلك الشام، وبعث إليه بعهده على خراسان وعمل أبيه، فوجه عبد الله أخاه طلحة بخراسان، واستخلف بمدينة السلام إسحاق بْن إبراهيم، وكاتب المأمون طلحة باسمه، فوجه المأمون أحمد بْن أبي خالد إلى خراسان للقيام بأمر طلحة، فشخص أحمد إلى ما وراء النهر، فافتتح أشروسنة، وأسر كاوس بْن خاراخره وابنه الفضل، وبعث بهما إلى المأمون، ووهب طلحة لابن أبي خالد ثلاثة آلاف ألف درهم وعروضا بألفي ألف، ووهب لإبراهيم بْن العباس كاتب احمد بن ابى خالد خمسمائة الف درهم

(8/595)


وفي هذه السنه غلا السعر ببغداد والبصرة والكوفة حتى بلغ سعر القفيز من الحنطة بالهارونى اربعين درهما الى الخمسين بالقفيز الملجم.
وفي هذه السنة ولي موسى بْن حفص طبرستان والرويان ودنباوند.
وحج بالناس في هذه السنه ابو عيسى بن الرشيد.

(8/596)


ثم دخلت

سنة ثمان ومائتين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمما كان فيها من ذلك مصير الحسن بْن الحسين بْن مصعب من خراسان إلى كرمان ممتنعا بها، ومصير احمد بن خالد إليه حتى أخذه، فقدم به على المأمون، فعفا عنه.
وفيها ولى المأمون محمد بْن عبد الرحمن المخزومي قضاء عسكر المهدي في المحرم.
وفيها استعفى محمد بْن سماعة القاضي من القضاء فأعفي، وولي مكانه إسماعيل بْن حماد بْن أبي حنيفة.
وفيها عزل محمد بْن عبد الرحمن عن القضاء بعد أن وليه فيها في شهر ربيع الأول، ووليه بشر بْن الوليد الكندي، فقال بعضهم:
يأيها الملك الموحد ربه ... قاضيك بشر بْن الوليد حمار
ينفي شهادة من يدين بما به ... نطق الكتاب وجاءت الأخبار
ويعد عدلا من يقول بأنه ... شيخ يحيط بجسمه الأقطار
ومات موسى بْن محمد المخلوع في شعبان، ومات الفضل بْن الربيع في ذي القعدة.
وحج بالناس في هذه السنة صالح بْن الرشيد.

(8/597)


ثم دخلت

سنة تسع ومائتين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)

خبر الظفر بنصر بن شبث
فمن ذلك ما كان من حصر عبد الله بْن طاهر نصر بْن شبث وتضييقه عليه، حتى طلب الأمان، فذكر عن جعفر بْن محمد العامري أنه قَالَ: قَالَ المأمون لثمامة: ألا تدلني على رجل من أهل الجزيرة له عقل وبيان ومعرفة، يؤدي عني ما أوجهه به إلى نصر بْن شبث؟ قَالَ: بلى يا أمير المؤمنين، رجل من بنى عامر يقال له جعفر بْن محمد، قَالَ له: أحضرنيه، قَالَ جعفر: فأحضرني ثمامة، فأدخلني عليه، فكلمني بكلام كثير، ثم أمرني أن أبلغه نصر بْن شبث.
قَالَ: فأتيت نصرا وهو بكفر عزون بسروج، فأبلغته رسالته، فأذعن وشرط شروطا، منها ألا يطأ له بساطا قَالَ: فأتيت المأمون فأخبرته، فقال:
لا أجيبه والله إلى هذا أبدا، ولو أفضيت إلى بيع قميصي حتى يطأ بساطي، وما باله ينفر مني! قَالَ: قلت: لجرمه وما تقدم منه، فقال: أتراه أعظم جرما عندي من الفضل بْن الربيع ومن عيسى بْن أبي خالد! أتدري ما صنع بي الفضل! أخذ قوادي وجنودي وسلاحي وجميع ما أوصى به لي أبي، فذهب به إلى محمد وتركني بمرو وحيدا فريدا وأسلمني، وأفسد علي أخي، حتى كان من أمره ما كان، وكان أشد علي من كل شيء أتدري ما صنع بي عيسى بْن أبي خالد! طرد خليفتي من مدينتي ومدينة آبائي، وذهب بخراجي وفيئي، وأخرب علي دياري، وأقعد إبراهيم خليفة دوني، ودعاه باسمي.
قَالَ: قلت: يا أمير المؤمنين، أتأذن لي في الكلام فأتكلم؟ قَالَ: تكلم، قلت: الفضل بْن الربيع رضيعكم ومولاكم، وحال سلفه حالكم، وحال سلفكم حاله، ترجع عليه بضروب كلها تردك اليه، واما عيسى بْن أبي خالد فرجل

(8/598)


من أهل دولتك، وسابقته وسابقة من مضى من سلفه سابقتهم ترجع عليه بذلك، وهذا رجل لم تكن له يد قط فيحمل عليها، ولا لمن مضى من سلفه، إنما كانوا من جند بني أمية قَالَ: إن كان ذلك كما تقول، فكيف بالحنق والغيظ، ولكني لست أقلع عنه حتى يطأ بساطي، قَالَ: فأتيت نصرا فأخبرته بذلك كله، قَالَ: فصاح بالخيل صيحة فجالت، ثم قَالَ: ويلي عليه! هو لم يقو على أربعمائة ضفدع تحت جناحه- يعني الزط- يقوى على حلبة العرب! فذكر أن عبد الله بْن طاهر لما جاده القتال وحصره وبلغ منه، طلب الأمان فأعطاه، وتحول من معسكره إلى الرقة سنة تسع ومائتين، وصار إلى عبد الله بْن طاهر، وكان المأمون قد كتب إليه قبل ذلك بعد أن هزم عبد الله ابن طاهر جيوشه كتابا يدعوه إلى طاعته ومفارقة معصيته، فلم يقبل، فكتب عبد الله إليه- وكان كتاب المأمون إليه من المأمون كتبه عمرو بْن مسعدة:
أما بعد، فإنك يا نصر بْن شبث قد عرفت الطاعة وعزها وبرد ظلها وطيب مرتعها وما في خلافها من الندم والخسار، وإن طالت مدة الله بك، فإنه إنما يملي لمن يلتمس مظاهرة الحجة عليه لتقع عبره بأهلها على قدر إصرارهم واستحقاقهم وقد رأيت إذكارك وتبصيرك لما رجوت أن يكون لما أكتب به إليك موقع منك، فإن الصدق صدق والباطل باطل، وإنما القول بمخارجه وبأهله الذين يعنون به، ولم يعاملك من عمال أمير المؤمنين أحد أنفع لك في مالك ودينك ونفسك، ولا احرص على استنقاذك والانتياش لك من خطائك مني، فبأي أول أو آخر أو سطة أو إمرة إقدامك يا نصر على أمير المؤمنين! تأخذ أمواله، وتتولى دونه ما ولاه الله، وتريد أن تبيت آمنا أو مطمئنا، او وادعا او ساكنا او هادئا! فو عالم السر والجهر، لئن لم تكن للطاعة مراجعا وبها خانعا، لتستوبلن وخم العاقبه، ثم لا بد ان بك قبل كل عمل، فإن قرون الشيطان إذا لم تقطع كانت في الأرض فتنة وفسادا

(8/599)


كبيرا، ولأطأن بمن معي من أنصار الدولة كواهل رعاع أصحابك، ومن تأشب إليك من أداني البلدان وأقاصيها وطغامها وأوباشها، ومن انضوى إلى حوزتك من خراب الناس، ومن لفظه بلده، ونفته عشيرته، لسوء موضعه فيهم وقد أعذر من أنذر والسلام.
وكان مقام عبد الله بْن طاهر على نصر بْن شبث محاربا له- فيما ذكر- خمس سنين حتى طلب الأمان، فكتب عبد الله إلى المأمون يعلمه أنه حصره وضيق عليه، وقتل رؤساء من معه، وإنه قد عاذ بالأمان وطلبه، فأمره أن يكتب له كتاب أمان، فكتب اليه، أمانا نسخته:
بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد، فإن الإعذار بالحق حجة الله المقرون بها النصر، والاحتجاج بالعدل دعوة الله الموصول بها العز، ولا يزال المعذر بالحق، المحتج بالعدل في استفتاح أبواب التأييد، واستدعاء أسباب التمكين، حتى يفتح الله وهو خير الفاتحين، ويمكن وهو خير الممكنين، ولست تعدو أن تكون فيما لهجت به أحد ثلاثة:
طالب دين، أو ملتمس دنيا، أو متهورا يطلب الغلبة ظلما، فإن كنت للدين تسعى بما تصنع، فأوضح ذلك لأمير المؤمنين يغتنم قبوله إن كان حقا، فلعمري ما همته الكبرى، ولا غايته القصوى إلا الميل مع الحق حيث مال، والزوال مع العدل حيث زال، وإن كنت للدنيا تقصد، فأعلم أمير المؤمنين غايتك فيها، والأمر الذي تستحقها به، فإن استحققتها وأمكنه ذلك فعله بك.
فلعمري ما يستجيز منع خلق ما يستحقه وإن عظم، وإن كنت متهورا فسيكفي الله أمير المؤمنين مؤنتك، ويعجل ذلك كما عجل كفايته مؤن قوم سلكوا مثل طريقك كانوا أقوى يدا، وأكثف جندا وأكثر جمعا وعددا ونصرا منك فيما أصارهم إليه من مصارع الخاسرين، وأنزل بهم من جوائح الظالمين وأمير المؤمنين يختم كتابه بشهادة أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شريك له، وان محمدا عبده ورسوله ص، وضمانه لك في دينه وذمته الصفح عن سوالف جرائمك، ومتقدمات جرائرك، وإنزالك ما تستأهل من منازل العز والرفعة إن أتيت وراجعت، إن شاء الله والسلام

(8/600)


ولما خرج نصر بْن شبث إلى عبد الله بْن طاهر بالأمان هدم كيسوم وخربها.
وفي هذه السنة ولى المأمون صدقة بْن علي المعروف بزريق أرمينية وأذربيجان ومحاربة بابك، وانتدب للقيام بأمره أحمد بْن الجنيد بْن فرزندي الأسكافي، ثم رجع أحمد بْن الجنيد بْن فرزندي إلى بغداد، ثم رجع إلى الخرمية، فأسره بابك، فولى إبراهيم بْن الليث بْن الفضل التجيبي أذربيجان.
وحج بالناس في هذه السنة صالح بْن العباس بن محمد بْن علي، وهو والي مكة.
وفيها مات ميخائيل بْن جورجس صاحب الروم، وكان ملكه تسع سنين، وملكت الروم عليهم ابنه توفيل بن ميخائيل.

(8/601)


ثم دخلت

سنة عشر ومائتين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك وصول نصر بْن شبث فيها إلى بغداد، وجه به عبد الله بْن طاهر إلى المأمون، فكان دخوله إليها يوم الاثنين لسبع خلون من صفر، فأنزله مدينة أبي جعفر ووكل به من يحفظه.

ذكر الخبر عن ظفر المأمون بابن عائشة ورفقائه
وفيها ظهر المأمون على إبراهيم بْن محمد بْن عبد الوهاب بْن إبراهيم الإمام، الذي يقال له ابن عائشة ومحمد بْن إبراهيم الأفريقي ومالك بْن شاهي وفرج البغواري ومن كان معهم ممن كان يسعى في البيعة لإبراهيم بن المهدي، وكان الذي أطلعه عليهم وعلى ما كانوا يسعون فيه من ذلك عمران القطربلي، فأرسل إليهم المأمون يوم السبت- فيما ذكر- لخمس خلون من صفر سنة عشر ومائتين، فامر المأمون بابراهيم بن عائشة أن يقام ثلاثة أيام في الشمس على باب دار المأمون، ثم ضربه يوم الثلاثاء بالسياط، ثم حبسه في المطبق، ثم ضرب مالك بْن شاهي وأصحابه، وكتبوا للمأمون أسماء من دخل معهم في هذا الأمر من القواد والجند وسائر الناس، فلم يعرض المأمون لأحد ممن كتبوا له، ولم يأمن أن يكونوا قد قذفوا أقواما براء، وكانوا اتعدوا أن يقطعوا الجسر إذا خرج الجند يتلقون نصر بْن شبث، فغمر بهم فأخذوا، ودخل نصر بْن شبث بعد ذلك وحده، ولم يوجه إليه أحد من الجند، فأنزل عند إسحاق بْن إبراهيم، ثم حول الى مدينه ابى جعفر.

(8/602)


ذكر خبر الظفر بابراهيم بن المهدى
وفيها أخذ إبراهيم بْن المهدي ليلة الأحد لثلاث عشرة من ربيع الآخر، وهو متنقب مع امرأتين في زي امرأة، أخذه حارس أسود ليلا، فقال: من أنتن؟ وأين تردن في هذا الوقت؟ فأعطاه إبراهيم- فيما ذكر- خاتم ياقوت كان في يده، له قدر عظيم، ليخليهن، فلما نظر الحارس إلى الخاتم استراب بهن، وقال: هذا خاتم رجل له شأن، فرفعهن إلى صاحب المسلحة، فأمرهن أن يسفرن، فتمنع إبراهيم، فجبذه صاحب المسلحة، فبدت لحيته، فرفعه إلى صاحب الجسر فعرفه، فذهب به إلى باب المأمون، فأعلم به، فأمر بالاحتفاظ به في الدار، فلما كان غداة الأحد أقعد في دار المأمون لينظر إليه بنو هاشم والقواد والجند، وصيروا المقنعة التي كان متنقبا بها في عنقه، والملحفة التي كان ملتحفا بها في صدره، ليراه الناس ويعلموا كيف أخذ فلما كان يوم الخميس حوله المأمون إلى منزل أحمد بْن أبي خالد فحبسه عنده، ثم اخرجه المأمون معه حيث خرج إلى الحسن بْن سهل بواسط، فقال الناس: إن الحسن كلمه فيه، فرضي عنه وخلى سبيله، وصيره عند أحمد بْن أبي خالد، وصير معه أحمد بْن يحيى بْن معاذ وخالد بْن يزيد بْن مزيد يحفظانه، إلا أنه موسع عليه، عنده أمه وعياله، ويركب إلى دار المأمون، وهؤلاء معه يحفظونه
. ذكر خبر قتل ابن عائشة
وفي هذه السنه قتل المأمون ابراهيم بن عائشة وصلبه.
ذكر الخبر عن سبب قتله إياه:
كان السبب في ذلك أن المأمون حبس ابن عائشة ومحمد بْن إبراهيم الأفريقي ورجلين من الشطار، يقال لأحدهما أبو مسمار وللآخر عمار، وفرج البغواري ومالك بْن شاهي وجماعة معهم ممن كان سعى في البيعة لإبراهيم، بعد أن

(8/603)


ضربوا بالسياط ما خلا عمارا، فانه او من لما كان من إقراره على القوم في المطبق، فرفع بعض أهل المطبق أنهم يريدون أن يشغبوا وينقبوا السجن- وكانوا قبل ذلك بيوم قد سدوا باب السجن من داخل فلم يدعوا أحدا يدخل عليهم- فلما كان الليل وسمعوا شغبهم، بلغ المأمون خبرهم، فركب إليهم من ساعته بنفسه، فدعا بهؤلاء الأربعة فضرب أعناقهم صبرا، وأسمعه ابن عائشة شتما قبيحا، فلما كانت الغداة صلبوا على الجسر الأسفل، فلما كان من الغداة يوم الأربعاء انزل ابراهيم بن عائشة، فكفن وصلي عليه، ودفن في مقابر قريش، وأنزل ابن الأفريقي فدفن في مقابر الخيزران وترك الباقون.

العفو عن ابراهيم بن المهدى
وذكر أن إبراهيم بْن المهدي لما أخذ صير به الى دار ابى إسحاق بن الرشيد- وابو اسحق عند المأمون- فحمل رديفا لفرج التركي، فلما أدخل على المأمون قَالَ له: هيه يا إبراهيم! فقال: يا أمير المؤمنين، ولي الثأر محكم في القصاص، والعفو أقرب للتقوى، ومن تناوله الاغترار بما مد له من أسباب الشقاء أمكن عادية الدهر من نفسه، وقد جعلك الله فوق كل ذي ذنب، كما جعل كل ذي ذنب دونك، فإن تعاقب فبحقك، وأن تعف فبفضلك، قَالَ: بل أعفو يا إبراهيم، فكبر ثم خر ساجدا.
وقيل ان ابراهيم كتب بهذا الكلام إلى المأمون وهو مختف، فوقع المأمون في حاشية رقعته: القدرة تذهب الحفيظة، والندم توبة، وبينهما عفو الله، وهو أكبر ما نسأله، فقال إبراهيم يمدح المأمون:
يا خير من ذملت يمانية به ... بعد الرسول لآيس ولطامع
وأبر من عبد الإله على التقى ... عينا وأقوله بحق صادع
عسل الفوارع ما أطعت فإن تهج ... فالصاب يمزج بالسمام الناقع

(8/604)


متيقظا حذرا وما يخشى العدى ... نبهان من وسنات ليل الهاجع
ملئت قلوب الناس منك مخافة ... وتبيت تكلؤهم بقلب خاشع
بأبي وأمي فدية وبنيهما ... من كل معضلة وريب واقع
ما ألين الكنف الذي بوأتني ... وطنا وأمرع رتعه للراتع
للصالحات أخا جعلت وللتقى ... وأبا رءوفا للفقير القانع
نفسي فداؤك إذ تضل معاذري ... وألوذ منك بفضل حلم واسع
أملا لفضلك والفواضل شيمة ... رفعت بناءك بالمحل اليافع
فبذلت أفضل ما يضيق ببذله ... وسع النفوس من الفعال البارع
وعفوت عمن لم يكن عن مثله ... عفو، ولم يشفع إليك بشافع
الا العلو عن العقوبة بعد ما ... ظفرت يداك بمستكين خاضع
فرحمت أطفالا كأفراخ القطا ... وعويل عانسة كقوس النازع
وعطفت آصرة على كما وعى ... بعد انهياض الوشى عظم الظالع
الله يعلم ما أقول فإنها ... جهد الألية من حنيف راكع
ما أن عصيتك والغواة تقودني ... أسبابها إلا بنية طائع
حتى إذا علقت حبائل شقوتي ... بردى إلى حفر المهالك هائع
لم أدر أن لمثل جرمي غافرا ... فوقفت أنظر أي حتف صارعي
رد الحياة علي بعد ذهابها ... ورع الإمام القادر المتواضع
أحياك من ولاك أطول مدة ... ورمى عدوك في الوتين بقاطع
كم من يد لك لم تحدثني بها ... نفسي إذا آلت إلي مطامعي

(8/605)


أسديتها عفوا إلي هنيئة ... فشكرت مصطنعا لأكرم صانع
إلا يسيرا عند ما أوليتني ... وهو الكثير لدى غير الضائع
إن أنت جدت بها علي تكن لها ... أهلا، وأن تمنع فأعدل مانع
إن الذي قسم الخلافة حازها ... في صلب آدم للإمام السابع
جمع القلوب عليك جامع أمرها ... وحوى رداؤك كل خير جامع
فذكر أن المأمون حين أنشده إبراهيم هذه القصيدة، قَالَ: أقول ما قَالَ يوسف لإخوته: «لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ»

ذكر الخبر عن بناء المأمون ببوران
وفي هذه السنة بنى المأمون ببوران بنت الحسن بن سهل في رمضان منها.
ذكر الخبر عن أمر المأمون في ذلك وما كان في أيام بنائه:
ذكر أن المأمون لما مضى إلى فم الصلح إلى معسكر الحسن بْن سهل، حمل معه إبراهيم بْن المهدي، وشخص المأمون من بغداد حين شخص إلى ما هنالك للبناء ببوران، راكبا زورقا، حتى أرسى على باب الحسن، وكان العباس بن المأمون قد تقدم أباه على الظهر، فتلقاه الحسن خارجا عسكره في موضع قد اتخذ له على شاطئ دجلة، بني له فيه جوسق، فلما عاينه العباس ثنى رجله لينزل، فحلف عليه الحسن الا يفعل، فلما ساواه ثنى رجله الحسن لينزل، فقال له العباس: بحق أمير المؤمنين لا تنزل، فاعتنقه الحسن وهو راكب ثم أمر أن يقدم إليه دابته، ودخلا جميعا منزل الحسن، ووافى المأمون في وقت العشاء، وذلك في شهر رمضان من سنة عشر ومائتين، فأفطر هو والحسن والعباس- ودينار بْن عبد الله قائم على رجله- حتى فرغوا من الإفطار،

(8/606)


وغسلوا أيديهم، فدعا المأمون بشراب، فأتى بجام ذهب فصب فيه وشرب، ومد يده بجام فيه شراب إلى الحسن، فتباطأ عنه الحسن، لأنه لم يكن يشرب قبل ذلك، فغمز دينار بْن عبد الله الحسن، فقال له الحسن: يا أمير المؤمنين، أشربه بإذنك وأمرك؟ فقال له المأمون: لولا أمري لم أمدد يدي إليك، فأخذ الجام فشربه فلما كان في الليلة الثانية، جمع بين محمد بْن الحسن بْن سهل والعباسة بنت الفضل ذي الرئاستين، فلما كان في الليلة الثالثة دخل على بوران، وعندها حمدونة وأم جعفر وجدتها، فلما جلس المأمون معها نثرت عليها جدتها ألف درة كانت في صينية ذهب، فأمر المأمون أن تجمع، وسألها عن عدد ذلك الدر كم هو؟ فقالت: ألف حبة، فأمر بعدها فنقصت عشرا، فقال: من أخذها منكم فليردها، فقالوا: حسين زجلة، فأمره بردها، فقال: يا أمير المؤمنين، إنما نثر لنأخذه، قَالَ: ردها فإني أخلفها عليك، فردها وجمع المأمون ذلك الدر في الآنية كما كان، فوضع في حجرها، وقال: هذه نحلتك، وسلي حوائجك، فأمسكت فقالت لها جدتها: كلمي سيدك، وسليه حوائجك فقد أمرك، فسألته الرضا عن إبراهيم بن المهدي، فقال: قد فعلت، وسألته الإذن لأم جعفر في الحج، فأذن لها وألبستها أم جعفر البدنة الأموية، وابتنى بها في ليلته، وأوقد في تلك الليلة شمعة عنبر، فيها أربعون منا في تور ذهب فأنكر المأمون ذلك عليهم، وقال: هذا سرف، فلما كان من الغد دعا بإبراهيم بْن المهدي فجاء يمشي من شاطئ دجلة، عليه مبطنة ملحم، وهو معتم بعمامة، حتى دخل، فلما رفع الستر عن المأمون رمى بنفسه، فصاح المأمون:
يا عم، لا بأس عليك، فدخل فسلم عليه تسليم الخلافة، وقبل يده، وأنشد شعره، ودعا بالخلع فخلع عليه خلعه ثانية، ودعا له بمركب وقلده سيفا، وخرج فسلم الناس، ورد إلى موضعه

(8/607)


وذكر أن المأمون أقام عند الحسن بْن سهل سبعة عشر يوما يعد له في كل يوم لجميع من معه جميع ما يحتاج إليه، وأن الحسن خلع على القواد على مراتبهم، وحملهم ووصلهم، وكان مبلغ النفقة عليهم خمسين ألف ألف درهم قَالَ: وأمر المأمون غسان بْن عباد عند منصرفه أن يدفع إلى الحسن عشرة آلاف ألف من مال فارس، وأقطعه الصلح فحملت إليه على المكان، وكانت معدة عند غسان بْن عباد، فجلس الحسن ففرقها في قواده وأصحابه وحشمه وخدمه، فلما انصرف المأمون شيعه الحسن، ثم رجع إلى فم الصلح.
فذكر عن أحمد بْن الحسن بْن سهل، قَالَ: كان أهلنا يتحدثون أن الحسن بْن سهل كتب رقاعا فيها أسماء ضياعه، ونثرها على القواد وعلى بني هاشم، فمن وقعت في يده رقعة منها فيها اسم ضيعة بعث فتسلمها.
وذكر عن أبي الحسن علي بْن الحسين بْن عبد الأعلى الكاتب، قَالَ:
حدثني الحسن بْن سهل يوما بأشياء كانت في أم جعفر، ووصف رجاحة عقلها وفهمها، ثم قَالَ: سألها يوما المأمون بفم الصلح حيث خرج إلينا عن النفقة على بوران، وسأل حمدونة بنت غضيض عن مقدار ما أنفقت في ذلك الأمر.
قَالَ: فقالت حمدونة: أنفقت خمسة وعشرين ألف ألف، قَالَ: فقالت أم جعفر: ما صنعت شيئا، قد أنفقت ما بين خمسة وثلاثين ألف ألف إلى سبعة وثلاثين ألف ألف درهم قَالَ: وأعددنا له شمعتين من عنبر، قَالَ:
فدخل بها ليلا، فأوقدتا بين يديه، فكثر دخانهما، فقال: ارفعوهما قد أذانا الدخان، وهاتوا الشمع قَالَ: ونحلتها أم جعفر في ذلك اليوم الصلح قَالَ: فكان سبب عود الصلح إلى ملكي، وكانت قبل ذلك لي، فدخل علي يوما حميد الطوسي فأقرأني اربعه ابيات امتدح بها ذا الرياستين، فقلت له: ننفذها لك ذي الرياستين، وأقطعك الصلح في العاجل إلى أن تأتي مكافاتك

(8/608)


من قبله فأقطعته إياها، ثم ردها المأمون على أم جعفر فنحلتها بوران.
وروى علي بْن الحسين أن الحسن بْن سهل كان لا ترفع الستور عنه، ولا يرفع الشمع من بين يديه حتى تطلع الشمس ويتبينها إذا نظر إليها وكان متطيرا يحب أن يقال له إذا دخل عليه: انصرفنا من فرح وسرور، ويكره أن يذكر له جنازة أو موت أحد قَالَ: ودخلت عليه يوما فقال له قائل: إن علي بْن الحسين أدخل ابنه الحسن اليوم الكتاب، قَالَ: فدعا لي وانصرفت، فوجدت في منزلي عشرين ألف درهم هبة للحسن وكتابا بعشرين ألف درهم.
قَالَ: وكان قد وهب لي من أرضه بالبصرة ما قوم بخمسين ألف دينار، فقبضه عني بغا الكبير، وأضافه إلى أرضه.
وذكر عن أبي حسان الزيادي أنه قَالَ: لما صار المأمون إلى الحسن بْن سهل، أقام عنده أياما بعد البناء ببوران، وكان مقامه في مسيره وذهابه ورجوعه أربعين يوما ودخل إلى بغداد يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة خلت من شوال.
وذكر عن محمد بْن موسى الخوارزمي أنه قَالَ: خرج المأمون نحو الحسن ابن سهل إلى فم الصلح لثمان خلون من شهر رمضان، ورحل من فم الصلح لتسع بقين من شوال سنة عشر ومائتين.
وهلك حميد بْن عبد الحميد يوم الفطر من هذه السنة، وقالت جاريته عذل:
من كان أصبح يوم الفطر مغتبطا ... فما غبطنا به والله محمود
أو كان منتظرا في الفطر سيده ... فإن سيدنا في الترب ملحود
وفي هَذِهِ السنة افتتح عَبْد اللَّهِ بْن طاهر مصر، واستأمن إليه عبيد الله بْن السري بن الحكم.

(8/609)


ذكر الخبر عن سبب شخوص عبد الله بْن طاهر من الرقة إلى مصر وسبب خروج ابن السري إليه في الأمان
ذكر أن عبد الله بْن طاهر لما فرغ من نصر بْن شبث العقيلي، ووجهه إلى المأمون فوصل إليه ببغداد كتب المأمون يأمره بالمصير إلى مصر، فحدثني أحمد بْن محمد بْن مخلد، أنه كان يومئذ بمصر، وأن عبد الله بْن طاهر لما قرب منها، وصار منها على مرحلة، قدم قائدا من قواده إليها ليرتاد لمعسكره موضعا يعسكر فيه، وقد خندق ابن السري عليها خندقا، فاتصل الخبر بابن السري عن مصير القائد إلى ما قرب منها، فخرج بمن استجاب له من أصحابه إلى القائد الذي كان عبد الله بْن طاهر وجهه لطلب موضع معسكره، فالتقى جيش ابن السري وقائد عبد الله وأصحابه وهم في قلة، فجال القائد وأصحابه جولة، وأبرد القائد إلى عبد الله بريدا يخبره بخبره وخبر ابن السري، فحمل رجاله على البغال، على كل بغل رجلين بالتهما وادواتهما، وجنبوا الخيل، وأسرعوا السير حتى لحقوا القائد وابن السرى، فلم تكن من عند الله واصحابه الا جمله واحدة حتى انهزم ابن السري وأصحابه، وتساقطت عامة أصحابه- يعني ابن السري- في الخندق، فمن هلك منهم بسقوط بعضهم على بعض في الخندق كان أكثر ممن قتله الجند بالسيف، وانهزم ابن السري، فدخل الفسطاط، وأغلق على نفسه وأصحابه ومن فيها الباب، وحاصره عبد الله بْن طاهر، فلم يعاوده ابن السري الحرب بعد ذلك حتى خرج إليه في الأمان.
وذكر عن ابن ذي القلمين، قَالَ: بعث ابن السري إلى عبد الله بْن طاهر لما ورد مصر ومانعه من دخولها بألف وصيف ووصيفة، مع كل وصيف ألف دينار في كيس حرير، وبعث بهم ليلا قَالَ: فرد ذلك عليه عبد الله وكتب إليه: لو قبلت هديتك نهارا لقبلتها ليلا «بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ

(8/610)


ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ» قَالَ: فحينئذ طلب الأمان منه، وخرج إليه.
وذكر أحمد بْن حفص بْن عمر، عن أبي السمراء، قَالَ: خرجنا مع الأمير عبد الله بْن طاهر متوجهين إلى مصر، حتى إذا كنا بين الرملة ودمشق، إذا نحن بأعرابي قد اعترض، فإذا شيخ فيه بقية على بعير له أورق، فسلم علينا فرددنا ع قَالَ أبو السمراء: وأنا وإسحاق بْن إبراهيم الرافقي وإسحاق بْن أبي ربعي، ونحن نساير الأمير، وكنا يومئذ أفره من الأمير دواب، وأجود منه كسا قَالَ: فجعل الأعرابي ينظر في وجوهنا، قَالَ:
فقلت: يا شيخ، قد ألححت في النظر، أعرفت شيئا أم أنكرته؟ قَالَ:
لا والله ما عرفتكم قبل يومي هذا، ولا أنكرتكم لسوء أراه فيكم، ولكني رجل حسن الفراسة في الناس، جيد المعرفة بهم، قَالَ: فأشرت له إلى إسحاق بْن أبي ربعي، فقلت: ما تقول في هذا؟ فقال:
أرى كاتبا داهي الكتابة بين ... عليه وتأديب العراق منير
له حركات قد يشاهدن أنه ... عليم بتقسيط الخراج بصير
ونظر إلى إسحاق بْن إبراهيم الرافقي، فقال:
ومظهر نسك ما عليه ضميره ... يحب الهدايا، بالرجال مكور
أخال به جبنا وبخلا وشيمة ... تخبر عنه أنه لوزير
ثم نظر إلي وأنشأ يقول:
وهذا نديم للأمير ومؤنس ... يكون له بالقرب منه سرور
أخاله للإشعار والعلم راويا ... فبعض نديم مرة وسمير

(8/611)


ثم نظر إلى الأمير وأنشأ يقول:
وهذا الأمير المرتجى سيب كفه ... فما إن له فيمن رأيت نظير
عليه رداء من جمال وهيبة ... ووجه بإدراك النجاح بشير
لقد عصم الإسلام منه بدابد ... به عاش معروف ومات نكير
ألا إنما عبد الإله بْن طاهر ... لنا والد بر بنا، وأمير
قَالَ: فوقع ذلك من عبد الله أحسن موقع، وأعجبه ما قال الشيخ، فامر له بخمسمائة دينار، وأمره أن يصحبه.
وذكر عن الحسن بْن يحيى الفهري، قَالَ: لقينا البطين الشاعر الحمصي، ونحن مع عبد الله بْن طاهر فيما بين سلمية وحمص، فوقف على الطريق، فقال لعبد الله بْن طاهر:
مرحبا مرحبا وأهلا وسهلا ... بابن ذي الجود طاهر بْن الحسين
مرحبا مرحبا وأهلا وسهلا ... بابن ذي الغرتين في الدعوتين
مرحبا مرحبا بمن كفه البحر ... إذا فاض مزبد الرجوين
ما يبالي المأمون أيده الله ... إذا كنتما له باقيين
أنت غرب وذاك شرق مقيما ... أي فتق أتى من الجانبين
وحقيق إذ كنتما في قديم ... لزريق ومصعب وحسين
أن تنالا ما نلتماه من المجد ... وأن تعلوا على الثقلين
قَالَ: من أنت ثكلتك أمك! قَالَ: أنا البطين الشاعر الحمصي، قَالَ:
اركب يا غلام وانظر كم بيتا؟ قَالَ: قَالَ: سبعة، فأمر له بسبعه آلاف درهم او بسبعمائة دينار، ثم لم يزل معه حتى دخلوا مصر والإسكندرية، حتى انخسف به وبدابته مخرج، فمات فيه بالإسكندرية.

(8/612)


ذكر الخبر عن فتح عبد الله بن طاهر الإسكندرية
وفي هذه السنة فتح عبد الله بْن طاهر الإسكندرية- وقيل كان فتحه إياها في سنة إحدى عشرة ومائتين- وأجلى من كان تغلب عليها من أهل الأندلس عنها.
(ذكر الخبر عن أمره وأمرهم) :
حدثني غير واحد من أهل مصر، أن مراكب أقبلت من بحر الروم من قبل الأندلس، فيها جماعة كبيرة أيام شغل الناس قبلهم بفتنة الجروي وابن السري، حتى أرسوا مراكبهم بالإسكندرية، ورئيسهم يومئذ رجل يدعى أبا حفص، فلم يزالوا بها مقيمين حتى قدم عبد الله بْن طاهر مصر قَالَ لي يونس بْن عبد الأعلى: قدم علينا من قبل المشرق فتى حدث- يعني عبد الله بْن طاهر- والدنيا عندنا مفتونة، قد غلب على كل ناحية من بلادنا غالب، والناس منهم في بلاء، فأصلح الدنيا، وأمن البريء، واخاف السقيم، واستوسقت له الرعية بالطاعة ثم قَالَ: أخبرنا عبد الله بْن وهب، قَالَ: أخبرني عبد الله بْن لهيعة، قَالَ: لا أدري رفعه إلي قبل أم لا! فلم نجد فيما قرأنا من الكتب أن لله بالمشرق جندا لم يطغ عليه أحد من خلقه إلا بعثهم عليه، وانتقم بهم منه- أو كلاما هذا معناه- فلما دخل عبد الله بْن طاهر بْن الحسين مصر، أرسل إلى من كان بها من الأندلسيين، وإلى من كان انضوى إليهم، يؤذنهم بالحرب إن هم لم يدخلوا في الطاعة، فأخبروني أنهم أجابوه إلى الطاعة، وسألوه الأمان، على أن يرتحلوا من الإسكندرية إلى بعض أطراف الروم التي ليست من بلاد الإسلام، فأعطاهم الأمان على ذلك، وأنهم رحلوا عنها، فنزلوا جزيرة من جزائر البحر، يقال لها إقريطش، فاستوطنوها وأقاموا بها، وفيها بقايا أولادهم الى اليوم.

(8/613)


ذكر الخبر عن خروج اهل قم على السلطان
وفي هذه السنة خلع أهل قم السلطان ومنعوا الخراج.
ذكر الخبر عن سبب خلعهم السلطان ومآل أمرهم في ذلك:
ذكر أن سبب خلعهم إياه كان أنهم كانوا استكثروا ما عليهم من الخراج، وكان خراجهم ألفي ألف درهم، وكان المأمون قد حط عن أهل الري حين دخلها منصرفا من خراسان إلى العراق، ما قد ذكرت قبل، فطمع أهل قم من المأمون في الفعل بهم في الحط عنهم والتخفيف مثل الذي فعل من ذلك بأهل الري، فرفعوا إليه يسألونه الحط، ويشكون إليه ثقله عليهم، فلم يجبهم المأمون إلى ما سألوه، فامتنعوا من أدائه، فوجه المأمون إليهم علي بْن هشام، ثم أمده بعجيف بْن عنبسة، وقدم قائد لحميد يقال له محمد بن يوسف الكح بعرض من خراسان، فكتب إليه بالمصير إلى قم لحرب أهلها مع علي بْن هشام، فحاربهم علي فظفر بهم، وقتل يحيى بْن عمران وهدم سور قم، وجباها سبعة آلاف ألف درهم بعد ما كانوا يتظلمون من ألفي ألف درهم.
ومات في هذه السنة شهريار، وهو ابن شروين، وصار في موضعه ابنه سابور، فنازعه مازيار بْن قارن فأسره وقتله، وصارت الجبال في يدي مازيار ابن قارن.
وحج بالناس في هذه السنة صالح بْن العباس بْن محمد وهو يومئذ والي مكة.

(8/614)


ثم دخلت

سنة إحدى عشرة ومائتين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)

امر عبيد الله بن السرى
فمن ذلك خروج عبيد الله بْن السري إلى عبد الله بْن طاهر بالأمان، ودخول عبد الله بْن طاهر مصر- وقيل إن ذلك في سنة عشر ومائتين- وذكر بعضهم أن ابن السري خرج إلى عبد الله بْن طاهر يوم السبت لخمس بقين من صفر سنة إحدى عشرة ومائتين، وأدخل بغداد لسبع بقين من رجب سنة إحدى عشرة ومائتين، وأنزل مدينة أبي جعفر، وأقام عبد الله بْن طاهر بمصر واليا عليها وعلى سائر الشام والجزيرة، فذكر عن طاهر بْن خالد ابن نزار الغساني، قَالَ: كتب المأمون إلى عبد الله بْن طاهر وهو بمصر حين فتحها في أسفل كتاب له:
أخي أنت ومولاي ... ومن أشكر نعماه
فما أحببت من أمر ... فإني الدهر أهواه
وما تكره من شيء ... فإني لست أرضاه
لك الله على ذاك ... لك الله لك الله
وذكر عن عطاء صاحب مظالم عبد الله بْن طاهر، قَالَ: قَالَ رجل من أخوة المأمون للمأمون: يا أمير المؤمنين، إن عبد الله بْن طاهر يميل إلى ولد أبي طالب، وكذا كان أبوه قبله قَالَ: فدفع المأمون ذلك وأنكره، ثم عاد بمثل هذا القول، فدس إليه رجلا ثم قَالَ له: امض في هيئة القراء والنساك إلى مصر، فادع جماعة من كبرائها إلى القاسم بْن إبراهيم بْن طباطبا، واذكر مناقبه وعلمه وفضائله، ثم صر بعد ذلك إلى بعض بطانة عبد الله بْن طاهر، ثم ائته فادعه ورغبه في استجابته له، وابحث عن دفين نيته بحثا شافيا، وائتني بما تسمع منه قَالَ: ففعل الرجل ما قَالَ له، وأمره به، حتى إذا

(8/615)


دعا جماعة من الرؤساء والأعلام، قعد يوما بباب عبد الله بْن طاهر، وقد ركب الى عبيد الله بن السري بعد صلحه وأمانه، فلما انصرف قام إليه الرجل، فأخرج من كمه رقعة فدفعها إليه، فأخذها بيده، فما هو إلا أن دخل فخرج الحاجب إليه، فأدخله عليه وهو قاعد على بساطه، ما بينه وبين الأرض غيره، وقد مد رجليه، وخفاه فيهما، فقال له: قد فهمت ما في رقعتك من جملة كلامك، فهات ما عندك، قَالَ: ولي أمانك وذمة الله معك؟ قَالَ: لك ذلك، قَالَ: فأظهر له ما أراد، ودعاه إلى القاسم، وأخبره بفضائله وعلمه وزهده، فقال له عبد الله: أتنصفني؟ قَالَ: نعم، قَالَ: هل يجب شكر الله على العباد؟
قَالَ: نعم، قَالَ: فهل يجب شكر بعضهم لبعض عند الإحسان والمنة والتفضل؟ قَالَ: نعم، قَالَ: فتجيء إلي وأنا في هذه الحالة التي ترى، لي خاتم في المشرق جائز وفي المغرب كذلك، وفيما بينهما أمري مطاع، وقولي مقبول، ثم ما التفت يميني ولا شمالي وورائي وقد أمي إلا رأيت نعمة لرجل أنعمها علي، ومنة ختم بها رقبتي، ويدا لائحة بيضاء ابتدأني بها تفضلا وكرما، فتدعوني إلى الكفر بهذه النعمة وهذا الإحسان، وتقول: اغدر بمن كان أولا لهذا وآخرا، واسع في إزالة خيط عنقه وسفك دمه! تراك لو دعوتني إلى الجنة عيانا من حيث أعلم، أكان الله يحب أن أغدر به، وأكفر إحسانه ومنته، وأنكث بيعته! فسكت الرجل، فقال له عبد الله: أما إنه قد بلغني أمرك، وتالله ما أخاف عليك إلا نفسك، فارحل عن هذا البلد، فإن السلطان الأعظم إن بلغه أمرك- وما آمن ذلك عليك- كنت الجاني على نفسك ونفس غيرك.
فلما أيس الرجل مما عنده جاء إلى المأمون، فأخبره الخبر، فاستبشر وقال:
ذلك غرس يدي، وإلف أدبي، وترب تلقيحي، ولم يظهر من ذلك لأحد شيئا، ولا علم به عبد الله إلا بعد موت المأمون.
وذكر عن عبد الله بْن طاهر أنه قَالَ وهو محاصر بمصر عبيد الله بن السرى:

(8/616)


بكرت تسبل دمعا ... إن رأت وشك براحي
وتبدلت صقيلا ... يمنيا بوشاحي
وتماديت بسير ... لغدو ورواح
زعمت جهلا بأني ... تعب غير مراح
أقصري عني فإني ... سالك قصد فلاحي
أنا للمأمون عبد ... منه في ظل جناح
إن يعاف الله يوما ... فقريب مستراحي
أو يكن هلك فقولي ... بعويل وصياح:
حل في مصر قتيل ... ودعي عنك التلاحي
وذكر عن عبد الله بْن أحمد بْن يوسف أن أباه كتب إلى عبد الله بْن طاهر عند خروج عبيد الله بْن السري إليه يهنئه بذلك الفتح:
بلغني أعز الله الأمير ما فتح الله عليك، وخروج ابن السري إليك، فالحمد لله الناصر لدينه، المعز لدولة خليفته على عباده، المذل لمن عند عنه وعن حقه، ورغب عن طاعته ونسأل الله أن يظاهر له النعم، ويفتح له بلدان الشرك، والحمد لله على ما وليك به مذ ظعنت لوجهك، فإنا ومن قبلنا نتذاكر سيرتك في حربك وسلمك، ونكثر التعجب لما وفقت له من الشدة والليان في مواضعهما، ولا نعلم سائس جند ورعية عدل بينهم عدلك، ولا عفا بعد القدرة عمن آسفه وأضغنه عفوك، ولقل ما رأينا ابن شرف لم يلق بيده متكلا على ما قدمت له أبوته، ومن أوتي حظا وكفاية وسلطانا وولاية لم يخلد إلى ما عفا حتى يخل بمساماة ما أمامه ثم لا نعلم سائسا استحق النجح لحسن السيرة وكف معرة الاتباع استحقاقك وما يستجيز أحد ممن قبلنا أن يقدم عليك أحدا يهوى عند الحاقة والنازلة المعضلة

(8/617)


فليهنك منة الله ومزيده، ويسوغك الله هذه النعمة التي حواها لك بالمحافظة على ما به تمت لك، من التمسك بحبل إمامك ومولاك ومولى جميع المسلمين، وملاك وإيانا العيش ببقائه.
وأنت تعلم أنك لم تزل عندنا وعند من قبلنا مكرما مقدما معظما، وقد زادك الله في أعين الخاصة والعامه جلاله وبجالة، فأصبحوا يرجونك لأنفسهم، ويعدونك لأحداثهم ونوائبهم، وأرجو أن يوفقك الله لمحابه كما وفق لك صنعه وتوفيقه، فقد أحسنت جوار النعمة فلم تطغك، ولم تزدد إلا تذللا وتواضعا، فالحمد لله على ما انا لك وأبلاك، وأودع فيك والسلام.
وفي هذه السنة قدم عبد الله بْن طاهر بْن الحسين مدينه السلام من المغرب، فتلقاه العباس بن المأمون وأبو إسحاق المعتصم وسائر الناس، وقدم معه بالمتغلبين على الشام كابن السرج وابن أبي الجمل وابن أبي الصفر ومات موسى بْن حفص، فولي محمد بْن موسى طبرستان مكان أبيه.
وولي حاجب بْن صالح الهند فهزمه بشر بْن داود، فانحاز إلى كرمان.
وفيها أمر المأمون مناديا فنادى: برئت الذمة ممن ذكر معاوية بخير، أو فضله على احد من اصحاب رسول الله ص.
وحج بالناس في هذه السنة صالح بْن العباس وهو والي مكة.
وفيها مات أبو العتاهية الشاعر.

(8/618)


ثم دخلت

سنة اثنتي عشرة ومائتين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك ما كان من توجيه المأمون محمد بْن حميد الطوسي إلى بابك لمحاربته على طريق الموصل وتقويته إياه، فأخذ محمد بْن حميد يعلى بْن مرة ونظراءه من المتغلبة بأذربيجان، فبعث بهم إلى المأمون.
وفيها خلع أحمد بْن محمد العمري المعروف بالأحمر العين باليمن.
وفيها ولى المأمون محمد بْن عبد الحميد المعروف بأبي الرازي اليمن.
وفيها أظهر المأمون القول بخلق القرآن وتفضيل علي بْن ابى طالب ع، وقال: هو أفضل الناس بعد رسول الله ص، وذلك في شهر ربيع الأول منها.
وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة عَبْد اللَّهِ بن عبيد الله بْن العباس بْن محمد

(8/619)


ثم دخلت

سنة ثلاث عشرة ومائتين

ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث
فمن ذلك ما كان من خلع عبد السلام وابن جليس بمصر في القيسية واليمانيه وو ثوبهما بها.
وفيها مات طلحة بْن طاهر بخراسان.
وفيها ولى المأمون أخاه أبا إسحاق الشام ومصر، وولى ابنه العباس بن المأمون الجزيرة والثغور والعواصم، وأمر لكل واحد منهما ومن عبد الله بن طاهر بخمسمائة ألف دينار.
وقيل: إنه لم يفرق في يوم من المال مثل ذلك.

ذكر الخبر عن ولايه غسان بن عباد السند
وفيها ولى غسان بْن عباد السند.
ذكر الخبر عن سبب توليته إياه السند:
وكان السبب في ذلك- فيما بلغني- أن بشر بن داود بن يزيد خالف المأمون، وجبى الخراج فلم يحمل إلى المأمون شيئا منه، فذكر أن المأمون قَالَ يوما لأصحابه: أخبروني عن غسان بْن عباد، فإني أريده لأمر جسيم- وكان قد عزم على أن يوليه السند لما كان من أمر بشر بْن داود- فتكلم من حضر، وأطنبوا في مدحه، فنظر المأمون إلى أحمد بن يوسف وهو ساكت، فقال له: ما تقول يا أحمد؟ قَالَ: يا أمير المؤمنين ذاك رجل محاسنه أكثر من مساويه، لا تصرف به إلى طبقة إلا انتصف منهم، فمهما تخوفت

(8/620)


عليه، فإنه لن يأتي أمرا يعتذر منه، لأنه قسم أيامه بين أيام الفضل، فجعل لكل خلق نويه، إذا نظرت في أمره لم تدر أي حالاته أعجب! أما هداه إليه عقله، أم أما اكتسبه بالأدب، قَالَ: لقد مدحته على سوء رأيك فيه! قَالَ:
لأنه فيما قلت كما قَالَ الشاعر:
كفى شكرا بما أسديت أني ... مدحتك في الصديق وفي عداتي
قَالَ: فأعجب المأمون كلامه، واسترجح أدبه.
وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة عَبْد اللَّهِ بْن عبيد الله بْن العباس بْن محمد.

(8/621)


ثم دخلت

سنة أربع عشرة ومائتين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمما كان فيها من ذلك مقتل محمد بْن حميد الطوسي، قتله بابك بهشتادسر، يوم السبت لخمس ليال بقين من شهر ربيع الأول، ورفض عسكره، وقتل جمعا كثيرا ممن كان معه.
وفيها قتل أبو الرازي باليمن.
وفيها قتل عمير بْن الوليد الباذغيسي عامل أبي إسحاق بن الرشيد بمصر بالحوف في شهر ربيع الأول، فخرج أبو إسحاق إليها فافتتحها، وظفر بعبد السلام وابن جليس، فقتلهما فضرب المأمون بن الحروري ورده إلى مصر وفيها خرج بلال الضبابي الشاري، فشخص المأمون إلى العلث، ثم رجع إلى بغداد، فوجه عباسا ابنه في جماعة من القواد، فيهم علي بْن هشام وعجيف وهارون بْن محمد بْن أبي خالد، فقتل هارون بلالا.
وفيها خرج عبد الله بْن طاهر إلى الدينور، فبعث المأمون إليه إسحاق ابن إبراهيم ويحيى بْن أكثم يخيرانه بين خراسان والجبال وأرمينية وأذربيجان، ومحاربة بابك، فاختار خراسان، وشخص إليها.
وفيها تحرك جعفر بْن داود القمي، فظفر به عزيز مولى عبد الله بن طاهر، وكان هرب من مصر فرد إليها.
وفيها ولي علي بْن هشام الجبل وقم وإصبهان وأذربيجان.
وحج بالناس في هذه السنة إسحاق بْن العباس بن محمد.

(8/622)


ثم دخلت

سنة خمس عشرة ومائتين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)

ذكر خبر شخوص المأمون لحرب الروم
وفي هذه السنة شخص المأمون من مدينة السلام لغزو الروم، وذلك يوم السبت- فيما قيل- لثلاث بقين من المحرم- وقيل كان ارتحاله من الشماسية إلى البردان يوم الخميس بعد صلاة الظهر، لست بقين من المحرم سنة خمس عشرة ومائتين- واستخلف حين رحل عن مدينة السلام عليها إسحاق بْن إبراهيم بْن مصعب، وولي مع ذلك السواد وحلوان وكور دجلة.
فلما صار المأمون بتكريت قدم عليه محمد بْن علي بْن موسى بْن جعفر بْن مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ بن أبي طالب رحمه الله، من المدينة في صفر ليلة الجمعة من هذه السنة، ولقيه بها فأجازه، وأمره أن يدخل بابنته أم الفضل وكان زوجها منه، فأدخلت عليه في دار أحمد بْن يوسف التي على شاطئ دجلة، فأقام بها، فلما كان أيام الحج خرج بأهله وعياله حتى أتى مكة، ثم أتى منزله بالمدينة، فأقام بها، ثم سلك المأمون طريق الموصل، حتى صار إلى منبج، ثم إلى دابق، ثم إلى أنطاكية، ثم إلى المصيصة، ثم خرج منها إلى طرسوس، ثم دخل من طرسوس إلى بلاد الروم للنصف من جمادى الأولى ورحل العباس بن المأمون من ملطية، فأقام المأمون على حصن يقال له قرة، حتى فتحه عنوة، وأمر بهدمه، وذلك يوم الأحد لأربع بقين من جمادى الأولى، وكان قد افتتح قبل ذلك حصنا يقال له ماجدة، فمن على أهلها.
وقيل إن المأمون لما أناخ على قرة، فحارب أهلها طلبوا الأمان، فآمنهم المأمون، فوجه أشناس إلى حصن سندس، فأتاه برئيسه، ووجه عجيفا وجعفرا

(8/623)


الخياط إلى صاحب حصن سنان، فسمع وأطاع.
[أخبار متفرقة]
وفي هذه السنه انصرف ابو إسحاق بن الرشيد من مصر، فلقي المأمون قبل دخوله الموصل، ولقيه متويل وعباس ابنه برأس العين.
وفيها شخص المأمون بعد خروجه من أرض الروم إلى دمشق.
وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة عَبْد اللَّهِ بْن عبيد الله بْن العباس بْن محمد.

(8/624)


ثم دخلت

سنة ست عشرة ومائتين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)

عود الى ذكر غزو المأمون ارض الروم
فمن ذلك كر المأمون إلى أرض الروم.
ذكر السبب في كره إليها:
اختلف في ذلك، فقيل: كان السبب فيه ورود الخبر على المأمون بقتل ملك الروم قوما من أهل طرسوس والمصيصة، وذلك- فيما ذكر- ألف وستمائه.
فلما بلغه ذلك شخص حتى دخل أرض الروم يوم الاثنين لإحدى عشرة بقيت من جمادى الأولى من هذه السنة، فلم يزل مقيما فيها إلى النصف من شعبان.
وقيل: أن سبب ذلك أن توفيل بْن ميخائيل كتب إليه، فبدأ بنفسه، فلما ورد الكتاب عليه لم يقرأه، وخرج إلى أرض الروم، فوافاه رسل توفيل بْن ميخائيل بأذنه، ووجه بخمسمائة رجل من أسارى المسلمين إليه، فلما دخل المأمون أرض الروم، ونزل على أنطيغوا، فخرج أهلها على صلح وصار إلى هرقلة.
فخرج أهلها إليه على صلح، ووجه أخاه أبا إسحاق، فافتتح ثلاثين حصنا ومطمورة ووجه يحيى بن أكثم من طوانة، فأغار وقتل وحرق، وأصاب سبيا ورجع إلى العسكر ثم خرج المأمون إلى كيسوم، فأقام بها يومين أو ثلاثة، ثم ارتحل إلى دمشق.
وفي هذه السنة ظهر عبدوس الفهري، فوثب بمن معه على عمال أبي إسحاق، فقتل بعضهم، وذلك في شعبان، فشخص المأمون من دمشق يوم الأربعاء لأربع عشرة بقيت من ذي الحجة إلى مصر.
وفيها قدم الأفشين من برقة منصرفا عنها، فأقام بمصر

(8/625)


وفيها كتب المأمون إلى إسحاق بْن إبراهيم يأمره بأخذ الجند بالتكبير إذا صلوا، فبدءوا بذلك في مسجد المدينة والرصافة يوم الجمعة لأربع عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان من هذه السنة، حين قضوا الصلاة، فقاموا قياما، فكبروا ثلاث تكبيرات، ثم فعلوا ذلك في كل صلاة مكتوبة.
وفيها غضب المأمون على علي بْن هشام، فوجه إليه عجيف بْن عنبسة وأحمد بْن هشام، وأمر بقبض أمواله وسلاحه.
وفيها ماتت أم جعفر ببغداد في جمادى الأولى.
وفيها قدم غسان بْن عباد من السند، وقد استأمن إليه بشر بْن داود المهلبي، وأصلح السند، واستعمل عليها عمران بْن موسى البرمكي، فقال الشاعر:
سيف غسان رونق الحرب فيه ... وسمام الحتوف في ظبتيه
فإذا جره إلى بلد السند ... فألقى المقاد بشر إليه
مقسما لا يعود ما حج لله ... مصل وما رمى جمرتيه
غادرا يخلع الملوك ويغتال ... جنودا تأوي إلى ذروتيه
فرجع غسان إلى المأمون، وهرب جعفر بْن داود القمي إلى قم، وخلع بها وفي هذه السنة كان البرد الشديد.
وحج بالناس- في قول بعضهم- في هذه السنة سليمان بْن عبد الله بْن سليمان بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس وفي قول بعضهم: حج بهم في هذه السنة عبد الله بْن عبيد الله بْن العباس بْن محمد بْن علي بْن عبد الله بْن العباس، وكان المأمون ولاه اليمن، وجعل إليه ولاية كل بلدة يدخلها حتى يدخل إلى اليمن، فخرج من دمشق حتى قدم بغداد، فصلى بالناس بها يوم الفطر، فشخص من بغداد يوم الاثنين لليلة خلت من ذي القعدة، وأقام الحج للناس.

(8/626)


ثم دخلت

سنة سبع عشرة ومائتين

ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث
فمن ذلك ظفر الأفشين فيها بالبيما، وهي من أرض مصر، ونزل أهلها بأمان على حكم المأمون، قرئ كتاب فتحها لليلة بقيت من شهر ربيع الآخر.
وورد المأمون فيها مصر في المحرم، فأتى بعبدوس الفهري فضرب عنقه، وانصرف الى الشام.

ذكر الخبر عن قتل على وحسين ابنى هشام
وفيها قتل المأمون ابني هشام عليا وحسينا بأذنة في جمادى الأولى ذكر الخبر عن سبب قتله عليا:
وكان سبب ذلك، أن المأمون للذي بلغه من سوء سيرته في أهل عمله الذي كان المأمون ولاه- وكان ولاه كور الجبال- وقتله الرجال، وأخذه الأموال، فوجه إليه عجيف، فأراد أن يفتك به ويلحق ببابك، فظفر به عجيف، فقدم به على المأمون، فأمر بضرب عنقه، فتولى قتله ابن الجليل وتولى ضرب عنق الحسين محمد بْن يوسف ابن أخيه بأذنة، يوم الأربعاء لأربع عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى، ثم بعث رأس علي بْن هشام إلى بغداد وخراسان، فطيف به، ثم رد إلى الشام والجزيرة فطيف به كورة كورة، فقدم به دمشق في ذي الحجة، ثم ذهب به إلى مصر، ثم ألقي بعد ذلك في البحر.
وذكر أن المأمون لما قتل علي بْن هشام، أمر أن يكتب رقعة وتعلق على رأسه ليقرأها الناس، فكتب:

(8/627)


أما بعد، فإن أمير المؤمنين كان دعا علي بْن هشام فيمن دعا من أهل خراسان أيام المخلوع، إلى معاونته والقيام بحقه، وكان فيمن أجاب وأسرع الإجابة، وعاون فأحسن المعاونة فرعى أمير المؤمنين ذلك له واصطنعه، وهو يظن به تقوى الله وطاعته والانتهاء إلى أمر أمير المؤمنين في عمل إن أسند إليه في حسن السيرة وعفاف الطعمة، وبدأه أمير المؤمنين بالإفضال عليه، فولاه الأعمال السنية، ووصله بالصلات الجزيلة التي أمر أمير المؤمنين بالنظر في قدرها، فوجدها أكثر من خمسين ألف ألف درهم، فمد يده إلى الخيانة والتضييع لما استرعاه من الأمانة، فباعده عنه وأقصاه، ثم استقال أمير المؤمنين عثرته فأقاله إياها، وولاه الجبل وأذربيجان وكور أرمينية، ومحاربه أعداء الله الخرمية، على الا يعود لما كان منه، فعاود أكثر ما كان بتقديمه الدينار والدرهم على العمل لله ودينه، وأساء السيرة وعسف الرعية وسفك الدماء المحرمة، فوجه أمير المؤمنين عجيف بْن عنبسة مباشرا لأمره، وداعيا إلى تلافي ما كان منه، فوثب بعجيف يريد قتله، فقوى الله عجيفا بنيته الصادقة في طاعة أمير المؤمنين، حتى دفعه عن نفسه، ولو تم ما أراد بعجيف لكان في ذلك ما لا يستدرك ولا يستقال، ولكن الله إذا أراد أمرا كان مفعولا فلما أمضى أمير المؤمنين حكم الله في علي بْن هشام، رأى الا يؤاخذ من خلفه بذنبه، فأمر أن يجري لولده ولعياله ولمن أتصل بهم ومن كان يجري عليهم مثل الذي كان جاريا لهم في حياته، ولولا أن علي بْن هشام أراد العظمى بعجيف، لكان في عداد من كان في عسكره ممن خالف وخان، كعيسى بْن منصور ونظرائه.
والسلام:
وفي هذه السنة دخل المأمون أرض الروم، فأناخ على لؤلؤة مائة يوم، ثم رحل عنها وخلف عليها عجيفا، فاختدعه أهلها وأسروه، فمكث أسيرا في أيديهم ثمانية أيام، ثم أخرجوه، وصار توفيل إلى لؤلؤة، فأحاط بعجيف، فصرف المأمون الجنود إليه، فارتحل توفيل قبل موافاتهم، وخرج أهل لؤلؤه الى عجيف بأمان.

(8/628)


كتاب توفيل الى المأمون ورد المأمون عليه
وفيها كتب توفيل صاحب الروم إلى المأمون يسأله الصلح، وبدأ بنفسه في كتابه، وقدم بالكتاب الفضل وزير توفيل يطلب الصلح، وعرض الفدية.
وكانت نسخة كتاب توفيل إلى المأمون:
أما بعد، فإن اجتماع المختلفين على حظهما أولى بهما في الرأي مما عاد بالضرر عليهما، ولست حريا أن تدع لحظ يصل إلى غيرك حظا تحوزه إلى نفسك، وفي علمك كاف عن إخبارك، وقد كنت كتبت إليك داعيا إلى المسالمة، راغبا في فضيلة المهادنة، لتضع أوزار الحرب عنا، ونكون كل واحد لكل واحد وليا وحزبا، مع اتصال المرافق والفسح في المتاجر، وفك المستأسر، وأمن الطرق والبيضة، فإن أبيت فلا أدب لك في الخمر، ولا ازخرف لك في القول، فإني لخائض إليك غمارها، آخذ عليك أسدادها، شان خيلها ورجالها، وأن أفعل فبعد أن قدمت المعذرة، وأقمت بيني وبينك علم الحجة والسلام.
(فكتب إليه المأمون:) أما بعد، فقد بلغني كتابك فيما سألت من الهدنة، ودعوت إليه من الموادعة، وخلطت فيه من اللين والشدة، مما استعطفت به، من شرح المتاجر واتصال المرافق، وفك الأسارى، ورفع القتل والقتال، فلولا ما رجعت إليه من أعمال التؤدة والأخذ بالحظ في تقليب الفكرة، وألا أعتقد الرأي في مستقبله إلا في استصلاح ما أوثره في معتقبه، لجعلت جواب كتابك خيلا تحمل رجالا

(8/629)


من أهل البأس والنجدة والبصيرة ينازعونكم عن ثكلكم ويتقربون إلى الله بدمائكم، ويستقلون في ذات الله ما نالهم من ألم شوكتكم، ثم أوصل إليهم من الأمداد، وأبلغ لهم كافيا من العدة والعتاد، هم أظمأ إلى موارد المنايا منكم إلى السلامة من مخوف معرتهم عليكم، موعدهم إحدى الحسنيين: عاجل غلبة، أو كريم منقلب، غير أني رأيت أن اتقدم إليك بالموعظة التي يثبت الله بها عليك الحجة، من الدعاء لك ولمن معك إلى الوحدانية والشريعة الحنيفية، فإن أبيت ففدية توجب ذمة، وتثبت نظرة، وإن تركت ذلك، ففي يقين المعاينة لنعوتنا ما يغني عن الإبلاغ في القول والإغراق في الصفة والسلام على من اتبع الهدى.
[أخبار متفرقة]
وفيها صار المأمون إلى سلغوس.
وفيها بعث علي بْن عيسى القمي جعفر بْن داود القمي فضرب أبو إسحاق ابْن الرشيد عنقه.
وحج بالناس في هذه السنة سليمان بْن عبد الله بْن سليمان بْن علي.

(8/630)


ثم دخلت

سنه ثمان عشرة ومائتين

ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث
فمن ذلك ما كان من شخوص المأمون من سلغوس إلى الرقة، وقتله بها ابن أخت الداري.
وفيها أمر بتفريغ الرافقة لينزلها حشمه، فضج من ذلك أهلها فاعفاهم.
وفيها وجه المأمون ابنه العباس إلى أرض الروم، وأمره بنزول الطوانة وبنائها، وكان قد وجه الفعلة والفروض، فابتدأ البناء، وبناها ميلا في ميل، وجعل سورها على ثلاثة فراسخ، وجعل لها أربعة أبواب، وبنى على كل باب حصنا، وكان توجيهه ابنه العباس في ذلك في أول يوم من جمادى.
وكتب إلى أخيه ابى إسحاق بن الرشيد، أنه قد فرض على جند دمشق وحمص والأردن وفلسطين أربعة آلاف رجل، وأنه يجري على الفارس مائة درهم، وعلى الراجل أربعين درهما، وفرض على مصر فرضا، وكتب إلى العباس بمن فرض على قنسرين والجزيرة، وإلى إسحاق بْن إبراهيم بمن فرض على أهل بغداد وهم ألفا رجل، وخرج بعضهم حتى وافى طوانه ونزلها مع العباس.

ذكر خبر المحنة بالقرآن
وفي هذه السنة كتب المأمون إلى إسحاق بْن إبراهيم في امتحان القضاة والمحدثين، وأمر بإشخاص جماعة منهم إليه إلى الرقة، وكان ذلك أول كتاب كتب في ذلك، ونسخة كتابه إليه:
أما بعد، فإن حق الله على أئمة المسلمين وخلفائهم الاجتهاد في إقامة دين الله الذي استحفظهم، ومواريث النبوة التي أورثهم، وأثر العلم الذي استودعهم، والعمل بالحق في رعيتهم والتشمير لطاعة الله فيهم، والله

(8/631)


يسأل أمير المؤمنين أن يوفقه لعزيمة الرشد وصريمته والإقساط فيما ولاه الله من رعيته برحمته ومنته وقد عرف أمير المؤمنين أن الجمهور الأعظم والسواد الأكبر من حشو الرعية وسفلة العامة ممن لا نظر له ولا روية ولا استدلال له بدلالة الله وهدايته والاستضاءة بنور العلم وبرهانه في جميع الأقطار والآفاق أهل جهالة بالله، وعمى عنه، وضلالة عن حقيقة دينه وتوحيده والإيمان به.
ونكوب عن واضحات أعلامه وواجب سبيله، وقصور أن يقدروا الله حق قدره، ويعرفوه كنه معرفته، ويفرقوا بينه وبين خلقه، لضعف آرائهم ونقص عقولهم وجفائهم عن التفكر والتذكر، وذلك أنهم ساووا بين الله تبارك وتعالى وبين ما أنزل من القرآن، فأطبقوا مجتمعين، واتفقوا غير متعاجمين، على أنه قديم أول لم يخلقه الله ويحدثه ويخترعه، وقد قَالَ الله عز وجل في محكم كتابه الذي جعله لما في الصدور شفاء، وللمؤمنين رحمة وهدى: «إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا» ، فكل ما جعله الله فقد خلقه، وقال: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ» ، وقال عز وجل:
«كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ» ، فأخبر أنه قصص لأمور أحدثه بعدها وتلا به متقدمها، وقال: «الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ» ، وكل محكم مفصل فله محكم مفصل، والله محكم كتابه ومفصله، فهو خالقه ومبتدعه.
ثم هم الذين جادلوا بالباطل فدعوا إلى قولهم، ونسبوا أنفسهم إلى السنة، وفي كل فصل من كتاب الله قصص من تلاوته مبطل قولهم، ومكذب دعواهم، يرد عليهم قولهم ونحلتهم ثم أظهروا مع ذلك أنهم أهل الحق والدين والجماعة، وأن من سواهم أهل الباطل والكفر والفرقة، فاستطالوا بذلك على الناس، وغروا به الجهال حتى مال قوم من أهل السمت الكاذب، والتخشع لغير الله، والتقشف لغير الدين إلى موافقتهم عليه، ومواطأتهم على سيئ آرائهم، تزينا

(8/632)


بذلك عندهم وتصنعا للرئاسة والعدالة فيهم، فتركوا الحق إلى باطلهم، واتخذوا دون الله وليجة إلى ضلالتهم، فقبلت بتزكيتهم لهم شهادتهم، ونفذت أحكام الكتاب بهم على دغل دينهم، ونغل أديمهم، وفساد نياتهم ويقينهم.
وكان ذلك غايتهم التي إليها أجروا، وإياها طلبوا في متابعتهم والكذب على مولاهم، وقد أخذ عليهم ميثاق الكتاب ألا يقولوا على الله إلا الحق، ودرسوا ما فيه، أولئك الذين أصمهم الله واعمى أبصارهم، «أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها» .
فرأى أمير المؤمنين أن أولئك شر الأمة ورءوس الضلالة، المنقوصون من التوحيد حظا، والمخسوسون من الإيمان نصيبا، وأوعية الجهالة وأعلام الكذب ولسان إبليس الناطق في أوليائه، والهائل على أعدائه، من أهل دين الله، وأحق من يتهم في صدقه، وتطرح شهادته، لا يوثق بقوله ولا عمله، فإنه لا عمل إلا بعد يقين، ولا يقين إلا بعد استكمال حقيقة الإسلام، وإخلاص التوحيد، ومن عمي عن رشده وحظه من الإيمان بالله وبتوحيده، كان عما سوى ذلك من عمله والقصد في شهادته أعمى وأضل سبيلا ولعمر أمير المؤمنين إن أحجى الناس بالكذب في قوله، وتخرص الباطل في شهادته، من كذب على الله ووحيه، ولم يعرف الله حقيقة معرفته، وإن أولاهم برد شهادته في حكم الله ودينه من رد شهادة الله على كتابه، وبهت حق الله بباطله.
فاجمع من بحضرتك من القضاة، واقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين هذا إليك، فابدأ بامتحانهم فيما يقولون وتكشيفهم عما يعتقدون، في خلق الله القرآن وإحداثه، وأعلمهم أن أمير المؤمنين غير مستعين في عمله، ولا واثق فيما قلده الله، واستحفظه من أمور رعيته بمن لا يوثق بدينه وخلوص توحيده ويقينه، فإذا أقروا بذلك ووافقوا أمير المؤمنين فيه، وكانوا على سبيل الهدى والنجاة فمرهم بنص من يحضرهم من الشهود على الناس ومسألتهم عن علمهم في القرآن، وترك إثبات شهادة من لم يقر أنه مخلوق محدث ولم يره، والامتناع من توقيعها

(8/633)


عنده واكتب إلى أمير المؤمنين بما يأتيك عن قضاة أهل عملك في مسألتهم، والأمر لهم بمثل ذلك، ثم أشرف عليهم وتفقد آثارهم حتى لا تنفذ أحكام الله إلا بشهادة أهل البصائر في الدين والإخلاص للتوحيد، واكتب إلى أمير المؤمنين بما يكون في ذلك، إن شاء الله.
وكتب في شهر ربيع الاول سنه ثمان عشرة ومائتين.
وكتب المأمون إلى إسحاق بْن إبراهيم في إشخاص سبعة نفر، منهم محمد ابن سعد كاتب الواقدي، وأبو مسلم مستملي يزيد بْن هارون، ويحيى بْن معين، وزهير بْن حرب ابو خيثمة، وإسماعيل بْن داود، وإسماعيل بْن أبي مسعود، واحمد بن الدورقي، فأشخصوا إليه، فامتحنهم وسألهم عن خلق القرآن، فأجابوا جميعا أن القرآن مخلوق، فأشخصهم إلى مدينة السلام وأحضرهم إسحاق بْن إبراهيم داره، فشهر أمرهم وقولهم بحضرة الفقهاء والمشايخ من أهل الحديث، فأقروا بمثل ما أجابوا به المأمون، فخلى سبيلهم وكان ما فعل من ذلك إسحاق بْن إبراهيم بأمر المأمون.
وكتب المأمون بعد ذلك إلى إسحاق بْن إبراهيم:
أما بعد، فإن من حق الله على خلفائه في أرضه، وأمنائه على عباده، الذين ارتضاهم لإقامة دينه، وحملهم رعاية خلقه وإمضاء حكمه وسننه والائتمام بعدله في بريته، أن يجهدوا لله أنفسهم، وينصحوا له فيما استحفظهم وقلدهم، ويدلوا عليه- تبارك اسمه وتعالى- بفضل العلم الذي أودعهم، والمعرفة التي جعلها فيهم، ويهدوا إليه من زاغ عنه، ويردوا من أدبر عن أمره، وينهجوا لرعاياهم سمت نجاتهم، ويقفوهم على حدود إيمانهم وسبيل فوزهم وعصمتهم ويكشفوا لهم مغطيات أمورهم ومشتبهاتها عليهم، بما يدفعون الريب عنهم، ويعود بالضياء والبينة على كافتهم، وأن يؤثروا ذلك من إرشادهم وتبصيرهم، إذ كان جامعا لفنون مصانعهم، ومنتظما لحظوظ عاجلتهم

(8/634)


وآجلتهم، ويتذكروا ما الله مرصد من مساءلتهم عما حملوه، ومجازاتهم بما أسلفوه وقدموا عنده، وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله وحده، وحسبه الله وكفى به ومما بينه أمير المؤمنين برؤيته، وطالعه بفكره، فتبين عظيم خطره، وجليل ما يرجع في الدين من وكفه وضرره، ما ينال المسلمون بينهم من القول في القرآن الذي جعله الله إماما لهم، وأثرا من رسول الله ص وصفيه محمد ص باقيا لهم، واشتباهه على كثير منهم، حتى حسن عندهم، وتزين في عقولهم ألا يكون مخلوقا، فتعرضوا بذلك لدفع خلق الله الذي بان به عن خلقه، وتفرد بجلالته، من ابتداع الأشياء كلها بحكمته وإنشائها بقدرته، والتقدم عليها بأوليته التي لا يبلغ أولاها، ولا يدرك مداها، وكان كل شيء دونه خلقا من خلقه، وحدثا هو المحدث له، وإن كان القرآن ناطقا به ودالا عليه، وقاطعا للاختلاف فيه، وضاهوا به قول النصارى في دعائهم في عيسى بن مريم: أنه ليس بمخلوق، إذ كان كلمة الله، والله عز وجل يقول: «إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا» ، وتأويل ذلك إنا خلقناه كما قَالَ جل جلاله: «وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها» وقال: «وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً» ، «وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ» فسوى عز وجل بين القرآن وبين هذه الخلائق التي ذكرها في شية الصنعة، وأخبر انه جاعله وحده، فقال: «بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ» ، فدل ذلك على إحاطة اللوح بالقرآن، ولا يحاط الا بمخلوق، وقال لنبيه ص: «لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ
» وقال: «مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ» ،

(8/635)


وقال: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ» ، وأخبر عن قوم ذمهم بكذبهم إنهم قالوا: «مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ» ، ثم أكذبهم على لسان رسوله فقال لرسوله: «قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى» ، فسمى الله تعالى القرآن قرآنا وذكرا وإيمانا ونورا وهدى ومباركا وعربيا وقصصا، فقال: «نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ» ، وقال: «قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ» ، وقال: «قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ» ، وقال: «لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ» فجعل له أولا وآخرا، ودل عليه أنه محدود مخلوق وقد عظم هؤلاء الجهلة بقولهم في القرآن الثلم في دينهم، والحرج في أمانتهم، وسهلوا السبيل لعدو الإسلام، واعترفوا بالتبديل والإلحاد على قلوبهم حتى عرفوا ووصفوا خلق الله وفعله بالصفة التي هي لله وحده، وشبهوه به، والاشتباه أولى بخلقه وليس يرى أمير المؤمنين لمن قَالَ بهذه المقالة حظا في الدين، ولا نصيبا من الإيمان واليقين، ولا يرى أن يحل أحدا منهم محل الثقة في أمانة، ولا عدالة ولا شهادة ولا صدق في قول ولا حكاية، ولا تولية لشيء من أمر الرعية، وإن ظهر قصد بعضهم، وعرف بالسداد مسدد فيهم، فإن الفروع مردودة إلى أصولها، ومحمولة في الحمد والذم عليها، ومن كان جاهلا بأمر دينه الذي أمره الله به من وحدانيته فهو بما سواه أعظم جهلا، وعن الرشد في غيره أعمى وأضل سبيلا.
فاقرأ على جعفر بْن عيسى وعبد الرحمن بْن إسحاق القاضي كتاب

(8/636)


امير المؤمنين بما كتب به إليك، وانصصها عن علمهما في القرآن، وأعلمهما أن أمير المؤمنين لا يستعين على شيء من أمور المسلمين إلا بمن وثق بإخلاصه وتوحيده، وأنه لا توحيد لمن لم يقر بأن القرآن مخلوق فإن قالا بقول أمير المؤمنين في ذلك، فتقدم إليهما في امتحان من يحضر مجالسهما بالشهادات على الحقوق، ونصهم عن قولهم في القرآن، فمن لم يقل منهم أنه مخلوق أبطلا شهادته، ولم يقطعا حكما بقوله، وإن ثبت عفافه بالقصد والسداد في أمره.
وافعل ذلك بمن في سائر عملك من القضاة، وأشرف عليهم إشرافا يزيد الله به ذا البصيرة في بصيرته، ويمنع المرتاب من إغفال دينه، واكتب إلى أمير المؤمنين بما يكون منك في ذلك إن شاء الله.
قَالَ: فأحضر إسحاق بْن إبراهيم لذلك جماعة من الفقهاء والحكام والمحدثين، وأحضر أبا حسان الزيادي وبشر بْن الوليد الكندي وعلي بْن ابى مقاتل والفضل ابن غانم والذيال بْن الهيثم وسجادة والقواريري وأحمد بْن حنبل وقتيبة وسعدويه الواسطي وعلي بْن الجعد وإسحاق بْن أبي إسرائيل وابن الهرش وابن علية الأكبر ويحيى بْن عبد الرحمن العمري وشيخا آخر من ولد عمر بْن الخطاب- كان قاضي الرقة- وأبا نصر التمار وأبا معمر القطيعي ومحمد بْن حاتم بْن ميمون ومحمد بْن نوح المضروب وابن الفرخان، وجماعة منهم النضر بْن شميل وابن علي بْن عاصم وأبو العوام البزاز وابن شجاع وعبد الرحمن بْن إسحاق، فأدخلوا جميعا على إسحاق، فقرأ عليهم كتاب المأمون هذا مرتين حتى فهموه، ثم قَالَ لبشر بْن الوليد: ما تقول في القرآن؟ فقال: قد عرفت مقالتي لأمير المؤمنين غير مرة، قَالَ: فقد تجدد من كتاب أمير المؤمنين ما قد ترى، فقال: أقول: القرآن كلام الله، قَالَ: لم أسألك عن هذا، أمخلوق هو؟
قَالَ: الله خالق كل شيء، قَالَ: ما القرآن شيء؟ قال: هو شيء، قَالَ:
فمخلوق؟ قَالَ: ليس بخالق، قَالَ: ليس أسألك عن هذا، أمخلوق هو؟
قَالَ: ما أحسن غير ما قلت لك، وقد استعهدت امير المؤمنين الا اتكلم

(8/637)


فيه، وليس عندي غير ما قلت لك فأخذ إسحاق بْن إبراهيم رقعة كانت بين يديه، فقرأها عليه، ووقفه عليها، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ أحدا فردا، لم يكن قبله شيء ولا بعده شيء، ولا يشبهه شيء من خلقه في معنى من المعاني، ولا وجه من الوجوه، قَالَ: نعم، وقد كنت أضرب الناس على دون هذا، فقال للكاتب: اكتب ما قَالَ.
ثم قَالَ لعلي بْن أبي مقاتل: ما تقول يا علي؟ قَالَ: قد سمعت كلامي لأمير المؤمنين في هذا غير مرة وما عندي غير ما سمع، فامتحنه بالرقعة فأقر بما فيها، ثم قَالَ: القرآن مخلوق؟ قَالَ: القرآن كلام الله، قَالَ: لم أسألك عن هذا، قَالَ: هو كلام الله، وإن أمرنا أمير المؤمنين بشيء سمعنا وأطعنا فقال للكاتب: اكتب مقالته.
ثم قَالَ للذيال نحوا من مقالته لعلي بْن أبي مقاتل، فقال له مثل ذلك.
ثم قَالَ لأبي حسان الزيادي: ما عندك؟ قَالَ: سل عما شئت، فقرأ عليه الرقعة ووقفه عليها، فأقر بما فيها، ثم قَالَ: من لم يقل هذا القول فهو كافر، فقال:
القرآن مخلوق هو؟ قَالَ: القرآن كلام الله والله خالق كل شيء، وما دون الله مخلوق، وأمير المؤمنين إمامنا وبسببه سمعنا عامة العلم، وقد سمع ما لم نسمع، وعلم ما لم نعلم، وقد قلده الله أمرنا، فصار يقيم حجنا وصلاتنا، ونؤدي إليه زكاة أموالنا، ونجاهد معه، ونرى إمامته إمامة، ان أمرنا ائتمرنا، وإن نهانا انتهينا، وإن دعانا أجبنا قَالَ: القرآن مخلوق هو؟ فأعاد عليه أبو حسان مقالته، قَالَ: إن هذه مقالة أمير المؤمنين، قَالَ: قد تكون مقالة أمير المؤمنين ولا يأمر بها الناس ولا يدعوهم إليها، وإن أخبرتني أن أمير المؤمنين أمرك أن أقول، قلت ما أمرتني به، فإنك الثقه المأمون فيما أبلغتني عنه من شيء، فإن أبلغتني عنه بشيء صرت إليه، قَالَ: ما أمرني ان ابلغك شيئا قال على ابن أبي مقاتل: قد يكون قوله كاختلاف أصحاب رسول الله ص في الفرائض والمواريث، ولم يحملوا الناس عليها، قَالَ له أبو حسان:
ما عندي إلا السمع والطاعة، فمرني آتمر، قَالَ: ما أمرني أن آمرك، وإنما أمرني أن أمتحنك

(8/638)


ثم عاد إلى أحمد بْن حنبل، فقال له: ما تقول في القرآن؟ قَالَ:
هو كلام الله، قَالَ: أمخلوق هو؟ قَالَ: هو كلام الله لا أزيد عليها، فامتحنه بما في الرقعة، فلما اتى على لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، قال: «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» وأمسك عن لا يشبهه شيء من خلقه في معنى من المعاني، ولا وجه من الوجوه، فاعترض عليه ابن البكاء الأصغر، فقال: أصلحك الله! إنه يقول: سميع من أذن، بصير من عين، فقال إسحاق لأحمد بْن حنبل: ما معنى قوله: «سميع بصير» ؟ قَالَ: هو كما وصف نفسه، قَالَ: فما معناه؟ قَالَ: لا أدري، هو كما وصف نفسه.
ثم دعا بهم رجلا رجلا، كلهم يقول: القرآن كلام الله، إلا هؤلاء النفر:
قتيبة وعبيد الله بْن محمد بْن الحسن وابن عليه الاكبر وابن البكاء وعبد المنعم ابن إدريس ابن بنت وهب بْن منبه والمظفر بْن مرجا، ورجلا ضريرا ليس من أهل الفقه، ولا يعرف بشيء منه، إلا أنه دس في ذلك الموضع، ورجلا من ولد عمر بْن الخطاب قاضي الرقة، وابن الأحمر، فأما ابن البكاء الأكبر فإنه قَالَ: القرآن مجعول لقول الله تعالى: «إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا» والقرآن محدث لقوله: «مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ» قَالَ له إسحاق: فالمجعول مخلوق؟ قَالَ: نعم، قال: فالقرآن مخلوق؟ قَالَ:
لا أقول مخلوق، ولكنه مجعول، فكتب مقالته.
فلما فرغ من امتحان القوم، وكتب مقالاتهم اعترض ابن البكاء الأصغر، فقال: أصلحك الله! إن هذين القاضيين أئمة، فلو أمرتهما فأعادا الكلام! قَالَ له إسحاق: هما ممن يقوم بحجة أمير المؤمنين، قَالَ: فلو أمرتهما أن يسمعانا مقالتهما، لنحكي ذلك عنهما! قَالَ له إسحاق: إن شهدت

(8/639)


عندهما بشهادة، فستعلم مقالتهما إن شاء الله.
فكتب مقالة القوم رجلا رجلا، ووجهت إلى المأمون، فمكث القوم تسعة أيام، ثم دعا بهم وقد ورد كتاب المأمون جواب كتاب إسحاق بْن إبراهيم في أمرهم، ونسخته:
بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، فقد بلغ أمير المؤمنين كتابك جواب كتابه كان إليك، فيما ذهب إليه متصنعة أهل القبلة وملتمسو الرئاسة، فيما ليسوا له بأهل من أهل الملة من القول في القرآن، وأمرك به أمير المؤمنين من امتحانهم، وتكشيف أحوالهم وأحلالهم محالهم تذكر إحضارك جعفر بْن عيسى وعبد الرحمن ابن إسحاق عند ورود كتاب أمير المؤمنين مع من أحضرت ممن كان ينسب إلى الفقه، ويعرف بالجلوس للحديث، وينصب نفسه للفتيا بمدينة السلام، وقراءتك عليهم جميعا كتاب أمير المؤمنين، ومسألتك إياهم عن اعتقادهم في القرآن، والدلالة لهم على حظهم، وإطباقهم على نفي التشبيه واختلافهم في القرآن، وأمرك من لم يقل منهم أنه مخلوق بالإمساك عن الحديث والفتوى في السر والعلانية، وتقدمك إلى السندي وعباس مولى أمير المؤمنين بما تقدمت به فيهم إلى القاضيين بمثل ما مثل لك أمير المؤمنين من امتحان من يحضر مجالسهما من الشهود، وبث الكتب إلى القضاة في النواحي من عملك بالقدوم عليك، لتحملهم وتمتحنهم على ما حده أمير المؤمنين، وتثبيتك في آخر الكتاب أسماء من حضر ومقالاتهم، وفهم أمير المؤمنين ما اقتصصت.
وامير المؤمنين يحمد الله كثيرا كما هو أهله، ويسأله أن يصلى على عبده ورسوله محمد ص، ويرغب إلى الله في التوفيق لطاعته، وحسن المعونة على صالح نيته برحمته وقد تدبر أمير المؤمنين ما كتبت به من أسماء من سألت عن القرآن، وما رجع إليك فيه كل امرئ منهم، وما شرحت من مقالتهم.
فأما ما قَالَ المغرور بشر بْن الوليد في نفي التشبيه، وما أمسك عنه من أن القرآن

(8/640)


مخلوق، وادعى من تركه الكلام في ذلك واستعهاده أمير المؤمنين، فقد كذب بشر في ذلك وكفر، وقال الزور والمنكر، ولم يكن جرى بين أمير المؤمنين وبينه في ذلك ولا في غيره عهد ولا نظر أكثر من إخباره أمير المؤمنين من اعتقاده كلمة الإخلاص، والقول بأن القرآن مخلوق، فادع به إليك، وأعلمه ما أعلمك به أمير المؤمنين من ذلك، وأنصصه عن قوله في القرآن، واستتبه منه، فإن أمير المؤمنين يرى أن تستتيب من قَالَ بمقالته، إذ كانت تلك المقالة الكفر الصراح، والشرك المحض عند أمير المؤمنين، فإن تاب منها فأشهر أمره، وأمسك عنه، وإن أصر على شركه، ودفع أن يكون القرآن مخلوقا بكفره وإلحاده، فاضرب عنقه، وابعث إلى أمير المؤمنين برأسه، إن شاء الله.
وكذلك إبراهيم بْن المهدي فامتحنه بمثل ما تمتحن به بشرا، فإنه كان يقول بقوله وقد بلغت أمير المؤمنين عنه بوالغ، فإن قَالَ: إن القرآن مخلوق فأشهر أمره واكشفه، وإلا فاضرب عنقه وابعث إلى أمير المؤمنين برأسه، إن شاء الله.
وأما علي بْن أبي مقاتل، فقل له: ألست القائل لأمير المؤمنين: إنك تحلل وتحرم، والمكلم له بمثل ما كلمته به، مما لم يذهب عنه ذكره! وأما الذيال بْن الهيثم، فأعلمه أنه كان في الطعام الذي كان يسرقه في الأنبار وفيما يستولي عليه من أمر مدينة أمير المؤمنين أبي العباس ما يشغله، وأنه لو كان مقتفيا آثار سلفه، وسالكا مناهجهم، ومحتذيا سبيلهم لما خرج إلى الشرك بعد إيمانه.
وأما أحمد بْن يزيد المعروف بأبي العوام، وقوله إنه لا يحسن الجواب في القرآن، فأعلمه أنه صبي في عقله لا في سنه، جاهل، وإنه إن كان لا يحسن الجواب في القرآن فسيحسنه إذا أخذه التأديب، ثم إن لم يفعل كان السيف من وراء ذلك، إن شاء الله.
وأما أحمد بْن حنبل وما تكتب عنه، فأعلمه أن أمير المؤمنين قد عرف

(8/641)


فحوى تلك المقالة وسبيله فيها، واستدل على جهله وآفته بها.
وأما الفضل بْن غانم، فأعلمه أنه لم يخف على أمير المؤمنين ما كان منه بمصر، وما اكتسب من الأموال في أقل من سنة، وما شجر بينه وبين المطلب ابن عبد الله في ذلك، فإنه من كان شأنه شأنه، وكانت رغبته في الدينار والدرهم رغبته، فليس بمستنكر أن يبيع إيمانه طمعا فيهما، وإيثارا لعاجل نفعهما، وأنه مع ذلك القائل لعلي بْن هشام ما قَالَ، والمخالف له فيما خالفه فيه، فما الذي حال به عن ذلك ونقله إلى غيره! وأما الزيادى، فاعلمه انه كان منتحلا، ولا كاول دعي كان في الإسلام خولف فيه حكم رسول الله ص، وكان جديرا أن يسلك مسلكه، فأنكر أبو حسان أن يكون مولى لزياد أو يكون مولى لأحد من الناس، وذكر أنه إنما نسب إلى زياد لأمر من الأمور.
وأما المعروف بأبي نصر التمار، فإن أمير المؤمنين شبه خساسة عقله بخساسة متجره.
وأما الفضل بْن الفرخان، فأعلمه أنه حاول بالقول الذي قاله في القرآن أخذ الودائع التي أودعها إياه عبد الرحمن بْن إسحاق وغيره تربصا بمن استودعه، وطمعا في الاستكثار لما صار في يده، ولا سبيل عليه عن تقادم عهده، وتطاول الأيام به، فقل لعبد الرحمن بْن إسحاق: لا جزاك الله خيرا عن تقويتك مثل هذا واتمانك إياه، وهو معتقد للشرك منسلخ من التوحيد.
وأما محمد بْن حاتم وابن نوح والمعروف بأبي معمر، فأعلمهم أنهم مشاغيل بأكل الربا عن الوقوف على التوحيد، وأن أمير المؤمنين لو لم يستحل محاربتهم في الله ومجاهدتهم إلا لإربائهم، وما نزل به كتاب الله في أمثالهم، لاستحل ذلك، فكيف بهم وقد جمعوا مع الارباء شركا، وصار للنصارى مثلا! وأما أحمد بْن شجاع، فأعلمه أنك صاحبه بالأمس، والمستخرج منه

(8/642)


ما استخرجته من المال الذي كان استحله من مال علي بْن هشام، وأنه ممن الدينار والدرهم دينه وأما سعدويه الواسطي، فقل له: قبح الله رجلا بلغ به التصنع للحديث، والتزين به، والحرص على طلب الرئاسة فيه، أن يتمنى وقت المحنة، فيقول بالتقرب بها متى يمتحن، فيجلس للحديث! وأما المعروف بسجادة، وإنكاره أن يكون سمع ممن كان يجالس من أهل الحديث وأهل الفقه القول بأن القرآن مخلوق، فأعلمه أنه في شغله بإعداد النوى وحكه لإصلاح سجادته وبالودائع التي دفعها إليه علي بْن يحيى وغيره ما أذهله عن التوحيد وألهاه، ثم سله عما كان يوسف بن ابى يوسف ومحمد ابن الحسن يقولانه، إن كان شاهدهما وجالسهما.
وأما القواريري، ففيما تكشف من أحواله وقبوله الرشا والمصانعات، ما أبان عن مذهبه وسوء طريقته وسخافة عقله ودينه، وقد انتهى إلى أمير المؤمنين أنه يتولى لجعفر بْن عيسى الحسني مسائلة، فتقدم إلى جعفر بْن عيسى في رفضه، وترك الثقة به والاستنامة إليه.
وأما يحيى بْن عبد الرحمن العمري، فإن كان من ولد عمر بْن الخطاب، فجوابه معروف.
وأما محمد بْن الحسن بْن علي بْن عاصم، فإنه لو كان مقتديا بمن مضى من سلفه، لم ينتحل النحلة التي حكيت عنه، وإنه بعد صبي يحتاج إلى تعلم.
وقد كان أمير المؤمنين وجه إليك المعروف بأبي مسهر بعد أن نصه أمير المؤمنين عن محنته في القرآن، فجمجم عنها ولجلج فيها، حتى دعا له أمير المؤمنين بالسيف، فأقر ذميما، فأنصصه عن إقراره، فإن كان مقيما عليه فأشهر ذلك وأظهره، إن شاء الله.
ومن لم يرجع عن شركه ممن سميت لأمير المؤمنين في كتابك، وذكره

(8/643)


أمير المؤمنين لك، أو أمسك عن ذكره في كتابه هذا، ولم يقل إن القرآن مخلوق، بعد بشر بْن الوليد وإبراهيم بْن المهدي فاحملهم أجمعين موثقين إلى عسكر أمير المؤمنين، مع من يقوم بحفظهم وحراستهم في طريقهم، حتى يؤديهم إلى عسكر أمير المؤمنين، ويسلمهم إلى من يؤمن بتسليمهم إليه، لينصهم أمير المؤمنين، فإن لم يرجعوا ويتوبوا حملهم جميعا على السيف، إن شاء اللَّه، ولا قوة إلا بالله.
وقد أنفذ أمير المؤمنين كتابه هذا في خريطة بندارية، ولم ينظر به اجتماع الكتب الخرائطية، معجلا به، تقربا إلى الله عز وجل بما أصدر من الحكم ورجاء ما اعتمد، وإدراك ما أمل من جزيل ثواب الله عليه، فأنفذ لما أتاك من أمر المؤمنين، وعجل إجابة أمير المؤمنين بما يكون منك في خريطة بندارية مفردة عن سائر الخرائط، لتعرف أمير المؤمنين ما يعملونه إن شاء الله.
وكتب سنة ثمان عشرة ومائتين.
فأجاب القوم كلهم حين أعاد القول عليهم إلى أن القرآن مخلوق، إلا أربعة نفر، منهم أحمد بْن حنبل وسجادة والقواريري ومحمد بْن نوح المضروب.
فأمر بهم إسحاق بْن إبراهيم فشدوا في الحديد، فلما كان من الغد دعا بهم جميعا يساقون في الحديد، فأعاد عليهم المحنة، فأجابه سجادة إلى أن القرآن مخلوق، فأمر بإطلاق قيده وخلى سبيله، وأصر الآخرون على قولهم، فلما كان من بعد الغد عاودهم أيضا، فأعاد عليهم القول، فأجاب القواريري إلى أن القرآن مخلوق، فأمر بإطلاق قيده، وخلى سبيله، وأصر أحمد بْن حنبل ومحمد بْن نوح على قولهما، ولم يرجعا، فشدا جميعا في الحديد، ووجها إلى طرسوس، وكتب معهما كتابا بإشخاصهما، وكتب كتابا مفردا بتأويل القوم فيما أجابوا إليه فمكثوا أياما، ثم دعا بهم فإذا كتاب قد ورد من المأمون على إسحاق بْن إبراهيم، أن قد فهم أمير المؤمنين ما أجاب القوم إليه، وذكر سليمان بْن يعقوب صاحب الخبر أن بشر بْن الوليد تأول الآية التي أنزلها الله تعالى في عمار بْن ياسر: «إِلا مَنْ أُكْرِهَ وقلبه مطمئن بالايمان»

(8/644)


وقد أخطأ التأويل، إنما عنى الله عز وجل بهذه الآية من كان معتقد الإيمان، مظهر الشرك، فأما من كان معتقد الشرك مظهر الإيمان، فليس هذه له فأشخصهم جميعا إلى طرسوس، ليقيموا بها إلى خروج أمير المؤمنين من بلاد الروم.
فأخذ إسحاق بْن إبراهيم من القوم الكفلاء ليوافوا العسكر بطرسوس، فأشخص أبا حسان وبشر بْن الوليد والفضل بْن غانم وعلي بْن أبي مقاتل والذيال بْن الهيثم ويحيى بْن عبد الرحمن العمري وعلي بْن الجعد وأبا العوام وسجادة والقواريري وابن الحسن بْن علي بْن عاصم وإسحاق بْن أبي إسرائيل والنضر بْن شميل وأبا نصر التمار وسعدويه الواسطي ومحمد بْن حاتم بْن ميمون وأبا معمر وابن الهرش وابن الفرخان واحمد بن شجاع وأبا هارون بن البكاء.
فلما صاروا الى الرقة بلغتهم وفاة المأمون، فأمر بهم عنبسة بْن إسحاق- وهو والي الرقة- أن يصيروا إلى الرقة، ثم أشخصهم إلى إسحاق بْن إبراهيم بمدينة السلام مع الرسول المتوجه بهم إلى أمير المؤمنين، فسلمهم إليه، فأمرهم إسحاق بلزوم منازلهم، ثم رخص لهم بعد ذلك في الخروج، فأما بشر بْن الوليد والذيال وابو العوام وعلى بن أبي مقاتل، فإنهم شخصوا من غير أن يؤذن لهم حتى قدموا بغداد، فلقوا من إسحاق بْن إبراهيم في ذلك أذى، وقدم الآخرون مع رسول إسحاق بْن إبراهيم، فخلى سبيلهم.

كتب المأمون الى عماله ووصيته في كتبه
وفي هذه السنة نفذت كتب المأمون إلى عماله في البلدان: من عبد الله عبد الله الإمام المأمون أمير المؤمنين وأخيه الخليفة من بعده ابى إسحاق بن أمير المؤمنين الرشيد وقيل إن ذلك لم يكتبه المأمون كذلك، وإنما كتب في حال إفاقة من غشية أصابته في مرضه بالبدندون، عن امر المأمون الى

(8/645)


العباس بن المأمون، وإلى إسحاق وعبد الله بْن طاهر، أنه إن حدث به حدث الموت في مرضه هذا، فالخليفة من بعده أبو إسحاق بن أمير المؤمنين الرشيد.
فكتب بذلك محمد بْن داود، وختم الكتب وأنفذها.
فكتب أبو إسحاق إلى عماله: من أبي إسحاق أخي أمير المؤمنين والخليفة من بعد أمير المؤمنين.
فورد كتاب من أبي إسحاق محمد بْن هارون الرشيد إلى إسحاق بْن يحيى بْن معاذ عامله على جند دمشق يوم الأحد لثلاث عشرة ليلة خلت من رجب، عنوانه: من عبد الله عبد الله الإمام المأمون أمير المؤمنين والخليفة من بعد أمير المؤمنين أبي إسحاق ابن أمير المؤمنين الرشيد: أما بعد، فإن أمير المؤمنين أمر بالكتاب إليك في التقدم إلى عمالك في حسن السيرة وتخفيف المئونة وكف الأذى عن أهل عملك، فتقدم إلى عمالك في ذلك أشد التقدمة، واكتب إلى عمال الخراج بمثل ذلك.
وكتب إلى جميع عماله في أجناد الشام، جند حمص والأردن وفلسطين بمثل ذلك، فلما كان يوم الجمعة لإحدى عشرة بقيت من رجب صلى الجمعة إسحاق بْن يحيى بْن معاذ في مسجد دمشق، فقال في خطبته بعد دعائه لأمير المؤمنين: اللهم وأصلح الأمير أخا المؤمنين والخليفة من بعد امير المؤمنين أبا إسحاق بن امير المؤمنين الرشيد.

ذكر الخبر عن وفاه المأمون
وفي هذه السنة توفي المأمون.
ذكر الخبر عن سبب المرض الذي كانت فيه وفاته:
ذكر عن سعيد العلاف القارئ، قَالَ: أرسل إلي المأمون وهو ببلاد الروم- وكان دخلها من طرسوس يوم الأربعاء لثلاث عشرة بقيت من جمادى الآخرة- فحملت إليه وهو في البدندون، فكان يستقرئني، فدعاني يوما، فجئت فوجدته جالسا على شاطئ البدندون، وأبو إسحاق المعتصم جالس عن يمينه، فأمرني فجلست نحوه منه، فإذا هو وأبو إسحاق مدليان

(8/646)


أرجلهما في ماء البدندون، فقال: يا سعيد، دل رجليك في هذا الماء وذقه، فهل رأيت ماء قط أشد بردا، ولا أعذب ولا أصفى صفاء منه! ففعلت وقلت: يا أمير المؤمنين، ما رأيت مثل هذا قط، قَالَ: أي شيء يطيب أن يؤكل ويشرب هذا الماء عليه؟ فقلت: أمير المؤمنين أعلم، فقال: رطب الآزاذ، فبينا هو يقول هذا إذا سمع وقع لجم البريد فالتفت، فنظر فإذا بغال من بغال البريد، على أعجازها حقائب فيها الألطاف، فقال لخادم له: اذهب فانظر: هل في هذه الالطاف رطب؟ فانظره، فان كان آزاذ فأت به، فجاء يسعى بسلتين فيهما رطب آزاذ، كأنما جني من النخل تلك الساعة، فأظهر شكرا لله تعالى، وكثر تعجبنا منه، فقال: ادن فكل، فأكل هو وأبو إسحاق، وأكلت معهما، وشربنا جميعا من ذلك الماء، فما قام منا أحد إلا وهو محموم، فكانت منية المأمون من تلك العلة، ولم يزل المعتصم عليلا حتى دخل العراق، ولم أزل عليلا حتى كان قريبا.
ولما اشتدت بالمأمون علته بعث إلى ابنه العباس، وهو يظن أن لن يأتيه، فأتاه وهو شديد المرض متغير العقل، قد نفذت الكتب بما نفذت له في أمر ابى إسحاق بن الرشيد، فأقام العباس عند أبيه أياما، وقد أوصى قبل ذلك إلى أخيه أبي إسحاق.
وقيل: لم يوص إلا والعباس حاضر، والقضاة والفقهاء والقواد والكتاب، وكانت وصيته: هذا ما أشهد عليه عبد الله بْن هارون أمير المؤمنين بحضرة من حضره، أشهدهم جميعا على نفسه أنه يشهد ومن حضره أن الله عز وجل وحده لا شريك له في ملكه، ولا مدبر لأمره غيره، وأنه خالق وما سواه مخلوق، ولا يخلو القرآن أن يكون شيئا له مثل، ولا شيء مثله تبارك وتعالى، وإن الموت حق، والبعث حق، والحساب حق، وثواب المحسن الجنة وعقاب المسيء، النار، وان محمدا ص قد بلغ عن ربه شرائع دينه، وأدى نصيحته إلى أمته، حَتَّى قبضه اللَّه إِلَيْهِ صلى اللَّه عَلَيْهِ افضل صلاه

(8/647)


صلاها على أحد من ملائكته المقربين وأنبيائه والمرسلين، وإني مقر مذنب، أرجو وأخاف، إلا أني إذا ذكرت عفو الله رجوت، فإذا أنا مت فوجهوني وغمضوني، وأسبغوا وضوئي وطهوري، وأجيدوا كفني، ثم أكثروا حمد الله على الإسلام ومعرفة حقه عليكم في محمد، إذ جعلنا من أمته المرحومة، ثم أضجعوني على سريري، ثم عجلوا بي، فإذا أنتم وضعتموني للصلاة، فليتقدم بها من هو أقربكم بي نسبا، وأكبركم سنا، فليكبر خمسا، يبدأ في الأولى في أولها بالحمد لله والثناء عليه والصلاة على سيدي وسيد المرسلين جميعا، ثم الدعاء للمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، ثم الدعاء للذين سبقونا بالإيمان، ثم ليكبر الرابعة، فيحمد الله ويهلله ويكبره ويسلم في الخامسة، ثم أقلوني فأبلغوا بي حفرتي، ثم لينزل أقربكم إلي قرابة، وأودكم محبة، وأكثروا من حمد الله وذكره، ثم ضعوني على شقي الأيمن واستقبلوا بي القبلة، وحلوا كفني عن رأسي ورجلي، ثم سدوا اللحد باللبن، واحثوا ترابا على، واخرجوا عنى وخلونى وعملي، فكلكم لا يغني عني شيئا، ولا يدفع عني مكروها، ثم قفوا بأجمعكم فقولوا خيرا إن علمتم، وأمسكوا عن ذكر شر إن كنتم عرفتم، فإني مأخوذ من بينكم بما تقولون وما تلفظون به، ولا تدعوا باكية عندي، فإن المعول عليه يعذب رحم الله امرأ اتعظ وفكر فيما حتم الله على جميع خلقه من الفناء، وقضى عليهم من الموت الذي لا بد منه، فالحمد لله الذي توحد بالبقاء، وقضى على جميع خلقه الفناء ثم لينظر ما كنت فيه من عز الخلافة، هل أغنى ذلك عني شيئا إذ جاء أمر الله! لا والله، ولكن أضعف علي به الحساب، فيا ليت عبد الله بْن هارون لم يكن بشرا، بل ليته لم يكن خلقا! يا أبا إسحاق، ادن مني، واتعظ بما ترى، وخذ بسيرة أخيك في القرآن، واعمل في الخلافة إذا طوقكها الله عمل المريد لله، الخائف من عقابه وعذابه، ولا تغتر بالله ومهلته، فكان قد نزل بك الموت ولا تغفل أمر الرعية الرعية الرعية! العوام العوامّ! فإن الملك بهم وبتعهدك المسلمين والمنفعة لهم الله الله فيهم وفي غيرهم من المسلمين!

(8/648)


ولا ينهين إليك أمر فيه صلاح للمسلمين ومنفعة لهم إلا قدمته وآثرته على غيره من هواك، وخذ من أقويائهم لضعفائهم، ولا تحمل عليهم في شيء، وأنصف بعضهم من بعض بالحق بينهم، وقربهم وتأتهم، وعجل الرحلة عني، والقدوم إلى دار ملكك بالعراق، وانظر هؤلاء القوم الذين أنت بساحتهم فلا تغفل عنهم في كل وقت والخرمية فأغزهم ذا حزامة وصرامة وجلد، وأكنفه بالأموال والسلاح والجنود من الفرسان والرجالة، فإن طالت مدتهم فتجرد لهم بمن معك من أنصارك وأوليائك، واعمل في ذلك عمل مقدم النيه فيه، راجيا بثواب الله عليه واعلم أن العظة إذا طالت أوجبت على السامع لها والموصي بها الحجة، فاتق الله في أمرك كله، ولا تفتن.
ثم دعا أبا إسحاق بعد ساعة حين اشتد به الوجع، وأحس بمجيء أمر الله فقال له: يا أبا إسحاق، عليك عهد الله وميثاقه وذمه رسول الله ص لتقومن بحق الله في عباده، ولتؤثرن طاعته على معصيته، إذ أنا نقلتها من غيرك إليك؟ قَالَ: اللهم نعم، قَالَ: فانظر من كنت تسمعني أقدمه على لساني فأضعف له التقدمة، عبد الله بْن طاهر أقره على عمله ولا تهجه، فقد عرفت الذي سلف منكما أيام حياتي وبحضرتي، استعطفه بقلبك، وخصه ببرك، فقد عرفت بلاءه وغناءه عن أخيك وإسحاق بْن إبراهيم فأشركه في ذلك، فإنه أهل له وأهل بيتك، فقد علمت إنه لا بقية فيهم وإن كان بعضهم يظهر الصيانة لنفسه عبد الوهاب عليك به من بين أهلك، فقدمه عليهم، وصير أمرهم إليه وابو عبد الله بن أبي داود فلا يفارقك، وأشركه في المشورة في كل أمرك، فإنه موضع لذلك منك، ولا تتخذن بعدي وزيرا تلقي إليه شيئا، فقد علمت ما نكبني به يحيى بْن أكثم في معاملة الناس وخبث سيرته حتى أبان الله ذلك منه في صحة مني، فصرت إلى مفارقته! قاليا له غير راض بما صنع في أموال الله وصدقاته، لا جزاه الله عن الإسلام خيرا! وهؤلاء بنو عمك من ولد أمير المؤمنين عَلِيّ بْن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،

(8/649)


فأحسن صحبتهم، وتجاوز عن مسيئهم، واقبل من محسنهم، وصلاتهم فلا تغفلها في كل سنة عند محلها، فإن حقوقهم تجب من وجوه شتى اتَّقُوا اللَّهَ ربكم حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ اتقوا الله واعملوا له، اتقوا الله في أموركم كلها أستودعكم الله ونفسي وأستغفر الله مما سلف، وأستغفر الله مما كان مني، إنه كان غفارا، فإنه ليعلم كيف ندمي على ذنوبي، فعليه توكلت من عظيمها، وإليه أنيب ولا قوة إلا بالله، حسبي الله ونعم الوكيل، وصلى الله على محمد نبي الهدى والرحمة!.

ذكر الخبر عن وقت وفاته والموضع الذي دفن فيه ومن صلى عليه ومبلغ سنه وقدر مده خلافته
قال ابو جعفر: وأما وقت وفاته، فإنه اختلف فيه، فقال بعضهم:
توفي يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب بعد العصر سنة ثمان عشرة ومائتين.
وقال آخرون: بل توفي في هذا اليوم مع الظهر، ولما توفي حمله ابنه العباس واخوه ابو إسحاق محمد بن الرشيد إلى طرسوس، فدفناه في دار كانت لخاقان خادم الرشيد، وصلى عليه أخوه أبو إسحاق المعتصم، ثم وكلوا به حرسا من أبناء أهل طرسوس وغيرهم مائة رجل، وأجري على كل رجل منهم تسعون درهما.
وكانت خلافته عشرين سنة وخمسة أشهر وثلاثة وعشرين يوما، وذلك سوى سنتين كان دعي له فيهما بمكة واخوه الامين محمد بن الرشيد محصور ببغداد.
وكان ولد للنصف من ربيع الأول سنة سبعين ومائة

(8/650)


وكان يكنى- فيما ذكر ابن الكلبي- أبا العباس.
وكان ربعة أبيض جميلا، طويل اللحية، قد وخطه الشيب وقيل كان أسمر تعلوه صفرة، أحنى أعين طويل اللحية رقيقها، أشيب، ضيق الجبهة، بخده خال أسود.
واستخلف يوم الخميس لخمس ليال بقين من المحرم.

ذكر بعض أخبار المأمون وسيره
ذكر عن محمد بْن الهيثم بْن عدي، أن إبراهيم بْن عيسى بْن بريهة بْن المنصور، قَالَ: لما أراد المأمون الشخوص إلى دمشق هيأت له كلاما، مكثت فيه يومين وبعض آخر، فلما مثلت بين يديه قلت: أطال الله بقاء أمير المؤمنين، في أدوم العز وأسبغ الكرامة، وجعلني من كل سوء فداه! أن من أمسى وأصبح يتعرف من نعمة الله، له الحمد كثيرا عليه برأي أمير المؤمنين أيده الله فيه، وحسن تأنيسه له، حقيق بأن يستديم هذه النعمة، ويلتمس الزيادة فيها بشكر الله وشكر أمير المؤمنين، مد الله في عمره عليها وقد أحب أن يعلم أمير المؤمنين أيده الله إني لا أرغب بنفسي عن خدمته أيده الله بشيء من الخفض والدعة، إذ كان هو أيده الله يتجشم خشونة السفر ونصب الظعن، وأولى الناس بمواساته في ذلك وبذل نفسه فيه أنا، لما عرفني الله من رأيه، وجعل عندي من طاعته ومعرفه ما أوجب الله من حقه، فإن رأى أمير المؤمنين أكرمه الله أن يكرمني بلزوم خدمته، والكينونة معه فعل فقال لي مبتدئا من غير تروية: لم يعزم أمير المؤمنين في ذلك على شيء، وإن استصحب أحدا من أهل بيتك بدأ بك، وكنت المقدم عنده في ذلك، ولا سيما إذ أنزلت نفسك بحيث أنزلك أمير المؤمنين من نفسه، وان ترك ذلك فمن غير قلا لمكانك، ولكن بالحاجة إليك قَالَ: فكان والله ابتداؤه أكثر من ترويتي

(8/651)


وذكر عن محمد بْن علي بْن صالح السرخسي، قَالَ: تعرض رجل للمأمون بالشام مرارا، فقال له: يا أمير المؤمنين، انظر لعرب الشام كما نظرت لعجم أهل خراسان! فقال: أكثرت علي يا أخا أهل الشام، والله ما انزلت قيسا عن ظهور الخيل إلا وأنا أرى إنه لم يبق في بيت مالي درهم واحد، واما اليمن فو الله ما أحببتها ولا أحبتني قط، وأما قضاعة فسادتها تنتظر السفياني وخروجه فتكون من أشياعه، وأما ربيعة فساخطة على الله منذ بعث نبيه من مضر، ولم يخرج اثنان إلا خرج أحدهما شاريا، اعزب فعل الله بك! وذكر عن سعيد بْن زياد أنه لما دخل على المأمون بدمشق قَالَ له: أرني الكتاب الذى كتبه رسول الله ص لكم، قَالَ: فأريته، قَالَ:
فقال: إني لأشتهي أن أدري أي شيء هذا الغشاء على هذا الخاتم؟ قَالَ:
فقال له أبو إسحاق: حل العقد حتى تدري ما هو، قَالَ: فقال: ما اشك ان النبي ص عقد هذا العقد، وما كنت لأحل عقدا عقده رسول الله ص ثم قَالَ للواثق: خذه فضعه على عينك، لعل الله أن يشفيك قَالَ: وجعل المأمون يضعه على عينه ويبكي وذكر عن العيشي صاحب إسحاق بْن إبراهيم، أنه قَالَ: كنت مع المأمون بدمشق، وكان قد قل المال عنده حتى ضاق، وشكا ذلك إلى أبي إسحاق المعتصم، فقال له: يا أمير المؤمنين، كأنك بالمال وقد وافاك بعد جمعه قَالَ: وكان حمل إليه ثلاثون ألف ألف من خراج ما يتولاه له، قَالَ: فلما ورد عليه ذلك المال، قَالَ المأمون ليحيى بْن أكثم: اخرج بنا ننظر إلى هذا المال، قَالَ: فخرجا حتى أصحرا، ووقفا ينظرانه، وكان قد هيئ بأحسن هيئة، وحليت أباعره، وألبست الأحلاس الموشاة والجلال المصبغة وقلدت العهن، وجعلت البدر بالحرير الصيني الأحمر والأخضر والأصفر، وأبديت رءوسها قَالَ: فنظر المأمون إلى شيء حسن، واستكثر ذلك، فعظم في عينه، واستشرفه الناس ينظرون إليه، ويعجبون منه، فقال المأمون ليحيى:
يا أبا محمد، ينصرف أصحابنا هؤلاء الذين تراهم الساعة خائبين الى منازلهم،

(8/652)


وننصرف بهذه الأموال قد ملكناها دونهم! إنا إذا للئام ثم دعا محمد بْن يزداد، فقال له: وقع لآل فلان بألف ألف، ولآل فلان بمثلها، ولال فلان بمثلها قال: فو الله إن زال كذلك حتى فرق أربعة وعشرين ألف ألف درهم ورجله في الركاب، ثم قَالَ: ادفع الباقي إلى المعلى يعطي جندنا قَالَ العيشي: فجئت حتى قمت نصب عينه، فلم أرد طرفي عنها، لا يلحظني إلا رآني بتلك الحال فقال: يا أبا محمد، وقع لهذا بخمسين ألف درهم من الستة الآلاف الف، لا يختلس ناظري قَالَ: فلم يأت علي ليلتان حتى أخذت المال.
وذكر عن محمد بْن أيوب بْن جعفر بْن سليمان، أنه كان بالبصرة رجل من بني تميم، وكان شاعرا ظريفا خبيثا منكرا، وكنت أنا والي البصرة، أنس به وأستحليه، فأردت أن أخدعه واستنزله، فقلت له: أنت شاعر وأنت ظريف، والمأمون أجود من السحاب الحافل والريح العاصف، فما يمنعك منه؟ قَالَ: ما عندي ما يقلني، قلت: فأنا أعطيك نجيبا فارها، ونفقة سابغة، وتخرج إليه وقد امتدحته، فإنك إن حظيت بلقائه، صرت إلى أمنيتك قَالَ: والله أيها الأمير ما أخالك أبعدت، فأعد لي ما ذكرت.
قَالَ: فدعوت له بنجيب فاره، فقلت: شأنك به فامتطه، قَالَ: هذه إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ، فما بال الاخرى! فدعوت له بثلاثمائة درهم، وقلت: هذه نفقتك، قَالَ: أحسبك أيها الأمير قصرت في النفقة، قلت: لا، هي كافية، وإن قصرت عن السرف قَالَ: ومتى رأيت في أكابر سعد سرفا حتى تراه في أصاغرها! فأخذ النجيب والنفقة، ثم عمل ارجوزه ليست بالطويله، فانشد فيها وحذف منها ذكري والثناء علي- وكان ماردا- فقلت له: ما صنعت شيئا قَالَ: وكيف؟ قلت: تأتي الخليفة ولا تثني على أميرك! قال: أيها الأمير أردت أن تخدعني فوجدتني خداعا، ولمثلها ضرب هذا المثل: من ينك العير ينك نياكا، أما والله ما لكرامتي حملتني على نجيبك، ولا جدت لي بمالك الذي ما رامه أحد قط إلا جعل الله خده الأسفل، ولكن لأذكرك

(8/653)


في شعري وأمدحك عند الخليفة، أفهم هذا قلت: قد صدقت، فقال:
أما إذ أبديت ما في ضميرك، فقد ذكرتك، وأثنيت عليك، فقلت: فأنشدني ما قلت، فأنشدنيه، فقلت: أحسنت، ثم ودعني وخرج فأتى الشام، وإذا المأمون بسلغوس قَالَ: فأخبرني، قَالَ: بينا أنا في غزاة قرة، قد ركبت نجيبي ذاك، ولبست مقطعاتي، وأنا أروم العسكر، فإذا أنا بكهل على بغل فاره ما يقر قراره، ولا يدرك خطاه قال: فلتقانى مكافحة ومواجهة، وأنا أردد نشيد أرجوزتي، فقال: سلام عليكم- بكلام جهوري ولسان بسيط- فقلت: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، قَالَ: قف إن شئت، فوقفت فتضوعت منه رائحة العنبر والمسك الأذفر، فقال: ما أولك؟
قلت: رجل من مضر، قَالَ: ونحن من مضر، ثم قَالَ: ثم ماذا؟
قلت: رجل من بني تميم، قَالَ: وما بعد تميم؟ قلت: من بني سعد، قَالَ:
هيه، فما أقدمك هذا البلد؟ قَالَ: قلت: قصدت هذا الملك الذي ما سمعت بمثله أندى رائحة، ولا أوسع راحة، ولا أطول باعا، ولا أمد يفاعا منه.
قَالَ: فما الذي قصدته به؟ قلت: شعر طيب يلذ على الأفواه، وتقتفيه الرواة، ويحلو في آذان المستمعين، قَالَ: فأنشدنيه، فغضبت وقلت:
يا ركيك، أخبرتك أني قصدت الخليفة بشعر قلته، ومديح حبرته، تقول:
أنشدنيه! قَالَ: فتغافل والله عنها، وتطأمن لها، وألغى عن جوابها، قَالَ: وما الذي تأمل منه؟ قلت: إن كان على ما ذكر لي عنه فألف دينار، قَالَ: فأنا أعطيك ألف دينار إن رأيت الشعر جيدا والكلام عذبا وأضع عنك العناء، وطول الترداد، ومنى تصل إلى الخليفة وبينك وبينه عشرة آلاف رامح ونابل! قلت: فلي الله عليك أن تفعل! قَالَ: نعم لك الله علي أن أفعل، قلت: ومعك الساعة مال؟ قَالَ: هذا بغلي وهو خير من ألف دينار، أنزل لك عن ظهره، قَالَ: فغضبت أيضا وعارضني نرق سعد وخفة أحلامها، فقلت: ما يساوي هذا البغل هذا النجيب! قَالَ:

(8/654)


فدع عنك البغل، ولك الله علي أن أعطيك الساعة ألف دينار، قَالَ:
فأنشدته:
مأمون يا ذا المنن الشريفه ... وصاحب المرتبة المنيفه
وقائد الكتيبة الكثيفه ... هل لك في أرجوزة ظريفه
أظرف من فقه أبي حنيفه ... لا والذي أنت له خليفه
ما ظلمت في أرضنا ضعيفه ... أميرنا مؤنته خفيفه
وما اجتبى شيئا سوى الوظيفه ... فالذئب والنعجة في سقيفه
واللص والتاجر في قطيفه.
قال: فو الله ما عدا ان انشدته، فإذا زهاء عشرة آلاف فارس قد سدوا الأفق، يقولون: السَّلامُ عَلَيْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وبركاته! قَالَ:
فأخذني أفكل، ونظر إلي بتلك الحال، فقال: لا بأس عليك أي أخي، قلت: يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداك! أتعرف لغات العرب؟
قَالَ: أي لعمر الله، قلت: فمن جعل الكاف منهم مكان القاف؟ قَالَ:
هذه حمير، قلت: لعنها الله، ولعن من استعمل هذه اللغة بعد اليوم! فضحك المأمون، وعلم ما أردت، والتفت إلى خادم إلى جانبه، فقال: أعطه ما معك، فأخرج إلي كيسا فيه ثلاثة آلاف دينار، فقال: هاك، ثم قَالَ: السلام عليك، ومضى فكان آخر العهد به.
وقال أبو سعيد المخزومي:
هل رأيت النجوم أغنت عن المأمون ... شيئا أو ملكه المأسوس
خلفوه بعرصتي طرسوس ... مثل ما خلفوا أباه بطوس
وقال علي بْن عبيدة الريحاني:
ما أقل الدموع للمأمون ... لست أرضى إلا دما من جفوني

(8/655)


وذكر أبو موسى هارون بْن محمد بْن اسماعيل بن موسى الهادي ان على ابن صالح حدثه، قَالَ: قَالَ لي المأمون يوما: أبغني رجلا من أهل الشام، له أدب، يجالسني ويحدثني، فالتمست ذلك فوجدته، فدعوته فقلت له:
إني مدخلك على أمير المؤمنين، فلا تسأله عن شيء حتى يبتدئك، فإني أعرف الناس بمسألتكم يا أهل الشام، فقال: ما كنت متجاوزا ما أمرتني به.
فدخلت على المأمون، فقلت له: قد أصبت الرجل يا أمير المؤمنين، فقال:
أدخله، فدخل فسلم، ثم استدناه- وكان المأمون على شغله من الشراب- فقال له: إني أردتك لمجالستي ومحادثنى، فقال الشامي: يا أمير المؤمنين، إن الجليس إذا كانت ثيابه دون ثياب جليسه دخله لذلك غضاضة، قَالَ: فأمر المأمون أن يخلع عليه، قَالَ: فدخلني من ذلك ما الله به أعلم، قَالَ: فلما خلع عليه، ورجع إلى مجلسه، قَالَ: يا أمير المؤمنين، إن قلبي إذا كان متعلقا بعيالي لم تنتفع بمحادثتي، قَالَ: خمسون ألفا تحمل إلى منزله، ثم قَالَ: يا أمير المؤمنين، وثالثة، قَالَ: وما هي؟ قَالَ: قد دعوت بشيء يحول بين المرء وعقله، فإن كانت مني هنة فاغتفرها، قَالَ: وذاك! قَالَ علي: فكأن الثالثة جلت عني ما كان بي.
وذكر أبو حشيشة محمد بْن علي بْن أمية بْن عمرو، قَالَ: كنا قدام أمير المؤمنين المأمون بدمشق، فغنى علويه:
برئت من الإسلام إن كان ذا الذى ... أتاك به الواشوان عني كما قالوا
ولكنهم لما رأوك سريعة ... إلي، تواصوا بالنميمة واحتالوا
فقال: يا علويه، لمن هذا الشعر؟ فقال: للقاضي، قَالَ: أي قاض ويحك! قَالَ: قاضي دمشق، فقال: يا أبا إسحاق، اعزله، قَالَ: قد عزلته، قَالَ: فيحضر الساعة قَالَ: فأحضر شيخ مخضوب قصير، فقال له المأمون: من تكون؟ قال: فلان ابن فلان الفلاني، قَالَ: تقول الشعر؟
قَالَ: قد كنت أقوله، فقال: يا علويه، أنشده الشعر، فانشده، فقال:

(8/656)


هذا الشعر لك؟ قَالَ: نعم يا أمير المؤمنين، ونساؤه طوالق وكل ما يملك في سبيل الله إن كان قَالَ الشعر منذ ثلاثون سنة إلا في زهد أو معاتبة صديق، فقال: يا أبا إسحاق اعزله، فما كنت أولى رقاب المسلمين من يبدأ في هزله بالبراءة من الإسلام ثم قَالَ: اسقوه، فأتي بقدح فيه شراب، فأخذه وهو يرتعد، فقال: يا أمير المؤمنين ما ذقته قط، قَالَ: فلعلك تريد غيره! قَالَ:
لم أذق منه شيئا قط، قَالَ: فحرام هو؟ قَالَ: نعم يا أمير المؤمنين، قَالَ:
أولى لك! بها نجوت، اخرج ثم قَالَ: يا علويه، لا تقل: برئت من الإسلام، ولكن قل:
حرمت مناي منك إن كان ذا الذي ... أتاك به الواشون عني كما قالوا
قَالَ: وكنا مع المأمون بدمشق، فركب يريد جبل الثلج، فمر ببركة عظيمة من برك بني أمية، وعلى جوانبها أربع سروات، وكان الماء يدخلها سيحا، ويخرج منها، فاستحسن المأمون الموضع، فدعا ببزماورد ورطل، وذكر بني أمية، فوضع منهم وتنقصهم، فأقبل علويه على العود، واندفع يغني:
أولئك قومي بعد عز وثروة ... تفانوا فألا أذرف العين أكمدا
فضرب المأمون الطعام برجله، ووثب وقال لعلويه: يا بن الفاعلة، لم يكن لك وقت تذكر فيه مواليك إلا في هذا الوقت! فقال: مولاكم زرياب عند موالي يركب في مائة غلام، وأنا عندكم أموت من الجوع! فغضب عليه عشرين يوما، ثم رضي عنه.
قَالَ: وزرياب مولى المهدي، صار إلى الشام ثم صار إلى المغرب، إلى بني أمية هناك.
وذكر السليطي أبو علي، عن عمارة بْن عقيل، قَالَ: أنشدت المأمون قصيدة فيها مديح له، هي مائة بيت، فابتدئ بصدر البيت فيبادرني الى قافيته

(8/657)


كما قفيته، فقلت: والله يا أمير المؤمنين، ما سمعها مني أحد قط، قَالَ: هكذا ينبغي أن يكون، ثم أقبل علي، فقال لي: أما بلغك أن عمر بْن أبي ربيعة أنشد عبد الله بْن العباس قصيدته التي يقول فيها.
تشط غدا دار جيراننا.
فقال ابن العباس
وللدار بعد غد أبعد.
حتى أنشده القصيدة، يقفيها ابن عباس! ثم قَالَ: أنا ابن ذاك.
وذكر عن أبي مروان كازر بْن هارون، أنه قَالَ: قَالَ المأمون:
بعثتك مرتادا ففزت بنظرة ... وأغفلتني حتى أسأت بك الظنا
فناجيت من أهوى وكنت مباعدا ... فيا ليت شعري عن دنوك ما اغنى!
أرى أثرا منه بعينيك بينا ... لقد أخذت عيناك من عينه حسنا
قَالَ أبو مروان: وإنما عول المأمون في قوله في هذا المعنى على قول العباس ابن الأحنف، فإنه اخترع:
إن تشق عيني بها فقد سعدت ... عين رسولي، وفزت بالخبر
وكلما جاءني الرسول لها ... رددت عمدا في طرفه نظري
تظهر في وجهه محاسنها ... قد أثرت فيه أحسن الأثر
خذ مقلتي يا رسول عارية ... فانظر بها واحتكم على بصري
قَالَ أبو العتاهية: وجه إلي المأمون يوما، فصرت إليه، فألفيته مطرقا مفكرا، فأحجمت عن الدنو منه في تلك الحال، فرفع رأسه، فنظر إلي وأشار بيده، أن ادن، فدنوت ثم أطرق مليا، ورفع رأسه، فقال: يا أبا إسحاق، شأن النفس الملل وحب الاستطراف، تأنس بالوحدة كما تأنس بالألفة، قلت: أجل يا أمير المؤمنين، ولي في هذا بيت، قَالَ: وما هو؟ قلت:

(8/658)


لا يصلح النفس إذ كانت مقسمة ... إلا التنقل من حال إلى حال
وذكر عن أبي نزار الضرير الشاعر أنه قَالَ: قَالَ لي علي بْن جبلة:
قلت لحميد بْن عبد الحميد: يا أبا غانم، قد امتدحت أمير المؤمنين بمدح لا يحسن مثله أحد من أهل الأرض، فاذكرني له، فقال: أنشدنيه، فأنشدته، فقال: أشهد أنك صادق، فأخذ المديح فأدخله على المأمون، فقال:
يا أبا غانم، الجواب في هذا واضح، إن شاء عفونا عنه وجعلنا ذلك ثوابا بمديحه، وإن شاء جمعنا بين شعره فيك وفي أبي دلف القاسم بْن عيسى، فإن كان الذي قَالَ فيك وفيه أجود من الذي مدحنا به ضربنا ظهره، وأطلنا حبسه، وإن كان الذي قَالَ فينا أجود أعطيته بكل بيت من مديحه ألف درهم، وإن شاء أقلناه فقلت: يا سيدي، ومن أبو دلف! ومن أنا حتى يمدحنا بأجود من مديحك! فقال: ليس هذا الكلام من الجواب عن المسألة في شيء، فاعرض ذلك على الرجل قَالَ علي بْن جبلة: فقال لي حميد: ما ترى؟
قلت: الا قاله أحب إلي، فأخبر المأمون، فقال: هو أعلم، قَالَ حميد:
فقلت لعلي بْن جبلة: إلى أي شيء ذهب في مدحك أبا دلف وفي مدحك لي؟ قَالَ: إلى قول في أبي دلف:
إنما الدنيا أبو دلف ... بين مغزاه ومحتضره
فإذا ولى أبو دلف ... ولت الدنيا على أثره
وإلى قولي فيك:
لولا حميد لم يكن ... حسب يعد ولا نسب
يا واحد العرب الذي ... عزت بعزته العرب
قَالَ: فأطرق حميد ساعة، ثم قَالَ: يا أبا الحسن، لقد انتقد عليك أمير المؤمنين وأمر لي بعشرة آلاف درهم وحملان وخلعة وخادم، وبلغ ذلك

(8/659)


أبا دلف فأضعف لي العطية، وكان ذلك منهما في ستر لم يعلم به أحد إلى أن حدثتك يا أبا نزار بهذا.
قَالَ أبو نزار: وظننت أن المأمون تعقد عليه هذا البيت في أبي دلف:
تحدر ماء الجود من صلب آدم ... فأثبته الرحمن في صلب قاسم
وذكر عن سليمان بْن رزين الخزاعي، ابن أخي دعبل، قَالَ: هجا دعبل المأمون، فقال:
ويسومني المأمون خطة عارف ... أو ما رأى بالأمس رأس محمد
يوفي على هام الخلائف مثل ما ... يوفي الجبال على رءوس القردد
ويحل في أكناف كل ممنع ... حتى يذلل شاهقا لم يصعد
إن الترات مسهد طلابها ... فاكفف لعابك عن لعاب الأسود
فقيل للمأمون: إن دعبلا هجاك، فقال: هو يهجو أبا عباد لا يهجوني.
يريد حدة أبي عباد، وكان أبو عباد إذا دخل على المأمون كثيرا ما يضحك المأمون، ويقول له: ما أراد دعبل منك حين يقول:
وكأنه من دير هزقل مفلت ... حرد يجر سلاسل الأقياد

(8/660)


وكان المأمون يقول لإبراهيم بْن شكلة إذا دخل عليه: لقد أوجعك دعبل حين يقول:
إن كان إبراهيم مضطلعا بها ... فلتصلحن من بعده لمخارق
ولتصلحن من بعد ذاك لزلزل ... ولتصلحن من بعده للمارق
أنى يكون ولا يكون ولم يكن ... لينال ذلك فاسق عن فاسق!
وذكر محمد بْن الهيثم الطائي أن القاسم بْن محمد الطيفوري حدثه، قَالَ:
شكا اليزيدي إلى المأمون خلة أصابته، ودينا لحقه، فقال: ما عندنا في هذه الأيام ما أن أعطيناكه بلغت به ما تريد، فقال: يا أمير المؤمنين، إن الأمر قد ضاق علي، وإن غرمائي قد أرهقوني قَالَ: فرم لنفسك أمرا تنال به نفعا فقال: لك منادمون فيهم من أن حركته نلت منه ما أحب، فأطلق لي الحيلة فيهم، قَالَ: قل ما بدا لك، قَالَ: فإذا حضروا وحضرت فمر فلانا الخادم أن يوصل إليك رقعتي، فإذا قرأتها، فأرسل إلي: دخولك في هذا الوقت متعذر، ولكن اختر لنفسك من أحببت قَالَ: فلما علم أبو محمد بجلوس المأمون واجتماع ندمائه إليه، وتيقن أنهم قد ثملوا من شربهم، أتى الباب، فدفع إلى ذلك الخادم رقعة قد كتبها، فأوصلها له إلى المأمون، فقرأها فإذا فيها:
يا خير إخواني وأصحابي ... هذا الطفيلي لدى الباب
خبر أن القوم في لذة ... يصبو إليها كل أواب
فصيروني واحدا منكم ... أو أخرجوا لي بعض أترابي

(8/661)


قَالَ: فقرأها المأمون على من حضره، فقالوا: ما ينبغي أن يدخل هذا الطفيلي على مثل هذه الحال فأرسل إليه المأمون: دخولك في هذا الوقت متعذر، فاختر لنفسك من أحببت تنادمه، فقال: ما أرى لنفسي اختيارا غير عبد الله بْن طاهر، فقال له المأمون: قد وقع اختياره عليك، فصر إليه، قَالَ: يا أمير المؤمنين، فأكون شريك الطفيلي! قَالَ: ما يمكن رد أبي محمد عن أمرين، فإن أحببت أن تخرج، وإلا فافتد نفسك، قَالَ: فقال:
يا أمير المؤمنين، له علي عشرة آلاف درهم، قَالَ: لا أحسب ذلك يقنعه منك ومن مجالستك، قَالَ: فلم يزل يزيده عشرة عشرة، والمأمون يقول له: لا أرضى له بذلك، حتى بلغ المائة ألف قَالَ: فقال له المأمون: فعجلها له، قَالَ:
فكتب له بها إلى وكيله، ووجه معه رسولا، فأرسل إليه المأمون: قبض هذه في هذه الحال أصلح لك من منادمته على مثل حاله، وأنفع عاقبة.
وذكر عن محمد بْن عبد الله صاحب المراكب قَالَ: أخبرني ابى عن صالح بن الرشيد، قَالَ: دخلت على المأمون، ومعي بيتان للحسين بْن الضحاك، فقلت: يا أمير المؤمنين، أحب أن تسمع مني بيتين، قَالَ:
أنشدهما، قَالَ: فأنشده صالح:
حمدنا الله شكرا إذ حبانا ... بنصرك يا أمير المؤمنينا
فأنت خليفة الرحمن حقا ... جمعت سماحة وجمعت دينا
فاستحسنهما المأمون، وقال: لمن هذان البيتان يا صالح؟ قلت: لعبدك يا أمير المؤمنين الحسين بْن الضحاك، قَالَ: قد أحسن، قلت: وله يا أمير المؤمنين ما هو أجود من هذا، قَالَ: وما هو؟ فأنشدته:
أيبخل فرد الحسن فرد صفاته ... علي، وقد أفردته بهوى فرد!
رأى الله عبد الله خير عباده ... فملكه والله أعلم بالعبد
وذكر عن عمارة بْن عقيل، أنه قَالَ: قَالَ لي عبد الله بْن أبي السمط:

(8/662)


علمت أن المأمون لا يبصر الشعر، قَالَ: قلت: ومن ذا يكون اعلم منه! فو الله إنك لترانا ننشده أول البيت فيسبقنا إلى آخره، قال: أنشدته بيتا أجدت فيه، فلم أره تحرك له، قَالَ: قلت: وما الذي أنشدته؟ قَالَ:
أنشدته:
أضحى إمام الهدى المأمون مشتغلا ... بالدين والناس بالدنيا مشاغيل
قَالَ: فقلت له: إنك والله ما صنعت شيئا، وهل زدت على أن جعلته عجوزا في محرابها، في يدها سبحتها! فمن القائم بأمر الدنيا إذا تشاغل عنها، وهو المطوق بها! هلا قلت فيه كما قَالَ عمك جرير في عبد العزيز ابن الوليد:
فلا هو في الدنيا مضيع نصيبه ... ولا عرض الدنيا عن الدين شاغله
فقال: الآن علمت أني قد أخطأت.
وذكر عن محمد بن ابراهيم السيارى قَالَ: لما قدم العتابي على المأمون مدينة السلام أذن له، فدخل عليه، وعنده إسحاق بْن إبراهيم الموصلي- وكان شيخا جليلا- فسلم عليه، فرد ع، وأدناه وقربه حتى قرب منه، فقبل يده، ثم أمره بالجلوس فجلس، وأقبل عليه يسائله عن حاله، فجعل يجيبه بلسان طلق، فاستطرف المأمون ذلك، فأقبل عليه بالمداعبة والمزاح، فظن الشيخ أنه استخف به، فقال: يا أمير المؤمنين، الإبساس قبل الإيناس قَالَ: فاشتبه على المأمون الإبساس، فنظر إلى إسحاق بْن إبراهيم، ثم قَالَ:
نعم، يا غلام ألف دينار، فأتى بها، ثم صبت بين يدي العتابي، ثم

(8/663)


أخذوا في المفاوضة والحديث، وغمز عليه إسحاق بْن إبراهيم، فأقبل لا يأخذ العتابي في شيء إلا عارضه إسحاق بأكثر منه، فبقي متعجبا، ثم قال:
يا امير المؤمنين، ايذن لي في مسألة هذا الشيخ عن اسمه، قَالَ: نعم، سله، قَالَ: يا شيخ، من أنت؟ وما اسمك؟ قَالَ: أنا من الناس، واسمي كل بصل، قَالَ: أما النسبة فمعروفة، وأما الاسم فمنكر، وما كل بصل من الأسماء؟ فقال له إسحاق: ما أقل إنصافك! وما كل ثوم من الأسماء! البصل أطيب من الثوم، فقال العتابي: لله درك! ما أحجك! يا أمير المؤمنين، ما رأيت كالشيخ قط، أتأذن لي في صلته بما وصلني به أمير المؤمنين، فقد والله غلبني! فقال المأمون: بل هذا موفر عليك، ونأمر له بمثله، فقال له إسحاق: اما إذا أقررت بهذه فتوهمني تجدني، فقال:
والله ما أظنك إلا الشيخ الذي يتناهى إلينا خبره من العراق، ويعرف بابن الموصلي! قَالَ: أنا حيث ظننت، فأقبل عليه بالتحية والسلام، فقال المأمون وقد طال الحديث بينهما: أما إذا اتفقتما على الصلح والمودة، فقوما فانصرفا متنادمين، فانصرف العتابي إلى منزل إسحاق فأقام عنده.
وذكر عن محمد بْن عبد الله بْن جشم الربعي أن عمارة بْن عقيل قَالَ: قَالَ لي المأمون يوما وأنا أشرب عنده: ما أخبثك يا أعرابي! قَالَ:
قلت: وما ذاك يا أمير المؤمنين؟ وهمتني نفسي، قَالَ: كيف قلت:
قالت مفداه لما أن رأت أرقي ... والهم يعتادني من طيفه لمم
نهبت مالك في الأدنين آصرة ... وفي الأباعد حتى حفك العدم

(8/664)


فاطلب إليهم ترى ما كنت من حسن ... تسدي إليهم فقد باتت لهم صرم
فقلت عذلك قد أكثرت لائمتي ... ولم يمت حاتم هزلا ولا هرم
فقال لي المأمون: أين رميت بنفسك إلى هرم بْن سنان سيد العرب وحاتم الطائي! فعلا كذا وفعلا كذا، وأقبل ينثال علي بفضلهما، قَالَ: فقلت:
يا أمير المؤمنين، أنا خير منهما، أنا مسلم وكانا كافرين، وأنا رجل من العرب.
وذكر عن محمد بْن زكرياء بْن ميمون الفرغاني، قَالَ: قَالَ المأمون لمحمد بْن الجهم: أنشدني ثلاثة أبيات في المديح والهجاء والمراثي، ولك بكل بيت كورة، فأنشده في المديح:
يجود بالنفس إذ ضن الجواد بها ... والجود بالنفس أقصى غاية الجود
وأنشده في الهجاء:
قبحت مناظرهم فحين خبرتهم ... حسنت مناظرهم لقبح المخبر
وأنشده في المراثي:
أرادوا ليخفوا قبره عن عدوه ... فطيب تراب القبر دل على القبر
وذكر عن العباس بْن أحمد بْن أبان بْن القاسم الكاتب، قَالَ: أخبرني الحسين بْن الضحاك، قَالَ: قَالَ لي علويه: أخبرك أنه مر بي مرة ما أيست من نفسي معه لولا كرم المأمون، فإنه دعا بنا، فلما أخذ فيه النبيذ، قَالَ:
غنوني، فسبقني مخارق، فاندفع فغنى صوتا لابن سريج في شعر جرير:

(8/665)


لما تذكرت بالديرين أرقني ... صوت الدجاج وضرب بالنواقيس
فقلت للركب إذ جد المسير بنا ... يا بعد يبرين من باب الفراديس!
قال: فحين لي ان تغنيت، وكان قد هم بالخروج إلى دمشق يريد الثغر:
الحين ساق إلى دمشق وما ... كانت دمشق لأهلها بلدا
فضرب بالقدح الأرض، وقال: ما لك! عليك لعنة الله ثم قَالَ: يا غلام، أعط مخارقا ثلاثة آلاف درهم، وأخذ بيدي فأقمت وعيناه تدمعان، وهو يقول للمعتصم: هو والله آخر خروج، ولا أحسبني أن أرى العراق ابدا، فكان والله آخر عهده بالعراق عند خروجه كما قال.

(8/666)


خلافة أبي إسحاق المعتصم محمد بْن هارون الرشيد
وفي هذه السنة بويع لأبي إسحاق محمد بْن هارون الرشيد بْن محمد المهدي ابن عبد الله المنصور بالخلافة، وذلك يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب سنة ثمان عشرة ومائتين وذكر أن الناس كانوا قد أشفقوا من منازعه العباس بن المأمون له في الخلافة، فسلموا من ذلك.
ذكر أن الجند شغبوا لما بويع لأبي إسحاق بالخلافة، فطلبوا العباس ونادوه باسم الخلافة، فأرسل أبو إسحاق إلى العباس فأحضره، فبايعه ثم خرج إلى الجند، فقال: ما هذا الحب البارد! قد بايعت عمي، وسلمت الخلافة إليه، فسكن الجند.
وفيها أمر المعتصم بهدم ما كان المأمون أمر ببنائه بطوانة، وحمل ما كان بها من السلاح والآلة وغير ذلك مما قدر على حمله، وأحرق ما لم يقدر على حمله، وأمر بصرف من كان المأمون أسكن ذلك من الناس إلى بلادهم.
وفيها انصرف المعتصم إلى بغداد، ومعه العباس بن المأمون، فقدمها- فيما ذكر- يوم السبت مستهل شهر رمضان.
وفيها دخل- فيما ذكر- جماعة كثيرة من أهل الجبال من همذان وأصبهان وماسبذان ومهرجانقذق في دين الخرمية، وتجمعوا، فعسكروا في عمل همذان، فوجه المعتصم إليهم عساكر، فكان آخر عسكر وجه إليهم

(8/667)


عسكر وجهه مع إسحاق بْن إبراهيم بْن مصعب، وعقد له على الجبال في شوال في هذه السنة، فشخص إليهم في ذي القعدة، وقرئ كتابه بالفتح يوم التروية، وقتل في عمل همذان ستين ألفا، وهرب باقيهم الى بلاد الروم.
[أخبار متفرقة]
وحج بالناس في هذه السنة صالح بْن العباس بْن محمد، وضحى أهل مكة يوم الجمعه، واهل بغداد يوم السبت.

(8/668)


الجزء التاسع
سنه 219 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ثم دخلت

سنة تسع عشرة ومائتين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)

ذكر خلاف محمد بن القاسم العلوي
فمن ذلك ما كان من ظهور محمد بن القاسم بن عمر بن على بن الحسين ابن علي بن أبي طالب بالطالقان من خراسان، يدعو الى الرضا من آل محمد ص، فاجتمع إليه بها ناس كثير، وكانت بينه وبين قواد عبد الله بن طاهر وقعات بناحية الطالقان وجبالها، فهزم هو وأصحابه، فخرج هاربا يريد بعض كور خراسان، كان أهله كاتبوه، فلما صار بنسا، وبها والد لبعض من معه، مضى الرجل الذي معه من أهل نسا إلى والده ليسلم عليه، فلما لقي أباه سأله عن الخبر، فأخبره بأمرهم، وأنهم يقصدون كورة كذا، فمضى أبو ذلك الرجل إلى عامل نسا، فأخبره بأمر محمد بن القاسم، فذكر أن العامل بذل له عشرة آلاف درهم على دلالته عليه فدله عليه، فجاء العامل إلى محمد بن القاسم، فأخذه واستوثق منه، وبعث به إلى عبد الله بن طاهر، فبعث به عبد الله بن طاهر إلى المعتصم، فقدم به عليه يوم الاثنين لأربع عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الآخر، فحبس- فيما ذكر- بسامرا عند مسرور الخادم الكبير في محبس ضيق، يكون قدر ثلاث أذرع في ذراعين، فمكث فيه ثلاثة أيام، ثم حول إلى موضع أوسع من ذلك، وأجري عليه طعام، ووكل به قوم يحفظونه، فلما كان ليلة الفطر، واشتغل الناس بالعيد والتهنئة احتال للخروج، ذكر أنه هرب من الحبس بالليل، وأنه دلي إليه حبل من كوة كانت في أعلى البيت، يدخل عليه منها الضوء، فلما أصبحوا أتوا بالطعام

(9/7)


للغداء افتقد، فذكر أنه جعل لمن دل عليه مائة ألف درهم، وصاح بذلك الصائح، فلم يعرف له خبر.
وفي هذه السنة قدم إسحاق بن إبراهيم بغداد من الجبل، يوم الأحد لإحدى عشرة ليلة خلت من جمادى الأولى، ومعه الأسرى من الخرمية والمستأمنة.
وقيل: إن إسحاق بن ابراهيم قتل منهم في محاربته إياهم نحوا من مائة ألف، سوى النساء والصبيان
. ذكر الخبر عن محاربه الزط
وفي هذه السنة وجه المعتصم عجيف بن عنبسة في جمادى الآخرة منها لحرب الزط الذين كانوا قد عاثوا في طريق البصرة، فقطعوا فيه الطريق، واحتملوا الغلات من البيادر بكسكر وما يليها من البصرة، وأخافوا السبيل، ورتب الخيل في كل سكة من سكك البرد تركض بالأخبار، فكان الخبر يخرج من عند عجيف، فيصل إلى المعتصم من يومه، وكان الذي يتولى النفقة على عجيف من قبل المعتصم محمد بن منصور كاتب إبراهيم بن البختري، فلما صار عجيف إلى واسط، ضرب عسكره بقرية أسفل واسط يقال لها الصافية في خمسة آلاف رجل، وصار عجيف إلى نهر يحمل من دجلة يقال له بردودا، فلم يزل مقيما عليه حتى سده وقيل إن عجيفا إنما ضرب عسكره بقرية أسفل واسط يقال لها نجيدا، ووجه هارون بن نعيم ابن الوضاح القائد الخراساني إلى موضع يقال له الصافية في خمسة آلاف رجل، ومضى عجيف في خمسة آلاف إلى بردودا، فأقام عليه حتى سده وسد أنهارا أخر كانوا يدخلون منها ويخرجون، فحصرهم من كل وجه، وكان من الأنهار التي سدها عجيف، نهر يقال له العروس، فلما أخذ عليهم طرقهم حاربهم، وأسر منهم خمسمائة رجل، وقتل منهم في المعركة ثلاثمائة

(9/8)


رجل، فضرب أعناق الأسرى، وبعث برءوس جميعهم إلى باب المعتصم، ثم أقام عجيف بإزاء الزط خمسة عشر يوما، فظفر منهم بخلق كثير وكان رئيس الزط رجلا يقال له محمد بن عثمان، وكان صاحب أمره والقائم بالحرب سملق، ومكث عجيف يقاتلهم- فيما قيل- تسعة أشهر.
وحج بالناس في هذه السنة صالح بْن العباس بن محمد.

(9/9)


ثم دخلت

سنة عشرين ومائتين
(ذكر ما كان فيها من الاحداث)

ذكر ظفر عجيف بالزط
فمن ذلك ما كان من دخول عجيف بالزط بغداد، وقهره إياهم حتى طلبوا منه الأمان فآمنهم، فخرجوا إليه في ذي الحجة سنة تسع عشرة ومائتين على أنهم آمنون على دمائهم وأموالهم، وكانت عدتهم- فيما ذكر- سبعة وعشرين ألفا، المقاتلة منهم اثنا عشر ألفا، وأحصاهم عجيف سبعة وعشرين ألف إنسان، بين رجل وامرأة وصبي، ثم جعلهم في السفن، وأقبل بهم حتى نزل الزعفرانية، فأعطى اصحابه دينارين دينارين جائزه، واقام بها يوما، ثم عباهم في زواريقهم على هيئتهم في الحرب، معهم البوقات، حتى دخل بهم بغداد يوم عاشوراء سنة عشرين ومائتين والمعتصم بالشماسية في سفينة يقال لها الزو، حتى مر به الزط على تعبئتهم ينفخون بالبوقات، فكان أولهم بالقفص وآخرهم بحذاء الشماسية، وأقاموا في سفنهم ثلاثة أيام، ثم عبر بهم إلى الجانب الشرقي، فدفعوا إلى بشر بن السميدع، فذهب بهم إلى خانقين، ثم نقلوا إلى الثغر إلى عين زربة، فأغارت عليهم الروم، فاجتاحوهم فلم يفلت منهم أحد، فقال شاعرهم:
يا أهل بغداد موتوا دام غيظكم ... شوقا إلى تمر برني وشهريز
نحن الذين ضربناكم مجاهرة ... قسرا وسقناكم سوق المعاجيز
لم تشكروا الله نعماه التي سلفت ... ولم تحوطوا إياديه بتعزيز
فاستنصروا العبد من أبناء دولتكم ... من يازمان ومن بلج ومن توز
ومن شناس وأفشين، ومن فرج ... المعلمين بديباج وابريز

(9/10)


واللابسى كيمخار الصين قد خرطت ... أردانه درز برواز الدخاريز
والحاملين الشكي نيطت علائقها ... إلى مناطق خاص غير مخروز
يفري ببيض من الهندي هامهم ... بنو بهلة في أبناء فيروز
فوارس خيلها دهم مودعة ... على الخراطيم منها والفراريز
مسخرات لها في الماء أجنحة ... كالآبنوس إذا استحضرن والشيز
متى تروموا لنا في غمر لجتنا ... حذرا نصيدكم صيد المعافيز
او اختطافا وازهاقا كما اختطفت ... طير الدحال حثاثا بالمناقيز
ليس الجلاد جلاد الزط فاعترفوا ... أكل الثريد ولا شرب القواقيز
نحن الذين سقينا الحرب درتها ... ونقنقنا مقاساه الكواليز
لنسفعنكم سفعا يذل له ... رب السرير ويشجي صاحب التيز
فابكوا على التمر أبكى الله أعينكم ... في كل اضحى، وفي فطر ونيروز

ذكر خبر مسير الافشين لحرب بابك
وفي هذه السنه عقد المعتصم للافشين خيذر بن كاوس على الجبال، ووجه به لحرب بابك، وذلك يوم الخميس لليلتين خلتا من جمادى الآخرة، فعسكر بمصلى بغداد، ثم صار إلى برزند.
ذكر الخبر عن أمر بابك ومخرجه:
ذكر أن ظهور بابك كان في سنه احدى ومائتين، وكانت قريته ومدينته البذ، وهزم من جيوش السلطان، وقتل من قواده جماعة، فلما أفضى الأمر إلى المعتصم، وجه أبا سعيد محمد بن يوسف إلى أردبيل، وأمره أن يبني الحصون التي خربها بابك فيما بين زنجان وأردبيل، ويجعل فيها الرجال مسالح لحفظ الطريق لمن يجلب الميرة إلى أردبيل، فتوجه أبو سعيد لذلك، وبنى الحصون التي خربها بابك، ووجه بابك سرية له في بعض غاراته، وصير أميرهم رجلا

(9/11)


يقال له معاوية، فخرج فأغار على بعض النواحي، ورجع منصرفا، فبلغ ذلك أبا سعيد محمد بن يوسف، فجمع الناس وخرج إليه يعترضه في بعض الطريق، فواقعه، فقتل من أصحابه جماعة، وأسر منهم جماعة، واستنقذ ما كان حواه، فهذه أول هزيمة كانت على اصحاب بابك ووجه ابو سعيد الرءوس والأسرى إلى المعتصم بالله.
ثم كانت الأخرى لمحمد بن البعيث، وذلك أن محمد بن البعيث كان في قلعة له حصينة تسمى شاهي، كان ابن البعيث أخذها من الوجناء بن الرواد، عرضها نحو من فرسخين، وهي من كورة أذربيجان، وله حصن آخر في بلاد أذربيجان يسمى تبريز، وشاهي أمنعهما، وكان ابن البعيث مصالحا لبابك، إذا توجهت سراياه نزلت به فأضافهم، وأحسن إليهم حتى أنسوا به، وصارت لهم عادة ثم أن بابك وجه رجلا من اصحابه يقال له عصمه من اصبهبذته في سرية، فنزل بابن البعيث، فأنزل إليه ابن البعيث على العادة الجارية الغنم والإنزال وغير ذلك، وبعث إلى عصمة أن يصعد إليه في خاصته ووجوه أصحابه، فصعد فغداهم وسقاهم حتى أسكرهم، ثم وثب على عصمة فاستوثق منه، وقتل من كان معه من أصحابه، وأمره أن يسمى رجلا رجلا من أصحابه باسمه، فكان يدعى بالرجل باسمه فيصعد، ثم يأمر به فيضرب عنفه، حتى علموا بذلك، فهربوا ووجه ابن البعيث بعصمة إلى المعتصم- وكان البعيث أبو محمد صعلوكا من صعاليك ابن الرواد- فسأل المعتصم عصمة عن بلاد بابك، فأعلمه طرقها ووجوه القتال فيها، ثم لم يزل عصمة محبوسا إلى أيام الواثق ولما صار الأفشين إلى برزند عسكر بها، ورم الحصون فيما بين برزند وأردبيل، وأنزل محمد بن يوسف بموضع يقال له خش، فاحتفر فيه خندقا، وأنزل الهيثم الغنوي القائد من أهل الجزيرة في رستاق يقال له أرشق، فرم حصنه، وحفر حوله خندقا، وأنزل علويه الأعور من قواد الأبناء في حصن مما يلي أردبيل يسمى حصن النهر، فكانت السابلة

(9/12)


والقوافل تخرج من أردبيل معها من يبذرقها حتى تصل إلى حصن النهر، ثم يبذرقها صاحب حصن النهر إلى الهيثم الغنوي، ويخرج هيثم فيمن جاء من ناحيته حتى يسلمه إلى أصحاب حصن النهر، ويبذرق من جاء من أردبيل حتى يصير الهيثم وصاحب حصن النهر في منتصف الطريق، فيسلم صاحب حصن النهر من معه إلى هيثم، ويسلم هيثم من معه إلى صاحب حصن النهر، فيسير هذا مع هؤلاء.
وهذا مع هؤلاء وإن سبق أحدهما صاحبه إلى الموضع لم يجزه حتى يجيء الآخر، فيدفع كل واحد منهما من معه إلى صاحبه ليبذرقهم، هذا إلى أردبيل، وهذا إلى عسكر الأفشين، ثم يبذرق الهيثم الغنوي من كان معه إلى أصحاب أبي سعيد، وقد خرجوا فوقفوا على منتصف الطريق، معهم قوم، فيدفع أبو سعيد وأصحابه من معهم إلى الهيثم، ويدفع الهيثم من معه إلى أصحاب أبي سعيد، فيصير أبو سعيد وأصحابه بمن في القافلة إلى خش، وينصرف الهيثم وأصحابه بمن صار في أيديهم إلى أرشق حتى يصيروا به من غد، فيدفعوهم إلى علوية الأعور وأصحابه ليوصلوهم إلى حيث يريدون، ويصير أبو سعيد ومن معه إلى خش، ثم إلى عسكر الأفشين، فتلقاه صاحب سيارة الأفشين، فيقبض منه من في القافلة، فيؤديهم إلى عسكر الأفشين، فلم يزل الأمر جاريا على هذا، وكلما صار إلى أبي سعيد او الى أحد من المسالح أحد من الجواسيس وجهوا به إلى الأفشين، فكان الأفشين لا يقتل الجواسيس ولا يضربهم، ولكن يهب لهم ويصلهم ويسألهم ما كان بابك يعطيهم، فيضعفه لهم، ويقول للجاسوس: كن جاسوسا لنا.
سنه 220

ذكر خبر وقعه الافشين مع بابك بارشق
وفيها كانت وقعة بين بابك وأفشين بأرشق، قتل فيها الأفشين من

(9/13)


أصحاب بابك خلقا كثيرا، قيل أكثر من ألف، وهرب بابك إلى موقان، ثم شخص منها إلى مدينته التي تدعى البذ.
ذكر الخبر عن سبب هذه الوقعة بين الأفشين وبابك:
ذكر أن سبب ذلك أن المعتصم وجه مع بغا الكبير بمال إلى الأفشين عطاء لجنده وللنفقات، فقدم بغا بذلك المال إلى أردبيل، فلما نزل أردبيل بلغ بابك وأصحابه خبره، فتهيأ بابك وأصحابه ليقطعوا عليه قبل وصوله إلى الأفشين، فقدم صالح الجاسوس على الأفشين، فأخبره أن بغا الكبير قد قدم بمال، وان بابك واصحابه تهيئوا ليقتطعوه قبل وصوله إليك.
وقيل: كان مجيء صالح إلى أبي سعيد، فوجه به أبو سعيد إلى الأفشين وهيأ بابك كمينا في مواضع، فكتب الأفشين إلى أبي سعيد يأمره أن يحتال لمعرفة صحة خبر بابك، فمضى أبو سعيد متنكرا هو وجماعة من أصحابه، حتى نظروا إلى النيران والوقود في المواضع التي وصفها لهم صالح، فكتب الأفشين إلى بغا، أن يقيم بأردبيل حتى يأتيه رأيه، وكتب أبو سعيد إلى الأفشين بصحة خبر صالح، فوعد الأفشين صالحا وأحسن إليه ثم كتب الأفشين إلى بغا أن يظهر أنه يريد الرحيل، ويشد المال على الإبل ويقطرها، ويسير متوجها من أردبيل، كأنه يريد برزند، فإذا صار إلى مسلحة النهر، أو سار شبيها بفرسخين، احتبس القطار حتى يجوز من صحب المال إلى برزند، فإذا جازت القافلة رجع بالمال إلى أردبيل ففعل ذلك بغا، وسارت القافلة حتى نزلت النهر، وانصرف جواسيس بابك اليه يعلمونه ان المال قد حمل، وعاينوه محمولا حتى صار إلى النهر، ورجع بغا بالمال إلى أردبيل، وركب الأفشين في اليوم الذي وعد فيه بغا عند العصر من برزند، فوافى خش مع غروب الشمس، فنزل معسكرا خارج خندق أبي سعيد، فلما أصبح ركب في سر، لم يضرب طبلا ولا نشر علما، وأمر أن يلف الأعلام، وأمر الناس بالسكوت، وجد في السير، ورحلت القافلة التي كانت توجهت في ذلك اليوم من النهر إلى ناحية الهيثم الغنوي، ورحل الأفشين

(9/14)


من خش يريد ناحية الهيثم ليصادفه في الطريق، ولم يعلم الهيثم بمن كان معه، فرحل بمن كان معه من القافلة يريد بها النهر.
وتعبأ بابك في خيله ورجاله وعساكره، وصار على طريق النهر، وهو يظن ان المال موافيه، وخرج صاحب النهر ببذرق من قبله إلى الهيثم، فخرجت عليه خيل بابك، وهم لا يشكون أن المال معه، فقاتلهم صاحب النهر، فقتلوه وقتلوا من كان معه من الجند والسابلة، وأخذوا جميع ما كان معهم من المتاع وغيره، وعلموا أن المال قد فاتهم، وأخذوا علمه، وأخذوا لباس أهل النهر ودراريعهم وطراداتهم وخفاتينهم فلبسوها، وتنكروا ليأخذوا الهيثم الغنوي ومن معه أيضا، ولا يعلمون بخروج الأفشين، وجاءوا كأنهم أصحاب النهر، فلما جاءوا لم يعرفوا الموضع الذي كان يقف فيه علم صاحب النهر، فوقفوا في غير موضع صاحب النهر، وجاء الهيثم فوقف في موقفه، فأنكر ما رأى، فوجه ابن عم له، فقال له: اذهب إلى هذا البغيض، فقل له: لأي شيء وقوفك؟ فجاء ابن عم الهيثم، فلما رأى القوم أنكرهم لما دنا منهم، فرجع إلى الهيثم، فقال له: إن هؤلاء القوم لست أعرفهم، فقال له الهيثم: أخزاك الله! ما أجبنك! ووجه خمسة فرسان من قبله، فلما جاءوا وقربوا من بابك، خرج من الخرمية رجلان فتلقوهما وأنكروهما، وأعلموهما أنهم قد عرفوهما، ورجعوا إلى الهيثم ركضا، فقالوا: إن الكافر قد قتل علويه وأصحابه، وأخذوا أعلامهم ولباسهم، فرحل هيثم منصرفا، فأتى القافلة التي جاء بها معه، وأمرهم أن يركضوا ويرجعوا، لئلا يؤخذوا، ووقف هو في أصحابه، يسير بهم قليلا قليلا، ويقف بهم قليلا، ليشغل الخرمية عن القافلة، وصار شبيها بالحامية لهم، حتى وصلت القافلة إلى الحصن الذي يكون فيه الهيثم- وهو أرشق- وقال لأصحابه: من يذهب منكم إلى الأمير وإلى أبي سعيد فيعلمهما وله عشرة آلاف درهم وفرس بدل فرسه أن نفق فرسه فله مثل فرسه على مكانه؟
فتوجه رجلان من أصحابه على فرسين فارهين يركضان، ودخل الهيثم الحصن، وخرج بابك فيمن معه، فنزل بالحصن، ووضع له كرسي وجلس على شرف

(9/15)


بحيال الحصن، وأرسل إلى الهيثم: خل عن الحصن وانصرف حتى أهدمه.
فأبى الهيثم وحاربه وكان مع الهيثم في الحصن ستمائه راجل وأربعمائة فارس، وله خندق حصين فقاتله، وقعد بابك فيمن معه، ووضع الخمر بين يديه ليشربها، والحرب مشتبكة كعادته، ولقي الفارسان الأفشين على أقل من فرسخ من أرشق، فساعة نظر إليهما من بعيد قال لصاحب مقدمته: أرى فارسين يركضان ركضا شديدا، ثم قال: اضربوا الطبل، وانشروا الأعلام، واركضوا نحو الفارسين ففعل أصحابه ذلك، وأسرعوا السير، وقال لهم:
صيحوا بهما: لبيك لبيك! فلم يزل الناس في طلق واحد متراكضين، يكسر بعضهم بعضا حتى لحقوا بابك، وهو جالس، فلم يتدارك أن يتحول ويركب حتى وافته الخيل والناس، واشتبكت الحرب، فلم يفلت من رجالة بابك أحد، وأفلت هو في نفر يسير، ودخل موقان، وقد تقطع عنه أصحابه، وأقام الأفشين في ذلك الموضع، وبات ليلته، ثم رجع إلى معسكره ببرزند، فأقام بابك بموقان أياما ثم أنه بعث إلى البذ، فجاءه في الليل عسكر فيه رجالة، فرحل بهم من موقان حتى دخل البذ، فلم يزل الأفشين معسكرا ببرزند، فلما كان في بعض الأيام مرت به قافلة من خش إلى برزند، ومعها رجل من قبل أبي سعيد يسمى صالح آب كش- تفسيره السقاء- فخرج عليه أصبهبذ بابك، فأخذ القافلة، وقتل من فيها، وقتل من كان مع صالح، وأفلت صالح بلا خف مع من أفلت، وقتل جميع أهل القافلة، وانتهب متاعهم، فقحط عسكر الأفشين من أجل تلك القافلة التي أخذت من الآب كش، وذلك أنها كانت تحمل الميرة، فكتب الأفشين إلى صاحب المراغة يأمره بحمل الميرة وتعجليها عليه، فإن الناس قد قحطوا وجاعوا، فوجه إليه صاحب المراغة بقافلة ضخمة، فيها قريب من ألف ثور سوى الحمر والدواب وغير ذلك، تحمل الميرة، ومعها جند يبذرقونها، فخرجت عليهم أيضا سرية لبابك، كان عليها طرخان- أو آذين- فاستباحوها عن آخرها بجميع ما فيها، وأصاب الناس ضيق شديد، فكتب الأفشين إلى صاحب السيروان

(9/16)


أن يحمل إليه طعاما، فحمل إليه طعاما كثيرا، وأغاث الناس في تلك السنة، وقدم بغا على الافشين بمال ورجال
. ذكر الخبر عن خروج المعتصم الى القاطول
وفي هذه السنة خرج المعتصم إلى القاطول، وذلك في ذي القعدة منها.
ذكر الخبر عن سبب خروجه إليها:
ذكر عن أبي الوزير أحمد بن خالد، أنه قال: بعثني المعتصم في سنة تسع عشرة ومائتين، وقال لي: يا أحمد، اشتر لي بناحية سامرا موضعا أبني فيه مدينة، فإني أتخوف أن يصيح هؤلاء الخرمية صيحة، فيقتلوا غلماني، حتى أكون فوقهم، فإن رابني منهم ريب أتيتهم في البر والبحر، حتى آتي عليهم وقال لي: خذ مائة ألف دينار، قال: قلت: آخذ خمسة آلاف دينار، فكلما احتجت إلى زيادة بعثت إليك فاستزدت؟ قال:
نعم، فأتيت الموضع، فاشتريت سامرا بخمسمائة درهم من النصارى أصحاب الدير، واشتريت موضع البستان الخاقاني بخمسة آلاف درهم، واشتريت عدة مواضع حتى أحكمت ما أردت، ثم انحدرت فأتيته بالصكاك، فعزم على الخروج إليها في سنة عشرين ومائتين، فخرج حتى إذا قارب القاطول، ضربت له فيه القباب والمضارب، وضرب الناس الأخبية، ثم لم يزل يتقدم، وتضرب له القباب حتى وضع البناء بسامرا في سنة إحدى وعشرين ومائتين.
فذكر عن أبي الحسن بن أبي عباد الكاتب، أن مسرورا الخادم الكبير، قال: سألني المعتصم: أين كان الرشيد يتنزه إذا ضجر من المقام ببغداد؟
قال: قلت له: بالقاطول، وقد كان بنى هناك مدينة آثارها وسورها قائم، وقد كان خاف من الجند ما خاف المعتصم، فلما وثب أهل الشام بالشام وعصوا، خرج الرشيد إلى الرقة فأقام بها، وبقيت مدينة القاطول لم تستتم، ولما خرج المعتصم إلى القاطول استخلف ببغداد ابنه هارون الواثق

(9/17)


وقد حدثني جعفر بن محمد بن بوازة الفراء، أن سبب خروج المعتصم إلى القاطول، كان أن غلمانه الأتراك كانوا لا يزالون يجدون الواحد بعد الواحد منهم قتيلا في أرباضها، وذلك أنهم كانوا عجما جفاه يركبون الدواب، فيتراكضون في طرق بغداد وشوارعها، فيصدمون الرجل والمرأة ويطئون الصبي، فيأخذهم الأبناء فينكسونهم عن دوابهم ويجرحون بعضهم، فربما هلك من الجراح بعضهم، فشكت الأتراك ذلك إلى المعتصم، وتأذت بهم العامة، فذكر أنه رأى المعتصم راكبا منصرفا من المصلى في يوم عيد أضحى أو فطر، فلما صار في مربعة الحرشى، نظر إلى شيخ قد قام إليه، فقال له: يا أبا إسحاق، قال:
فابتدره الجند ليضربوه، فأشار إليهم المعتصم فكفهم عنه، فقال للشيخ:
مالك! قال: لا جزاك الله عن الجوار خيرا! جاورتنا وجئت بهؤلاء العلوج فأسكنتهم بين أظهرنا، فأيتمت بهم صبياننا، وأرملت بهم نسواننا، وقتلت بهم رجالنا! والمعتصم يسمع ذلك كله، قال: ثم دخل داره فلم ير راكبا إلى السنة القابلة في مثل ذلك اليوم، فلما كان في العام المقبل في مثل ذلك اليوم خرج فصلى بالناس العيد، ثم لم يرجع إلى منزله ببغداد، ولكنه صرف وجه دابته إلى ناحية القاطول، وخرج من بغداد ولم يرجع إليها
. ذكر الخبر عن غضب المعتصم على الفضل بن مروان
وفي هذه السنة غضب المعتصم على الفضل بن مروان وحبسه ذكر الخبر عن سبب غضبه عليه وحبسه إياه وسبب اتصاله بالمعتصم:
ذكر أن الفضل بن مروان- وهو رجل من اهل البردان- كان متصلا برجل من العمال يكتب له، وكان حسن الخط، ثم صار مع كاتب كان للمعتصم يقال له يحيى الجرمقانى، وكان الفضل بن مروان يخط بين يديه، فلما مات الجرمقاني صار الفضل في موضعه، وكان يكتب للفضل علي بن

(9/18)


حسان الأنباري، فلم يزل كذلك حتى بلغ المعتصم الحال التي بلغها، والفضل كاتبه، ثم خرج معه إلى معسكر المأمون، ثم خرج معه إلى مصر، فاحتوى على أموال مصر، ثم قدم الفضل قبل موت المأمون بغداد، ينفذ أمور المعتصم، ويكتب على لسانه بما أحب حتى قدم المعتصم خليفة، فصار الفضل صاحب الخلافة، وصارت الدواوين كلها تحت يديه وكنز الأموال، وأقبل أبو إسحاق حين دخل بغداد يأمره بإعطاء المغنى والملهى، فلا ينفذ الفضل ذلك، فثقل على أبي إسحاق.
فحدثني إبراهيم بن جهرويه أن إبراهيم المعروف بالهفتى- وكان مضحكا- امر له المعتصم بمال، وتقدم إلى الفضل بن مروان في إعطائه ذلك، فلم يعطه الفضل ما امر به المعتصم، فبينا الهفتي يوما عند المعتصم، بعد ما بنيت له داره التي ببغداد، واتخذ له فيها بستان، قام المعتصم يتمشى في البستان ينظر إليه وإلى ما فيه من أنواع الرياحين والغروس، ومعه الهفتي، وكان الهفتي يصحب المعتصم قبل أن تفضي الخلافة إليه، فيقول فيما يداعبه: والله لا تفلح أبدا! قال:
وكان الهفتي رجلا مربوعا ذا كدنة، والمعتصم رجلا معرقا خفيف اللحم، فجعل المعتصم يسبق الهفتي في المشي، فإذا تقدمه ولم ير الهفتي معه التفت إليه، فقال له: ما لك لا تمشي! يستعجله المعتصم في المشي ليلحق به، فلما كثر ذلك من أمر المعتصم على الهفتي، قال له الهفتي، مداعبا له: كنت أصلحك الله، أراني أماشي خليفة، ولم أكن أراني أماشي فيجا، والله لا أفلحت! فضحك منها المعتصم، وقال: ويلك! هل بقي من الفلاح شيء لم أدركه! أبعد الخلافة تقول هذا لي! فقال له الهفتي: أتحسب أنك قد أفلحت الآن! إنما لك من الخلافة الاسم، والله ما يجاوز أمرك أذنيك، وإنما الخليفة الفضل بن مروان، الذي يأمر فينفذ أمره من ساعته، فقال له المعتصم:
وأي أمر لي لا ينفذ! فقال له: الهفتي: أمرت لي بكذا وكذا منذ شهرين، فما أعطيت مما أمرت به منذ ذاك حبه!

(9/19)


قال: فاحتجنها على الفضل المعتصم حتى أوقع به.
فقيل: إن أول ما أحدثه في أمره حين تغير له أن صير أحمد بن عمار الخراساني زماما عليه في نفقات الخاصة، ونصر بن منصور بن بسام زماما عليه في الخراج وجميع الأعمال، فلم يزل كذلك، وكان محمد بن عبد الملك الزيات يتولى ما كان أبوه يتولاه للمأمون من عمل المشمس والفساطيط وآلة الجمازات ويكتب على ذلك مما جرى على يدي محمد بن عبد الملك، وكان يلبس إذا حضر الدار دراعة سوداء وسيفا بحمائل، فقال له الفضل بن مروان: إنما أنت تاجر، فما لك وللسواد والسيف! فترك ذلك محمد، فلما تركه أخذه الفضل برفع حسابه إلى دليل بن يعقوب النصراني، فرفعه، فأحسن دليل في أمره، ولم يرزأه شيئا، وعرض عليه محمد هدايا، فأبى دليل أن يقبل منها شيئا، فلما كانت سنة تسع عشرة ومائتين- وقيل سنة عشرين، وذلك عندي خطأ- خرج المعتصم يريد القاطول، ويريد البناء بسامرا، فصرفه كثرة زيادة دجلة، فلم يقدر على الحركة، فانصرف إلى بغداد إلى الشماسية، ثم خرج بعد ذلك، فلما صار بالقاطول غضب على الفضل بن مروان وأهل بيته في صفر، وأمرهم برفع ما جرى على أيديهم، وأخذ الفضل وهو مغضوب عليه في عمل حسابه، فلما فرغ من الحساب لم يناظر فيه، وأمر بحبسه، وأن يحمل إلى منزله ببغداد في شارع الميدان، وحبس أصحابه، وصير مكانه محمد بن عبد الملك الزيات، فحبس دليلا، ونفى الفضل إلى قرية في طريق الموصل يقال لها السن، فلم يزل بها مقيما، فصار محمد بن عبد الملك وزيرا كاتبا، وجرى على يديه عامة ما بنى المعتصم بسامرا من الجانبين الشرقي والغربي، ولم يزل في مرتبته حتى استخلف المتوكل، فقتل محمد بن عبد الملك.
وذكر أن المعتصم لما استوزر الفضل بن مروان حل من قبله المحل الذي لم يكن أحد يطمع في ملاحظته، فضلا عن منازعته ولا في الاعتراض في أمره

(9/20)


ونهيه، وإرادته وحكمه، فكانت هذه صفته ومقداره، حتى حملته الدالة، وحركته الحرمة على خلافه في بعض ما كان يأمره به، ومنعه ما كان يحتاج إليه من الأموال في مهم أموره، فذكر عن ابن ابى داود أنه قال: كنت أحضر مجلس المعتصم، فكثيرا ما كنت أسمعه يقول للفضل بن مروان: احمل إلى كذا وكذا من المال، فيقول: ما عندي، فيقول: فاحتلها من وجه من الوجوه، فيقول: ومن أين أحتالها! ومن يعطيني هذا القدر من المال؟ وعند من أجده؟ فكان ذلك يسوءه وأعرفه في وجهه، فلما كثر هذا من فعله ركبت إليه يوما فقلت له مستخليا به: يا أبا العباس، إن الناس يدخلون بيني وبينك بما أكره وتكره، وأنت أمرؤ قد عرفت أخلاقك، وقد عرفها الداخلون بيننا، فإذا حركت فيك بحق فاجعله باطلا، وعلى ذلك فما أدع نصيحتك وأداء ما يجب علي في الحق لك، وقد أراك كثيرا ما ترد على أمير المؤمنين أجوبة غليظة ترمضه، وتقدح في قلبه، والسلطان لا يحتمل هذا لابنه، لا سيما إذا كثر ذلك وغلظ قال: وما ذاك يا أبا عبد الله؟ قلت: أسمعه كثيرا ما يقول لك: نحتاج إلى كذا من المال لنصرفه في وجه كذا، فتقول: ومن يعطيني هذا! وهذا ما لا يحتمله الخلفاء، قال: فما أصنع إذا طلب مني ما ليس عندي؟ قلت:
تصنع أن تقول: يا أمير المؤمنين، نحتال في ذاك بحيلة، فتدفع عنك أياما إلى أن يتهيأ، وتحمل إليه بعض ما يطلب وتسوفه بالباقي، قال: نعم أفعل وأصير إلى ما أشرت به قال: فو الله لكأني كنت أغريه بالمنع، فكان إذا عاوده بمثل ذلك من القول، عاد إلى مثل ما يكره من الجواب قال: فلما كثر ذلك عليه، دخل يوما إليه وبين يديه حزمة نرجس غض، فأخذها المعتصم فهزها، ثم قال: حياك الله يا أبا العباس! فأخذها الفضل بيمينه، وسل

(9/21)


المعتصم خاتمه من أصبعه بيساره، وقال له بكلام خفي: أعطني خاتمي، فانتزعه من يده، ووضعه في يد ابن عبد الملك.
وحج بالناس في هذه السنة صالح بن العباس بن محمد.

(9/22)


ثم دخلت

سنة إحدى وعشرين ومائتين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك الوقعة التي كانت بين بابك وبغا الكبير من ناحيه هشتاد سر، فهزم بغا واستبيح عسكره.

ذكر الخبر عن وقعه الافشين مع بابك في هذه السنه
وفيها واقع الأفشين بابك وهزمه.
ذكر الخبر عن هذه الوقعة وكيف كان السبب فيها:
ذكر أن بغا الكبير قدم بالمال الذي قد مضى ذكره، وأن المعتصم وجهه معه إلى الأفشين عطاء للجند الذي كان معه ولنفقات الأفشين، على الأفشين، وبالرجال الذين توجهوا معه إليه، فأعطى الأفشين أصحابه، وتجهز بعد النيروز، ووجه بغا في عسكر ليدور حول هشتاد سر، وينزل في خندق محمد بن حميد ويحفره ويحكمه وينزله فتوجه بغا إلى خندق محمد بن حميد، وصار إليه، ورحل الأفشين من برزند، ورحل أبو سعيد من خش يريد بابك، فتوافوا بموضع يقال له دروذ، فاحتفر الأفشين بها خندقا، وبنى حوله سورا، ونزل هو وأبو سعيد في الخندق مع من كان صار إليه من المطوعة، فكان بينه وبين البذ ستة أميال ثم إن بغا تجهز، وحمل معه الزاد من غير أن يكون الأفشين كتب إليه ولا أمره بذلك، فدار حول هشتاد سر حتى دخل إلى قرية البذ، فنزل في وسطها، وأقام بها يوما واحدا، ثم وجه الف رجل في علافه له، فخرج عسكر من عساكر بابك، فاستباح العلافة، وقتل جميع من قاتله منهم، وأسر من قدر عليه، وأخذ بعض الأسرى، فأرسل

(9/23)


منهم رجلين مما يلي الأفشين، وقال لهما: اذهبا إلى الأفشين، وأعلماه ما نزل بأصحابكم فأشرف الرجلان، فنظر إليهما صاحب الكوهبانية، فحرك العلم، فصاح أهل العسكر: السلاح السلاح! وركبوا يريدون البذ، فتلقاهم الرجلان عريانين، فأخذهما صاحب المقدمة، فمضى بهما إلى الأفشين، فأخبراه بقضيتهما، فقال: فعل شيئا من غير أن نأمره ورجع بغا إلى خندق محمد بن حميد شبيها بالمنهزم، وكتب إلى الأفشين يعلمه ذلك، ويسأله المدد، ويعلمه أن العسكر مفلول، فوجه إليه الأفشين أخاه الفضل بن كاوس وأحمد بن الخليل بن هشام وابن جوشن وجناحا الأعور السكري وصاحب شرطة الحسن بن سهل- وأحد الأخوين قرابة الفضل بن سهل- فداروا حول هشتاد سر، فسر أهل عسكره بهم، ثم كتب الأفشين إلى بغا يعلمه أنه يغزو بابك في يوم سماه له، ويأمره أن يغزوه في ذلك اليوم بعينه، ليحاربه من كلا الوجهين، فخرج الأفشين في ذلك اليوم من دروذ يريد بابك، وخرج بغا من خندق محمد بن حميد، فصعد الى هشتاد سر، فعسكر على دعوة بجنب قبر محمد بن حميد، فهاجت ريح باردة ومطر شديد، فلم يكن للناس عليها صبر لشدة البرد وشدة الريح، فانصرف بغا إلى عسكره، وواقعهم الأفشين من الغد، وقد رجع بغا إلى عسكره، فهزمه الأفشين، وأخذ عسكره وخيمته وامرأة كانت معه في العسكر ونزل الأفشين في معسكر بابك.
ثم تجهز بغا من الغد، وصعد هشتاد سر، فأصاب العسكر الذي كان مقيما بإزائه بهشتادسر، قد انصرف إلى بابك، ورحل بغا إلى موضعه، فأصاب خرثيا وقماشا، وانحدر من هشتاد سر يريد البذ، فأصاب رجلا وغلاما نائمين فأخذهما داود سياه- وكان على مقدمته- فساءلهما، فذكرا أن رسول بابك أتاهم في الليلة التي انهزم فيها بابك، فأمرهم أن يوافوه بالبذ، فكان الرجل والغلام سكرانين، فذهب بهما النوم، فلا يعرفان من الخبر غير

(9/24)


هذا، وكان ذلك قبل صلاة العصر فبعث بغا الى داود سياه: قد توسطنا الموضع الذي نعرفه- يعني الذى كنا فيه في المرة الأولى- وهذا وقت المساء، وقد تعب الرجالة، فانظر جبلا حصينا يسع عسكرنا حتى نعسكر فيه ليلتنا هذه فالتمس داود سياه ذلك، فصعد إلى بعض الجبال، فالتمس أعلاه فأشرف، فراى اعلام الافشين ومعسكره شبه الخيال فقال: هذا موضعنا إلى غدوة، وننحدر من الغد إلى الكافر إن شاء الله فجاءهم في تلك الليلة سحاب وبرد ومطر وثلج كثير، فلم يقدر أحد حين أصبحوا أن ينزل من الجبل يأخذ ماء، ولا يسقي دابته من شدة البرد وكثرة الثلج، وكأنهم كانوا في ليل من شدة الظلمة والضباب فلما كان اليوم الثالث قال الناس لبغا:
قد فني ما معنا من الزاد، وقد اضربنا البرد، فانزل على أي حالة كانت، إما راجعين وإما إلى الكافر وكان في أيام الضباب فبيت بابك الافشين ونقض عسكره، وانصرف الأفشين عنه إلى معسكره، فضرب بغا بالطبل، وانحدر يريد البذ حتى صار إلى البطن، فنظر إلى السماء منجلية، والدنيا طيبة، غير رأس الجبل الذي كان عليه بغا، فعبى بغا أصحابه ميمنة وميسرة ومقدمة، وتقدم يريد البذ، وهو لا يشك أن الأفشين في موضع معسكره، فمضى حتى صار بلزق جبل البذ، ولم يبق بينه وبين ان يشرف على ابيات البذ إلا صعود قدر نصف ميل، وكان على مقدمته جماعة فيهم غلام لابن البعيث، له قرابة بالبذ، فلقيتهم طلائع لبابك، فعرف بعضهم الغلام، فقال له: فلان، فقال: من هذا هاهنا؟ فسمي له من كان معه من أهل بيته، فقال: ادن حتى أكلمك، فدنا الغلام منه، فقال له: ارجع وقل لمن تعني به يتنحى، فإنا قد بيتنا الأفشين، وانهزم إلى خندقه وقد هيأنا لكم عسكرين، فعجل الانصراف لعلك أن تفلت فرجع الغلام فأخبر ابن البعيث بذلك، وسمي له الرجل، فعرفه ابن البعيث، فأخبر ابن البعيث بغا بذلك، فوقف بغا شاور أصحابه، فقال بعضهم: هذا باطل، هذه

(9/25)


خدعة ليس من هذا شيء، فقال بعض الكوهبانيين: إن هذا رأس جبل أعرفه، من صعد إلى رأسه نظر إلى عسكر الأفشين فصعد بغا والفضل بن كاوس وجماعة منهم ممن نشط، فأشرفوا على الموضع، فلم يروا فيه عسكر الأفشين فتيقنوا أنه قد مضى، وتشاوروا، فرأوا أن ينصرف الناس راجعين في صدر النهار قبل أن يجنهم الليل، فأمر بغا داود سياه بالانصراف، فتقدم داود وجد في السير، ولم يقصد الطريق الذي كان دخل منه الى هشتاد سر مخافة المضايق والعقاب، وأخذ الطريق الذي كان دخل منه في المرة الأولى، يدور حول هشتاد سر، وليس فيه مضيق إلا في موضع واحد فسار بالناس، وبعث بالرجالة، فطرحوا رماحهم وأسلحتهم في الطريق، ودخلتهم وحشة شديدة ورعب، وصار بغا والفضل بن كاوس وجماعة القواد في الساقة، وظهرت طلائع بابك، فكلما نزل هؤلاء جبلا صعدته طلائع بابك، يتراءون لهم مرة ويغيبون عنهم مرة، وهم في ذلك يقفون آثارهم، وهم قدر عشرة فرسان، حتى كان بين الصلاتين: الظهر والعصر، فنزل بغا ليتوضأ ويصلي، فتدانت منهم طلائع بابك، فبرزوا لهم، وصلى بغا، ووقف في وجوههم، فوقفوا حين رأوه، فتخوف بغا على عسكره أن يواقعه الطلائع من ناحية، ويدور عليهم في بعض الجبال والمضايق.
قوم آخرون، فشاور من حضره وقال: لست آمن أن يكونوا جعلوا هؤلاء مشغلة، يحبسوننا عن المسير، ويقدمون أصحابهم ليأخذوا على أصحابنا المضايق فقال له الفضل بن كاوس: ليس هؤلاء أصحاب نهار، وإنما هم أصحاب ليل، وإنما يتخوف على أصحابنا من الليل، فوجه إلى داود سياه ليسرع السير ولا ينزل، ولو صار إلى نصف الليل حتى يجاوز المضيق، ونقف نحن هاهنا، فإن هؤلاء ما داموا يروننا في وجوههم لا يسيرون، فنماطلهم وندافعهم قليلا قليلا حتى تجيء الظلمة، فإذا جاءت الظلمة لم يعرفوا لنا موضعا، وأصحابنا يسيرون فينفذون أولا فأولا، فإن أخذ علينا نحن المضيق تخلصنا من طريق هشتاد سر أو من طريق آخر

(9/26)


وأشار غيره على بغا فقال: إن العسكر قد تقطع، وليس يدرك أوله آخره، والناس قد رموا بسلاحهم، وقد بقي المال والسلاح على البغال، وليس معه أحد، ولا نأمن أن يخرج عليه من يأخذ المال والأسير- وكان ابن جويدان معهم أسيرا أرادوا أن يفادوا به كاتبا لعبد الرحمن بن حبيب، أسره بابك- فعزم بغا على أن يعسكر بالناس حين ذكر له المال والسلاح والأسير، فوجه الى داود سياه: حيثما رأيت جبلا حصينا، فعسكر عليه.
فعدل داود إلى جبل مؤرب، لم يكن للناس موضع يقعدون فيه من شدة هبوطه، فعسكر عليه، فضرب مضربا لبغا على طرف الجبل في موضع شبيه بالحائط، ليس فيه مسلك، وجاء بغا فنزل، وأنزل الناس وقد تعبوا وكلوا، وفنيت أزوادهم، فباتوا على تعبئة وتحارس من ناحية المصعد، فجاءهم العدو من الناحية الأخرى، فتعلقوا بالجبل حتى صاروا إلى مضرب بغا، فكبسوا المضرب، وبيتوا العسكر، وخرج بغا راجلا حتى نجا، وجرح الفضل بن كاوس، وقتل جناح السكري، وقتل ابن جوشن، وقتل أحد الأخوين قرابه الفضل ابن سهل، وخرج بغا من العسكر راجلا، فوجد دابة فركبها، ومر بابن البعيث فأصعده على هشتاد سر، حتى انحدر به على عسكر محمد بن حميد، فوافاه في جوف الليل، وأخذ الخرمية المال والسلاح والأسير ابن جويدان، ولم يتبعوا الناس، ومر الناس منهزمين منقطعين حتى وافوا بغا، وهو في خندق محمد بن حميد، فأقام بغا في خندق محمد بن حميد خمسة عشر يوما، فأتاه كتاب الأفشين يأمره بالرجوع إلى المراغة، وأن يرد إليه المدد الذي كان امده به، فمضى بغا إلى المراغة، وانصرف الفضل بن كاوس وجميع من كان جاء معه من معسكر الأفشين إلى الأفشين، وفرق الافشين الناس في مشاتيهم تلك السنة، حتى جاء الربيع من السنة المقبلة.

(9/27)


خبر مقتل طرخان قائد بابك
وفي هذه السنة قتل قائد لبابك كان يقال له طرخان.
ذكر سبب قتله:
ذكر أن طرخان هذا كان عظيم المنزلة عند بابك، وكان أحد قواده، فلما دخل الشتاء من هذه السنة، استأذن بابك في الإذن له أن يشتو في قرية له بناحية المراغة- وكان الأفشين يرصده، ويحب الظفر به، لمكانه من بابك- فأذن له بابك، فصار إلى قريته ليشتو بها بناحيه هشتاد سر، فكتب الأفشين إلى ترك مولى إسحاق بن ابراهيم بن مصعب وهو بالمراغة، أن يسري إلى تلك القرية- ووصفها له- حتى يقتل طرخان، أو يبعث به إليه أسيرا فأسرى ترك إلى طرخان، فصار إليه في جوف الليل، فقتل طرخان وبعث برأسه الى الافشين وفي هذه السنه قدم صول أرتكين وأهل بلاده في قيود فنزعت قيودهم، وحمل على الدواب منهم نحو من مائتي رجل.
وفيها غضب الأفشين على رجاء الحضاري وبعث به مقيدا.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن داود بْن عيسى بْن موسى بْن محمد بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس، وهو والي مكة

(9/28)


ثم دخلت

سنة اثنتين وعشرين ومائتين

ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث
فمن ذلك ما كان من توجيه المعتصم جعفر بن دينار الخياط إلى الأفشين مددا له، ثم إتباعه بعد ذلك بإيتاخ وتوجيهه معه ثلاثين ألف ألف درهم عطاء للجند وللنفقات
. ذكر خبر الوقعه بين اصحاب الافشين وآذين قائد بابك
وفيها كانت وقعة بين أصحاب الأفشين وقائد لبابك يقال له آذين.
ذكر الخبر عن هذه الوقعة وما كان سببها:
ذكر أن الشتاء لما انقضى من سنة إحدى وعشرين ومائتين وجاء الربيع، ودخلت سنة اثنتين وعشرين ومائتين، ووجه المعتصم الى الافشين ما وجهه إليه من المدد والمال، فوافاه ذلك كله وهو ببرزند، سلم إيتاخ إلى الأفشين المال والرجال الذين كانوا معه وانصرف، وأقام جعفر الخياط مع الأفشين مدة، ثم رحل الأفشين عند إمكان الزمان، فصار إلى موضع يقال له كلان روذ، فاحتفر فيه خندقا، وكتب إلى أبي سعيد، فرحل من برزند إلى إزائه على طرف رستاق كلان روذ، وتفسيره: نهر كبير، بينهما قدر ثلاثة أميال، فأقام معسكرا في خندق، فأقام بكلان روذ خمسة أيام، فأتاه من أخبره أن قائدا من قواد بابك يدعى آذين، قد عسكر بإزاء الأفشين، وأنه قد صير عياله في جبل يشرف على روذ الروذ، وقال: لا أتحصن من اليهود- يعني المسلمين- ولا أدخل عيالي حصنا، وذلك أن بابك قال له: أدخل عيالك الحصن، قال: أنا أتحصن من اليهود! والله لا أدخلتهم حصنا أبدا، فنقلهم إلى هذا الجبل، فوجه الأفشين ظفر بن العلاء السعدي والحسين بن خالد المدائني من قواد أبي سعيد في جماعة من الفرسان والكوهبانية،

(9/29)


فساروا ليلتهم من كلان روذ، حتى انحدرا في مضيق لا يمر فيه راكب واحد إلا بجهد، فأكثر الناس قادوا دوابهم، وانسلوا رجلا خلف رجل، فأمرهم أن يصيروا قبل طلوع الفجر على روذ الروذ، فيعبر الكوهبانية رجالة، لأنه لا يمكن الفارس أن يتحرك هناك، ويتسلقوا الجبل، فصاروا على روذ الروذ قبل السحر، ثم امر من اطاق من الفرسان أن يترجل وينزع ثيابه، فترجل عامة الفرسان، وعبروا وعبر معهم الكوهبانية جميعا، وصعدوا الجبل، فأخذوا عيال آذين وبعض ولده، وعبروا بهم، وبلغ آذين الخبر بأخذ عياله، وكان الأفشين عند توجه هؤلاء الرجالة ودخولهم المضيق يخاف أن يؤخذ عليهم المضيق، فأمر الكوهبانية أن يكون معهم أعلام، وأن يكونوا على رءوس الجبال الشواهق في المواضع التي يشرفون منها على ظفر بن العلاء وأصحابه، فإن رأوا أحدا يخافونه حركوا الأعلام، فبات الكوهبانية على رءوس الجبال، فلما رجع ابن العلاء والحسين بن خالد بمن أخذوا من عيال آذين، وصاروا في بعض الطريق قبل أن يصيروا إلى المضيق، انحدر عليهم رجالة آذين فحاربوهم قبل أن يدخلوا المضيق، فوقع بينهم قتلى، واستنقذوا بعض النساء ونظر إليهم الكوهبانية الذين رتبهم الأفشين، وكان آذين قد وجه عسكرين، عسكرا يقاتلهم، وعسكرا يأخذ عليهم المضيق، فلما حركوا الأعلام وجه الأفشين مظفر بن كيدر في كردوس من أصحابه، فأسرع الركض.
ووجه أبا سعيد خلف المظفر، وأتبعهما ببخاراخذاه، فوافوا، فلما نظر إليهم رجالة آذين الذين كانوا على المضيق انحدروا عن المضيق، وانضموا إلى أصحابهم، ونجا ظفر بن العلاء والحسين بن خالد ومن معهما من أصحابهما، ولم يقتل منهم إلا من قتل في الوقعة الأولى، وجاءوا جميعا إلى عسكر الافشين، ومعهم النساء اللواتي اخذوهن.

(9/30)


ذكر خبر فتح البذ مدينه بابك
وفي هذه السنة فتحت البذ مدينة بابك، ودخلها المسلمون، واستباحوها، وذلك في يوم الجمعة لعشر بقين من شهر رمضان في هذه السنة.
ذكر الخبر عن أمرها وكيف فتحت والسبب في ذلك:
ذكر أن الأفشين لما عزم على الدنو من البذ والارتحال من كلان روذ جعل يزحلف قليلا قليلا- على خلاف زحفه قبل ذلك- إلى المنازل التي كان ينزلها، فكان يتقدم الأميال الأربعة، فيعسكر في موضع على طريق المضيق الذي ينحدر إلى روذ الروذ، ولا يحفر خندقا، ولكنه يقيم معسكرا في الحسك، وكتب اليه المعتصم يأمره أن يجعل الناس نوائب كراديس تقف على ظهور الخيل، كما يدور العسكر بالليل، فبعض القوم معسكرون وبعض وقوف على ظهور دوابهم على ميل كما يدور العسكر بالليل والنهار مخافة البيات، كي إن دهمهم امر يكون الناس على تعبئة والرجالة في العسكر، فضج الناس من التعب، وقالوا: كم نقعدها هنا في المضيق ونحن قعود في الصحراء، وبيننا وبين العدو اربعه فراسخ، ونحن نفعل فعلا، كان العدو بازائنا! قد استحينا من الناس والجواسيس الذين يمرون بيننا وبين العدو اربعه فراسخ، ونحن قد متنا من الفزع، أقدم بنا، فإما لنا وإما علينا، فقال: أنا والله أعلم أن ما تقولون حق، ولكن أمير المؤمنين أمرني بهذا ولا أجد منه بدا.
فلم يلبث أن جاءه كتاب المعتصم يأمره أن يتحرى بدراجه الليل على حسب ما كان، فلم يزل كذلك أياما، ثم انحدر في خاصته حتى نزل إلى روذ الروذ، وتقدم حتى شارف الموضع الذي به الركوة التي واقعه عليها بابك في العام الماضي، فنظر إليها، ووجد عليها كردوسا من الخرمية، فلم يحاربوه ولم يحاربهم، فقال بعض العلوج: ما لكم تجيئون وتفرون! أما تستحيون! فأمر الأفشين ألا يجيئوهم ولا يبرز إليهم أحد، فلم يزل مواقفهم إلى قريب

(9/31)


من الظهر، ثم رجع إلى عسكره، فمكث فيه يومين، ثم انحدر أيضا في أكثر مما كان انحدر في المرة الأولى، فأمر أبا سعيد أن يذهب فيواقفهم على حسب ما كان واقفهم في المرة الأولى، ولا يحركهم ولا يهجم عليهم.
وقام الأفشين بروذ الروذ، وأمر الكوهبانية أن يصعدوا إلى رءوس الجبال التي يظنون أنها حصينة، فيتراءوا له فيها، ويختاروا له في رءوس الجبال مواضع يتحصن فيها الرجالة، فاختاروا له ثلاثة أجبل، قد كانت عليها حصون فيما مضى، فخربت فعرفها، ثم بعث إلى أبي سعيد، فصرفه يومه ذلك، فلما كان بعد يومين انحدر من معسكره الى روذ الروذ، وأخذ معه الكلغرية- وهم الفعلة- وحملوا معهم شكاء الماء والكعك، فلما صاروا إلى روذ الروذ وجه أبا سعيد، وأمره أن يواقفهم أيضا على حسب ما كان أمره به في اليوم الأول، وأمر الفعلة بنقل الحجارة وتحصين الطرق التي تسلك إلى تلك الثلاثة الأجبل، حتى صارت شبه الحصون، وأمر فاحتفر على كل طريق وراء تلك الحجارة إلى المصعد خندقا، فلم يترك مسلكا إلى جبل منها إلا مسلكا واحدا ثم أمر أبا سعيد بالانصراف، فانصرف، ورجع الأفشين إلى معسكره قال: فلما كان في اليوم الثامن من الشهر، واستحكم الحصر، دفع إلى الرجالة كعكا وسويقا، ودفع إلى الفرسان الزاد والشعير، ووكل بمعسكره ذلك من يحفظه وانحدروا، وأمر الرجالة أن يصعدوا إلى رءوس تلك الجبال، وأن يصعدوا معهم بالماء، وبجميع ما يحتاجون إليه، ففعلوا ذلك، وعسكر ناحية، ووجه أبا سعيد ليواقف القوم على حسب ما كان يواقفهم، وأمر الناس بالنزول في سلاحهم، والا يأخذ الفرسان سروج دوابهم ثم خط الخندق، وأمر الفعلة بالعمل فيه، ووكل بهم من يستحثهم، ونزل هو والفرسان، فوقفوا تحت الشجر في ظل يرعون دوابهم، فلما صلى العصر، أمر الفعلة بالصعود إلى رءوس الجبال التي حصنها مع الرجالة، وأمر الرجالة أن

(9/32)


يتحارسوا ولا يناموا، ويدعوا الفعلة فوق الجبال ينامون، وأمر الفرسان بالركوب عند اصفرار الشمس، فصيرهم كراديس وقفها حيالهم، بين كل كردوس وكردوس قدر رمية سهم، وتقدم إلى جميع الكراديس الا يلتفتن كل واحد منكم إلى الآخر، ليحفظ كل واحد منكم ما يليه، فإن سمعتم هدة فلا يلتفتن أحد منكم إلى أحد، وكل كردوس منكم قائم بما يليه، فإنه لا بهدة يأخذ فلم يزل الكراديس وقوفا على ظهور دوابهم إلى الصباح، والرجالة فوق رءوس الجبال يتحارسون وتقدم إلى الرجالة: متى ما أحسوا في الليل بأحد فلا يكترثوا، وليلزم كل قوم منهم المواضع التي لهم، وليحفظوا جبلهم وخندقهم فلا يلتفتن أحد إلى أحد فلم يزالوا كذلك إلى الصباح، ثم أمر من يتعاهد الفرسان والرجالة بالليل، فينظر إلى حالتهم، فلبثوا في حفر الخندق عشرة أيام، ودخله اليوم العاشر فقسمه بين الناس، وأمر القواد أن يبعثوا إلى أثقالهم وأثقال أصحابهم على الرفق، وأتاه رسول بابك ومعه قثاء وبطيخ وخيار، يعلمه أنه في أيامه هذه في جفاء، إنما يأكل الكعك والسويق هو وأصحابه، وأنه أحب أن يلطفه بذلك فقال الأفشين للرسول: قد عرفت أي شيء أراد أخي بهذا، إنما أراد أن ينظر إلى العسكر، وأنا أحق من قبل بره، وأعطاه شهوته، فقد صدق، أنا في جفاء وقال للرسول: أما أنت فلا بد لك أن تصعد حتى ترى معسكرنا، فقد رأيت ما هاهنا، وترى ما وراءنا أيضا، فأمر بحمله على دابة، وأن يصعد به حتى يرى الخندق، ويرى خندق كلان روذ وخندق برزند، ولينظر الى الخنادق الثلاثة ويتأملها، ولا يخفى عليه منها شيء ليخبر به صاحبه ففعل به ذلك، حتى صار إلى برزند، ثم رده إليه، فأطلقه وقال له: اذهب، فأقرئه مني السلام- وكان من الخرمية الذين يتعرضون لمن يجلب الميرة إلى العسكر- ففعل ذلك مرة أو مرتين، ثم جاءت الخرمية بعد ذلك في ثلاثة كراديس، حتى صاروا قريبا من سور خندق الأفشين يصيحون، فأمر الأفشين الناس ألا ينطق أحد منهم، ففعلوا

(9/33)


ذلك ليلتين أو ثلاث ليال، وجعلوا يركضون دوابهم خلف السور، ففعلوا ذلك غير مرة، فلما أنسوا هيأ لهم الأفشين أربعة كراديس من الفرسان والرجالة، فكانت الرجالة ناشبة، فكمنوا لهم في الأودية، ووضع عليهم العيون، فلما انحدروا في وقتهم الذي كانوا ينحدرون فيه في كل مرة، وصاحوا وجلبوا كعادتهم شدت عليهم الخيل والرجالة الذين رتبوا، فأخذوا عليهم طريقهم.
وأخرج الأفشين إليهم كردوسين من الرجالة في جوف الليل، فأحسوا أن قد أخذت عليهم العقبة، فتفرقوا في عدة طرق، حتى أقبلوا يتسلقون الجبال، فمروا فلم يعودوا إلى ما كانوا يفعلون، ورجع الناس من الطلب مع صلاة الغداة إلى الخندق بروذ الروذ، ولم يلحقوا من الخرمية أحدا.
ثم إن الأفشين كان في كل أسبوع يضرب بالطبول نصف الليل، ويخرج بالشمع والنفاطات إلى باب الخندق، وقد عرف كل إنسان منهم كردوسه، من كان في الميمنة ومن كان في الميسرة، فيخرج الناس فيقفون في مواقفهم ومواضعهم وكان الأفشين يحمل أعلاما سودا كبارا، اثني عشر علما يحملها على البغال، ولم يكن يحملها على الخيل لئلا تزعزع، يحملها على اثنى عشر بغلا، وكانت طبوله الكبار واحدا وعشرين طبلا، وكانت الأعلام الصغار نحوا من خمسمائة علم، فيقف أصحابه كل فرق على مرتبتهم من ربع الليل، حتى إذا طلع الفجر ركب الأفشين من مضربه، فيؤذن المؤذن بين يديه ويصلي، ثم يصلي الناس بغلس، ثم يأمر بضرب الطبول، ويسير زحفا وكانت علامته في المسير والوقوف تحريك الطبول وسكونها، لكثرة الناس ومسيرهم في الجبال والأزقة على مصافهم، كلما استقبلوا جبلا صعدوه، وإذا هبطوا إلى واد مضوا فيه، إلا أن يكون جبلا منيعا لا يمكنهم صعوده وهبوطه، فإنهم كانوا ينضمون إلى العساكر، ويرجعون إذا جاءوا إلى الجبل إلى مصافهم ومواضعهم، وكانت علامة المسير ضرب الطبول، فان أراد أن يقف أمسك عن ضرب الطبول، فيقف الناس جميعا من كل ناحية على جبل، أو في واد أو في مكانهم، وكان يسير قليلا قليلا، كلما جاءه كوهباني بخبر وقف

(9/34)


قليلا، وكان يسير هذه الستة الأميال التي بين روذ الروذ، وبين البذ، ما بين طلوع الفجر إلى الضحى الأكبر، فإذا أراد أن يصعد إلى الركوة التي كانت الحرب تكون عليها في العام الماضى، خلف بخاراخذاه على راس العقبه مع الف فارس وستمائه راجل، يحفظون عليه الطريق، لا يخرج أحد من الخرمية، فيأخذ عليه الطريق وكان بابك إذا أحس بالعسكر أنه وارد عليه وجه عسكرا له فيه رجالة إلى واد تحت تلك العقبة التي كان عليها بخاراخذاه، ويكمنون لمن يريد ان يأخذ عليه الطريق سنه 222 وكان الافشين يقف بخارا خذاه يحفظ هذه العقبة التي وجه بابك عسكره إليها ليأخذها على الأفشين، وكان بخاراخذاه يقف بها أبدا، ما دام الأفشين داخل البذ على الركوة، وكان الأفشين يتقدم إلى بخاراخذاه أن يقف على واد فيما بينه وبين البذ شبه الخندق.
وكان يأمر أبا سعيد محمد بن يوسف أن يعبر ذلك الوادي في كردوس من أصحابه، ويأمر جعفرا الخياط أن يقف أيضا في كردوس من أصحابه، ويأمر أحمد بن الخليل فيقف في كردوس آخر، فيصير في جانب ذلك الوادي ثلاثة كراديس في طرف أبياتهم، وكان بابك يخرج عسكرا مع آذين، فيقف على تل بإزاء هؤلاء الثلاثة الكراديس خارجا من البذ لئلا يتقدم أحد من عساكر الأفشين إلى باب البذ وكان الأفشين يقصد إلى باب البذ، ويأمرهم إذا عبروا بالوقوف فقط، وترك المحاربة، وكان بابك إذا أحس بعساكر الأفشين أنها قد تحركت من الخندق تريده فرق أصحابه كمناء، ولم يبق معه إلا نفير يسير، وبلغ ذلك الأفشين، ولم يكن يعرف الواضع التي يكمنون فيها ثم أتاه الخبر بأن الخرمية قد خرجوا جميعا، ولم يبق مع بابك إلا شرذمة من أصحابه وكان الأفشين إذا صعد إلى ذلك الموضع بسط له نطع، ووضع له كرسي، وجلس على تل مشرف يشرف على باب قصر بابك، والناس كراديس وقوف، من كان معه من جانب الوادى هذا امره بالنزول

(9/35)


عن دابته، ومن كان من ذاك الجانب مع أبي سعيد وجعفر الخياط وأصحابه وأحمد بن الخليل لم ينزل لقربه من العدو، فهم وقوف على ظهور دوابهم، ويفرق رجالته الكوهبانية ليفتشوا الأودية، طمع أن يقع على مواضع الكمناء فيعرفها، فكانت هذه حالته في التفتيش إلى بعد الظهر، والخرمية بين يدي بابك يشربون النبيذ، ويزمرون بالسرنيايات، ويضربون بالطبول، حتى إذا صلى الأفشين الظهر، تقدم فانحدر إلى خندقه بروذ الروذ، فكان أول من ينحدر أبو سعيد ثم أحمد بن الخليل ثم جعفر بن دينار، ثم ينصرف الأفشين، وكان مجيئه ذلك مما يغيظ بابك، وانصرافه فإذا دنا الانصراف، ضربوا بصنوجهم، ونفخوا بوقاتهم استهزاء، ولا يبرح بخاراخذاه من العقبة التي هو عليها، حتى تجوزه الناس جميعا، ثم ينصرف في آثارهم، فلما كان في بعض أيامهم ضجرت الخرمية من المعادلة والتفتيش الذي كان يفتش عليهم، فانصرف الأفشين كعادته، وانصرفت الكراديس أولا فأولا، وعبر أبو سعيد الوادي، وعبر أحمد بن الخليل، وعبر بعض أصحاب جعفر الخياط، وفتح الخرمية باب خندقهم، وخرج منهم عشرة فوارس، وحملوا على من بقي من أصحاب جعفر الخياط في ذلك الموضع، وارتفعت الضجة في العسكر، فرجع جعفر مع كردوس من أصحابه بنفسه، فحمل على أولئك الفرسان حتى ردهم إلى باب البذ، ثم وقعت الضجة في العسكر، فرجع الأفشين وجعفر وأصحابه من ذلك الجانب يقاتلون، وقد خرج من أصحاب جعفر عدة، وخرج بابك بعدة فرسان لم يكن معهم رجالة، لا من أصحاب الأفشين، ولا من أصحاب بابك، كان هؤلاء يحملون، وهؤلاء يحملون، فوقعت بينهم جراحات، ورجع الأفشين حتى طرح له النطع والكرسي، فجلس في موضعه الذي كان يجلس فيه، وهو يتلظى على جعفر، ويقول: قد أفسد علي تعبيتي وما أريد

(9/36)


وارتفعت الضجة، وكان مع أبي دلف في كردوس قوم من المطوعة من أهل البصرة وغيرهم، فلما نظروا إلى جعفر يحارب، انحدر أولئك المطوعة بغير أمر الأفشين، وعبروا إلى ذلك جانب الوادي، حتى صاروا إلى جانب البذ، فتعلقوا به، وأثروا فيه آثارا، وكادوا يصعدونه فيدخلون البذ، ووجه جعفر إلى الأفشين: ان امدنى بخمسمائة راجل من الناشبة، فإني أرجو أن أدخل البذ إن شاء الله، ولست أرى في وجهي كثير أحد إلا هذا الكردوس الذي تراه أنت فقط- يعني كردوس آذين- فبعث إليه الأفشين أن قد أفسدت علي أمري، فتخلص قليلا قليلا، وخلص أصحابك وانصرف وارتفعت الضجة من المطوعة حين تعلقوا بالبذ، وظن الكمناء الذين أخرجهم بابك أنها حرب قد اشتبكت، فنعروا ووثبوا من تحت عسكر بخاراخذاه، ووثب كمين آخر من وراء الركوة التي كان الأفشين يقعد عليها، فتحركت الخرمية، والناس وقوف على رءوسهم لم يزل منهم أحد، فقال الأفشين: الحمد لله الذي بين لنا مواضع هؤلاء.
ثم انصرف جعفر وأصحابه والمطوعة، فجاء جعفر إلى الأفشين، فقال له: إنما وجهني سيدي أمير المؤمنين للحرب التي ترى، ولم يوجهني للقعود هاهنا، وقد قطعت بي في موضع حاجتي ما كان يكفيني الا خمسمائة راجل حتى أدخل البذ أو جوف داره، لأني قد رأيت من بين يدي فقال له الأفشين: لا تنظر إلى ما بين يديك، ولكن انظر إلى ما خلفك وما قد وثبوا ببخار اخذاه وأصحابه فقال الفضل بن كاوس لجعفر الخياط: لو كان الأمر إليك ما كنت تقدر أن تصعد إلى هذا الموضع الذي أنت عليه واقف، حتى تقول: كنت وكنت فقال له جعفر: هذه الحرب، وها أنا واقف لمن جاء فقال له الفضل: لولا مجلس الأمير لعرفتك نفسك الساعة، فصاح بهما الأفشين، فأمسكا، وأمر أبا دلف أن يرد المطوعة عن السور، فقال أبو دلف للمطوعة: انصرفوا فجاء رجل منهم ومعه صخرة، فقال: أتردنا

(9/37)


وهذا الحجر أخذته من السور! فقال له: الساعة، إذا انصرفت تدري من على طريقك جالس- يعني العسكر الذي وثب على بخاراخذاه من وراء الناس.
ثم قال الأفشين لأبي سعيد في وجه جعفر: أحسن الله جزاءك عن نفسك وعن أمير المؤمنين، فإني ما علمتك عالما بأمر هذه العساكر وسياستها، ليس كل من حف رأسه يقول: إن الوقوف في الموضع الذي يحتاج إليه خير.
من المحاربة في الموضع الذي لا يحتاج إليه، لو وثب هؤلاء الذين تحتك- وأشار إلى الكمين الذي تحت الجبل- كيف كنت ترى هؤلاء المطوعة الذين هم في القمص؟ أي شيء كان يكون حالهم، ومن كان يجمعهم؟ الحمد لله الذي سلمهم، فقف هاهنا فلا تبرح حتى لا يبقى هاهنا أحد وانصرف الأفشين، وكان من سنته إذا بدا بالانصراف ينحدر علم الكراديس وفرسانه ورجالته، والكردوس الآخر واقف بينه وبينه قدر رمية سهم، لا يدنو من العقبة، ولا من المضيق، حتى يرى أنه قد عبر كل من في الكردوس الذي بين يديه وخلا به الطريق، ثم يدنو بعد ذلك فينحدر في الكردوس الآخر بفرسانه ورجالته، ولا يزال كذلك، وقد عرف كل كردوس من خلف من ينصرف، فلم يكن يتقدم أحد منهم بين يدي صاحبه، ولا يتأخر هكذا، حتى إذا نفذت الكراديس كلها ولم يبق أحد غير بخاراخذاه، انحدر بخاراخذاه وخلى العقبة.
فانصرف ذلك اليوم على هذه الهيئة، وكان أبو سعيد آخر من انصرف، وكلما مر العسكر بموضع بخاراخذاه، ونظروا إلى الموضع الذي كان فيه الكمين، علموا ما كان وطيء لهم، وتفرق أولئك الأعلاج الذين أرادوا أخذ الموضع الذي كان بخاراخذاه يحفظه، ورجعوا إلى مواضعهم، فأقام الأفشين في خندقه بروذ الروذ أياما، فشكا إليه المطوعة الضيق في العلوفة والأزواد والنفقات، فقال لهم: من صبر منكم فليصبر، ومن لم يصبر فالطريق واسع فلينصرف بسلام، معي جند أمير المؤمنين، ومن هو في أرزاقه يقيمون معي في الحر والبرد، ولست ابرح من هاهنا حتى يسقط الثلج فانصرف المطوعة وهم يقولون: لو ترك الأفشين جعفرا وتركنا لأخذنا البذ، هذا لا يشتهي

(9/38)


إلا المماطلة، فبلغه ذلك وما كثر المطوعة فيه، ويتناولونه بألسنتهم وأنه لا يحب المناجزة، وإنما يريد التطويل، حتى قال بعضهم إنه راى في المنام، ان رسول الله ص قال له: قل للأفشين: إن أنت حاربت هذا الرجل وجددت في أمره وإلا أمرت الجبال أن ترجمك بالحجارة، فتحدث الناس بذلك في العسكر علانية، كأنه مستور، فبعث الأفشين إلى رؤساء المطوعة، فأحضرهم وقال لهم: أحب أن تروني هذا الرجل، فإن الناس يرون في المنام أبوابا، فأتوه بالرجل في جماعة من الناس، فسلم عليه، فقربه وأدناه، وقال له:
قص علي رؤياك، لا تحتشم ولا تستحي، فإنما تؤدي قال: رأيت كذا ورأيت كذا، فقال: الله يعلم كل شيء قبل كل أحد، وما أريد بهذا الخلق إن الله تبارك وتعالى لو أراد أن يأمر الجبال أن ترجم أحدا لرجم الكافر، وكفانا مؤنته، كيف يرجمني حتى أكفيه مؤنة الكافر كان يرجمه، ولا يحتاج أن أقاتله أنا، وأنا أعلم أن الله عز وجل لا يخفى عليه خافية، فهو مطلع على قلبي، وما أريد بكم يا مساكين! فقال رجل من المطوعة من اهل الدين:
يايها الأمير، لا تحرمنا شهادة إن كانت قد حضرت، وإنما قصدنا وطلبنا ثواب الله ووجهه، فدعنا وحدنا حتى نتقدم بعد أن يكون بإذنك، فلعل الله أن يفتح علينا فقال الأفشين: إني أرى نياتكم حاضرة، وأحسب هذا الأمر يريده الله، وهو خير إن شاء الله، وقد نشطتم ونشط الناس، والله أعلم ما كان هذا رأيي، وقد حدث الساعة لما سمعت من كلامكم، وأرجو أن يكون أراد هذا الأمر وهو خير، اعزموا على بركة الله أي يوم أحببتم حتى نناهضهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله! فخرج القوم مستبشرين فبشروا أصحابهم، فمن كان أراد أن ينصرف أقام، ومن كان في القرب وقد خرج مسيرة أيام فسمع بذلك رجع، ووعد الناس ليوم، وأمر الجند والفرسان والرجالة وجميع الناس بالأهبة، وأظهر أنه يريد الحرب لا محالة وخرج الأفشين وحمل المال والزاد، ولم يبق في العسكر بغل إلا وضع عليه محمل للجرحى، وأخرج معه المتطببين، وحمل الكعك والسويق وغير ذلك، وجميع ما يحتاج اليه، وزحف

(9/39)


الناس حتى صعد إلى البذ، وخلف بخاراخذاه في موضعه الذي كان يخلفه عليه على العقبة، ثم طرح النطع ووضع له الكرسي، وجلس عليه كما كان يفعل، وقال لأبي دلف: قل للمطوعة: أي ناحية هي أسهل عليكم، فاقتصروا عليها وقال لجعفر: العسكر كله بين يديك، والناشبة والنفاطون، فإن أردت رجالا دفعتهم إليك، فخذ حاجتك وما تريد، واعزم على بركة الله، فاذن من أي موضع تريد قال: أريد أن أقصد الموضع الذي كنت عليه، قال:
امض إليه ودعا أبا سعيد، فقال له: قف بين يدي، أنت وجميع أصحابك، ولا يبرحن منكم أحد ودعا أحمد بن الخليل فقال له: قف أنت وأصحابك هاهنا، ودع جعفرا يعبر وجميع من معه من الرجال، فإن أراد رجالا أو فرسانا أمددناه، ووجهنا بهم إليه، ووجه أبا دلف وأصحابه من المطوعة، فانحدروا إلى الوادي، وصعدوا إلى حائط البذ من الموضع الذي كانوا صعدوا عليه تلك المرة، وعلقوا بالحائط على حسب ما كانوا فعلوا ذلك اليوم، وحمل جعفر حملة حتى ضرب باب البذ، على حسب ما كان فعل تلك المرة الأولى، ووقف على الباب، وواقفه الكفرة ساعة صالحة، فوجه الأفشين برجل معه بدرة دنانير، وقال له: اذهب إلى أصحاب جعفر، فقل: من تقدم، فاحث له ملء كفك، ودفع بدرة أخرى إلى رجل من أصحابه، وقال له:
اذهب الى المطوعة ومعك هذا المال واطواق واسوره، وقل لأبي دلف: كل من رأيته محسنا من المطوعة وغيرهم فأعطه ونادى صاحب الشراب، فقال له: اذهب فتوسط الحرب معهم حتى أراك بعيني معك السويق والماء، لئلا يعطش القوم فيحتاجوا إلى الرجوع، وكذلك فعل بأصحاب جعفر في الماء والسويق، ودعا صاحب الكلغرية، فقال له: من رأيته في وسط الحرب من المطوعة في يده فأس فله عندي خمسون درهما، ودفع إليه بدرة دراهم، وفعل مثل ذلك بأصحاب جعفر، ووجه إليهم الكلغرية بأيديهم الفئوس، ووجه إلى جعفر بصندوق فيه أطواق وأسورة، فقال له: ادفع إلى من اردت من

(9/40)


أصحابك هذا سوى ما لهم عندي، وما تضمن لهم علي من الزيادة في أرزاقهم والكتاب إلى أمير المؤمنين بأسمائهم فاشتبكت الحرب على الباب طويلا، ثم فتح الخرمية لباب، وخرجوا على أصحاب جعفر، فنحوهم عن الباب، وشدوا على المطوعة من الناحية الأخرى، فأخذوا منهم علمين طرحوهم عن السور، وجرحوهم بالصخر حتى أثروا فيهم، فرقوا عن الحرب، ووقفوا، وصاح جعفر بأصحابه، فبدر منهم نحو من مائة رجل، فبركوا خلف تراسهم التي كانت معهم، وواقفوهم متحاجزين، لا هؤلاء يقدمون على هؤلاء، ولا هؤلاء يقدمون على هؤلاء، فلم يزالوا كذلك حتى صلى الناس الظهر، وكان الأفشين قد حمل عرادات، فنصب عرادة منها مما يلي جعفرا على الباب، وعرادة أخرى من طرف الوادي من ناحية المطوعة، فأما العرادة التي من ناحية جعفر، فدافع عنها جعفر حتى صارت العرادة فيما بينهم وبين الخرمية ساعة طويلة، ثم تخلصها أصحاب جعفر بعد جهد، فقلعوها وردوها إلى العسكر، فلم يزل الناس متواقفين متحاجزين، يختلف بينهم النشاب والحجارة أولئك على سورهم والباب، وهؤلاء قعود تحت أتراسهم، ثم تناجزوا بعد ذلك، فلما نظر الأفشين إلى ذلك كره أن يطمع العدو في الناس، فوجه الرجالة الذين كان أعدهم قبله، حتى وقفوا في موضع المطوعة، وبعث إلى جعفر بكردوس فيه رجالة، فقال جعفر: لست اوتى من قله الرجاله معي رجال فرة ولكني لست أرى للحرب موضعا يتقدمون، انما هاهنا موضع مجال رجل أو رجلين قد وقفوا عليه، وانقطعت الحرب، فبعث إليه: انصرف على بركة الله، فانصرف جعفر، وبعث الأفشين بالبغال التي كان جاء بها معه، عليها المحامل، فجعلت فيها الجرحى ومن كان به وهن من الحجارة ولا يقدر على المشي، وأمر الناس بالانصراف، فانصرفوا إلى خندقهم بروذ الروذ، وأيس الناس من الفتح في تلك السنة، وانصرف اكثر المطوعة سنه 222 ثم أن الأفشين تجهز بعد جمعتين، فلما كان في جوف الليل، بعث الرجالة الناشبة، وهم مقدار ألف رجل، فدفع إلى كل واحد منهم شكوة

(9/41)


وكعكا، ودفع إلى بعضهم أعلاما سودا وغير ذلك، وأرسلهم عند مغيب الشمس، وبعث معهم أدلاء، فساروا ليلتهم في جبال منكرة صعبة على غير الطريق، حتى داروا، فصاروا خلف التل الذي يقف آذين عليه- وهو جبل شاهق- وأمرهم ألا يعلم بهم أحد، حتى إذا رأوا أعلام الأفشين وصلوا الغداة ورأوا الوقعة، ركبوا تلك الأعلام في الرماح، وضربوا الطبول، وانحدروا من فوق الجبل، ورموا بالنشاب والصخر على الخرمية، وإن هم لم يروا الأعلام لم يتحركوا حتى يأتيهم خبره، ففعلوا ذلك فوافوا رأس الجبل عند السحر، وجعلوا في تلك الشكاء الماء من الوادي، وصاروا فوق الجبل، فلما كان في بعض الليل وجه الأفشين إلى القواد أن يتهيئوا في السلاح، فإنه يركب في السحر، فلما كان في بعض الليل، وجه بشيرا التركي وقوادا من الفراغنة كانوا معه، فأمرهم أن يسيروا حتى يصيروا تحت التل مع أسفل الوادي الذي حملوا منه الماء، وهو تحت الجبل الذي كان عليه آذين، وقد كان الأفشين علم أن الكافر يكمن تحت ذلك الجبل كلما جاءه العسكر، فقصد بشير والفراغنة إلى ذلك الموضع الذي علم أن للخرمية فيه عسكرا كامنين، فساروا في بعض الليل، ولا يعلم بهم أكثر أهل العسكر ثم بعث للقواد:
تأهبوا للركوب في السلاح، فإن الأمير يغدو في السحر، فلما كان السحر خرج وأخرج الناس، وأخرج النفاطين والنفاطات والشمع على حسب ما كان يخرج، فصلى الغداة، وضرب الطبل، وركب حتى وافى الموضع الذى كان يقف فيه في كل مرة، وبسط له النطع، ووضع له الكرسي كعادته.
وكان بخاراخذاه يقف على العقبة التي كان يقف عليها في كل يوم، فلما كان ذلك اليوم صير بخاراخذاه في المقدمة مع أبي سعيد وجعفر الخياط وأحمد بن الخليل، فأنكر الناس هذه التعبئة في ذلك الوقت، وأمرهم أن يدنوا من التل الذي عليه آذين، فيحدقوا به، وقد كان ينهاهم عن هذا قبل ذلك اليوم، فمضى الناس مع هؤلاء القواد الأربعة الذين سمينا، حتى صاروا حول التل وكان جعفر الخياط مما يلي باب البذ، وكان أبو سعيد مما يليه، وبخاراخذاه مما يلي أبا سعيد، وأحمد بن الخليل بن هشام مما يلى بخاراخذاه، =

=17. تاريخ الطبري = تاريخ الرسل والملوك، وصلة تاريخ الطبري  محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري (المتوفى: 310هـ)

فصاروا جميعا حلقة حول التل، وارتفعت الضجة من أسفل الوادي، وإذا الكمين الذي تحت التل الذي كان يقف عليه آذين قد وثب ببشير التركي والفراغنة، فحاربوهم واشتبكت الحرب بينهم ساعة.
وسمع أهل العسكر ضجتهم، فتحرك الناس، فأمر الأفشين أن ينادوا:
أيها الناس، هذا بشير التركي والفراغنة قد وجهتهم، فأثاروا كمينا فلا تتحركوا فلما سمع الرجالة الناشبة الذين كانوا تقدموا، وصاروا فوق الجبل ركبوا الأعلام كما أمرهم الأفشين، فنظر الناس إلى أعلام تجيء من جبل شاهق، أعلام سود، وبين العسكر وبين الجبل نحو فرسخ، وهم ينحدرون على جبل آذين من فوقهم، قد ركبوا الأعلام، وجعلوا ينحدرون يريدون آذين، فلما نظر إليهم أهل عسكر آذين وجه آذين إليهم بعض رجالته الذين معه من الخرمية ولما نظر الناس إليهم راعوهم، فبعث إليهم الأفشين: أولئك رجالنا أنجدتنا على آذين، فحمل جعفر الخياط وأصحابه على آذين وأصحابه، حتى صعدوا إليهم، فحملوا عليهم حملة شديدة، قلبوه وأصحابه في الوادي، وحمل عليهم رجل ممن في ناحية أبي سعيد من أصحاب أبي سعيد، يقال له معاذ بن محمد- أو محمد بن معاذ- في عدة معه، فإذا تحت حوافر دوابهم آبار محفورة تدخل أيدي الدواب فيها، فتساقطت فرسان أبي سعيد فيها، فوجه الأفشين الكلغرية يقلعون حيطان منازلهم، ويطمون بها تلك الآبار، ففعلوا ذلك، فحمل الناس عليهم حملة واحدة، وكان آذين قد هيأ فوق الجبل عجلا عليها صخر، فلما حمل الناس عليه، دفع العجل على الناس فأفرجوا عنها، فقد حرجت، ثم حمل الناس من كل وجه.
فلما نظر بابك إلى أصحابه قد أحدق بهم، خرج من طرف البذ، من باب مما يلي الأفشين، يكون بين هذا الباب وبين التل الذي عليه الأفشين قدر ميل فأقبل بابك في جماعة معه يسألون عن الأفشين، فقال لهم أصحاب أبي دلف: من هذا؟ فقالوا: هذا بابك يريد الأفشين، فأرسل أبو دلف

(9/43)


إلى الأفشين يعلمه ذلك، فأرسل الأفشين رجلا يعرف بابك، فنظر إليه، ثم عاد إلى الأفشين، فقال: نعم هو بابك، فركب إليه الأفشين، فدنا منه حتى صار في موضع يسمع كلامه وكلام أصحابه، والحرب مشتبكة في ناحية آذين، فقال له: أريد الأمان من أمير المؤمنين، فقال له الأفشين: قد عرضت عليك هذا، وهو لك مبذول متى شئت، فقال: قد شئت الآن، على أن تؤجلني أجلا أحمل فيه عيالي، وأتجهز فقال له الأفشين: قد والله نصحتك غير مرة فلم تقبل نصيحتي، وأنا أنصحك الساعة، خروجك اليوم في الأمان خير من غد قال: قد قبلت أيها الأمير، وأنا على ذلك، فقال له الأفشين: فابعث بالرهائن الذين كنت سألتك قال: نعم، أما فلان وفلان فهم على ذلك التل، فمر أصحابك بالتوقف.
قال: فجاء رسول الأفشين ليرد الناس، فقيل له: إن أعلام الفراغنة قد دخلت البذ وصعدوا بها القصور فركب وصاح بالناس، فدخل ودخلوا، وصعد الناس بالأعلام فوق قصور بابك، وكان قد كمن في قصوره- وهي اربعه- ستمائه رجل، فوافاهم الناس، فصعدوا بالأعلام فوق القصور، وامتلأت شوارع البذ وميدانها من الناس، وفتح أولئك الكمناء أبواب القصور، وخرجوا رجالة يقاتلون الناس ومر بابك حتى دخل الوادي الذي يلى هشتاد سر، واشتغل الأفشين وجميع قواده بالحرب على أبواب القصور، فقاتل الخرمية قتالا شديدا، وأحضر النفاطين، فجعلوا يصبون عليهم النفط والنار، والناس يهدمون القصور، حتى قتلوا عن آخرهم وأخذ الأفشين أولاد بابك ومن كان معهم في البذ من عيالاتهم، حتى أدركهم المساء، فأمر الأفشين بالانصراف فانصرفوا، وكان عامة الخرمية في البيوت، فرجع الأفشين إلى الخندق بروذ الروذ.
فذكر أن بابك وأصحابه الذين نزلوا معه الوادي حين علموا أن الأفشين قد رجع إلى خندقه، رجعوا إلى البذ، فحملوا من الزاد ما أمكنهم حمله، وحملوا أموالهم، ثم دخلوا الوادى الذى يلى هشتاد سر فلما كان في الغد خرج

(9/44)


الأفشين حتى دخل البذ، فوقف في القرية، وأمر بهدم القصور، ووجه الرجالة يطوفون في أطراف القرية، فلم يجدوا فيها أحدا من العلوج، فأصعد الكلغرية، فهدموا القصور وأحرقوها، فعل ذلك ثلاثة أيام حتى أحرق خزائنه وقصوره، ولم يدع فيها بيتا ولا قصرا إلا أحرقه وهدمه، ثم رجع وعلم أن بابك قد أفلت في بعض أصحابه، فكتب الأفشين إلى ملوك أرمينية وبطارقتها يعلمهم أن بابك قد هرب وعدة معه، وصار إلى واد، وخرج منه إلى ناحية أرمينية، وهو مار بكم، وأمرهم أن يحفظ كل واحد منهم ناحيته، ولا يسلكها أحد إلا أخذوه حتى يعرفوه فجاء الجواسيس إلى الأفشين، فأخبروه بموضعه في الوادي، وكان واديا كثير العشب والشجر، طرفه بأرمينية وطرفه الآخر بأذربيجان، ولم يمكن الخيل أن تنزل إليه، ولا يرى من يستخفي فيه لكثرة شجره ومياهه، إنما كانت غيضة.
واحدة، ويسمى هذا الوادي غيضة فوجه الأفشين إلى كل موضع يعلم أن منه طريقا ينحدر منه إلى تلك الغيضة، أو يمكن بابك أن يخرج من ذلك الطريق، فصير على كل طريق وموضع من هذه المواضع عسكرا فيه ما بين أربعمائة الى خمسمائة مقاتل، ووجه معهم الكوهبانية ليقفوهم على الطريق، وأمرهم بحراسة الطريق في الليل لئلا يخرج منه أحد.
وكان يوجه إلى كل عسكر من هذه العساكر الميرة من عسكره، وكانت هذه العساكر خمسة عشر عسكرا، فكانوا كذلك حتى ورد كتاب أمير المؤمنين المعتصم بالذهب مختوما، فيه أمان لبابك فدعا الأفشين من كان استأمن إليه من أصحاب بابك، وفيهم ابن له كبير، أكبر ولده، فقال له وللأسرى: هذا ما لم أكن أرجوه من أمير المؤمنين، ولا أطمع له فيه أن يكتب إليه وهو في هذه الحال بأمان، فمن يأخذه منكم ويذهب به إليه؟ فلم يجسر على ذلك أحد منهم، فقال بعضهم: أيها الأمير، ما فينا أحد يجترئ أن يلقاه بهذا، فقال له الأفشين: ويحك! إنه يفرح بهذا، قالوا: أصلح الله الأمير! نحن أعرف بهذا منك، قال: فلا بد لكم من أن تهبوا لي أنفسكم، وتوصلوا

(9/45)


هذا الكتاب إليه فقام رجلان منهم، فقالا له: اضمن لنا أنك تجري على عيالاتنا، فضمن لهما الأفشين ذلك، وأخذا الكتاب وتوجها فلم يزالا يدوران في الغيضة حتى أصاباه، وكتب معهما ابن بابك بكتاب يعلمه الخبر، ويسأله أن يصير إلى الأمان، فهو أسلم له وخير فدفعا إليه كتاب ابنه، فقرأه، وقال: أي شيء كنتم تصنعون؟ قالا: أسر عيالاتنا في تلك الليلة وصبياننا، ولم نعرف موضعك فنأتيك، وكنا في موضع تخوفنا أن يأخذونا، فطلبنا الأمان فقال للذي كان الكتاب معه: هذا لا اعرفه، ولكن أنت يا بن الفاعلة، كيف اجترأت على هذا أن تجيئني من عند ذاك ابن الفاعلة! فأخذه وضرب عنقه، وشد الكتاب على صدره مختوما لم يفضه، ثم قال للآخر: اذهب وقل لذاك ابن الفاعلة- يعني ابنه- حيث يكتب إلي، وكتب إليه: لو أنك لحقت بي واتبعت دعوتك حتى يجيئك الأمر يوما كنت ابني، وقد صح عندي الساعة فساد أمك الفاعلة يا بن الفاعلة، عسى أن أعيش بعد اليوم! قد كنت باسم هذه الرياسة وحيثما كنت أو ذكرت كنت ملكا، ولكنك من جنس لا خير فيه، وأنا أشهد أنك لست يا بنى، تعيش يوما واحدا وأنت رئيس خير، أو تعيش أربعين سنة وأنت عبد ذليل! ورحل من موضعه، ووجه مع الرجل ثلاثة نفر حتى أصعدوه من موضع من المواضع، ثم لحقوا ببابك، فلم يزل في تلك الغيضة حتى فني زاده، وخرج مما يلي طريقا كان عليه بعض العساكر، وكان موضع الطريق جبلا ليس فيه ماء، فلم يقدر العسكر أن يقيم على الطريق لبعده عن الماء، فتنحى العسكر عن الطريق إلى قرب الماء، وصيروا كوهبانيين وفارسين على طرف الطريق يحرسونه، والعسكر بينه وبين الطريق نحو من ميل ونصف، كان ينوب على الطريق كل يوم فارسان وكوهبانيان، فبينا هم ذات يوم نصف النهار، إذ خرج بابك وأصحابه، فلم يروا أحدا، ولم يروا الفارسين والكوهبانيين، وظنوا أن ليس هناك عسكر، فخرج هو وأخواه: عبد الله ومعاوية، وأمه وامرأة له

(9/46)


يقال لها ابنة الكلندانية فخرجوا من الطريق، وساروا يريدون أرمينية، ونظر إليهم الفارسان والكوهبانيان، فوجهوا إلى العسكر، وعليه أبو الساج: إنا قد رأينا فرسانا يمرون ولا ندري من هم فركب الناس، وساروا، فنظروا إليهم من بعد وقد نزلوا على عين ماء يتغدون عليها، فلما نظروا إلى الناس بادر الكافر فركب وركب من كان معه، فأفلت وأخذ معاوية وأم بابك والمرأة التي كانت معه، ومع بابك غلام له، فوجه أبو الساج بمعاوية والمرأتين إلى العسكر، ومر بابك متوجها حتى دخل جبال أرمينية يسير في الجبال متكمنا، فاحتاج إلى طعام، وكان جميع بطارقة أرمينية قد تحفظوا بنواحيهم وأطرافهم، وأوصوا مسالحهم ألا يجتاز عليهم أحد إلا أخذوه حتى يعرفوه، فكان أصحاب المسالح كلهم متحفظين، وأصاب بابك الجوع، فأشرف فإذا هو بحراث يحرث على فدان له في بعض الأودية، فقال لغلامه: انزل إلى هذا الحراث، وخذ معك دنانير ودراهم، فإن كان معه خبز فخذه وأعطه، وكان للحراث شريك ذهب لحاجته، فنزل الغلام إلى الحراث، فنظر إليه شريكه من بعيد، فوقف بالبعد يفرق من أن يجيء إلى شريكه وهو ينظر ما يصنع شريكه، فدفع الغلام إلى الحراث شيئا، فجاء الحراث فأخذ الخبز، فدفعه إلى الغلام وشريكه قائم ينظر إليه، ويظن إنما اغتصبه خبزه، ولم يظن أنه أعطاه شيئا، فعدا إلى المسلحة، فأعلمهم أن رجلا جاءهم عليه سيف وسلاح، وأنه أخذ خبز شريكه من الوادي، فركب صاحب المسلحة- وكان في جبال ابن سنباط- ووجه إلى سهل بن سنباط بالخبر، فركب ابن سنباط وجماعة معه حتى جاءه مسرعا، فوافى الحراث والغلام عنده، فقال له: ما هذا؟ قال له الحراث: هذا رجل مر بي، فطلب مني خبزا فأعطيته، فقال للغلام: واين مولاك؟ قال: هاهنا- وأومى إليه- فاتبعه فأدركه وهو نازل، فلما رأى وجهه عرفه، فترجل له ابن سنباط عن دابته، ودنا منه فقبل يده، ثم قال له: يا سيداه، إلى أين؟ قال:
أريد بلاد الروم- أو موضعا سماه- فقال له: لا تجد موضعا ولا أحدا أعرف بحقك، ولا أحق أن تكون عنده مني، تعرف موضعي، ليس بيني وبين

(9/47)


السلطان عمل، ولا تدخل على احد من أصحاب السلطان وأنت عارف بقضيتي وبلدي، وكل من هاهنا من البطارقة إنما هم أهل بيتك، قد صار لك منهم أولاد، وذلك أن بابك كان إذا علم أن عند بعض البطارقة ابنة أو أختا جميلة وجه إليها يطلبها، فإن بعث بها إليه وإلا بيته وأخذها، وأخذ جميع ماله من متاع وغير ذلك، وصار به إلى بلده غصبا سنه 222 ثم قال ابن سنباط له: صر عندي في حصني، فإنما هو منزلك، وأنا عبدك، كن فيه شتوتك هذه ثم ترى رأيك وكان بابك قد أصابه الضر والجهد، فركن إلى كلام سهل بن سنباط، وقال له: ليس يستقيم أن أكون أنا وأخي في موضع واحد، فلعله أن يعثر بأحدنا فيبقى الآخر، ولكن أقيم عندك أنا، ويتوجه عبد الله أخي إلى ابن اصطفانوس، لا ندري ما يكون، وليس لنا خلف يقوم بدعوتنا فقال له ابن سنباط: ولدك كثير، قال:
ليس فيهم خير وعزم على أن يصير أخاه في حصن ابن اصطفانوس- وكان يثق به- فصار هو مع ابن سنباط في حصنه، فلما أصبح عبد الله مضى إلى حصن ابن اصطفانوس، وأقام بابك عند ابن سنباط، وكتب ابن سنباط إلى الأفشين يعلمه أن بابك عنده في حصنه فكتب إليه: إن كان هذا صحيحا فلك عندي وعند أمير المؤمنين- أيده الله- الذي تحب، وكتب يجزيه خيرا، ووصف الأفشين صفة بابك لرجل من خاصته، ممن يثق به، ووجه به إلى ابن سنباط وكتب إليه يعلمه أنه قد وجه إليه برجل من خاصته، يحب أن يرى بابك ليحكي للأفشين ذلك فكره ابن سنباط ان يوحش بابك، فقال للرجل: ليس يمكن أن تراه إلا في الوقت الذي يكون منكبا على طعامه يتغدى، فإذا رأيتنا قد دعونا بالغداء فالبس ثياب الطباخين الذين معنا على هيئة علوجنا وتعال كأنك تقدم الطعام، أو تناول شيئا، فإنه يكون منكبا على الطعام، فتفقد منه ما تريد، فاذهب فاحكه لصاحبك.
ففعل ذلك في وقت الطعام، فرفع بابك رأسه فنظر إليه فأنكره، فقال:
من هذا الرجل؟ فقال له ابن سنباط: هذا رجل من أهل خراسان، منقطع

(9/48)


إلينا منذ زمان، نصراني فلقن ابن سنباط الأشروسني ذلك، فقال له بابك:
منذ كم أنت هاهنا؟ قال: منذ كذا وكذا سنة، قال: وكيف اقمت هاهنا؟
قال: تزوجت هاهنا، قال: صدقت إذا قيل للرجل: من أين أنت؟ قال:
من حيث امرأتي.
ثم رجع إلى الأفشين فأخبره، ووصف له جميع ما رأى ثم من بابك.
ووجه الأفشين أبا سعيد وبوزباره إلى ابن سنباط، وكتب إليه معهما، وأمرهما إذا صارا إلى بعض الطريق قد ما كتابه إلى ابن سنباط مع علج من الأعلاج، وأمرهما ألا يخالفا ابن سنباط فيما يشير به عليهما ففعلا ذلك، فكتب إليهما ابن سنباط في المقام بموضع- قد سماه ووصفه لهما- إلى أن يأتيهما رسوله فلم يزالا مقيمين بالموضع الذي وصفه لهما، ووجه إليهما ابن سنباط بالميرة والزاد، حتى تحرك بابك للخروج الى الصيد، فقال له: هاهنا واد طيب، وأنت مغموم في جوف هذا الحصن! فلو خرجنا ومعنا بازي وباشق وما يحتاج إليه، فنتفرج إلى وقت الغداء بالصيد! فقال له بابك: إذا شئت فانفذ ليركبا بالغداة، وكتب ابن سنباط إلى أبي سعيد وبو زباره يعلمهما ما قد عزم عليه، ويأمرهما أن يوافياه، واحد من هذا الجانب من الجبل والآخر من الجانب الآخر في عسكرهما وأن يسيرا متكمنين مع صلاة الصبح، فإذا جاءهما رسوله أشرفا على الوادي، فانحدروا عليه إذا رأوهم وأخذوهم.
فلما ركب ابن سنباط وبابك بالغداة وجه ابن سنباط رسولا إلى أبي سعيد ورسولا الى بو زباره، وقال لكل رسول: جيء بهذا إلى موضع كذا، وجيء بهذا إلى موضع كذا، فأشرفا علينا، فإذا رأيتمونا فقولوا: هم هؤلاء خذوهم، وأراد أن يشبه على بابك، فيقول: هذه خيل جاءتنا، فأخذتنا، ولم يحب أن يدفعه إليهما من منزله، فصار الرسولان إلى أبي سعيد وبو زباره، فمضيا بهما حتى أشرفا على الوادي، فإذا هما ببابك وابن سنباط، فنظرا إليه وانحدرا وأصحابهما عليه، هذا من هاهنا، وهذا من هاهنا، وأخذاهما ومعهما البواشيق، وعلى بابك دراعة بيضاء وعمامة بيضاء، وخف قصير ويقال كان بيده باشق، فلما نظر إلى

(9/49)


العساكر قد أحدقت به وقف، فنظر إليهما، فقالا له: انزل، فقال: ومن أنتما؟ فقال أحدهما: أنا أبو سعيد، والآخر: أنا بوزباره، فقال: نعم، وثنى رجله، فنزل، وكان ابن سنباط ينظر إليه، فرفع رأسه إلى ابن سنباط فشتمه، وقال: إنما بعتني لليهود بالشيء اليسير، لو أردت المال وطلبته لأعطيتك أكثر مما يعطيك هؤلاء، فقال له أبو سعيد: قم فاركب، قال: نعم.
فحملوه وجاءوا به إلى الأفشين، فلما قرب من العسكر صعد الأفشين برزند، فضربت له خيمة على برزند، وأمر الناس فاصطفوا صفين، وجلس الأفشين في فازة، وجاءوا به، وأمر الأفشين ألا يتركوا عربيا يدخل بين الصفين فرقا أن يقتله إنسان أو يجرحه ممن قتل أولياءه، أو صنع به داهية.
وكان قد صار إلى الأفشين نساء كثير وصبيان، ذكروا أن بابك كان أسرهم، وأنهم أحرار من العرب والدهاقين، فأمر الأفشين فجعلت لهم حظيرة كبيرة، وأسكنهم فيها، وأجرى لهم الخبز، وأمرهم أن يكتبوا إلى أوليائهم حيث كانوا، فكان كل من جاء فعرف امرأة أو صبيا أو جارية، وأقام شاهدين أنه يعرفها وأنها حرمة له أو قرابة دفعها إليه، فجاء الناس، فأخذوا منهم خلقا كثيرا، وبقي منهم ناس كثير ينتظرون أن يجيء أولياؤهم.
ولما كان ذلك اليوم الذي أمر الأفشين الناس أن يصطفوا، فصار بين بابك وبينه قدر نصف ميل، أنزل بابك يمشي بين الصفين في دراعته وعمامته وخفيه، حتى جاء فوقف بين يدي الأفشين فنظر إليه الأفشين، ثم قال: انزلوا به إلى العسكر، فنزلوا به راكبا، فلما نظر النساء والصبيان الذين في الحظيرة إليه لطموا على وجوههم، وصاحوا وبكوا حتى ارتفعت أصواتهم، فقال لهم الأفشين: أنتم بالأمس، تقولون أسرنا، وأنتم اليوم تبكون عليه! عليكم لعنة الله قالوا: كان يحسن إلينا فأمر به الأفشين فأدخل بيتا، ووكل به رجالا من أصحابه.
وكان عبد الله أخو بابك لما أقام بابك عند ابن سنباط، صار الى عيسى

(9/50)


ابن يوسف بن اصطفانوس، فلما أخذ الأفشين بابك، وصيره معه في عسكره ووكل به، أعلم بمكان عبد الله أنه عند ابن اصطفانوس، فكتب الأفشين إلى ابن اصطفانوس أن يوجه إليه بعبد الله، فوجه به ابن اصطفانوس إلى الأفشين، فلما صار في يد الأفشين حبسه مع أخيه في بيت واحد، ووكل بهما قوما يحفظونهما.
وكتب الأفشين إلى المعتصم بأخذه بابك وأخاه، فكتب المعتصم إليه يأمره بالقدوم بهما عليه، فلما أراد أن يسير إلى العراق وجه إلى بابك فقال: إني أريد أن أسافر بك، فانظر ما تشتهي من بلاد أذربيجان، فقال: أشتهي أن أنظر إلى مدينتي فوجه معه الأفشين قوما في ليلة مقمرة إلى البذ حتى دار فيه، ونظر إلى القتلى والبيوت إلى وقت الصبح، ثم رده إلى الأفشين، وكان الأفشين قد وكل به رجلا من أصحابه فاستعفاه منه بابك، فقال له الأفشين: لم استعفيت منه؟ قال: يجيء ويده ملأى غمرا، حتى ينام عند رأسي فيؤذيني ريحها فأعفاه منه وكان وصول بابك إلى الأفشين ببرزند لعشر خلون من شوال بين بوزبارة وديوداذ.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن داود.

(9/51)


ثم دخلت

سنة ثلاث وعشرين ومائتين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)

ذكر خبر قدوم الافشين ببابك على المعتصم
فمن ذلك قدوم الأفشين على المعتصم ببابك وأخيه، ذكر أن قدومه عليه به كان ليلة الخميس لثلاث خلون من صفر بسامرا، وأن المعتصم كان يوجه إلى الأفشين كل يوم من حين فصل من برزند إلى أن وافى سامرا فرسا وخلعة، وأن المعتصم لعنايته بأمر بابك وأخباره ولفساد الطريق بالثلج وغيره، جعل من سامرا إلى عقبة حلوان خيلا مضمرة، على رأس كل فرسخ فرسا معه مجر مرتب، فكان يركض بالخبر ركضا حتى يؤديه من واحد إلى واحد، يدا بيد، وكان ما خلف حلوان إلى أذربيجان قد رتبوا فيه المرج، فكان يركض بها يوما أو يومين ثم تبدل ويصير غيرها، ويحمل عليها غلمان من أصحاب المرج كل دابة على رأس فرسخ، وجعل لهم ديادبة على رءوس الجبال بالليل والنهار، وأمرهم أن ينعروا إذا جاءهم الخبر، فإذا سمع الذي يليه النعير تهيأ فلا يبلغ إليه صاحبه الذي نعر حتى يقف له على الطريق، فيأخذ الخريطة منه، فكانت الخريطة تصل من عسكر الأفشين إلى سامرا في أربعة ايام وأقل، فلما صار الأفشين بقناطر حذيفة تلقاه هارون بن المعتصم وأهل بيت المعتصم، فلما صار الأفشين ببابك إلى سامرا أنزله الأفشين في قصره بالمطيرة، فلما كان في جوف الليل ذهب أحمد بن أبي دواد متنكرا، فرآه وكلمه، ثم رجع إلى المعتصم، فوصفه له، فلم يصبر المعتصم حتى ركب إليه بين الحائطين في الحير، فدخل إليه متنكرا، ونظر إليه وتأمله، وبابك لا يعرفه، فلما كان من غد قعد له المعتصم يوم اثنين أو خميس، واصطف الناس من باب العامة إلى المطيرة، وأراد المعتصم أن يشهره ويريه الناس، فقال: على أي

(9/52)


شيء يحمل هذا؟ وكيف يشهر! فقال حزام: يا أمير المؤمنين، لا شيء أشهر من الفيل، فقال: صدقت، فأمر بتهيئة الفيل، وأمر به فجعل في قباء ديباج وقلنسوة سمور مدورة، وهو وحده، فقال محمد بن عبد الملك الزيات:
قد خضب الفيل كعاداته ... يحمل شيطان خراسان
والفيل لا تخضب أعضاؤه ... إلا لذي شأن من الشان
فاستشرفه الناس من المطيرة إلى باب العامة، فأدخل دار العامة إلى أمير المؤمنين، وأحضر جزارا ليقطع يديه ورجليه، ثم أمر أن يحضر سيافه، فخرج الحاجب من باب العامه، وهو ينادى: نودنود- وهو اسم سياف بابك- فارتفعت الصيحة بنودنود حتى حضر، فدخل دار العامة، فأمره أمير المؤمنين أن يقطع يديه ورجليه، فقطعهما فسقط، وأمر أمير المؤمنين بذبحه وشق بطن أحدهما، ووجه برأسه إلى خراسان، وصلب بدنه بسامرا عند العقبة، فموضع خشبته مشهور، وأمر بحمل أخيه عبد الله مع ابن شروين الطبري إلى إسحاق بن إبراهيم خليفته بمدينة السلام، وأمره بضرب عنقه، وأن يفعل به مثل ما فعل بأخيه، وصلبه، فلما صار به الطبري إلى البردان، نزل به ابن شروين في قصر البردان، فقال عبد الله أخو بابك لابن شروين: من أنت؟
فقال: ابن شروين ملك طبرستان، فقال: الحمد لله الذي وفق لي رجلا من الدهاقين يتولى قتلي قال: إنما يتولى قتلك هذا- وكان عنده نودنود، وهو الذي قتل بابك- فقال له: أنت صاحبي، وإنما هذا علج، فأخبرني، أأمرت ان تطعمني شيئا أم لا؟ قال: قل ما شئت، قال: اضرب لي فالوذجة، قال: فأمر فضربت له فالوذجة في جوف الليل، فأكل منها حتى تملأ، ثم قال: يا أبا فلان، ستعلم غدا أني دهقان إن شاء الله ثم قال: تقدر أن تسقيني نبيذا؟ قال: نعم، ولا تكثر، قال: فإني لا أكثر، قال: فأحضر أربعة أرطال خمر، فقعد فشربها على مهل إلى قريب من الصبح، ثم رحل

(9/53)


في السحر، فوافى به مدينة السلام، ووافى به راس الجسر، وامر إسحاق ابن إبراهيم بقطع يديه ورجليه، فلم ينطق ولم يتكلم، وأمر بصلبه فصلب في الجانب الشرقي بين الجسرين بمدينة السلام وذكر عن طوق بن أحمد، أن بابك لما هرب صار إلى سهل بن سنباط فوجه الأفشين أبا سعيد وبو زباره، فأخذاه منه، فبعث سهل مع بابك بمعاوية ابنه إلى الأفشين، فأمر لمعاوية بمائة ألف درهم، وأمر لسهل بألف ألف درهم استخرجها له من أمير المؤمنين، ومنطقة مغرقة بالجوهر وتاج البطرقة، فبطرق سهل بهذا السبب، والذي كان عنده عبد الله أخو بابك عيسى بن يوسف المعروف بابن أخت اصطفانوس ملك البيلقان.
وذكر عن محمد بن عمران كاتب علي بن مر، قال: حدثني علي بن مر، عن رجل من الصعاليك يقال له مطر، قال: كان والله يا أبا الحسن بابك ابني، قلت: وكيف؟ قال: كنا مع ابن الرواد، وكانت أمه ترتوميذ العوراء من علوج ابن الرواد، فكنت انزل عليها، وكانت مصكة، فكانت تخدمني وتغسل ثيابي، فنظرت إليها يوما، فواثبتها بشبق السفر وطول الغربة، فأقررته في رحمها ثم قال: غبنا غيبة بعد ذلك، ثم قدمنا فإذا هي تطلبنى، فنزلت في منزل آخر، فصارت إلي يوما، فقالت: حين ملات بطنى تنزل هاهنا وتتركني! فأذاعت أنه مني، فقلت: والله لئن ذكرتني لأقتلنك، فأمسكت عني، فهو والله ابني.
وكان يجزي الأفشين في مقامه بإزاء بابك سوى الأرزاق، والأنزال والمعاون في كل يوم يركب فيه عشرة آلاف درهم.
وفي كل يوم لا يركب فيه خمسة آلاف درهم وكان جميع من قتل بابك في عشرين سنه مائتي الف وخمسه وخمسين

(9/54)


ألفا وخمسمائة إنسان وغلب يحيى بن معاذ وعيسى بن محمد بن أبي خالد وأحمد بن الجنيد، وأسره وزريق بن علي بن صدقة ومحمد بن حميد الطوسي وإبراهيم بن الليث، وأسر مع بابك ثلاثة آلاف وثلاثمائة وتسعة أناسى، واستنقذ ممن كان في يده من المسلمات وأولادهم سبعه آلاف وستمائه إنسان، وعدة من صار في يد الأفشين من بني بابك سبعة عشر رجلا ومن البنات والكنات ثلاث وعشرون امرأة، فتوج المعتصم الأفشين وألبسه وشاحين بالجوهر، ووصله بعشرين ألف ألف درهم، منها عشرة آلاف ألف صلة وعشرة آلاف ألف درهم يفرقها في أهل عسكره، وعقد له على السند وأدخل عليه الشعراء يمدحونه، وأمر للشعراء بصلات، وذلك يوم الخميس لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الآخر، وكان مما قيل فيه قول أبي تمام الطائي:
بذ الجلاد البذ فهو دفين ... ما ان به إلا الوحوش قطين
لم يقر هذا السيف هذا الصبر في ... هيجاء إلا عز هذا الدين
قد كان عذرة سودد فافتضها ... بالسيف فحل المشرق الأفشين
فأعادها تعوي الثعالب وسطها ... ولقد ترى بالأمس وهي عرين
هطلت عليها من جماجم أهلها ... ديم إمارتها طلى وشئون
كانت من المهجات قبل مفازة ... عسرا، فأضحت وهي منه معين.

ذكر خبر إيقاع الروم باهل زبطره
وفي هذه السنة أوقع توفيل بن ميخائيل صاحب الروم بأهل زبطرة، فأسرهم وخرب بلدهم، ومضى من فوره إلى ملطية فأغار على أهلها وعلى أهل حصون من حصون المسلمين، إلى غير ذلك، وسبا من المسلمات- فيما قيل- أكثر من ألف امرأة، ومثل بمن صار في يده من المسلمين، وسمل أعينهم، وقطع آذانهم وآنافهم.

(9/55)


ذكر الخبر عن سبب فعل صاحب الروم بالمسلمين ما فعل من ذلك:
ذكر أن السبب في ذلك كان ما لحق بابك من تضييق الأفشين عليه وإشرافه على الهلاك، وقهر الأفشين إياه، فلما أشرف على الهلاك، وأيقن بالضعف من نفسه عن حربه، كتب الى ملك الروم توفيل بن ميخائيل بن جورجس، يعلمه أن ملك العرب قد وجه عساكره ومقاتلته إليه حتى وجه خياطه- يعني جعفر بن دينار- وطباخه- يعني إيتاخ- ولم يبق على بابه أحد، فإن أردت الخروج إليه فاعلم أنه ليس في وجهك أحد يمنعك، طمعا منه بكتابه ذلك إليه في أن ملك الروم أن تحرك انكشف عنه بعض ما هو فيه بصرف المعتصم بعض من بإزائه من جيوشه إلى ملك الروم، واشتغاله به عنه.
فذكر أن توفيل خرج في مائة ألف- وقيل أكثر- فيهم من الجند نيف وسبعون ألفا، وبقيتهم أتباع حتى صار إلى زبطرة، ومعه من المحمرة الذين كانوا خرجوا بالجبال فلحقوا بالروم حين قاتلهم إسحاق بن إبراهيم بن مصعب جماعة رئيسهم بارسيس وكان ملك الروم قد فرض لهم، وزوجهم وصيرهم مقاتلة يستعين بهم في أهم أموره إليه، فلما دخل ملك الروم زبطرة وقتل الرجال الذين فيها، وسبى الذراري والنساء التي فيها وأحرقها، بلغ النفير- فيما ذكر- إلى سامرا، وخرج أهل ثغور الشام والجزيرة وأهل الجزيرة إلا من لم يكن عنده دابة ولا سلاح، واستعظم المعتصم ذلك.
فذكر أنه لما انتهى إليه الخبر بذلك صاح في قصره النفير، ثم ركب دابته وسمط خلفه شكالا وسكة حديد وحقيبة، فلم يستقم له أن يخرج إلا بعد التعبئة، فجلس- فيما ذكر- في دار العامة، وقد أحضر من أهل مدينة السلام قاضيها عبد الرحمن بن إسحاق وشعيب بن سهل، ومعهما ثلاثمائة وثمانية وعشرون رجلا من أهل العدالة، فأشهدهم على ما وقف من الضياع، فجعل ثلثا لولده، وثلثا لله، وثلثا لمواليه ثم عسكر بغربي دجلة، وذلك يوم الاثنين لليلتين خلتا من جمادى الأولى

(9/56)


ووجه عجيف بن عنبسة وعمرا الفرغاني ومحمد كوته وجماعة من القواد إلى زبطرة إعانة لأهلها، فوجدوا ملك الروم قد انصرف إلى بلاده بعد ما فعل ما قد ذكرناه، فوقفوا قليلا، حتى تراجع الناس إلى قراهم، واطمأنوا فلما ظفر المعتصم ببابك، قال: أي بلاد الروم أمنع وأحصن؟
فقيل: عمورية، لم يعرض لها أحد من المسلمين منذ كان الإسلام، وهي عين النصرانية وبنكها، وهي اشرف عندهم من القسطنطينية.

ذكر الخبر عن فتح عموريه
وفي هذه السنة شخص المعتصم غازيا إلى بلاد الروم وقيل كان شخوصه إليها من سامرا في سنة أربع وعشرين ومائتين- وقيل في سنة اثنتين وعشرين ومائتين- بعد قتله بابك.
فذكر أنه تجهز جهازا لم يتجهز مثله قبله خليفة قط، من السلاح والعدد والآلة وحياض الأدم والبغال والروايا والقرب وآلة الحديد والنفط، وجعل على مقدمته أشناس، ويتلوه محمد بن إبراهيم، وعلى ميمنته إيتاخ، وعلى ميسرته جعفر بن دينار بن عبد الله الخياط، وعلى القلب عجيف بن عنبسة.
ولما دخل بلاد الروم أقام على نهر اللمس، وهو على سلوقية قريبا من البحر، بينه وبين طرسوس مسيرة يوم، وعليه يكون الفداء إذا فودي بين المسلمين والروم، وأمضى المعتصم الأفشين خيذر بن كاوس إلى سروج، وأمره بالبروز منها والدخول من درب الحدث، وسمى له يوما أمره أن يكون دخوله فيه، وقدر لعسكره وعسكر أشناس يوما جعله بينه وبين اليوم الذي يدخل فيه الأفشين، بقدر ما بين المسافتين إلى الموضع الذي رأى أن يجتمع العساكر فيه- وهو أنقرة- ودبر النزول على أنقرة، فإذا فتحها الله عليه صار

(9/57)


إلى عمورية، إذ لم يكن شيء مما يقصد له من بلاد الروم أعظم من هاتين المدينتين، ولا أحرى أن تجعل غايته التي يؤمها.
وأمر المعتصم أشناس أن يدخل من درب طرسوس، وامره بانتظاره بالصفصاف فكان شخوص أشناس يوم الأربعاء لثمان بقين من رجب، وقدم المعتصم وصيفا في أثر أشناس على مقدمات المعتصم، ورحل المعتصم يوم الجمعة لست بقين من رجب.
فلما صار أشناس بمرج الأسقف، ورد عليه كتاب المعتصم من المطامير يعلمه أن الملك بين يديه، وأنه يريد أن يجوز العساكر اللمس، فيقف على المخاضة، فيكبسهم، ويأمره بالمقام بمرج الأسقف- وكان جعفر بن دينار على ساقة المعتصم- وأعلم المعتصم أشناس في كتابه أن ينتظر موافاة الساقة، لأن فيها الأثقال والمجانيق والزاد وغير ذلك، وكان ذلك بعد في مضيق الدرب لم يخلص، ويأمره بالمقام إلى أن يتخلص صاحب الساقة من مضيق الدرب بمن معه، ويصحر حتى يصير في بلاد الروم.
فأقام أشناس بمرج الأسقف ثلاثة أيام، حتى ورد كتاب المعتصم، يأمره أن يوجه قائدا من قواده في سرية يلتمسون رجلا من الروم، يسألونه عن خبر الملك ومن معه، فوجه أشناس عمرا الفرغاني في مائتي فارس، فساروا ليلتهم حتى أتوا حصن قرة فخرجوا يلتمسون رجلا من حول الحصن، فلم يمكن ذلك، ونذر بهم صاحب قرة، فخرج في جميع فرسانه الذين كانوا معه بالقرة، وكمن في الجبل الذي فيما بين قرة ودرة، وهو جبل كبير يحيط برستاق يسمى رستاق قرة، وعلم عمرو الفرغاني أن صاحب قرة قد نذر بهم، فتقدم إلى درة، فكمن بها ليلته، فلما انفجر عمود الصبح صير عسكره ثلاثة كراديس، وأمرهم أن يركضوا ركضا سريعا، بقدر ما يأتونه بأسير عنده خبر الملك، ووعدهم أن يوافوه به في بعض المواضع التي عرفها الأدلاء، ووجه مع كل كردوس دليلين

(9/58)


وخرجوا مع الصبح، فتفرقوا في ثلاثة وجوه، فأخذوا عدة من الروم، بعضهم من أهل عسكر الملك، وبعضهم من الضواحي، وأخذ عمرو رجلا من الروم من فرسان أهل القرة، فسأله عن الخبر، فأخبره أن الملك وعسكره بالقرب منه وراء اللمس بأربعة فراسخ، وأن صاحب قرة نذر بهم في ليلتهم هذه، وأنه ركب فكمن في هذا الجبل فوق رءوسهم، فلم يزل عمرو في الموضع الذي كان وعد فيه أصحابه، وأمر الأدلاء الذين معه أن يتفرقوا في رءوس الجبال، وأن يشرفوا على الكراديس الذين وجههم إشفاقا أن يخالفهم صاحب قرة إلى أحد الكراديس، فرآهم الأدلاء، ولوحوا لهم، فأقبلوا فتوافوا هم وعمرو في موضع غير الموضع الذي كانوا اتعدوا له، ثم نزلوا قليلا، ثم ارتحلوا يريدون العسكر، وقد أخذوا عدة ممن كان في عسكر الملك، فصاروا إلى أشناس في اللمس، فسألهم عن الخبر، فأخبروه أن الملك مقيم منذ أكثر من ثلاثين يوما ينتظر عبور المعتصم ومقدمته باللمس، فيواقعهم من وراء اللمس، وأنه جاءه الخبر قريبا، أنه قد رحل من ناحية الأرمنياق عسكر ضخم، وتوسط البلاد- يعني عسكر الأفشين- وأنه قد صار خلفه.
فأمر الملك رجلا من أهل بيته ابن خاله، فاستخلفه على عسكره، وخرج ملك الروم في طائفة من عسكره يريد ناحية الأفشين، فوجه أشناس بذلك الرجل الذي أخبره بهذا الخبر إلى المعتصم، فأخبره بالخبر، فوجه المعتصم من عسكره قوما من الأدلاء، وضمن لهم لكل رجل منهم عشرة آلاف درهم، على أن يوافوا بكتابه الأفشين، وأعلمه فيه أن أمير المؤمنين مقيم، فليقم إشفاقا من أن يواقعه ملك الروم وكتب إلى أشناس كتابا يأمره أن يوجه من قبله رسولا من الأدلاء الذين يعرفون الجبال والطرق والمشبهة بالروم، وضمن لكل رجل منهم عشرة آلاف درهم إن هو أوصل الكتاب، ويكتب إليه أن ملك الروم قد اقبل نحوه فليقم مكانه حتى يوافيه كتاب أمير المؤمنين.
فتوجهت الرسل إلى ناحية الأفشين، فلم يلحقه أحد منهم، وذلك أنه كان

(9/59)


وغل في بلاد الروم، وتوافت آلات المعتصم وأثقاله مع صاحب الساقة إلى العسكر، فكتب إلى أشناس يأمره بالتقدم، فتقدم أشناس والمعتصم من ورائه، بينهم مرحلة، ينزل هذا ويرحل هذا ولم يرد عليهم من الأفشين خبر، حتى صاروا من أنقرة على مسيرة ثلاث مراحل، وضاق عسكر المعتصم ضيقا شديدا من الماء والعلف سنه 223 وكان اشناس قد اسر عده اسرى في طريقه، فأمر بهم فضربت أعناقهم حتى بقي منهم شيخ كبير، فقال الشيخ: ما تنتفع بقتلي، وأنت في هذا الضيق، وعسكرك أيضا في ضيق من الماء والزاد، وهاهنا قوم قد هربوا من أنقرة خوفا من أن ينزل بهم ملك العرب، وهم بالقرب منا هاهنا، معهم من الميرة والطعام والشعير شيء كثير، فوجه معي قوما لأدفعهم إليهم، وخل سبيلي! فنادى منادي أشناس: من كان به نشاط فليركب، فركب معه قريب من خمسمائة فارس، فخرج أشناس حتى صار من العسكر على ميل، وبرز معه من نشط من الناس، ثم برز فضرب دابته بالسوط، فركض قريبا من ميلين ركضا شديدا، ثم وقف ينظر إلى أصحابه خلفه، فمن لم يلحق بالكردوس لضعف دابته رده إلى العسكر، ودفع الرجل الأسير إلى مالك بن كيدر، وقال له: متى ما أراك هذا سبيا وغنيمة كثيرة فخل سبيله على ما ضمنا له فسار بهم الشيخ إلى وقت العتمة، فأوردهم على واد وحشيش كثير، فأمرج الناس دوابهم في الحشيش حتى شبعت، وتعشى الناس وشربوا حتى رووا، ثم سار بهم حتى أخرجهم من الغيضة، وسار أشناس من موضعه الذي كان به متوجها إلى أنقرة.
وأمر مالك بن كيدر والأدلاء الذين معه أن يوافوه بأنقرة، فسار بهم الشيخ العلج بقية ليلتهم يدور بهم في جبل ليس يخرجهم منه، فقال الأدلاء

(9/60)


لمالك بن كيدر: هذا الرجل يدور بنا، فسأله مالك عما ذكر الأدلاء، فقال: صدقوا، القوم الذين تريدهم خارج الجبل، وأخاف أن أخرج من الجبل بالليل فيسمعوا صوت حوافر الخيل على الصخر، فيهربوا، فإذا خرجنا من الجبل ولم نر أحدا قتلني، ولكن أدور بك في هذا الجبل إلى الصبح، فإذا أصبحنا خرجنا إليهم، فأريتك إياهم حتى آمن ألا تقتلني فقال له مالك:
ويحك! فأنزلنا في هذا الجبل حتى نستريح، فقال: رأيك، فنزل مالك ونزل الناس على الصخرة، وأمسكوا لجم دوابهم حتى انفجر الصبح، فلما طلع الفجر قال: وجهوا رجلين يصعدان هذا الجبل، فينظران ما فوقه، فيأخذان من أدركا فيه، فصعد أربعة من الرجال، فأصابوا رجلا وامرأة، فانزلوهما، فساء لهما العلج: أين بات أهل انقرة؟ فسموا لهم الموضع الذي باتوا فيه، فقال لمالك: خل عن هذين، فإنا قد أعطيناهما الأمان حتى دلونا، فخلى مالك عنهما، ثم سار بهم العلج إلى الموضع الذي سماه لهم، فأشرف بهم على العسكر عسكر أهل أنقرة، وهم في طرف ملاحة، فلما رأوا العسكر صاحوا بالنساء والصبيان، فدخلوا الملاحة، ووقفوا لهم على طرف الملاحة يقاتلون بالقنا، ولم يكن موضع حجارة ولا موضع خيل، وأخذوا منهم عدة أسرى، وأصابوا في الأسرى عدة بهم جراحات عتق من جراحات متقدمة، فساءلوهم عن تلك الجراحات، فقالوا: كنا في وقعة الملك مع الأفشين، فقالوا لهم:
حدثونا بالقضية فأخبروهم أن الملك كان معسكرا على أربعة فراسخ من اللمس، حتى جاءه رسول، أن عسكرا ضخما قد دخل من ناحية الأرمنياق، فاستخلف على عسكره رجلا من أهل بيته، وأمره بالمقام في موضعه، فإن ورد عليه مقدمة ملك العرب، واقعه إلى أن يذهب هو فيواقع العسكر الذي دخل الأرمنياق- يعني عسكر الأفشين- فقال أميرهم: نعم، وكنت ممن سار مع الملك، فواقعناهم صلاة الغداة فهزمناهم، وقتلنا رجالتهم كلهم، وتقطعت عساكرنا في طلبهم، فلما كان الظهر رجع فرسانهم، فقاتلونا قتالا شديدا حتى حرقوا

(9/61)


عسكرنا، واختلطوا بنا واختلطنا بهم، فلم ندر في أي كردوس الملك! فلم نزل كذلك إلى وقت العصر، ثم رجعنا إلى موضع عسكر الملك الذي كنا فيه فلم نصادفه، فرجعنا إلى موضع معسكر الملك الذي خلفه على اللمس، فوجدنا العسكر قد انتقض، وانصرف الناس عن الرجل قرابة الملك الذي كان الملك استخلفه على العسكر، فأقمنا على ذلك ليلتنا، فلما كان الغد، وافانا الملك في جماعة يسيرة، فوجد عسكره قد اختل، وأخذ الذي استخلفه على العسكر، فضرب عنقه، وكتب إلى المدن والحصون ألا يأخذوا رجلا ممن انصرف من عسكر الملك إلا ضربوه بالسياط، او يرجع إلى موضع سماه لهم الملك انحاز إليه ليجتمع إليه الناس، ويعسكر به، ليناهض ملك العرب، ووجه خادما له خصيا إلى أنقرة على أن يقيم بها، ويحفظ أهلها إن نزل بها ملك العرب.
قال الأسير: فجاء الخصي إلى أنقرة، وجئنا معه، فإذا أنقرة قد عطلها أهلها، وهربوا منها، فكتب الخصي إلى ملك الروم يعلمه ذلك، فكتب إليه الملك يأمره بالمسير إلى عمورية.
قال: وسألت عن الموضع الذي قصد إليه أهلها- يعني أهل أنقرة- فقالوا لي: إنهم بالملاحة فلحقنا بهم.
قال مالك بن كيدر: فدعوا الناس كلهم، خذوا ما أخذتم، ودعوا الباقي، فترك الناس السبي والمقاتلة وانصرفوا راجعين يريدون عسكر أشناس، وساقوا في طريقهم غنما كثيرا وبقرا، وأطلق ذلك الشيخ الأسير مالك، وسار إلى عسكر أشناس بالأسرى، حتى لحق بأنقرة، فمكث أشناس يوما واحدا، ثم لحقه المعتصم من غد، فأخبره بالذي أخبره به الأسير، فسر المعتصم بذلك.
فلما كان اليوم الثالث جاءت البشرى من ناحية الأفشين يخبرون بالسلامة، وأنه وارد على أمير المؤمنين بأنقرة.
قال: ثم ورد على المعتصم الأفشين بعد ذلك اليوم بيوم بأنقرة، فأقاموا بها

(9/62)


أياما، ثم صير العسكر ثلاثة عساكر: عسكر فيه أشناس في الميسرة، والمعتصم في القلب، والأفشين في الميمنة، وبين كل عسكر وعسكر فرسخان، وأمر كل عسكر منهم أن يكون له ميمنة وميسرة، وأن يحرقوا القرى ويخربوها، ويأخذوا من لحقوا فيها من السبي، وإذا كان وقت النزول توافى كل أهل عسكر إلى صاحبهم ورئيسهم، يفعلون ذلك فيما بين أنقرة إلى عمورية، وبينهما سبع مراحل، حتى توافت العساكر بعمورية.
قال: فلما توافت العساكر بعمورية، كان أول من وردها أشناس، وردها يوم الخميس ضحوه، فدار حولها دورة، ثم نزل على ميلين منها بموضع فيه ماء وحشيش، فلما طلعت الشمس من الغد، ركب المعتصم، فدار حولها دورة، ثم جاء الأفشين في اليوم الثالث، فقسمها أمير المؤمنين بين القواد كما تدور، صير إلى كل واحد منهم أبراجا منها على قدر كثرة أصحابه وقلتهم، وصار لكل قائد منهم ما بين البرجين إلى عشرين برجا، وتحصن أهل عمورية وتحرزوا.
وكان رجل من المسلمين قد أسره أهل عمورية، فتنصر وتزوج فيهم، فحبس نفسه عند دخولهم الحصن، فلما رأى أمير المؤمنين ظهر وصار إلى المسلمين، وجاء إلى المعتصم، وأعلمه أن موضعا من المدينة حمل الوادي عليه من مطر جاءهم شديد، فحمل الماء عليه، فوقع السور من ذلك الموضع، فكتب ملك الروم إلى عامل عمورية أن يبني ذلك الموضع، فتوانى في بنائه حتى كان خروج الملك من القسطنطينية إلى بعض المواضع، فتخوف الوالي أن يمر الملك على تلك الناحية فيمر بالسور، فلا يراه بني، فوجه خلف الصناع فبنى وجه السور بالحجارة حجرا حجرا، وصير وراءه من جانب المدينة حشوا، ثم عقد فوقه الشرف كما كان، فوقف ذلك الرجل المعتصم على هذه الناحية التي وصف، فأمر المعتصم فضرب مضربه في ذلك الموضع، ونصب المجانيق على ذلك البناء، فانفرج السور من ذلك الموضع، فلما رأى أهل عموريه انفراج

(9/63)


السور، علقوا عليه الخشب الكبار، كل واحد بلزق الأخرى، فكان حجر المنجنيق إذا وقع على الخشب تكسر، فعلقوا خشبا غيره، وصيروا فوق الخشب البراذع ليترسوا السور.
فلما ألحت المجانيق على ذلك الموضع، انصدع السور، فكتب ياطس والخصي إلى ملك الروم، كتابا يعلمانه أمر السور، ووجها الكتاب مع رجل فصيح بالعربية وغلام رومي، واخرجاهما من الفصيل، فعبرا الخندق، ووقعا إلى ناحية أبناء الملوك المضمومين إلى عمرو الفرغاني، فلما خرجا من الخندق أنكروهما، فسألوهما، من أين أنتما؟ قالا لهم: نحن من أصحابكم، قالوا:
من أصحاب من أنتم؟ فلم يعرفا أحدا من قواد أهل العسكر يسميانه لهم، فأنكروهما، وجاءوا بهما إلى عمرو الفرغاني بن أربخا، فوجه بهما عمرو إلى أشناس، فوجه بهما أشناس إلى المعتصم، فساءلهما المعتصم، وفتشهما، فوجد معهما كتابا من ياطس إلى ملك الروم، يعلمه فيه أن العسكر قد أحاط بالمدينة في جمع كثير، وقد ضاق بهم الموضع وقد كان دخوله ذلك الموضع خطأ- وأنه قد اعتزم على أن يركب، ويحمل خاصة أصحابه على الدواب التي في الحصن، ويفتح الأبواب ليلا غفلة، ويخرج فيحمل على العسكر كائنا فيه ما كان، أفلت فيه من أفلت، وأصيب فيه من أصيب، حتى يتخلص من الحصار، ويصير إلى الملك.
فلما قرأ المعتصم الكتاب أمر للرجل الذي يتكلم منهما بالعربية والغلام الرومي الذي معه ببدرة، فأسلما وخلع عليهما، وأمر بهما حين طلعت الشمس فأداروهما حول عموريه، فقالا: يا طس يكون في هذا البرج، فأمر بهما فوقفا بحذاء البرج الذي فيه ياطس طويلا، وبين أيديهما رجلان يحملان لهما الدراهم وعليهما الخلع، ومعهما الكتاب حتى فهمهما ياطس وجميع الروم، وشتموهما من فوق السور، ثم أمر بهما المعتصم فنحوهما، وامر المعتصم ان يكون الحراسة بينهم نوائب، في كل ليلة يحضرها الفرسان، يبيتون على دوابهم بالسلاح

(9/64)


وهم وقوف عليها، لئلا يفتح الباب ليلا، فيخرج من عمورية إنسان، فلم يزل الناس يبيتون كذلك نوائب على ظهور الدواب في السلاح ودوابهم بسروجها، حتى انهدم السور ما بين برجين من الموضع الذي وصف للمعتصم أنه لم يحكم عمله.
وسمع أهل العسكر الوجبة فتشوفوا، وظنوا أن العدو قد خرج على بعض الكراديس حتى أرسل المعتصم من طاف على الناس في العسكر يعلمهم أن ذلك صوت السور وقد سقط، فطيبوا نفسا.
وكان المعتصم حين نزل عمورية ونظر إلى سعة خندقها وطول سورها، وكان قد استاق في طريقه غنما كثيرة، فدبر في ذلك أن يتخذ مجانيق كبارا على قدر ارتفاع السور، يسع كل منجنيق منها أربعة رجال، وعملها أوثق ما يكون وأحكمه، وجعلها على كراسي تحتها عجل، ودبر في ذلك أن يدفع الغنم إلى أهل العسكر إلى كل رجل شاة، فيأكل لحمها، ويحشو جلدها ترابا ثم يؤتى بالجلود مملوءة ترابا، حتى تطرح في الخندق.
ففعل ذلك بالخندق، وعمل دبابات كبارا تسع كل دبابة عشرة رجال، وأحكمها على أن يدحرجها على الجلود المملوءة ترابا حتى يمتلئ الخندق، ففعل ذلك، وطرحت الجلود فلم تقع الجلود، مستوية منضدة خوفا منهم من حجارة الروم، فوقعت مختلفة، ولم يمكن تسويتها، فأمر أن يطرح فوقها التراب حتى استوت، ثم قدمت دبابة فدحرجها، فلما صارت من الخندق في نصفه تعلقت بتلك الجلود، وبقي القوم فيها، فما تخلصوا منها إلا بعد جهد ثم مكثت تلك العجله مقيمه هناك، لم يمكن فيها حيلة حتى فتحت عمورية، وبطلت الدبابات والمنجنيقات والسلاليم وغير ذلك، حتى أحرقت.
فلما كان من الغد قاتلهم على الثلمة، وكان أول من بدأ بالحرب أشناس وأصحابه، وكان الموضع ضيقا، فلم يمكنهم الحرب فيه، فأمر المعتصم بالمنجنيقات الكبار التي كانت متفرقة حول السور، فجمع بعضها إلى بعض،

(9/65)


وصيرها حول الثلمة، وأمر أن يرمى ذلك الموضع، وكانت الحرب في اليوم الثاني على الأفشين وأصحابه، فأجادوا الحرب وتقدموا وكان المعتصم واقفا على دابته بإزاء الثلمة وأشناس وأفشين وخواص القواد معه، وكان باقي القواد الذين دون الخاصة وقوفا رجالة، فقال المعتصم: ما كان أحسن الحرب اليوم! فقال عمرو الفرغاني: الحرب اليوم أجود منها أمس، وسمعها أشناس فأمسك، فلما انتصف النهار، وانصرف المعتصم إلى مضربه، فتغدى وانصرف القواد إلى مضاربهم يتغدون، وقرب أشناس من باب مضربه، ترجل له القواد كما كانوا يفعلون، وفيهم عمرو الفرغاني وأحمد بن الخليل بن هشام، فمشوا بين يديه كعادتهم عند مضربه، فقال لهم أشناس: يا أولاد الزنا، أيش تمشون بين يدي! كان ينبغي أن تقاتلوا أمس حيث تقفون بين يدي أمير المؤمنين، فتقولون: أن الحرب اليوم أحسن منها أمس، كان أمس يقاتل غيركم، انصرفوا إلى مضاربكم فلما انصرف عمرو الفرغاني وأحمد بن الخليل بن هشام، قال أحدهما للآخر: أما ترى هذا العبد ابن الفاعلة- يعني أشناس- ما صنع بنا اليوم! أليس الدخول إلى بلاد الروم أهون من هذا الذي سمعناه اليوم! فقال عمرو الفرغاني لأحمد بن الخليل- وكان عند عمرو خبر-: يا أبا العباس، سيكفيك الله أمره، عن قريب أبشر فأوهم أحمد أن عنده خبرا، فألح عليه أحمد يسأله، فأخبره بما هم فيه، وقال: إن العباس بن المأمون قد تم أمره، وسنبايع له ظاهرا، ونقتل المعتصم وأشناس وغيرهما عن قريب ثم قال له: أشير عليك أن تأتي العباس، فتقدم فتكون في عداد من مال إليه فقال له أحمد:
هذا أمر لا أحسبه يتم، فقال له عمرو: قد تم وفرغ، وأرشده إلى الحارث السمرقندي- قرابة سلمة بن عبيد الله بن الوضاح، وكان المتولي لإيصال الرجال إلى العباس وأخذ البيعة عليهم- فقال له عمرو: أنا أجمع بينك وبين الحارث حتى تصير في عداد أصحابنا، فقال له أحمد: أنا معكم إن كان هذا الأمر

(9/66)


يتم فيما بيننا وبين عشرة أيام، وإن جاوز ذلك فليس بيني وبينكم عمل، فذهب الحارث، فلقي العباس فأخبره أن عمرا قد ذكره لأحمد بن الخليل، فقال له:
ما كنت أحب ان يطلع الخليل على شيء من أمرنا، أمسكوا عنه.
ولا تشركوه في شيء من أمركم، دعوه بينهما فأمسكوا عنه فلما كان في اليوم الثالث كانت الحرب على أصحاب أمير المؤمنين خاصة، ومعهم المغاربة والأتراك، والقيم بذلك إيتاخ، فقاتلوا فأحسنوا واتسع لهم الموضع المنثلم، فلم تزل الحرب كذلك حتى كثرت في الروم الجراحات.
وكان قواد ملك الروم عند ما نزل بهم عسكر المعتصم اقتسموا البروج، لكل قائد وأصحابه عدة أبرجة، وكان الموكل بالموضع الذي انثلم من السور رجلا من قواد الروم يقال له وندوا، وتفسيره بالعربية ثور، فقاتل الرجل وأصحابه قتالا شديدا بالليل والنهار والحرب عليه وعلى أصحابه، لم يمده ياطس ولا غيره بأحد من الروم، فلما كان بالليل مضى القائد الموكل بالثلمة إلى الروم، فقال: إن الحرب علي وعلى أصحابي، ولم يبق معي أحد إلا قد جرح، فصيروا أصحابكم على الثلمة يرمون قليلا، وإلا افتضحتم وذهبت المدينة فأبوا أن يمدوه بأحد، فقالوا: سلم السور من ناحيتنا، وليس نسألك أن تمدنا، فشأنك وناحيتك، فليس لك عندنا مدد فاعتزم هو واصحابه على ان يخرجوا إلى أمير المؤمنين المعتصم، ويسألوه الأمان على الذرية، ويسلموا إليه الحصن بما فيه من الخرثي والمتاع والسلاح وغير ذلك.
فلما أصبح وكل أصحابه بجنبي الثلمة، وخرج فقال: إني أريد أمير المؤمنين، وأمر أصحابه ألا يحاربوا حتى يعود إليهم، فخرج حتى وصل إلى المعتصم، فصار بين يديه، والناس يتقدمون إلى الثلمة، وقد أمسك الروم عن الحرب حتى وصلوا إلى السور، والروم يقولون بأيديهم:
لا تحيوا، وهم يتقدمون، ووندوا بين يدي المعتصم جالس، فدعا المعتصم

(9/67)


بفرس فحمله عليه، وقابل حتى صار الناس معهم على حرف الثلمة، وعبد الوهاب ابن علي بين يدي المعتصم، فأومأ إلى الناس بيده: أن ادخلوا، فدخل الناس المدينة، فالتفت وندوا، وضرب بيده إلى لحيته، فقال له المعتصم: مالك؟
قال: جئت أريد أن أسمع كلامك وتسمع كلامي، فغدرت بي، فقال المعتصم: كل شيء تريد أن تقوله فهو لك علي، قل ما شئت، فإني لست أخالفك قال: أيش لا تخالفني وقد دخلوا المدينة! فقال المعتصم:
اضرب بيدك إلى ما شئت فهو لك، وقل ما شئت فإني أعطيكه فوقف في مضرب المعتصم وكان ياطس في برجه الذي هو فيه وحوله جماعة من الروم مجتمعين، وصارت طائفة منهم إلى كنيسة كبيرة في زاوية عمورية، فقاتلوا قتالا شديدا، فأحرق الناس الكنيسة عليهم فاحترقوا عن آخرهم، وبقي ياطس في برجه حوله أصحابه، وباقي الروم وقد أخذتهم السيوف، فبين مقتول ومجروح، فركب المعتصم عند ذلك حتى جاء فوقف حذاء ياطس، وكان مما يلي عسكر أشناس، فصاحوا: يا ياطس، هذا أمير المؤمنين، فصاح الروم من فوق البرج: ليس ياطس هاهنا، قالوا: بلى، قولوا له: إن أمير المؤمنين واقف، فقالوا: ليس ياطس هاهنا فمر أمير المؤمنين مغضبا، فلما جاوز صاح الروم: هذا ياطس، هذا ياطس! فرجع المعتصم إلى حيال البرج حتى وقف، ثم أمر بتلك السلاليم التي هيئت، فحمل سلم منها، فوضع على البرج الذي هو فيه، وصعد عليه الحسن الرومي- غلام لأبي سعيد محمد بن يوسف- وكلمه ياطس، فقال: هذا أمير المؤمنين، فانزل على حكمه، فنزل الحسن، فأخبر المعتصم أنه قد رآه وكلمه، فقال المعتصم:
قل له فلينزل، فصعد الحسن ثانية، فخرج ياطس من البرج متقلدا سيفا حتى وقف على البرج والمعتصم ينظر إليه، فخلع سيفه من عنقه، فدفعه إلى الحسن، ثم نزل ياطس، فوقف بين يدي المعتصم، فقنعه سوطا، وانصرف المعتصم إلى مضربه، وقال: هاتوه، فمشى قليلا، ثم جاءه رسول المعتصم، أن احملوه، فحملوه، فذهب به إلى مضرب أمير المؤمنين

(9/68)


ثم أقبل الناس بالأسرى والسبي من كل وجه حتى امتلأ العسكر، فأمر المعتصم بسيل الترجمان أن يميز الأسرى، فيعزل منهم أهل الشرف والقدر من الروم في ناحية، ويعزل الباقين في ناحية، ففعل ذلك بسيل ثم أمر المعتصم فوكل بالمقاسم قواده، ووكل أشناس بما يخرج من ناحيته، وأمره أن ينادي عليه، ووكل الأفشين بما يخرج من ناحيته، وامره ان ينادى ويبيع، وامر إيتاخ بناحيته مثل ذلك، وجعفرا الخياط بمثل ذلك في ناحيته، ووكل مع كل قائد من هؤلاء رجلا من قبل أحمد بن ابى دواد يحصي عليه، فبيعت المقاسم في خمسة أيام، بيع منها ما استباع، وأمر بالباقي فضرب بالنار، وارتحل المعتصم منصرفا إلى أرض طرسوس.
ولما كان يوم إيتاخ قبل أن يرتحل المعتصم منصرفا، وثب الناس على المغنم الذي كان إيتاخ على بيعه، وهو اليوم الذي كان عجيف وعد الناس فيه أن يثب بالمعتصم، فركب المعتصم بنفسه ركضا، وسل سيفه، فتنحى الناس عنه من بين يديه، وكفوا عن انتهاب المغنم، فرجع إلى مضربه، فلما كان من الغد أمر ألا ينادى على السبي إلا ثلاثة أصوات، ليتروج البيع، فمن زاد بعد ثلاثة أصوات، وإلا بيع العلق، فكان يفعل ذلك في اليوم الخامس، فكان ينادي على الرقيق خمسة خمسة، وعشرة عشرة، والمتاع الكثير جملة واحدة.
قال: وكان ملك الروم قد وجه رسولا في أول ما نزل المعتصم على عمورية فأمر به المعتصم فأنزل على موضع الماء الذي كان الناس يستقون منه، وكان بينه وبين عمورية ثلاثة أميال، ولم يأذن له في المصير إليه حتى فتح عمورية، فلما فتحها أذن له في الانصراف إلى ملك الروم، فانصرف وانصرف المعتصم يريد الثغور، وذلك أنه بلغه أن ملك الروم يريد الخروج في أثره، أو يريد التعبث بالعسكر، فمضى في طريق الجادة مرحلة، ثم رجع إلى عمورية، وأمر الناس بالرجوع، ثم عدل عن طريق الجادة إلى طريق وادي الجور،

(9/69)


ففرق الأسرى على القواد، ودفع إلى كل قائد من القواد طائفة منهم يحفظهم، ففرقهم القواد على أصحابهم، فساروا في طريق نحوا من أربعين ميلا، ليس فيه ماء، فكان كل من امتنع من الأسرى أن يمشي معهم لشدة العطش الذي أصابهم ضربوا عنقه، فدخل الناس في البرية في طريق وادي الجور فأصابهم العطش، فتساقط الناس والدواب وقتل بعض الأسرى بعض الجند وهرب.
وكان المعتصم قد تقدم العسكر، فاستقبل الناس، ومعه الماء قد حمله من الموضع الذي نزله، وهلك الناس في هذا الوادي من العطش، وقال الناس للمعتصم: إن هؤلاء الأسرى قد قتلوا بعض جندنا، فأمر عند ذلك بسيل الرومي بتمييز من له القدر منهم، فعزلوا ناحية، ثم امر بالباقين فأصعدوا إلى الجبال، وأنزلوا إلى الأودية فضربت أعناقهم جميعا، وهم مقدار ستة آلاف رجل، قتلوا في موضعين بوادي الجور وموضع آخر.
ورحل المعتصم من ذلك الموضع يريد الثغر حتى دخل طرسوس، وكان قد نصب له الحياض من الأدم حول العسكر من الماء إلى العسكر بعمورية والحياض مملوءة، والناس يشربون منها لا يتعبون في طلب الماء.
وكانت الوقعة التي وقعت بين الأفشين وملك الروم- فيما ذكر- يوم الخميس لخمس بقين من شعبان وكانت إناخة المعتصم على عمورية يوم الجمعة لست خلون من شهر رمضان، وقفل بعد خمسة وخمسين يوما.
وقال الحسين بن الضحاك الباهلي يمدح الأفشين، ويذكر وقعته التي كانت بينه وبين ملك الروم:
أثبت المعصوم عزا لأبي ... حسن أثبت من ركن إضم
كل مجد دون ما أثله ... لبني كاوس أملاك العجم
إنما الأفشين سيف سله ... قدر الله بكف المعتصم

(9/70)


لم يدع بالبذ من ساكنة ... غير أمثال كأمثال إرم
ثم أهدى سلما بابكه ... رهن حجلين نجيا للندم
وقرا توفيل طعنا صادقا ... فض جمعيه جميعا وهزم
قتل الأكثر منهم ونجا ... من نجا لحما على ظهر وضم

ذكر خبر المعتصم مع العباس بن المأمون
وفي هذه السنة حبس المعتصم العباس بن المأمون وأمر بلعنه.
ذكر الخبر عن سبب فعله ذلك:
ذكر أن السبب كان في ذلك أن عجيف بن عنبسة حين وجهه المعتصم إلى بلاد الروم، لما كان من أمر ملك الروم بزبطرة مع عمرو بن أربخا الفرغاني ومحمد كوته، لم يطلق يد عجيف في النفقات كما أطلقت يد الأفشين، واستقصر المعتصم أمر عجيف وأفعاله، واستبان ذلك لعجيف، فوبخ عجيف العباس على ما تقدم من فعله عند وفاة المأمون حين بايع أبا إسحاق وعلى تفريطه فيما فعل، وشجعه على أن يتلافى ما كان منه.
فقبل العباس ذلك، ودس رجلا يقال له الحارث السمرقندي، قرابة عبيد الله بن الوضاح- وكان العباس يأنس به، وكان الحارث رجلا أديبا له عقل ومداراة- فصيره العباس رسوله وسفيره إلى القواد، فكان يدور في العسكر حتى تألف له جماعة من القواد، وبايعوه وبايعه منهم خواص، وسمى لكل رجل من قواد المعتصم رجلا من ثقات أصحابه ممن بايعه، ووكله بذلك، وقال: إذا أمرنا بذلك، فليثب كل رجل منكم على من ضمناه أن يقتله، فضمنوا له ذلك، فكان يقول للرجل ممن بايعه: عليك يا فلان أن تقتل فلانا، فيقول: نعم، فوكل من بايعه من خاصة المعتصم بالمعتصم ومن خاصة الأفشين بالأفشين، ومن خاصه اشناس باشناس، ممن بايعه من

(9/71)


الأتراك، فضمنوا ذلك جميعا فلما أرادوا أن يدخلوا الدرب وهم يريدون أنقرة وعمورية، ودخل الأفشين من ناحية ملطية، أشار عجيف على العباس ان يثب على المعتصم في الدرب وهو في قلة من الناس، وقد تقطعت عنه العساكر، فيقتله ويرجع إلى بغداد، فكان الناس يفرحون بانصرافهم من الغزو، فأبى العباس عليه، وقال: لا أفسد هذه الغزاة، حتى دخلوا بلاد الروم، وافتتحوا عمورية، فقال عجيف للعباس: يا نائم، كم تنام! قد فتحت عمورية، والرجل ممكن، دس قوما ينتبهون هذا الخرثي، فإنه إذا بلغه ذلك ركب بسرعة، فتأمر بقتله هناك، فأبى عليه العباس، وقال، أنتظر حتى يصير إلى الدرب، فيخلو كما خلا في البدأة، فهو أمكن منه هاهنا وكان عجيف قد أمر من ينتهب المتاع، فانتهب بعض الخرثي في عسكر إيتاخ.
فركب المعتصم وجاء ركضا، فسكن الناس، ولم يطلق العباس أحدا من أولئك الرجال الذين كان واعدهم، فلم يحدثوا شيئا، وكرهوا أن يفعلوا شيئا بغير أمره.
وكان عمرو الفرغاني قد بلغه الخبر ذلك اليوم، ولعمرو الفرغاني قرابة، غلام أمرد في خاصة المعتصم، فجاء الغلام الى ولد عمرو يشرب عندهم تلك في الليلة، فأخبرهم أن أمير المؤمنين ركب مستعجلا، وأنه كان يعدو بين يديه، وقال: إن أمير المؤمنين قد غضب اليوم، فأمرني أن أسل سيفي، وقال:
لا يستقبلك أحد إلا ضربته، فسمع عمرو ذلك من الغلام، فأشفق عليه أن يصاب، فقال له: يا بني، أنت أحمق، أقل من الكينونة عند أمير المؤمنين بالليل، والزم خيمتك، فإن سمعت صيحة مثل هذه الصيحة، أو شغبا أو شيئا فلا تبرح من خيمتك، فإنك غلام غر، لست تعرف بعد العساكر.
فعرف الغلام مقالة عمرو.
وارتحل المعتصم من عمورية يريد الثغر، ووجه الأفشين ابن الأقطع في طريق خلاف طريق المعتصم، وأمره أن يغير على موضع سماه له، وأن يوافيه في بعض الطريق، فمضى ابن الأقطع، وتوجه المعتصم يريد الثغر، فسار حتى صار إلى موضع أقام فيه ليريح ويستريح، وليسلك الناس من المضيق الذي

(9/72)


بين أيديهم ووافى ابن الأقطع عسكر الأفشين بما أصاب من الغنائم، وكان عسكر المعتصم على حدة وعسكر الأفشين على حدة، بين كل عسكر قدر ميلين أو أكثر، واعتل أشناس فركب المعتصم صلاة الغداة يعوده، فجاء إلى مضربه فعاده، ولم يكن الأفشين لحقه بعد.
ثم خرج المعتصم منصرفا، فتلقاه الأفشين في الطريق، فقال له المعتصم:
تريد أبا جعفر وكان عمرو الفرغاني وأحمد بن الخليل عند منصرف المعتصم من عيادة أشناس توجها إلى ناحية عسكر الأفشين لينظرا ما جاء به ابن الأقطع من السبي فيشتريا منه ما أعجبهما، فتوجها ناحية عسكر الأفشين ولقيهما الأفشين يريد أشناس- فترجلا، وسلما عليه، ونظر إليهما حاجب أشناس من بعد، فدخل الأفشين إلى أشناس، ثم انصرف، وتوجها إلى عسكر الأفشين، فلم يكن السبي أخرج بعد، فوقفا ناحية ينتظران أن ينادي على السبي، فيشتريا منه، ودخل حاجب أشناس على أشناس، فقال: إن عمرا الفرغاني وأحمد بن الخليل تلقيا الأفشين، وهما يريدان عسكره، فترجلا وسلما عليه، وتوجها الى عسكره سنه 223 فدعا أشناس محمد بن سعيد السعدي، فقال له: اذهب إلى عسكر الأفشين، فانظر هل ترى هناك عمرا الفرغاني وأحمد بن الخليل! وانظر عند من نزلا، وأي شيء قصتهما؟ فجاء محمد بن سعيد، فأصابهما واقفين على ظهور دوابهما فقال: ما اوقفكما هاهنا؟ قالا: وقفنا ننتظر سبي ابن الأقطع يخرج، فنشتري بعضه، فقال لهما محمد بن سعيد: وكلا وكيلا يشترى لكما، فقال:
لا نحب أن نشتري إلا ما نراه، فرجع محمد، فأخبر أشناس بذلك، فقال لحاجبه: قل لهؤلاء الزموا عسكركم: فهو خير لكم- يعنى عمرا وابن الخليل- ولا تذهبوا هاهنا وهاهنا فذهب الحاجب إليهما، فأعلمهما، فاغتما لذلك واتفقا على أن يذهبا إلى صاحب خبر العسكر، فيستعفياه من أشناس، فصارا إلى صاحب الخبر، فقالا: نحن عبيد أمير المؤمنين، يضمنا إلى من شاء، فإن هذا الرجل يستخف بنا، قد شتمنا وتوعدنا، ونحن نخاف أن يقدم علينا، فليضمنا أمير المؤمنين إلى من أحب

(9/73)


فأنهى صاحب الخبر ذلك إلى المعتصم من يومه، واتفق الرحيل صلاة الغداة، وكان إذا ارتحل الناس سارت العساكر على حيالها، وسار أشناس والأفشين وجميع القواد في عسكر أمير المؤمنين، ووكلوا خلفاءهم بالعساكر، فيسيرون بها وكان الافشين على الميسره وأشناس على الميمنة، فلما ذهب أشناس إلى المعتصم، قال له: أحسن أدب عمرو الفرغاني وأحمد بن الخليل، فإنهما قد حمقا أنفسهما، فجاء اشناس ركضا إلى معسكره، فسأل عن عمرو وابن الخليل، فأصاب عمرا، وكان ابن الخليل قد مضى في الميسرة يبادر الروم، فجاءوه بعمرو الفرغاني، وقال: هاتوا سياطا، فمكث طويلا مجردا ليس يؤتى بالسياط، فتقدم عمه إلى أشناس، فكلمه في عمرو- وكان عمه أعجميا- وعمرو واقف، فقال: احملوه، فالبسوه قباء طاق، فحملوه على بغل في قبة، وساروا به إلى العسكر، وجاء أحمد بن الخليل وهو يركض، فقال:
احبسوا هذا معه، فأنزل عن دابته، وصير عديله، ودفعا إلى محمد بن سعيد السعدي يحفظهما، فكان يضرب لهما مضربا في فازة وحجرة ومائدة، ويفرش لهما فرشا وطية، وحوضا من ماء وأثقالهما وغلمانهما في العسكر، لم يحرك منها شيء، فلم يزالا كذلك حتى صارا إلى جبل الصفصاف وكان أشناس على الساقة، وكان بغا على ساقه عسكر المعتصم، فلما صار بالصفصاف، وسمع الغلام الفرغاني قرابة عمرو بحبس عمرو، ذكر الغلام للمعتصم ما دار بينه وبين عمرو من الكلام في تلك الليلة، مما قال له عمرو، إذا رأيت شغبا فالزم خيمتك، فقال المعتصم لبغا: لا ترحل غدا حتى تجيء أشناس، فتأخذ منه عمرا، وتلحقنى به، وكان هذا بالصفصاف.
فوقف بغا بأعلامه ينتظر أشناس، وجاء محمد بن سعيد ومعه عمرو واحمد ابن الخليل، فقال بغا لأشناس: أمرني أمير المؤمنين أن أوافيه بعمرو الساعة، فأنزل عمرو، وجعل مع أحمد بن الخليل في القبة رجل يعادله، ومضى بغا بعمرو إلى المعتصم، فأرسل أحمد بن الخليل غلاما من غلمانه إلى عمرو، لينظر ما يصنع به، فرجع الغلام فاخبره انه ادخل على أمير المؤمنين، فمكث ساعة

(9/74)


ثم دفع إلى إيتاخ، وكان أمير المؤمنين لما دخل ساء له عن الكلام الذي قاله للغلام قرابته، فأنكر وقال: هذا الغلام كان سكران، ولم يفهم ولم أقل شيئا مما ذكره، فأمر به فدفع إلى إيتاخ، وسار المعتصم حتى صار إلى باب مضايق البدندون، وأقام أشناس ثلاثة أيام على مضيق البدندون ينتظر أن تتخلص عساكر أمير المؤمنين، لأنه كان على الساقة، فكتب أحمد بن الخليل إلى أشناس رقعة يعلمه أن لأمير المؤمنين عنده نصيحة، وأشناس مقيم على مضيق البدندون، فبعث إليه أشناس باحمد بن الخصيب وابى سعيد محمد ابن يوسف يسألانه عن النصيحة، فذكر أنه لا يخبر بها إلا أمير المؤمنين، فرجعا فأخبرا أشناس بذلك، فقال: ارجعا فاحلفا له: إني حلفت بحياة أمير المؤمنين، إن هو لم يخبرني بهذه النصيحة أن أضربه بالسياط حتى يموت، فرجعا فأخبرا أحمد بن الخليل بذلك.
فأخرج جميع من عنده، وبقي أحمد بن الخصيب وأبو سعيد فأخبرهما بما ألقى إليه عمرو الفرغاني من أمر العباس، وشرح لهما جميع ما كان عنده، وأخبرهما بخبر الحارث السمرقندي، فانصرفا إلى أشناس، فأخبراه بذلك، فبعث أشناس في طلب الحدادين، فجاءوا بحدادين من الجند، فدفع إليهما حديدا، فقال: اعملا لي قيدا مثل قيد أحمد بن الخليل، وعجلا به الساعة، ففعلا ذلك، فلما كان عنده حبسه، وكان حاجب أشناس يبيت عند أحمد بن الخليل مع محمد بن سعيد السعدي.
فلما كان تلك الليلة عند العتمة ذهب الحاجب الى خيمه الحارث السمرقندي فاخرجه منها، وجاء به الى اشناس فقيده، وامر الحاجب أن يحمله إلى أمير المؤمنين، فحمله الحاجب إليه، واتفق رحيل أشناس صلاة الغداة، فجاء أشناس إلى موضع معسكره، فتلقاه الحارث معه رجل من قبل المعتصم، وعليه خلع، فقال له أشناس: مه، فقال: القيد الذي كان في رجلي صار في

(9/75)


رجل العباس وسأل المعتصم الحارث حين صار إليه عن أمره، فأقر أنه كان صاحب خبر العباس، وأخبره بجميع أمره وجميع من بايع العباس من القواد فأطلق المعتصم الحارث وخلع عليه، ولم يصدق على أولئك القواد لكثرتهم وكثرة من سمي منهم.
وتحير المعتصم في أمر العباس، فدعا به حين خرج إلى الدرب فأطلقه ومناه، وأوهمه أنه قد صفح عنه، وتغدى معه، وصرفه إلى مضربه، ثم دعاه بالليل، فنادمه على النبيذ، وسقاه حتى أسكره، واستحلفه ألا يكتمه من أمره شيئا، فشرح له قصته، وسمى له جميع من كان دب في أمره، وكيف كان السبب في ذلك في كل واحد منهم، فكتبه المعتصم وحفظه، ثم دعا الحارث السمرقندي بعد ذلك، فسأله عن الأسباب، فقص عليه مثل ما قص عليه العباس، ثم أمر بعد ذلك بتقييد العباس، ثم قال للحارث: قد رضتك على أن تكذب، فأجد السبيل إلى سفك دمك فلم تفعل، فقد أفلت، فقال له:
يا أمير المؤمنين، لست بصاحب كذب.
ثم دفع العباس إلى الأفشين، ثم تتبع المعتصم أولئك القواد، فأخذوا جميعا، فأمر أن يحمل أحمد بن الخليل على بغل بإكاف بلا وطاء، ويطرح في الشمس إذا نزل، ويطعم في كل يوم رغيفا واحدا، وأخذ عجيف بن عنبسة فيمن أخذ من القواد، فدفع من سائر القواد إلى إيتاخ، ودفع ابن الخليل إلى أشناس، فكان عجيف وأصحابه يحملون في الطريق على بغال باكف بلا وطاء، وأخذ الشاه بن سهل- وهو الرأس ابن الرأس من أهل قرية من خراسان يقال لها سجستان- فدعا به المعتصم والعباس بين يديه، فقال له: يا بن الزانية، أحسنت إليك فلم تشكر! فقال له الشاه بن سهل:
ابن الزانية هذا الذي بين يديك- يعني العباس- لو تركني هذا كنت أنت الساعة لا تقدر أن تقعد في هذا المجلس وتقول لي: يا بن الفاعلة؟ فأمر به المعتصم، فضربت عنقه، وهو أول من قتل من القواد ومعه صحبه، ودفع

(9/76)


عجيف إلى إيتاخ فعلق عليه حديدا كثيرا وحمله على بغل في محمل بلا وطاء.
وأما العباس فكان في يدي الأفشين، فلما نزل المعتصم منبج- وكان العباس جائعا- سأل الطعام، فقدم إليه طعام كثير، فأكل فلما طلب الماء منع وأدرج في مسح، فمات بمنبج، وصلى عليه بعض إخوته.
وأما عمرو الفرغاني، فإنه لما نزل المعتصم بنصيبين في بستان، دعا صاحب البستان، فقال له: احفر بئرا في موضع أومأ إليه بقدر قامة، فبدأ صاحب البستان فحفرها، ثم دعا بعمرو والمعتصم جالس في البستان، قد شرب أقداحا من نبيذ، فلم يكلمه المعتصم، ولم يتكلم عمرو حتى مثل بين يديه، فقال: جردوه، فجرد، وضرب بالسياط ضربة الأتراك، والبئر تحفر، حتى إذا فرغ من حفرها قال صاحب البستان: قد حفرتها، فأمر المعتصم عند ذلك فضرب وجه عمرو وجسده بالخشب، فلم يزل يضرب حتى سقط، ثم قال:
جروه إلى البئر فاطرحوه فيها، فلم يتكلم عمرو ولم ينطق يومه ذلك، حتى مات فطرح في البئر، وطمت عليه.
وأما عجيف بن عنبسة، فلما صار بباعيناثا، فوق بلد قليلا، مات في المحمل، فطرح عند صاحب المسلحة، وأمر أن يدفن فيها، فجاء به إلى جانب حائط خرب فطرحه عليه فقبر هناك.
وذكر عن علي بن حسن الريداني أنه قال: كان عجيف في يد محمد ابن إبراهيم بن مصعب، فسأله المعتصم عنه، فقال له: يا محمد، لم يمت عجيف؟ قال: يا سيدي اليوم يموت، ثم أتى محمد مضربه، فقال لعجيف يا أبا صالح، أي شيء تشتهي؟ قال أسفيدباج وحلوى فالوذج، فأمر أن يعمل له من كل طعام، فأكل وطلب الماء فمنع، فلم يزل يطلب وهو يسوق حتى مات، فدفن بباعيناثا

(9/77)


قال: وأما التركي الذي كان ضمن للعباس قتل أشناس متى ما أمره العباس- وكان كريما على أشناس ينادمه ولا يحجب عنه في ليل ولا نهار- فإنه أمر بحبسه، فحبسه أشناس قبله في بيت، وطين عليه الباب، وكان يلقي إليه في كل يوم رغيفا وكوز ماء، فأتاه ابنه في بعض أيامه، فكلمه من وراء الحائط، فقال له: يا بني، لو كنت تقدر لي على سكين كنت أقدر أن أتخلص من موضعي هذا، فلم يزل ابنه يتلطف في ذلك حتى أوصل إليه سكينا، فقتل به نفسه.
وأما السندي بن بختاشه، فأمر المعتصم أن يوهب لأبيه بختاشه- لأن بختاشه لم يكن يتلطخ بشيء من أمر العباس- فقال المعتصم: لا يفجع هذا الشيخ بابنه، فأمر بتخلية سبيله.
وأما أحمد بن الخليل، فإنه دفعه أشناس إلى محمد بن سعيد السعدي، فحفر له بئرا في الجزيرة بسامرا، فسأل عنه المعتصم يوما من الأيام، فقال لأشناس: ما فعل أحمد بن الخليل؟ فقال له أشناس: هو عند محمد بن سعيد السعدي، قد حفر له بئرا وأطبق عليه، وفتح له فيها كوة ليرمي إليه بالخبز والماء فقال المعتصم: هذا أحسبه قد سمن على هذه الحال، فأخبر أشناس محمد بن سعيد بذلك، فأمر محمد بن سعيد أن يسقى الماء، ويصب عليه في البئر حتى يموت: ويمتلئ البئر، فلم يزل يصب عليه الماء، والرمل ينشف الماء، فلم يغرق ولم يمتلئ البئر، فأمر أشناس بدفعه إلى غطريف الخجندي، فدفع إليه، فمكث عنده أياما، ثم مات فدفن.
وأما هرثمة بن النضر الختلي، فكان واليا على المراغة، وكان في عداد من سماه العباس أنه من أصحابه، فكتب في حمله في الحديد، فتكلم فيه الأفشين، واستوهبه من المعتصم، فوهبه له، فكتب الأفشين كتابا إلى هرثمة ابن النضر يعلمه أن أمير المؤمنين قد وهبه له، وأنه قد ولاه البلد الذي يصل إليه الكتاب فيه، فورد به الدينور عند العشاء مقيدا، فطرح في الخان، وهو موثق في الحديد، فوافاه الكتاب في جنح الليل، فأصبح وهو والي الدينور

(9/78)


وقتل باقي القواد ومن لم يحفظ اسمه من الأتراك والفراغنة وغيرهم، قتلوا جميعا.
وورد المعتصم سامرا سالما بأحسن حال، فسمي العباس: اللعين يومئذ، ودفع ولد سندس من ولد المأمون إلى إيتاخ، فحبسوا في سرداب من داره ثم ماتوا بعد.
وجرح في هذه السنة في شوال إسحاق بن إبراهيم، جرحه خادم له.
وحج بالناس فيها محمد بن داود.

(9/79)


ثم دخلت

سنة أربع وعشرين ومائتين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)

ذكر الخبر عن مخالفه مازيار بطبرستان
فمما كان فيها من ذلك إظهار مازيار بن قارن بن وندا هرمز بطبرستان الخلاف على المعتصم، ومحاربته أهل السفح والأمصار منها.
ذكر الخبر عن سبب إظهاره الخلاف على المعتصم وفعله ما فعل من الوثوب بأهل السفح:
ذكر أن السبب في ذلك، كان أن مازيار بن قارن كان منافرا لآل طاهر، لا يحمل إليهم الخراج، وكان المعتصم يكتب إليه يأمره بحمله إلى عبد الله بن طاهر، فيقول: لا أحمله إليه، ولكني أحمله إلى أمير المؤمنين، فكان المعتصم إذا حمل المازيار إليه الخراج، يأمر: إذا بلغ المال همذان رجلا من قبله أن يستوفيه ويسلمه إلى صاحب عبد الله بن طاهر ليرده إلى خراسان، فكانت هذه حالة في السنين كلها ونافر آل طاهر حتى تفاقم الأمر بينهم.
وكان الافشين يسمع من المعتصم أحيانا كلاما يدل على أنه يريد عزل آل طاهر عن خراسان، فلما ظفر الأفشين ببابك، ونزل من المعتصم المنزلة التي لم يتقدمه فيها أحد، طمع في ولاية خراسان، وبلغته منافرة مازيار آل طاهر، فرجا أن يكون ذلك سببا لعزل عبد الله بن طاهر، فدس الأفشين الكتب إلى المازيار يستميله بالدهقنة، ويعلمه ما هو عليه من المودة له، وأنه قد وعد ولاية خراسان، فدعا ذلك المازيار إلى ترك حمل خراجه إلى عبد الله ابن طاهر، وواتر عبد الله بن طاهر الكتب فيه إلى المعتصم، حتى أوحش

(9/80)


المعتصم منه وأغضبه عليه، وحمل ذلك المازيار إلى أن وثب وخالف، ومنع الخراج، وضبط جبال طبرستان وأطرافه.
وكان ذلك مما يسر الأفشين ويطمعه في الولاية، فكتب المعتصم إلى عبد الله بن طاهر يأمره بمحاربة مازيار، وكتب الأفشين إلى المازيار يأمره بمحاربة عبد الله بن طاهر، ويعلمه أنه يقوم له عند المعتصم بما يحب، وكاتبه المازيار أيضا، فلا يشك الأفشين أن المازيار سيواقف عبد الله بن طاهر ويقاومه، حتى يحتاج المعتصم إلى أن يوجهه وغيره إليه.
فذكر عن محمد بن حفص الثقفي الطبري أن المازيار لما عزم على الخلاف، دعا الناس إلى البيعة، فبايعوه كرها، وأخذ منهم الرهائن، فحبسهم في برج الأصبهبذ، وأمر أكرة الضياع بالوثوب بأرباب الضياع وانتهاب أموالهم، وكان المازيار يكاتب بابك، ويحرضه ويعرض عليه النصرة فلما فرغ المعتصم من أمر بابك، أشاع الناس أن أمير المؤمنين يريد المسير إلى قرماسين، ويوجه الأفشين إلى الري لمحاربة مازيار، فلما سمع المازيار بإرجاف الناس بذلك، أمر أن يمسح البلد، خلا من قاطع على ضياعه بزيادة العشرة ثلاثة، ومن لم يقاطع رجع عليه، فحسب ما عليه من الفضل ولم يحسب له النقصان.
ثم أنشأ كتابا إلى عامله على الخراج، وكان عامله عليه رجلا يقال له شاذان بن الفضل، نسخته:
بسم الله الرحمن الرحيم، إن الأخبار تواترت علينا، وصحت عندنا بما يرجف به جهال أهل خراسان وطبرستان فينا، ويولدون علينا من الاخبار ويحملون عليه رءوسهم، من التعصب لدولتنا والطعن في تدبيرنا، والمراسلة لأعدائنا وتوقع الفتن، وانتظار الدوائر فينا، جاحدين للنعم مستقلين للأمن والدعة والرفاهية والسعة التي آثرهم الله بها، فما يرد الري قائد ولا مشرق ولا مغرب، ولا يأتينا رسول صغير ولا كبير إلا قالوا كيت وكيت، ومدوا أعناقهم نحوه،

(9/81)


وخاضوا فيما قد كذب الله أحدوثتهم، وخيب أمانيهم فيه مره بعد مره، فلا تنهاهم الأولى عن الآخرة، ولا يزجرهم عن ذلك تقية ولا خشية، كل ذلك نغضي عليه، ونتجرع مكروهه، استبقاء على كافتهم، وطلبا للصلاح والسلامة لهم إلحاحا، فلا يزيدهم استبقاؤنا إلا لجاجا، ولا كفنا عن تأديبهم إلا إغراء، إن أخرنا عنهم افتتاح الخراج نظرا لهم ورفقا بهم قالوا: معزول، وإن بادرنا به قالوا: لحادث أمر، لا يزدجرون عن ذلك بالشدة إن أغلظنا، ولا برفق إن أنعمنا، والله حسبنا وهو ولينا، عليه نتوكل وإليه ننيب وقد أمرنا بالكتاب إلى بندار آمل والرويان في استغلاق الخراج في عملهما، وأجلناهما في ذلك إلى سلخ تير ماه، فاعلم ذلك، وجرد جبايتك، واستخرج ما على اهل ناحيتك كملا، ولا يمضين عنك تير ماه، ولك درهم باق، فإنك إن خالفت ذلك إلى غيره لم يكن جزاؤك عندنا إلا الصلب، فانظر لنفسك، وحام عن مهجتك، وشمر في أمرك، وتابع كتابك إلى العباس وإياك والتغرير، واكتب بما يحدث منك من الانكماش والتشمير، فإنا قد رجونا أن يكون في ذلك مشغلة لهم عن الأراجيف، ومانع عن التسويف، فقد أشاعوا في هذه الأيام أن أمير المؤمنين أكرمه الله صائر إلى قرماسين، وموجه الافشين الى الري ولعمري لئن فعل أيده الله ذلك، أنه لمما يسرنا الله به، ويؤنسنا بجواره، ويبسط الأمل فيما قد عودنا من فوائده وأفضاله، ويكبت أعداءه وأعداءنا، ولن يهمل أكرمه الله أموره، ويرفض ثغوره، والتصرف في نواحي ملكه، لأراجيف مرجف بعماله، وقول قائل في خاصته، فإنه لا يسرب أكرمه الله جنده إذا سرب، ولا يندب قواده إذا ندب، إلا إلى المخالف فاقرأ كتابنا هذا على من بحضرتك من اهل الخراج، ليبلغ شاهدهم غائبهم، وعنف عليهم في استخراجه، ومن هم بكسره فليبد بذلك صفحته، لينزل الله به ما أنزل بأمثاله، فإن لهم أسوة في الوظائف وغيرها بأهل جرجان والري وما والاهما، فإنما خفف الخلفاء عنهم خراجهم، ورفعت الرفائع عنهم للحاجة التي كانت إليهم في محاربة أهل

(9/82)


الجبال ومغازي الديلم الضلال، وقد كفى الله أمير المؤمنين أعزه الله ذلك كله، وجعل أهل الجبال والديلم جندا وأعوانا، والله المحمود.
قال: فلما ورد كتاب المازيار على شاذان بن الفضل عامله على الخراج، أخذ الناس بالخراج، فجبى جميع الخراج في شهرين، وكان يجبى في اثني عشر شهرا، في كل أربعة أشهر الثلث، وإن رجلا يقال له علي بن يزداد العطار، وهو ممن أخذ منه رهينة، هرب وخرج من عمل المازيار، فأخبر أبو صالح سرخاستان بذلك، وكان خليفة المازيار على سارية، فجمع وجوه أهل مدينة سارية، وأقبل يوبخهم، ويقول: كيف يطمئن الملك إليكم! أم كيف يثق بكم! وهذا علي بن يزداد ممن قد حلف وبايع، وأعطى الرهينة ثم نكث وخرج، وترك رهينه، فأنتم لا تفون بيمين، ولا تكرهون الخلف والحنث، فكيف يثق بكم الملك، أم كيف يرجع لكم إلى ما تحبون! فقال بعضهم: نقتل الرهينة حتى لا يعود غيره إلى الهرب، فقال لهم: أتفعلون ذلك؟ قالوا: نعم، فكتب إلى صاحب الرهائن، فأمره أن يوجه بالحسن بن علي بن يزداد وهو رهينة أبيه، فلما صاروا به إلى سارية ندم الناس على ما قالوا لأبي صالح، وجعلوا يرجعون على الذي أشار بقتله بالتعنيف ثم جمعهم سرخاستان، وقد أحضر الرهينة، فقال لهم: إنكم قد ضمنتم شيئا، وهذا الرهينة فاقتلوه، فقال له عبد الكريم بن عبد الرحمن الكاتب: أصلحك الله! إنك أجلت من خرج من هذا البلد شهرين، وهذا الرهينة قبلك، نسألك أن تؤجله شهرين، فإن رجع أبوه وإلا أمضيت فيه رأيك.
قال: فغضب على القوم، ودعا بصاحب حرسه- وكان يقال له رستم ابن بارويه- فأمره بصلب الغلام وإن الغلام سأله أن يأذن له أن يصلي ركعتين، فأذن له، فطول في صلاته وهو يرعد، وقد مد له جذع، فجذبوا الغلام من صلاته، ومدوه فوق الجذع، وشدوا حلقه معه حتى اختنق، وتوفي فوقه، وأمر سرخاستان أهل مدينة سارية أن يخرجوا إلى آمل، وتقدم

(9/83)


إلى أصحاب المسالح في إحضار أهل الخنادق من الأبناء والعرب، فأحضروا ومضى مع أهل سارية إلى آمل، وقال لهم: إني أريد أن أشهدكم على أهل آمل، وأشهد أهل آمل عليكم، وأرد ضياعكم وأموالكم، فإن لزمتم الطاعة والمناصحة زدناكم من عندنا ضعف ما كنا أخذنا منكم فلما وافوا آمل جمعهم بقصر الخليل بن وندا سنجان، وصير أهل سارية ناحية عن غيرهم ووكل بهم اللوزجان، وكتب أسماء جميع أهل آمل حتى لم يخف منهم أحد عليه، ثم عرضهم بعد ذلك على الأسماء حتى اجتمعوا، ولم يتخلف منهم احد، واحدق الرجال في السلاح بهم، وصفوا جميعا، ووكل بكل واحد منهم رجلين بالسلاح، وأمر الموكل بهم أن يحمل رأس كل من كاع عن المشي، وساقهم مكتفين حتى وافى بهم جبلا يقال له هرمز داباذ، على ثمانية فراسخ من آمل وثمانية فراسخ من مدينة سارية، وكبلهم بالحديد، وحبسهم.
وبلغت عدتهم عشرين ألفا، وذلك في سنة خمس وعشرين ومائتين فيما ذكر عن محمد بن حفص.
فأما غيره من أهل الأخبار وجماعة ممن أدرك ذلك فإنهم قالوا: كان ذلك في سنة أربع وعشرين ومائتين، وهذا القول عندي أولى بالصواب، وذلك أن مقتل مازيار كان في سنة خمس وعشرين ومائتين وكان فعله ما فعل بأهل طبرستان قبل ذلك بسنة.
رجع الحديث إلى الخبر عن قصة مازيار وفعله بأهل آمل على ما ذكر عن محمد بن حفص قال: وكتب إلى الدري ليفعل ذلك بوجوه العرب والأبناء ممن كان معه بمرو، وكبلهم بالحديد، وحبسهم، ووكل بهم الرجال في حبسهم، فلما تمكن المازيار، واستوى له أمره وأمر القوم، جمع أصحابه، وأمر سرخاستان بتخريب سور مدينة آمل، فخربه بالطبول والمزامير، ثم سار إلى مدينة سارية، ففعل بها مثل ذلك.
ثم وجه مازيار أخاه فوهيار إلى مدينة طميس- وهي على حد جرجان من عمل طبرستان- فخرب سورها ومدينتها، وأباح أهلها، فهرب منهم من

(9/84)


هرب، وبلي من بلي ثم توجه بعد ذلك إلى طميس سرخاستان، وانصرف عنها قوهيار، فلحق بأخيه المازيار، فعمل سرخاستان سورا من طميس إلى البحر، ومده في البحر مقدار ثلاثة أميال وكانت الأكاسرة بنته بينها وبين الترك، لان الترك كانت تغير على أهل طبرستان في أيامها، ونزل معسكرا بطميس سرخاستان وصير حولها خندقا وثيقا وابراجا للحرس، وصير عليها بابا وثيقا، ووكل به الرجال الثقات، ففزع أهل جرجان وخافوا على أموالهم ومدينتهم، فهرب منها نفر إلى نيسابور، وانتهى الخبر إلى عبد الله بن طاهر وإلى المعتصم، فوجه إليه عبد الله بن طاهر عمه الحسن بن الحسين بن مصعب، وضم إليه جيشا كثيفا يحفظ جرجان، وأمره أن يعسكر على الخندق، فنزل الحسن بن الحسين معسكرا على الخندق الذى عمله سرخستان، وصار بين العسكرين عرض الخندق، ووجه أيضا عبد الله بن طاهر حيان بن جبلة في أربعة آلاف إلى قومس معسكرا على حد جبال شروين، ووجه المعتصم من قبله محمد بن إبراهيم بن مصعب أخا إسحاق بن إبراهيم في جمع كثيف، وضم إليه الحسن بن قارن الطبري القائد ومن كان بالباب من الطبرية، ووجه منصور بن الحسن هار صاحب دنباوند إلى مدينة الري ليدخل طبرستان من ناحية الري، ووجه أبا الساج إلى اللارز ودنباوند، فلما أحدقت الخيل بالمازيار من كل جانب بعث عند ذلك إبراهيم بن مهران صاحب شرطته وعلي بن ربن الكاتب النصراني، ومعهما خليفة صاحب الحرس إلى أهل المدن المحتبسين عنده، أن الخيل قد زحفت الى من كل جانب، وانما حبستكم ليبعث إلي هذا الرجل فيكم- يعني المعتصم- فلم يفعل، وقد بلغنى ان الحجاج ابن يوسف غضب على صاحب السند في امرأة أسرت من المسلمين، وأدخلت إلى بلاد السند حتى غزا السند، وأنفق بيوت الأموال حتى استنفذ المرأة وردها إلى مدينتها، وهذا الرجل لا يكترث بعشرين ألفا، ولا يبعث إلي يسأل فيكم، وإني لا أقدم على حربه، وأنتم ورائي، فأدوا إلي خراج سنتين، وأخلي سبيلكم، ومن كان منكم شابا قويا قدمته للقتال، فمن وفى لي منكم رددت عليه ماله، ومن لم يف أكون قد أخذت ديته، ومن كان شيخا أو ضعيفا صيرته من الحفظه والبوابين

(9/85)


فقال رجل يقال له موسى بن هرمز الزاهد- كان يقال أنه لم يشرب الماء منذ عشرين سنة- أنا أؤدي إليك خراج سنتين، وأقوم به، فقال خليفة صاحب الحرس لأحمد بن الصقير: لم لا تتكلم، وقد كنت أحظى القوم عند الأصبهبذ، وقد كنت أراك تتغذى معه، وتتكئ على وسادته! وهذا شيء لم يفعله الملك بأحد غيرك، فأنت أولى بالقيام بهذا الأمر من موسى، قال أحمد: إن موسى لا يقدر على القيام بجباية درهم واحد، وإنما أجابكم بجهل وبما هو عليه وعلى الناس أجمع، ولو علم صاحبكم أن عندنا درهما واحدا لم يحبسنا، وانما حبسنا بعد ما استنظف كل ما عندنا من الأموال والذخائر، فإن أراد الضياع بهذا المال أعطيناه فقال له علي بن ربن الكاتب: الضياع للملك لا لكم، فقال له إبراهيم بن مهران: أسألك بالله يا أبا محمد، لما سكت عن هذا الكلام! فقال له أحمد: لم أزل ساكتا حتى كلمني هذا بما قد سمعت سنه 224 ثم انصرفت الرسل على ضمان موسى الزاهد، وأعلموا المازيار ضمانه، وانضم إلى موسى الزاهد قوم من السعاة، فقالوا: فلان يحتمل عشرة آلاف، وفلان يحتمل عشرين ألفا وأقل وأكثر، وجعلوا يستأكلون الناس أهل الخراج وغيرهم، فلما مضى لذلك أيام، رد مازيار الرسل مقتضيا المال، ومتنجزا ما كان من ضمان موسى الزاهد، فلم ير لذلك أثرا ولا تحقيقا، وتحقق قول أحمد، وألزمه الذنب وعلم المازيار أن ليس عند القوم ما يؤدون، وإنما أراد أن يلقي الشر بين أصحاب الخراج، ومن لا خراج عليه من التجار والصناع.
قال: ثم إن سرخاستان كان معه ممن اختار من أبناء القواد وغيرهم من أهل آمل فتيان لهم جلد وشجاعة، فجمع منهم في داره مائتين وستين فتى ممن يخاف ناحيته، وأظهر أنه يريد جمعهم للمناظرة، وبعث إلى الأكرة المختارين من الدهاقين، فقال لهم: إن الأبناء هواهم مع العرب والمسودة، ولست آمن غدرهم ومكرهم، وقد جمعت أهل الظنة ممن أخاف ناحيته، فاقتلوهم لتأمنوا، ولا يكون في عسكركم ممن يخالف هواه هواكم ثم أمر بكتفهم

(9/86)


ودفعهم إلى الأكره ليلا، فدفعوهم إليهم، وصاروا بهم إلى قناة هناك، فقتلوهم ورموا بهم في آبار تلك القناة وانصرفوا فلما ثاب إلى الأكرة عقولهم ندموا على فعلهم، وفزعوا من ذلك، فلما علم المازيار أن القوم ليس عندهم ما يؤدونه إليه، بعث إلى الأكرة المختارين الذين قتلوا المائتين والستين فتى، فقال لهم: إني قد أبحتكم منازل أرباب الضياع وحرمهم- إلا ما كان من جارية جميلة من بناتهم، فإنها تصير للملك- وقال لهم: صيروا إلى الحبس فاقتلوا أرباب الضياع جميعهم قبل ذلك، ثم حوزوا بعد ذلك، ما وهبت لكم من المنازل والحرم، فجبن القوم عن ذلك وخافوا وحذروا فلم يفعلوا ما أمرهم به.
قال: وكان الموكلون بالسور من أصحاب سرخاستان يتحدثون ليلا مع حرس الحسن بن الحسين بن مصعب، وبينهم عرض الخندق، حتى استأنس بعضهم ببعض، وتآمروا وحرس سرخاستان بتسليم السور إليهم، فسلموه، ودخل أصحاب الحسن بن الحسين من ذلك الموضع إلى عسكر سرخاستان في غفلة من الحسن بن الحسين ومن سرخاستان، فنظر أصحاب الحسن إلى قوم يدخلون من الحائط، فدخلوا معهم، فنظر الناس بعضهم إلى بعض، فثاروا.
وبلغ الحسن بن الحسين بن مصعب، فجعل يصيح بالقوم ويمنعهم، ويقول:
يا قوم، إني أخاف عليكم أن تكونوا مثل قوم داوندان، ومضى أصحاب قيس بن زنجويه- وهو من أصحاب الحسن بن الحسين- حتى نصبوا العلم على السور في معسكر سرخاستان، وانتهى الخبر إلى سرخاستان أن العرب قد كسروا السور، ودخلوا بغتة، فلم تكن له همة إلا الهرب، وكان سرخاستان في الحمام، فسمع الصياح، فخرج هاربا في غلالة وقال الحسن بن الحسين حين لم يقدر على رد أصحابه: اللهم إنهم قد عصوني وأطاعوك، اللهم فاحفظهم وانصرهم، ولم يزل أصحاب الحسن يتبعون القوم حتى صاروا إلى الدرب الذي على السور فكسروه، ودخل الناس من غير مانع حتى استولوا على جميع ما في العسكر، ومضى قوم في الطلب.
وذكر عن زراره بن يوسف السجزى أنه قال: مررت في الطلب، فبينا

(9/87)


أنا كذلك، إذ صرت إلى موضع عن يسرة الطريق، فوجلت من الممر فيه، ثم تقحمته بالرمح من غير أن أرى أحدا، وصحت: من أنت؟ ويلك! فإذا شيخ جسيم قد صاح زينهار- يعني الأمان- قال: فحملت عليه، فأخذته، وشددت كتافه، فإذا هو شهريار أخو أبي صالح سرخاستان، صاحب العسكر، قال: فدفعته إلى قائدي يعقوب بن منصور، وحال الليل بيننا وبين الطلب، فرجع الناس إلى المعسكر، وأتي بشهريار إلى الحسن بن الحسين فضرب عنقه وأما أبو صالح فمضى حتى صار على خمسة فراسخ من معسكره، وكان عليلا، فجهده العطش والفزع، فنزل في غيضة يمنة الطريق إلى سفح جبل، وشد دابته واستلقى، فبصر به غلام له ورجل من أصحابه يقال له جعفر بن ونداميد، فنظر إليه نائما، فقال سرخاستان:
يا جعفر، شربة ماء، فقد جهدني العطش، قال: فقلت: ليس معي إناء أغرف به من هذا الموضع، فقال سرخاستان: خذ رأس جعبتي فاسقني به، قال جعفر: وملت إلى عداد من أصحابي، فقلت لهم: هذا الشيطان قد أهلكنا فلم لا نتقرب به إلى السلطان، ونأخذ لأنفسنا الأمان! فقالوا لجعفر: كيف لنا به؟ قال: فوقفهم عليه، وقال لهم: أعينوني ساعة، وأنا أثاوره، فأخذ جعفر خشبة عظيمة وسرخاستان مستلق، فألقى نفسه عليه، وملكوه وشدوه كتافا مع الخشبة، فقال لهم أبو صالح: خذوا مني مائة ألف درهم واتركوني، فإن العرب لا تعطيكم شيئا، قالوا له: أحضرها، قال: هاتوا ميزانا، قالوا:
ومن اين هاهنا ميزان؟ قال: فمن اين هاهنا ما أعطيكم! ولكن صيروا معي إلى المنزل، وأنا أعطيكم العهود والمواثيق أني أفي لكم بذلك، وأوفر عليكم، فصاروا به إلى الحسن بن الحسين، فاستقبلتهم خيل للحسن بن الحسين، فضربوا رءوسهم، وأخذوا سرخاستان منهم، فهمتهم أنفسهم، ومضى أصحاب الحسن بأبي صالح إلى الحسن، فلما وقفوه بين يديه، دعا الحسن قواد طبرستان، مثل محمد بن المغيرة بن شعبة الأزدي وعبد الله بن محمد القطقطي الضبي والفتح بن قراط وغيرهم، فسألهم: هذا سرخاستان؟ قالوا: نعم، فقال لمحمد

(9/88)


ابن المغيرة، قم فاقتله بابنك وأخيك، فقام إليه فضربه بالسيف، وأخذته السيوف فقتل.

ذكر خبر أبي شاس الشاعر
وكان أبو شاس الشاعر، وهو الغطريف بن حصين بن حنش فتى من أهل العراق، ربي بخراسان، أديبا فهما، وكان سرخاستان ألزمه نفسه يتعلم منه أخلاق العرب ومذاهبها، فلما نزل بسرخاستان ما نزل به، وأبو شاس في معسكره، ومعه دواب واثقال، هجم عليه قوم البخارية، من أصحاب الحسن، فانتهبوا جميع ما كان معه، وأصابته جراحات، فبادر أبو شاس فأخذ جرة كانت معه، فوضعها على عاتقه، وأخذ بيده قدحا، وصاح: الماء للسبيل، حتى أصاب غفلة من القوم، فهرب من مضربه، وقد أصابته جراحة، فبصر به غلام- وقد كان مر بمضرب عبد الله بن محمد بن حميد القطقطي الطبري، وكان كاتب الحسن بن الحسين- فعرفوه، عرفه خدمه، وعلى عاتقه الجرة وهو يسقي الماء، فأدخلوه خيمتهم، وأخبروا صاحبهم بمكانه، فأدخل عليه، فحمله وكساه، وأكرمه غاية الإكرام، ووصفه للحسن بن الحسين، وقال له: قل في الأمير قصيدة، فقال أبو شاس: والله لقد امحى ما في صدري من كتاب الله من الهول، فكيف أحسن الشعر! ووجه الحسن برأس أبي صالح سرخاستان إلى عبد الله بن طاهر، ولم يزل من معسكره وذكر عن محمد بن حفص أن حيان بن جبلة مولى عبد الله بن طاهر، كان أقبل مع الحسن بن الحسين إلى ناحية طميس، فكاتب قارن بن شهريار، ورغبه في الطاعة، وضمن له أن يملكه على جبال أبيه وجده، وكان قارن من قواد مازيار وهو ابن أخيه وكان مازيار صيره مع أخيه عبد الله بن قارن، وضم إليهما عدة من ثقات قواده وقراباته، فلما استماله حيان، وكان قارن قد ضمن له أن يسلم له الجبال، ومدينة سارية إلى حد جرجان، على أن يملكه على جبال أبيه وجده إذا وفى له بالضمان، وكتب بذلك حيان إلى عبد الله بن طاهر، سجل له عبد الله بن طاهر بكل ما سأل، وكتب إلى حيان بأن

(9/89)


يتوقف ولا يدخل الجبل ولا يوغل حتى يكون من قارن ما يستدل به على الوفاء، لئلا يكون منه مكر، فكتب حيان إلى قارن بذلك، فدعا قارن بعبد الله ابن قارن وهو أخو مازيار، ودعا جميع قواده إلى طعامه، فلما أكلوا ووضعوا سلاحهم واطمأنوا أحدق بهم أصحابه في السلاح الشاك، وكتفهم ووجه بهم إلى حيان بن جبلة، فلما صاروا إليه استوثق منهم، وركب حيان في جمعه حتى دخل جبال قارن.
وبلغ مازيار الخبر فاغتم لذلك، وقال له القوهيار أخوه: في حبسك عشرون ألفا من المسلمين، من بين إسكاف وخياط، وقد شغلت نفسك بهم، وإنما أتيت من مأمنك وأهل بيتك وقرابتك، فما تصنع بهؤلاء المحبسين عندك؟ قال: فأمر مازيار بتخلية جميع من في حبسه، ثم دعا إبراهيم بن مهران صاحب شرطته، وعلي بن ربن النصراني كاتبه، وشاذان بن الفضل صاحب خراجه، ويحيى بن الروذبهار جهبذه، وكان من أهل السهل عنده، فقال لهم: إن حرمكم ومنازلكم وضياعكم بالسهل، وقد دخلت العرب إليكم، وأكره أن أشومكم، فاذهبوا إلى منازلكم، وخذوا لأنفسكم الأمان ثم وصلهم، وأذن لهم في الانصراف، فصاروا إلى منازلهم وأخذوا الأمان لأنفسهم.
ولما بلغ أهل مدينة سارية أخذ سرخاستان واستباحة عسكره ودخول حيان ابن جبلة جبل شروين، وثبوا على عامل مازيار بسارية- وكان يقال له مهريستاني بن شهريز- فهرب منهم، ونجا بنفسه، وفتح الناس باب السجن، وأخرجوا من فيه، ووافى حيان بعد ذلك مدينة سارية وبلغ قوهيار أخا مازيار موافاة حيان سارية، فأطلق محمد بن موسى بن حفص الذي كان عامل طبرستان من حبسه، وحمله على بغل بسرج، ووجه به إلى حيان ليأخذ له الأمان، ويجعل له جبال أبيه وجده على أن يسلم إليه مازيار، ويوثق

(9/90)


له بذلك بضمان محمد بن موسى بن حفص وأحمد بن الصقير، فلما صار محمد بن موسى إلى حيان، وأخبره برسالة قوهيار إليه، قال له حيان: من هذا؟
يعني احمد، قال: شيخ البلاد، وبقية الخلفاء والأمير عبد الله بن طاهر به عارف، فبعث حيان إلى أحمد، فأتاه فأمره بالخروج إلى مسلحة خرماباذ مع محمد بن موسى وكان لأحمد ابن يقال له إسحاق، وكان قد هرب من مازيار، يأوي نهاره الغياض، ويصير بالليل إلى ضيعة يقال لها ساواشريان، وهي على طريق الجادة من قدح الأصبهبذ الذي فيه قصر مازيار.
فذكر عن إسحاق، أنه قال: كنت في هذه الضيعة، فمر بي عدة من أصحاب مازيار، معهم دواب تقاد وغير ذلك، قال: فوثبت على فرس منها هجين ضخم، فركبته عريا، وصرت إلى مدينة سارية، فدفعته إلى أبي، فلما أراد أحمد الخروج إلى خرماباذ ركب ذلك الفرس، فنظر إليه حيان، فأعجبه، فالتفت حيان إلى اللوزجان- وكان من أصحاب قارن- فقال له:
رأيت هذا الشيخ على فرس نبيل قل ما رأيت مثله، فقال له اللوزجان: هذا الفرس كان لمازيار، فبعث حيان إلى أحمد يسأله البعثة بالفرس إليه، لينظر إليه، فبعث به إليه، فلما تأمل النظر وفتشه وجده مشطب اليدين، فزهد فيه، ودفعه إلى اللوزجان، وقال لرسول أحمد: هذا لمازيار، ومال مازيار لأمير المؤمنين، فرجع الرسول فأخبر أحمد، فغضب على اللوزجان من ذلك، فبعث إليه أحمد بالشتيمة، فقال اللوزجان: ما لي في هذا ذنب! ورد الفرس إلى أحمد، ومعه برذون وشهرى فاره، فأمر رسوله فدفعهما إليه.
وغضب أحمد من فعل حيان به، وقال: هذا الحائك يبعث إلى شيخ مثلي فيفعل به ما فعل! ثم كتب إلى قوهيار: ويحك! لم تغلط في أمرك وتترك مثل الحسن بن الحسين عم الأمير عبد الله بن طاهر، وتدخل في أمان هذا العبد الحائك، وتدفع أخاك، وتضع قدرك، وتحقد عليك الحسن بن الحسين

(9/91)


بتركك إياه وميلك إلى عبد من عبيده! فكتب إليه قوهيار: قد غلطت في أول الأمر، وواعدت الرجل أن أصير إليه بعد غد، ولا آمن إن خالفته أن يناهضني ويحاربني، ويستبيح منازلي وأموالي، وإن قاتلته فقتلت من أصحابه، وجرت الدماء بيننا وقعت الشحناء، ويبطل هذا الأمر الذي التمسته.
فكتب إليه أحمد: إذا كان يوم الميعاد فابعث إليه رجلا من أهل بيتك، واكتب إليه أنه قد عرضت لك علة منعتك من الحركة، وإنك تتعالج ثلاثة أيام، فإن عوفيت وإلا صرت إليه في محمل، وسنحمله نحن على قبول ذلك منك، والمصير في الوقت.
وإن أحمد بن الصقير ومحمد بن موسى بن حفص كتبا إلى الحسن بن الحسين وهو في معسكره بطميس ينتظر أمر عبد الله بن طاهر وجواب كتابه بقتل سرخاستان وفتح طميس، فكتبا إليه أن اركب إلينا لندفع إليك مازيار والجبل، والا فاتك، فلا تقم ووجها الكتاب مع شاذان بن الفضل الكاتب، وامراه أن يعجل السير.
فلما وصل الكتاب إلى الحسن ركب من ساعته، وسار مسيرة ثلاثة أيام في ليلة، حتى انتهى إلى سارية، فلما أصبح سار إلى خرماباذ- وهو يوم موعد قوهيار- وسمع حيان وقع طبول الحسن، فركب فتلقاه على راس فرسخ، فقال له الحسن: ما تصنع هاهنا! فما يؤمنك أن يبدو للقوم، فيغدروا بك، فينتقض عليك جميع ما عملت ارجع إلى الجبل، فصير مسالحك في النواحي والأطراف، وأشرف على القوم أشرافا لا يمكنهم الغدر، إن هموا به.
فقال له حيان: أنا على الرجوع، وأريد أن أحمل أثقالي، وأتقدم إلى رجالي بالرحلة، فقال له الحسن: امض أنت، فأنا باعث بأثقالك ورجالك خلفك، وبت الليلة بمدينة سارية حتى يوافوك، ثم تبكر من غد، فخرج حيان من فوره كما أمره الحسن إلى سارية، ثم ورد عليه كتاب عبد الله بن طاهر أن

(9/92)


يعسكر بلبورة- وهي من جبال ونداهرمز، وهي أحصن موضع من جباله، وكان أكثر مال مازيار بها- وأمره عبد الله ألا يمنع قارن مما يريد من تلك الجبال والأموال فاحتمل قارن ما كان لمازيار هنالك من المال، والذي كان بأسباندرة من ذخائر مازيار، وما كان لسرخاستان بقدح السلتان، واحتوى على ذلك كله.
فانتقض على حيان جميع ما كان سنح له بسبب ذلك الفرس، وتوفي بعد ذلك حيان بن جبلة فوجه عبد الله مكانه على أصحابه محمد الحسين بن مصعب، وتقدم إليه عبد الله ألا يضرب على يدي قارن في شيء يريده، وصار الحسن ابن الحسين إلى خرماباذ، فأتاه محمد بن موسى بن حفص واحمد بن الصقير، فتناظروا سرا، فجزاهما خيرا، وكتب هو إلى قوهيار، فوافى خرماباذ، وصار إلى الحسن، فبره وأكرمه وأجابه إلى كل ما سال، واتعدا على يوم، ثم صرفه وصار قوهيار إلى مازيار، فأعلمه أنه قد أخذ له الأمان، واستوثق له وكان الحسين بن قارن قد كاتب قوهيار من ناحية محمد بن إبراهيم بن مصعب، وضمن له الرغائب عن أمير المؤمنين، فأجابه قوهيار، وضمن له ما ضمن لغيره، كل ذلك ليردهم عن الحرب ومال إليه فركب محمد بن إبراهيم من مدينة آمل، وبلغ الحسن بن الحسين الخبر فذكر عن إبراهيم بن مهران أنه كان يتحدث عند أبي السعدي، فلما قرب وكان طريقه على باب مضرب الحسن قال: فلما حاذيت مضربه، إذا بالحسن الزوال انصرف يريد منزله راكب وحده، لم يتبعه إلا ثلاثة غلمان له أتراك، قال: فرميت بنفسي، وسلمت عليه، فقال: اركب، فلما ركبت قال: أين طريق آرم؟ قلت: هي على هذا الوادي، فقال لي: امض أمامي، قال: فمضيت حتى بلغت دربا على ميلين من آرم، قال: ففزعت، وقلت: أصلح الله الأمير! هذا موضع مهول، ولا يسلكه الا الف فارس، فأرى لك أن تنصرف

(9/93)


ولا تدخله قال: فصاح بي: امض، فمضيت وأنا طائش العقل، ولم نر في طريقنا أحدا حتى وافينا آرم، فقال لي: أين طريق هرمزداباذ؟
قلت: على هذا الجبل في هذا الشراك، قال: فقال لي: سر إليها، فقلت: أعز الله الأمير! الله الله في نفسك وفينا وفي هذا الخلق الذي معك! قال: فصاح بي:
امض يا بن اللخناء، قال: فقلت له: أعزك الله! اضرب أنت عنقي، فإنه أحب إلي من أن يقتلني مازيار، ويلزمني الأمير عبد الله بن طاهر الذنب.
قال: فانتهرني حتى ظننت أنه سيبطش بي، ومضيت وأنا خليع الفؤاد، وقلت في نفسي: الساعة نؤخذ جميعا، او نوقف بين يدي مازيار فيوبخني، ويقول: جئت دليلا علي! فبينا نحن كذلك إذ وافينا هرمزداباذ مع اصفرار الشمس، فقال لي: أين كان سجن المسلمين هاهنا؟ فقلت له: في هذا الموضع.
قال: فنزل فجلس ونحن صيام، والخيل تلحقنا متقطعة، وذلك أنه ركب من غير علم الناس، فعلموا بعد ما مضى، فدعا الحسن بيعقوب بن منصور، فقال له: يا أبا طلحة، أحب أن تصير إلى الطالقانية، فتلطف بحيلك لجيش أبي عبد الله محمد بن إبراهيم بن مصعب هنالك ساعتين أو ثلاث ساعات أو أكثر، ما أمكنك وكان بينه وبين الطالقانية فرسخان أو ثلاثة فراسخ، قال إبراهيم: فبينا نحن وقوف بين يدي الحسن، إذ دعا بقيس بن زنجويه، فقال له: امض إلى درب لبورة، وهو على أقل من فرسخ، فابرز بأصحابك على الدرب.
قال: فلما صلينا المغرب وأقبل الليل، إذا أنا بفرسان بين أيديهم الشمع مشتعلا مقبلين من طريق لبورة، فقال لي: يا إبراهيم، أين طريق لبورة؟
فقلت: أرى نيرانا وفرسانا قد أقبلوا من ذلك الطريق، قال: وأنا داهش لا أقف على ما نحن فيه، حتى قربت النيران منا، فأنظر فإذا المازيار مع القوهيار، فلم

(9/94)


أشعر حتى نزلا، وتقدم المازيار، فسلم على الحسن بالإمرة، فلم يرد عليه، وقال لطاهر بن إبراهيم وأوس البلخي: خذاه إليكما.
وذكر عن أخي وميدوار بن خواست جيلان، أنه في تلك الليلة صار مع نفر إلى قوهيار، وقال له: اتق الله، قد خلفت سرواتنا، فأذن لي أكنف هؤلاء العرب كلهم، فإن الجند حيارى جياع، وليس لهم طريق يهربون، فتذهب بشرفها ما بقي الدهر، ولا تثق بما يعطيك العرب، فليس لهم وفاء! فقال قوهيار: لا تفعلوا، وإذا قوهيار قد عبى علينا العرب، ودفع مازيار وأهل بيته إلى الحسن لينفرد بالملك، ولا يكون أحد ينازعه ويضاده.
فلما كان في السحر، وجه الحسن بالمازيار مع طاهر بن إبراهيم وأوس البلخي إلى خرماباذ، وأمرهما أن يمرا به إلى مدينة سارية، وركب الحسن، وأخذ على وادي بابك إلى الكانية مستقبلا محمد بن إبراهيم بن مصعب، فالتقيا ومحمد يريد المصير إلى هرمزداباذ لأخذ المازيار، فقال له الحسن: يا أبا عبد الله، أين تريد؟ قال: أريد المازيار، فقال: هو بسارية، وقد صار إلي، ووجهت به إلى هنالك، فبقي محمد بن إبراهيم متحيرا وكان القوهيار قد هم بالغدر بالحسن، ودفع المازيار إلى محمد بن إبراهيم، فسبق الحسن إلى ذلك، وتخوف القوهيار منه أن يحاربه حين رآه متوسطا الجبل ان أحمد بن الصقير كتب إلى القوهيار: لا أرى لك التخليط والمناصبة لعبد الله بن طاهر، وقد كتب اليه بخبرك وضمانك فلا تكن ذا قلبين، فعند ذلك حذره ودفعه إلى الحسن، وصار محمد بن إبراهيم والحسن بن الحسين إلى هرمزداباذ، فأحرقا قصر المازيار بها، وأنهبا ماله، ثم صارا إلى معسكر الحسن بخرماباذ، ووجها إلى إخوة المازيار، فحبسوا هناك في داره، ووكل بهم ثم رحل الحسن إلى مدينة سارية، فأقام بها، وحبس المازيار بقرب خيمة الحسن، وبعث الحسن إلى محمد بن موسى بن حفص يسأله عن القيد الذي كان قيده به المازيار، فبعث به محمد إليه، فقيد المازيار بذلك القيد، ووافى محمد بن إبراهيم الحسن بمدينة سارية ليناظره في مال المازيار وأهل بيته، فكتبا بذلك

(9/95)


إلى عبد الله بن طاهر، وانتظرا أمره، فورد كتاب عبد الله إلى الحسن بتسليم المازيار وإخوته وأهل بيته إلى محمد بن إبراهيم، ليحملهم إلى أمير المؤمنين المعتصم، ولم يعرض عبد الله لأموالهم، وأمره أن يستصفي جميع ما للمازيار ويحرزه، فبعث الحسن إلى المازيار فأحضره، وسأله عن أمواله فذكر أن ماله عند قوم سماهم، من وجوه أهل سارية وصلحائهم عشرة نفر، وأحضر القوهيار، وكتب عليه كتابا، وضمنه توفير هذه الأموال التي ذكرها المازيار أنها عند خزانه وأصحاب كنوزه، فضمن القوهيار ذلك وأشهد على نفسه.
ثم أن الحسن أمر الشهود الذين أحضرهم أن يصيروا إلى المازيار، فيشهدوا عليه، فذكر عن بعضهم، أنه قال: لما دخلنا على المازيار، تخوفت من أحمد بن الصقير أن يفزعه بالكلام، فقلت له: أحب أن تمسك عنه، ولا تذكر ما كنت أشرت به، فسكت أحمد عند ذلك، فقال المازيار: اشهدوا أن جميع ما حملت من أموالي وصحبني ستة وتسعون ألف دينار، وسبع عشرة قطعة زمرد، وست عشرة قطعة ياقوت أحمر، وثمانية أوقار سلال مجلدة، فيها ألوان الثياب، وتاج وسيف من ذهب وجوهر، وخنجر من ذهب مكلل بالجوهر، وحق كبير مملوء جوهرا، وقد وضعه بين أيدينا، وقد سلمت ذلك إلى محمد بن الصباح، وهو خازن عبد الله بن طاهر وصاحب خبره على العسكر وإلى القوهيار قال: فخرجنا إلى الحسن بن الحسين، فقال: أشهدتم على الرجل؟ قال: قلنا: نعم، قال: هذا شيء كنت اخترته لي، فأحببت أن يعلم قلته وهو انه عندي.
وذكر عن علي بن ربن النصراني الكاتب أن ذلك الحق كان شري جوهره على المازيار وجده وشهريار ثمانية عشر ألف ألف درهم، وكان المازيار حمل ذلك كله إلى الحسن بن الحسين، على أن يظهر أنه خرج إليه في الأمان، وأنه قد آمنه على نفسه وماله وولده، وجعل له جبال أبيه، فامتنع الحسن بن

(9/96)


الحسين من هذا وعف عنه- وكان أعف الناس عن أخذ درهم أو دينار- فلما أصبح أنفذ المازيار مع طاهر بن إبراهيم وعلي بن إبراهيم الحربي، وورد كتاب عبد الله بن طاهر في إنفاذه مع يعقوب بن منصور، وقد ساروا بالمازيار ثلاث مراحل، فبعث الحسن فرده، وأنفذه مع يعقوب بن منصور ثم أمر الحسن بن الحسين القوهيار أخا المازيار أن يحمل الأموال التي ضمنها، ودفع إليه بغالا من العسكر، وأمر بإنفاذ جيش معه، فامتنع القوهيار، وقال:
لا حاجة لي بهم، وخرج بالبغال هو وغلمانه، فلما ورد الجبل وفتح الخزائن، وأخرج الأموال وعباها ليحملها، وثب عليه مماليك المازيار من الديالمة- وكانوا ألفا ومائتين- فقالوا له: غدرت بصاحبنا، وأسلمته إلى العرب، وجئت لتحمل أمواله! فأخذوه وكبلوه بالحديد، فلما جنه الليل قتلوه، وانتهبوا تلك الأموال والبغال، فانتهى الخبر إلى الحسن، فوجه جيشا إلى الذين قتلوا القوهيار، ووجه قارن جيشا من قبله في أخذهم، فأخذ منهم صاحب قارن عدة، منهم ابن عم للمازيار، يقال له شهريار بن المصمغان- وكان رأس العبيد ومحرضهم- فوجه به قارن إلى عبد الله بن طاهر، فلما صار بقومس مات، وكان جماعة أولئك الديالمة أخذوا على السفح والغيضة يريدون الديلم، فنذر بهم محمد بن إبراهيم بن مصعب، فوجه من قبله الطبرية وغيرهم حتى عارضوهم، وأخذوا عليهم الطريق، فأخذوا، فبعث بهم إلى مدينة سارية مع علي بن إبراهيم، وكان مدخل محمد بن إبراهيم حين دخل من شلنبة على طريق الروذبار الى الوريان.
وقيل: إن فساد أمر مازيار وهلاكه كان من قبل ابن عم له يقال له كان في يديه جبال طبرستان كلها، وكان في يد المازيار السهل، وكان ذلك كالقسمة بينهم يتوارثونه، فذكر عن محمد بن حفص الطبري أن الجبال بطبرستان ثلاثة: جبل ونداهرمز في وسط جبال طبرستان، والثاني جبل أخيه

(9/97)


وندا سبجان بن الأنداد بن قارن، والثالث جبل شروين بن سرخاب ابن باب، فلما قوي أمر المازيار بعث إلى ابن عمه ذلك، وقيل هو أخوه القوهيار، فألزمه بابه، وولى الجبل واليا من قبله.
يقال له دري، فلما احتاج المازيار إلى الرجال لمحاربة عبد الله بن طاهر، دعا بابن عمه أو أخيه القوهيار، فقال له: أنت أعرف بجبلك من غيرك، وأظهره على أمر الأفشين ومكاتبته له، وقال له: صر في ناحية الجبل، فاحفظ علي الجبل.
وكتب المازيار إلى الدري يأمره بالقدوم عليه، فقدم عليه، فضم إليه العساكر، ووجهه في وجه عبد الله بن طاهر، وظن أنه قد توثق من الجبل بابن عمه أو أخيه القوهيار، وذلك أن الجبل لم يظن أنه يؤتى منه لأنه ليس فيه للعساكر والمحاربة طريق لكثرة المضايق والشجر الذي فيه، وتوثق من المواضع التي يتخوف منها بالدري وأصحابه، وضم إليه المقاتلة وأهل عسكره، فوجه عبد الله بن طاهر عمه الحسن بن الحسين بن مصعب في جيش كثيف من خراسان إلى المازيار، ووجه المعتصم محمد بن إبراهيم بن مصعب، ووجه معه صاحب خبر يقال له يعقوب بن إبراهيم البوشنجي مولى الهادي، ويعرف بقوصرة، يكتب بخبر العسكر، فوافى محمد بن إبراهيم الحسن بن الحسين، وزحفت العساكر نحو المازيار حتى قربوا منه، والمازيار لا يشك أنه قد توثق من الموضع الذى تلقاه الجبل فيه.
وكان المازيار في مدينته في نفر يسير، فدعا ابن عم المازيار الحقد الذي كان في قلبه على المازيار وصنيعه به وتنحيته إياه عن جبله، أن كاتب الحسن ابن الحسين، وأعلمه جميع ما في عساكره، وأن الأفشين كاتب المازيار.
فأنفذ الحسن كتاب ابن عم المازيار إلى عبد الله بن طاهر، فوجه به عبد الله برجل إلى المعتصم، وكاتب عبد الله والحسن بن الحسين ابن عم المازيار- وقيل القوهيار- وضمنا له جميع ما يريد، وكان ابن عم المازيار أعلم عبد الله

(9/98)


ابن طاهر أن الجبل الذي هو عليه كان له ولأبيه ولآبائه من قبل المازيار، وأن المازيار عند تولية الفضل بن سهل إياه طبرستان انتزع الجبل من يديه، وألزمه بابه، واستخف به، فشرط له عبد الله بن طاهر إن هو وثب بالمازيار، واحتال له أن يصير الجبل في يديه على حسب ما لم يزل، ولا يعرض له فيه، ولا يحارب.
فرضي بذلك ابن عم المازيار، فكتب له عبد الله بن طاهر بذلك كتابا، وتوثق له فيه، فوعد ابن عم المازيار الحسن بن الحسين ورجالهم أن يدخلهم الجبل، فلما كان وقت الميعاد، أمر عبد الله بن طاهر الحسن بن الحسين أن يزحف للقاء الدري، ووجه عسكرا ضخما عليه قائد من قواده في جوف الليل، فوافوا ابن عم المازيار في الجبل، فسلم الجبال إليهم، وأدخلهم إليها، وصاف الدري العسكر الذي بإزائه، فلم يشعر المازيار وهو في قصره حتى وقفت الرجالة والخيل على باب قصره، والدري يحارب العسكر الآخر، فحصروا المازيار، وأنزلوه على حكم أمير المؤمنين المعتصم.
وذكر عمرو بن سعيد الطبري أن المازيار كان يتصيد، فوافته الخيل في الصيد، فأخذ أسيرا، ودخل قصره عنوة، وأخذ جميع ما فيه، وتوجه الحسن بن الحسين بالمازيار، والدري يقاتل العسكر الذي بإزائه، لم يعلم بأخذ المازيار، فلم يشعر إلا وعسكر عبد الله بن طاهر من ورائه، فتقطعت عساكره، فانهزم ومضى يريد الدخول إلى بلاد الديلم، فقتل أصحابه، واتبعوه فلحقوه في نفر من أصحابه، فرجع يقاتلهم، فقتل وأخذ رأسه، فبعث به إلى عبد الله بن طاهر وقد صار المازيار في يده، فوعده عبد الله ابن طاهر إن هو أظهره على كتب الأفشين أن يسأل أمير المؤمنين الصفح عنه، وأعلمه عبد الله أنه قد علم أن الكتب عنده فأقر المازيار بذلك، فطلبت الكتب فوجدت، وهي عدة كتب، فأخذها عبد الله بن طاهر،

(9/99)


فوجه بها مع المازيار إلى إسحاق بن إبراهيم، وأمره ألا يخرج الكتب من يده ولا المازيار إلا إلى يد أمير المؤمنين، لئلا يحتال للكتب والمازيار، ففعل إسحاق ذلك، فأوصلها من يده إلى يد المعتصم، فسأل المعتصم المازيار عن الكتب، فلم يقر بها، فأمر بضرب المازيار حتى مات، وصلب إلى جانب بابك.
وكان المأمون يكتب إلى المازيار: من عبد الله المأمون إلى جيل جيلان أصبهبذ أصبهبذان بشوار جرشاه محمد بن قارن مولى أمير المؤمنين.
وقد ذكر أن بدء وهي أمر الدري، كان أنه لما بلغه بعد ما ضم إليه المازيار الجيش نزول جيش محمد بن إبراهيم دنباوند، وجه أخاه بزرجشنس، وضم إليه محمدا وجعفرا ابني رستم الكلاري ورجالا من اهل الثغر واهل اهل الرويان، وأمرهم أن يصيروا إلى حد الرويان والري لمنع الجيش، وكان الحسن بن قارن قد كاتب محمدا وجعفرا ابني رستم، ورغبهما، وكانا من رؤساء أصحاب الدري، فلما التقى جيش الدري وجيش محمد بن إبراهيم، انقلب ابنا رستم وأهل الثغرين وأهل الرويان على بزرجشنس أخي الدري، فأخذوه أسيرا، وصاروا مع محمد بن إبراهيم على مقدمته، وكان الدري بموضع يقال له مزن في قصره مع أهله وجميع عسكره فلما بلغه غدر محمد وجعفر ابني رستم ومتابعة أهل الثغرين والرويان لهما وأسر أخيه بزرجشنس، اغتم لذلك غما شديدا، وأذعن أصحابه، وهمتهم أنفسهم، وتفرق عامتهم يطلبون الأمان، ويحتالون لأنفسهم فبعث الدري إلى الديالمة فصار ببابه مقدار أربعة آلاف رجل منهم، فرغبهم ومناهم ووصلهم ثم ركب وحمل الأموال معه، ومضى كأنه يريد أن يستنقذ أخاه ويحارب محمد بن إبراهيم، وإنما أراد الدخول إلى الديلم، والاستظهار بهم على محمد بن إبراهيم.
فاستقبله محمد بن إبراهيم في جيشه، فكانت بينهم وقعة صعبه، فلما

(9/100)


مضى الدري هرب الموكلون بالسجن، وكسر أهل السجن أقيادهم، وخرجوا هاربين، ولحق كل إنسان ببلده واتفق خروج أهل سارية الذين كانوا في حبس المازيار وخروج هؤلاء الذين كانوا في حبس الدري في يوم واحد، وذلك في شعبان لثلاث عشرة ليلة خلت منه سنة خمس وعشرين ومائتين في قول محمد بن حفص وقال غيره: كان ذلك في سنة أربع وعشرين ومائتين.
وذكر عن داود بن قحذم أن محمد بن رستم، قال: لما التقى الدري ومحمد ابن إبراهيم بساحل البحر، بين الجبل والغيضة والبحر، والغيضة متصلة بالديلم، وكان الدري شجاعا بطلا، فكان يحمل بنفسه على أصحاب محمد حتى يكشفهم، ثم يحمل معارضة من غير هزيمة، يريد دخول الغيضة، شد عليه رجل من أصحاب محمد بن إبراهيم يقال له فند بن حاجبة، فأخذه أسيرا واسترجع، واتبع الجند أصحابه وأخذ جميع ما كان معه من الأثاث والمال والدواب والسلاح، فأمر محمد بن إبراهيم بقتل بزرجشنس أخي الدري، ودعي بالدري فمد يده فقطعت من مرفقه، ومدت رجله فقطعت من الركبة، وكذا باليد الأخرى والرجل الأخرى، فقعد الدري على استه، ولم يتكلم ولم يتزعزع، فأمر بضرب عنقه وظفر محمد بن ابراهيم باصحاب الدري فحملهم مكبلين.
[أخبار متفرقة]
وفي هذه السنة ولي جعفر بن دينار اليمن.
وفيها تزوج الحسن بن الأفشين أترنجة بنت أشناس، ودخل بها في العمري، قصر المعتصم في جمادى الآخرة، وأحضر عرسها عامة أهل سامرا فحدثت أنهم كانوا يغلفون العامة فيها بالغالية في تغار من فضة، وأن المعتصم كان يباشر بنفسه تفقد من حضرها.
وفيها امتنع عبد الله الورثانى بورثان.

(9/101)


ذكر الخبر عن خلاف منكجور الاشروسنى
وفيها خالف منكجور الأشروسني قرابة الأفشين بأذربيجان.
ذكر الخبر عن سبب خلافه:
ذكر أن الأفشين عند فراغه من أمر بابك ومنصرفه من الجبال ولي أذربيجان- وكانت من عمله- وإليه منكجور هذا، فأصاب في قرية بابك في بعض منازله مالا عظيما، فاحتجنه لنفسه، ولم يعلم به الأفشين ولا المعتصم، وكان على البريد بأذربيجان رجل من الشيعة يقال له عبد الله بن عبد الرحمن، فكتب إلى المعتصم بخبر ذلك المال، وكتب منكجور يكذب ذلك، فوقعت المناظرة بين منكجور وعبد الله بن عبد الرحمن، حتى هم منكجور بقتل عبد الله بن عبد الرحمن، فاستغاث عبد الله بأهل أردبيل، فمنعوه مما أراد به منكجور، وبلغ ذلك المعتصم، فأمر الأفشين أن يوجه رجلا من قبله بعزل منكجور، فوجه رجلا من قواده في عسكر ضخم، فلما بلغ منكجور ذلك، خلع وجمع إليه الصعاليك، وخرج من أردبيل، فرآه القائد فواقعه، فانهزم منكجور، وصار إلى حصن من حصون أذربيجان- التي كان بابك أخربها- حصين في جبل منيع، فبناه وأصلحه، وتحصن فيه، فلم يلبث إلا أقل من شهر حتى وثب به أصحابه الذين كانوا معه في الحصن، فأسلموه ودفعوه إلى القائد الذي كان يحاربه، فقدم به إلى سامرا، فأمر المعتصم بحسبه، فاتهم الأفشين في أمره.
وقيل: إن القائد الذي وجه لحرب منكجور هذا كان بغا الكبير.
وقيل: إن بغا لما لقي منكجور خرج منكجور إليه بأمان.
وفيها مات ياطس الرومي، وصلب بسامرا إلى جانب بابك.
وفيها مات إبراهيم بن المهدي في شهر رمضان وصلى عليه المعتصم.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن داود.

(9/102)


ثم دخلت

سنة خمس وعشرين ومائتين

ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث
فمن ذلك كان قدوم الورثاني على المعتصم في المحرم بالأمان.
وفيها قدم بغا الكبير بمنكجور سامرا.
وفيها خرج المعتصم إلى السن، واستخلف أشناس.
وفيها أجلس المعتصم أشناس على كرسي، وتوجه ووشحه في شهر ربيع الأول.
وفيها أحرق غنام المرتد.
وفيها غضب المعتصم على جعفر بن دينار، وذلك من أجل وثوبه على من كان معه من الشاكرية، وحبسه عند أشناس خمسة عشر يوما، وعزله عن اليمن، وولاها إيتاخ، ثم رضي عن جعفر.
وفيها عزل الأفشين عن الحرس ووليه إسحاق بن يحيى بن معاذ.
وفيها وجه عبد الله بن طاهر بمازيار، فخرج إسحاق بن إبراهيم إلى الدسكرة، فأدخله سامرا في شوال، وأمر بحمله على الفيل، فقال محمد بن عبد الملك الزيات:
قد خضب الفيل كعاداته ... يحمل جيلان خراسان
والفيل لا تخضب أعضاؤه ... إلا لذي شأن من الشان
فأبى مازيار أن يركب الفيل، فأدخل على بغل بإكاف، فجلس المعتصم في دار العامة، لخمس ليال خلون من ذي القعدة، وأمر فجمع بينه وبين الأفشين، وقد كان الأفشين حبس قبل ذلك بيوم، فأقر المازيار أن

(9/103)


الأفشين كان يكاتبه، ويصوب له الخلاف والمعصية، فأمر برد الأفشين إلى محبسه، وأمر بضرب مازيار، فضرب أربعمائة سوط وخمسين سوطا، وطلب ماء فسقي، فمات من ساعته.

ذكر الخبر عن غضب المعتصم على الافشين وحبسه
وفيها غضب المعتصم على الأفشين فحبسه.
ذكر الخبر عن سبب غضبه عليه وحبسه إياه:
ذكر أن الأفشين كان أيام حربه بابك ومقامه بأرض الخرمية، لا يأتيه هدية من أهل أرمينية إلا وجه بها إلى أشروسنة، فيجتاز ذلك بعبد الله بن طاهر، فيكتب عبد الله إلى المعتصم بخبره، فكتب المعتصم إلى عبد الله بن طاهر يأمر بتعريف جميع ما يوجه به الأفشين من الهدايا إلى أشروسنة، ففعل عبد الله بذلك، وكان الأفشين كلما تهيأ عنده مال حمله أوساط اصحابه من الدنانير في وسطه، فأخبر عبد الله بذلك، فبينا هو في يوم من الأيام، وقد نزل رسل الأفشين معهم الهدايا نيسابور وجه إليهم عبد الله بن طاهر، وأخذهم ففتشهم، فوجد في أوساطهم همايين، فأخذها منهم، وقال لهم: من أين لكم هذا المال؟ فقالوا: هذه هدايا الأفشين، وهذه أمواله فقال:
كذبتم، لو أراد أخي الأفشين أن يرسل بمثل هذه الأموال لكتب إلي يعلمني ذلك لآمر بحراسته وبذرقته، لأن هذا مال عظيم، وإنما أنتم لصوص.
فأخذ عبد الله بن طاهر المال، وأعطاه الجند قبله، وكتب إلى الأفشين يذكر له ما قال القوم، وقال: أنا أنكر أن تكون وجهت بمثل هذا المال إلى أشروسنة، ولم تكتب إلي تعلمني لأبذرقه، فإن كان هذا المال ليس لك فقد أعطيته الجند مكان المال الذي يوجهه إلي أمير المؤمنين في كل سنة، وإن كان المال لك- كما زعم القوم فإذا جاء المال من قبل أمير المؤمنين رددته إليك، وإن يكن غير ذلك فأمير المؤمنين أحق بهذا المال، وإنما دفعته إلى الجند

(9/104)


لأني أريد أن أوجههم إلى بلاد الترك.
فكتب إليه الأفشين يعلمه أن ماله ومال أمير المؤمنين واحد، ويسأله إطلاق القوم ليمضوا إلى أشروسنة، فأطلقهم عبد الله بن طاهر، فمضوا، فكان ذلك سبب الوحشة بين عبد الله بن طاهر وبين الأفشين.
ثم جعل عبد الله يتتبع عليه، وكان الأفشين يسمع أحيانا من المعتصم كلاما يدل على أنه يريد أن يعزل آل طاهر عن خراسان، فطمع الأفشين في ولايتها، فجعل يكاتب مازيار، ويبعثه على الخلاف، ويضمن له القيام بالدفع عنه عند السلطان، ظنا منه أن مازيار إن خالف احتاج المعتصم إلى أن يوجهه لمحاربته، ويعزل عبد الله بن طاهر ويوليه خراسان، فكان من أمر مازيار ما قد مضى ذكره.
وكان من أمر منكجور بأذربيجان ما قد وصفنا قبل، فتحقق عند المعتصم- بما كان من أمر الأفشين ومكاتبته مازيار بما كان يكاتبه به- ما كان اتهمه به من أمر منكجور، وأن ذلك كان عن رأي الأفشين وأمره إياه به، فتغير المعتصم للأفشين لذلك، وأحس الأفشين بذلك، وعلم تغير حاله عنده، فلم يدر ما يصنع، فعزم- فيما ذكر- على أن يهيئ أطوافا في قصره، ويحتال في يوم شغل المعتصم وقواده أن يأخذ طريق الموصل، ويعبر الزاب على تلك الأطواف، حتى يصير إلى بلاد أرمينية، ثم إلى بلاد الخزر، فعسر ذلك عليه، فهيأ سما كثيرا، وعزم على أن يعمل طعاما ويدعو المعتصم وقواده فيسقيهم، فان لم يجبه المعتصم استاذنه في قواد الأتراك، مثل أشناس وإيتاخ وغيرهم في يوم تشاغل أمير المؤمنين، فإذا صاروا إليه أطعمهم وسقاهم وسمهم، فإذا انصرفوا من عنده خرج من أول الليل، وحمل تلك الأطواف والآلة التي يعبر بها على ظهور الدواب حتى يجيء الى الزاب فيعبر باثقاله على الاطواف، ويعبر الدواب سباحة كما أمكنه، ثم يرسل الأطواف حتى يعبر في دجلة، ويدخل هو بلاد أرمينية، وكانت ولاية أرمينية إليه، ثم

(9/105)


يصير هو إلى بلاد الخزر مستأمنا، ثم يدور من بلاد الخزر إلى بلاد الترك، ويرجع من بلاد الترك إلى بلاد أشروسنة، ثم يستميل الخزر على أهل الإسلام، فكان في تهيئة ذلك.
وطال به الأمر فلم يمكنه ذلك وكان قواد الأفشين ينوبون في دار أمير المؤمنين كما ينوب القواد، فكان واجن الأشروسني قد جرى بينه وبين من قد اطلع على أمر الأفشين حديث، فذكر له واجن أن هذا الأمر لا أراه يمكن ولا يتم، فذهب ذلك الرجل الذي سمع قول واجن، فحكاه للأفشين وسمع بعض من يميل إلى واجن من خدم الأفشين وخاصته ما قال الأفشين في واجن، فلما انصرف واجن من النوبة في بعض الليل أتاه فأخبره أن قد ألقي ذلك إلى الأفشين، فحذر واجن على نفسه، فركب من ساعته في جوف الليل حتى أتى دار أمير المؤمنين، وقد نام المعتصم، فصار إلى إيتاخ، فقال: إن لأمير المؤمنين عندي نصيحة، فقال له إيتاخ: أليس الساعة كنت هاهنا! قد نام أمير المؤمنين فقال له واجن: ليس يمكنني أن أصبر إلى غد، فدق إيتاخ الباب على بعض من يعلم المعتصم بالذي قال واجن، فقال المعتصم: قل له ينصرف الليلة إلى منزله، ويبكر علي في غد فقال واجن: إن انصرفت الليلة ذهبت نفسي، فأرسل المعتصم إلى إيتاخ: بيته الليلة عندك فبيته إيتاخ عنده، فلما أصبح بكر به مع صلاة الغداة، فأوصله إلى المعتصم، فأخبره بجميع ما كان عنده، فدعا المعتصم محمد بن حماد بن دنقش الكاتب، فوجهه يدعو الافشين، فجاء الافشين في سواد، فأمر المعتصم بأخذ سواده، وحبسه، فحبس في الجوسق، ثم بنى له حبسا مرتفعا، وسماه لؤلؤه داخل الجوسق، وهو يعرف الى الان بالافشين.
وكتب المعتصم إلى عبد الله بن طاهر في الاحتيال للحسن بن الأفشين- وكان الحسن قد كثرت كتبه إلى عبد الله بن طاهر في نوح بن أسد- يعلمه تحامله على ضياعه وناحيته، فكتب عبد الله بن طاهر إلى نوح بن أسد يعلمه ما كتب به امير المؤمنين في امره، ويأمره بجمع أصحابه والتأهب له، فإذا قدم عليه الحسن ابن الأفشين بكتاب ولايته استوثق منه، وحمله إليه فكتب عبد الله بن طاهر

(9/106)


إلى الحسن بن الأفشين يعلمه أنه عزل نوح بن أسد، وأنه قد ولاه الناحية، ووجه إليه بكتاب عزل نوح بن أسد.
فخرج الحسن بن الأفشين في قلة من أصحابه وسلاحه، حتى ورد على نوح بن أسد، وهو يظن أنه والي الناحية، فأخذه نوح بن اسد، وشده وثاقا.
ووجه به إلى عبد الله بن طاهر، فوجه به عبد الله إلى المعتصم وكان الحبس الذي بني للأفشين شبيها بالمنارة، وجعل في وسطها مقدار مجلسه، وكان الرجال ينوبون تحتها كما تدور وذكر عن هارون بن عيسى بن المنصور، أنه قال: شهدت دار المعتصم وفيها أحمد بن أبي دواد وإسحاق بن إبراهيم بن مصعب ومحمد بن عبد الملك الزيات، فاتى بالافشين ولم يكن بعد في الحبس الشديد، فأحضر قوم من الوجوه لتبكيت الأفشين بما هو عليه ولم يترك في الدار أحد من أصحاب المراتب إلا ولد المنصور، وصرف الناس.
وكان المناظر له محمد بن عبد الملك الزيات، وكان الذين أحضروا المازيار صاحب طبرستان والموبذ والمرزبان بن تركش- وهو أحد ملوك السغد- ورجلان من أهل السغد، فدعا محمد بن عبد الملك بالرجلين، وعليهما ثياب رثة، فقال لهما محمد بن عبد الملك: ما شأنكما؟ فكشفا عن ظهورهما وهي عارية من اللحم، فقال له محمد: تعرف هذين؟ قال: نعم، هذا مؤذن، وهذا إمام، بنيا مسجدا بأشروسنة فضربت كل واحد منهما ألف سوط، وذلك أن بيني وبين ملوك السغد عهدا وشرطا، أن أترك كل قوم على دينهم وما هم عليه، فوثب هذان على بيت كان فيه أصنامهم- يعني أهل أشروسنة- فأخرجا الأصنام، واتخذاه مسجدا، فضربتهما على هذا ألفا ألفا لتعديهما، ومنعهما القوم من بيعتهم فقال له محمد: ما كتاب عندك قد زينته بالذهب والجواهر والديباج، فيه الكفر بالله؟ قال: هذا كتاب ورثته عن أبي، فيه أدب من آداب العجم، وما ذكرت من الكفر، فكنت أستمتع منه بالأدب، وأترك ما سوى ذلك، ووجدته محلى، فلم تضطرني الحاجة إلى

(9/107)


أخذ الحلية منه، فتركته على حاله، ككتاب كليلة ودمنة وكتاب مزدك في منزلك، فما ظننت أن هذا يخرج من الإسلام.
قال: ثم تقدم الموبذ، فقال: إن هذا كان يأكل المخنوقة، ويحملني على أكلها، ويزعم أنها أرطب لحما من المذبوحة، وكان يقتل شاة سوداء كل يوم أربعاء، يضرب وسطها بالسيف يمشي بين نصفيها ويأكل لحمها.
وقال لي يوما: إني قد دخلت لهؤلاء القوم في كل شيء أكرهه، حتى أكلت لهم الزيت وركبت الجمل، ولبست النعل، غير أني إلى هذه الغاية لم تسقط عني شعرة- يعني لم يطل ولم يختتن.
فقال الأفشين: خبروني عن هذا الذي يتكلم بهذا الكلام، ثقة هو في دينه؟
- وكان الموبذ مجوسيا أسلم بعد على يد المتوكل ونادمه- قالوا: لا، قال: فما معنى قبولكم شهادة من لا تثقون به ولا تعدلونه! ثم أقبل على الموبذ، فقال: هل كان بين منزلي ومنزلك باب أو كوة تطلع علي منها وتعرف أخباري منها؟
قال: لا، قال: أفليس كنت ادخلك الى وابثك سري وأخبرك بالأعجمية وميلي إليها وإلى أهلها؟ قال: نعم، قال: فلست بالثقة في دينك ولا بالكريم في عهدك، إذا أفشيت علي سرا أسررته إليك.
ثم تنحى الموبذ، وتقدم المرزبان بن تركش، فقالوا للأفشين: هل تعرف هذا؟ قال: لا، فقيل للمرزبان: هل تعرف هذا؟ قال: نعم، هذا الأفشين، قالوا له: هذا المرزبان، فقال له المرزبان: يا ممخرق، كم تدافع وتموه! قال له الأفشين: يا طويل اللحية، ما تقول؟ قال: كيف يكتب إليك أهل مملكتك؟ قال: كما كانوا يكتبون إلى أبي وجدي قال:
فقل، قال: لا أقول، فقال المرزبان: أليس يكتبون إليك بكذا وكذا بالأشروسنية؟ قال: بلى، قال: أفليس تفسيره بالعربية إلى إله الآلهة من

(9/108)


عبده فلان بن فلان، قال: بلى! قال محمد بن عبد الملك: والمسلمون يحتملون أن يقال لهم هذا! فما بقيت لفرعون حين قال لقومه: «أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى» ! قال: كانت هذه عادة القوم لأبي وجدي، ولي قبل أن أدخل في الإسلام، فكرهت أن أضع نفسي دونهم فتفسد علي طاعتهم فقال له إسحاق بن ابراهيم بن مصعب: ويحك يا خيذر! كيف تحلف بالله لنا فنصدقك ونصدق يمينك ونجريك مجرى المسلمين، وأنت تدعي ما ادعى فرعون! قال: يا أبا الحسين، هذه سورة قرأها عجيف على علي بن هشام، وأنت تقرؤها علي، فانظر غدا من يقرؤها عليك! قال: ثم قدم مازيار صاحب طبرستان، فقالوا للأفشين: تعرف هذا؟
قال: لا، قالوا للمازيار: تعرف هذا؟ قال: نعم، هذا الأفشين، فقالوا له: هذا المازيار؟ قال: نعم، قد عرفته الآن، قالوا: هل كاتبته؟
قال: لا، قالوا للمازيار: هل كتب إليك؟ قال: نعم، كتب أخوه خاش إلى أخي قوهيار، أنه لم يكن ينصر هذا الدين الأبيض غيري وغيرك وغير بابك، فاما بابك فانه بحمقه قتيل نفسه ولقد جهدت أن أصرف عنه الموت فأبى حمقه إلا أن دلاه فيما وقع فيه، فإن خالفت لم يكن للقوم من يرمونك به غيري ومعي الفرسان وأهل النجدة والبأس، فإن وجهت إليه لم يبق أحد يحاربنا إلا ثلاثة: العرب، والمغاربة، والأتراك، والعربي بمنزلة الكلب اطرح له كسرة ثم اضرب رأسه بالدبوس، وهؤلاء الذباب- يعني المغاربة- إنما هم أكلة رأس، وأولاد الشياطين- يعني الأتراك- فإنما هي ساعه حتى تنفذ سهامهم، ثم تجول الخيل عليهم جولة فتأتي على آخرهم، ويعود الدين إلى ما لم يزل عليه أيام العجم فقال الأفشين: هذا يدعي على أخيه وأخي دعوى لا تجب علي، ولو كنت كتبت بهذا الكتاب إليه لأستميله إلي ويثق بناحيتي كان غير مستنكر، لأني إذا نصرت الخليفة بيدي، كنت بالحيلة أحرى أن أنصره لآخذ بقفاه، وآتي به الخليفة لأحظى به عنده، كما حظي

(9/109)


به عبد الله بن طاهر عند الخليفة ثم نحى المازيار.
ولما قال الأفشين للمرزبان التركشى ما قال، وقال لإسحاق بن إبراهيم ما قال، زجر ابن ابى دواد الأفشين، فقال له الأفشين: أنت يا أبا عبد الله ترفع طيلسانك بيدك، فلا تضعه على عاتقك حتى تقتل به جماعة، فقال له ابن ابى دواد: أمطهر أنت؟ قال: لا، قال: فما منعك من ذلك، وبه تمام الإسلام، والطهور من النجاسة! قال: أوليس في دين الإسلام استعمال التقية؟ قال: بلى، قال: خفت أن أقطع ذلك العضو من جسدي فأموت، قال: أنت تطعن بالرمح، وتضرب بالسيف، فلا يمنعك ذلك من أن تكون في الحرب وتجزع من قطع قلفة! قال: تلك ضرورة تعنيني فأصبر عليها إذا وقعت، وهذا شيء أستجلبه فلا آمن معه خروج نفسي، ولم أعلم أن في تركها الخروج من الإسلام، فقال ابن ابى دواد: قد بان لكم أمره يا بغا- لبغا الكبير أبي موسى التركي- عليك به! قال: فضرب بيده بغا على منطقته فجذبها، فقال قد كنت أتوقع هذا منكم قبل اليوم، فقلب بغا ذيل القباء على رأسه، ثم أخذ بمجامع القباء من عند عنقه، ثم اخرجه من باب الوزيري الى محبسه.
[أخبار متفرقة]
وفي هذه السنة حمل عبد الله بن طاهر الحسن بن الأفشين وأترنجة بنت أشناس إلى سامرا.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن داود

(9/110)


ثم دخلت

سنة ست وعشرين ومائتين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)

خبر وثوب على بن إسحاق برجاء بن ابى الضحاك
فمن ذلك ما كان فيها من وثوب علي بن إسحاق بن يحيى بن معاذ- وكان على المعونة بدمشق من قبل صول أرتكين- برجاء بن أبي الضحاك، وكان على الخراج، فقتله، وأظهر الوسواس، ثم تكلم أحمد بن أبي دواد فيه، فأطلق من محبسه، فكان الحسن بن رجاء يلقاه في طريق سامرا، فقال البحتري الطائي:
عفا علي بن إسحاق بفتكته ... على غرائب تيه كن في الحسن
أنسته تنقيعه في اللفظ نازلة ... لم تبق فيه سوى التسليم للزمن
فلم يكن كابن حجر حين ثار ولا ... أخي كليب ولا سيف بن ذي يزن
ولم يقل لك في وتر طلبت به ... تلك المكارم لا قعبان من لبن
وفيها مات محمد بن عبد الله بن طاهر بن الحسين، فصلى عليه المعتصم في دار محمد
. ذكر الخبر عن موت الافشين
وفيها مات الأفشين.
ذكر الخبر عن موته وما فعل به عند موته وبعده:
ذكر عن حمدون بن إسماعيل، أنه قال: لما جاءت الفاكهة الحديثة، جمع المعتصم من الفواكه الحديثة في طبق، وقال لابنه هارون الواثق: اذهب

(9/111)


بهذه الفاكهة بنفسك إلى الأفشين، فأدخلها إليه فحملت مع هارون الواثق حتى صعد بها اليه في البناء الذى بنى له الذى يسمى لؤلؤه، فحبس فيه، فنظر إليه الأفشين، فافتقد بعض الفاكهة، إما الإجاص وإما الشاهلوج، فقال للواثق: لا إله الا الله، ما أحسنه من طبق، ولكن ليس لي فيه إجاص ولا شاهلوج! فقال له الواثق: هو ذا، انصرف أوجه به إليك، ولم يمس من الفاكهة شيئا، فلما أراد الواثق الانصراف قال له الأفشين: أقرئ سيدي السلام، وقل له: أسألك أن توجه إلي ثقة من قبلك يؤدي عني ما أقول، فأمر المعتصم حمدون بن إسماعيل- وكان حمدون في أيام المتوكل في حبس سليمان بن وهب في حبس الأفشين هذا، فحدث بهذا الحديث وهو فيه:
قال حمدون: فبعث بي المعتصم إلى الأفشين، فقال لي: إنه سيطول عليك فلا تحتبس قال: فدخلت عليه، وطبق الفاكهة بين يديه لم يمس منه واحدة فما فوقها، فقال لي: اجلس، فجلست فاستمالني بالدهقنة، فقلت: لا تطول، فإن أمير المؤمنين قد تقدم إلي ألا أحتبس عندك، فأوجز.
فقال: قل لأمير المؤمنين، أحسنت إلي وشرفتني، وأوطأت الرجال عقبي، ثم قبلت في كلاما لم يتحقق عندك، ولم تتدبره بعقلك، كيف يكون هذا، وكيف يجوز لي أن أفعل هذا الذي بلغك! تخبر بأني دسست إلى منكجور أن يخرج، وتقبله، وتخبر أني قلت للقائد الذي وجهته إلى منكجور:
لا تحاربه، واعذر، وإن أحسست بأحد منا فانهزم من بين يديه، أنت رجل قد عرفت الحرب، وحاربت الرجال، وسست العساكر، هذا يمكن رأس عسكر يقول لجند يلقون قوما: افعلوا كذا وكذا، هذا ما لا يسوغ لأحد أن يفعله، ولو كان هذا يمكن ما كان ينبغي أن تقبله من عدو قد عرفت سببه، وأنت أولى بي، إنما أنا عبد من عبيدك، وصنيعك، ولكن مثلي ومثلك يا أمير المؤمنين مثل رجل ربى عجلا له حتى أسمنه وكبر، وحسنت

(9/112)


حاله، وكان له أصحاب اشتهوا أن يأكلوا من لحمه، فعرضوا له بذبح العجل فلم يجبهم إلى ذلك، فاتفقوا جميعا على أن قالوا له ذات يوم: ويحك! لم تربي هذا الأسد؟ هذا سبع، وقد كبر، والسبع إذا كبر يرجع إلى جنسه! فقال لهم: ويحك هذا عجل بقر، ما هو سبع، فقالوا: هذا سبع، سل من شئت عنه، وقد تقدموا إلى جميع من يعرفونه، فقالوا له: إن سألكم عن العجل، فقولوا له: هذا سبع، فكلما سأل الرجل إنسانا عنه، وقال له: أما ترى هذا العجل ما أحسنه! قال الآخر: هذا سبع، هذا أسد، ويحك! فأمر بالعجل فذبح، ولكني أنا ذلك العجل، كيف أقدر أن أكون أسدا! الله الله في امرى، اصطنعتنى وشرفتني وأنت سيدي ومولاي، أسأل الله أن يعطف بقلبك علي قال حمدون: فقمت فانصرفت، وتركت الطبق على.
حاله لم يمس منه شيئا، ثم ما لبثنا إلا قليلا، حتى قيل: إنه يموت أو قد مات، فقال المعتصم:
أروه ابنه، فأخرجوه فطرحوه بين يديه، فنتف لحيته وشعره، ثم أمر به فحمل إلى منزل إيتاخ.
قال: وكان أحمد بن أبي دواد دعا به في دار العامة من الحبس، فقال له: قد بلغ أمير المؤمنين أنك يا خيدر، أقلف، قال: نعم، وإنما أراد ابن أبي دواد أن يشهد عليه، فإن تكشف نسب إلى الخرع، وإن لم يتكشف صح عليه أنه أقلف، فقال: نعم، أنا أقلف، وحضر الدار ذلك اليوم جميع القواد والناس، وكان ابن ابى دواد أخرجه إلى دار العامة قبل مصير الواثق إليه بالفاكهة، وقبل مصير حمدون بن إسماعيل إليه.
قال حمدون: فقلت له: أنت أقلف كما زعمت؟ فقال الأفشين:
أخرجني إلى مثل ذلك الموضع، وجميع القواد والناس قد اجتمعوا، فقال لي ما قال، وإنما أراد أن يفضحني، إن قلت له: نعم لم يقبل قولي، وقال لي: تكشف، فيفضحني بين الناس، فالموت كان أحب إلي من أن أتكشف

(9/113)


بين أيدي الناس، ولكن يا حمدون إن أحببت أن أتكشف بين يديك حتى تراني فعلت، قال حمدون: فقلت له: أنت عندي صدوق، وما أريد أن تكشف.
فلما انصرف حمدون فأبلغ المعتصم رسالته، أمر بمنع الطعام منه إلا القليل، فكان يدفع إليه في كل يوم رغيف حتى مات، فلما ذهب به بعد موته إلى دار إيتاخ، أخرجوه فصلبوه على باب العامة ليراه الناس، ثم طرح بباب العامة مع خشبته، فأحرق وحمل الرماد، وطرح في دجلة.
وكان المعتصم حين أمر بحبسه وجه سليمان بن وهب الكاتب يحصي جميع ما في دار الأفشين ويكتبه في ليلة من الليالي، وقصر الأفشين بالمطيرة، فوجد في داره بيت فيه تمثال إنسان من خشب، عليه حلية كثيرة وجوهر، وفي أذنيه حجران أبيضان مشتبكان، عليهما ذهب، فأخذ بعض من كان مع سليمان أحد الحجرين، وظن أنه جوهر له قيمة، وكان ذلك ليلا، فلما أصبح ونزع عنه شباك الذهب، وجده حجرا شبيها بالصدف الذي يسمى الحبرون، من جنس الصدف الذي يقال له البوق، من صدف اخرج من منزله صور السماجة وغيرها وأصنام وغير ذلك، والاطواف والخشب التي كان أعدها، وكان له متاع بالوزيرية، فوجد فيه أيضا صنم آخر، ووجدوا في كتبه كتابا من كتب المجوس يقال له زراوه وأشياء كثيرة من الكتب، فيها ديانته التي كان يدين بها ربه.
وكان موت الأفشين في شعبان من سنة ست وعشرين ومائتين.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن داود بأمر أشناس، وكان أشناس.
حاجا في هذه السنة، فولي كل بلدة يدخلها فدعي له على جميع المنابر التي

(9/114)


مر بها من سامرا إلى مكة والمدينة.
وكان الذي دعا له على منبر الكوفة محمد بن عبد الرحمن بن عيسى بن موسى، وعلى منبر فيد هارون بن محمد بن أبي خالد المروروذي، وعلى منبر المدينة محمد بن أيوب بن جعفر بن سليمان، وعلى منبر مكة محمد بن داود بن عيسى بن موسى، وسلم عليه في هذه الكور كلها بالإمارة، وكانت له ولايتها إلى أن رجع إلى سامرا.

(9/115)


ثم دخلت

سنة سبع وعشرين ومائتين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)

ذكر خبر خروج ابى حرب المبرقع
فمن ذلك ما كان من خروج أبي حرب المبرقع اليماني بفلسطين وخلافه على السلطان.
ذكر الخبر عن سبب خروجه وما آل إليه أمره:
ذكر لي بعض أصحابي ممن ذكر أنه خبير بأمره، أن سبب خروجه على السلطان كان أن بعض الجند أراد النزول في داره وهو غائب عنها، وفيها إما زوجته وإما أخته، فمانعته ذلك، فضربها بسوط كان معه، فاتقته بذراعها، فأصاب السوط ذراعها، فأثر فيها، فلما رجع أبو حرب إلى منزله بكت وشكت إليه ما فعل بها، وأرته الأثر الذي بذراعها من ضربه، فأخذ أبو حرب سيفه ومشى إلى الجندي وهو غار، فضربه به حتى قتله، ثم هرب وألبس وجهه برقعا كي لا يعرف، فصار إلى جبل من جبال الأردن، فطلبه السلطان فلم يعرف له خبر، وكان أبو حرب يظهر بالنهار فيقعد على الجبل الذي أوى إليه متبرقعا، فيراه الرائي فيأتيه، فيذكره ويحرضه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويذكر السلطان وما يأتي إلى الناس ويعيبه، فما زال ذلك دأبه حتى استجاب له قوم من حراثي أهل تلك الناحية وأهل القرى، وكان يزعم أنه أموي، فقال الذين استجابوا له: هذا هو السفياني، فلما كثرت غاشيته وتباعه من هذه الطبقة من الناس، دعا أهل البيوتات من أهل تلك الناحية، فاستجاب له منهم جماعة من رؤساء اليمانية، منهم رجل يقال له ابن بيهس، كان مطاعا في أهل اليمن ورجلان آخران من أهل دمشق، فاتصل الخبر

(9/116)


بالمعتصم وهو عليل، علته التي مات فيها، فبعث إليه رجاء بن أيوب الحضاري في زهاء الف من الجند، فلما صار رجاء إليه وجده في عالم من الناس.
فذكر الذي أخبرني بقصته أنه كان في زهاء مائة ألف، فكره رجاء مواقعته وعسكر بحذائه، وطاوله، حتى كان أول عمارة الناس الأرضين وحراثتهم، وانصرف من كان من الحراثين مع أبي حرب الى الحراثة وارباب الارضين الى ارضيهم، وبقي أبو حرب في نفر زهاء ألف أو ألفين، ناجزه رجاء الحرب، فالتقى العسكران: عسكر رجاء وعسكر المبرقع، فلما التقوا تأمل رجاء عسكر المبرقع، فقال لأصحابه: ما أرى في عسكره رجلا له فروسية غيره، وإنه سيظهر لأصحابه من نفسه بعض ما عنده من الرجلة، فلا تعجلوا عليه قال: وكان الأمر كما قال رجاء، فما لبث المبرقع أن حمل على عسكر رجاء، فقال رجاء لأصحابه: أفرجوا له، فأفرجوا له، حتى جاوزهم ثم كر راجعا، فأمر رجاء أصحابه أن يفرجوا له، فأفرجوا له حتى جاوزهم، ورجع إلى عسكر نفسه، ثم أمهل رجاء، وقال لأصحابه: إنه سيحمل عليكم مرة أخرى، فأفرجوا له، فإذا أراد الرجوع فحولوا بينه وبين ذلك، وخذوه ففعل المبرقع ذلك، فحمل على أصحاب رجاء، فأفرجوا له حتى جاوزهم، ثم كر راجعا فأحاطوا به، فأخذوه فأنزلوه عن دابته.
قال: وقد كان قدم على رجاء حين ترك معاجلة المبرقع الحرب من قبل المعتصم مستحث، فأخذ الرسول فقيده إلى أن كان من أمره، وأمر أبي حرب ما كان مما ذكرنا، ثم أطلقه.
قال: فلما كان يوم قدوم رجاء بأبي حرب على المعتصم، عزله المعتصم على ما فعل برسوله، فقال له رجاء: يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداك! وجهتني في ألف إلى مائة ألف، فكرهت أن أعاجله فأهلك ويهلك من معي، ولا نغني شيئا، فتمهلت حتى خف من معه، ووجدت فرصة،

(9/117)


ورأيت لحربه وجها وقياما، فناهضته وقد خف من معه وهو في ضعف، ونحن في قوة، وقد جئتك بالرجل أسيرا.
قال أبو جعفر: وأما غير من ذكرت أنه حدثني حديث أبي حرب على ما وصفت، فإنه زعم أن خروجه إنما كان في سنة ست وعشرين ومائتين بالرملة، فقالوا: إنه سفياني، فصار في خمسين ألفا من أهل اليمن وغيرهم، واعتقد ابن بيهس وآخران معه من أهل دمشق، فوجه إليهم، المعتصم رجاء الحضاري في جماعة كبيرة، فواقعهم بدمشق، فقتل من أصحاب ابن بيهس وصاحبيه نحوا من خمسة آلاف، وأخذ ابن بيهس أسيرا، وقتل صاحبيه، وواقع أبا حرب بالرملة، فقتل من أصحابه نحوا من عشرين ألفا، وأسر أبا حرب، فحمل إلى سامرا، فجعل وابن بيهس في المطبق وفي هذه السنة أظهر جعفر بن مهرجش الكردي الخلاف، فبعث إليه المعتصم في المحرم إيتاخ إلى جبال الموصل لحربه، فوثب بجعفر بعض أصحابه فقتله.
وفيها كانت وفاة بشر بن الحارث الحافي في شهر ربيع الأول وأصله من مرو

ذكر الخبر عن وفاه المعتصم والعله التي مات بها
وفيها كانت وفاة المعتصم وذلك- فيما ذكر- يوم الخميس، فقال بعضهم: لثماني عَشْرَةَ لَيْلَةً مَضَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ لساعتين مضتا من النهار.
ذكر الخبر عن العلة التي كانت منها وفاته وقدر مدة عمره وصفته:
ذكر أن بدء علته أنه احتجم أول يوم من المحرم، واعتل عندها، فذكر عن محمد بن أحمد بن رشيد عن زنام الزامر، قال: قد وجد المعتصم في علته التي توفى فيها افاقه، فقال: هيئوا الى الزلال لاركب، فركب وركبت معه، فمر في دجلة بإزاء منازله، فقال: يا زنام، ازمر لي:

(9/118)


يا منزلا لم تبل أطلاله ... حاشى لأطلالك أن تبلى
لم أبك أطلالك لكنني ... بكيت عيشي فيك إذ ولى
والعيش أولى ما بكاه الفتى ... لا بد للمحزون أن يسلى
قال: فما زلت أزمر هذا الصوت حتى دعا برطلية، فشرب منها قدحا وجعلت أزمره وأكرره، وقد تناول منديلا بين يديه، فما زال يبكي ويمسح دموعه فيه وينتحب، حتى رجع إلى منزله، ولم يستتم شرب الرطلية.
وذكر عن علي بن الجعدانة، قال: لما احتضر المعتصم جعل يقول:
ذهبت الحيل ليست حيلة، حتى أصمت.
وذكر عن غيره أنه جعل يقول: إني أخذت من بين هذا الخلق.
وذكر عنه أنه قال: لو علمت أن عمري هكذا قصير ما فعلت.
ما فعلت فلما مات دفن بسامرا، فكانت خلافته ثماني سنين وثمانية أشهر ويومين.
وقيل: كان مولده سنة ثمانين ومائة في شعبان وقيل: كان في سنة تسع وسبعين ومائة، فإن كان مولده سنة ثمانين ومائة فإن عمره كله كان ستا وأربعين سنة وسبعة أشهر وثمانية عشر يوما.
وإن كان مولده سنة تسع وسبعين ومائة، فإن عمره كان سبعا وأربعين سنة وشهرين وثمانية عشر يوما وكان- فيما ذكر- أبيض أصهب اللحية طويلها، مربوعا مشرب اللون حمرة، حسن العينين.
وكان مولده بالخلد وقال بعضهم: ولد سنة ثمانين ومائة في الشهر الثامن.
وهو ثامن الخلفاء، والثامن من ولد العباس، وعمره كان ثمانيا وأربعين سنة.
ومات عن ثمانية بنين وثمان بنات، وملك ثمان سنين وثمانية أشهر، فقال محمد بن عبد الملك الزيات:
قد قلت إذ غيبوك واصطفقت ... عليك أيد بالترب والطين
اذهب فنعم الحفيظ كنت على ... الدنيا ونعم الظهير للدين
لا جبر الله أمة فقدت ... مثلك إلا بمثل هارون

(9/119)


وقال مروان بن أبي الجنوب وهو ابن أبي حفصة:
أبو إسحاق مات ضحى فمتنا ... وأمسينا بهارون حيينا
لئن جاء الخميس بما كرهنا ... لقد جاء الخميس بما هوينا

ذكر الخبر عن بعض أخلاق المعتصم وسيره
ذكر عن ابن ابى دواد أنه ذكر المعتصم بالله، فأسهب في ذكره، وأكثر في وصفه، وأطنب في فضله، وذكر من سعة أخلاقه وكرم أعراقه وطيب مركبه ولين جانبه، وجميل عشرته، فقال: قال لي يوما ونحن بعمورية: ما تقول في البسر يا أبا عبد الله؟ قلت: يا أمير المؤمنين، نحن ببلاد الروم والبسر بالعراق، قال: صدقت قد وجهت إلى مدينة السلام، فجاءوا بكباستين، وعلمت أنك تشتهيه ثم قال: يا إيتاخ، هات إحدى الكباستين، فجاء بكباسة بسر، فمد ذراعه، وقبض عليها بيده، وقال:
كل بحياتي عليك من يدي، فقلت: جعلني الله فداك يا أمير المؤمنين! بل تضعها فآكل كما أريد، قال: لا والله إلا من يدي، قال: فو الله ما زال حاسرا عن ذراعه، ومادا يده، وانا اجتنى من العذق، وآكل حتى رمى به خاليا ما فيه بسرة.
قال: وكنت كثيرا ما أزامله في سفره ذلك، إلى أن قلت له يوما: يا أمير المؤمنين، لو زاملك بعض مواليك وبطانتك فاسترحت مني إليهم مرة، ومنهم إلي مرة أخرى، كان ذلك أنشط لقلبك، وأطيب لنفسك، وأشد لراحتك، قال: فإن سيما الدمشقي يزاملني اليوم، فمن يزاملك أنت؟ قلت: الحسن ابن يونس، قال: فأنت وذاك قال: فدعوت الحسن فزاملني وتهيأ أن ركب المعتصم بغلا، فاختار أن يكون منفردا، قال: فجعل يسير بسير بعيري، فإذا أراد أن يكلمني رفع رأسه إلي، وإذا أردت أن أكلمه خفضت رأسي،

(9/120)


قال: فانتهينا الى واد ولم نعرف غوره، وقد خلفنا العسكر وراءنا، فقال لي: مكانك حتى أتقدم فأعرف غور الماء وأطلب قلته، واتبع أنت موضع سيري، قال: فتقدم فدخل الوادي.
وجعل يطلب قلة الماء، فمره ينحرف عن يمينه، ومره ينحرف عن شماله، وتارة يمشي لسننه، وأنا خلفه متبع لأثره حتى قطعنا الوادي قال: واستخرجت منه لأهل الشاش ألفي ألف درهم لكري نهر لهم اندفن في صدر الإسلام، فأضر ذلك بهم، فقال لي: يا أبا عبد الله، ما لي ولك، تأخذ مالي لأهل الشاش وفرغانة! قلت: هم رعيتك يا أمير المؤمنين، والأقصى والأدنى في حسن نظر الإمام سواء.
وقال غيره: إنه إذا غضب لا يبالي من قتل ولا ما فعل.
وذكر عن الفضل بن مروان أنه قال: لم يكن للمعتصم لذة في تزيين البناء، وكانت غايته فيه الأحكام قال: ولم يكن بالنفقة على شيء أسمح منه بالنفقة في الحرب.
وذكر محمد بن راشد، قال: قال لي أبو الحسين إسحاق بن إبراهيم:
دعاني أمير المؤمنين المعتصم يوما، فدخلت عليه وعليه صدرة وشي ومنطقة ذهب وخف أحمر، فقال لي: يا إسحاق، أحببت أن أضرب معك بالصوالجة، فبحياتي عليك إلا لبست مثل لباسي، فاستعفيته من ذلك فأبى، فلبست مثل لباسه، ثم قدم إليه فرس محلاة بحلية الذهب، ودخلنا الميدان، فلما ضرب ساعة، قال لي: أراك كسلان، وأحسبك تكره هذا الزي، فقلت:
هو ذاك يا أمير المؤمنين، فنزل وأخذ بيدي، ومضى يمشي وأنا معه إلى أن صار إلى حجرة الحمام، فقال: خذ ثيابي يا إسحاق، فأخذت ثيابه حتى تجرد، ثم أمرني بنزع ثيابي ففعلت، ثم دخلنا انا وهو الحمام، وليس معنا غلام، فقمت عليه ودلكته، وتولى أمير المؤمنين المعتصم مني مثل ذلك، وأنا في كل ذلك أستعفيه، فيأبى علي، ثم خرج من الحمام فأعطيته ثيابه، ولبست ثيابي، ثم أخذ بيدي ومضى يمشي، وأنا معه حتى صار إلى مجلسه فقال:

(9/121)


يا إسحاق، جئني بمصلى ومخدتين، فجئته بذلك، فوضع المخدتين، ونام على وجهه، ثم قال: هات مصلى ومخدتين، فجئت بهما، فقال: ألقه ونم عليه بحذائي، فحلفت ألا أفعل، فجلست عليه، ثم حضر إيتاخ التركي وأشناس، فقال لهما: امضيا إلى حيث إذا صحت سمعتما، ثم قال: يا إسحاق، في قلبي أمر أنا مفكر فيه منذ مدة طويلة، وإنما بسطتك في هذا الوقت لأفشيه إليك، فقلت: قل يا سيدي يا أمير المؤمنين، فإنما أنا عبدك وابن عبدك، قال: نظرت إلى أخي المأمون وقد اصطنع أربعة أنجبوا، واصطنعت أنا أربعة لم يفلح أحد منهم، قلت: ومن الذين اصطنعهم أخوك؟ قال: طاهر بن الحسين، فقد رأيت وسمعت، وعبد الله بن طاهر، فهو الرجل الذي لم ير مثله، وأنت، فأنت والله لا يعتاض السلطان منك أبدا، وأخوك محمد بن إبراهيم، وأين مثل محمد! وأنا فاصطنعت الأفشين فقد رأيت إلى ما صار أمره، وأشناس ففشل أيه وإيتاخ فلا شيء، ووصيف فلا مغنى فيه، فقلت: يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداك! أجيب على أمان من غضبك، قال: قل، قلت: يا أمير المؤمنين أعزك الله نظر أخوك إلى الأصول، فاستعملها، فأنجبت فروعها، واستعمل أمير المؤمنين فروعا لم تنجب إذ لا أصول لها، قال: يا إسحاق لمقاساة ما مر بي في طول هذه المدة أسهل علي من هذا الجواب.
وذكر عن إسحاق بن إبراهيم الموصلي، أنه قال: أتيت أمير المؤمنين المعتصم بالله يوما وعنده قينة كان معجبا بها، وهي تغنيه، فلما سلمت وأخذت مجلسي، قال لها: خذي فيما كنت فيه، فغنت فقال لي: كيف تراها يا إسحاق؟ قلت: يا أمير المؤمنين، أراها تقهره بحذق وتختله برفق، ولا تخرج من شيء إلا إلى أحسن منه، وفي صوتها قطع شذور أحسن من نظم الدر على النحور، فقال: يا إسحاق، لصفتك لها احسن منها ومن غنائها، وقال لابنه هارون: اسمع هذا الكلام.
وذكر عن إسحاق بن إبراهيم الموصلي أنه قال: قلت للمعتصم في شيء، فقال لي: يا إسحاق، إذا نصر الهوى بطل الرأي، فقلت له: كنت أحب

(9/122)


يا أمير المؤمنين أن يكون معي شبابي، فأقوم من خدمتك بما أنويه، قال لي: أولست كنت تبلغ إذ ذاك جهدك؟ قلت: بلى، قال: فأنت الآن تبلغ جهدك فسيان إذا.
وذكر عن أبي حسان أنه قال: كانت أم أبي إسحاق المعتصم من مولدات الكوفة يقال لها ماردة.
وذكر عن الفضل بن مروان، أنه قال: كانت أم المعتصم ماردة سغدية، وكان أبوها نشأ بالسواد، قال: أحسبه بالبندنيجين.
وكان للرشيد من ماردة مع أبي إسحاق، أبو إسماعيل، وأم حبيب، وآخران لم يعرف اسماهما.
وذكر عن احمد بن ابى دواد أنه قال: تصدق المعتصم ووهب على يدي وبسببي بقيمة مائة ألف ألف درهم
. خلافة هارون الواثق أبي جعفر
وبويع في يوم توفى المعتصم ابنه هارون الواثق بن محمد المعتصم، وذلك في يوم الأربعاء لثمان ليال خلون من شهر ربيع الأول سنة سبع وعشرين ومائتين وكان يكنى أبا جعفر، وأمه أم ولد رومية تسمى قراطيس.
وهلك هذه السنة توفيل ملك الروم وكان ملكه اثنتي عشرة سنة وفيها ملكت بعده امرأته تذوره، وابنها ميخائيل بن توفيل صبي.
وحج بالناس فيها جعفر بن المعتصم، وكانت أم الواثق خرجت معه تريد الحج، فماتت بالحيرة لأربع خلون من ذي القعدة ودفنت بالكوفة في دار داود بن عيسى.

(9/123)


ثم دخلت

سنة ثمان وعشرين ومائتين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك ما كان من الواثق إلى أشناس أن توجه وألبسه وشاحين بالجوهر في شهر رمضان.
وفيها مات أبو الحسن المدائني في منزل إسحاق بن إبراهيم الموصلي وفيها مات حبيب بن أوس الطائي أبو تمام الشاعر.
وفيها حج سليمان بن عبد الله بن طاهر وفيها غلا السعر بطريق مكة، فبلغ رطل خبز بدرهم وراوية ماء بأربعين درهما وأصاب الناس في الموقف حر شديد ثم مطر شديد فيه برد، فأضر بهم شدة الحر، ثم شده البرد في ساعه واحده، ومطروا بمنى في يوم النحر مطرا شديدا لم يروا مثله، وسقطت قطعة من الجبل عند جمرة العقبة قتلت عدة من الحاج.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن داود.

(9/124)


ثم دخلت

سنة تسع وعشرين ومائتين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)

ذكر الخبر عن حبس الواثق الكتاب وإلزامهم الأموال
فمن ذلك ما كان من حبس الواثق بالله الكتاب وإلزامهم أموالا، فدفع أحمد بن إسرائيل إلى إسحاق بن يحيى بن معاذ صاحب الحرس، وأمر بضربه كل يوم عشرة أسواط، فضربه- فيما قيل- نحوا من ألف سوط، فأدى ثمانين ألف دينار، وأخذ من سليمان بن وهب كاتب ايتاخ أربعمائة ألف دينار، ومن الحسن بن وهب أربعة عشر الف دينار، وأخذ من أحمد بن الخصيب وكتابه ألف ألف دينار، ومن إبراهيم بن رباح وكتابه مائة ألف دينار، ومن نجاح ستين ألف دينار، ومن أبي الوزير صلحا مائة ألف وأربعين ألف دينار، وذلك سوى ما أخذ من العمال بسبب عمالاتهم ونصب محمد بن عبد الملك لابن ابى دواد وسائر أصحاب المظالم العداوة، فكشفوا وحبسوا، وأجلس إسحاق بن إبراهيم، فنظر في أمرهم وأقيموا للناس ولقوا كل جهد.

ذكر الخبر عن السبب الذي بعث الواثق على فعله ما ذكرت بالكتاب في هذه السنة:
ذكر عن عزون بن عبد العزيز الأنصاري، أنه قال: كنا ليلة في هذه السنة عند الواثق، فقال: لست أشتهي الليلة النبيذ، ولكن هلموا نتحدث الليلة، فجلس في رواقه الأوسط في الهاروني في البناء الأول الذي كان إبراهيم ابن رباح بناه، وقد كان في أحد شقي ذلك الرواق قبة مرتفعة في السماء بيضاء، كأنها بيضه الا قدر ذراع- فيما ترى العين- حولها في وسطها ساج منقوش مغشى باللازورد والذهب، وكانت تسمى قبة المنطقة، وكان ذلك الرواق يسمى رواق قبة المنطقة

(9/125)


قال: فتحدثنا عامة الليل، فقال الواثق: من منكم يعلم السبب الذي به وثب جدي الرشيد على البرامكة فأزال نعمتهم؟ قال عزون: فقلت: أنا والله أحدثك يا أمير المؤمنين، كان سبب ذلك أن الرشيد ذكرت له جارية لعون الخياط، فأرسل إليها فاعترضها، فرضي جمالها وعقلها وحسن أدبها، فقال لعون: ما تقول في ثمنها؟ قال: يا أمير المؤمنين، أمر ثمنها واضح مشهور، حلفت بعتقها وعتق رقيقي جميعا وصدقة مالي الأيمان المغلظة التي لا مخرج منها لي، وأشهدت علي بذلك العدول الا انقص ثمنها عن مائة ألف دينار، ولا أحتال في ذلك بشيء من الحيل، هذه قضيتها فقال أمير المؤمنين:
قد أخذتها منك بمائة ألف دينار، ثم أرسل إلى يحيى بن خالد يخبره بخبر الجارية، ويأمره أن يرسل إليه بمائة ألف دينار، فقال يحيى: هذا مفتاح سوء، إذا اجترأ في ثمن جارية واحدة على طلب مائة ألف دينار فهو أحرى أن يطلب المال على قدر ذلك، فأرسل يخبره أنه لا يقدر على ذلك، فغضب عليه الرشيد، وقال: ليس في بيت مالي مائة ألف دينار، فأعاد عليه: لا بد منها، فقال يحيى: اجعلوها دراهم، ليراها فيستكثرها، فلعله يردها، فأرسل بها دراهم، وقال: هذه قيمة مائة ألف دينار، وأمر أن توضع في رواقه الذي يمر فيه إذا أراد المتوضأ لصلاة الظهر قال: فخرج الرشيد في ذلك الوقت، فإذا جبل من بدر، فقال: ما هذا؟ قالوا: ثمن الجارية، لم تحضر دنانير، فأرسل قيمتها دراهم، فاستكثر الرشيد ذلك، ودعا خادما له، فقال: اضمم هذه إليك، واجعل لي بيت مال لاضم اليه ما أريده وسماه بيت مال العروس، وأمر برد الجارية إلى عون، وأخذ في التفتيش عن المال، فوجد البرامكة قد استهلكوه، فأقبل يهم بهم ويمسك، فكان يرسل إلى الصحابة وإلى قوم من أهل الأدب من غيرهم فيسامرهم، ويتعشى معهم، فكان فيمن يحضر إنسان كان معروفا بالأدب، وكان يعرف بكنيته يقال له أبو العود، فحضر ليلة فيمن حضره، فأعجبه حديثه، فأمر خادما له أن يأتي يحيى بن خالد

(9/126)


إذا أصبح، فيأمره أن يعطيه ثلاثين ألف درهم ففعل، فقال يحيى لأبي العود: أفعل، وليس بحضرتنا اليوم مال، غدا يجيء المال، ونعطيك إن شاء الله ثم دافعه حتى طالت به الأيام، قال: فأقبل أبو العود يحتال أن يجد من الرشيد وقتا يحرضه فيه على البرامكة- وقد كان شاع في الناس ما كان يهم به الرشيد في أمرهم- فدخل عليه ليلة، فتحدثوا، فلم يزل أبو العود يحتال للحديث حتى وصله بقول عمر بن أبي ربيعة:
وعدت هند وما كانت تعد ... ليت هندا أنجزتنا ما تعد
واستبدت مرة واحدة ... إنما العاجز من لا يستبد
فقال الرشيد: أجل والله، إنما العاجز من لا يستبد، حتى انقضى المجلس وكان يحيى قد اتخذ من خدم الرشيد خادما يأتيه بأخباره، وأصبح يحيى غاديا على الرشيد، فلما رآه قال: قد أردت البارحة أن أرسل إليك بشعر أنشدنيه بعض من كان عندي، ثم كرهت أن أزعجك، فأنشده البيتين، فقال:
ما أحسنهما يا أمير المؤمنين! وفطن لما أراد، فلما انصرف أرسل إلى ذلك الخادم، فسأله عن إنشاد ذلك الشعر، فقال: أبو العود أنشده، فدعا الوزير يحيى بأبي العود، فقال له: إنا كنا قد لويناك بمالك، وقد جاءنا مال، ثم قال لبعض خدمه: اذهب فأعطه ثلاثين ألف درهم من بيت مال أمير المؤمنين، وأعطه من عندي عشرين ألف درهم لمطلنا إياه، واذهب إلى الفضل وجعفر فقل لهما هذا رجل مستحق أن يبر، وقد كان أمير المؤمنين أمر له بمال فأطلت مطله، ثم حضر المال، فأمرت أن يعطى ووصلته من عندي صلة، وقد أحببت أن تصلاه، فسألا: بكم وصله قال: بعشرين ألف درهم، فوصله كل واحد منهما بعشرين ألف درهم، فانصرف بذلك المال كله إلى منزله وجد الرشيد في أمرهم حتى وثب عليهم، وأزال نعمتهم، وقتل جعفرا وصنع ما صنع

(9/127)


فقال الواثق: صدق والله جدي، إنما العاجز من لا يستبد! وأخذ في ذكر الخيانة وما يستحق أهلها.
قال عزون: أحسبه: سيوقع بكتابه، فما مضى أسبوع حتى أوقع بكتابه، وأخذ إبراهيم بن رباح وسليمان بن وهب وأبا الوزير وأحمد بن الخصيب وجماعتهم.
قال: وأمر الواثق بحبس سليمان بن وهب كاتب ايتاخ، واخذه بمائتي ألف درهم- وقيل دينار- فقيد وألبس مدرعة من مدارع الملاحين، فأدى مائة ألف درهم، وسال ان يؤخذ بالباقي عشرين شهرا، فأجابه الواثق إلى ذلك، وأمر بتخلية سبيله ورده إلى كتابة إيتاخ، وأمره بلبس السواد.
وفي هذه السنة ولي شارباميان لإيتاخ اليمن وشخص إليها في شهر ربيع الآخر.
وفيها ولي محمد بن صالح بن العباس المدينة.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن داود.

(9/128)


ثم دخلت

سنة ثلاثين ومائتين
(ذكر خبر الخبر عما كان فيها من الأحداث)

ذكر مسير بغا الى الاعراب بالمدينة
فمن ذلك ما كان من توجيه الواثق بغا الكبير إلى الأعراب الذين عاثوا بالمدينة وما حواليها.
ذكر الخبر عن ذلك: ذكر ان بدء ذلك كان أن بني سليم كانت تطاول على الناس حول المدينة بالشر، وكانوا إذا وردوا سوقا من أسواق الحجاز أخذوا سعرها كيف شاءوا، ثم ترقى بهم الأمر إلى ان أوقعوا بالحجاز بناس من بني كنانة وباهلة، فأصابوهم وقتلوا بعضهم، وذلك في جمادى الآخرة سنة ثلاثين ومائتين، وكان رأسهم عزيزة بن قطاب السلمي فوجه إليهم محمد بن صالح بن العباس الهاشمي، وهو يومئذ عامل المدينة، مدينة الرسول ص حماد بن جرير الطبري- وكان الواثق وجه حمادا مسلحة للمدينة لئلا يتطرقها الأعراب، في مائتي فارس من الشاكرية- فتوجه إليهم حماد في جماعة من الجند ومن تطوع للخروج من قريش والأنصار ومواليهم وغيرهم من أهل المدينة، فسار إليهم فلقيته طلائعهم وكانت بنو سليم كارهة للقتال، فأمر حماد بن جرير بقتالهم، وحمل عليهم بموضع يقال له الرويثة من المدينة على ثلاث مراحل، وكانت بنو سليم يومئذ وامدادها جاءوا من البادية في ستمائه وخمسين، وعامة من لقيهم من بني عوف من بنى سليم، ومعهم اشهب

(9/129)


ابن دويكل بن يحيى بن حمير العوفي وعمه سلمه بن يحيى وعزيره بن قطاب اللبيدي من بني لبيد بن سليم، فكان هؤلاء قوادهم، وكانت خيلهم مائة وخمسين فرسا، فقاتلهم حماد واصحابه، ثم أتت بنى سليم امدادها خمسمائة من موضع فيه بدوهم، وهو موضع يسمى أعلى الرويثة، بينها وبين موضع القتال أربعة أميال، فاقتتلوا قتالا شديدا، فانهزمت سودان المدينة بالناس، وثبت حماد وأصحابه وقريش والأنصار، فصلوا بالقتال حتى قتل حماد وعامة أصحابه، وقتل ممن ثبت من قريش والأنصار عدد صالح، وحازت بنو سليم الكراع والسلاح والثياب، وغلظ أمر بني سليم، فاستباحت القرى والمناهل، فيما بينها وبين مكة والمدينة، حتى لم يمكن أحدا أن يسلك ذلك الطريق، وتطرقوا من يليهم من قبائل العرب.
فوجه إليهم الواثق بغا الكبير أبا موسى التركي في الشاكرية والأتراك والمغاربة، فقدمها بغا في شعبان سنة ثلاثين ومائتين، وشخص إلى حرة بني سليم، لأيام بقين من شعبان، وعلى مقدمته طردوش التركي، فلقيهم ببعض مياه الحرة، وكانت الوقعة بشق الحرة من وراء السوارقية، وهي قريتهم التي كانوا يأوون إليها- والسوارقية حصون- وكان جل من لقيه منهم من بني عوف فيهم عزيزة بن قطاب والأشهب- وهما رأسا القواد يومئذ- فقتل بغا منهم نحوا من خمسين رجلا، وأسر مثلهم، فانهزم الباقون، وانكشف بنو سليم لذلك، ودعاهم بغا بعد الوقعة إلى الأمان على حكم أمير المؤمنين الواثق، واقام بالسوارقيه فاتوه، واجتمعوا إليه، وجمعهم من عشرة واثنين وخمسة وواحد، وأخذ من جمعت السوارقيه من غير بني سليم من أفناء الناس، وهربت خفاف بني سليم إلا أقلها، وهي التي كانت تؤذي الناس، وتطرق الطريق، وجل من صار في يده ممن ثبت من بني عوف، وكان آخر من أخذ منهم من بني حبشي من بني سليم، فاحتبس عنده من وصف بالشر

(9/130)


والفساد، وهم زهاء ألف رجل، وخلى سبيل سائرهم، ثم رحل عن السوارقية بمن صار في يده من أسارى بني سليم ومستأمنيهم إلى المدينة في ذي القعدة سنة ثلاثين ومائتين، فحبسهم فيها في الدار المعروفة بيزيد بن معاوية، ثم شخص إلى مكة حاجا في ذي الحجة، فلما انقضى الموسم انصرف إلى ذات عرق، ووجه إلى بني هلال من عرض عليهم مثل الذي عرض على بني سليم فأقبلوا، فأخذ من مردتهم وعتاتهم نحوا من ثلاثمائة رجل، وخلى سائرهم، ورجع من ذات عرق وهي على مرحلة من البستان، بينها وبين مكة مرحلتان
. ذكر الخبر عن وفاه عبد الله بن طاهر
وفي هذه السنة مات أبو العباس عبد الله بن طاهر بنيسابور يوم الاثنين لإحدى عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ بعد موت أشناس التركي بتسعة أيام.
ومات عبد الله بن طاهر وإليه الحرب والشرطة والسواد وخراسان وأعمالها والري وطبرستان وما يتصل بها وكرمان، وخراج هذه الأعمال كان يوم مات ثمانية وأربعين ألف ألف درهم، فولى الواثق أعمال عبد الله بن طاهر كلها ابنه طاهرا.
وحج في هذه السنة إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، فولى أحداث الموسم.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن داود.

(9/131)


ثم دخلت

سنة إحدى وثلاثين ومائتين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك ما كان من أمر الفداء الذي جرى على يد خاقان الخادم بين المسلمين والروم في المحرم منها، فبلغت عدة المسلمين- فيما قيل- اربعه آلاف وثلاثمائة واثنين وستين إنسانا.

ذكر الخبر عن امر بنى سليم وغيرهم من القبائل
وفيها قتل من قتل من بني سليم بالمدينة في حبس بغا.
ذكر الخبر عن سبب قتلهم وما كان من أمرهم:
ذكر أن بغا لما صار إليه بنو هلال بذات عرق، فأخذ منهم من ذكرت أنه أخذ منهم، شخص معتمرا عمرة المحرم، ثم انصرف الى المدينة، فجمع كل من أخذ من بني هلال واحتبسهم عنده مع الذين كان أخذ من بني سليم، وجمعهم جميعا في دار يزيد بن معاوية في الأغلال والأقياد وكانت بنو سليم حبست قبل ذلك بأشهر ثم سار بغا إلى بني مرة، وفي حبس المدينة نحو من الف وثلاثمائة رجل من بني سليم وهلال، فنقبوا الدار ليخرجوا، فرأت امرأة من أهل المدينة النقب، فاستصرخت أهل المدينة فجاءوا، فوجدوهم قد وثبوا على الموكلين بهم، فقتلوا منهم رجلا أو رجلين، وخرج بعضهم أو عامتهم، فأخذوا سلاح الموكلين بهم، واجتمع عليهم أهل المدينة، أحرارهم وعبيدهم- وعامل المدينة يومئذ عبد الله بن أحمد بن داود الهاشمي- فمنعوهم الخروج، وباتوا محاصريهم حول الدار حتى أصبحوا، وكان وثوبهم عشية الجمعة، وذلك أن عزيزة بن قطاب قال لهم: إني أتشاءم بيوم السبت،

(9/132)


ولم يزل اهل المدينة يعتقبون القتال، وقاتلتهم بنو سليم، فظهر أهل المدينة عليهم، فقتلوهم أجمعين، وكان عزيزة يرتجز، ويقول:
لا بد من زحم وإن ضاق الباب ... إني أنا عزيزة بن القطاب
للموت خير للفتى من العاب ... هذا وربي عمل للبواب
وقيده في يده قد فكه، فرمى به رجلا، فخر صريعا وقتلوا جميعا، وقتلت سودان المدينة من لقيت من الأعراب في أزقة المدينة ممن دخل يمتار، حتى لقوا أعرابيا خارجا من قبر النبي ص فقتلوه، وكان أحد بني أبي بكر بن كلاب من ولد عبد العزيز بن زرارة وكان بغا غائبا عنهم، فلما قدم فوجدهم قد قتلوا شق ذلك عليه، ووجد منه وجدا شديدا.
وذكر أن البواب كان قد ارتشى منهم، ووعدهم أن يفتح لهم الباب، فعجلوا قبل ميعاده، فكانوا يرتجزون ويقولون وهم يقاتلون:
الموت خير للفتى من العار ... قد أخذ البواب ألف دينار
وجعلوا يقولون حين أخذهم بغا:
يا بغية الخير وسيف المنتبه ... وجانب الجور البعيد المشتبه
من كان منا جانيا فلست به ... افعل هداك الله ما أمرت به
فقال: أمرت أن أقتلكم وكان عزيزة بن قطاب رأس بني سليم حين قتل أصحابه صار إلى بئر، فدخلها، فدخل عليه رجل من أهل المدينة فقتله، وصفت القتلى على باب مروان بن الحكم، بعضها فوق بعض.
وحدثني أحمد بن محمد أن مؤذن أهل المدينة أذن ليلة حراستهم بني سليم بليل ترهيبا لهم بطلوع الفجر، وأنهم قد أصبحوا، فجعل الأعراب يضحكون، ويقولون: يا شربة السويق، تعلموننا بالليل، ونحن أعلم به منكم! فقال رجل من بني سليم:

(9/133)


متى كان ابن عباس أميرا ... يصل لصقل نابيه صريف
يجور ولا يرد الجور منه ... ويسطو ما لوقعته ضعيف
وقد كنا نرد الجور عنا ... إذا انتضيت بأيدينا السيوف
أمير المؤمنين سما إلينا ... سمو الليث ثار من الغريف
فإن يمنن فعفو الله نرجو ... وإن يقتل فقاتلنا شريف
وكان سبب غيبة بغا عنهم أنه توجه إلى فدك لمحاربة من فيها ممن كان تغلب عليها من بني فزارة ومرة، فلما شارفهم وجه إليهم رجلا من فزارة يعرض عليهم الأمان، ويأتيه بأخبارهم، فلما قدم عليهم الفزاري حذرهم سطوته، وزين لهم الهرب، فهربوا ودخلوا في البر، ودخلوا فدك إلا نفرا بقوا فيها منهم، وكان قصدهم خيبر وجنفاء ونواحيها، فظفر ببعضهم، واستأمن بعضهم، وهرب الباقون مع رأس لهم يقال له الركاض إلى موضع من البلقاء من عمل دمشق، وأقام بغا بجنفاء وهي قرية من حد عمل الشام، مما يلي الحجاز نحوا من أربعين ليلة، ثم انصرف إلى المدينة بمن صار في يديه من بني مرة وفزارة.
وفي هذه السنة صار إلى بغا من بطون غطفان وفزارة وأشجع جماعة، وكان وجه إليهم وإلى بني ثعلبة، فلما صاروا إليه- فيما ذكر- امر محمد ابن يوسف الجعفري، فاستحلفهم الايمان المؤكدة ألا يتخلفوا عنه متى دعاهم فحلفوا، ثم شخص إلى ضرية لطلب بني كلاب، ووجه إليهم رسله، فاجتمع إليه منهم- فيما قيل- نحو من ثلاثة آلاف رجل، فاحتبس منهم من أهل الفساد نحوا من ألف رجل وثلاثمائة رجل، وخلى سائرهم، ثم قدم بهم المدينة في شهر رمضان سنة إحدى وثلاثين ومائتين، فحبسهم في دار يزيد بن معاوية، ثم شخص إلى مكة بغا، وأقام بها حتى شهد الموسم، فبقي

(9/134)


بنو كلاب في الحبس لا يجري عليهم شيء مدة غيبة بغا، حتى رجع إلى المدينة، فلما صار إلى المدينة أرسل إلى من كان استحلف من ثعلبة وأشجع وفزارة فلم يجيبوه، وتفرقوا في البلاد، فوجه في طلبهم فلم يلحق منهم كثير احد.

ذكر مقتل احمد بن نصر الخزاعي على يد الواثق
وفي هذه السنة تحرك ببغداد قوم في ربض عمرو بن عطاء، فأخذوا على أحمد بن نصر الخزاعي البيعة.
ذكر الخبر عن سبب حركة هؤلاء القوم وما آل إليه أمرهم وأمر أحمد بن نصر:
وكان السبب في ذلك أن أحمد بن نصر بن مالك بن الهيثم الخزاعي- ومالك بن الهيثم أحد نقباء بني العباس، وكان ابنه أحمد يغشاه أصحاب الحديث، كيحيى بن معين وابن الدورقى وابن خيثمة، وكان يظهر المباينة لمن يقول: القرآن مخلوق، مع منزلة أبيه كانت من السلطان في دولة بني العباس، ويبسط لسانه فيمن يقول ذلك، مع غلظة الواثق كانت على من يقول ذلك وامتحانه إياهم فيه، وغلبه أحمد بن ابى دواد عليه- فحدثني بعض أشياخنا، عمن ذكره، أنه دخل على أحمد بن نصر في بعض تلك الأيام وعنده جماعة من الناس، فذكر عنده الواثق، فجعل يقول: ألا فعل هذا الخنزير! أو قال: هذا الكافر، وفشا ذلك من أمره، فخوف بالسلطان، وقيل له: قد اتصل أمرك به، فخافه.
وكان فيمن يغشاه رجل- فيما ذكر- يعرف بأبي هارون السراج وآخر يقال له طالب، وآخر من أهل خراسان من أصحاب إسحاق بن إبراهيم بن

(9/135)


مصعب صاحب الشرطة ممن يظهر له القول بمقالته، فحرك المطيفون به- يعني أحمد بن نصر- من أصحاب الحديث، وممن ينكر القول بخلق القرآن من أهل بغداد- أحمد، وحملوه على الحركة لإنكار القول بخلق القرآن، وقصدوه بذلك دون غيره، لما كان لأبيه وجده في دولة بني العباس من الأثر، ولما كان له ببغداد، وأنه كان أحد من بايع له أهل الجانب الشرقي على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والسمع له في سنه احدى ومائتين، لما كثر الدعار بمدينة السلام، وظهر بها الفساد والمأمون بخراسان، وقد ذكرنا خبره فيما مضى وأنه لم يزل أمره على ذلك ثابتا إلى أن قدم المأمون بغداد في سنة أربع ومائتين، فرجوا استجابة العامة له إذا هو تحرك للأسباب التي ذكرت.
فذكر أنه أجاب من سأله ذلك، وأن الذي كان يسعى له في دعاء الناس له الرجلان اللذان ذكرت اسميهما قبل وأن أبا هارون السراج وطالبا فرقا في قوم مالا، فأعطيا كل رجل منهم دينارا دينارا، وواعداهم ليلة يضربون فيها الطبل للاجتماع في صبيحتها للوثوب بالسلطان، فكان طالب بالجانب الغربي من مدينة السلام فيمن عاقده على ذلك، وأبو هارون بالجانب الشرقي فيمن عاقده عليه، وكان طالب وأبو هارون أعطيا فيمن أعطيا رجلين من بني أشرس القائد دنانير يفرقانها في جيرانهم، فانتبذ بعضهم نبيذا، واجتمع عدة منهم على شربه، فلما ثملوا ضربوا بالطبل ليلة الأربعاء قبل الموعد بليلة، وكان الموعد لذلك ليلة الخميس في شعبان سنة إحدى وثلاثين ومائتين، لثلاث تخلو منه، وهم يحسبونها ليلة الخميس التي اتعدوا لها، فأكثروا ضرب الطبل، فلم يجبهم أحد وكان إسحاق بن إبراهيم غائبا عن بغداد وخليفته بها أخوه محمد بن إبراهيم، فوجه إليهم محمد بن إبراهيم غلاما له يقال له رحش، فأتاهم فسألهم عن قصتهم، فلم يظهر له أحد ممن ذكر بضرب الطبل، فدل على رجل يكون في الحمامات مصاب بعينه، يقال له

(9/136)


عيسى الأعور، فهدده بالضرب، فأقر على ابني أشرس وعلى أحمد بن نصر بن مالك وعلى آخرين سماهم، فتتبع القوم من ليلتهم، فأخذ بعضهم، وأخذ طالبا ومنزله في الربض من الجانب الغربي، وأخذ أبا هارون السراج ومنزله في الجانب الشرقي، وتتبع من سماه عيسى الأعور في أيام وليال، فصيروا في الحبس في الجانب الشرقي والغربي، كل قوم في ناحيتهم التي أخذوا فيها، وقيد أبو هارون وطالب بسبعين رطلا من الحديد كل واحد منهما، وأصيب في منزل ابني أشرس علمان أخضران فيهما حمرة في بئر، فتولى إخراجهما رجل من أعوان محمد بن عياش- وهو عامل الجانب الغربي، وعامل الجانب الشرقي العباس بن محمد بن جبريل القائد الخراساني- ثم أخذ خصي لأحمد ابن نصر فتهدد، فأقر بما أقر به عيسى الأعور، فمضى إلى أحمد بن نصر وهو في الحمام، فقال لأعوان السلطان: هذا منزلي، فإن أصبتم فيه علما أو عدة أو سلاحا لفتنة فأنتم في حل منه ومن دمي، ففتش فلم يوجد فيه شيء، فحمل إلى محمد بن إبراهيم بن مصعب وأخذوا خصيين وابنين له ورجلا ممن كان يغشاه يقال له إسماعيل بن محمد بن معاوية بن بكر الباهلي، ومنزله بالجانب الشرقي، فحمل هؤلاء الستة إلى أمير المؤمنين الواثق وهو بسامرا على بغال باكف ليس تحتهم وطاء، فقيد أحمد بن نصر بزوج قيود، وأخرجوا من بغداد يوم الخميس لليلة بقيت من شعبان سنة إحدى وثلاثين ومائتين، وكان الواثق قد أعلم بمكانهم، وأحضر ابن ابى دواد وأصحابه، وجلس لهم مجلسا عاما ليمتحنوا امتحانا مكشوفا، فحضر القوم واجتمعوا عنده.
وكان أحمد بن ابى دواد- فيما ذكر- كارها قتله في الظاهر، فلما أتي بأحمد بن نصر لم يناظره الواثق في الشغب ولا فيما رفع عليه من إرادته الخروج عليه، ولكنه قال له: يا أحمد، ما تقول في القرآن؟ قال: كلام الله- وأحمد بن نصر مستقتل قد تنور وتطيب، قال: أفمخلوق هو؟ قال: هو

(9/137)


كلام الله، قال: فما تقول في ربك، أتراه يوم القيامة؟ قال: يا أمير المؤمنين [جاءت الآثار عن رسول الله ص أنه قال: ترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر لا تضامون في رؤيته،] فنحن على الخبر قال: [وحدثنى سفيان ابن عيينة بحديث يرفعه: أن قلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الله يقلبه،] وكان النبي ص يدعو: يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك، فقال له إسحاق بن إبراهيم: ويلك! انظر ماذا تقول! قال: أنت أمرتني بذلك، فأشفق إسحاق من كلامه، وقال: أنا أمرتك بذلك! قال: نعم، أمرتني أن أنصح له إذ كان أمير المؤمنين، ومن نصيحتي له الا يخالف حديث رسول الله ص فقال الواثق لمن حوله: ما تقولون فيه؟
فأكثروا، فقال عبد الرحمن بن إسحاق- وكان قاضيا على الجانب الغربي فعزل، وكان حاضرا وكان أحمد بن نصر ودا له-: يا أمير المؤمنين، هو حلال الدم، وقال أبو عبد الله الأرمني صاحب ابن أبي دواد: اسقني دمه يا أمير المؤمنين، فقال الواثق: القتل يأتي على ما تريد، وقال ابن ابى دواد:
يا أمير المؤمنين كافر يستتاب، لعل به عاهة أو تغير عقل- كأنه كره أن يقتل بسببه- فقال الواثق: إذا رأيتموني قد قمت إليه، فلا يقومن أحد معي، فإني أحتسب خطاي إليه ودعا بالصمصامة- سيف عمرو بن معديكرب الزبيدي وكان في الخزانة، كان أهدي إلى موسى الهادي، فأمر سلما الخاسر الشاعر أن يصفه له، فوصفه فأجازه- فأخذ الواثق الصمصامة- وهي صفيحة موصولة من أسفلها مسمورة بثلاثة مسامير تجمع بين الصفيحة والصلة- فمشى إليه وهو في وسط الدار، ودعا بنطع فصير في وسطه، وحبل فشد رأسه، ومد الحبل، فضربه الواثق ضربة، فوقعت على حبل العاتق، ثم ضربه أخرى على رأسه، ثم انتضى سيما الدمشقي سيفه، فضرب عنقه وحز رأسه.
وقد ذكر أن بغا الشرابي ضربه ضربة أخرى، وطعنه الواثق بطرف

(9/138)


الصمصامة في بطنه، فحمل معترضا حتى أتي به الحظيرة التي فيها بابك، فصلب فيها وفي رجله زوج قيود، وعليه سراويل وقميص، وحمل رأسه إلى بغداد، فنصب في الجانب الشرقي أياما، وفي الجانب الغربي أياما، ثم حول إلى الشرقي، وحظر على الرأس حظيرة، وضرب عليه فسطاط، وأقيم عليه الحرس، وعرف ذلك الموضع برأس أحمد بن نصر، وكتب في أذنه رقعة:
هذا رأس الكافر المشرك الضال، وهو أحمد بن نصر بن مالك، ممن قتله الله على يدي عبد الله هارون الإمام الواثق بالله أمير المؤمنين، بعد أن أقام عليه الحجة في خلق القرآن ونفي التشبيه، وعرض عليه التوبة، ومكنه من الرجوع إلى الحق، فأبى إلا المعاندة والتصريح، والحمد لله الذي عجل به إلى ناره وأليم عقابه وإن أمير المؤمنين سأله عن ذلك، فأقر بالتشبيه وتكلم بالكفر، فاستحل بذلك أمير المؤمنين دمه، ولعنه وأمر أن يتتبع من وسم بصحبة أحمد بن نصر، ممن ذكر انه كان متشايعا له، فوضعوا في الحبوس، ثم جعل نيف وعشرون رجلا وسموا في حبوس الظلمة، ومنعوا من أخذ الصدقة التي يعطاها أهل السجون، ومنعوا من الزوار، وثقلوا بالحديد وحمل أبو هارون السراج وآخر معه إلى سامرا، ثم ردوا إلى بغداد، فجعلوا في المحابس.
وكان سبب أخذ الذين أخذوا بسبب أحمد بن نصر، أن رجلا قصارا كان في الربض جاء إلى إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، فقال: أنا أدلك على أصحاب أحمد بن نصر، فوجه معه من يتبعهم، فلما اجتمعوا وجدوا على القصار سببا حبسوه معهم، وكان له في المهرزار نخل، فقطع وانتهب منزله، وكان ممن حبس بسببه قوم من ولد عمرو بن اسفنديار، فماتوا في الحبس، فقال بعض الشعراء في احمد بن ابى دواد:
ما إن تحولت من إياد ... صرت عذابا على العباد

(9/139)


أنت كما قلت من اياد ... فارفق بهذا الخلق يا إيادي
وفي هذه السنة أراد الواثق الحج، فاستعد له، ووجه عمر بن فرج إلى الطريق لإصلاحه، فرجع فأخبره بقلة الماء فبدا له وحج بالناس فيها محمد بن داود بن عيسى وفيها ولى الواثق جعفر بن دينار اليمن، فشخص إليها في شعبان وحج هو وبغا الكبير، وعلى أحداث الموسم بغا الكبير، وكان شخوص جعفر إلى اليمن في أربعة آلاف فارس وألفي راجل وأعطي رزق ستة أشهر وعقد محمد بن عبد الملك الزيات لإسحاق بن إبراهيم بن أبي خميصة مولى بني قشير من أهل أضاخ فيها على اليمامة والبحرين وطريق مكة، مما يلي البصرة في دار الخلافة، ولم يذكر أن أحدا عقد لأحد في دار الخلافة إلا الخليفة غير محمد بن عبد الملك الزيات وفي هذه السنة نقب قوم من اللصوص بيت المال الذي في دار العامة في جوف القصر، وأخذوا اثنين وأربعين ألفا من الدراهم، وشيئا من الدنانير يسيرا، فأخذوا بعد وتتبع أخذهم يزيد الحلواني، صاحب الشرطة خليفة إيتاخ وفيها خرج محمد بن عمرو الخارجي من بني زيد بن تغلب في ثلاثة عشر رجلا في ديار ربيعة، فخرج إليه غانم بن أبي مسلم بن حميد الطوسي، وكان على حرب الموصل في مثل عدته، فقتل من الخوارج اربعه، وأخذ محمد ابن عمرو أسيرا فبعث به إلى سامرا، فبعث به إلى مطبق بغداد، ونصبت رءوس أصحابه وأعلامه عند خشبة بابك وفي هذه السنة قدم وصيف التركي من ناحية أصبهان والجبال وفارس، وكان شخص في طلب الأكراد، لأنهم قد كانوا تطرقوا إلى هذه النواحي، وقدم معه منهم بنحو من خمسمائة نفس، فيهم غلمان صغار، جمعهم في قيود

(9/140)


وأغلال، فأمر بحبسهم، وأجيز وصيف بخمسة وسبعين الف دينار، وقلد سيفا وكسى.

خبر الفداء بين المسلمين والروم
وفي هذه السنة، تم الفداء بين المسلمين وصاحب الروم، واجتمع فيها المسلمون والروم على نهر يقال له.
اللمس على سلوقية على مسيرة يوم من طرسوس.
ذكر الخبر عن سبب هذا الفداء وكيف كان:
ذكر عن أحمد بن أبي قحطبة صاحب خاقان الخادم- وكان خادم الرشيد، وكان قد نشأ بالثغر- أن خاقان هذا قدم على الواثق، وقدم معه نفر من وجوه أهل طرسوس وغيرها يشكون صاحب مظالم كان عليهم، يكنى أبا وهب، فأحضر، فلم يزل محمد بن عبد الملك يجمع بينه وبينهم في دار العامة عند انصراف الناس يوم الاثنين والخميس، فيمكثون إلى وقت الظهر، وينصرف محمد بن عبد الملك وينصرفون، فعزل عنهم، وأمر الواثق بامتحان أهل الثغور في القرآن، فقالوا بخلقه جميعا، إلا أربعة نفر، فأمر الواثق بضرب أعناقهم إن لم يقولوه، وأمر لجميع أهل الثغور بجوائز على ما رأى خاقان، وتعجل أهل الثغور إلى ثغورهم، وتأخر خاقان بعدهم قليلا، فقدم على الواثق رسل صاحب الروم- وهو ميخائيل بن توفيل بن ميخائيل ابن اليون بن جورجس- يسأله أن يفادي بمن في يده من أسارى المسلمين، فوجه الواثق خاقان في ذلك، فخرج خاقان ومن معه في فداء أسارى المسلمين في آخر سنة ثلاثين ومائتين على موعد بين خاقان ورسل صاحب الروم للالتقاء للفداء في يوم عاشوراء، وذلك في العاشر من المحرم سنة إحدى وثلاثين

(9/141)


ومائتين ثم عقد الواثق لأحمد بن سعيد بن سلم بن قتيبة الباهلي على الثغور والعواصم، وأمره بحضور الفداء، فخرج على سبعة عشر من البرد وكان الرسل الذين قدموا في طلب الفداء قد جرى بينهم وبين ابن الزيات اختلاف في الفداء، قالوا: لا نأخذ في الفداء امرأة عجوزا ولا شيخا كبيرا ولا صبيا، فلم يزل ذلك بينهم أياما حتى رضوا عن كل نفس بنفس.
فوجه الواثق إلى بغداد والرقة في شري من يباع من الرقيق من مماليك، فاشترى من قدر عليه منهم، فلم تتم العدة، فأخرج الواثق من قصره من النساء الروميات العجائز وغيرهن، حتى تمت العدة، ووجه ممن مع ابن أبي دواد رجلين، يقال لأحدهما يحيى بن آدم الكرخي، ويكنى أبا رملة، وجعفر بن احمد بن الحذاء، ووجه معهما كاتبا من كتاب العرض، يقال له طالب بن داود، وأمره بامتحانهم هو وجعفر، فمن قال: القرآن مخلوق فودي به، ومن أبى ذلك ترك في أيدي الروم، وأمر لطالب بخمسة آلاف درهم، وأمر أن يعطوا جميع من قال: إن القرآن مخلوق، ممن فودي به دينارا لكل إنسان من ماله حمل معهم، فمضى القوم.
فذكر عن أحمد بن الحارث أنه قال: سألت ابن أبي قحطبة صاحب خاقان الخادم- وكان السفير الموجه بين المسلمين والروم، وجه ليعرف عدة المسلمين في بلاد الروم فأتى ملك الروم وعرف عدتهم قبل الفداء- فذكر أنه بلغت عدتهم ثلاثة آلاف رجل وخمسمائة امرأة، فأمر الواثق بفدائهم، وعجل أحمد بن سعيد على البريد ليكون الفداء على يديه، ووجه من يمتحن الأسراء من المسلمين، فمن قال منهم: إن القرآن مخلوق، وإن الله عز وجل لا يرى في الآخرة فودي به، ومن لم يقل ذلك ترك في أيدي الروم، ولم يكن فداء منذ أيام محمد بن زبيدة في سنة أربع أو خمس وتسعين ومائة

(9/142)


قال: فلما كان يوم عاشوراء، لعشر خلون من المحرم سنة إحدى وثلاثين ومائتين، اجتمع المسلمون ومن معهم من العلوج وقائدان من قواد الروم، يقال لأحدهما انقاس وللآخر لمسنوس، والمسلمون والمطوعة في أربعة آلاف بين فارس وراجل، فاجتمعوا بموضع يقال له اللمس، فذكر عن محمد بن أحمد بن سعيد بن سلم بن قتيبة الباهلي أن كتاب أبيه أتاه، أن من فودي به من المسلمين ومن كان معهم من أهل ذمتهم اربعه آلاف وستمائه انسان، منهم صبيان ونساء ستمائه، ومنهم من اهل الذمة اقل من خمسمائة والباقون رجال من جميع الآفاق.
وذكر أبو قحطبة- وكان رسول خاقان الخادم إلى ملك الروم لينظركم عدد الأسرى، ويعلم صحة ما عزم عليه ميخائيل ملك الروم- أن عدد المسلمين قبل الفداء كان ثلاثة آلاف رجل وخمسمائة امرأة وصبي، ممن كان بالقسطنطينية وغيرها، إلا من أحضره الروم ومحمد بن عبد الله الطرسوسي- وكان عندهم- فأوفده أحمد بن سعيد بن سلم وخاقان مع نفر من وجوه الأسرى على الواثق، فحملهم الواثق على فرس فرس، وأعطى لكل رجل منهم ألف درهم.
وذكر محمد هذا أنه كان أسيرا في أيدي الروم ثلاثين سنة، وأنه كان أسر في غزاة رامية كان في العلافة فأسر، وكان فيمن فودي به في هذا الفداء، وقال: فودي بنا في يوم عاشوراء على نهر يقال له اللامس، على سلوقية قريبا من البحر، وأن عدتهم كانت أربعة آلاف وأربعمائة وستين نفسا، النساء وازواجهن وصبيانهن ثمانمائه وأهل ذمة المسلمين مائة أو أكثر، فوقع الفداء كل نفس عن نفس صغيرا أو كبيرا، فاستفرغ خاقان جميع من كان في بلد الروم من المسلمين ممن علم موضعه.
قال: فلما جمعوا للفداء، وقف المسلمون من جانب النهر الشرقي والروم من الجانب الغربي- وهو مخاضه- فكان هؤلاء يرسلون من هاهنا رجلا وهؤلاء

(9/143)


من هاهنا رجلا، فيلتقيان في وسط النهر، فإذا صار المسلم إلى المسلمين كبر وكبروا وإذا صار الرومي إلى الروم تكلم بكلامهم، وتكلموا شبيها بالتكبير.
وذكر عن السندي مولى حسين الخادم، أنه قال: عقد المسلمون جسرا على النهر، وعقد الروم جسرا، فكنا نرسل الرومي على جسرنا ويرسل الروم المسلم على جسرهم، فيصير هذا إلينا وذاك إليهم، وأنكر أن يكون مخاضة.
وذكر عن محمد بن كريم أنه قال: لما صرنا في أيدي المسلمين، امتحننا جعفر ويحيى، فقلنا، وأعطينا دينارين دينارين قال: وكان البطريقان اللذان قدما بالأسرى لا بأس بهما في معاشرتهما.
قال: وخاف الروم عدد المسلمين لقلتهم وكثرة المسلمين، فآمنهم خاقان من ذلك، وضرب بينهم وبين المسلمين أربعين يوما لا يغزون حتى يصلوا إلى بلادهم ومأمنهم، وكان الفداء في أربعة أيام، ففضل مع خاقان ممن كان أمير المؤمنين أعد لفداء المسلمين عدة كبيرة، وأعطى خاقان صاحب الروم ممن كان قد فضل في يده مائة نفس، ليكون عليهم الفضل استظهارا مكان من يخشى أن يأسروه من المسلمين إلى انقضاء المدة، ورد الباقين إلى طرسوس، فباعهم.
قال: وكان خرج معنا ممن كان تنصر ببلاد الروم من المسلمين نحو من ثلاثين رجلا فودي بهم.
قال محمد بن كريم: ولما انقضت المدة بين خاقان والروم الأربعون يوما، غزا أحمد بن سعيد بن سلم بن قتيبة، فأصاب الناس الثلج والمطر، فمات منهم قدر مائتي إنسان وغرق منهم في البدندون قوم كثير، وأسر منهم نحو من مائتين، فوجد أمير المؤمنين الواثق عليه لذلك، وحصل جميع من مات وغرق خمسمائة إنسان، وكان أقبل إلى أحمد بن سعيد وهو في سبعة آلاف

(9/144)


بطريق من عظمائهم فجبن عنه، فقال له وجوه الناس: إن عسكرا فيه سبعة آلاف لا يتخوف عليه، فإن كنت لا تواجه القوم فتطرق بلادهم.
فأخذ نحوا من ألف بقرة وعشرة آلاف شاة، وخرج فعزله الواثق، وعقد لنصر بن حمزة الخزاعي يوم الثلاثاء لأربع عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى من هذه السنة.
وفي هذه السنة مات الحسن بن الحسين، أخو طاهر بن الحسين بطبرستان في شهر رمضان.
وفيها مات الخطاب بن وجه الفلس وفيها مات ابو عبد الله الأعرابي الراوية يوم الأربعاء لثلاث عشرة خلت من شعبان وهو ابن ثمانين سنة.
وفيها ماتت أم أبيها بنت موسى أخت علي بن موسى الرضى وفيها مات مخارق المغني، وأبو نصر أحمد بن حاتم راوية الأصمعي، وعمرو ابن أبي عمرو الشيباني ومحمد بن سعدان النحوي.

(9/145)


ثم دخلت

سنة اثنتين وثلاثين ومائتين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)

ذكر الخبر عن مسير بغا الكبير الى حرب بنى نمير
فمن ذلك ما كان من مسير بغا الكبير إلى بني نمير حتى أوقع بهم.
ذكر الخبر عن سبب مسيره إليهم وكيف كان الأمر بينه وبينهم:
حدثني أحمد بن محمد بن مخلد بمعظم خبرهم، وذكر أنه كان مع بغا في ذلك السفر، وأما سياق الكلام فلغيره ذكر أن سبب شخوص بغا إلى بني نمير كان أن عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير بن الخطفى امتدح الواثق بقصيدة، فدخل عليه فأنشده إياها، فامر له بثلاثين الف درهم، وبنزل فكلم عمارة الواثق في بني نمير، وأخبره بعبثهم وفسادهم في الأرض، وإغارتهم على الناس وعلى اليمامة وما قرب منها، فكتب الواثق إلى بغا يأمره بحربهم.
فذكر أحمد بن محمد أن بغا لما أراد الشخوص من المدينة إليهم حمل معه محمد بن يوسف الجعفري دليلا له على الطريق، فمضى نحو اليمامة يريدهم، فلقي منهم جماعة بموضع يقال له الشريف، فحاربوه، فقتل بغا منهم نيفا وخمسين رجلا، وأسر نحوا من أربعين، ثم سار إلى حظيان، ثم سار إلى قرية لبني تميم من عمل اليمامة تدعى مرأة، فنزل بها، ثم تابع إليهم رسله، يعرض عليهم الأمان، ودعاهم إلى السمع والطاعة، وهم في ذلك يمتنعون عليه، ويشتمون رسله، ويتفلتون إلى حربه، حتى كان آخر من وجه إليهم رجلين، أحدهما من بني عدي من تميم والآخر من بني نمير، فقتلوا التميمي وأثبتوا النميري جراحا، فسار بغا إليهم من مرأة وكان مسيره إليهم في أول صفر من سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، فورد بطن نخل، وسار حتى دخل نخيلة، وأرسل

(9/146)


إليهم أن ائتوني، فاحتملت بنو ضبة من نمير، فركبت جبالها مياسر جبال السود- وهو جبل خلف اليمامة أكثر أهله باهلة- فأرسل إليهم فأبوا أن يأتوه، فأرسل إليهم سرية فلم تدركهم، فوجه سرايا، فأصابت فيهم وأسرت منهم.
ثم إنه أتبعهم بجماعة من معه وهم نحو من ألف رجل سوى من تخلف في العسكر من الضعفاء والأتباع، فلقيهم وقد جمعوا له، وحشدوا لحربه، وهم يومئذ نحو من ثلاثة آلاف، بموضع يقال له روضة الأبان وبطن السر من القرنين على مرحلتين، ومن أضاخ على مرحلة، فهزموا مقدمته، وكشفوا ميسرته، وقتلوا من أصحابه نحوا من مائة وعشرين أو مائة وثلاثين رجلا، وعقروا من ابل عسكره نحوا من سبعمائة بعير ومائة دابة، وانتهبوا الأثقال وبعض ما كان مع بغا من الأموال.
قال لي أحمد: لقيهم بغا وهجم عليهم، وغلبه الليل، فجعل بغا يناشدهم، ويدعوهم إلى الرجوع وإلى طاعه امير المؤمنين، ويكلمهم بذلك محمد ابن يوسف الجعفري، فجعلوا يقولون له: يا محمد بن يوسف، قد والله ولدناك فما رعيت حرمه الرحيم، ثم جئتنا بهؤلاء العبيد والعلوج تقاتلنا بهم! والله لنرينك العبر، ونحو ذلك من القول فلما دنا الصبح قال محمد بن يوسف لبغا: أوقع بهم من قبل أن يضيء الصبح، فيروا قلة عددنا، فيجترئوا علينا، فأبى بغا عليه، فلما أضاء الصبح ونظروا إلى عدد من مع بغا- وكانوا قد جعلوا رجالتهم أمامهم وفرسانهم وراءهم ونعمهم ومواشيهم من ورائهم- حملوا علينا، فهزمونا حتى بلغت هزيمتنا معسكرنا، وأيقنا بالهلكة.
قال: وكان قد بلغ بغا أن خيلا لهم بمكان من بلادهم، فوجه من أصحابه نحوا من مائتي فارس إليها قال: فبينا نحن فيما نحن فيه من الإشراف على العطب، وقد هزم بغا ومن معه إذ خرجت الجماعة التي كان بغا وجهها من الليل إلى تلك الخيل، وقد أقبلت منصرفة من الموضع الذي وجهت

(9/147)


إليه من العسكر في ظهور بني نمير، وقد فعلوا ما فعلوا ببغا وأصحابه، فنفخوا في صفاراتهم، فلما سمعوا نفخ الصفارات، ونظروا إلى من خرج عليهم في أدبارهم، قالوا: غدر والله العبد، وولوا هاربين، وأسلم فرسانهم رجالتهم بعد أن كانوا على غاية المحاماة عليهم.
قال لي أحمد بن محمد: فلم يفلت من رجالتهم كثير احد، حتى قتلوا عن آخرهم، وأما الفرسان فطاروا هرابا على ظهور الخيل.
وأما غير أحمد بن محمد فإنه قال: لم تزل الهزيمة على بغا وأصحابه منذ غدوة إلى انتصاف النهار، وذلك يوم الثلاثاء لثلاث عشرة خلت من جمادى الآخرة سنة ثنتين وثلاثين ومائتين، ثم تشاغلوا بالنهب وعقر الإبل والدواب حتى ثاب إلى بغا من كان انكشف من أصحابه، واجتمع إليه من كان تفرق عنه، فكروا على بني نمير، فهزمهم وقتل منهم منذ زوال الشمس إلى وقت العصر زهاء ألف وخمسمائة رجل وأقام بغا بموضع الوقعة على الماء المعروف ببطن السر، حتى جمعت له رءوس من قتل من بني نمير، واستراح هو وأصحابه ثلاثة أيام.
فحدثني أحمد بن محمد أن من هرب من فرسان بني نمير من الوقعة أرسلوا إلى بغا يطلبون منه الأمان، فأعطاهم الأمان، فصاروا إليه، فقيدهم وأشخصهم معه.
وأما غيره فإنه قال: سار بغا من موضع الوقعة في طلب من شذ عنه منهم، فلم يدرك إلا الضعيف ممن لم يكن له نهوض منهم وبعض المواشي والنعم، ورجع إلى حصن باهلة قال: وإنما قاتل بغا من بني نمير بنو عبد الله بن نمير وبنو بسره وبلحجاج وبنو قطن وبنو سلاه وبنو شريح وبطون من الخوالف- وهم من بني عبد الله بن نمير، ولم يكن في القتال من بني عامر بن نمير إلا القليل- وبنو عامر بن نمير أصحاب نخل وشاء، وليسوا أصحاب خيل، وعبد الله بن نمير هي التي تحارب العرب- فقال عماره

(9/148)


ابن عقيل لبغا:
تركت الأعقفين وبطن قو ... وملأت السجون من القماش
فحدثني أحمد بن محمد أن الذين دخلوا إلى بغا بالأمان من بني نمير لما قيدهم وحبسهم وأشخصهم معه شغبوا في الطريق، وحاولوا كسر قيودهم والهرب، فأمر بإحضارهم واحدا بعد واحد، فكان إذا حضر الواحد يضربه ما بين الاربعمائه الى الخمسمائة وأقل من ذلك وأكثر، فزعم أحمد أنه حضر ضربهم ولم ينطق منهم ناطق يتوجع من الضرب، وأنه أحضر منهم شيخ قد علق في عنقه مصحفا، ومحمد بن يوسف جالس إلى جنب بغا، فضحك منه محمد بن يوسف، وقال لبغا: هذا أخبث ما كان- أصلحك الله- حين علق المصحف في عنقه! فضربه أربعمائة او خمسمائة، فما توجع وما استغاث.
وذكر أن فارسا من بني نمير لقي بغا في وقعتهم التي ذكرت امرها يدعى المجنون، فطعن بغا ورمى المجنون رجل من الأتراك فأفلت، وعاش أياما ثلاثة، ثم مات من رميته.
قال: ثم قدم عليه واجن الاشروسنى الصغدي في سبعمائة رجل مددا له من الأشروسنية الإشتيخنية، فوجهه بغا ومحمد بن يوسف الجعفري في أثرهم، فلم يزل يتبعهم حتى وغلوا في البلاد، وصاروا بتبالة وما يليها من حد عمل اليمن وفاتوه، فانصرف ولم يصر في يديه منهم إلا ستة نفر أو سبعة، وأقام بحصن باهلة، ووجه إلى جبال بني نمير وسهلها من هلان والسود وغيرها من عمل اليمامة سرايا في محاربه من امتنع ممن قبل الامان منهم، فقتلوا جماعة وأسروا جماعة، وأقبل عدة من ساداتهم، كلهم يطلب الامان لنفسه والبطن الذي هو منه، فقبل ذلك منهم وبسطهم وآنسهم، ولم يزل مقيما إلى أن جمع إليه كل من ظن أنه كان في هذه النواحي منهم، وأخذ منهم زهاء ثمانمائه رجل، فأثقلهم بالحديد وحملهم إلى البصرة، في ذي القعدة من سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، وكتب إلى صالح العباسي بالمسير بمن قبله في المدينة

(9/149)


من بني كلاب وفزارة ومرة وثعلبة وغيرهم واللحاق به، فوافاه صالح العباسي ببغداد، وصاروا جميعا في المحرم إلى سامرا سنة ثلاث وثلاثين ومائتين، وكانت عدة من قدم به بغا وصالح العباسي من الأعراب سوى من مات منهم وهرب وقتل في هذه الوقائع التي وصفناها الفى رجل ومائتي رجل من بني نمير ومن بني كلاب ومن مرة وفزارة ومن ثعلبة وطيئ وفي هذه السنة أصاب الحاج في المرجع عطش شديد في اربعه منازل الى الربذة، فبلغت الشربة عدة دنانير ومات خلق كثير من العطش.
وفيها ولي محمد بن إبراهيم بن مصعب فارس.
وفيها أمر الواثق بترك جباية أعشار سفن البحر.
وفيها اشتد البرد في نيسان حتى جمد الماء لخمس خلون منه.

ذكر خبر موت الواثق
وفيها مات الواثق.
ذكر الخبر عن العلة التي كانت بها وفاته:
ذكر لي جماعة من أصحابنا أن علته التي توفي منها كانت الاستسقاء، فعولج بالإقعاد في تنور مسخن، فوجد لذلك راحة وخفة مما كان به، فأمرهم من غد ذلك اليوم بزيادة في إسخان التنور، ففعل ذلك وقعد فيه أكثر من قعوده في اليوم الذي قبله، فحمي عليه، فأخرج منه، وصير في محفة، وحضره الفضل بن إسحاق الهاشمي وعمر بن فرج وغيرهم، ثم حضر ابن الزيات وابن أبي دواد، فلم يعلموا بموته حتى ضرب بوجهه المحفة، فعلموا أنه قد مات.
وقد قيل: إن احمد بن ابى دواد حضره وقد أغمي عليه، فقضي وهو

(9/150)


عنده فأقبل يغمضه ويصلح من شأنه وكانت وفاته لست بقين من ذي الحجة ودفن في قصره بالهاروني وكان الذي صلى عليه وأدخله قبره وتولى أمره أحمد بن أبي دواد، وكان الواثق امر احمد بن ابى دواد أن يصلي بالناس يوم الأضحى في المصلى، فصلى بهم العيد، لأن الواثق كان شديد العلة فلم يقدر على الحضور إلى المصلى، ومات من علته تلك.

ذكر الخبر عن صفه الواثق وسنه وقدر مده خلافته
ذكر من رآه وشاهده انه كان أبيض مشربا حمرة، جميلا ربعة، حسن الجسم، قائم العين اليسرى، وفيها نكتة بياض.
وتوفي- فيما زعم بعضهم- وهو ابن ست وثلاثين سنة، وفي قول بعضهم: وهو ابن اثنتين وثلاثين سنة، فقال الذين زعموا أنه كان ابن ست وثلاثين: كان مولده سنة ست وتسعين ومائة، وكانت خلافته خمس سنين وتسعة أشهر وخمسة أيام وقال بعضهم: وسبعة أيام واثنتي عشرة ساعة.
وكان ولد بطريق مكة، وأمه أم ولد رومية، يقال لها قراطيس.
واسمه هارون وكنيته أبو جعفر.
وذكر أنه لما اعتل علته التي مات فيها وسقي بطنه أمر بإحضار المنجمين، فأحضروا، وكان ممن حضر الحسن بن سهل، أخو الفضل بن سهل، والفضل بن إسحاق الهاشمي وإسماعيل بن نوبخت ومحمد بن موسى الخوارزمي المجوسي القطربلي وسند صاحب محمد بن الهيثم وعامة من ينظر في النجوم، فنظروا في علته ونجمه ومولده، فقالوا: يعيش دهرا طويلا، وقدروا له خمسين سنة مستقبلة، فلم يلبث إلا عشرة أيام حتى مات.

ذكر بعض أخباره
ذكر الحسين بن الضحاك أنه شهد الواثق بعد أن مات المعتصم بأيام،

(9/151)


وقد قعد مجلسا كان أول مجلس قعده، فكان أول ما تغني به من الغناء في ذلك المجلس، ان تغنت شاريه جارية إبراهيم بن المهدي:
ما درى الحاملون يوم استقلوا ... نعشه للثواء أم للفناء
فليقل فيك باكياتك ما شئن ... صباحا ووقت كل مساء
قال: فبكى والله وبكينا حتى شغلنا البكاء عن جميع ما كنا فيه، ثم اندفع بعض المغنيين فغنى:
ودع هريرة إن الركب مرتحل ... وهل تطيق وداعا أيها الرجل!
قال: فازداد والله في البكاء، وقال: ما سمعت كاليوم قط تعزيه باب ونعى نفس، ثم ارفض ذلك المجلس.
وذكر عن عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع أن علي بن الجهم قال في الواثق بعد أن ولي الخلافة:
قد فاز ذو الدنيا وذو الدين ... بدولة الواثق هارون
أفاض من عدل ومن نائل ... ما أحسن الدنيا مع الدين!
قد عم بالإحسان في فضله ... فالناس في خفض وفي لين
ما أكثر الداعي له بالبقا ... وأكثر التالي بآمين
وقال علي بن الجهم أيضا فيه:
وثقت بالملك الواثق ... بالله النفوس
ملك يشقى به المال ... ولا يشقى الجليس
أنس السيف به واستوحش ... العلق النفيس
أسد تضحك عن ... شداته الحرب العبوس
يا بني العباس يأبى الله إلا أن تسوسوا

(9/152)


فغنت قلم جارية صالح بن عبد الوهاب في هذين الشعرين، وغنت في شعر محمد بن كناسة:
في انقباض وحشمة فإذا ... جالست أهل الوفاء والكرم
أرسلت نفسي على سجيتها ... وقلت ما شئت غير محتشم
فغنته الواثق، فاستحسنه، فبعث إلى ابن الزيات: ويحك من صالح ابن عبد الوهاب هذا! فابعث إليه فأشخصه، وليحمل جاريته، فغدا بها صالح إلى الواثق، فأدخلت عليه، فلما تغنت ارتضاها، فبعث إليه، فقال: قل، فقال: مائة ألف دينار يا أمير المؤمنين وولاية مصر، فردها، ثم قال أحمد بن عبد الوهاب أخو صالح في الواثق:
أبت دار الأحبة أن تبينا ... أجدك ما رأيت لها معينا
تقطع حسرة من حب ليلى ... نفوس ما أثبن ولا جزينا
فصنعت فيه قلم جارية صالح، فغناه زرزر الكبير للواثق، فقال: لمن ذا؟ فقال: لقلم، فبعث الى ابن الزيات، فاشخص صالحا ومعه قلم، فلما دخلت عليه، قال: هذا لك؟ قالت: نعم يا أمير المؤمنين، قال:
بارك الله عليك! وبعث إلى صالح: استم وقل قولا يتهيأ أن تعطاه، فبعث إليه: قد أهديتها إلى أمير المؤمنين، فبارك الله لأمير المؤمنين فيها.
قال: قد قبلتها، يا محمد، عوضه خمسة آلاف دينار، وسماها اغتباط فمطله ابن الزيات، فأعادت الصوت وهو:
أبت دار الأحبة ان تبينا ... اجدك هل رايت لها معينا
فقال لها: بارك الله عليك وعلى من رباك، فقالت: يا سيدي وما ينتفع من رباني، وقد أمرت له بشيء لم يصل اليه! فقال الواثق: يا سمانه، الدواة، فكتب إلى ابن الزيات: ادفع إلى صالح بن عبد الوهاب ما عوضناه من ثمن

(9/153)


اغتباط خمسة آلاف دينار، وأضعفها قال صالح: فصرت إلى ابن الزيات فقربني، وقال: هذه الخمسة الأولى، خذها، والخمسة آلاف الأخرى أدفعها إليك بعد جمعة، فإن سئلت، فقل: إني قبضت المال قال: فكرهت أن أسأل فأقر بالقبض، فاختفيت في منزلي حتى دفع إلي المال، فقال لي سمانه:
قبضت المال؟ قلت: نعم، وترك عمل السلطان، وتجر بها، حتى توفي.

خلافة جعفر المتوكل على الله
وفي هذه السنة بويع لجعفر المتوكل على الله بالخلافة، وهو جعفر بن محمد بن هارون بن محمد بن عبد الله بن محمد ذي الثفنات بن علي السجاد ابن عَبْد اللَّهِ بْن العباس بْن عبد المطلب.

ذكر الخبر عن سبب خلافته ووقتها
حدثني غير واحد، أن الواثق لما توفي حضر الدار احمد بن ابى دواد وإيتاخ ووصيف وعمر بن فرج وابن الزيات وأحمد بن خالد أبو الوزير، فعزموا على البيعة لمحمد بن الواثق، وهو غلام أمرد، فألبسوه دراعة سوداء وقلنسوة رصافية، فإذا هو قصير، فقال لهم وصيف: أما تتقون الله! تولون مثل هذا الخلافة، وهو لا يجوز معه الصلاة! قال: فتناظروا فيمن يولونها، فذكروا عدة، فذكر عن بعض من حضر الدار مع هؤلاء، أنه قال: خرجت من الموضع الذي كنت فيه، فمررت بجعفر المتوكل، فإذا هو في قميص وسروال قاعد مع أبناء الأتراك، فقال لي: ما الخبر؟ فقلت: لم ينقطع أمرهم، ثم دعوا به، فأخبره بغا الشرابي الخبر، وجاء به، فقال: أخاف أن يكون الواثق لم يمت، قال: فمر به، فنظر إليه مسجى، فجاء فجلس، فألبسه أحمد بن ابى دواد الطويلة وعممه وقبله بين عينيه، وقال: السَّلامُ عَلَيْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وبركاته! ثم غسل الواثق وصلي عليه ودفن، ثم صاروا من فورهم إلى دار العامة، ولم يكن لقب المتوكل

(9/154)


وذكر أنه كان يوم بويع له ابن ست وعشرين سنة، ووضع العطاء للجند لثمانية أشهر، وكان الذي كتب البيعة له محمد بن عبد الملك الزيات، وهو إذ ذاك على ديوان الرسائل، واجتمعوا بعد ذلك على اختيار لقب له، فقال ابن الزيات: نسميه المنتصر بالله، وخاض الناس فيها حتى لم يشكوا فيها، فلما كان غداة يوم بكر أحمد بن ابى دواد إلى المتوكل، فقال: قد رويت في لقب أرجو أن يكون موافقا حسنا إن شاء الله، وهو المتوكل على الله، فأمر بإمضائه، وأحضر محمد بن عبد الملك، فأمر بالكتاب بذلك إلى الناس، فنفذت إليهم الكتب، نسخة ذلك:
بسم الله الرحمن الرحيم، امر- ابقاك الله- أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، أن يكون الرسم الذي يجري به ذكره على أعواد منابره، وفي كتبه إلى قضاته وكتابه وعماله وأصحاب دواوينه وغيرهم من سائر من تجرى المكاتبة بينه وبينه: من عبد الله جعفر الإمام المتوكل على الله أمير المؤمنين، فرأيك في العمل بذلك وإعلامي بوصول كتابي إليك موفقا إن شاء الله.
وذكر أنه لما أمر للأتراك برزق أربعة أشهر وللجند والشاكرية ومن يجري مجراهم من الهاشميين برزق ثمانية أشهر، أمر للمغاربة برزق ثلاثة أشهر، فأبوا أن يقبضوا، فأرسل اليهم: من كان منكم مملوكا، فليمض إلى أحمد بن ابى دواد حتى يبيعه، ومن كان حرا صيرناه أسوة الجند، فرضوا بذلك، وتكلم وصيف فيهم حتى رضي عنهم، فأعطوا ثلاثة، ثم أجروا بعد ذلك مجرى الأتراك وبويع للمتوكل ساعة مات الواثق بيعة الخاصة وبايعته العامة حين زالت الشمس من ذلك اليوم.
وذكر عن سعيد الصغير أن المتوكل قبل أن يستخلف ذكر له ولجماعة معه أنه رأى في المنام أن سكرا سليمانيا يسقط عليه من السماء، مكتوبا عليه جعفر المتوكل على الله، فعبرها علينا، فقلنا: هي والله أيها الأمير أعزك الله الخلافة، قال: وبلغ الواثق ذلك فحبسه، وحبس سعيدا معه، وضيق على جعفر بسبب ذلك.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن داود.

(9/155)


ثم دخلت

سنة ثلاث وثلاثين ومائتين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)

ذكر خبر حبس محمد بن عبد الملك الزيات ووفاته
فمن ذلك ما كان من غضب المتوكل على محمد بن عبد الملك الزيات وحبسه إياه.
ذكر الخبر عن سبب ذلك وإلى ما آل اليه الأمر فيه:
أما السبب في غضبه عليه، فإنه كان- فيما ذكر- أن الواثق كان استوزر محمد بن عبد الملك الزيات وفوض إليه الأمور، وكان الواثق قد غضب على أخيه جعفر المتوكل لبعض الأمور، فوكل عليه عمر بن فرج الرخجي ومحمد بن العلاء الخادم، فكانا يحفظانه ويكتبان بأخباره في كل وقت، فصار جعفر إلى محمد بن عبد الملك يسأله أن يكلم له أخاه الواثق ليرضى عنه، فلما دخل عليه مكث واقفا بين يديه مليا لا يكلمه، ثم أشار إليه أن يقعد فقعد، فلما فرغ من نظره في الكتب، التفت إليه كالمتهدد له، فقال:
ما جاء بك؟ قال: جئت لتسأل أمير المؤمنين الرضا عني، فقال لمن حوله:
انظروا إلى هذا، يغضب أخاه، ويسألني أن أسترضيه له! اذهب فإنك إذا صلحت رضي عنك، فقام جعفر كئيبا حزينا لما لقيه به من قبح اللقاء والتقصير به، فخرج من عنده، فأتى عمر بن فرج ليسأله أن يختم له صكه ليقبض أرزاقه، فلقيه عمر بن فرج بالخيبة، وأخذ الصك، فرمى به إلى صحن المسجد.
وكان عمر يجلس في مسجد، وكان أبو الوزير أحمد بن خالد حاضرا، فقام لينصرف، فقام معه جعفر، فقال: يا أبا الوزير، أرأيت ما صنع بي عمر ابن فرج؟ قال: جعلت فداك! أنا زمام عليه، وليس يختم صكى بارزاقى

(9/156)


إلا بالطلب والترفق به، فابعث إلي بوكيلك، فبعث جعفر بوكيله، فدفع إليه عشرين ألفا، وقال: أنفق هذا حتى يهيئ الله أمرك، فأخذها ثم أعاد إلى أبي الوزير رسوله بعد شهر، يسأله إعانته، فبعث إليه بعشرة آلاف درهم، ثم صار جعفر من فوره حين خرج من عند عمر الى احمد بن ابى دواد، فدخل عليه، فقام له أحمد، واستقبله على باب البيت، وقبله والتزمه، وقال: ما جاء بك، جعلت فداك! قال: قد جئت لتسترضي لي أمير المؤمنين، قال: أفعل ونعمة عين وكرامة، فكلم احمد بن ابى دواد الواثق فيه، فوعده ولم يرض عنه، فلما كان يوم الحلبة كلم أحمد بن أبي دواد الواثق، وقال: معروف المعتصم عندي معروف، وجعفر ابنه، فقد كلمتك فيه، ووعدت الرضا، فبحق المعتصم يا أمير المؤمنين إلا رضيت عنه! فرضي عنه من ساعته وكساه، وانصرف الواثق وقد قلد احمد بن ابى دواد جعفرا بكلامه حتى رضي عنه أخوه شكرا، فأحظاه ذلك عنده حين ملك.
وذكر أن محمد بن عبد الملك كان كتب إلى الواثق حين خرج جعفر من عنده: يا أمير المؤمنين، أتاني جعفر بن المعتصم يسألني ان اسال امير المؤمنين الرضا عنه في زي المخنثين له شعر قفا، فكتب إليه الواثق:
ابعث إليه فأحضره، ومر من يجز شعر قفاه، ثم مر من يأخذ من شعره ويضرب به وجهه، واصرفه إلى منزله فذكر عن المتوكل أنه قال: لما أتاني رسوله، لبست سوادا لي جديدا، وأتيته رجاء أن يكون قد أتاه الرضا عنى، فقال: يا غلام، ادع لي حجاما، فدعي به، فقال: خذ شعره واجمعه، فأخذه على السواد الجديد ولم يأته بمنديل، فأخذ شعره وشعر قفاه وضرب به وجهه.
قال المتوكل: فما دخلني من الجزع على شيء مثل ما دخلني حين أخذني على السواد الجديد، وقد جئته فيه طامعا في الرضا، فاخذ شعرى عليه.
ولما توفي الواثق أشار محمد بن عبد الملك بابن الواثق، وتكلم في ذلك

(9/157)


وجعفر في حجرة غير الحجرة التي يتشاورون فيها، فيمن يعقدون، حتى بعث إليه، فعقد له هناك، فكان سبب هلاك ابن الزيات وكان بغا الشرابي الرسول إليه يدعوه، فسلم عليه بالخلافة في الطريق، فعقدوا له وبايعوا، فأمهل حتى إذا كان يوم الأربعاء لسبع خلون من صفر، وقد عزم المتوكل على مكروه أن يناله به، أمر إيتاخ بأخذه وعذابه، فبعث إليه إيتاخ، فظن أنه دعي به، فركب بعد غدائه مبادرا يظن أن الخليفة دعا به، فلما حاذى منزل إيتاخ قيل له: اعدل إلى منزل أبي منصور، فعدل وأوجس في نفسه خيفة، فلما جاء إلى الموضع الذي كان ينزل فيه إيتاخ عدل به يمنه، فأحس بالشر، ثم أدخل حجرة، وأخذ سيفه ومنطقته وقلنسوته ودراعته، فدفع إلى غلمانه، وقيل لهم: انصرفوا، فانصرفوا لا يشكون أنه مقيم عند إيتاخ ليشرب النبيذ.
قال: وقد كان إيتاخ أعد له رجلين من وجوه أصحابه، يقال لهما يزيد ابن عبد الله الحلواني وهرثمة شارباميان فلما حصل محمد بن عبد الملك خرجا يركضان في جندهما وشاكريتهما، حتى أتيا دار محمد بن عبد الملك، فقال لهم غلمان محمد: أين تريدون؟ قد ركب أبو جعفر، فهجما على داره، وأخذا جميع ما فيها.
فذكر عن ابن الحلواني أنه قال: أتيت البيت الذي كان محمد بن عبد الملك يجلس فيه، فرأيته رث الهيئة قليل المتاع، ورأيت فيه طنافس أربعة وقناني رطليات، فيها شراب، ورأيت بيتا ينام فيه جواريه، فرأيت فيه بوريا ومخاد منضدة في جانب البيت، على أن جواريه كن ينمن فيه بلا فرش.
وذكر أن المتوكل وجه في هذا اليوم من قبض ما في منزله من متاع ودواب وجوار وغلمان، فصير ذلك كله في الهاروني، ووجه راشدا المغربي إلى بغداد في قبض ما هنالك من أمواله وخدمه، وأمر أبا الوزير بقبض ضياعه وضياع أهل بيته حيث كانت فأما ما كان بسامرا فحمل إلى خزائن

(9/158)


مسرور سمانه، بعد أن اشتري للخليفة، وقيل لمحمد بن عبد الملك: وكل ببيع متاعك وأتوه بالعباس بن أحمد بن رشيد كاتب عجيف، فوكله بالبيع عليه، فلم يزل أياما في حبسه مطلقا، ثم أمر بتقييده فقيد، وامتنع من الطعام، وكان لا يذوق شيئا، وكان شديد الجزع في حبسه، كثير البكاء، قليل الكلام، كثير التفكر، فمكث أياما ثم سوهر، ومنع من النوم، يساهر وينخس بمسلة، ثم ترك يوما وليلة، فنام وانتبه، فاشتهى فاكهة وعنبا، فأتي به، فأكل ثم أعيد إلى المساهرة، ثم أمر بتنور من خشب فيه مسامير حديد قيام فذكر عن ابن ابى دواد وأبي الوزير أنهما قالا: هو أول من أمر بعمل ذلك، فعذب به ابن أسباط المصري حتى استخرج منه جميع ما عنده، ثم ابتلي به فعذب به أياما.
فذكر عن الدنداني الموكل بعذابه أنه قال: كنت أخرج وأقفل الباب عليه، فيمد يديه إلى السماء جميعا حتى يدق موضع كتفيه، ثم يدخل التنور فيجلس، والتنور فيه مسامير حديد وفي وسطه خشبة معترضة، يجلس عليها المعذب، إذا أراد أن يستريح، فيجلس على الخشبة ساعة، ثم يجيء الموكل به، فإذا هو سمع صوت الباب يفتح قام قائما كما كان، ثم شددوا عليه.
قال المعذب له: خاتلته يوما، واريته انى اقفلت الباب ولم أقفله، إنما أغلقته بالقفل، ثم مكثت قليلا، ثم دفعت الباب غفلة، فإذا هو قاعد في التنور على الخشبة، فقلت: أراك تعمل هذا العمل! فكنت إذا خرجت بعد ذلك شددت خناقه، فكان لا يقدر على القعود، واستللت الخشبة حتى كانت تكون بين رجليه، فما مكث بعد ذلك إلا أياما حتى مات.
واختلف في الذي قتل به، فقيل: بطح، فضرب على بطنه خمسين مقرعة، ثم قلب فضرب على استه مثلها، فمات وهو يضرب، وهم لا يعلمون، فأصبح ميتا قد التوت عنقه، ونتفت لحيته وقيل: مات بغير ضرب وذكر عن مبارك المغربي أنه قال: ما أظنه أكل في طول حبسه الا رغيفا

(9/159)


واحدا، وكان يأكل العنبة والعنبتين قال: وكنت أسمعه قبل موته بيومين أو ثلاثة يقول لنفسه: يا محمد بن عبد الملك، لم يقنعك النعمة والدواب الفرة والدار النظيفة والكسوة الفاخرة، وأنت في عافية حتى طلبت الوزارة، ذق ما عملت بنفسك! فكان يكرر ذلك على نفسه، فلما كان قبل موته بيوم، ذهب عنه عتاب نفسه، فكان لا يزيد على التشهد وذكر الله، فلما مات احضر ابناه سليمان وعبيد الله- كانا محبوسين- وقد طرح على باب من خشب في قميصه الذي حبس فيه، وقد اتسخ فقالا:
الحمد لله الذي أراح من هذا الفاسق، فدفعت جثته إليهما، فغسلاه على الباب الخشب، ودفناه وحفرا له، فلم يعمقا، فذكر أن الكلاب نبشته، وأكلت لحمه وكان إبراهيم بن العباس على الأهواز، وكان محمد بن عبد الملك له صديقا، فوجه إليه محمد أحمد بن يوسف أبا الجهم، فأقامه للناس فصالحه عن نفسه بألف الف درهم وخمسمائة ألف درهم، فقال إبراهيم:
وكنت أخي بإخاء الزمان ... فلما نبا عدت حربا عوانا
وكنت أذم إليك الزمان ... فأصبحت منك أذم الزمانا
وكنت أعدك للنائبات ... فها أنا أطلب منك الأمانا
وقال:
أصبحت من رأي أبي جعفر ... في هيئة تنذر بالصيلم
من غير ما ذنب ولكنها ... عداوة الزنديق للمسلم
وأحدر بعد ما قبض عليه مع راشد المغربي إلى بغداد، لأخذ ماله بها، فوردها، فأخذ روحا غلامه- وكان قهرمانه- في يده أمواله يتجر بها، وأخذ عدة من أهل بيته، وأخذ معهم حمل بغل، ووجدت له بيوت فيها أنواع التجارة من الحنطة والشعير والدقيق والحبوب والزيت والزبيب والتين وبيت

(9/160)


مملوء ثوما، فكان جميع ما قبض له مع قيمته تسعين ألف دينار، وكان حبس المتوكل إياه يوم الأربعاء لسبع خلون من صفر ووفاته يوم الخميس لإحدى عشره بقيت من شهر ربيع الاول.

ذكر غضب المتوكل على عمر بن فرج
وفيها غضب المتوكل على عمر بن فرج، وذلك في شهر رمضان، فدفع إلى إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، فحبس عنده، وكتب في قبض ضياعه وأمواله، وصار نجاح بن سلمة إلى منزله، فلم يجد فيه إلا خمسه عشر الف درهم، وحضر مسرور سمانه، فقبض جواريه، وقيد عمر ثلاثين رطلا، وأحضر مولاه نصر من بغداد، فحمل ثلاثين ألف دينار، وحمل نصر من مال نفسه أربعة عشر ألف دينار، وأصيب له بالأهواز أربعون ألف دينار، ولأخيه محمد بن فرج مائة ألف دينار وخمسون ألف دينار، وحمل من داره من المتاع ستة عشر بعيرا فرشا، ومن الجوهر قيمة أربعين ألف دينار، وحمل من متاعه وفرشه على خمسين جملا، كرت مرارا، وألبس فرجية صوف وقيد، فمكث بذلك سبعا، ثم أطلق عنه وقبض قصره، وأخذ عياله، ففتشوا وكن مائة جارية، ثم صولح على عشرة آلاف ألف درهم، على أن يرد عليه ما حيز عنه من ضياع الأهواز فقط، ونزعت عنه الجبة الصوف والقيد، وذلك في شوال وقال علي بن الجهم بن بدر لنجاح بن سلمة يحرضه على عمر بن فرج:
أبلغ نجاحا فتى الكتاب مالكه ... تمضى بها الريح اصدرا وإيرادا
لا يخرج المال عفوا من يدي عمر ... أو يغمد السيف في فوديه إغمادا
الرخجيون لا يوفون ما وعدوا ... والرخجيات لا يخلفن ميعادا
وقال أيضا يهجوه:
جمعت أمرين ضاع الحزم بينهما ... تيه الملوك وأفعال المماليك

(9/161)


أردت شكرا بلا بر ومرزئة ... لقد سلكت سبيلا غير مسلوك
ظننت عرضك لم يقرع بقارعة ... وما أراك على حال بمتروك
وفي هذه السنة أمر المتوكل بإبراهيم بن الجنيد النصراني، أخي أيوب كاتب سمانه، فضرب.
له بالأعمدة حتى أقر بسبعين ألف دينار، فوجه معه مباركا المغربي إلى بغداد حتى استخرجها من منزله، وجيء به فحبس
. ذكر غضب المتوكل على ابى الوزير وغيره
وفيها غضب المتوكل على أبي الوزير في ذي الحجة، وأمر بمحاسبته، فحمل نحوا من ستين ألف دينار، وحمل بدور دراهم وحليا، وأخذ له من متاع مصر اثنين وستين سفطا واثنين وثلاثين غلاما وفرشا كثيرا، وحبس بخيانته محمد بن عبد الملك أخا موسى بن عبد الملك والهيثم بن خالد النصراني وابن أخيه سعدون بن علي، وصولح سعدون على أربعين ألف دينار، وصولح ابنا أخيه عبد الله وأحمد على نيف وثلاثين ألف دينار، وأخذت ضياعهم بذلك.
[أخبار متفرقة]
وفي هذه السنة استكتب المتوكل محمد بن الفضل الجرجرائي.
وفي هذه السنة عزل المتوكل يوم الأربعاء لثلاث عشره بقيت من شهر رمضان عن ديوان الخراج الفضل بن مروان، وولاه يحيى بن خاقان الخراساني مولى الأزد، وولى إبراهيم بن العباس بن محمد بن صول في هذا اليوم ديوان زمام النفقات وعزل عنه أبا الوزير وفيها ولى المتوكل ابنه محمدا المنتصر الحرمين واليمن والطائف، وعقد له

(9/162)


يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة خلت من شهر رمضان.
وفيها فلج أحمد بن أبي دواد لست خلون من جمادى الآخرة.
وفيها قدم يحيى بن هرثمة مكة وهو والي طريق مكة بعلي بن محمد بن علي الرضى بن موسى بن جعفر من المدينة.
وفيها وثب ميخائيل بن توفيل على أمه تذورة فشمسها وأدخلها الدير، وقتل اللغثيط لأنه اتهمها به، وكان ملكها ست سنين.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن داود.

(9/163)


ثم دخلت

سنة أربع وثلاثين ومائتين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)

ذكر الخبر عن هرب محمد بن البعيث
فمن ذلك ما كان من هرب محمد بن البعيث بن حلبس، جيء به أسيرا من قبل أذربيجان فحبس.
ذكر الخبر عن سبب هربه وما كان آل إليه أمره:
ذكر أن السبب في ذلك كان أن المتوكل كان اعتل في هذه السنة، وكان مع ابن البعيث رجل يخدمه يسمى خليفة، فأخبره بأن المتوكل قد توفي، واعد له دواب، فهرب هو وخليفة الذي أخبره الخبر إلى موضعه من أذربيجان، وموضعه منها مرند- وقيل: كانت له قلعتان تدعى إحداهما شاهي والأخرى يكدر- ويكدر خارج البحيرة، وشاهي في وسط البحيرة، والبحيرة قدر خمسين فرسخا من حد أرمية، إلى رستاق داخرقان بلاد محمد بن الرواد، وشاهي قلعة ابن البعيث حصينة يحيط بها ماء قائم ثم، يركب الناس من أطراف المراغة إلى أرمية وهي بحيرة لا سمك فيها ولا خير.
وذكر أن ابن البعيث كان في حبس إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، فتكلم فيه بغا الشرابي، وأخذ منه الكفلاء نحوا من ثلاثين كفيلا، منهم محمد بن خالد بن يزيد بن مزيد الشيباني، فكان يتردد بسامرا، فهرب إلى مرند، فجمع بمرند الطعام، وفيها عيون ماء، فرم ما كان وهي من سورها، وأتاه من أراد الفتنة من كل ناحية، من ربيعة وغيرهم، فصار في نحو من ألفين ومائتي رجل.
وكان الوالي بأذربيجان محمد بن حاتم بن هرثمة، فقصر في طلبه، فولى

(9/164)


المتوكل حمدويه بن علي بن الفضل السعدي أذربيجان، ووجهه من سامرا على البريد، فلما صار إليهما جمع الجند والشاكرية ومن استجاب له، فصار في عشرة آلاف، فزحف إلى ابن البعيث، فألجأه إلى مدينة مرند- وهي مدينة استدارتها فرسخان وفي داخلها بساتين كثيرة، ومن خارجها كما تدور شجر إلا في موضع أبوابها- وقد جمع فيها ابن البعيث آلة الحصار، وفيها عيون ماء، فلما طالت مدته، وجه المتوكل زيرك التركي في مائتي ألف فارس من الأتراك، فلم يصنع شيئا، فوجه إليه المتوكل عمرو بن سيسل بن كال في تسعمائة من الشاكرية، فلم يغن شيئا، فوجه إليه بغا الشرابي في أربعة آلاف ما بين تركي وشاكري ومغربي، وكان حمدويه بن علي وعمر بن سيسل وزيرك زحفوا إلى مدينة مرند، وقطعوا ما حولها من الشجر، فقطعوا نحوا من مائة ألف شجرة وغير ذلك من شجر الغياض، ونصبوا عليها عشرين منجنيقا، وبنوا بحذاء المدينة ما يستكنون فيه، ونصب عليهم ابن البعيث من المجانيق مثل ذلك، وكان من معه من علوج رساتيقه يرمون بالمقاليع، فكان الرجل لا يقدر على الدنو من سور المدينة، فقتل من أولياء السلطان في حربه في ثمانية أشهر نحو من مائه رجل، وجرح نحو من أربعمائة، وقتل وجرح من أصحابه مثل ذلك.
وكان حمدويه وعمرو وزيرك يغادونه القتال ويراوحونه، وكان السور من قبل المدينة ذليلا، ومن القرار نحوا من عشرين ذراعا، وكانت الجماعة من أصحاب ابن البعيث يتدلون بالحبال معهم الرماح فيقاتلون، فإذا حمل عليهم من أصحاب السلطان لجئوا إلى الحائط، وكانوا ربما فتحوا بابا يقال له باب الماء، فيخرج منه العدة يقاتلون ثم يرجعون.
ولما قرب بغا الشرابي من مرند بعث- فيما ذكر- عيسى بن الشيخ بن السليل الشيباني، ومعه أمانات لوجوه أصحاب ابن البعيث، ولابن البعيث أن ينزلوا وينزل على حكم أمير المؤمنين، وإلا قاتلهم، فإن ظفر بهم لم يستبق منهم أحدا، ومن نزل فله الامان، وكان عامة من مع ابن البعيث من ربيعة من قوم عيسى بن الشيخ، فنزل منهم قوم كثير بالحبال، ونزل ختن ابن البعيث

(9/165)


على أخته أبو الأغر.
وذكر عن أبي الأغر هذا أنه قال: ثم فتحوا باب المدينة، فدخل أصحاب حمدويه وزيرك، وخرج ابن البعيث من منزله هاربا يريد أن يخرج من وجه آخر، فلحقه قوم من الجند، معهم منصور قهرمانه، وهو راكب دابة، يريد أن يصير إلى نهر عليه رحا ليستخفي في الرحا، وفي عنقه السيف، فأخذوه أسيرا وانتهب الجند منزله ومنازل أصحابه وبعض منازل أهل المدينة، ثم نودي بعد ما انتهب الناس: برئت الذمة ممن انتهب وأخذوا له أختين وثلاث بنات وخالته والبواقي سراري، فحصل في يد السلطان من حرمه ثلاث عشرة امرأة، وأخذ من وجوه أصحابه المذكورين نحو من مائتي رجل، وهرب الباقون، فوافاهم بغا الشرابي من غد، فنادى مناديه بالمنع من النهب، فكتب بغا الشرابي بالفتح لنفسه.
وخرج المتوكل فيها إلى المدائن في جمادى الأولى
. ذكر الخبر عن حج ايتاخ وسببه
وحج في هذه السنة إيتاخ، وكان والي مكة والمدينة والموسم، ودعي له على المنابر.
ذكر الخبر عن سبب حجه في هذه السنة:
ذكر أن إيتاخ كان غلاما خزريا لسلام الأبرش طباخا، فاشتراه منه المعتصم في سنة تسع وتسعين ومائة، وكان لإيتاخ رجلة وبأس، فرفعه المعتصم ومن بعده الواثق، حتى ضم إليه من أعمال السلطان أعمالا كثيرة، وولاه المعتصم معونة سامرا مع إسحاق بن إبراهيم، وكان من قبله رجل، ومن قبل إسحاق رجل، وكان من أراد المعتصم أو الواثق قتله فعند إيتاخ

(9/166)


يقتل، وبيده يحبس، منهم محمد بن عبد الملك الزيات، وأولاد المأمون من سندس، وصالح بن عجيف وغيرهم، فلما ولي المتوكل كان إيتاخ في مرتبته، إليه الجيش والمغاربة والأتراك والموالي والبريد والحجابة ودار الخلافة، فخرج المتوكل بعد ما استوت له الخلافة متنزها إلى ناحية القاطول، فشرب ليلة، فعربد على إيتاخ، فهم إيتاخ بقتله، فلما أصبح المتوكل قيل له، فاعتذر إليه والتزمه، وقال له: أنت أبي وربيتني، فلما صار المتوكل إلى سامرا دس إليه من يشير عليه بالاستئذان للحج، ففعل وأذن له، وصيره أمير كل بلدة يدخلها، وخلع عليه، وركب جميع القواد معه، وخرج معه من الشاكرية والقواد والغلمان سوى غلمانه وحشمه بشر كثير، فحين خرج صيرت الحجابة إلى وصيف، وذلك يوم السبت لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة وقد قيل إن هذه القصة من أمر إيتاخ كانت في سنة ثلاث وثلاثين ومائتين وأن المتوكل إنما صير إلى وصيف الحجابة لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة من سنة ثلاث وثلاثين ومائتين.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن داود بن عيسى بن موسى.

(9/167)


ثم دخلت

سنة خمس وثلاثين ومائتين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)

ذكر الخبر عن مقتل ايتاخ
فمن ذلك مقتل إيتاخ الخزري.
ذكر الخبر عن صفة مقتله:
ذكر عن إيتاخ أنه لما انصرف من مكة راجعا إلى العراق، وجه المتوكل إليه سعيد بن صالح الحاجب مع كسوة وألطاف، وأمره أن يلقاه بالكوفة أو ببعض طريقه، وقد تقدم المتوكل إلى عامله على الشرطة ببغداد بأمره فيه.
فذكر عن إبراهيم بن المدبر، أنه قال: خرجت مع إسحاق بن إبراهيم حين قرب إيتاخ من بغداد، وكان يريد أن يأخذ طريق الفرات إلى الأنبار، ثم يخرج إلى سامرا، فكتب إليه إسحاق بن إبراهيم: أن أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، قد أمر أن تدخل بغداد، وأن يلقاك بنو هاشم ووجوه الناس، وأن تقعد لهم في دار خزيمة بن خازم، فتأمر لهم بجوائز قال: فخرجنا حتى إذا كنا بالياسرية، وقد شحن ابن إبراهيم الجسر بالجند والشاكرية، وخرج في خاصته، وطرح له بالياسرية صفة، فجلس عليها حتى قالوا: قد قرب منك فركب فاستقبله، فلما نظر إليه أهوى إسحاق لينزل، فحلف عليه إيتاخ ألا يفعل.
قال: وكان إيتاخ في ثلاثمائة من أصحابه وغلمانه، عليه قباء أبيض، متقلدا سيفا بحمائل، فسارا جميعا، حتى إذا صارا عند الجسر تقدمه إسحاق عند الجسر، وعبر حتى وقف على باب خزيمة بن خازم، وقال لإيتاخ تدخل أصلح الله الأمير! وكان الموكلون بالجسر كلما مر بهم غلام من غلمانه قدموه، حتى بقي في خاصة غلمانه، ودخل بين يديه قوم، وقد فرشت له دار خزيمة، وتأخر إسحاق، وأمر ألا يدخل الدار من غلمانه الا

(9/168)


ثلاثة أو أربعة، وأخذت عليه الأبواب، وأمر بحراسته من ناحية الشط، وكسرت كل درجة في قصر خزيمة بن خازم، فحين دخل أغلق الباب خلفه، فنظر فإذا ليس معه إلا ثلاثة غلمان، فقال: قد فعلوها! ولو لم يؤخذ ببغداد ما قدروا على أخذه، ولو دخل إلى سامرا، فأراد بأصحابه قتل جميع من خالفه امكنه ذلك قال: فأتي بطعام قرب الليل، فأكل فمكث يومين أو ثلاثة، ثم ركب إسحاق في حراقة وأعد لإيتاخ أخرى، ثم أرسل إليه أن يصير إلى الحراقة، وأمر بأخذ سيفه، فحدروه إلى الحراقة، وصير معه قوم في السلاح وصاعد إسحاق، حتى صار إلى منزله، وأخرج إيتاخ حين بلغ دار إسحاق، فأدخل ناحية منها، ثم قيد فأثقل بالحديد في عنقه ورجليه، ثم قدم بابنيه منصور ومظفر، وبكاتبيه سليمان بن وهب وقدامة بن زياد النصراني بغداد.
وكان سليمان على أعمال السلطان، وقدامة على ضياع إيتاخ خاصة، فحبسوا ببغداد، فأما سليمان وقدامة فضربا، فأسلم قدامة وحبس منصور ومظفر.
وذكر عن ترك مولى إسحاق أنه قال: وقفت على باب البيت الذي فيه إيتاخ محبوس، فقال لي: يا ترك، قلت: ما تريد يا منصور؟ قال: أقرئ الأمير السلام، وقل له: قد علمت ما كان يأمرني به المعتصم والواثق في أمرك، فكنت أدفع عنك ما أمكنني، فلينفعني ذلك عندك، أما أنا فقد مر بي شدة ورخاء، فما أبالي ما أكلت وما شربت، وأما هذان الغلامان، فإنهما عاشا في نعمة ولم يعرفا البؤس، فصير لهما مرقة ولحما وشيئا يأكلان منه قال:
ترك فوقفت على باب مجلس إسحاق، قال لي: ما لك يا ترك؟ أتريد أن تتكلم بشيء؟ قلت: نعم، قال لي ايتاخ كذا، كذا، قال: وكانت وظيفة إيتاخ رغيفا وكوزا من ماء، ويأمر لابنيه بخوان فيه سبعة أرغفة وخمس غرف، فلم يزل ذلك قائما حياة إسحاق، ثم لا أدري ما صنع بهما، فأما إيتاخ فقيد وصير في عنقه ثمانون رطلا، وقيد ثقيل، فمات يوم الأربعاء لخمس خلون من جمادى الآخرة سنة خمس وثلاثين ومائتين، وأشهد إسحاق على موته أبا الحسن إسحاق بن ثابت بن أبي عباد وصاحب بريد بغداد والقضاة، وأراهم إياه لا ضرب به ولا أثر

(9/169)


وحدثني بعض شيوخنا أن إيتاخ كان موته بالعطش، وأنه أطعم فاستسقى فمنع الماء، حتى مات عطشا، وبقي ابناه في الحبس حياة المتوكل، فلما أفضى الأمر إلى المنتصر أخرجهما، فأما مظفر فإنه لم يعش بعد أن أخرج من السجن إلا ثلاثة أشهر حتى مات، واما منصور فعاش بعده.

ذكر خبر اسر ابن البعيث وموته
وفي هذه السنة قدم بغا الشرابي بابن البعيث في شوال وبخليفته أبي الأغر وبأخوي ابن البعيث صقر وخالد- وكانا نزلا بأمان- وبابن لابن البعيث، يقال له العلاء، خرج بأمان، وقدم من الأسرى بنحو من مائة وثمانين رجلا، ومات باقيهم قبل أن يصلوا، فلما قربوا من سامرا حملوا على الجمال يستشرفهم الناس، فأمر المتوكل بحبسه وحبسهم، وأثقله حديدا فذكر عن علي بن الجهم، أنه قال: أتي المتوكل بمحمد بن البعيث، فأمر بضرب عنقه، فطرح على نطع، وجاء السيافون فلوحوا له، فقال المتوكل، وغلظ عليه: ما دعاك يا محمد إلى ما صنعت؟ قال: الشقوة، وأنت الحبل الممدود بين الله وبين خلقه، وإن لي فيك لظنين أسبقهما إلى قلبي أولاهما بك، وهو العفو، ثم اندفع بلا فضل، فقال:
أبى الناس إلا أنك اليوم قاتلي ... إمام الهدى والصفح بالناس أجمل
وهل أنا إلا جبلة من خطية ... وعفوك من نور النبوه يجبل
فإنك خير السابقين الى العلا ... ولا شك أن خير الفعالين تفعل
قال علي: ثم التفت إلي المتوكل، فقال: إن معه لأدبا، وبادرت فقلت: بل يفعل أمير المؤمنين خيرهما ويمن عليك، فقال: ارجع إلى منزلك.
وحدثني أنه أنشدني بالمراغة جماعة من أشياخها أشعارا لابن

(9/170)


البعيث بالفارسية، ويذكرون أدبه وشجاعته، وله أخبار وأحاديث.
وحدثني بعض من ذكر أنه شهد المتوكل حين أتي بابن البعيث، وكلمه ابن البعيث بما كلمه به، فتكلم فيه المعتز، وهو جالس مع أبيه المتوكل، فاستوهبه فوهب له، وعفي عنه.
وكان ابن البعيث حين هرب قال:
كم قد قضيت أمورا كان أهملها ... غيري وقد أخذ الإفلاس بالكظم
لا تعذليني فيما ليس ينفعني ... إليك عني جرى المقدار بالقلم
سأتلف المال في عسر وفي يسر ... إن الجواد الذي يعطي على العدم
وكان ابن البعيث حين هرب خلف في منزله ثلاثة بنين له، يقال لهم:
البعيث وجعفر وحلبس، وجواري، فحبسوا ببغداد في قصر الذهب، فتكلم بغا الشرابي بعد موت ابن البعيث- ومات بعد دخوله سامرا بشهر- في أبي الأغر ختنه، فأطلق وأطلقت خالة لابن البعيث، فخرجت من السجن، فماتت فرحا من يومها، وبقي الباقون في الحبس.
وذكر أن ابن البعيث صير في عنقه مائة رطل، فلم يزل مكبوبا على وجهه حتى مات.
ولما أخذ ابن البعيث أخرج من الحبس من كان محبوسا بسبب كفالته به، وقد كان بعضهم مات في الحبس، فأخرج بعد باقي عياله وصير بنوه:
حلبس والبعيث وجعفر في عداد الشاكريه مع عبيد الله بن خاقان، واجريت عليهم الأنزال.

امر المتوكل مع النصارى
وفي هذه السنة أمر المتوكل بأخذ النصارى وأهل الذمة كلهم بلبس الطيالسة العسلية والزنانير وركوب السروج بركب الخشب وبتصيير كرتين على مؤخر السروج، وبتصيير زرين على قلانس من لبس منهم قلنسوة مخالفة لون القلنسوة التي يلبسها المسلمون، وبتصيير رقعتين على ما ظهر من لباس

(9/171)


مماليكهم مخالف لونهما لون الثوب الظاهر الذي عليه، وأن تكون إحدى الرقعتين بين يديه عند صدره، والأخرى منهما خلف ظهره، وتكون كل واحدة من الرقعتين قدر أربع أصابع، ولونهما عسليا، ومن لبس منهم عمامة فكذلك يكون لونها لون العسلي، ومن خرج من نسائهم فبرزت فلا تبرز إلا في إزار عسلي، وأمر بأخذ مماليكهم بلبس الزنانير وبمنعهم لبس المناطق، وأمر بهدم بيعهم المحدثة، وبأخذ العشر من منازلهم، وان كان الموضع واسعا صير مسجدا، وإن كان لا يصلح أن يكون مسجدا صير فضاء، وأمر أن يجعل على أبواب دورهم صور شياطين من خشب مسمورة، تفريقا بين منازلهم وبين منازل المسلمين، ونهى أن يستعان بهم في الدواوين وأعمال السلطان التي يجري أحكامهم فيها على المسلمين، ونهى أن يتعلم أولادهم في كتاتيب المسلمين، ولا يعلمهم مسلم، ونهى أن يظهروا في شعانينهم صليبا، وأن يشمعلوا في الطريق، وأمر بتسوية قبورهم مع الأرض، لئلا تشبه قبور المسلمين.
وكتب إلى عماله في الآفاق:
بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، فإن الله تبارك وتعالى بعزته التي لا تحاول وقدرته على ما يريد، اصطفى الإسلام فرضيه لنفسه، وأكرم به ملائكته، وبعث به رسله، وأيد به أولياءه، وكنفه بالبر، وحاطه بالنصر، وحرسه من العاهة، وأظهره على الأديان، مبرأ من الشبهات، معصوما من الآفات، محبوا بمناقب الخير، مخصوصا من الشرائع بأطهرها وأفضلها، ومن الفرائض بأزكاها وأشرفها، ومن الأحكام بأعدلها وأقنعها، ومن الأعمال بأحسنها وأقصدها، وأكرم أهله بما أحل لهم من حلاله، وحرم عليهم من حرامه، وبين لهم من شرائعه وأحكامه، وحد لهم من حدوده ومناهجه، وأعد لهم من سعة جزائه وثوابه، فقال في كتابه فيما أمر به ونهى عنه، وفيما حض عليه فيه ووعظ:
«إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» ، وقال فيما حرم على اهله

(9/172)


مما غمط فيه اهل الأديان من رديء المطعم والمشرب والمنكح لينزههم عنه وليظهر به دينهم، ليفضلهم عليهم تفضيلا: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ» إلى آخر الآية، ثم ختم ما حرم عليهم من ذلك في هذه الآية بحراسة دينه، ممن عند عنه وبإتمام نعمته على أهله الذين اصطفاهم، فقال عز وجل: «الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ» الآية، وقال عز وجل: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ» وقال:
«إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ» الآية، فحرم على المسلمين من مآكل أهل الأديان أرجسها وأنجسها، ومن شرابهم أدعاه إلى العداوة والبغضاء، وأصده عن ذكر الله وعن الصلاة، ومن مناكحهم أعظمها عنده وزرا، وأولاها عند ذوي الحجى والألباب تحريما، ثم حباهم محاسن الأخلاق وفضائل الكرامات، فجعلهم أهل الإيمان والأمانة، والفضل والتراحم واليقين والصدق، ولم يجعل في دينهم التقاطع والتدابر، ولا الحمية ولا التكبر، ولا الخيانة ولا الغدر، ولا التباغي ولا التظالم، بل أمر بالأولى ونهى عن الأخرى، ووعد وأوعد عليها جنته وناره، وثوابه وعقابه، فالمسلمون بما اختصهم الله من كرامته، وجعل لهم من الفضيلة بدينهم الذي اختاره لهم، بائنون على الأديان بشرائعهم الزاكية، وأحكامهم المرضية الطاهرة، وبراهينهم المنيرة، وبتطهير الله دينهم بما أحل وحرم فيه لهم وعليهم، قضاء من الله عز وجل في إعزاز دينه، حتما ومشيئة منه في إظهار حقه ماضية، واراده منه في اتمام نعمته على أهله نافذة «لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ» ، وليجعل الله الفوز والعاقبة للمتقين، والخزي في الدنيا والآخرة على الكافرين.
وقد رأى أمير المؤمنين- وبالله توفيقه وإرشاده- أن يحمل أهل الذمة جميعا

(9/173)


بحضرته وفي نواحي أعماله، أقربها وأبعدها، وأخصهم وأخسهم على تصيير طيالستهم التي يلبسونها، من لبسها من تجارهم وكتابهم، وكبيرهم وصغيرهم، على ألوان الثياب العسلية، لا يتجاوز ذلك منهم متجاوز إلى غيره، ومن قصر عن هذه الطبقة من أتباعهم وأرذالهم، ومن يقعد به حاله عن لبس الطيالسة منهم أخذ بتركيب خرقتين صبغهما ذلك الصبغ يكون استدارة كل واحدة منهما شبرا تاما في مثله، على موضع أمام ثوبه الذي يلبسه، تلقاء صدره، ومن وراء ظهره، وان يؤخذ الجميع منهم في قلانسهم بتركيب أزرة عليها تخالف ألوانها ألوان القلانس، ترتفع في أماكنها التي تقع بها، لئلا تلصق فتستر ولا ما يركب منها على حباك فتخفى، وكذلك في سروجهم باتخاذ ركب خشب لها، ونصب أكر على قرابيسها، تكون ناتئة عنها، وموفية عليها، لا يرخص لهم في إزالتها عن قرابيسهم، وتأخيرها إلى جوانبها، بل يتفقد ذلك منهم، ليقع ما وقع من الذي أمر أمير المؤمنين بحملهم عليه ظاهرا يتبينه الناظر من غير تأمل، وتأخذه الأعين من غير طلب، وأن تؤخذ عبيدهم وإماؤهم، ومن يلبس المناطق من تلك الطبقة بشد الزنانير والكساتيج مكان المناطق التي كانت في أوساطهم، وأن توعز إلى عمالك فيما أمر به أمير المؤمنين في ذلك إيعازا تحدوهم به إلى استقصاء ما تقدم إليهم فيه، وتحذرهم إدهانا وميلا، وتتقدم إليهم في إنزال العقوبة بمن خالف ذلك من جميع أهل الذمة عن سبيل عناد وتهوين إلى غيره، ليقتصر الجميع منهم على طبقاتهم وأصنافهم على السبيل التي أمر أمير المؤمنين بحملهم عليها، وأخذهم بها إن شاء الله.
فاعلم ذلك من رأي أمير المؤمنين وأمره، وانفذ إلى عمالك في نواحي عملك ما ورد عليك من كتاب أمير المؤمنين بما تعمل به إن شاء الله، وأمير المؤمنين يسأل الله ربه ووليه أن يصلي على محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وملائكته، وأن يحفظه فيما استخلفه عليه من أمر دينه، ويتولى ما ولاه مما لا يبلغ حقه فيه إلا بعونه، حفظا يحمل به ما حمله، وولاية يقضي بها حقه منه ويوجب بها له أكمل ثوابه، وأفضل مزيده، أنه كريم رحيم.
وكتب إبراهيم بن العباس في شوال سنة خمس وثلاثين ومائتين

(9/174)


فقال علي بن الجهم:
العسليات التي فرقت ... بين ذوي الرشدة والغي
وما على العاقل ان تكثروا ... فانه اكثر للفيء

ظهور محمود بن الفرج النيسابورى
وفي هذه السنة ظهر بسامرا رجل يقال له محمود بن الفرج النيسابوري فزعم أنه ذو القرنين، ومعه سبعة وعشرون رجلا عند خشبة بابك، وخرج من أصحابه بباب العامة رجلان، وببغداد في مسجد مدينتها آخران، وزعما أنه نبي، وأنه ذو القرنين، فأتي به وبأصحابه المتوكل، فأمر بضربه بالسياط، فضرب ضربا شديدا، فمات من بعد من ضربه ذلك، وحبس أصحابه، وكانوا قدموا من نيسابور، ومعهم شيء يقرءونه، وكان معهم عيالاتهم، وفيهم شيخ يشهد له بالنبوة، ويزعم أنه يوحى إليه، وأن جبريل يأتيه بالوحي، فضرب محمود مائة سوط، فلم ينكر نبوته حين ضرب، وضرب الشيخ الذي كان يشهد له أربعين سوطا، فأنكر نبوته حين ضرب وحمل محمود إلى باب العامة، فأكذب نفسه، وقال: الشيخ قد اختدعني، وأمر أصحاب محمود أن يصفعوه فصفعوه، كل واحد منهم عشر صفعات، وأخذ له مصحف فيه كلام قد جمعه ذكر أنه قرآنه، وان جبريل ع كان يأتيه به، ثم مات يوم الأربعاء لثلاث خلون من ذي الحجة في هذه السنه ودفن في الجزيرة.

ذكر عقد المتوكل البيعه لبنيه الثلاثة
وفي هذه السنة عقد المتوكل البيعة لبنيه الثلاثة: لمحمد وسماه المنتصر، ولأبي عبد الله بن قبيحة- ويختلف في اسمه، فقيل إن اسمه محمد، وقيل:

(9/175)


اسمه الزبير، ولقبه المعتز- ولإبراهيم وسماه المؤيد بولاية العهد، وذلك- فيما قيل- يوم السبت لثلاث بقين من ذي الحجة- وقيل لليلتين بقيتا منه- وعقد لكل واحد منهم لواءين، أحدهما أسود وهو لواء العهد، والآخر أبيض وهو لواء العمل، وضم إلى كل واحد من العمل ما أنا ذاكره.
فكان ما ضم إلى ابنه محمد المنتصر من ذلك إفريقية والمغرب كله من عريش مصر إلى حيث بلغ سلطانه من المغرب وجند قنسرين والعواصم والثغور الشامية والجزرية وديار مضر وديار ربيعه والموصل وهيت وعانات والخابور وقرقيسيا وكورباجرمى وتكريت وطساسيج السواد وكور دجلة والحرمين واليمن وعك وحضر موت واليمامة والبحرين والسند ومكران وقندابيل وفرج بيت الذهب وكور الأهواز والمستغلات بسامرا وماه الكوفة وماه البصره وماسبذان ومهرجانقذق وشهرزور ودراباذ والصامغان وأصبهان وقم وقاشان وقزوين وأمور الجبل والضياع المنسوبة إلى الجبال وصدقات العرب بالبصرة.
وكان ما ضم إلى ابنه المعتز كور خراسان وما يضاف إليها، وطبرستان والري وأرمينية وأذربيجان وكور فارس ضم إليه في سنة أربعين خزن بيوت الأموال في جميع الآفاق، ودور الضرب، وأمر بضرب اسمه على الدراهم.
وكان ما ضم إلى ابنه المؤيد جند دمشق وجند حمص وجند الأردن وجند فلسطين، فقال أبو الغصن الأعرابي:
إن ولاة المسلمين الجله ... محمد ثم أبو عبد الله
ثمت إبراهيم آبي الذله ... بورك في بني خليفة الله
وكتب بينهم كتابا نسخته:
هذا كتاب كتبه عبد الله جعفر الإمام المتوكل على الله أمير المؤمنين، وأشهد الله على نفسه بجميع ما فيه ومن حضر من أهل بيته وشيعته وقواده وقضاته وكفاته وفقهائه وغيرهم من المسلمين لمحمد المنتصر بالله، ولأبي عبد الله المعتز بالله، وإبراهيم المؤيد بالله، بني أمير المؤمنين، في أصالة من رأيه، وعموم من عافية بدنه، واجتماع من فهمه، مختارا لما شهد به، متوخيا بذلك طاعة ربه، وسلامة رعيته واستقامتها وانقياد طاعتها، واتساع كلمتها،

(9/176)


وصلاح ذات بينها، وذلك في ذي الحجة سنه خمسه وثلاثين ومائتين انه جعل، إلى محمد المنتصر بالله بن جعفر الإمام المتوكل على الله أمير المؤمنين ولاية عهد المسلمين في حياته والخلافة عليهم من بعده، وأمره بتقوى الله التي هي عصمة من اعتصم بها ونجاة من لجأ إليها، وعز من اقتصر عليها، فإن بطاعة الله تتم النعمة، وتجب من الله الرحمة، والله غفور رحيم وجعل عبد الله جعفر الإمام المتوكل على الله أمير المؤمنين الخلافة من بعد محمد المنتصر بالله ابن أمير المؤمنين إلى أبي عبد الله المعتز بالله ابن أمير المؤمنين، ثم من بعد أبي عبد الله المعتز ابن أمير المؤمنين الخلافة إلى إبراهيم المؤيد بالله ابن أمير المؤمنين وجعل عبد الله جعفر الإمام المتوكل على الله أمير المؤمنين لمحمد المنتصر بالله ابن أمير المؤمنين على أبي عبد الله المعتز بالله وإبراهيم المؤيد بالله ابنى امير المؤمنين السمع والطاعة والنصيحة والمشايعة والموالاة لأوليائه والمعاداة لأعدائه، في السر والجهر، والغضب والرضا، والمنع والإعطاء، والتمسك ببيعته، والوفاء بعهده، لا يبغيانه غائلة، ولا يحاولانه مخاتلة، ولا يمالئان عليه عدوا، ولا يستبدان دونه بأمر يكون فيه نقض لما جعل إليه أمير المؤمنين من ولاية العهد في حياته والخلافة من بعده.
وجعل عبد الله جعفر الإمام المتوكل على الله أمير المؤمنين على محمد المنتصر بالله ابن أمير المؤمنين لأبي عبد الله المعتز بالله وإبراهيم المؤيد بالله ابني أمير المؤمنين الوفاء بما عقده لهما، وعهد به إليهما من الخلافة بعد محمد المنتصر بالله ابن أمير المؤمنين، وإبراهيم المؤيد بالله ابن أمير المؤمنين الخليفة من بعد أبي عبد الله المعتز بالله ابن امير المؤمنين، والإتمام على ذلك، والا يخلعهما ولا واحدا منهما، ولا يعقد دونهما ولا دون واحد منهما بيعة لولد، ولا لأحد من جميع البرية، ولا يؤخر منهما مقدما، ولا يقدم منهما مؤخرا، ولا ينقصهما ولا واحدا منهما شيئا من أعمالهما التي ولاهما عبد الله جعفر الإمام المتوكل على الله أمير المؤمنين وكل واحد منهما، من الصلاة والمعاون والقضاء

(9/177)


والمظالم والخراج والضياع والغنيمة والصدقات وغير ذلك من حقوق أعمالهما، وما في عمل كل واحد منهما، من البريد والطرر وخزن بيوت الأموال والمعاون ودور الضرب وجميع الأعمال التي جعلها أمير المؤمنين، ويجعلها إلى كل واحد منهما، ولا ينقل عن واحد منهما أحدا من ناحيته من القواد والجند والشاكرية والموالي والغلمان وغيرهم، ولا يعترض عليه في شيء من ضياعه وإقطاعاته وسائر أمواله وذخائره وجميع ما في يده، وما حواه وملكت يده من تالد وطارف، وقديم ومستأنف، وجميع ما يستفيده ويستفاد له بنقص، ولا يحرم ولا يجنف، ولا يعرض لأحد من عماله وكتابه وقضاته وخدمه ووكلائه وأصحابه، وجميع أسبابه بمناظرة ولا محاسبة، ولا غير ذلك من الوجوه والأسباب كلها، ولا يفسخ فيما وكده أمير المؤمنين لهما في هذا العقد والعهد، بما يزيل ذلك عن جهته، أو يؤخره عن وقته، أو يكون ناقضا لشيء منه.
وجعل عبد الله جعفر المتوكل على الله أمير المؤمنين على أبي عبد الله المعتز بالله ابن أمير المؤمنين إن أفضت إليه الخلافة بعد محمد المنتصر بالله ابن أمير المؤمنين لإبراهيم المؤيد بالله ابن أمير المؤمنين مثل الشرائط التي اشترطها على محمد المنتصر بالله ابن أمير المؤمنين بجميع ما سمى فيه ووصف في هذا الكتاب، وعلى ما بين وفسر، مع الوفاء من أبي عبد الله المعتز بالله ابن أمير المؤمنين، بما جعله أمير المؤمنين لإبراهيم المؤيد بالله ابن أمير المؤمنين من الخلافة وتسليم ذلك راضيا به ممضيا له، مقدما ما فيه حق الله عليه وما أمره به أمير المؤمنين، غير ناكث ولا ناكب بذلك، ولا مبدل، فإن الله تعالى جده وعز ذكره يتوعد من خالف أمره، وعند عن سبيله في محكم كتابه: «فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
» على أن لأبي عبد الله المعتز بالله ابن أمير المؤمنين ولإبراهيم المؤيد بالله ابن أمير المؤمنين على محمد المنتصر بالله ابن امير المؤمنين، الامان، وهما مقيمان بحضرته أو أحدهما، أو كانا غائبين عنه، أو مجتمعين كانا أو متفرقين ويستمر أبو عبد الله

(9/178)


المعتز بالله ابن أمير المؤمنين في ولايته بخراسان وأعمالها المتصلة بها والمضمومة إليها، ويستمر إبراهيم المؤيد بالله ابن أمير المؤمنين في ولايته بالشام وأجنادها، فعلى محمد المنتصر بالله ابن أمير المؤمنين، أن يمضي أبا عبد الله المعتز بالله ابن أمير المؤمنين إلى خراسان وأعمالها المتصلة بها والمضمومة إليها، وأن يسلم له ولايتها وأعمالها كلها وأجنادها والكور الداخلة فيما ولي جعفر الإمام المتوكل على الله أمير المؤمنين أبا عبد الله المعتز بالله ابن أمير المؤمنين، فلا يعوقه عنها، ولا يحبسه قبله ولا في شيء من البلدان دون خراسان والكور والأعمال المضمومة إليها، وإن يعجل إشخاصه إليها واليا عليها وعلى جميع أعمالها، مفردا بها مفوضا إليه أعمالها كلها، لينزل حيث أحب من كور عمله، ولا ينقله عنها، وأن يشخص معه جميع من ضم إليه أمير المؤمنين، ويضم من مواليه وقواده وشاكريته وأصحابه وكتابه وعماله وخدمه ومن اتبعه من صنوف الناس بأهاليهم وأولادهم وعيالهم وأموالهم، ولا يحبس عنه أحدا، ولا يشرك في شيء من أعماله أحدا، ولا يوجه عليه أمينا ولا كاتبا ولا بريدا، ولا يضرب على يده في قليل ولا كثير.
وأن يطلق محمد المنتصر بالله لإبراهيم المؤيد بالله ابن أمير المؤمنين الخروج إلى الشام وأجنادها فيمن ضم أمير المؤمنين ويضمه إليه من مواليه وقواده وخدمه وجنوده وشاكريته وصحابته وعماله وخدامه ومن اتبعه من صنوف الناس باهاليها وأولادهم وأموالهم، ولا يحبس عنهم أحدا، ويسلم اليه ولايتها وأعمالها وجنودها كلها، لا يعوقه عنها، ولا يحبسه قبله ولا في شيء من البلدان دونها، وأن يعجل إشخاصه إلى الشام وأجنادها واليا عليها، ولا ينقله عنها، وأن عليه له فيمن ضم إليه من القواد والموالي والغلمان والجنود والشاكرية وأصناف الناس وفي جميع الأسباب والوجوه مثل الذي اشترط على محمد المنتصر بالله ابن أمير المؤمنين لأبي عبد الله المعتز بالله ابن أمير المؤمنين في خراسان وأعمالها على ما رسم من ذلك، وبين ولخص، وشرح في هذا الكتاب.
ولإبراهيم المؤيد بالله ابن أمير المؤمنين على أبي عبد الله المعتز بالله ابن

(9/179)


أمير المؤمنين- إذا أفضت الخلافة إليه، وإبراهيم المؤيد بالله مقيم بالشام- أن يقره بها أو كان بحضرته، أو كان غائبا عنه، أن يمضيه إلى عمله من الشام، ويسلم إليه أجنادها وولايتها وأعمالها كلها، ولا يعوقه عنها، ولا يحبسه قبله ولا في شيء من البلدان دونها، وأن يعجل إشخاصه إليها واليا عليها وعلى جميع أعمالها، على مثل الشرط الذي أخذ لأبي عبد الله المعتز بالله ابن أمير المؤمنين على محمد المنتصر بالله ابن أمير المؤمنين في خراسان وأعمالها، على ما رسم ووصف وشرط في هذا الكتاب، لم يجعل أمير المؤمنين لواحد ممن وقعت عليه وله هذه الشروط، من محمد المنتصر بالله، وأبي عبد الله المعتز بالله، وإبراهيم المؤيد بالله، بني أمير المؤمنين، أن يزيل شيئا مما اشترطنا في هذا الكتاب، ووكدنا، وعليهم جميعا الوفاء به، لا يقبل الله منهم إلا ذلك، ولا التمسك إلا بعهد الله فيه، وكان عهد الله مسؤلا.
أشهد الله رب العالمين جعفر الإمام المتوكل على الله أمير المؤمنين ومن حضره من المسلمين بجميع ما في هذا الكتاب على إمضائه إياه، على محمد المنتصر بالله، وأبي عبد الله المعتز بالله، وإبراهيم المؤيد بالله، بني أمير المؤمنين بجميع ما سمى ووصف فيه، وكفى بالله شهيدا ومعينا لمن أطاعه راجيا، ووفى بعهده خائفا وحسيبا، ومعاقبا من خالفه معاندا، أو صدف عن أمره مجاهدا.
وقد كتب هذا الكتاب أربع نسخ، وقعت شهادة الشهود بحضرة أمير المؤمنين في كل نسخة منها، في خزانة أمير المؤمنين نسخة، وعند محمد المنتصر ابن أمير المؤمنين نسخة، وعند أبي عبد الله المعتز بالله ابن أمير المؤمنين نسخة، ونسخة عند إبراهيم المؤيد بالله ابن أمير المؤمنين.
وقد ولى جعفر الإمام المتوكل على الله أبا عبد الله المعتز بالله ابن أمير المؤمنين أعمال فارس وأرمينية وأذربيجان إلى ما يلي أعمال خراسان وكورها والأعمال المتصلة بها والمضمومة إليها، على أن يجعل له على محمد المنتصر بالله ابن أمير المؤمنين في ذلك الذي جعل له في الحياطة في نفسه والوثاق في أعماله، والمضمومين إليه، وسائر من يستعين به من الناس جميعا في خراسان والكور المضمومة إليها والمتصلة بها على ما سمى ووصف في هذا الكتاب

(9/180)


وقال إبراهيم بن العباس بن محمد بن صول يمدح بني المتوكل الثلاثة:
المنتصر، والمعتز، والمؤيد:
أضحت عرى الإسلام وهي منوطة ... بالنصر والإعزاز والتأييد
بخليفة من هاشم وثلاثة ... كنفوا الخلافة من ولاة عهود
قمر توالت حوله أقماره ... يكنفن مطلع سعده بسعود
كنفتهم الآباء واكتنفت بهم ... فسعوا بأكرم أنفس وجدود
وله في المعتز بالله:
أشرق المشرق بالمعتز بالله ولاحا ... إنما المعتز طيب بث في الناس ففاحا
وله أيضا فيها:
الله أظهر دينه وأعزه بمحمد ... والله أكرم بالخلافة جعفر بن محمد
والله أيد عهده بمحمد ومحمد ... ومؤيد لمؤيدين إلى النبي محمد
وفيها كانت وفاة إسحاق بن إبراهيم صاحب الجسر في يوم الثلاثاء لست بقين من ذي الحجة وقيل كانت وفاته لسبع بقين منه، وصير ابنه مكانه، وكسي خمس خلع، وقلد سيفا، وبعث المتوكل حين انتهى إليه خبر مرضه بابنه المعتز لعيادته مع بغا الشرابي وجماعة من القواد والجند وذكر أن ماء دجلة تغير في هذه السنة إلى الصفرة ثلاثة أيام، ففزع

(9/181)


الناس لذلك، ثم صار في لون ماء المدود وذلك في ذي الحجة.
وفيها أتي المتوكل بيحيى بن عمر بن حسين بن زيد بن علي بن ابى طالب ع من بعض النواحي، وكان- فيما ذكر- قد جمع قوما، فضربه عمر بن فرج ثمان عشرة مقرعة، وحبس ببغداد في المطبق.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن داود.

(9/182)


ثم دخلت

سنة ست وثلاثين ومائتين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)

خبر مقتل محمد بن ابراهيم بن مصعب
فمن ذلك ما كان من مقتل محمد بن إبراهيم بن مصعب بن زريق، أخي إسحاق بن إبراهيم بفارس.
ذكر الخبر عن مقتله وكيف قتل:
حدثني غير واحد، عن محمد بن إسحاق بن إبراهيم، أن أباه إسحاق بلغه عنه أنه أكول لا يملأ جوفه شيء، وأنه أمر باتخاذ الطعام والإكثار منه، ثم أرسل إليه فدعاه، ثم أمره أن يأكل، وقال له: إني أحب أن أرى أكلك، فأكل وأكثر حتى عجب إسحاق منه، ثم قدم إليه بعد ما ظن أنه شبع وامتلأ من الطعام حمل مشوي، فأكل منه حتى لم يبق منه إلا عظامه، فلما فرغ من أكله، قال: يا بني، مال أبيك لا يقوم بطعام بطنك، فالحق أمير المؤمنين، فإن ماله أحمل لك من مالي فوجهه الى الباب والزمه الخدمه، فكان في خدمة السلطان حياة أبيه، وخليفة أبيه ببابه، حتى مات أبوه إسحاق، فعقد له المعتز على فارس، وعقد له المنتصر على اليمامة والبحرين وطريق مكة، في المحرم من هذه السنة، وضم إليه المتوكل أعمال أبيه كلها، وزاده المنتصر ولاية مصر، وذلك أنه كان- فيما ذكر- حمل إلى المتوكل وأولياء عهده مما كان في خزائن أبيه من الجواهر والأشياء النفيسة ما حظي به عندهم، فرفعوه ورفعوا مرتبته.
فلما بلغ محمد بن إبراهيم ما فعل بابن أخيه محمد بن إسحاق تنكر للسلطان، وبلغ المتوكل عنه أمور أنكرها، فأخبرني بعضهم أن تنكر محمد بن إبراهيم إنما كان لابن أخيه محمد بن إسحاق، واعتلاله عليه بحمل خراج فارس

(9/183)


إليه وأن محمدا شكا إلى المتوكل ما كان من تنكر عمه محمد بن إبراهيم في ذلك، فبسط يده عليه، وأطلق له العمل فيه بما أحب، فولى محمد بن إسحاق الحسين بن إسماعيل بن إبراهيم بن مصعب فارس، وعزل عمه، وتقدم محمد إلى الحسين بن إسماعيل في قتل عمه محمد بن إبراهيم، فذكر أنه لما صار إلى فارس أهدى إليه في يوم النيروز هدايا، فكان فيما اهدى اليه حلواء، فأكل محمد بن إبراهيم منها، ثم دخل الحسين بن إسماعيل عليه، فأمر بإدخاله إلى موضع آخر واعاده الحلواء عليه، فأكل أيضا منها، فعطش فاستسقى، فمنع الماء، ورام الخروج من الموضع الذي أدخل إليه، فإذا هو محبوس لا سبيل له إلى الخروج، فعاش يومين وليلتين، ومات فحمل ماله وعياله إلى سامرا على مائة جمل ولما ورد نعي محمد بن إبراهيم على المتوكل امر بالكتاب فيه إلى طاهر بن عبد الله بن طاهر بالتعزية فكتب:
أما بعد، فإن أمير المؤمنين يوجب لك مع كل فائدة ونعمة تهنئتك بمواهب الله وتعزيتك عن ملمات أقداره، وقد قضى الله في محمد بن إبراهيم مولى أمير المؤمنين ما هو قضاؤه في عباده، حتى يكون الفناء لهم والبقاء له.
وأمير المؤمنين يعزيك عن محمد بما أوجب الله لمن عمل بما أمره به في مصائبه، من جزيل ثوابه وأجره، فليكن الله وما قربك منه أولى بك في أحوالك كلها، فإن مع شكر الله مزيده، ومع التسليم لأمر الله رضاه، وبالله توفيق أمير المؤمنين.
والسلام
. ذكر خبر وفاه الحسن بن سهل
وفي هذه السنة توفي الحسن بن سهل في قول بعضهم في أول ذي الحجة منها، وقال قائل هذه المقالة: مات محمد بن إسحاق بن إبراهيم في هذا الشهر لأربع بقين منه وذكر عن القاسم بن احمد الكوفى، انه قال: كنت في خدمة الفتح بن خاقان في سنة خمس وثلاثين ومائتين، وكان الفتح يتولى للمتوكل أعمالا، منها أخبار الخاصة والعامة بسامرا والهاروني وما يليها، فورد

(9/184)


كتاب إبراهيم بن عطاء المتولي الأخبار بسامرا يذكر وفاة الحسن بن سهل، وأنه شرب شربة دواء في صبيحة يوم الخميس لخمس ليال بقين من ذي القعدة من سنة خمس وثلاثين ومائتين أفرطت عليه، وأنه توفي في هذا اليوم وقت الظهر، وأن المتوكل أمر بتجهيز جهازه من خزائنه فلما وضع على سريره تعلق به جماعة من التجار من غرماء الحسن بن سهل، ومنعوه من دفنه، فتوسط أمرهم يحيى بن خاقان وإبراهيم بن عتاب ورجل يعرف ببرغوث، فقطعوا أمرهم، ودفن فلما كان من الغد ورد كتاب صاحب البريد بمدينة السلام بوفاة محمد بن إسحاق بن إبراهيم بعد الظهر يوم الخميس لخمس خلون من ذي الحجة، فجزع عليه المتوكل جزعا، وقال: تبارك الله وتعالى! كيف توافت منية الحسن ومحمد بن إسحاق في وقت واحد!

ذكر خبر هدم قبر الحسين بن على
وفيها أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن علي وهدم ما حوله من المنازل والدور، وأن يحرث ويبذر ويسقى موضع قبره، وأن يمنع الناس من إتيانه، فذكر أن عامل صاحب الشرطة نادى في الناحية: من وجدناه عند قبره بعد ثلاثة بعثنا به إلى المطبق، فهرب الناس، وامتنعوا من المصير إليه، وحرث ذلك الموضع، وزرع ما حواليه.
وفيها استكتب المتوكل عبيد الله بن يحيى بن خاقان، وصرف محمد بن الفضل الجرجرائي وفيها حج محمد المنتصر، وحجت معه جدته شجاع أم المتوكل، فشيعها المتوكل إلى النجف.
وفيها هلك أبو سعيد محمد بن يوسف المروزي الكبح فجاءه، ذكر أن فارس بن بغا الشرابي وهو خليفة أبيه، عقد لأبي سعيد هذا، وهو مولى طيئ على أذربيجان وأرمينية، فعسكر بالكرخ، كرخ فيروز، فلما كان لسبع بقين من شوال وهو بالكرخ مات فجاءة، لبس أحد خفيه ومد الآخر ليلبسه

(9/185)


فسقط ميتا، فولى المتوكل ابنه يوسف ما كان أبوه وليه من الحرب، وولاه بعد ذلك خراج الناحية وضياعها، فشخص إلى الناحية فضبطها، ووجه عماله في كل ناحية.
وحج بالناس في هذه السنة المنتصر محمد بن جعفر المتوكل.

(9/186)


ثم دخلت

سنة سبع وثلاثين ومائتين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)

ذكر وثوب اهل أرمينية بعاملهم يوسف بن محمد
فمن ذلك ما كان من وثوب أهل أرمينية بيوسف بن محمد فيها.
ذكر الخبر عن سبب وثوبهم به:
قد ذكرنا فيما مضى قبل سبب استعمال المتوكل يوسف بن محمد هذا اياه على أرمينية، فأما سبب وثوب أهل أرمينية به، فإنه كان- فيما ذكر- أنه لما صار إلى عمله من أرمينية خرج رجل من البطارقة يقال له بقراط بن أشوط، وكان يقال له بطريق البطارقة، يطلب الإمارة، فأخذه يوسف بن محمد، وقيده وبعث به إلى باب الخليفة، فأسلم بقراط وابنه، فذكر أن يوسف لما حمل بقراط بن أشوط اجتمع عليه ابن أخي بقراط بن أشوط وجماعة من بطارقة أرمينية، وكان الثلج قد وقع في المدينة التي فيها يوسف، وهي- فيما قيل- طرون، فلما سكن الثلج أناخوا عليها من كل ناحية، وحاصروا يوسف ومن معه في المدينة، فخرج يوسف إلى باب المدينة، فقاتلهم فقتلوه وكل من قاتل معه، فأما من لم يقاتل معه، فإنهم قالوا له: ضع ثيابك، وانج عريانا، فطرح قوم منهم كثير ثيابهم، ونجوا عراة حفاة، فمات أكثرهم من البرد، وسقطت أصابع قوم منهم ونجوا، وكانت البطارقة لما حمل يوسف بقراط بن أشوط تحالفوا على قتله، ونذروا دمه، ووافقهم على ذلك موسى بن زرارة، وهو على ابنة بقراط، فنهى سوادة بن عبد الحميد الحجافي يوسف بن أبي سعيد عن المقام بموضعه، وأعلمه بما أتاه من أخبار البطارقة، فأبى أن يفعل، فوافاه القوم في شهر رمضان، فأحدقوا بسور المدينة والثلج ما بين عشرين ذراعا إلى أقل حول المدينة إلى خلاط إلى دبيل، والدنيا كلها ثلج

(9/187)


وكان يوسف قبل ذلك قد فرق أصحابه في رساتيق عمله، فتوجه إلى كل ناحية منها قوم من أصحابه، فوجه إلى كل طائفة منهم من البطارقة، وممن معهم جماعة، فقتلوهم في يوم واحد، وكانوا قد حاصروه في المدينة أياما، فخرج إليهم فقاتل حتى قتل، فوجه المتوكل بغا الشرابي إلى أرمينية طالبا بدم يوسف، فشخص إليها من ناحية الجزيرة، فبدأ بأرزن بموسى بن زرارة، وهو ابو الحر وله إخوة: إسماعيل وسليمان وأحمد وعيسى ومحمد وهارون، فحمل بغا موسى بن زرارة إلى باب الخليفة، ثم سار فأناخ بجبل الخويثية، وهم جمة أهل أرمينية، وقتلة يوسف بن محمد، فحاربهم فظفر بهم، فقتل زهاء ثلاثين ألفا، وسبى منهم خلقا كثيرا، فباعهم بأرمينية، ثم سار إلى بلاد الباق فأسر أشوط بن حمزة أبا العباس وهو صاحب الباق- والباق من كور البسفرجان وبني النشوى، ثم سار إلى مدينة دبيل من أرمينية، فأقام بها شهرا، ثم سار إلى تفليس.
وفي هذه السنة ولي عبد الله بن إسحاق بن إبراهيم بغداد ومعاون السواد.
وفيها قدم محمد بن عبد الله بن طاهر من خراسان، لثمان بقين من شهر ربيع الآخر، فولي الشرطة والجزية وأعمال السواد وخلافة أمير المؤمنين بمدينة السلام، ثم صار إلى بغداد.
وفيها عزل المتوكل محمد بن أحمد بن ابى دواد عن المظالم، وولاها محمد ابن يعقوب المعروف بأبي الربيع.
وفيها رضي عن ابن أكثم، وكان ببغداد فأشخص إلى سامرا، فولي القضاء على القضاة، ثم ولي أيضا المظالم، وكان عزل المتوكل محمد بن أحمد ابن ابى دواد عن مظالم سامرا لعشر بقين من صفر من هذه السنه.

(9/188)


ذكر غضب المتوكل على ابن ابى دواد
وفيها غضب المتوكل على ابن ابى دواد، وامر بالتوكيل على ضياع احمد ابن ابى دواد لخمس بقين من صفر، وحبس يوم السبت لثلاث خلون من شهر ربيع الأول ابنه أبو الوليد محمد بن أحمد بن أبي دواد في ديوان الخراج، وحبس إخوته عند عبيد الله بن السري خليفة صاحب الشرطة فلما كان يوم الاثنين حمل أبو الوليد مائة ألف دينار وعشرين ألف دينار وجواهر بقيمة عشرين ألف دينار، ثم صولح بعد ذلك على ستة عشر ألف ألف درهم، وأشهد عليهم جميعا ببيع كل ضيعة لهم، وكان احمد بن ابى دواد قد فلج، فلما كان يوم الأربعاء لسبع خلون من شعبان، أمر المتوكل بولد أحمد بن ابى دواد، فحدروا إلى بغداد، فقال أبو العتاهية:
لو كنت في الرأي منسوبا إلى رشد ... وكان عزمك عزما فيه توفيق
لكان في الفقه شغل لو قنعت به ... عن أن تقول: كلام الله مخلوق
ماذا عليك وأصل الدين يجمعهم ... ما كان في الفرع لولا الجهل والموق
وأقيم فيها الخلنجي للناس في جمادى الآخرة.
وفيها ولى ابن أكثم قضاء الشرقية حيان بن بشر، وولى سوار بن عبد الله العنبري قضاء الجانب الغربي، وكلاهما أعور، فقال الجماز:
رأيت من الكبائر قاضيين ... هما أحدوثة في الخافقين
هما اقتسما العمى نصفين قدا ... كما اقتسما قضاء الجانبين
وتحسب منهما من هز رأسا ... لينظر في مواريث ودين
كأنك قد وضعت عليه دنا ... فتحت بزاله من فرد عين
هما فأل الزمان بهلك يحيى ... إذ افتتح القضاء باعورين

(9/189)


خبر انزال جثه ابن نصر ودفعه الى اوليائه
وفيها أمر المتوكل في يوم الفطر منها بإنزال جثة أحمد بن نصر بن مالك الخزاعي، ودفعه إلى أوليائه ذكر الخبر عما فعل به وما كان من الأمر بسبب ذلك:
ذكر أن المتوكل لما أمر بدفع جثته إلى أوليائه لدفنه، فعل ذلك، فدفع إليهم، وقد كان المتوكل لما أفضت إليه الخلافة، نهى عن الجدال في القرآن وغيره، ونفذت كتبه بذلك إلى الآفاق، وهم بإنزال أحمد بن نصر عن خشبته، فاجتمع الغوغاء والرعاع إلى موضع تلك الخشبة، وكثروا وتكلموا، فبلغ ذلك المتوكل، فوجه إليهم نصر بن الليث، فأخذ منهم نحوا من عشرين رجلا، فضربهم وحبسهم، وترك إنزال أحمد بن نصر من خشبته لما بلغه من تكثير العامة في أمره، وبقي الذين أخذوا بسببه في الحبس حينا، ثم أطلقوا، فلما دفع بدنه إلى أوليائه في الوقت الذي ذكرت، حمله ابن أخيه موسى إلى بغداد، وغسل ودفن، وضم رأسه إلى بدنه، وأخذ عبد الرحمن بن حمزة جسده في منديل مصري، فمضى به إلى منزله، فكفنه وصلى عليه، وتولى إدخاله القبر مع بعض أهله رجل من التجار، ويقال له الأبزاري فكتب صاحب البريد ببغداد- وكان يعرف بابن الكلبي، من موضع بناحية واسط، يقال له الكلبانيه- إلى المتوكل بخبر العامة، وما كان من اجتماعها وتمسحها بالجنازة، جنازة أحمد بن نصر وبخشبه رأسه، فقال المتوكل ليحيى بن أكثم: كيف دخل ابن الأبزاري القبر على كبرة خزاعة! فقال:
يا أمير المؤمنين، كان صديقا له فأمر المتوكل بالكتاب إلى محمد بن عبد الله ابن طاهر بمنع العامة من الاجتماع والحركة في مثل هذا وشبهه، وكان

(9/190)


بعضهم أوصى ابنه عند موته أن يرهب العامة، فكتب المتوكل ينهى عن الاجتماع.
وغزا الصائفة في هذه السنة علي بن يحيى الأرمني وحج بالناس فيها علي بن عيسى بن جعفر بن أبي جعفر المنصور، وكان والى مكة.

(9/191)


ثم دخلت

سنة ثمان وثلاثين ومائتين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)

ذكر ظفر بغا بإسحاق بن اسماعيل وإحراقه مدينه تفليس
فمن ذلك ما كان من ظفر بغا بإسحاق بن إسماعيل مولى بني أمية بتفليس وإحراقه مدينة تفليس.
ذكر الخبر عما كان من بغا في ذلك:
ذكر أن بغا لما صار إلى دبيل بسبب قتل القاتلين من اهل أرمينية يوسف ابن محمد، أقام بها شهرا، فلما كان يوم السبت لعشر خلون من شهر ربيع الأول من سنة ثمان وثلاثين ومائتين، وجه بغا زيرك التركي، فجاوز الكر- وهو نهر عظيم مثل الصراة ببغداد وأكبر، وهو ما بين المدينة وتفليس في الجانب الغربي وصغدبيل في الجانب الشرقي- وكان معسكر بغا في الشرقي، فجاوز زيرك الكر إلى ميدان تفليس، ولتفليس خمسة أبواب: باب الميدان، وباب قريس، وباب الصغير، وباب الربض، وباب صغدبيل- والكر نهر ينحدر مع المدينة- ووجه بغا أيضا أبا العباس الواثي النصراني إلى أهل أرمينية عربها وعجمها، فأتاهم زيرك مما يلي الميدان وأبو العباس مما يلي باب الربض، فخرج إسحاق بن إسماعيل إلى زيرك، فناوشه القتال، ووقف بغا على تل مطل على المدينة مما يلي صغدبيل، لينظر ما يصنع زيرك وأبو العباس، فبعث بغا النفاطين فضربوا المدينة بالنار، وهي من خشب الصنوبر، فهاجت الريح في الصنوبر، فأقبل إسحاق بن إسماعيل إلى المدينة لينظر، فإذا النار قد أخذت في قصره وجواريه، وأحاطت به النار، ثم أتاه الأتراك والمغاربة فأخذوه أسيرا، وأخذوا ابنه عمرا، فأتوا بهما بغا، فأمر بغا به، فرد إلى باب

(9/192)


الحسك، فضربت عنقه هناك صبرا، وحمل رأسه إلى بغا، وصلبت جيفته على الكر، وكان شيخا محدودا ضخم الرأس، يخضب بالوسمة، آدم أصلع أحول، فنصب رأسه على باب الحسك.
وكان الذي تولى قتله غامش خليفة بغا، واحترق في المدينة نحو من خمسين الف انسان، واطفئت النار في يوم وليلة، لأنها نار الصنوبر، لا بقاء لها، وصبحهم المغاربة، فأسروا من كان حيا، وسلبوا الموتى.
وكانت امرأة إسحاق نازلة بصغدبيل، وهي حذاء تفليس في الجانب الشرقي، وهي مدينة بناها كسرى أنوشروان، وكان إسحاق قد حصنها وحفر خندقها، وجعل فيها مقاتلة من الخويثية وغيرهم وأعطاهم بغا الأمان على ان يضعوا أسلحتهم، ويذهبوا حيث شاء وكانت امرأة إسحاق ابنة صاحب السرير.
ثم وجه بغا- فيما ذكر- زيرك إلى قلعة الجردمان- وهي بين برذعة وتفليس- في جماعة من جنده، ففتح زيرك الجردمان، وأخذ بطريقها القطريج أسيرا، فحمله إلى العسكر ثم نهض بغا إلى عيسى بن يوسف ابن أخت اصطفانوس، وهو في قلعة كثيش من كورة البيلقان، وبينها وبين البيلقان عشرة فراسخ، وبينها وبين برذعة خمسة عشر فرسخا، فحاربه، ففتحها، وأخذه وحمله وحمل ابنه معه وأباه، وحمل أبا العباس الواثي- واسمه سنباط بن أشوط- وحمل معه معاوية بن سهل بن سنباط بطريق اران، وحمل آذر نرسى بن إسحاق الخاشنى
. ذكر مقدم الروم بمراكبهم الى دمياط
وفي هذه السنه جاءت للروم ثلاثمائة مركب مع عرفا وابن قطونا وامردناقه- وهم كانوا الرؤساء في البحر- مع كل واحد منهم مائة مركب، فأناخ ابن قطونا

(9/193)


بدمياط، وبينها وبين الشط شبيه بالبحيرة يكون فيها الماء إلى صدر الرجل، فمن جازها إلى الأرض أمن من مراكب البحر، فجازها قوم فسلموا، وغرق قوم كثير من نساء وصبيان، واحتمل من كانت له قوة في السفن، فنجوا إلى ناحية الفسطاط، وبينها وبين الفسطاط مسيرة أربعة أيام وكان والي معونة مصر عنبسة بن إسحاق الضبي، فلما قرب العيد، أمر الجند الذين بدمياط أن يحضروا الفسطاط لتحمل لهم في العيد، وأخلى دمياط من الجند، فانتهى مراكب الروم من ناحية شطا التي يعمل فيها الشطوي، فأناخ بها مائة مركب من الشلنديه، تحمل كل مركب ما بين الخمسين رجلا إلى المائه، فخرجوا اليه وأحرقوا ما وصلوا إليه من دورها وأخصاصها، واحتملوا سلاحا كان فيها أرادوا حمله إلى أبي حفص صاحب إقريطش نحوا من ألف قناة وآلتها، وقتلوا من أمكنهم قتله من الرجال، وأخذوا من الأمتعة والقند والكتان ما كان عبئ ليحمل إلى العراق، وسبوا من المسلمات والقبطيات نحوا من ستمائه امرأة، ويقال إن المسلمات منهن مائة وخمس وعشرون امرأة والباقي من نساء القبط.
ويقال إن الروم الذين كانوا في الشلنديات التي أناخت بدمياط كانوا نحوا من خمسة آلاف رجل، فأوقروا سفنهم من المتاع والأموال والنساء، وأحرقوا خزانة القلوع وهي شرع السفن، وأحرقوا مسجد الجامع بدمياط، وأحرقوا كنائس، وكان من حزر منهم ممن غرق في بحيرة دمياط من النساء والصبيان أكثر ممن سباه الروم ثم رحل الروم عنها.
وذكر أن ابن الأكشف كان محبوسا في سجن دمياط، حبسه عنبسة، فكسر قيده وخرج، فقاتلهم، وأعانه قوم، فقتل من الروم جماعة، ثم صاروا إلى أشتوم تنيس، فلم يحمل الماء سفنهم إليها، فخشوا أن توحل، فلما لم يحملهم الماء صاروا إلى أشتومها- وهي مرسى بينه وبين تنيس أربعة فراسخ وأقل، وله سور وباب حديد كان المعتصم أمر بعمله- فخربوا عامته، وأحرقوا ما فيه من

(9/194)


المجانيق والعرادات، وأخذوا بابيه الحديد، فحملوها، ثم توجهوا إلى بلادهم، لم يعرض لهم أحد.
وخرج المتوكل في هذه السنة يوم الاثنين لخمس خلون من جمادى الآخرة من سامرا يريد المدائن، فصار إلى الشماسية يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة، فأقام هنالك إلى يوم السبت، وعبر بالعشي إلى قطربل، ثم رجع ودخل بغداد يوم الاثنين لإحدى عشرة ليلة بقيت منه فمضى في سوقها وشارعها حتى نزل الزعفرانية، ثم صار إلى المدائن.
وغزا الصائفة فيها علي بن يحيى الأرمني وحج بالناس فيها علي بن عيسى بن جعفر بن أبي جعفر.

(9/195)


ثم دخلت

سنة تسع وثلاثين ومائتين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمما كان فيها من ذلك أمر المتوكل بأخذ أهل الذمة بلبس دراعتين عسليتين على الأقبية والدراريع في المحرم منها، ثم أمره في صفر بالاقتصار في مراكبهم على ركوب البغال والحمر دون الخيل والبراذين.
وفيها نفى المتوكل على بن الجهم بن بدر إلى خراسان.
وفيها قتل صاحب الصنارية بباب العامة في جمادى الآخرة منها.
وفيها أمر المتوكل بهدم البيع المحدثة في الإسلام.
وفيها مات أبو الوليد محمد بن أحمد بن ابى دواد ببغداد في ذي الحجة.
وفيها غزا الصائفة علي بن يحيى الأرمني وحج بالناس فيها عبد الله بن محمد بن داود بن عيسى بن موسى بن محمد ابن علي، وكان والي مكة.
وفيها حج جعفر بن دينار، وكان والي طريق مكة مما يلي الكوفة فولي أحداث الموسم.
وفيها اتفق شعانين النصارى ويوم النيروز، وذلك يوم الأحد لعشرين ليلة خلت من ذي القعدة، فذكر أن النصارى زعمت أنهما لم يجتمعا في الاسلام قط.

(9/196)


ثم دخلت

سنة أربعين ومائتين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)

ذكر الخبر عن وثوب اهل حمص بعاملهم
4 فمما كان فيها من ذلك وثوب أهل حمص بعاملهم على المعونة.
ذكر الخبر عن سبب ذلك وما آل إليه أمرهم ووثوبهم:
ذكر أن عاملهم على المعونة قتل رجلا كان من رؤسائهم، وكان العامل يومئذ أبو المغيث الرافعي موسى بن إبراهيم، فوثب أهل حمص في جمادى الآخرة من هذه السنة، فقتلوا جماعة من أصحابه، ثم أخرجوه وأخرجوا صاحب الخراج من مدينتهم، فبلغ ذلك المتوكل، فوجه إليهم عتاب بن عتاب، ووجه معه محمد بن عبدويه كرداس الأنباري، وأمره أن يقول لهم: إن أمير المؤمنين قد أبدلكم رجلا مكان رجل، فإن سمعوا وأطاعوا ورضوا، فول عليهم محمد بن عبدويه، وإن أبوا وثبتوا على الخلاف فأقم بمكانك، واكتب إلى أمير المؤمنين حتى يوجه إليك رجاء، أو محمد بن رجاء الحضاري أو غيره من الخيل لمحاربتهم، فخرج عتاب بن عتاب من سامرا يوم الاثنين لخمس بقين من شهر جمادى الآخرة، فرضوا بمحمد بن عبدويه، فولاه عليهم ففعل فيهم الأعاجيب.
[أخبار متفرقة]
وفيها مات احمد بن ابى دواد ببغداد في المحرم بعد ابنه أبي الوليد محمد، وكان ابنه محمد توفي قبله بعشرين يوما في ذي الحجة ببغداد.
وفيها عزل يحيى بن أكثم عن القضاء في صفر، وقبض منه ما كان له

(9/197)


ببغداد ومبلغه خمسة وسبعون ألف دينار، ومن أسطوانة في داره ألفا دينار وأربعة آلاف جريب بالبصرة.
وفيها ولي جعفر بن عبد الواحد بن جعفر بن سليمان بن علي القضاء على القضاة في صفر.
وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة عَبْد اللَّهِ بن محمد بن داود وحج جعفر بن دينار وهو والي الأحداث بالموسم

(9/198)


ثم دخلت

سنة إحدى وأربعين ومائتين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)

ذكر الخبر عن وثوب اهل حمص بعاملهم مره اخرى
فمن ذلك ما كان من وثوب أهل حمص بعاملهم على المعونة، وهو محمد ابن عبدويه.
ذكر الخبر عما كان من أمرهم فيها وما آل إليه الأمر بينهم.
ذكر أن أهل حمص وثبوا في جمادى الآخرة من هذه السنة بمحمد بن عبدويه عاملهم على المعونة، وأعانهم على ذلك قوم من نصارى حمص، فكتب بذلك إلى المتوكل، فكتب إليه يأمره بمناهضتهم، وأمده بجند من راتبة دمشق، مع صالح العباسي التركي، وهو عامل دمشق وجند من جند الرملة، فأمره أن يأخذ من رؤسائهم ثلاثة نفر فيضربهم بالسياط ضرب التلف، فإذا ماتوا صلبهم على أبوابهم، وأن يأخذ بعد ذلك من وجوههم عشرين إنسانا فيضربهم ثلاثمائة سوط، كل واحد منهم، ويحملهم في الحديد إلى باب أمير المؤمنين، وأن يخرب ما بها من الكنائس والبيع، وأن يدخل البيعة التي الى جانب مسجدها في المسجد، والا يترك في المدينة نصرانيا إلا أخرجه منها، وينادى فيهم قبل ذلك، فمن وجده فيها بعد ثلاثة أحسن أدبه وأمر لمحمد بن عبدويه بخمسين ألف درهم، وأمر لقواده ووجوه أصحابه بصلات، وأمر لخليفته علي بن الحسين بخمسة عشر ألف درهم، ولقواده بخمسة آلاف خمسه آلاف درهم، وأمر بخلع، فأخذ محمد بن عبدويه عشرة منهم، فكتب بأخذهم، وأنه قد حملهم إلى دار أمير المؤمنين ولم

(9/199)


يضربهم، فوجه المتوكل رجلا من أصحاب الفتح بن خاقان يقال له محمد بن رزق الله، ليرد من الذين وجه بهم ابن عبدويه محمد بن عبد الحميد الحميدى والقاسم بن موسى بن فوعوس إلى حمص، وأن يضربهما ضرب التلف، ويصلبهما على باب حمص، فردهما وضربهما بالسياط حتى ماتا، وصلبهما على باب حمص، وقدم بالآخرين سامرا وهم ثمانية، فلما صاروا بنصيبين مات واحد منهم، فأخذ المتوكل بهم رأسه، وقدم بسبعة منهم سامرا وبرأس الميت ثم كتب محمد بن عبدويه أنه أخذ عشرة نفر منهم بعد ذلك، وضرب منهم خمسة نفر بالسياط فماتوا، ثم ضرب خمسة فلم يموتوا ثم كتب محمد ابن عبدويه بعد ذلك أنه ظفر برجل منهم من المخالفين يقال له عبد الملك بن إسحاق ابن عمارة- وكان فيما ذكر- رأسا من رءوس الفتنة، فضربه بباب حمص بالسياط حتى مات، وصلبه على حصن يعرف بتل العباس.
قال ابو جعفر: وفي هذه السنة مطر الناس- فيما ذكر- بسامرا مطرا جودا في آب وفيها ولي القضاء بالشرقية في المحرم أبو حسان الزيادي
. ذكر الخبر عن ضرب عيسى بن جعفر وما آل اليه امره
وفيها ضرب عيسى بن جعفر بن محمد بن عاصم صاحب خان عاصم ببغداد- فيما قيل- ألف سوط.
ذكر الخبر عن سبب ضربه وما كان من أمره في ذلك: وكان السبب في ذلك أنه شهد عند أبي حسان الزيادي قاضي الشرقية عليه أنه شتم أبا بكر وعمر وعائشة وحفصة، سبعة عشر رجلا، شهاداتهم- فيما ذكر- مختلفة من هذا النحو، فكتب بذلك صاحب بريد بغداد الى عبيد الله ابن يحيى بن خاقان، فأنهى عبيد الله ذلك إلى المتوكل، فأمر المتوكل أن

(9/200)


يكتب إلى محمد بن عبد الله بن طاهر يأمره بضرب عيسى هذا بالسياط، فإذا مات رمى به في دجلة، ولم تدفع جيفته إلى أهله.
فكتب عبيد الله إلى الحسن بن عثمان جواب كتابه إليه في عيسى:
بسم الله الرحمن الرحيم، أبقاك الله وحفظك، وأتم نعمته عليك، وصل كتابك في الرجل المسمى عيسى بن جعفر بن محمد بن عاصم صاحب الخانات، وما شهد به الشهود عليه من شتم أصحاب رسول الله ص ولعنهم وإكفارهم، ورميهم بالكبائر، ونسبتهم إلى النفاق، وغير ذلك مما خرج به إلى المعاندة لله ولرسوله ص، وتثبتك في أمر أولئك الشهود وما شهدوا به، وما صح عندك من عدالة من عدل منهم، ووضح لك من الأمر فيما شهدوا به، وشرحك ذلك في رقعة درج كتابك، فعرضت على أمير المؤمنين أعزه الله ذلك، فأمر بالكتاب إلي أبي العباس محمد بن طاهر مولى أمير المؤمنين أبقاه الله بما قد نفذ إليه، مما يشبه ما عنده ابقاه الله، في نصرة دين الله، وإحياء سنته، والانتقام ممن ألحد فيه، وأن يضرب الرجل حدا في مجمع الناس حد الشتم، وخمسمائة سوط بعد الحد للأمور العظام التي اجترأ عليها، فان مات القى في الماء من غير صلاة ليكون ذلك ناهيا لكل ملحد في الدين، خارج من جماعة المسلمين، وأعلمتك ذلك لتعرفه إن شاء الله تعالى- والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
وذكر أن عيسى بن جعفر بن محمد بن عاصم هذا- وقد قال بعضهم:
إن اسمه أحمد بن محمد بن عاصم- لما ضرب ترك في الشمس حتى مات، ثم رمي به في دجلة.
وفي هذه السنة انقضت الكواكب ببغداد وتناثرت، وذلك ليلة الخميس لليلة خلت من جمادى الآخرة وفيها وقع بها الصدام فنفقت الدواب والبقر.
وفيها أغارت الروم على عين زربة، فأسرت من كان بها من الزط، مع نسائهم وذراريهم وجواميسهم وبقرهم

(9/201)


خبر الفداء بين المسلمين والروم في هذه السنه وفيها كان الفداء بين المسلمين والروم.
ذكر الخبر عن السبب الذي كان ذلك من أجله:
ذكر أن تذورة صاحبة الروم أم ميخائيل، وجهت رجلا يقال له جورجس بن قريافس يطلب الفداء لمن في أيدي الروم من المسلمين، وكان المسلمون قد قاربوا عشرين ألفا، فوجه المتوكل رجلا من الشيعة يقال له نصر بن الأزهر بن فرج، ليعرف صحة من في أيدي الروم من أسارى المسلمين، ليأمر بمفاداتهم، وذلك في شعبان من هذه السنة بعد أن أقام عندهم حينا فذكر أن تذورة امرت بعد خروج نصر بعرض من في اسارها من المسلمين على النصرانية، فمن تنصر منهم كان أسوة من تنصر قبل ذلك، ومن ابى قتلته، فذكر أنها قتلت من الأسرى اثني عشر ألفا، ويقال ان قنقله الخصي كان يقتلهم من غير أمرها ونفذ كتاب المتوكل إلى عمال الثغور الشامية والجزرية أن شنيفا الخادم قد جرى بينه وبين جورجس رسول عظيم الروم في أمر الفداء قول، وقد اتفق الأمر بينهما، وسأل جورجس هذا هدنة لخمس ليال تخلو من رجب سنة إحدى وأربعين ومائتين إلى سبع ليال بقين من شوال من هذه السنة، ليجمعوا الأسرى، ولتكون مدة لهم إلى إنصرافهم إلى مأمنهم فنفذ الكتاب بذلك يوم الأربعاء لخمس خلون من رجب، وكان الفداء يقع في يوم الفطر من هذه السنة وخرج جورجس رسول ملكة الروم إلى ناحية الثغور يوم السبت لثمان بقين من رجب على سبعين بغلا اكتريت له، وخرج معه أبو قحطبة المغربي الطرطوسي لينظروا وقت الفطر، وكان جورجس قدم معه جماعة من البطاركة وغلمانه بنحو من خمسين إنسانا، وخرج شنيف الخادم للفداء في النصف من شعبان، معه مائة فارس: ثلاثون من الأتراك، وثلاثون من المغاربة، وأربعون من فرسان الشاكرية، فسأل جعفر بن عبد الواحد- وهو قاضي القضاة- أن يؤذن

(9/202)


له في حضور الفداء، وأن يستخلف رجلا يقوم مقامه- فأذن له، وأمر له بمائة وخمسين ألفا معونة وأرزاق ستين ألفا، فاستخلف ابن أبي الشوارب- وهو يومئذ فتى حدث السن- وخرج فلحق شنيفا، وخرج أهل بغداد من أوساط الناس، فذكر أن الفداء وقع من بلاد الروم على نهر اللامس، يوم الأحد لاثنتي عشرة ليلة خلت من شوال سنة إحدى وأربعين ومائتين، فكان أسرى المسلمين سبعمائة وخمسه وثمانين إنسانا، ومن النساء مائه وخمسا وعشرين امرأة.
وفي هذه السنة جعل المتوكل كورة شمشاط عشرا، ونقلهم من الخراج إلى العشر، واخرج لهم بذلك كتابا.

ذكر غاره البجه على حرس من ارض مصر
وفي هذه السنة غارت البجة على حرس من أرض مصر، فوجه المتوكل لحربهم محمد بن عبد الله القمي ذكر الخبر عن أمرهم وما آلت إليه حالهم:
ذكر أن البجة كانت لا تغزو المسلمين ولا يغزوهم المسلمون لهدنة بينهم قديمة، قد ذكرناها فيما مضى قبل من كتابنا هذا، وهم جنس من أجناس الحبش بالمغرب، وبالمغرب من السودان- فيما ذكر- البجة وأهل غانة الغافر وبينور ورعوين والفرويه وبكسوم ومكاره اكرم والنوبه والحبش وفي بلاد البجة معادن ذهب، فهم يقاسمون من يعمل فيها، ويؤدون إلى عمال السلطان في مصر في كل سنة عن معادنهم أربعمائة مثقال تبر قبل أن يطبخ ويصفى فلما كان أيام المتوكل امتنعت البجة عن أداء ذلك الخراج سنين متوالية فذكر أن المتوكل ولى بريد مصر رجلا من خدمه يقال له يعقوب بن إبراهيم الباذغيسي مولى الهادي، وهو المعروف بقوصرة، وجعل إليه بريد مصر والإسكندرية وبرقة ونواحي المغرب، فكتب يعقوب إلى المتوكل أن البجة قد نقضت العهد

(9/203)


الذي كان بينها وبين المسلمين، وخرجت من بلادها إلى معادن الذهب والجوهر، وهي على التخوم فيما بين أرض مصر وبلاد البجة، فقتلوا عدة من المسلمين ممن كان يعمل في المعادن ويستخرج الذهب والجوهر، وسبوا عدة من ذراريهم ونسائهم، وذكروا أن المعادن لهم في بلادهم، وأنهم لا يأذنون للمسلمين في دخولها، وأن ذلك أوحش جميع من كان يعمل في المعادن من المسلمين، فانصرفوا عنها خوفا على أنفسهم وذراريهم فانقطع بذلك ما كان يؤخذ للسلطان بحق الخمس من الذهب والفضة والجوهر الذي يستخرج من المعادن، فاشتد إنكار المتوكل لذلك وأحفظه، وشاور في أمر البجة، فأنهي إليه أنهم قوم أهل بدو وأصحاب إبل وماشية، وأن الوصول إلى بلادهم صعب لا يمكن أن يسلك إليهم الجيوش، لأنها مفاوز وصحاري، وبين أرض الإسلام وبينها مسيره شهر، في ارض قفر وجبال وعر، لا ماء فيها ولا زرع ولا معقل، ولا حصن، وأن من يدخلها من أولياء السلطان يحتاج أن يتزود لجميع المدة التي يتوهم أن يقيمها في بلادهم إلى أن يخرج إلى أرض الإسلام، فإن امتد به المقام حتى يتجاوز تلك المدة هلك وجميع من معه، وأخذتهم البجة بالأيدي دون المحاربة، وأن أرضهم أرض لا ترد على السلطان شيئا من خراج ولا غيره.
فأمسك المتوكل عن التوجيه إليهم، وجعل أمرهم يتزيد، وجرأتهم على المسلمين تشتد حتى خاف أهل الصعيد من أرض مصر على أنفسهم وذراريهم منهم، فولى المتوكل محمد بن عبد الله المعروف بالقمي محاربتهم، وولاه معاون تلك الكور- وهي قفط والأقصر وإسنا وأرمنت وأسوان- وتقدم إليه في محاربة البجة، وأن يكاتب عنبسة بن إسحاق الصبى العامل على حرب مصر وكتب إلى عنبسة بإعطائه جميع ما يحتاج إليه من الجند والشاكرية المقيمين بمصر.
فأزاح عنبسة علته في ذلك، وخرج إلى أرض البجة، وانضم إليه

(9/204)


جميع من كان يعمل في المعادن وقوم كثير من المتطوعة، فكانت عدة من معه نحوا من عشرين ألف إنسان، بين فارس وراجل، ووجه إلى القلزم، فحمل في البحر سبعة مراكب موقرة بالدقيق والزيت والتمر والسويق والشعير، وأمر قوما من أصحابه أن يلججوا بها في البحر حتى يوافوه في ساحل البحر من أرض البجة، فلم يزل محمد بن عبد الله القمي يسير في أرض البجة حتى جاوز المعادن التي يعمل فيها الذهب، وصار إلى حصونهم وقلاعهم، وخرج إليه ملكهم- واسمه علي بابا واسم ابنه لعيس- في جيش كثير وعدد أضعاف من كان مع القمي من الناس، وكانت البجة على إبلهم ومعهم الحراب وإبلهم فرة تشبه بالمهاري في النجابة، فجعلوا يلتقون أياما متوالية، فيتناوشون ولا يصححون المحاربة، وجعل ملك البجة يتطارد للقمي لكي تطول الأيام طمعا في نفاد الزاد والعلوفة التي معهم، فلا يكون لهم قوة، ويموتون هزلا، فيأخذهم البجة بالأيدي.
فلما توهم عظيم البجة أن الأزواد قد نفدت، أقبلت السبع المراكب التي حملها القمي حتى خرجت إلى ساحل من سواحل البحر في موضع يعرف بصنجة، فوجه القمي إلى هنالك جماعة من أصحابه يحمون المراكب من البجة، وفرق ما كان فيها على اصحابه، فاتسعوا في الزاد والعلوفة، فلما رأى ذلك علي بابا رئيس البجة قصد لمحاربتهم، وجمع لهم، والتقوا فاقتتلوا قتالا شديدا، وكانت الإبل التي يحاربون عليها إبلا زعرة، تكثر الفزع والرعب من كل شيء، فلما رأى ذلك القمي جمع أجراس الإبل والخيل التي كانت في عسكره كلها، فجعلها في أعناق الخيل، ثم حمل على البجة، فنفرت إبلهم لأصوات الأجراس، واشتد رعبها، فحملتهم على الجبال والأودية، فمزقتهم كل ممزق، واتبعهم القمي بأصحابه، فأخذهم قتلا وأسرا حتى أدركه الليل، وذلك في أول سنة احدى واربعين، ثم رجع إلى معسكره ولم يقدر على إحصاء القتلى لكثرتهم، فلما أصبح القمي وجدهم قد جمعوا جمعا من الرجالة، ثم صاروا إلى موضع أمنوا فيه طلب القمي، فوافاهم القمي في

(9/205)


الليل في خيله، فهرب ملكهم، فأخذ تاجه ومتاعه، ثم طلب علي بابا الأمان على أن يرد إلى مملكته وبلاده، فأعطاه القمي ذلك، فأدى إليه الخراج للمدة التي كان منعها- وهي اربع سنين- لكل سنه أربعمائة مثقال، واستخلف علي بابا على مملكته ابنه لعيس، وانصرف القمي بعلي بابا إلى باب المتوكل، فوصل إليه في آخر سنة إحدى وأربعين ومائتين، فكسا علي بابا هذا دراعة ديباج وعمامة سوداء، وكسا جمله رحلا مدبجا وجلال ديباج، ووقف بباب العامة مع قوم من البجة نحو من سبعين غلاما على الإبل بالرحال، ومعهم الحراب في رءوس حرابهم رءوس القوم الذين قتلوا من عسكرهم، قتلهم القمي فأمر المتوكل أن يقبضوا من القمي يوم الأضحى من سنة إحدى وأربعين ومائتين وولى المتوكل البجة وطريق ما بين مصر ومكة سعدا الخادم الإيتاخي، فولى سعد محمد بن عبد الله القمي، فخرج القمي بعلي بابا، وهو مقيم على دينه، فذكر بعضهم أنه رأى معه صنما من حجارة كهيئة الصبي يسجد له.
ومات في هذه السنة يعقوب بن إبراهيم المعروف بقوصرة في جمادى الآخرة.
وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة عَبْد اللَّهِ بن محمد بن داود، وحج جعفر بن دينار فيها، وهو والي طريق مكة واحداث الموسم.

(9/206)


ثم دخلت

سنة اثنتين وأربعين ومائتين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)

ذكر احداث الزلازل بالبلاد
فمما كان فيها من ذلك الزلازل الهائلة التي كانت بقومس ورساتيقها في شعبان، فتهدمت فيها الدور، ومات من الناس بها مما سقط عليهم من الحيطان وغيرها بشر كثير، ذكر أنه بلغت عدتهم خمسة وأربعين ألفا وستة وتسعين نفسا، وكان عظم ذلك بالدامغان وذكر أنه كان بفارس وخراسان والشام في هذه السنة زلازل وأصوات منكرة، وكان باليمن أيضا مثل ذلك مع خسف بها.

ذكر خروج الروم من ناحيه شمشاط
وفيها خرجت الروم من ناحية شمشاط بعد خروج علي بن يحيى الأرمني من الصائفة حتى قاربوا آمد، ثم خرجوا من الثغور الجزرية، فانتهبوا عدة قرى، وأسروا نحوا من عشرة آلاف إنسان، وكان دخولهم من ناحية أبريق، قرية قربياس، ثم انصرفوا راجعين إلى بلادهم، فخرج قربياس وعمر بن عبد الله الأقطع وقوم من المتطوعة في أثرهم، فلم يلحقوا منهم أحدا، فكتب إلى علي بن يحيى أن يسير إلى بلادهم شاتيا.
وفيها قتل المتوكل عطاردا- رجلا كان نصرانيا فأسلم- فمكث مسلما

(9/207)


سنين كثيرة ثم ارتد فاستتيب، فأبى الرجوع إلى الإسلام، فضربت عنقه لليلتين خلتا من شوال، وأحرق بباب العامة.
وفي هذه السنة مات أبو حسان الزيادي قاضي الشرقية في رجب.
وفيها مات الحسن بن علي بن الجعد قاضي مدينة المنصور.
وحج بالناس فيها عبد الصمد بن موسى بن محمد بن إبراهيم الإمام بن محمد بن علي، وهو والي مكة.
وحج فيها جعفر بن دينار وهو والي طريق مكة وأحداث الموسم.

(9/208)


ثم دخلت

سنة ثلاث وأربعين ومائتين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) ففيها كان شخوص المتوكل إلى دمشق لعشر بقين من ذي القعدة، فضحى ببلد، فقال يزيد بن محمد المهلبي حين خرج:
أظن الشام تشمت بالعراق ... إذا عزم الإمام على انطلاق
فإن تدع العراق وساكنيها ... فقد تبلى المليحة بالطلاق
وفيها مات إبراهيم بن العباس، فولي ديوان الضياع الحسن بن مخلد بن الجراح، خليفة إبراهيم في شعبان، ومات هاشم بن بنجور في ذي الحجة.
وحج بالناس فيها عبد الصمد بن موسى.
وحج جعفر بن دينار، وهو والي طريق مكة وأحداث الموسم.

(9/209)


ثم دخلت

سنة أربع وأربعين ومائتين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك دخول المتوكل دمشق في صفر، وكان من لدن شخص من سامرا إلى أن دخلها سبعة وتسعون يوما- وقيل سبعة وسبعون يوما- وعزم على المقام بها، ونقل دواوين الملك إليها، وأمر بالبناء بها فتحرك الأتراك في أرزاقهم وأرزاق عيالاتهم، فأمر لهم بما أرضاهم به ثم استوبأ البلد، وذلك أن الهواء بها بارد ندي والماء ثقيل، والريح تهب فيها مع العصر، فلا تزال تشتد حتى يمضي عامة الليل، وهي كثيرة البراغيث، وغلت فيها الأسعار، وحال الثلج بين السابلة والميرة.
وفيها وجه المتوكل بغا من دمشق لغزو الروم في شهر ربيع الآخر، فغزا الصائفة فافتتح صملة، وأقام المتوكل بدمشق شهرين وأياما، ثم رجع إلى سامرا، فأخذ في منصرفه على الفرات، ثم عدل إلى الأنبار، ثم عدل من الأنبار على طريق الحرف إليها، فدخلها يوم الاثنين لسبع بقين من جمادى الآخرة.
وفيها عقد المتوكل لأبي الساج على طريق مكة مكان جعفر بن دينار- فيما زعم بعضهم- والصواب عندي أنه عقد له على طريق مكة في سنة ثنتين وأربعين ومائتين.
وفيها أتي المتوكل- فيما ذكر- بحربة كانت للنبي ص تسمى العنزة، ذكر أنها كانت للنجاشي ملك الحبشة، فوهبها للزبير بن العوام، فأهداها الزبير لرسول الله ص، فكانت عند المؤذنين، وكان يمشى بها بين يدي رسول الله ص في العيدين، وكانت

(9/210)


تركز بين يديه في الفناء فيصلي إليها فأمر المتوكل بحملها بين يديه، فكان يحملها بين يديه صاحب الشرطة، ويحمل حربته خليفة صاحب الشرطة.
وفيها غضب المتوكل على بختيشوع، وقبض ماله، ونفاه إلى البحرين، فقال أعرابي:
يا سخطة جاءت على مقدار ... ثار له الليث على اقتدار
منه وبختيشوع في اغترار ... لما سعى بالسادة الأقمار
بالأمراء القادة الأبرار ... ولاة عهد السيد المختار
وبالموالي وبني الأحرار ... رمى به في موحش القفار
بساحل البحرين للصغار.
وفي هذه السنة اتفق عيد المسلمين الأضحى وشعانين النصارى وعيد الفطر لليهود.
وحج بالناس فيها عبد الصمد بن موسى.

(9/211)


ثم دخلت

سنة خمس وأربعين ومائتين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)

ذكر خبر بناء الماحوزه
ففيها أمر المتوكل ببناء الماحوزة، وسماها الجعفري، وأقطع القواد وأصحابه فيها، وجد في بنائها، وتحول إلى المحمدية ليتم أمر الماحوزة، وأمر بنقض القصر المختار والبديع، وحمل ساجهما إلى الجعفري، وأنفق عليها- فيما قيل- أكثر من ألفي ألف دينار، وجمع فيها القراء فقرءوا، وحضر أصحاب الملاهي فوهب لهم ألفي ألف درهم، وكان يسميها هو وأصحابه الخاصة المتوكلية، وبنى فيها قصرا سماه لؤلؤة، لم ير مثله في علوه، وأمر بحفر نهر يأخذ رأسه خمسة فراسخ فوق الماحوزة من موضع يقال له كرمى يكون شربا لما حولها من فوهه النهر إليها، وأمر بأخذ جبلتا والخصاصة العليا والسفلى وكرمى، وحمل أهلها على بيع منازلهم وأرضهم، فأجبروا على ذلك حتى تكون الأرض والمنازل في تلك القرى كلها له، ويخرجهم عنها، وقدر للنهر من النفقة مائتي ألف دينار، وصير النفقة عليه إلى دليل بن يعقوب النصراني كاتب بغا في ذي الحجة من سنة خمس وأربعين ومائتين، وألقى في حفر النهر اثني عشر ألف رجل يعملون فيه، فلم يزل دليل يعتمل فيه، ويحمل المال بعد المال ويقسم عامته في الكتاب، حتى قتل المتوكل، فبطل النهر، وأخربت الجعفرية، ونقضت ولم يتم أمر النهر.
وزلزلت في هذه السنة بلاد المغرب حتى تهدمت الحصون والمنازل والقناطر، فأمر المتوكل بتفرقة ثلاثة آلاف درهم في الذين أصيبوا بمنازلهم، وزلزل عسكر

(9/212)


المهدي ببغداد فيها، وزلزلت المدائن وبعث ملك الروم فيها بأسرى من المسلمين، وبعث يسأل المفاداة بمن عنده، وكان الذي قدم من قبل صاحب الروم رسولا إلى المتوكل شيخا يدعى اطروبيليس معه سبعة وسبعون رجلا من أسرى المسلمين، اهداهم ميخائيل ابن توفيل ملك الروم إلى المتوكل، وكان قدومه عليه لخمس بقين من صفر من هذه السنة، فأنزل على شنيف الخادم ثم وجه المتوكل نصر بن الأزهر الشيعي مع رسول صاحب الروم، فشخص في هذه السنة، ولم يقع الفداء إلا في سنة ست وأربعين.
وذكر أنه كانت في هذه السنة بأنطاكية زلزلة ورجفة في شوال، قتلت خلقا كثيرا، وسقط منها الف وخمسمائة دار، وسقط من سورها نيف وتسعون برجا، وسمعوا أصواتا هائلة لا يحسنون وصفها من كوي المنازل، وهرب أهلها إلى الصحارى، وتقطع جبلها الأقرع، وسقط في البحر، فهاج البحر في ذلك اليوم، وارتفع منه دخان أسود مظلم منتن، وغار منها نهر على فرسخ لا يدرى أين ذهب وسمع فيها- فيما قيل- أهل تنيس في مصر ضجة دائمة هائلة، فمات منها خلق كثير وفيها زلزلت بالس والرقة وحران ورأس عين وحمص ودمشق والرها وطرسوس والمصيصة واذنه وسواحل الشام ورجفت اللاذقية، فما بقي منها منزل، ولا أفلت من أهلها إلا اليسير، وذهبت جبلة بأهلها وفيها غارت مشاش- عين مكة- حتى بلغ ثمن القربة بمكة ثمانين درهما، فبعثت أم المتوكل فانفقت عليها.
وفيها مات إسحاق بن أبي إسرائيل وسوار بن عبد الله وهلال الرازى.

(9/213)


ذكر الخبر عن هلاك نجاح بن سلمه
وفيها هلك نجاح بن سلمة.
ذكر الخبر عن سبب هلاكه:
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ بن أبي أسامة ببعض ما أنا ذاكره من أخباره وببعض ذلك غيره، أن نجاح بن سلمة كان على ديوان التوقيع والتتبع على العمال، وكان قبل ذلك كاتب إبراهيم بن رباح الجوهري، وكان على الضياع، فكان جميع العمال يتقونه ويقضون حوائجه، ولا يقدرون على منعه من شيء يريده، وكان المتوكل ربما نادمه، وكان انقطاع الحسن بن مخلد وموسى بن عبد الملك إلى عبيد الله بن يحيى بن خاقان وهو وزير المتوكل، وكانا يحملان إليه كل ما يأمرهما به، وكان الحسن بن مخلد على ديوان الضياع، وموسى على ديوان الخراج، فكتب نجاح بن سلمة رقعة إلى المتوكل في الحسن وموسى يذكر أنهما قد خانا وقصرا فيما هما بسبيله، وأنه يستخرج منهما أربعين ألف ألف درهم، فأدناه المتوكل وشاربه تلك العشية، وقال: يا نجاح، خذل الله من يخذلك، فبكر إلي غدا حتى أدفعهما إليك، فغدا وقد رتب أصحابه، وقال: يا فلان خذ أنت الحسن، ويا فلان خذ أنت موسى، فغدا نجاح إلى المتوكل، فلقي عبيد الله، وقد أمر عبيد الله أن يحجب نجاح عن المتوكل، فقال له: يا أبا الفضل، انصرف حتى ننظر وتنظر في هذا الأمر، وأنا أشير عليك بأمر لك فيه صلاح، قال: وما هو؟ قال: أصلح بينك وبينهما، وتكتب رقعة تذكر فيها أنك كنت شاربا، وأنك تكلمت بأشياء تحتاج إلى معاودة النظر فيها، وأنا أصلح الأمر عند أمير المؤمنين، فلم يزل يخدعه حتى كتب رقعة بما أمره به، فأدخلها على المتوكل، وقال: يا أمير المؤمنين قد رجع نجاح عما قال البارحة، وهذه رقعة موسى والحسن يتقبلان به بما كتبا، فتأخذ ما ضمنا عنه، ثم تعطف عليهما، فتأخذ منهما قريبا مما ضمن لك عنهما.
فسر المتوكل، وطمع فيما قال له عبيد الله، فقال: ادفعه إليهما،

(9/214)


فانصرفا به، وامرا بأخذ قلنسوته عن رأسه وكانت خزا، فوجد البرد، فقال:
ويحك يا حسن! قد وجدت البرد، فأمر بوضع قلنسوته على رأسه، وصار به موسى إلى ديوان الخراج، ووجها إلى ابنيه أبي الفرج وأبي محمد، فأخذ أبو الفرج وهرب أبو محمد، ابن بنت حسن بن شنيف، وأخذ كاتبه إسحاق بن سعد بن مسعود القطر بلى وعبد الله بن مخلد المعروف بابن البواب- وكان انقطاعه إلى نجاح- فأقر لهما نجاح وابنه بنحو من مائة وأربعين ألف دينار سوى قيمة قصورهما وفرشهما ومستغلاتهما بسامرا وبغداد، وسوى ضياع لهما كثيرة، فأمر بقبض ذلك كله، وضرب مرارا بالمقارع في غير موضع الضرب نحوا من مائتي مقرعة، وغمز وخنق، خنقه موسى الفرانق والمعلوف.
فأما الحارث فإنه قال: عصر خصيتيه حتى مات، فأصبح ميتا يوم الاثنين لثمان بقين من ذي القعدة من هذه السنة، فأمر بغسله ودفنه، فدفن ليلا، وضرب ابنه محمد وعبد الله بن مخلد وإسحاق بن سعد نحوا من خمسين خمسين، فأقر إسحاق بخمسين ألف دينار، وأقر عبد الله بن مخلد بخمسة عشر ألف دينار.
وقيل عشرين ألف دينار وكان ابنه احمد بن بنت حسن قد هرب فظفر به بعد موت نجاح، فحبس في الديوان، وأخذ جميع ما في دار نجاح وابنه أبي الفرج من متاع، وقبضت دورهما وضياعهما حيث كانت وأخرجت عيالهما، وأخذ وكيله بناحية السواد، وهو ابن عياش، فأقر بعشرين ألف دينار، وبعث إلى مكة في طلب الحسن بن سهل بن نوح الأهوازي وحسن بن يعقوب البغدادي، وأخذ بسببه قوم فحبسوا.
وقد ذكر في سبب هلاكه غير ما قد ذكرناه، ذكر أنه كان يضاد عبيد الله بن يحيى بن خاقان- وكان عبيد الله متمكنا من المتوكل، وإليه الوزارة وعامة أعماله، وإلى نجاح توقيع العامة- فلما عزم المتوكل على بناء الجعفري قال له نجاح- وكان في الندماء- يا أمير المؤمنين، أسمي

(9/215)


لك قوما تدفعهم إلي حتى أستخرج لك منهم أموالا تبني بها مدينتك هذه، أنه يلزمك من الأموال في بنائها ما يعظم قدره، ويجل ذكره فقال له: سمهم، فرفع رقعة يذكر فيها موسى بن عبد الملك وعيسى بن فرخان شاه خليفة الحسن بن مخلد، والحسن بن مخلد وزيدان بن إبراهيم، خليفة موسى بن عبد الملك، وعبيد الله بن يحيى وأخويه: عبد الله بن يحيى وزكرياء وميمون بن إبراهيم ومحمد بن موسى المنجم وأخاه أحمد بن موسى، وعلي بن يحيى بن أبي منصور وجعفرا المعلوف مستخرج ديوان الخراج وغيرهم نحوا من عشرين رجلا، فوقع ذلك من المتوكل موقعا أعجبه، وقال له: اغد غدوة، فلما أصبح لم يشك في ذلك وناظر عبيد الله بن يحيى المتوكل، فقال له: يا أمير المؤمنين، أراد ألا يدع كاتبا ولا قائدا إلا أوقع بهم، فمن يقوم بالأعمال يا أمير المؤمنين! وغدا نجاح، فأجلسه عبيد الله في مجلسه، ولم يؤذن له، وأحضر موسى بن عبد الملك والحسن بن مخلد، فقال لهما عبيد الله: أنه إن دخل إلي أمير المؤمنين دفعكما إليه فقتلكما وأخذ ما تملكان، ولكن اكتبان إلى أمير المؤمنين رقعة تقبلان به فيها بألفي ألف دينار، فكتبا رقعه بخطوطهما، وأوصلها عبيد الله ابن يحيى، وجعل يختلف بين أمير المؤمنين ونجاح وموسى بن عبد الملك والحسن ابن مخلد، فلم يزل يدخل ويخرج ويعين موسى والحسن، ثم أدخلهما على المتوكل، فضمنا ذلك، وخرج معهما فدفعه إليهما جميعا، والناس جميعا الخواص والعوام، وهما لا يشكان أنهما وعبيد الله بن يحيى مدفوعون إلى نجاح، للكلام الذي دار بينه وبين المتوكل، فأخذاه، وتولى تعذيبه موسى بن عبد الملك، فحبسه في ديوان الخراج بسامرا، وضربه دررا وأمر المتوكل بكاتبه إسحاق ابن سعد- وكان يتولى خاص أموره وأمر ضياع بعض الولد- أن يغرم واحدا وخمسين ألف دينار، وحلف على ذلك، وقال: أنه أخذ مني في أيام الواثق وهو يخلف عن عمر بن فرج خمسين دينارا، حتى أطلق أرزاقي، فخذوا لكل دينار ألفا وزيادة ألف فضلا كما أخذ فضلا فحبس ونجم عليه في ثلاثة

(9/216)


أنجم، ولم يطلق حتى أدى تعجيل سبعة عشر ألف دينار، وأطلق بعد أن أخذ منه كفلاء بالباقي، وأخذ عبد الله بن مخلد، فأغرم سبعة عشر ألف دينار ووجه عبيد الله الحسين بن إسماعيل- وكان أحد حجاب المتوكل- وعتاب ابن عتاب عن رسالة المتوكل أن يضرب نجاح خمسين مقرعة إن هو لم يقر ويؤد ما وصف عليه، فضربه ثم عاوده في اليوم الثاني بمثل ذلك، ثم عاوده في اليوم الثالث بمثل ذلك، فقال: أبلغ أمير المؤمنين انى ميت وامر موسى ابن عبد الملك جعفرا المعلوف ومعه عونان من أعوان ديوان الخراج، فعصروا مذاكيره حتى برد فمات وأصبح فركب إلى المتوكل فأخبره بما حدث من وفاة نجاح، فقال لهما المتوكل: انى اريد مالي الذى ضمنتاه، فاحتالاه، فقبضا من أمواله وأموال ولده جملة، وحبسا أبا الفرج- وكان على ديوان زمام الضياع من قبل أبي صالح بن يزداد- وقبضا أمتعته كلها وجميع ملكه، وكتبا على ضياعه لأمير المؤمنين، وأخذا ما أخذا من أصحابه، فكان المتوكل كثيرا ما يقول لهما كلما شرب: ردوا على كاتبي، وإلا فهاتوا المال، وضم توقيع ديوان العامة إلى عبيد الله بن يحيى، فاستخلف عليه يحيى بن عبد الرحمن بن خاقان، ابن عمه، ومكث موسى بن عبد الملك والحسن بن مخلد على ذلك يطالبهما المتوكل بالأموال التي ضمناها من قبل نجاح، فما أتى على ذلك الا يسيرا حتى ركب موسى بن عبد الملك يشيع المنتصر من الجعفري، وهو يريد سامرا إلى منزله الذي ينزله بالجوسق، فبلغه معه ساعة، ثم انصرف راجعا، فبينا هو يسير إذ صاح بمن معه خذوني، فبدروه فسقط على أيديهم مفلوجا، فحمل إلى منزله، فمكث يومه وليلته، ثم توفي، فصير على ديوان الخراج أيضا عبيد الله ابن يحيى بن خاقان، فاستخلف عليه أحمد بن إسرائيل كاتب المعتز، وكان أيضا خليفته على كتابة المعتز فقال القصافي:
ما كان يخشى نجاح صولة الزمن ... حتى أديل لموسى منه والحسن
غدا على نعم لاحرار يسلبها ... فراح وهو سليب المال والبدن

(9/217)


وفيها ضرب بختيشوع المتطبب مائة وخمسين مقرعة، وأثقل بالحديد، وحبس في المطبق في رجب
. غاره الروم على سميساط
وفيها أغارت الروم على سميساط، فقتلوا وسبوا نحوا من خمسمائة وغزا علي بن يحيى الأرمني الصائفة ومنع أهل لؤلؤة رئيسهم من الصعود إليها ثلاثين يوما، فبعث ملك الروم إليهم بطريقا يضمن لكل رجل منهم ألف دينار، على أن يسلموا إليه لؤلؤة، فأصعدوه إليهم ثم أعطوا أرزاقهم الفائتة وما أرادوا، فسلموا لؤلؤة والبطريق إلى بلكاجور في ذي الحجة، وكان البطريق الذي كان صاحب الروم وجهه إليهم يقال له لغثيط، فلما دفعه أهل لؤلؤة إلى بلكاجور وقيل: إن علي بن يحيى الأرمني حمله إلى المتوكل إلى الفتح بن خاقان، فعرض عليه الإسلام فأبى، فقالوا: نقتلك، فقال: أنتم أعلم، وكتب ملك الروم يبذل مكانه ألف رجل من المسلمين.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن سليمان بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم الإمام، وهو يعرف بالزينبي، وهو والي مكة.
وكان نيروز المتوكل الذي أرفق أهل الخراج بتأخيره إياه عنهم فيها يوم السبت لإحدى عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ، ولسبع عشرة ليلة خلت من حزيران ولثمان وعشرين من أرديوهشت ماه، فقال البحتري الطائي:
إن يوم النيروز عاد إلى العهد ... الذي كان سنه أردشير.

(9/218)


ثم دخلت

سنة ست وأربعين ومائتين

ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث
فمن ذلك غزو عمر بن عبد الله الأقطع الصائفة، فأخرج سبعة آلاف رأس وغزوة قربياس، فأخرج خمسة آلاف رأس، وغزو الفضل بن قارن بحرا في عشرين مركبا، فافتتح حصن انطاليه وغزوة بلكاجور فغنم وسبى.
وغزو علي بن يحيى الأرمني الصائفة، فأخرج خمسة آلاف رأس ومن الدواب والرمك والحمير نحوا من عشرة آلاف وفيها تحول المتوكل إلى المدينة التي بناها الماحوزه، فنزلها يوم عاشوراء من هذه السنه.

ذكر خبر الفداء بين الروم والمسلمين في هذه السنة
وفيها كان الفداء في صفر على يدي علي بن يحيى الأرمني، ففودي بألفين وثلاثمائة وسبعة وستين نفسا وقال بعضهم: لم يتم الفداء في هذه السنة إلا في جمادى الأولى.
وذكر عن نصر بن الأزهر الشيعي- وكان رسول المتوكل إلى ملك الروم في أمر الفداء- أنه قال: لما صرت إلى القسطنطينية حضرت دار ميخائيل الملك بسوادي وسيفي وخنجري وقلنسوتي، فجرت بيني وبين خال الملك بطرناس المناظرة- وهو القيم بشأن الملك- وأبوا أن يدخلوني بسيفي وسوادي، فقلت:
أنصرف، فانصرفت فرددت من الطريق ومعي الهدايا نحو من ألف نافجة مسك وثياب حرير وزعفران كثير وطرائف، وقد كان أذن لوفود برجان وغيرهم ممن ورد عليه، وحملت الهدايا التي معي، فدخلت عليه، فإذا هو على

(9/219)


سرير فوق سرير، وإذا البطارقة حوله قيام، فسلمت ثم جلست على طرف السرير الكبير، وقد هيئ لي مجلس، ووضعت الهدايا بين يديه، وبين يديه ثلاثة تراجمة: غلام فراش كان لمسرور الخادم، وغلام لعباس بن سعيد الجوهري، وترجمان له قديم يقال له سرحون، فقالوا لي: ما نبلغه؟ قلت:
لا تزيدون على ما أقول لكم شيئا، فأقبلوا يترجمون ما أقول، فقبل الهدايا ولم يأمر لأحد منها بشيء، وقربني وأكرمني، وهيأ لي منزلا بقربه، فخرجت فنزلت في منزلي، وأتاه أهل لؤلؤة برغبتهم في النصرانية، وأنهم معه، ووجهوا برجلين ممن فيها رهينة من المسلمين.
قال: فتغافل عني نحوا من أربعة أشهر، حتى أتاه كتاب مخالفة أهل لؤلؤة، وأخذهم رسله واستيلاء العرب عليها، فراجعوا مخاطبتي، وانقطع الأمر بيني وبينهم في الفداء، على أن يعطوا جميع من عندهم وأعطي جميع من عندي، وكانوا أكثر من ألف قليلا، وكان جميع الأسرى الذين في أيديهم أكثر من ألفين، منهم عشرون امرأة، معهن عشرة من الصبيان، فأجابوني إلى المخالفة، فاستحلفت خاله، فحلف عن ميخائيل، فقلت: أيها الملك قد حلف لي خالك، فهذه اليمين لازمة لك؟ فقال برأسه: نعم، ولم اسمعه يتكلم بكلمة منذ دخلت بلاد الروم إلى أن خرجت منها، إنما يقول الترجمان وهو يسمع، فيقول برأسه: نعم أو لا، وليس يتكلم وخاله المدبر أمره، ثم خرجت من عنده بالأسرى بأحسن حال، حتى إذا جئنا موضع الفداء أطلقنا هؤلاء جملة وهؤلاء جملة، وكان عداد من صار في أيدينا من المسلمين أكثر من ألفين منهم عدة ممن كان تنصر وصار في أيديهم أكثر من ألف قليلا، وكان قوم تنصروا، فقال لهم ملك الروم: لا أقبل منكم حتى تبلغوا موضع الفداء، فمن أراد أن أقبله في النصرانية فليرجع من موضع الفداء، وإلا فليضمن ويمض مع أصحابه، وأكثر من تنصر أهل المغرب، وأكثر من تنصر بالقسطنطينية، وكان هنالك صائغان قد تنصرا، فكانا يحسنان إلى الأسرى، فلم يبق في بلاد الروم من المسلمين ممن ظهر عليه الملك إلا سبعة نفر، خمسة أتي بهم من سقلية، أعطيت فداءهم على أن يوجه بهم الى سقليه، ورجلان كانا من رهائن لؤلؤة،

(9/220)


فتركتهما، وقلت: اقتلوهما، فإنهما رغبا في النصرانية.
ومطر أهل بغداد في هذه السنة واحدا وعشرين يوما في شعبان ورمضان، حتى نبت العشب فوق الأجاجير.
وصلى المتوكل فيها صلاة الفطر بالجعفرية، وصلى عبد الصمد بن موسى في مسجد جامعها، ولم يصل بسامرا أحد.
وورد فيها الخبر أن سكة بناحية بلخ تنسب إلى الدهاقين مطرت دما عبيطا.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن سليمان الزينبي.
وحج فيها محمد بن عبد الله بن طاهر، فولي أعمال الموسم.
وضحى أهل سامرا فيها يوم الاثنين على الرؤية وأهل مكة يوم الثلاثاء.

(9/221)


ثم دخلت

سنة سبع وأربعين ومائتين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)

ذكر الخبر عن مقتل المتوكل
فمما كان فيها من ذلك مقتل المتوكل.
ذكر الخبر عن سبب مقتله وكيف قتل:
قال أبو جعفر: ذكر لي أن سبب ذلك كان أن المتوكل كان أمر بإنشاء الكتب بقبض ضياع وصيف بأصبهان والجبل وإقطاعها الفتح بن خاقان، فكتبت الكتب بذلك، وصارت الى الخاتم على ان تنفذ يوم الخميس لخمس خلون من شعبان، فبلغ ذلك وصيفا، واستقر عنده الذي أمر به في أمره، وكان المتوكل أراد أن يصلي بالناس يوم الجمعة في شهر رمضان في آخر جمعة منه، وكان قد شاع في الناس في أول رمضان أن أمير المؤمنين يصلى في آخر جمعه من الشهر بالناس، فاجتمع الناس لذلك واحتشدوا، وخرج بنو هاشم من بغداد لرفع القصص وكلامه إذا هو ركب فلما كان يوم الجمعة أراد الركوب للصلاة، فقال له عبيد الله بن يحيى والفتح بن خاقان: يا أمير المؤمنين، إن الناس قد اجتمعوا وكثروا، من اهل بيتك وغيرهم، وبعض متظلم وبعض طالب حاجة، وأمير المؤمنين يشكو ضيق الصدر ووعكة، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر بعض ولاة العهود بالصلاة، ونكون معه جميعا فليفعل فقال: قد رأيت ما رأيتما، فأمر المنتصر بالصلاة، فلما نهض المنتصر ليركب للصلاة قالا: يا أمير المؤمنين، قد رأينا رأيا، وأمير المؤمنين أعلى عينا، قال: وما هو؟ اعرضاه علي، قالا: يا أمير المؤمنين، مر أبا عبد الله المعتز بالله الصلاة

(9/222)


لتشرفه بذلك في هذا اليوم الشريف، فقد اجتمع أهل بيته، والناس جميعا فقد بلغ الله به.
قال: وقد كان ولد للمعتز قبل ذلك بيوم، فأمر المعتز، فركب وصلى بالناس، فأقام المنتصر في منزله- وكان بالجعفرية- وكان ذلك مما زاد في اغرائه به، فلما فرغ المعتز من خطبته قام إليه عبيد الله بن يحيى والفتح بن خاقان، فقبلا يديه ورجليه، وفرغ المعتز من الصلاة، فانصرف وانصرفا معه، ومعهم الناس في موكب الخلافة، والعالم بين يديه، حتى دخل على أبيه وهما معه، ودخل معه داود بن محمد بن أبي العباس الطوسي، فقال داود:
يا أمير المؤمنين، ائذن لي فأتكلم، قال: قل، فقال: والله يا أمير المؤمنين، لقد رايت الامين والمأمون ورايت المعتصم صلوات الله عليهم، ورايت الواثق بالله، فو الله ما رأيت رجلا على منبر أحسن قواما، ولا أحسن بديها، ولا أجهر صوتا، ولا أعذب لسانا، ولا أخطب من المعتز بالله، أعزه الله يا أمير المؤمنين ببقائك، وأمتعك الله وإيانا بحياته! فقال له المتوكل: أسمعك الله خيرا، وأمتعنا بك، فلما كان يوم الأحد، وذلك يوم الفطر وجد المتوكل فترة، فقال:
مروا المنتصر فليصل بالناس، فقال له عبيد الله بن يحيى بن خاقان: يا أمير المؤمنين، قد كان الناس تطلعوا إلى رؤية أمير المؤمنين في يوم الجمعة فاجتمعوا واحتشدوا، فلم يركب أمير المؤمنين، ولا نأمن إن هو لم يركب أن يرجف الناس بعلته، ويتكلموا في أمره، فإن رأى أمير المؤمنين أن يسر الأولياء ويكبت الأعداء بركوبه فعل فأمرهم بالتأهب والتهيؤ لركوبه، فركب فصلى بالناس وانصرف إلى منزله، فأقام يومه ذلك ومن الغد لم يدع بأحد من ندمائه.
وذكر أنه ركب يوم الفطر، وقد ضربت له المصاف نحوا من أربعة أميال، وترجل الناس بين يديه، فصلى بالناس، ورجع إلى قصره، فأخذ حفنة من تراب، فوضعها على رأسه، فقيل له في ذلك، فقال: إني رايت

(9/223)


كثرة هذا الجمع، ورأيتهم تحت يدي، فأحببت أن أتواضع لله عز وجل، فلما كان من غد يوم الفطر لم يدع بأحد من ندمائه، فلما كان اليوم الثالث وهو يوم الثلاثاء لثلاث خلون من شوال- أصبح نشيطا فرحا مسرورا، فقال:
كأني أجد مس الدم، فقال الطيفوري وابن الأبرش- وهما طبيباه:
يا أمير المؤمنين، عزم الله لك على الخير، افعل، ففعل، واشتهى لحم جزور، فأمر به فأحضر بين يديه، فاتخذه بيده.
وذكر عن ابن الحفصي المغني أنه كان حاضر المجلس، قال ابن الحفصي: وما كان احد ممن يأكل بين يديه حاضرا غيري وغير عثعث وزنام وبنان غلام أحمد بن يحيى بن معاذ، فإنه جاء مع المنتصر قال: وكان المتوكل والفتح بن خاقان يأكلان معا، ونحن في ناحية بإزائهم والندماء مفترقون في حجرهم، لم يدع بأحد منهم بعد قال ابن الحفصي: فالتفت إلي أمير المؤمنين، فقال:
كل أنت وعثعث بين يدي ويأكل معكما نصر بن سعيد الجهبذ، قال: فقلت: يا سيدي، نصر والله يأكلني، فكيف ما يوضع بين أيدينا! فقال: كلوا بحياتي، فأكلنا ثم علقنا أيدينا بحذائه قال: فالتفت أمير المؤمنين التفاتة، فنظر إلينا معلقي الأيدي، فقال: ما لكم لا تأكلون؟
قلت: يا سيدي، قد نفد ما بين أيدينا، فأمر أن يزاد، فغرف لنا من بين يديه.
قال ابن الحفصي: ولم يكن أمير المؤمنين في يوم من الأيام أسر منه في ذلك اليوم قال: وأخذ مجلسه، ودعا بالندماء والمغنين فحضروا، وأهدت إليه قبيحة أم المعتز مطرف خز أخضر، لم ير الناس مثله حسنا، فنظر إليه فأطال النظر، فاستحسنه وكثر تعجبه منه، وأمر به فقطع نصفين، وأمر برده عليها، ثم قال لرسولها: أذكرتني به، ثم قال: والله إن نفسي لتحدثني أني لا ألبسه، وما أحب أن يلبسه أحد بعدي، وإنما أمرت بشقه لئلا يلبسه أحد بعدي، فقلنا له: يا سيدنا، هذا يوم سرور

(9/224)


يا أمير المؤمنين نعيذك بالله أن تقول هذا يا سيدنا، قال: وأخذ في الشراب واللهو، ولهج بان يقول: أنا والله مفارقكم عن قليل، قال: فلم يزل في لهوه وسروره إلى الليل.
وذكر بعضهم أن المتوكل عزم هو والفتح أن يصيرا غداءهما عند عبد الله ابن عمر البازيار يوم الخميس لخمس ليال خلون من شوال، على أن يفتك بالمنتصر، ويقتل وصيفا وبغا وغيرهما من قواد الأتراك ووجوههم، فكثر عبثه يوم الثلاثاء قبل ذلك بيوم- فيما ذكر ابن الحفصي- بابنه المنتصر مرة يشتمه، ومرة يسقيه فوق طاقته، ومرة يأمر بصفعه، ومرة يتهدده بالقتل.
فذكر عن هارون بن محمد بن سليمان الهاشمي أنه قال: حدثني بعض من كان في الستارة من النساء، أنه التفت إلى الفتح، فقال له: برئت من الله ومن قرابتي من رسول الله ص إن لم تلطمه- يعني المنتصر- فقام الفتح ولطمه مرتين، يمر يده على قفاه، ثم قال المتوكل لمن حضر:
اشهدوا جميعا أني قد خلعت المستعجل- المنتصر- ثم التفت إليه، فقال: سميتك المنتصر، فسماك الناس لحمقك المنتظر، ثم صرت الآن المستعجل، فقال المنتصر: يا أمير المؤمنين، لو أمرت بضرب عنقي كان أسهل علي مما تفعله بي، فقال: اسقوه، ثم أمر بالعشاء فأحضر وذلك في جوف الليل، فخرج المنتصر من عنده، وامر بنانا غلام احمد ابن يحيى أن يلحقه، فلما خرج وضعت المائدة بين يدي المتوكل، وجعل يأكلها ويلقم وهو سكران.
وذكر عن ابن الحفصي أن المنتصر لما خرج إلى حجرته أخذ بيد زرافة، فقال له: امض معي، فقال: يا سيدي، إن أمير المؤمنين لم يقم، فقال:
إن أمير المؤمنين قد أخذه النبيذ، والساعة يخرج بغا والندماء، وقد أحببت أن تجعل أمر ولدك الى، فان اوتامش سألني أن أزوج ابنه من ابنتك، وابنك من ابنته، فقال له زرافة: نحن عبيدك يا سيدي، فمرنا بأمرك وأخذ المنتصر

(9/225)


بيده وانصرف به معه قال: وكان زرافة قد قال لي قبل ذلك: ارفق بنفسك، فإن أمير المؤمنين سكران والساعة يفيق، وقد دعاني تمرة، وسألني أن أسألك أن تصير إليه فنصير جميعا إلى حجرته قال: فقلت له: أنا أتقدمك إليه، قال: ومضى زرافة مع المنتصر إلى حجرته.
فذكر بنان غلام أحمد بن يحيى أن المنتصر قال له: قد املكت ابن زرافه من ابنه اوتامش وابن اوتامش من ابنة زرافة؟ قال بنان: فقلت للمنتصر: يا سيدي، فأين النثار فهو يحسن الإملاك؟ فقال: غدا إن شاء الله، فإن الليل قد مضى قال: وانصرف زرافة إلى حجرة تمرة، فلما دخل دعا بالطعام فأتي به، فما أكل إلا أيسر ذلك حتى سمعنا الضجة والصراخ، فقمنا، فقال بنان: فما هو إلا أن خرج زرافة من منزل تمرة، إذا بغا استقبل المنتصر، فقال المنتصر: ما هذه الضجة؟ قال: خير يا أمير المؤمنين، قال: ما تقول، ويلك! قال: أعظم الله أجرك في سيدنا امير المؤمنين! كان عبدا لله دعاه فأجابه، قال: فجلس المنتصر، وأمر بباب البيت الذي قتل فيه المتوكل والمجلس، فأغلق وأغلقت الأبواب كلها، وبعث إلى وصيف يأمره بإحضار المعتز والمؤيد عن رسالة المتوكل.
وذكر عن عثعث أن المتوكل دعا بالمائدة بعد قيام المنتصر وخروجه ومعه زرافة، وكان بغا الصغير المعروف بالشرابي قائما عند الستر، وذلك اليوم كان نوبة بغا الكبير في الدار، وكان خليفته في الدار ابنه موسى- وموسى هذا هو ابن خالة المتوكل، وبغا الكبير يومئذ بسميساط- فدخل بغا الصغير إلى المجلس، فأمر الندماء بالانصراف إلى حجرهم، فقال له الفتح: ليس هذا وقت انصرافهم، وأمير المؤمنين لم يرتفع، فقال له بغا: إن أمير المؤمنين أمرني إذا جاوز السبعة ألا أترك في المجلس أحدا، وقد شرب أربعة عشر رطلا، فكره الفتح قيامهم، فقال له بغا: إن حرم أمير المؤمنين خلف الستارة، وقد سكر، فقوموا فاخرجوا، فخرجوا جميعا، فلم يبق إلا الفتح وعثعث وأربعة من خدم الخاصة، منهم شفيع وفرج الصغير ومؤنس وأبو عيسى مارد

(9/226)


المحرزي قال: ووضع الطباخ المائدة بين يدي المتوكل، فجعل يأكل ويلقم، ويقول لمارد: كل معي حتى أكل بعض طعامه وهو سكران، ثم شرب أيضا بعد ذلك.
فذكر عثعث أن أبا أحمد بن المتوكل أخا المؤيد لأمه- كان معهم في المجلس، فقام إلى الخلاء، وقد كان بغا الشرابي أغلق الأبواب كلها غير باب الشط، ومنه دخل القوم الذين عينوا لقتله، فبصر بهم أبو أحمد، فصاح بهم: ما هذا يا سفل! وإذا بسيوف مسللة، قال: وقد كان تقدم النفر الذين تولوا قتله بغلون التركي وباغر وموسى بن بغا وهارون بن صوارتكين وبغا الشرابي، فلما سمع المتوكل صوت أبي أحمد رفع رأسه، فرأى القوم، فقال: يا بغا، ما هذا؟ قال: هؤلاء رجال النوبة التي تبيت على باب سيدي أمير المؤمنين، فرجع القوم إلى ورائهم عند كلام المتوكل لبغا، ولم يكن واجن وأصحابه وولد وصيف حضروا معهم بعد قال عثعث: فسمعت بغا يقول لهم:
يا سفل، أنتم مقتولون لا محالة، فموتوا كراما، فرجع القوم إلى المجلس، فابتدره بغلون فضربه ضربة على كتفه وأذنه فقده، فقال: مهلا قطع الله يدك! ثم قام وأراد الوثوب به، فاستقبله بيده فأبانها، وشركه باغر، فقال الفتح:
ويلكم، أمير المؤمنين! فقال بغا: يا حلقى، لا تسكت! فرمى الفتح بنفسه على المتوكل، فبجعه هارون بسيفه، فصاح: الموت! واعتوره هارون وموسى بن بغا بأسيافهما، فقتلاه وقطعاه، وأصابت عثعث ضربة في رأسه وكان مع المتوكل خادم صغير، فدخل تحت الستارة، فنجا، وتهارب الباقون قال:
وقد كانوا قالوا لوصيف في وقت ما جاءوا إليه: كن معنا فإنا نتخوف ألا يتم ما نريد فنقتل، فقال: لا بأس عليكم، فقالوا له: فأرسل معنا بعض ولدك، فأرسل معهم خمسة من ولده: صالحا، وأحمد، وعبد الله، ونصرا، وعبيد الله، حتى صاروا إلى ما أرادوا.
وذكر عن زرقان خليفة زرافة على البوابين وغيرهم أن المنتصر لما أخذ بيد

(9/227)


زرافة فأخرجه من الدار ودخل القوم، نظر إليهم عثعث، فقال للمتوكل:
قد فرغنا من الأسد والحيات والعقارب، وصرنا إلى السيوف، وذلك أنه كان ربما أشلى الحية والعقرب أو الأسد، فلما ذكر عثعث السيوف، قال له:
ويلك! أي شيء تقول؟ فما استتم كلامه حتى دخلوا عليه، فقام الفتح في وجوههم، فقال لهم: يا كلاب، وراءكم وراءكم! فبدر إليه بغا الشرابي، فبعج بطنه بالسيف، وبدر الباقون إلى المتوكل، وهرب عثعث على وجهه.
وكان أبو أحمد في حجرته، فلما سمع الضجة خرج فوقع على أبيه، فبادره بغلون فضربه ضربتين، فلما رأى السيوف تأخذه خرج وتركهم، وخرج القوم إلى المنتصر، فسلموا عليه بالخلافة، وقالوا: مات أمير المؤمنين، وقاموا على رأس زرافة بالسيوف، فقالوا له: بايع، فبايعه وأرسل المنتصر إلى وصيف: أن الفتح قتل ابى، فقتلته، فاحضر في وجوه أصحابك فحضر وصيف وأصحابه فبايعوا قال: وكان عبيد الله بن يحيى في حجرته لا يعلم بشيء من أمر القوم ينفذ الأمور وقد ذكر أن امرأة من نساء الأتراك ألقت رقعة تخبر ما عزم عليه القوم، فوصلت الرقعة إلى عبيد الله، فشاور الفتح فيها، وكان ذلك وقع إلى أبي نوح عيسى بن إبراهيم كاتب الفتح بن خاقان، فأنهاه إلى الفتح، فاتفق رأيهم على كتمان المتوكل لما رأوا من سروره، فكرهوا أن ينغصوا عليه يومه، وهان عليهم أمر القوم، ووثقوا بأن ذلك لا يجسر عليه أحد ولا يقدر.
فذكر أن أبا نوح احتال في الهرب من ليلته، وعبيد الله جالس في عمله ينفذ الأمور، وبين يديه جعفر بن حامد، إذ طلع عليه بعض الخدم، فقال:
يا سيدي، ما يجلسك؟ قال: وما ذاك! قال: الدار سيف واحد، فأمر جعفرا بالخروج، فخرج وعاد، فأخبره أن أمير المؤمنين والفتح قد قتلا، فخرج فيمن معه من خدمه وخاصته، فأخبر أن الأبواب مغلقة، فأخذ نحو الشط، فإذا أبوابه أيضا مغلقة، فأمر بكسر ما كان مما يلي الشط، فكسرت ثلاثة أبواب حتى

(9/228)


خرج إلى الشط، فصار إلى زورق، فقعد فيه ومعه جعفر بن حامد، وغلام له، فصار إلى منزل المعتز، فسأل عنه فلم يصادفه، فقال: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! قتلني وقتل نفسه، وتلهف عليه، واجتمع إلى عبيد الله أصحابه غداة يوم الأربعاء من الأبناء والعجم والأرمن والزواقيل والاعراب والصعاليك وغيرهم وقد اختلف في عدتهم، فقال بعضهم: كانوا زهاء عشرين ألف فارس وقال آخرون: كان معه ثلاثة عشر ألف رجل، وقال آخرون:
كان معه ثلاثة عشر ألف لجام، وقال المقللون: ما بين الخمسة آلاف إلى العشرة آلاف، فقالوا له: إنما كنت تصطنعنا لهذا اليوم، فأمر بأمرك، وأذن لنا نمل على القوم ميلة، نقتل المنتصر ومن معه من الأتراك وغيرهم فأبى ذلك، وقال: ليس في هذا حيلة، والرجل في أيديهم- يعني المعتز وذكر عن علي بن يحيى المنجم أنه قال: كنت أقرأ على المتوكل قبل قتله بأيام كتابا من كتب الملاحم، فوقفت عن قراءته وقطعته، فقال لي:
ما لك قد وقفت! قلت: خير، قال: لا بد والله من أن تقرأه، فقرأته وحدت عن ذكر الخلفاء، فقال المتوكل: ليت شعري من هذا الشقي المقتول! وذكر عن سلمة بن سعيد النصراني أن المتوكل رأى أشوط بن حمزة الأرمني قبل قتله بأيام، فتأفف برؤيته، وأمر بإخراجه، فقيل له:
يا أمير المؤمنين، أليس قد كنت تحب خدمته؟ قال: بلى، ولكني رأيت في المنام منذ ليال كأني قد ركبته، فالتفت إلي وقد صار رأسه مثل رأس البغل فقال لي: إلى كم تؤذينا! إنما بقي من أجلك تمام خمسة عشر سنه غير ايام قال: فكان بعدد أيام خلافته.
وذكر عن ابن أبي ربعي أنه قال: رأيت في منامي كأن رجلا دخل من باب الرستن على عجلة ووجهه إلى الصحراء وقفاه إلى المدينة، وهو ينشد:

(9/229)


يا عين ويلك فاهملي ... بالدمع سحا واسبلي
دلت على قرب القيامة ... قتلة المتوكل
وذكر أن حبشي بن أبي ربعي مات قبل قتل المتوكل بسنتين.
وذكر عن محمد بن سعيد، قال: قال أبو الوارث قاضي نصيبين:
رأيت في النوم آتيا أتاني، وهو يقول:
يا نائم العين في جثمان يقظان ... ما بال عينك لا تبكي بتهتان!
أما رأيت صروف الدهر ما فعلت ... بالهاشمي وبالفتح بن خاقان!
وسوف يتبعهم قوم لهم غدروا ... حتى يصيروا كأمس الذاهب الفاني
فأتى البريد بعد أيام بقتلهما جميعا.
قال أبو جعفر: وقتل ليلة الأربعاء بعد العتمة بساعة لأربع خلون من شوال- وقيل: بل قتل ليلة الخميس- فكانت خلافته أربع عشرة سنة وعشرة أشهر وثلاثة أيام وقتل يوم قتل وهو- فيما قيل- ابن أربعين سنة، وكان ولد بفم الصلح في شوال من سنة ست ومائتين.
وكان أسمر حسن العينين خفيف العارضين نحيفا
. ذكر الخبر عن بعض أمور المتوكل وسيرته:
ذكر عن مروان بن أبي الجنوب أبي السمط، أنه قال: أنشدت أمير المؤمنين فيه شعرا، وذكرت الرافضة فيه، فعقد لي على البحرين واليمامة، وخلع علي أربع خلع في دار العامة، وخلع علي المنتصر وأمر لي بثلاثة آلاف دينار، فنثرت على رأسي، وأمر ابنه المنتصر وسعدا الإيتاخي يلقطانها لي، ولا أمس منها شيئا، فجمعاها، فانصرفت بها

(9/230)


قال: والشعر الذي قال فيه:
ملك الخليفة جعفر ... للدين والدنيا سلامه
لكم تراث محمد ... وبعدلكم تنفى الظلامه
يرجو التراث بنو البنات ... وما لهم فيها قلامه
والصهر ليس بوارث ... والبنت لا ترث الإمامه
ما للذين تنحلوا ... ميراثكم إلا الندامه
أخذ الوراثة أهلها ... فعلام لومكم علامه!
لو كان حقكم لما ... قامت على الناس القيامه
ليس التراث لغيركم ... لا والإله ولا كرامه
أصبحت بين محبكم ... والمبغضين لكم علامه
ثم نثر على رأسي- بعد ذلك لشعر قلته في هذا المعنى- عشرة آلاف درهم.
وذكر عن مروان بن أبي الجنوب، أنه قال: لما استخلف المتوكل بعثت بقصيدة- مدحت فيها ابن ابى دواد- الى ابن ابى دواد، وكان في آخرها بيتان ذكرت فيهما أمر ابن الزيات وهما:
وقيل لي الزيات لاقى حمامه ... فقلت أتاني الله بالفتح والنصر
لقد حفر الزيات بالغدر حفرة ... فألقي فيها بالخيانة والغدر
قال: فلما صارت القصيدة إلى ابن ابى دواد ذكرها للمتوكل، وأنشده البيتين فأمره بإحضاره، فقال: هو باليمامة، كان الواثق نفاه لمودته لأمير المؤمنين قال: يحمل، قال: عليه دين، قال: كم هو؟ قال:
ستة آلاف دينار، قال: يعطاها، فأعطي وحمل من اليمامة، فصار إلى سامرا، وامتدح المتوكل بقصيدة يقول فيها:
رحل الشباب وليته لم يرحل ... والشيب حل وليته لم يحلل

(9/231)


فلما صار إلى هذين البيتين من القصيدة:
كانت خلافة جعفر كنبوة ... جاءت بلا طلب ولا بتنحل
وهب الإله له الخلافة مثل ما ... وهب النبوة للنبي المرسل
أمر له بخمسين ألف درهم.
وذكر عن أبي يحيى بن مروان بن محمد الشني الكلبي، قال: أخبرني أبو السمط مروان بن أبي الجنوب، قال: لما صرت إلى أمير المؤمنين المتوكل على الله مدحت ولاة العهود، وأنشدته:
سقى الله نجدا والسلام على نجد ... ويا حبذا نجد على النأي والبعد!
نظرت إلى نجد وبغداد دونها ... لعلي أرى نجدا وهيهات من نجد!
ونجد بها قوم هواهم زيارتي ... ولا شيء أحلى من زيارتهم عندي
قال: فلما استتممت إنشادها، أمر لي بعشرين ومائة ألف درهم وخمسين ثوبا وثلاثة من الظهر: فرس وبغلة وحمار، فما برحت حتى قلت في شكره:
تخير رب الناس للناس جعفرا ... فملكه أمر العباد تخيرا
قال: فلما صرت إلى هذا البيت:
فأمسك ندى كفيك عني ولا تزد ... فقد خفت أن أطغى وأن أتجبرا
قال: لا والله، لا أمسك حتى أعرفك بجودي، ولا برحت حتى تسأل حاجة، قلت: يا أمير المؤمنين، الضيعة التي أمرت بإقطاعي إياها باليمامة، ذكر ابن المدبر أنها وقف من المعتصم على ولده، ولا يجوز إقطاعها قال:
فإني أقبلكها بدرهم في السنة مائة سنة، قلت: لا يحسن يا أمير المؤمنين أن يؤدى درهم في الديوان، قال: فقال ابن المدبر: فالف درهم؟ فقلت:
نعم، فأنفذها لي ولعقبي، ثم قال: ليس هذه حاجة، هذه قبالة، قلت: فضياعي التي كانت لي كان الواثق أمر بإقطاعي إياها، فنفاني ابن الزيات، وحال بيني وبينها، فتنفذها لي فأمر بإنفاذها بمائة درهم في السنة وهي السيوح

(9/232)


وذكر عن أبي حشيشة أنه كان يقول: كان المأمون يقول: إن الخليفة بعدي في اسمه عين، فكان يظن أنه العباس ابنه فكان المعتصم، وكان يقول: وبعده هاء، فيظن أنه هارون، فكان الواثق، وكان يقول: وبعده اصفر الساقين، فكان يظن انه ابو الحائز العباس فكان المتوكل ذلك، فلقد رأيته إذا جلس على السرير يكشف ساقيه، فكانا أصفرين، كأنما صبغا بزعفران.
وذكر عن يحيى بن أكثم، أنه قال: حضرت المتوكل، فجرى بيني وبينه ذكر المأمون وكتبه إلى الحسن بن سهل، فقلت بتفضيله وتقريظه ووصف محاسنه وعلمه ومعرفته ونباهته قولا كثيرا، لم يقع بموافقة بعض من حضر، فقال المتوكل: كيف كان يقول في القرآن؟ قلت: كان يقول: ما مع القرآن حاجة إلى علم فرض، ولا مع سنه الرسول ص وحشة إلى فعل أحد، ولا مع البيان والإفهام حجة لتعلم، ولا بعد الجحود للبرهان والحق إلا السيف لظهور الحجة فقال له المتوكل: لم أرد منك ما ذهبت إليه من هذا المعنى، قال له يحيى: القول بالمحاسن في المغيب فريضة على ذي نعمة، قال: فما كان يقول خلال حديثه، فإن المعتصم بالله يرحمه الله كان يقوله، وقد أنسيته؟ فقال: كان يقول: اللهم إني أحمدك على النعم التي لا يحصيها احد غيرك، وأستغفرك من الذنوب التي لا يحيط بها إلا عفوك.
قال: فما كان يقول إذا استحسن شيئا أو بشر بشيء، فقد كان المعتصم بالله أمر علي بن يزداد أن يكتبه لنا، فكتبه فعلمناه ثم أنسيناه؟ قال: كان يقول: إن ذكر آلاء الله ونشرها وتعداد نعمه والحديث بها فرض من الله على أهلها، وطاعة لأمره فيها، وشكر له عليها، فالحمد لله العظيم الآلاء، السابغ النعماء بما هو أهله، ومستوجبه من محامده القاضية حقه، البالغة شكره، الموجبة مزيده على ما لا يحصيه تعدادنا، ولا يحيط به ذكرنا، من ترادف مننه، وتتابع فضله، ودوام طوله، حمد من يعلم أن ذلك منه، والشكر له عليه فقال المتوكل: صدقت، هذا هو الكلام بعينه، وهذا كله حكم من ذي حنكة وعلم، وانقضى المجلس

(9/233)


وقدم فِي هَذِهِ السنة مُحَمَّد بن عَبْدِ اللَّهِ بن طاهر بغداد منصرفا من مكة في صفر، فشكا ما ناله من الغم بما وقع من الخلاف في يوم النحر، فأمر المتوكل بإنفاذ خريطة صفراء من الباب إلى أهل الموسم برؤية هلال ذي الحجة، وأن يسار بها كما يسار بالخريطة الواردة بسلامة الموسم، وأمر أن يقام على المشعر الحرام وسائر المشاعر الشمع مكان الزيت والنفط.
وفيها ماتت أم المتوكل بالجعفرية لست خلون من شهر ربيع الآخر وصلى عليها المنتصر، ودفنت عند المسجد الجامع
. خلافه المنتصر محمد بن جعفر
وفيها بويع للمنتصر محمد بن جعفر بالخلافة في يوم الأربعاء لأربع خلون من شوال- وقيل لثلاث خلون منه- وهو ابن خمس وعشرين سنة وكنيته أبو جعفر بالجعفرية، فأقام بها بعد ما بويع له عشرة أيام، ثم تحول منه بعياله وقواده وجنوده الى سامرا.
وكان قد بايعه ليلة الأربعاء الذين ذكرناهم قبل، فذكر عن بعضهم، أنه قال: لما كان صبيحة يوم الأربعاء، حضر الناس الجعفرية من القواد والكتاب والوجوه والشاكرية والجند وغيرهم، فقرأ عليهم أحمد بن الخصيب كتابا يخبر فيه عن أمير المؤمنين المنتصر، أن الفتح بن خاقان قتل أباه جعفرا المتوكل، فقتله به، فبايع الناس، وحضر عبيد الله بن يحيى بن خاقان، فبايع وانصرف.
وذكر عن أبي عثمان سعيد الصغير أنه قال: لما كانت الليلة التي قتل فيها المتوكل، كنا في الدار مع المنتصر، فكان كلما خرج الفتح خرج معه، وكلما رجع قام لقيامه وجلس لجلوسه، وخرج في أثره، وكلما ركب أخذ بركابه، وسوى عليه ثيابه في سرج دابته، وكان اتصل بنا الخبر أن عبيد الله بن يحيى قد أعد له قوما في طريقه ليغتالوه عند انصرافه، وقد كان

(9/234)


المتوكل أسمعه وأحفظه قبل انصرافه، ووثب به، فانصرف على غضب، وانصرفنا معه، فلما صار إلى داره أرسل إلى ندمائه وخاصته- وقد كان واعد الأتراك على قتل المتوكل قبل انصرافه إذا ثمل من النبيذ- قال: فلم ألبث أن جاءني الرسول: أن أحضر فقد جاءت رسل أمير المؤمنين إلى الأمير، وهو على الركوب، فوقع في نفسي ما كان دار بيننا أنهم على اغتيال المنتصر، وأنه إنما يدعى لذلك، فركبت في سلاح وعدة، وصرت إلى باب الأمير، فإذا هم يموجون، وإذا واجن قد جاءه فأخبره أنه قد فرغ من أمره، فركب فلحقته في بعض الطريق وأنا مرعوب، فرأى ما بي، فقال: ليس عليك! إن أمير المؤمنين قد شرق بقدح شربه بعد انصرافنا، فمات رحمه الله.
فأكبرت ذلك، وشق علي، ومضينا وأحمد بن الخصيب وجماعة من القواد معنا حتى دخلنا الحير، وتتابعت الأخبار بقتل المتوكل، فأخذت الأبواب، ووكل بها، وقلت: يا أمير المؤمنين، وسلمت عليه بالخلافة، وقلت:
لا ينبغي أن نفارقك لموضع الشفقة عليك من مواليك في هذا الوقت، قال:
أجل، فكن أنت من ورائي وسليمان الرومي وألقي منديل، فجلس عليه، وأحطنا به، وحضر أحمد بن الخصيب وكاتبه سعيد بن حميد لأخذ البيعة.
فذكر عن سعيد بن حميد ان احمد بن الخصيب، قال له: ويلك يا سعيد! معك كلمتان أو ثلاث تأخذ بها البيعة، قلت: نعم، وكلمات وعملت كتاب البيعة، وأخذتها على من حضر وكل من جاء حتى جاء سعيد الكبير، فأرسله إلى المؤيد، وقال لسعيد الصغير: امض أنت إلى المعتز حتى تحضره، قال سعيد الصغير: فقلت: أما ما دمت يا أمير المؤمنين في قلة ممن معك فلا أبرح والله من وراء ظهرك، حتى يجتمع الناس.
قال أحمد بن الخصيب: هاهنا من يكفيك، فامض، فقلت: لا أمضي حتى يجتمع من يكفي، فإني الساعة أولى به منك! فلما كثر القواد، وبايعوا، ومضيت وأنا آيس من نفسي، ومعي غلامان، فلما صرت إلى باب أبي نوح،

(9/235)


والناس يموجون ويذهبون ويجيئون، وإذا على الباب جمع كبير في سلاح وعدة، فلما أحسوا بي لحقني فارس منهم، فسألني وهو لا يعرفني: من أنت؟
فعميت عليه خبري، وأخبرته أني من بعض أصحاب الفتح، ومضيت حتى صرت إلى باب المعتز، فلم أجد به أحدا من الحرس والبوابين والمكبرين ولا خلقا من خلق الله حتى صرت إلى الباب الكبير، فدققته دقا عنيفا مفرطا، فأجبت بعد مدة طويلة، فقيل لي: من هذا؟ فقلت: سعيد الصغير، رسول أمير المؤمنين المنتصر، فمضى الرسول، وأبطأ علي، وأحسست بالمنكر وضاقت علي الأرض ثم فتح الباب فإذا ببيدون الخادم قد خرج، وقال لي: ادخل وأغلق الباب دوني، فقلت: ذهبت والله نفسي، ثم سألني عن الخبر، فأخبرته أن أمير المؤمنين شرق بكأس شربها ومات من ساعته، وأن الناس قد اجتمعوا وبايعوا المنتصر، وأنه أرسلني إلى الأمير أبي عبد الله المعتز بالله ليحضر البيعة فدخل ثم خرج إلي، فقال: ادخل، فدخلت على المعتز، فقال لي: ويلك يا سعيد! ما الخبر؟ فأخبرته بمثل ما أخبرت به بيدون، وعزيته وبكيت، وقلت: تحضر يا سيدي، وتكون في أوائل من بايع، فتستدعي بذلك قلب أخيك، فقال لي: ويلك حتى نصبح! فما زلت افتله في الحبل والغارب، ويعينني عليه بيدون الخادم، حتى تهيأ للصلاة، ودعا بثيابه فلبسها، وأخرج له دابة، وركب وركبت معه، وأخذت طريقا غير طريق الجادة، وجعلت أحدثه وأسهل الأمر عليه، وأذكره أشياء يعرفها من أخيه، حتى إذا صرنا إلى باب عبيد الله بن يحيى بن خاقان سألني عنه، فقلت:
هو يأخذ البيعه على الناس، والفتح قد بايع، فيئس حينئذ، وإذا بفارس قد لحق بنا، وصار إلى بيدون الخادم، فساره بشيء لا أعلمه، فصاح به بيدون، فمضى ثم رجع ثلاثا، كل ذلك يرده بيدون ويصيح به: دعنا، حتى وافينا باب الحير فاستفتحه فقيل لي: من أنت؟ قلت: سعيد الصغير والأمير المعتز، ففتح لي الباب، وصرنا إلى المنتصر، فلما رآه قربه وعانقه وعزاه، وأخذ البيعة عليه، ثم وافى المؤيد مع سعيد الكبير، ففعل به مثل

(9/236)


ذلك، وأصبح الناس، وصار المنتصر إلى الجعفري فأمر بدفن المتوكل والفتح، وسكن الناس، فقال سعيد الصغير: ولم أزل أطالب المعتز بالبشرى بخلافة المنتصر وهو محبوس في الدار، حتى وهب لي عشره آلاف درهم.
[أخبار متفرقة]
وفي هذه السنه خلع المعتز والمؤيد أنفسهما، واظهر خلعهما في القصر الجعفري المحدث وكانت نسخة البيعة التي أخذت للمنتصر:
بسم الله الرحمن الرحيم تبايعون عبد الله المنتصر بالله أمير المؤمنين بيعة طوع واعتقاد ورضا، ورغبة بإخلاص من سرائركم، وانشراح من صدوركم، وصدق من نياتكم، لا مكرهين ولا مجبرين، بل مقرين عالمين بما في هذه البيعة وتأكيدها من طاعة الله وتقواه، وإعزاز دين الله وحقه، ومن عموم صلاح عباد الله، واجتماع الكلمة، ولم الشعث، وسكون الدهماء، وأمن العواقب، وعز الأولياء، وقمع الملحدين، على أن محمدا الإمام المنتصر بالله عبد الله وخليفته المفترض عليكم طاعته ومناصحته والوفاء بحقه وعقده، لا تشكون ولا تدهنون، ولا تميلون ولا ترتابون، وعلى السمع له، والطاعة والمسالمة، والنصرة والوفاء والاستقامة، والنصيحة في السر والعلانية، والخفوف والوقوف عند كل ما يأمر به عبد الله الإمام المنتصر بالله أمير المؤمنين، وعلى أنكم أولياء أوليائه، وأعداء أعدائه، من خاص وعام، وأبعد وأقرب، وتتمسكون ببيعته بوفاء العقد، وذمة العهد، سرائركم في ذلك مثل علانيتكم، وضمائركم مثل ألسنتكم، راضين بما يرضاه لكم أمير المؤمنين في عاجلكم وآجلكم وعلى إعطائكم أمير المؤمنين بعد تجديدكم بيعته هذه على أنفسكم، وتأكيدكم إياها في أعناقكم، صفقة أيمانكم، راغبين طائعين، عن سلامة من قلوبكم وأهوائكم ونياتكم، وعلى ألا تسعوا في نقض شيء مما أكد الله عليكم، وعلى ألا يميل بكم مميل في ذلك عن نصرة وإخلاص، ونصح وموالاة، وعلى ألا تبدلوا، ولا يرجع منكم راجع عن نيته، وانطوائه إلى غير علانيته، وعلى أن تكون

(9/237)


بيعتكم التي أعطيتم بها ألسنتكم وعهودكم بيعة يطلع الله من قلوبكم على اجتبائها واعتقادها، وعلى الوفاء بذمته بها، وعلى إخلاصكم في نصرتها وموالاة أهلها، لا يشوب ذلك منكم دغل ولا إدهان ولا احتيال ولا تأول، حتى تلقوا الله، موفين بعهده، ومؤدين حقه عليكم، غير مستشرفين ولا ناكثين، إذ كان الذين يبايعون منكم أمير المؤمنين إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ، يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ، فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ، وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً.
عليكم بذلك وبما أكدت هذه البيعة في أعناقكم، وأعطيتم بها من صفقة أيمانكم، وبما اشترط عليكم بها من وفاء ونصر، وموالاة واجتهاد ونصح، وعليكم عهد الله، إن عهده كان مسئولا، وذمة الله وذمة رسوله وأشد ما أخذ على أنبيائه ورسله، وعلى أحد من عباده من متأكد وثائقه، أن تسمعوا ما أخذ عليكم في هذه البيعة ولا تبدلوا، وأن تطيعوا ولا تعصوا، وأن تخلصوا ولا ترتابوا، وأن تتمسكوا بما عاهدتم عليه تمسك أهل الطاعة بطاعتهم وذوي العهد والوفاء بوفائهم وحقهم، لا يلفتكم عن ذلك هوى ولا مميل، ولا يزيغ بكم فيه ضلال عن هدى، باذلين في ذلك أنفسكم واجتهادكم، ومقدمين فيه حق الدين والطاعة بما جعلتم على أنفسكم، لا يقبل الله منكم في هذه البيعة إلا الوفاء بها.
فمن نكث منكم ممن بايع أمير المؤمنين هذه البيعة عما أكد عليه مسرا أو معلنا، أو مصرحا أو محتالا، فأدهن فيما أعطى الله من نفسه، وفيما أخذت به مواثيق أمير المؤمنين، وعهود الله عليه، مستعملا في ذلك الهوينى دون الجد، والركون إلى الباطل دون نصرة الحق، وزاغ عن السبيل التي يعتصم بها أولو الوفاء منهم بعهودهم، فكل ما يملك كل واحد ممن خان في ذلك بشيء نقض عهده من مال أو عقار أو سائمة، أو زرع أو ضرع صدقة على المساكين في وجوه سبيل الله، محرم عليه أن يرجع شيء من ذلك إلى ماله عن حيلة يقدمها لنفسه أو يحتال بها وما أفاد في بقية عمره من فائدة مال يقل خطرها أو يجل قدرها، فتلك سبيله إلى أن توافيه منيته، ويأتي عليه أجله، وكل مملوك يملكه اليوم إلى ثلاثين سنة من ذكر أو أنثى أحرار لوجه الله، ونساؤه

(9/238)


في يوم يلزمه الحنث، ومن يتزوجه بعدهن إلى ثلاثين سنة طوالق البتة طلاق الحرج والسنة، لا مثنوية فيه ولا رجعة وعليه المشي إلى بيت الله الحرام ثلاثين حجة، لا يقبل الله منه إلا الوفاء بها، وهو بريء من الله ورسوله، والله ورسوله منه بريئان، ولا قبل الله منه صرفا ولا عدلا، والله عليكم بذلك شهيد، وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً.
* وذكر أنه لما كانت صبيحة اليوم الذي بويع فيه المنتصر شاع الخبر في الماحوزة- وهي المدينة التي كان جعفر بناها في أهل سامرا- بقتل جعفر، وتوافى الجند والشاكرية بباب العامة بالجعفري وغيرهم من الغوغاء والعوام، وكثر الناس وتسامعوا، وركب بعضهم بعضا، وتكلموا في أمر البيعة، فخرج إليهم عتاب بن عتاب- وقيل: إن الذي خرج إليهم زرافة- فأبلغهم عن المنتصر ما يحبون، فاسمعوه، فدخل إلى المنتصر فأخبره، فخرج وبين يديه جماعة من المغاربة، فصاح بهم: يا كلاب! خذوهم، فحملوا على الناس فدفعوهم إلى الثلاثة الأبواب، فازدحم الناس ووقع بعضهم على بعض، ثم تفرقوا عن عدة قد ماتوا من الزحمة والدوس، فمنهم من ذكر أنهم كانوا ستة نفر، ومنهم من قال: كانوا ما بين الثلاثة إلى الستة.
وفيها ولي المنتصر أبا عمرة أحمد بن سعيد- مولى بني هاشم، بعد البيعة له بيوم- المظالم، فقال قائل:
يا ضيعة الإسلام لما ولي ... مظالم الناس أبو عمره
صير مأمونا على أمة ... وليس مأمونا على بعره
وفي ذي الحجة من هذه السنة أخرج المنتصر علي بن المعتصم من سامرا إلى بغداد ووكل به.
وحج بالناس فيها محمد بن سليمان الزينبي.

(9/239)


ثم دخلت

سنة ثمان وأربعين ومائتين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)

ذكر غزاه وصيف التركى الروم
فمن ذلك ما كان من إغزاء المنتصر وصيفا التركي صائفة أرض الروم.
ذكر الخبر عن سبب ذلك، وما كان في ذلك من وصيف:
ذكر أن السبب في ذلك أنه كان بين أحمد بن الخصيب ووصيف شحناء وتباغض، فلما استخلف المنتصر، وابن الخصيب وزيره، حرض أحمد بن الخصيب المنتصر على وصيف، وأشار عليه بإخراجه من عسكره غازيا إلى الثغر، فلم يزل به حتى أحضره المنتصر، فأمره بالغزو.
وقد ذكر عن المنتصر أنه لما عزم على أن يغزي وصيفا الثغر الشامي، قال له أحمد بن الخصيب: ومن يجترئ على الموالي حتى تأمر وصيفا بالشخوص! فقال المنتصر لبعض من الحجبة: ائذن لمن حضر الدار، فاذن لهم وفيهم وصيف، فأقبل عليه، فقال له: يا وصيف، أتانا عن طاغية الروم أنه أقبل يريد الثغور، وهذا أمر لا يمكن الإمساك عنه، فإما شخصت وإما شخصت، فقال وصيف:
بل أشخص يا أمير المؤمنين، قال: يا أحمد، انظر ما يحتاج إليه على أبلغ ما يكون فأقمه له قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: ما نعم! قم الساعة لذلك، يا وصيف مر كاتبك يوافقه على ما يحتاج إليه، ويلزمه حتى يزيح علتك فيه فقام أحمد بن الخصيب، وقام وصيف، فلم يزل في جهازه حتى خرج، فما أفلح ولا أنجح.
وذكر أن المنتصر لما أحضر وصيفا وأمره بالغزو، قال له: إن الطاغية- يعني ملك الروم- قد تحرك، ولست آمنه أن يهلك كل ما يمر به من بلاد

(9/240)


الإسلام، ويقتل ويسبي الذراري، فإذا غزوت وأردت الرجعة انصرفت إلى باب أمير المؤمنين من فورك وأمر جماعة من القواد وغيرهم بالخروج معه وانتخب له الرجال، فكان معه من الشاكرية والجند والموالي زهاء عشرة آلاف رجل، فكان على مقدمته في بدأته مزاحم بن خاقان، أخو الفتح بن خاقان، وعلى الساقة محمد بن رجاء، وعلى الميمنة السندي بن بختاشة، وعلى الدراجة نصر بن سعيد المغربي، واستعمل على الناس والعسكر أبا عون خليفته، وكان على الشرطة بسامرا.
وكتب المنتصر عند إغزائه وصيفا مولاه إلى محمد بن عبد الله بن طاهر كتابا نسخته:
بسم اللَّه الرحمن الرحيم: من عبد اللَّه محمد المنتصر بالله أمير المؤمنين إلى محمد بْن عبد الله مولى أمير المؤمنين.
سلام عليك، فإن أمير المؤمنين يحمد إليك اللَّه الَّذِي لا إله إلا هُوَ، ويسأله أن يصلي على محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله أما بعد:
فإن الله وله الحمد على آلائه، والشكر بجميل بلائه، اختار الإسلام وفضله، وأتمه وأكمله، وجعله وسيلة إلى رضاه ومثوبته، وسبيلا نهجا إلى رحمته، وسببا إلى مذخور كرامته، فقهر له من خالفه، وأذل له من عند عن حقه، وابتغى غير سبيله، وخصه بأتم الشرائع وأكملها، وأفضل الأحكام وأعدلها، وبعث به خيرته من خلقه وصفوته من عباده محمدا صلى الله عليه وسلم، وجعل الجهاد أعظم فرائضه منزلة عنده، وأعلاها رتبة لديه، وأنجحها وسيلة إليه، لأن الله عز وجل أعز دينه، وأذل عتاة الشرك، قال عز وجل أمرا بالجهاد، ومفترضا له: «انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» ، وليست تمضي بالمجاهد في سبيل الله حال لا يكابد في الله نصبا ولا أذى، ولا ينفق نفقة ولا يقارع عدوا، ولا يقطع بلدا، ولا يطأ أرضا، إلا وله بذلك امر

(9/241)


مكتوب، وثواب جزيل، وأجر مأمول، قال الله عز وجل: «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ.
» ثم أثنى عز وجل بفضل منزلة المجاهدين على القاعدين عنده، وما وعدهم من جزائه ومثوبته، وما لهم من الزلفى عنده، فقال: «لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً» فبالجهاد اشترى الله من المؤمنين أنفسهم وأموالهم، وجعل جنته ثمنا لهم، ورضوانه جزاء لهم على بذلها، وعدا منه حقا لا ريب فيه، وحكما عدلا لا تبديل له، قال الله عز وجل: «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» وحكم الله عز وجل لإحياء المجاهدين بنصره، والفوز برحمته، وأشهد لموتاهم بالحياة الدائمة، والزلفى لديه، والحظ الجزيل من ثوابه، فقال:
«وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا

(9/242)


بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ.
» وليس من شيء يتقرب به المؤمنون إلى الله عز وجل من أعمالهم، ويسعون به في حط أوزارهم، وفكاك رقابهم، ويستوجبون به الثواب من ربهم، إلا والجهاد عنده أعظم منه منزلة، وأعلى لديه رتبة، وأولى بالفوز في العاجلة والآجلة، لان اهله بذلوا الله أنفسهم، لتكون كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا، وسمحوا بها دون من وراءهم من إخوانهم وحريم المسلمين وبيضتهم، ووقموا بجهادهم العدو.
وقد رأى أمير المؤمنين- لما يحبه من التقرب إلى الله بجهاد عدوه، وقضاء حقه عليه فيما استحفظه من دينه، والتماس الزلفى له في إعزاز أوليائه، وإحلال البأس والنقمة بمن حاد عن دينه، وكذب رسله، وفارق طاعته- أن ينهض وصيفا مولى أمير المؤمنين في هذا العام إلى بلاد أعداء الله الكفرة والروم، غازيا لما عرف الله أمير المؤمنين من طاعته ومناصحته ومحمود نقيبته وخلوص نيته، في كل ما قربه من الله ومن خليفته.
وقد رأى أمير المؤمنين- والله ولي معونته وتوفيقه- أن تكون موافاة وصيف فيمن أنهض أمير المؤمنين معه من مواليه وجنده وشاكريته ثغر ملطية لاثنتي عشرة ليلة تخلو من شهر ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين ومائتين، وذلك من شهور العجم للنصف من حزيران ودخوله بلاد أعداء الله في أول يوم من تموز، فاعلم ذلك واكتب إلى عمالك على نواحي عملك بنسخة كتاب أمير المؤمنين هذا، ومرهم بقراءته على من قبلهم من المسلمين وترغيبهم في الجهاد، وحثهم عليه واستنفارهم إليه، وتعريفهم ما جعل الله من الثواب لأهله، ليعمل ذوو النيات والحسبة والرغبة في الجهاد على حسب ذلك في النهوض إلى عدوهم والخفوف إلى معاونة إخوانهم والذياد عن دينهم والرمي من وراء حوزتهم بموافاة عسكر وصيف مولى أمير المؤمنين ملطية في الوقت الذي حده أمير المؤمنين لهم إن شاء الله والسلام عليك ورحمة الله وبركاته وكتب أحمد بن الخصيب لسبع ليال خلون من المحرم سنة ثمان وأربعين

(9/243)


ومائتين، وصير على ما ذكر على نفقات عسكر وصيف والمغانم والمقاسم المعروف بأبي الوليد الجريري البجلي.
وكتب معه المنتصر كتابا إلى وصيف يأمره بالمقام ببلاد الثغر إذا هو انصرف من غزاته أربع سنين، يغزو في أوقات الغزو منها إلى أن يأتيه رأي امير المؤمنين.

ذكر خبر خلع المعتز والمؤيد أنفسهما
وفي هذه السنه خلع المعتز والمؤيد أنفسهما، وأظهر المنتصر خلعهما في القصر الجعفري المحدث.
ذكر الخبر عن خلعهما أنفسهما:
ذكر أن محمدا المنتصر بالله لما استقامت له الأمور، قال أحمد بن الخصيب لوصيف وبغا: إنا لا نأمن الحدثان، وأن يموت أمير المؤمنين، فيلي الأمر المعتز، فلا يبقي منا باقية، ويبيد خضراءنا، والرأي أن نعمل في خلع هذين الغلامين قبل أن يظفرا بنا فجد الأتراك في ذلك، وألحوا على المنتصر وقالوا: يا أمير المؤمنين، تخلعهما من الخلافة، وتبايع لابنك عبد الوهاب، فلم يزالوا به حتى فعل، ولم يزل مكرما المعتز والمؤيد، على ميل منه شديد إلى المؤيد، فلما كان بعد أربعين يوما من ولايته، أمر بإحضار المعتز والمؤيد بعد انصرافهما من عنده، فأحضرا وجعلا في دار، فقال المعتز للمؤيد: يا أخي، لم ترانا أحضرنا؟ فقال: يا شقي، للخلع! فقال: لا أظنه يفعل بنا ذلك، فبينا هم كذلك، إذ جاءهم الرسل بالخلع، فقال المؤيد: السمع والطاعة، وقال المعتز:
ما كنت لأفعل، فإن أردتم القتل فشأنكم، فرجعوا إليه، فأعلموه ثم عادوا بغلظة شديدة، فأخذوا المعتز بعنف، وأدخلوه إلى بيت، وأغلقوا عليه الباب.
فذكر عن يعقوب بن السكيت، أنه قال: حدثني المؤيد، قال: لما رأيت ذلك قلت لهم بجرأة واستطالة: ما هذا يا كلاب! فقد ضريتم على دمائنا، تثبون على مولاكم هذا الوثوب! اعزبوا قبحكم الله! دعوني اكلمه، فكاعوا

(9/244)


عن جوابي بعد تسرع كان منهم، وأقاموا ساعة، ثم قالوا لي: القه إن أحببت، فظننت أنهم استأمروا، فقمت إليه، فإذا هو في البيت يبكي، فقلت: يا جاهل، تراهم قد نالوا من أبيك- وهو هو- ما نالوا، ثم تمتنع عليهم! اخلع ويلك ولا تراجعهم!، قال: سبحان الله! أمر قد مضيت عليه، وجرى في الآفاق أخلعه من عنقي! فقلت: هذا الأمر قتل أباك، فليته لا يقتلك! اخلعه ويلك! فو الله لئن كان في سابق علم الله أن تلي لتلين.
قال: أفعل قال: فخرجت فقلت: قد أجاب، فأعلموا أمير المؤمنين، فمضوا ثم عادوا فجزوني خيرا، ودخل معهم كاتب قد سماه، ومعه دواة وقرطاس، فجلس، ثم أقبل على أبي عبد الله، فقال: اكتب بخطك خلعك، فتلكأ، فقلت للكاتب: هات قرطاسا، أملل ما شئت، فأملى علي كتابا إلى المنتصر، أعلمه فيه ضعفي عن هذا الأمر، وأني علمت أنه لا يحل أن أتقلده، وكرهت أن يأثم المتوكل بسببي إذ لم أكن موضعا له، وأسأله الخلع، وأعلمه أني خلعت نفسي، وأحللت الناس من بيعتي فكتبت كل ما أراد، ثم قلت: اكتب يا أبا عبد الله، فامتنع، فقلت: اكتب ويلك! فكتب وخرج الكاتب عنا، ثم دعانا فقلت: نجدد ثيابنا أو نأتي في هذه؟ فقال:
بل جددا، فدعوت بثياب فلبستها، وفعل أبو عبد الله كذلك، وخرجنا فدخلنا، وهو في مجلسه، والناس على مراتبهم، فسلمنا فردوا، وأمر بالجلوس، ثم قال: هذا كتابكما؟ فسكت المعتز، فبدرت فقلت: نعم يا أمير المؤمنين! هذا كتابي بمسألتي ورغبتي، وقلت للمعتز: تكلم، فقال مثل ذلك، ثم أقبل علينا والأتراك وقوف، وقال: أترياني خلعتكما طمعا في أن أعيش حتى يكبر ولدي وأبايع له! والله ما طمعت في ذلك ساعة قط، وإذا لم يكن في ذلك طمع، فو الله لأن يليها بنو أبي أحب إلي من ان يليها بنو عمى، ولكن

(9/245)


هؤلاء- واما إلى سائر الموالي ممن هو قائم وقاعد- ألحوا علي في خلعكما، فخفت إن لم أفعل أن يعترضكما بعضهم بحديدة، فيأتي عليكما، فما تريانى صانعا! اقتله؟ فو الله ما تفي دماؤهم كلهم بدم بعضكم، فكانت إجابتهم إلى ما سألوا أسهل علي قال: فأكبا عليه، فقبلا يده، فضمهما إليه، ثم انصرفا.
وذكر أنه لما كان يوم السبت لسبع بقين من صفر سنة ثمان وأربعين ومائتين خلع المعتز والمؤيد أنفسهما، وكتب كل واحد منها رقعة بخطه أنه خلع نفسه من البيعة التي بويع له، وأن الناس في حل من حلها ونقضها، وأنهما يعجزان عن القيام بشيء منها، ثم قاما بذلك على رءوس الناس والأتراك والوجوه والصحابة والقضاة، وجعفر بن عبد الواحد قاضي القضاة، والقواد وبني هاشم، وولاة الدواوين والشيعة ووجوه الحرس، ومحمد بن عبد الله بن طاهر، ووصيف وبغا الكبير وبغا الصغير، وجميع من حضر دار الخاصة والعامة، ثم انصرف الناس بعد ذلك.
والنسخة التي كتباها:
بسم الله الرحمن الرحيم: إن أمير المؤمنين المتوكل على الله رضي الله عنه قلدني هذا الأمر، وبايع لي وأنا صغير، من غير إرادتي ومحبتي، فلما فهمت أمري علمت أني لا أقوم بما قلدني، ولا أصلح لخلافة المسلمين، فمن كانت بيعتي في عنقه فهو من نقضها في حل، وقد احللتكم منها، وأبرأتكم من أيمانكم، ولا عهد لي في رقابكم ولا عقد، وأنتم براء من ذلك.
وكان الذي قرأ الرقاع أحمد بن الخصيب ثم قام كل واحد منهما قائما، فقال لمن حضر: هذه رقعتي وهذا قولي، فاشهدوا علي، وقد أبرأتكم من

(9/246)


أيمانكم، وحللتكم منها، فقال لهما المنتصر عند ذلك: قد خار الله لكما وللمسلمين، وقام فدخل وكان قد قعد للناس، وأقعدهما بالقرب منه، فكتب كتابا إلى العمال بخلعهما وذلك في صفر سنة ثمان وأربعين ومائتين.

نسخة كتاب المنتصر بالله إلى أبي العباس محمد بن عبد الله
ابن طاهر مولى أمير المؤمنين في خلع أبي عبد الله المعتز وإبراهيم المؤيد من عبد الله محمد الإمام المنتصر بالله أمير المؤمنين إلى محمد بْن عبد الله مولى أمير المؤمنين، أما بعد، فإن الله وله الحمد على آلائه، والشكر بجميل بلائه، جعل ولاة الأمر من خلفائه القائمين بما بعث به رسوله ص والذابين عن دينه، والداعين إلى حقه والممضين لأحكامه، وجعل ما اختصهم به من كرامته قواما لعباده، وصلاحا لبلاده، ورحمه غمر بها خلقه وافترض طاعتهم، ووصلها بطاعته وطاعة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وأوجبها في محكم تنزيله، لما جمع فيها من سكون الدهماء، واتساق الأهواء، ولم الشعث، وأمن السبل، ووقم العدو، وحفظ الحريم، وسد الثغور، وانتظام الأمور، فقال: «أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» ، فمن الحق على خلفاء الله الذين حباهم بعظيم نعمته، واختصهم بأعلى رتب كرامته، واستحفظهم فيما جعله وسيلة إلى رحمته، وسببا لرضاه ومثوبته، لأن يؤثروا طاعته في كل حال تصرفت بهم، ويقيموا حقه في أنفسهم والأقرب فالأقرب منهم، وأن يكون محلهم من الاجتهاد في كل ما قرب من الله عز وجل حسب موقعهم من الدين وولاية أمر المسلمين.
وأمير المؤمنين يسأل الله مسألة رغبة إليه، وتذللا لعظمته، أن يتولاه فيما استرعاه ولاية يجمع له بها صلاح ما قلده، ويحمل عنه أعباء ما حمله، ويعينه بتوفيقه

(9/247)


على طاعته، أنه سميع قريب.
وقد علمت ما حضرت من رفع أبي عبد الله وإبراهيم ابني أمير المؤمنين المتوكل على الله رضي الله عنه إلى أمير المؤمنين رقعتين بخطوطهما، يذكران فيهما ما عرفهما الله من عطف أمير المؤمنين عليهما، ورأفته بهما، وجميل نظره لهما، وما كان أمير المؤمنين المتوكل على الله عقده لأبي عبد الله من ولاية عهد أمير المؤمنين ولإبراهيم من ولاية العهد بعد أبي عبد الله وإن ذلك العقد كان وأبو عبد الله طفل لم يبلغ ثلاث سنين، ولم يفهم ما عقد له ولا وقف على ما قلده، وإبراهيم صغير لم يبلغ الحلم، ولم يجر أحكامهما ولا جرت أحكام الإسلام عليهما، وإنه قد يجب عليهما إذ بلغا ووقفا على عجزهما عن القيام بما عقد لهما من العهد، وأسند إليهما من الأعمال أن ينصحا لله ولجماعة المسلمين، بأن يخرجا من هذا الأمر الذي عقد لهما أنفسهما، ويعتزلا الأعمال التي قلداها، ويجعلا كل من في عنقه لهما بيعة وعليه يمين في حل، إذ كانا لا يقومان بما رشحا له، ولا يصلحان لتقلده، وأن يخرج من كان ضم إليهما ممن في نواحيهما من قواد أمير المؤمنين ومواليه وغلمانه وجنده وشاكريته وجميع من مع أولئك القواد بالحضرة وخراسان وسائر النواحي عن رسومهما، ويزال عنهم جميعا ذكر الضم إليهما، وأن يكونا سوقة من سوق المسلمين وعامتهم، ويصفان ما لم يزالا يذكران لأمير المؤمنين من ذلك، ويسألانه فيه، منذ أفضى الله بخلافته إليه، وانهما قد خلعا أنفسهما من ولاية العهد، وخرجا منها، وجعلا كل من لهما عليه بيعة ويمين من قواد أمير المؤمنين وجميع أوليائه ورعيته، قريبهم وبعيدهم، وحاضرهم وغائبهم، في حل وسعة من بيعتهم وأيمانهم، ليخلعوهما كما خلعا أنفسهما.
وجعلا لأمير المؤمنين على أنفسهما عهد الله، وأشد ما أخذ على ملائكته وأنبيائه وعباده من عهد وميثاق، وجميع ما أكده أمير المؤمنين عليهما من الأيمان، بإقامتهما على طاعته ومناصحته وموالاته في السر والعلانية، ويسألان أمير المؤمنين

(9/248)


أن يظهر ما فعلاه، وينشره، ويحضر جميع أوليائه، ليسمعوا ذلك منهما طالبين راغبين، طائعين غير مكرهين ولا مجبرين، ويقرأ عليهم الرقعتان اللتان رفعاهما بخطوطهما، بما ذكرا من وقوع الأمر لهما من ولاية العهد، وهما صبيان، وخلعهما أنفسهما بعد بلوغهما، وما سألا من صرفهما عن الأعمال التي يتوليانها وإخراج من كان بها ممن ضم إليهما في نواحيهما من قواد أمير المؤمنين وجنده وغلمانه وشاكريته وجميع من مع أولئك القواد بالحضرة وخراسان وسائر النواحي عن رسومهما وإزالة ذكر الضم إليهما عنهم، وأن يكتب بالكتاب بذلك إلى جميع عمال النواحي وإن أمير المؤمنين وقف على صدقهما فيما ذكرا ورفعا، وتقدم في إحضار جميع إخوته ومن بحضرته من أهل بيته وقواده ومواليه وشيعته ورؤساء جنده وشاكريته وكتابه وقضاته والفقهاء وغيرهم، وسائر أوليائه الذين كانت وقعت البيعة لهما بذلك عليهم وحضر أبو عبد الله وإبراهيم ابنا أمير المؤمنين المتوكل على الله رضي الله عنه، وقرئت رقعتاهما بخطوطهما بحضرتهما، إلى مجلس أمير المؤمنين عليهما وعلى جميع من حضر، وأعادا من القول بعد قراءة الرقعتين مثل الذي كتبا به ورأى أمير المؤمنين أن يجمع في إجابتهما إلى نشر ما فعلاه وإظهاره، وإمضائه ذلك، قضاء حقوق ثلاثة: منها حق الله عز وجل فيما استحفظه من خلافته، وأوجب عليه من النظر لأوليائه فيما يجمع لهم كلمتهم في يومهم وغدهم، ويؤلف بين قلوبهم ومنها حق الرعية الذين هم ودائع الله عنده حتى يكون المتقلد لأمورهم ممن يراعيهم آناء الليل والنهار بعنايته ونظره وتفقده وعدله ورأفته، ومن يقوم بأحكام الله في خلقه، ومن يضطلع بثقل السياسة وصواب التدبير ومنها حق أبي عبد الله وإبراهيم فيما يوجبه أمير المؤمنين لهما بأخوتهما وماس رحمهما، لأنهما لو أقاما على ما خرجا منه، لم

(9/249)


يؤمن أن يؤدي ذلك إلى ما يعظم في الدين ضرره، ويعم المسلمين مكروهه، ويرجع عليهما عظيم الوزر فيه، فخلعهما أمير المؤمنين إذ خلفا أنفسهما من ولاية العهد، وخلعهما جميع إخوة أمير المؤمنين ومن بحضرته، من أهل بيته، وخلعهما جميع من حضر من قواد أمير المؤمنين ومواليه وشيعته ورؤساء جنده وشاكريته وكتابه وقضاته والفقهاء وغيرهم من سائر أولياء أمير المؤمنين، الذين كانت أخذت لهما البيعة عليهم وأمر أمير المؤمنين بإنشاء الكتب بذلك إلى جميع العمال، ليتقدموا في العمل بحسب ما فيها، ويخلعوا أبا عبد الله وإبراهيم من ولاية العهد، إذ كانا قد خلعا أنفسهما من ذلك، وحللا الخاص والعام، والحاضر والغائب، والداني والقاصي منه، ويسقطوا ذكرهما بولاية العهد، وذكر ما نسبا إليه من نسب ولاية العهد من المعتز بالله والمؤيد بالله من كتبهم وألفاظهم، والدعاء لهما على المنابر، ويسقطوا كل ما ثبت في دواوينهم من رسومهما القديمة والحديثة الواقعة على من كان مضموما إليهما، ويزيلوا ما على الأعلام والمطارد من ذكرهما، وما وسمت به دواب الشاكرية والرابطة من أسمائهما ومحلك من أمير المؤمنين وحالك عنده على حسب ما أخلص الله لأمير المؤمنين من طاعتك ومناصحتك، وموالاتك ومشايعتك، ما أوجب الله لك بسلفك ونفسك، وما عرف الله أمير المؤمنين من طاعتك ويمن نقيبتك، واجتهادك في قضاء الحق وقد أفردك أمير المؤمنين بقيادتك، وإزالة الضم إلى أبي عبد الله عنك وعمن في ناحيتك بالحضرة وسائر النواحي.
ولم يجعل أمير المؤمنين بينك وبينه احد يرؤسك، وخرج أمره بذلك إلى ولاة دواوينه.
فاعلم ذلك واكتب إلى عمالك بنسخة كتاب أمير المؤمنين هذا إليك، وأوعز إليهم في العمل على حسبه إن شاء الله، والسلام

(9/250)


وكتب أحمد بن الخصيب يوم السبت لعشر بقين من صفر سنة ثمان وأربعين ومائتين.

ذكر الخبر عن وفاه المنتصر
وفي هذه السنة توفي المنتصر.
ذكر الخبر عن العلة التي كانت فيها وفاته والوقت الذي توفي فيه وقدر المدة التي كانت فيها حياته:
فأما العلة التي كانت بها وفاته، فإنه اختلف فيها، فقال بعضهم:
أصابته الذبحة في حلقه يوم الخميس لخمس بقين من شهر ربيع الأول، ومات مع صلاة العصر من يوم الأحد لخمس ليال خلون من شهر ربيع الآخر.
وقيل: توفي يوم السبت وقت العصر لأربع خلون من شهر ربيع الآخر، وإن علته كانت من ورم في معدته، ثم تصعد إلى فؤاده فمات، وإن علته كانت ثلاثة أيام أو نحوها.
وحدثني بعض أصحابنا انه كان وجد حرارة، فدعا بعض من كان يتطبب له، وأمره بفصده، ففصده بمبضع مسموم، فكان فيه منيته، وإن الطبيب الذي فصده انصرف إلى منزله، وقد وجد حرارة، فدعا تلميذا له، فأمره بفصده ووضع مباضعه بين يديه ليتخير أجودها، وفيها المبضع المسموم الذي فصد به المنتصر، وقد نسيه فلم يجد التلميذ في المباضع التي وضعت بين يديه مبضعا أجود من المبضع المسموم، ففصد به أستاذه وهو لا يعلم أمره، فلما فصده به نظر إليه صاحبه فعلم أنه هالك، فأوصى من ساعته، وهلك من يومه

(9/251)


وقد ذكر أنه وجد في رأسه علة فقطر ابن الطيفوري في أذنه دهنا، فورم رأسه، وعوجل فمات وقد قيل: إن ابن الطيفورى انما سمه في محاجمه.
قال ابو جعفر: ولم أزل أسمع الناس حين أفضت إليه الخلافة من لدن ولي إلى أن مات يقولون: إنما مدة حياته ستة أشهر، مدة شيرويه ابن كسرى قاتل أبيه، مستفيضا ذلك على ألسن العامة والخاصة.
وذكر عن يسر الخادم، وكان- فيما ذكر- يتولى بيت المال للمنتصر في أيام إمارته، أنه قال: كان المنتصر يوما من الأيام في خلافته نائما في إيوانه، فانتبه وهو يبكى وينتخب، قال: فهبته أن أسأله عن بكائه، ووقفت وراء الباب، فإذا عبد الله بن عمر البازيار قد وافى فسمع نحيبه وشهيقه، فقال لي: ما له؟ ويحك يا يسر! فأعلمته أنه كان نائما فانتبه باكيا، فدنا منه، فقال له: ما لك يا أمير المؤمنين تبكي لا أبكى الله عينك؟! قال:
ادن مني يا عبد الله، فدنا منه فقال له: كنت نائما، فرأيت فيما يرى النائم كأن المتوكل قد جاءني، فقال لي: ويلك يا محمد! قتلتني وظلمتني وغبنتنى في خلافتي، والله لا تمتعت بها بعدي إلا أياما يسيرة، ثم مصيرك إلى النار.
فانتبهت، وما أملك عيني ولا جزعي فقال له عبد الله: هذه رؤيا، وهي تصدق وتكذب، بل يعمرك ويسرك الله، فادع الآن بالنبيذ، وخذ في اللهو، ولا تعبأ بالرؤيا قال: ففعل ذلك، وما زال منكسرا إلى أن توفي.
وذكر أن المنتصر كان شاور في قتل أبيه جماعة من الفقهاء، وأعلمهم بمذاهبه، وحكي عنه أمورا قبيحة كرهت ذكرها في الكتاب، فأشاروا عليه بقتله، فكان من أمره ما ذكرنا بعضه.
وذكر عنه أنه لما اشتدت به علته، خرجت إليه أمه فسألته عن حاله، فقال: ذهبت والله مني الدنيا والآخرة.
قال ابراهيم بن جيش: حدثنى موسى بن عيسى الكاتب، كاتب عمى يعقوب وابن عمى يزيد، ان المنتصر لما افضت الخلافه اليه، كان يكثر إذا سكر قتل ابيه المتوكل، ويقول في الاتراك: هؤلاء قتله الخلفاء، ويذكر من ذلك ما تخوفوه، فجعلوا الخادم له ثلاثين الف دينار على ان يحتال في سمه،

(9/252)


وجعلوا لعلى بن طيفور جمله، وكان المنتصر يكثر اكل الكمثرى إذا قدمت اليه الفاكهة، فعمد ابن طيفور الى كمثراه كبيره نضيجه، فادخل في راسها خلاله، ثم سقاها سما، فجعلها الخادم في اعلى الكمثرى الذى قدمه اليه، فلما نظر إليها المنتصر امره ان يقشرها ويطعمه إياها، فقشرها وقطعها، ثم اعطاه قطعه قطعه حتى اتى عليها، فلما أكلها وجد فتره، فقال لابن طيفور: أجد حراره، فقال: يا امير المؤمنين، احتجم تبرا من عله الدم، وقدر انه إذ خرج الدم قوى عليه السم فحجم فحم، وغلظت علته عليه فتخوف هو والاتراك ان تطول علته، فقال له: يا امير المؤمنين، ان الحجامة لم يكن فيها ما قدرنا في عافيتك، وتحتاج الى الفصد، فانه انجح لما تريد، فقال: افعل، ففصده بمبضع مسموم، ودهش، فالقاه في مباضعه- وكان أحدها وأجودها ثم ان على بن طيفور، وجد حراره، فدعا تلميذا له ليفصده، فنظر في المباضع فلم يجد احد منه، ولا اخير ففصده، فكانت منيته فيه.
وذكر عن ابن دهقانه أنه قال: كنا في مجلس المنتصر يوما بعد ما قتل المتوكل، فتحدث المسدود الطنبوري بحديث، فقال المنتصر: متى كان هذا؟
فقال: ليلة لا ناه ولا زاجر، فأحفظ ذلك المنتصر.
وذكر عن سعيد بن سلمة النصراني أنه قال: خرج علينا أحمد بن الخصيب مسرورا يذكر أن أمير المؤمنين المنتصر رأى في ليلة في المنام، أنه صعد درجة حتى انتهى إلى خمس وعشرين مرقاة منها، فقيل له:
هذا ملكك، وبلغ الخبر ابن المنجم، فدخل عليه محمد بن موسى وعلي بن يحيى المنجم مهنئين له بالرؤيا، فقال: لم يكن الأمر على ما ذكر لكم احمد ابن الخصيب، ولكني حين بلغت أخر المراقي، قيل لي: قف فهذا آخر عمرك، واغتم لذلك غما شديدا، فعاش بعد ذلك أياما تتمة سنة، ثم مات وهو ابن خمس وعشرين سنة وقيل: توفي وهو ابن خمس وعشرين سنة.
وستة أشهر وقيل: بل كان عمره أربعا وعشرين سنة، وكانت مدة خلافته ستة اشهر

(9/253)


في قول بعضهم ويومين.
وقيل: كانت ستة أشهر سواء.
وقيل: كانت مائة يوم وتسعة وسبعين يوما.
وكان وفاته بسامرا بالقصر المحدث، بعد أن أظهر في إخوته ما أظهر بأربع وأربعين ليلة، وذكر أنه لما حضرته الوفاة قال:
فما فرحت نفسي بدنيا أخذتها ... ولكن إلى الرب الكريم أصير
وصلى عليه أحمد بن محمد بن المعتصم بسامرا، وبها كان مولده.
وكان أعين أقنى قصيرا جيد البضعة وكان- فيما ذكر- مهيبا.
وهو أول خليفة من بني العباس- فيما بعد- عرف قبره.
وذلك أن أمه طلبت إظهار قبره وكانت كنيته أبا جعفر واسم أمه حبشية وهي أم ولد رومية
. ذكر بعض سيره
ذكر أن المنتصر لما ولي الخلافة كان أول شيء أحدث من الأمور عزل صالح عن المدينة وتوليه علي بن الحسين بن إسماعيل بن العباس بن محمد إياها، فذكر عن علي بن الحسين، أنه قال: دخلت عليه أودعه، فقال لي:
يا علي، إني أوجهك إلى لحمي ودمي- ومد جلد ساعده- وقال: إلى هذا وجهتك، فانظر كيف تكون للقوم، وكيف تعاملهم! يعني آل أبي طالب، فقلت: أرجو أن أمتثل رأي أمير المؤمنين أيده الله فيهم إن شاء الله، فقال: إذا تسعد بذلك عندي وذكر عن محمد بن هارون، كاتب محمد بن علي برد الخيار وخليفته على ديوان ضياع إبراهيم المؤيد، أنه أصيب مقتولا على فراشه، به عده ضربات

(9/254)


بالسيف، فأحضر ولده خادما أسود كان له ووصيفا، ذكر أن الوصيف أقر على الأسود، فأدخل على المنتصر، وأحضر جعفر بن عبد الواحد، فسئل عن قتله مولاه، فأقر به، ووصف فعله به وسبب قتله إياه، فقال له المنتصر: ويلك! لم قتلته؟ فقال له الأسود: لما قتلت أنت أباك المتوكل! فسأل الفقهاء في أمره، فأشاروا بقتله، فضرب عنقه وصلبه، عند خشبة بابك 4 وفي هذه السنة حكم محمد بن عمرو الشاري، وخرج بناحية الموصل، فوجه إليه المنتصر إسحاق بن ثابت الفرغاني، فأخذه أسيرا مع عدة من أصحابه، فقتلوا وصلبوا 34 وفيها تحرك يعقوب بن الليث الصفار من سجستان، فصار إلى هراة.
وذكر عن أحمد بن عبد الله بن صالح صاحب المصلى أنه قال: كان لأبي مؤذن، فرآه بعض أهلنا في المنام كأنه أذن أذانا لبعض الصلوات، ثم دنا من بيت فيه المنتصر، فنادى: يا محمد، يا منتصر، إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ.
وذكر عن بنان المغني- وكان فيما قيل أخص الناس بالمنتصر في حياة أبيه وبعد ما ولي الخلافة- أنه قال: سألت المنتصر أن يهب لي ثوب ديباج وهو خليفة، فقال: او خير لك من الثوب الديباج؟ قلت: وما هو؟ قال:
تتمارض حتى أعودك، فإنه سيهدى لك أكثر من الثوب الديباج، قال: فمات في تلك الأيام، ولم يهب لي شيئا.
وفي هذه السنة بويع بالخلافة أحمد بن محمد بن المعتصم.

(9/255)


خلافة أحمد بن محمد بن المعتصم وهو المستعين ويكنى أبا العباس
ذكر الخبر عن سبب ولايته والوقت الذي بويع له فيه:
ذكر أن المنتصر لما توفي، وذلك يوم السبت عند العصر لأربع خَلَوْنَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الآخَرِ مِنْ سَنَةِ ثمان وأربعين ومائتين، اجتمع الموالي إلى الهاروني يوم الأحد، وفيهم بغا الصغير وبغا الكبير اوتامش ومن معهم، فاستحلفوا قواد الأتراك والمغاربة والأشروسنية- وكان الذى يستحلفهم على بن الحسين ابن عبد الأعلى الإسكافي كاتب بغا الكبير- على ان يرضوا بمن يرضى به بغا الصغير وبغا الكبير اوتامش، وذلك بتدبير أحمد بن الخصيب، فحلف القوم وتشاوروا بينهم، وكرهوا أن يتولى الخلافة أحد من ولد المتوكل، لقتلهم أباه، وخوفهم أن يغتالهم من يتولى الخلافة منهم، فأجمع أحمد بن الخصيب ومن حضر من الموالي على أحمد بن محمد بن المعتصم، فقالوا: لا نخرج الخلافة من ولد مولانا المعتصم، وقد كانوا قبله ذكروا جماعة من بني هاشم، فبايعوه وقت العشاء الآخرة من ليلة الاثنين، لِسِتٍّ خَلَوْنَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الآخَرِ مِنْ السنة، وهو ابن ثمان وعشرين سنة، ويكنى أبا العباس.
فاستكتب أحمد بن الخصيب، واستوزر اوتامش فلما كان يوم الاثنين لست خلون من شهر ربيع الآخر صار إلى دار العامة من طريق العمري بين البساتين، وقد ألبسوه الطويلة وزي الخلافة، وحمل إبراهيم بن إسحاق بين يديه الحربة قبل طلوع الشمس، ووافى واجن الأشروسني باب العامة من طريق الشارع على بيت المال، فصف أصحابه صفين، وقام في الصف هو وعدة من وجوه أصحابه، وحضر الدار أصحاب المراتب من ولد المتوكل والعباسيين والطالبيين وغيرهم ممن لهم مرتبه، فبينا هم كذلك، وقد مضى من النهار ساعة ونصف، جاءت صيحة من ناحية الشارع والسوق، فإذا نحو من خمسين فارسا من الشاكرية، ذكروا أنهم من أصحاب

(9/256)


أبي العباس محمد بن عبد الله، ومعهم قوم من فرسان طبرية وأخلاط من الناس ومعهم من الغوغاء والسوقة نحو من ألف رجل، فشهروا السلاح، وصاحوا:
يا معتز يا منصور، وشدوا على صفي الأشروسنية اللذين صفهما واجن، فتضعضعوا، وانضم بعضهم إلى بعض، ونفر من على باب العامة من المبيضة مع الشاكرية، فكثروا، فشد عليهم المغاربة والأشروسنية، فهزموهم حتى أدخلوهم الدرب الكبير المعروف بزرافة وعزون وحمل قوم منهم على المعتزية، فكشفوهم، حتى جاوزوا بهم دار أخي عزون بن إسماعيل وهم في مضيق الطريق، فوقف المعتزية هنالك، ورمى الأشروسنية عدة منهم بالنشاب، وضربوهم بالسيوف، ونشبت الحرب بينهم، وأقبلت المعتزية والغوغاء يكبرون، فوقعت بينهم قتلى كثيرة، إلى أن مضى من النهار ثلاث ساعات ثم انصرف الأتراك وقد بايعوا أحمد بن محمد بن المعتصم، وانصرفوا مما يلي العمري والبساتين، وأخذ الموالي قبل انصرافهم البيعة على من حضر الدار من الهاشميين وغيرهم وأصحاب المراتب وخرج المستعين من باب العامة منصرفا إلى الهاروني، فبات هنالك ومضى الأشروسنية إلى الهاروني، وقد قتل من الفريقين عدد كثير، ودخل قوم من الأشروسنية دورا، فظفرت بهم الغوغاء، فأخذوا دروعهم وسلاحهم وجواشنهم ودوابهم، ودخل الغوغاء والمنتهبة دار العامة منصرفين إلى الهاروني، فانتهبوا الخزانه التي فيها السلاح والدروع والجواشن واللجم المغربية وأكثروا منها، وربما مر أحدهم بالجواشن والحراب فأكثر، وانتهبوا في دار أرمش ابن أبي أيوب بحضرة أصحاب الفقاع تراس خيزران وقنا بلا أسنة، فكثرت الرماح والتراس في أيدي الغوغاء وأصحاب الحمامات وغلمان الباقلي، ثم جاءتهم جماعة من الأتراك منهم بغا الصغير من درب زرافه، فاحلوهم من الخزانة، وقتلوا منهم عدة، وأمسكوا قليلا ثم انصرف الفريقان، وقد كثرت القتلى بينهم، وأقبل الغوغاء لا يمر أحد من الأتراك من أسافل سامرا يريد باب العامة إلا انتهبوا سلاحه، وقتلوا جماعة منهم عند دار مبارك المغربي، وعند دار حبش

(9/257)


أخي يعقوب قوصرة في شوارع سامرا، وعامة من انتهب- فيما ذكر- هذا السلاح أصحاب الفقاع والناطف وأصحاب الحمامات والسقاءون وغوغاء الأسواق، فلم يزل ذلك أمرهم إلى نصف النهار، وتحرك أهل السجن بسامرا في هذا اليوم، فهرب منهم جماعة، ثم وضع العطاء على البيعة، وبعث بكتاب البيعة إلى محمد بن عبد الله بن طاهر في اليوم الذي بويع له فيه، وكان وصوله إلى محمد في اليوم الثاني، ووافى به أخ لأتامش ومحمد بن عبد الله في نزهة له، فوجه الحاجب إليه، وأعلمه مكانه، فرجع من ساعته، وبعث إلى الهاشميين والقواد والجند، ووضع لهم الأرزاق وورد في هذه السنة على المستعين وفاة طاهر بن عبد الله بن طاهر بخراسان في رجب، فعقد المستعين لابنه محمد بن طاهر بن عبد الله بن طاهر على خراسان، ولمحمد بن عبد الله على العراق، وجعل إليه الحرمين والشرطة ومعاون السواد برأسه وأفرده به، وعقد في الجوسق لمحمد بن طاهر بن عبد الله ابن طاهر على خراسان والاعمال المضمومة إليها خاصة يوم السبت لاثنتي عشرة ليلة خلت من شعبان.
ومرض بغا الكبير في جمادى الآخرة، فعاده المستعين في النصف منها، ومات بغا من يومه، فعقد لموسى ابنه على أعماله وعلى أعمال أبيه كلها وولي ديوان البريد.
وفي هذه السنه وجه انوجو التركي إلى أبي العمود الثعلبي، فقتله يوم السبت بكفرتوثى لخمس بقين من شهر ربيع الآخر.
وفيها خرج عبيد الله بن يحيى بن خاقان إلى الحج، فوجه خلفه رسول من الشيعة اسمه شعيب بنفيه إلى برقة، ومنعه من الحج.
وفيها ابتاع المستعين من المعتز والمؤيد في جمادى الأولى منها جميع ما كان لهما، خلا شيئا استثنى منه المعتز قيمته مائة ألف دينار، وأخذ له ولإبراهيم غلة بثمانين ألف دينار في السنة، فلما كان يَوْمَ الاثْنَيْنِ لاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ

(9/258)


من رمضان ابتيع من المعتز والمؤيد جميع ما لهما من الدور والمنازل والضياع والقصور والفرش والآلة وغير ذلك بعشرين ألف دينار، وأشهدا عليهما بذلك الشهود والعدول والقضاة وغيرهم وقيل: ابتيع ما لهما من الضياع وترك إلى أبي عبد الله ما يكون غلته من العين في السنة عشرين ألف دينار، ولإبراهيم ما تبلغ قيمة غلته في السنة خمسة آلاف دينار، فكان ما ابتيع من أبي عبد الله بعشرة آلاف ألف دينار وعشر حبات لؤلؤ، ومن إبراهيم بثلاثة آلاف ألف درهم وثلاث حبات لؤلؤ، وأشهدا عليهما بذلك الفقهاء والقضاة وكان الشراء باسم الحسن بن مخلد للمستعين، وذلك في شهر ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين ومائتين وحبسا في حجرة الجوسق، ووكل بهما، وجعل أمرهما إلى بغا الصغير، وكان الأتراك قد أرادوا حين شغب الغوغاء والشاكرية قتلهما، فمنعهم من ذلك أحمد بن الخصيب، وقال: ليس لهما ذنب ولا المشغبة من أصحابهما، وإنما المشغبة من أصحاب ابن طاهر، ولكن احبسوهما فحبسا.
وفيها غضب الموالي على أحمد بن الخصيب، وذلك في جمادى الأولى منها، واستصفي ماله ومال ولده، ونفي إلى أقريطش.
وفيها صرف علي بن يحيى عن الثغور الشامية، وعقد له على أرمينية وأذربيجان في شهر رمضان من هذه السنة.
وفيها شغب أهل حمص على كيدر بن عبيد الله عامل المستعين عليها فأخرجوه منها، فوجه إليهم الفضل بن قارن، فمكر بهم حتى أخذهم، وقتل منهم خلقا كثيرا، وحمل منهم مائة رجل من عيونهم إلى سامرا، وهدم سورهم.
وفيها غزا الصائفة وصيف، وكان مقيما بالثغر الشامي حتى ورد عليه موت

(9/259)


المنتصر، ثم دخل بلاد الروم، فافتتح حصنا يقال له فروريه، وعقد المستعين فيها لاوتامش على مصر والمغرب واتخذه وزيرا.
وفيها عقد لبغا الشرابي على حلوان وماسبذان ومهرجانقذق، وصير المستعين شاهك الخادم على داره وكراعه وحرمه وخزائنه وخاص أموره، وقدمه اوتامش على جميع الناس.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن سليمان الزينبي.

(9/260)


ثم دخلت

سنة تسع وأربعين ومائتين

ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث
فمما كان فيها من ذلك غزو جعفر بن دينار الصائفة، فافتتح حصنا ومطامير، واستأذنه عمر بن عبيد الله الأقطع في المصير إلى ناحية من بلاد الروم، فأذن له، فسار ومعه خلق كثير من أهل ملطية، فلقيه الملك في جمع من الروم عظيم بموضع، يقال له أرز من مرج الأسقف، فحاربه بمن معه محاربة شديدة، قتل فيها خلق كثير من الفريقين، ثم أحاطت به الروم وهم خمسون ألفا، فقتل عمر وألفا رجل من المسلمين، وذلك في يوم الجمعة للنصف من رجب.

خبر قتل على بن يحيى الأرمني
وفيها قتل علي بن يحيى الأرمني.
ذكر الخبر عن سبب قتله:
ذكر أن الروم لما قتلت عمر بن عبيد الله، خرجوا إلى الثغور الجزرية، وكلبوا عليها وعلى حرم المسلمين بها، فبلغ ذلك علي بن يحيى وهو قافل من أرمينية إلى ميافارقين، فنفر إليهم في جماعة من أهل ميافارقين والسلسلة، فقتل في نحو من أربعمائة رجل، وذلك في شهر رمضان.

شغب الجند والشاكريه ببغداد
وشغب الجند والشاكرية ببغداد في هذه السنة في أول يوم من صفر

(9/261)


ذكر الخبر عن السبب في ذلك:
وكان السبب في ذلك أن الخبر لما اتصل بأهل مدينة السلام وسامرا وسائر ما قرب منهما من مدن الإسلام بمقتل عمر بن عبيد الله الأقطع وعلي بن يحيى الأرمني- وكانا نابين من أنياب المسلمين، شديدا بأسهما، عظيما غناؤهما عنهم في الثغور التي هما بها- شق ذلك عليهم، وعظم مقتلهما في صدورهم، مع قرب مقتل أحدهما من مقتل الآخر، ومع ما لحقهم من استفظاعهم من الأتراك قتل المتوكل واستيلائهم على أمور المسلمين، وقتلهم من أرادوا قتله من الخلفاء، واستخلافهم من أحبوا استخلافه من غير رجوع منهم إلى ديانة، ولا نظر للمسلمين، فاجتمعت العامة ببغداد بالصراخ والنداء بالنفير، وانضمت إليها الأبناء والشاكرية تظهر أنها تطلب الأرزاق، وذلك أول يوم من صفر، ففتحوا سجن نصر بن مالك، وأخرجوا من فيه وفي القنطرة بباب الجسر، وكان فيها جماعة- فيما ذكر- من رفوغ خراسان والصعاليك من أهل الجبال والمحمرة وغيرهم، وقطعوا أحد الجسرين وضربوا الآخر بالنار، وانحدرت سفنه، وانتهب ديوان قصص المحبسين، وقطعت الدفاتر، وألقيت في الماء، وانتهبوا دار بشر وإبراهيم ابني هارون النصرانيين كاتبي محمد بن عبد الله، وذلك كله بالجانب الشرقي من بغداد وكان والي الجانب الشرقي حينئذ أحمد بن محمد بن خالد بن هرثمة ثم أخرج أهل اليسار من أهل بغداد وسامرا أموالا كثيرة من أموالهم، فقووا من خف للنهوض إلى الثغور لحرب الروم بذلك، وأقبلت العامة من نواحي الجبل وفارس والأهواز وغيرها لغزو الروم، فلم يبلغنا أنه كان للسلطان فيما كان من الروم إلى المسلمين من ذلك تغيير، ولا توجيه جيش إليهم لحربهم في تلك الأيام.
ولتسع بقين من شهر ربيع الأول، وثب نفر من الناس لا يدرى من هم يوم الجمعة بسامرا، ففتحوا السجن بها، وأخرجوا من فيه، فوجه في طلب النفر الذين فعلوا ذلك زرافة في جماعة من الموالي، فوثبت بهم العامة فهزموهم، ثم ركب في ذلك

(9/262)


اوتامش ووصيف وبغا وعامة الأتراك، فقتلوا من العامة جماعة، وألقي على وصيف- فيما ذكر لي- قدر مطبوخ، ويقال: بل رماه قوم من العامه عند السريجه بحجر، فأمر وصيف النفاطين، فقذفوا ما هنالك من حوانيت التجار ومنازل الناس بالنار، فأنا رأيت ذلك الموضع محترقا، وذلك بسامرا عند دار إسحاق.
وذكر أن المغاربة انتهبت منازل جماعة من العامة في ذلك اليوم، ثم سكن الأمر في آخر ذلك اليوم، وعزل بسبب ما كان من العامه والنفر الذين ذكرت في ذلك اليوم من الحركة، أحمد بن جميل عما كان إليه من المعونة بسامرا، وولى مكانه ابراهيم بن سهل الدارج
. ذكر خبر قتل اوتامش وكاتبه
وفي هذه السنه قتل اوتامش وكاتبه شجاع بن القاسم، وذلك يوم السبت لأربع عشرة خلون من شهر ربيع الآخر منها.
ذكر الخبر عن سبب مقتله:
ذكر أن المستعين لما أفضت اليه الخلافه، اطلق يد اوتامش وشاهك الخادم في بيوت الأموال، وأباحهما فعل ما أرادا فعله فيها، وفعل ذلك أيضا بأم نفسه، فلم يمنعها من شيء تريده، وكان كاتبها سلمه بن سعيد النصراني، وكانت الأموال التي ترد على السلطان من الآفاق إنما يصير معظمها إلى هؤلاء الثلاثة الأنفس، فعمد اوتامش إلى ما في بيوت الأموال من الأموال فاكتسحه، وكان المستعين قد جعل ابنه العباس في حجر اوتامش، فكان ما فضل من الأموال عن هؤلاء الثلاثة الأنفس يؤخذ للعباس، فيصرف في نفقاته وأسبابه- وصاحب ديوان ضياعه يومئذ دليل- فاقتطع من ذلك أموالا جليلة لنفسه، وجعلت الموالي تنظر إلى الأموال تستهلك، وهم في ضيقة، وجعل اوتامش وهو صاحب المستعين وصاحب أمره، والمستولي عليه ينفذ أمور الخلافة، ووصيف

(9/263)


وبغا من ذلك كله بمعزل، فأغريا الموالي به، ولم يزالا يدبران الأمر عليه حتى احكما التدبير، فتذمرت الاتراك والفراغنه على اوتامش، وخرج إليه منهم يوم الخميس لاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الآخر من هذه السنة أهل الدور والكرخ، فعسكروا وزحفوا إليه وهو في الجوسق مع المستعين.
وبلغه الخبر، فأراد الهرب، فلم يمكنه، واستجار بالمستعين فلم يجره فأقاموا على ذلك من أمرهم يوم الخميس ويوم الجمعة، فلما كان يوم السبت دخلوا الجوسق، فاستخرجوا اوتامش من موضعه الذي توارى فيه، فقتل وقتل كاتبه شجاع بن القاسم، وانتهبت دار اوتامش، فأخذ منها- فيما بلغني- أموال جليلة ومتاع وفرش وآله.
ولما قتل اوتامش استوزر المستعين أبا صالح عبد الله بن محمد بن يزداد، وعزل الفضل بن مروان عن ديوان الخراج، ووليه عيسى بن فرخان شاه، وولي وصيف الأهواز، وبغا الصغير فلسطين في شهر ربيع الآخر ثم غضب بغا الصغير وحزبه على أبي صالح بن يزداد، فهرب أبو صالح إلى بغداد في شعبان، وصير المستعين مكانه محمد بن الفضل الجرجرائي، فصير ديوان الرسائل إلى سعيد بن حميد رياسة، فقال في ذلك الحمدوني:
ليس السيف سعيد بعد ما ... عاش ذا طمرين لا نوبة له
إن لله لآيات وذا ... آية لله فينا منزله

مقتل على بن الجهم
وفيها قتل علي بن الجهم بن بدر، وكان سبب ذلك أنه توجه من بغداد إلى الثغر، فلما كان بقرب حلب بموضع يقال له خساف، لقيته خيل لكلب، فقتلته، وأخذ الأعراب ما كان معه، فقال وهو في السياق:
أزيد في الليل ليل ... أم سال بالصبح سيل

(9/264)


ذكرت أهل دجيل ... وأين مني دجيل!
وكان منزله في شارع الدجيل.
وفيها عزل جعفر بن عبد الواحد عن القضاء، ووليه جعفر بن محمد بن عمار البرجمي من أهل الكوفة، وقد قيل إن ذلك في سنة خمسين ومائتين.
وفيها أصاب أهل الري في ذي الحجة زلزلة شديدة ورجفة تهدمت منها الدور، ومات خلق من أهلها وهرب الباقون من أهلها من المدينة، فنزلوا خارجها ومطر أهل سامرا يوم الجمعة لخمس بقين من جمادى الأولى، وذلك يوم السادس عشر من تموز مطر جود برعد وبرق، فأطبق الغيم ذلك اليوم، ولم يزل المطر جودا سائلا يومئذ إلى اصفرار الشمس ثم سكن.
وتحركت المغاربة في هذه السنة يوم الخميس لثلاث خلون من جمادى الأولى، وكانوا يجتمعون قرب الجسر بسامرا، ثم تفرقوا يوم الجمعة.
وحج بالناس في هذه السنة عبد الصمد بن موسى بن محمد بن إبراهيم الإمام وهو والى مكة.

(9/265)


ثم دخلت

سنة خمسين ومائتين
ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث

ظهور يحيى بن عمر الطالبي ثم مقتله
فمن ذلك ما كان من ظهور يحيى بن عمر بن يحيى بن حسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، المكنى بأبي الحسين بالكوفة، وفيها كان مقتله رضي الله عنه.
ذكر الخبر عن سبب ظهوره وما آل إليه أمره:
ذكر أن أبا الحسين يحيى بن عمر- وأمه أم الحسين فاطمه بنت الحسين ابن عبد الله بْن إسماعيل بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ- نالته ضيقة شديدة، ولزمه دين ضاق به ذرعا، فلقي عمر بن فرج- وهو يتولى امر الطالبين- عند مقدمه من خراسان أيام المتوكل، فكلمه في صلته، فأغلظ عليه عمر القول، فقذفه يحيى بن عمر في مجلسه، فحبس، فلم يزل محبوسا إلى أن كفل به أهله، فأطلق، فشخص إلى مدينة السلام، فأقام بها بحال سيئة، ثم صار إلى سامرا، فلقي وصيفا في رزق يجرى له، فأغلظ له وصيف في القول، وقال: لأي شيء يجري على مثلك! فانصرف عنه.
فذكر ابن أبي طاهر أن ابن الصوفي الطالبي حدثه، أنه أتاه في الليلة التي كان خروجه في صبيحتها، فبات عنده، ولم يعلمه بشيء مما عزم عليه، وأنه عرض عليه الطعام، وتبين فيه أنه جائع، فأبى أن يأكل، وقال:
إن عشنا أكلنا، قال: فتبينت أنه قد عزم على فتكة، وخرج من عندي،

(9/266)


فجعل وجهه إلى الكوفة، وبها أيوب بن الحسن بن موسى بن جعفر بن سليمان عاملا عليها من قبل محمد بن عبد الله بن طاهر، فجمع يحيى بن عمر جمعا كثيرا من الأعراب، وضوى إليه جماعة من أهل الكوفة، فأتى الفلوجة، فصار إلى قرية تعرف بالعمد، فكتب صاحب البريد بخبره، فكتب محمد بن عبد الله بن طاهر إلى أيوب بن الحسن وعبد الله بن محمود السرخسي- وكان عامل محمد بن عبد الله على معاون السواد- يأمرهما بالاجتماع على محاربه يحيى ابن عمر- وكان على الخراج بالكوفة بدر بن الأصبغ- فمضى يحيى بن عمر في سبعة نفر من الفرسان إلى الكوفة فدخلها، وصار إلى بيت مالها، فأخذ ما فيه، والذي وجد فيه ألفا دينار وزيادة شيء، ومن الورق سبعون ألف درهم، وأظهر أمره بالكوفة وفتح السجنين، وأخرج جميع من كان فيهما، وأخرج عمالها عنها، فلقيه عبد الله بن محمود السرخسي- وكان في عداد الشاكرية، فضربه يحيى بن عمر ضربة على قصاص شعره في وجهه أثخنته، فانهزم ابن محمود مع أصحابه، وحوى يحيى ما كان مع ابن محمود من الدواب والمال ثم خرج يحيى بن عمر من الكوفة إلى سوادها، فصار إلى موضع يقال له بستان- أو قريبا منه- على ثلاثة فراسخ من جنبلاء، ولم يقم بالكوفه، وتبعته جماعه من الزيدية، واجتمعت على نصرته جماعة من قرب من تلك الناحية من الأعراب وأهل الطفوف والسيب الأسفل، وإلى ظهر واسط ثم أقام بالبستان، فكثر جمعه، فوجه محمد بن عبد الله لمحاربته الحسين بن اسماعيل ابن إبراهيم بن مصعب، وضم إليه من ذوي البأس والنجدة من قواده جماعة، مثل خالد بن عمران وعبد الرحمن بن الخطاب المعروف بوجه الفلس، وأبي السناء الغنوي، وعبد الله بن نصر بن حمزة، وسعد الضبابي، ومن الاسحاقيه احمد ابن محمد بن الفضل وجماعة من خاصة الخراسانية وغيرهم.
وشخص الحسين بن إسماعيل، فنزل بإزاء هفندى في وجه يحيى بن عمر، لا يقدم عليه الحسين بن إسماعيل ومن معه، وقصد يحيى نحو البحرية

(9/267)


- وهي قرية بينها وبين قسين خمسة فراسخ، ولو شاء الحسين أن يلحقه لحقه- ثم مضى يحيى بن عمر في شرقي السيب والحسين في غربيه، حتى صار الى احمداباذ فعبر إلى ناحية سورا، وجعل الجند لا يلحقون ضعيفا عجز عن اللحاق بيحيى إلا اخذوه، واوقعوه بمن صار إلى يحيى بن عمر من أهل تلك القرى.
وكان أحمد بن الفرج المعروف بابن الفزاري يتولى معونة السيب لمحمد ابن عبد الله، فحمل ما اجتمع عنده من حاصل السيب قبل دخول يحيى بن عمر احمداباذ، فلم يظفر به.
ومضى يحيى بن عمر نحو الكوفة، فلقيه عبد الرحمن بن الخطاب وجه الفلس، فقاتله بقرب جسر الكوفة قتالا شديدا، فانهزم عبد الرحمن بن الخطاب، وانحاز إلى ناحية شاهي، ووافاه الحسين بن إسماعيل، فعسكر بها، ودخل يحيى بن عمر الكوفة، واجتمعت إليه الزيدية، ودعا إلى الرضا من آل محمد وكثف أمره، واجتمعت إليه جماعة من الناس وأحبوه، وتولاه العامة من أهل بغداد- ولا يعلم أنهم تولوا من أهل بيته غيره- وبايعه بالكوفة جماعة لهم بصائر وتدبير في تشيعهم، ودخل فيهم أخلاط لا ديانة لهم.
وأقام الحسين بن إسماعيل بشاهي، واستراح وأراح أصحابه دوابهم، ورجعت إليهم أنفسهم، وشربوا العذب من ماء الفرات، واتصلت بهم الأمداد والميرة والأموال وأقام يحيى بن عمر بالكوفة يعد العدد، ويطبع السيوف، ويعرض الرجال، ويجمع السلاح.
وإن جماعة من الزيدية ممن لا علم له بالحرب، أشاروا على يحيى بمعاجلة الحسين، وألحت عليه عوام أصحابه بمثل ذلك، فزحف إليه من ظهر الكوفة من وراء الخندق ليلة الاثنين لثلاث عشرة خلت من رجب، ومعه الهيضم العجلي، في فرسان من بني عجل وأناس من بني أسد ورجالة من أهل الكوفة ليسوا بذوي علم ولا تدبير ولا شجاعة، فأسروا ليلتهم، ثم صبحوا حسينا وأصحابه- وأصحاب حسين مستريحون ومستعدون- فثاروا إليهم في الغلس

(9/268)


فرموا ساعة، ثم حمل عليهم أصحاب الحسين فانهزموا، ووضع فيهم السيف، فكان أول أسير الهيضم بن العلاء بن جمهور العجلي، فانهزم رجالة أهل الكوفة، وأكثرهم عزل بغير سلاح، ضعفي القوى، خلقان الثياب، فداستهم الخيل، وانكشف العسكر عن يحيى بن عمر، وعليه جوشن تبتي، وقد تقطر به البرذون الذي أخذه من عبد الله بن محمود، فوقف عليه ابن لخالد بن عمران يقال له خير، فلم يعرفه، وظن أنه رجل من أهل خراسان، لما رأى عليه الجوشن، ووقف عليه أيضا أبو الغور بن خالد بن عمران، فقال لخير بن خالد: يا أخي، هذا والله أبو الحسين قد انفرج قلبه، وهو نازل لا يعرف القصة لانفراج قلبه، فأمر خير رجلا من أصحابه المواصلين من العرفاء يقال له محسن بن المنتاب، فنزل إليه فذبحه، وأخذ رأسه وجعله في قوصرة، ووجهه مع عمر بن الخطاب، أخي عبد الرحمن بن الخطاب إلى محمد بن عبد الله بن طاهر.
وادعى قتله غير واحد، فذكر عن العرس بن عراهم أنهم وجدوه باركا، ووجدوا خاتمه مع رجل يعرف بالعسقلاني مع سيفه، وادعى أنه طعنه وسلبه، وادعى سعد الضبابي أنه قتله.
وذكر عن أبي الحسين خال أبي السناء أنه طعن في الغلس رجلا في ظهره لا يعرفه، فأصابوا في ظهر أبي الحسين طعنة ولا يدرى من قتله، لكثرة من ادعاه، وورد الرأس دار محمد بن عبد الله بن طاهر، وقد تغبر، فطلبوا من يقور ذلك اللحم، ويخرج الحدقة والغلصمة، فلم يوجد، وهرب الجزارون، وطلب ممن في السجن من الخرمية الذباحين من يفعل ذلك فلم يقدم عليه أحد، إلا رجل من عمال السجن الجديد، يقال له سهل بن الصغدي، فإنه تولى إخراج دماغه وعينيه وقوره بيديه، وحشي بالصبر والمسك والكافور بعد أن غسل وصير في القطن وذكر أنهم رأوا بجنبيه ضربة بالسيف منكرة

(9/269)


ثم إن محمد بن عبد الله بن طاهر أمر بحمل رأسه إلى المستعين من غد اليوم الذي وافاه فيه، وكتب إليه بالفتح بيده، ونصب رأسه بباب العامة بسامرا، واجتمع الناس لذلك، وكثروا وتذمروا، وتولى إبراهيم الديرج نصبه، لأن إبراهيم بن إسحاق خليفة محمد بن عبد الله أمره فنصبه لحظة، ثم حط، ورد إلى بغداد لينصب بها بباب الجسر، فلم يتهيأ ذلك لمحمد بن عبد الله لكثرة من اجتمع من الناس وذكر لمحمد بن عبد الله أنهم على أخذه اجتمعوا، فلم ينصبه، وجعله في صندوق في بيت السلاح في داره، ووجه الحسين ابن إسماعيل بالأسرى ورءوس من قتل معه مع رجل يقال له أحمد بن عصمويه، ممن كان مع إسحاق بن إبراهيم، فكدهم وأجاعهم وأساء بهم، فأمر بهم فحبسوا في سجن الجديد، وكتب فيهم محمد بن عبد الله يسأل الصفح عنهم، فأمر بتخليتهم، وأن تدفن الرءوس ولا تنصب، فدفنت في قصر بباب الذهب.
وذكر عن بعض الطاهرين أنه حضر مجلس محمد بن عبد الله وهو يهنأ بمقتل يحيى بن عمرو بالفتح وجماعة من الهاشميين والطالبيين وغيرهم حضور، فدخل عليه داود بن القاسم أبو هاشم الجعفري فيمن دخل، فسمعهم يهنئونه، فقال: أيها الأمير، إنك لتهنَّأ بقتل رجل لو كان رسول الله ص حيا لعزي به! فما رد عليه محمد بن عبد الله شيئا، فخرج أبو هاشم الجعفري، وهو يقول:
يا بني طاهر كلوه وبيا ... إن لحم النبي غير مري
إن وترا يكون طالبه الله ... لوتر نجاحه بالحري
وكان المستعين قد وجه كلباتكين مددا للحسين ومستظهرا به، فلحق حسينا بعد ما هزم القوم وقتل يحيى بن عمر، فمضى ومعهم صاحب بريد الكوفة فلقي جماعة ممن كان مع يحيى بن عمر، ومعهم أسوقة وأطعمة يريدون عسكر يحيى، فوضع فيهم السيف فقتلهم، ودخل الكوفة، فأراد أن

(9/270)


ينهبها ويضع السيف في اهلم، فمنعه الحسين وآمن الأسود والأبيض بها، وأقام أياما ثم انصرف عنها

ذكر خبر خروج الحسن بن زيد العلوي
وفي هذه السنة كان خروج الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن ابن زيد بْن الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي شهر رمضان منها.
ذكر الخبر عن سبب خروجه:
حدثني جماعة من أهل طبرستان وغيرهم، أن سبب ذلك كان أن محمد بن عبد الله بن طاهر لما جرى على يده ما جرى من قتل يحيى بن عمر، ودخول أصحابه وجيشه الكوفة بعد فراغهم من قتل يحيى، أقطعه المستعين من صوافي السلطان بطبرستان قطائع، وأن من تلك القطائع التي أقطعها قطيعة فيما قرب من ثغري طبرستان مما يلي الديلم، وهما كلار وسالوس، كان بحذائها أرض لأهل تلك الناحية فيها مرافق، منها محتطبهم ومراعي مواشيهم ومسرح سارحتهم، وليس لأحد عليها ملك، وإنما هي صحراء من موتان الأرض، غير أنها ذات غياض وأشجار وكلأ.
فوجه- فيما ذكر لي- محمد بن عبد الله بن طاهر أخا لكاتبه بشر بن هارون النصراني يقال له جابر بن هارون، لحيازة ما أقطع هنالك من الأرض، وعامل طبرستان يومئذ سليمان بن عبد الله خليفة محمد بن طاهر بن عبد الله بن طاهر، أخو محمد بن عبد الله بن طاهر، والمستولي على سليمان، والغالب على أمره محمد بن أوس البلخي، وقد فرق محمد بن أوس ولده في مدن طبرستان، وجعلهم ولاتها، وضم إلى كل واحد منهم مدينة منها، وهم أحداث سفهاء، قد تأذى بهم وبسفههم من تحت أيديهم من الرعية واستنكروا منهم ومن والدهم ومن سليمان بن عبد الله سفههم وسيرهم فيهم، وغلظ عليهم سوء

(9/271)


أثرهم فيهم، بقصص يطول الكتاب بشرح أكثرها.
ووتر مع ذلك- فيما ذكر لي- محمد بن أوس الديلم بدخوله إلى ما قرب من بلادهم من حدود طبرستان، وهم أهل سلم وموادعة لأهل طبرستان على اغترار من الديلم بما يلتمس بدخوله إليهم بغارة، فسبى منهم وقتل، ثم انكفأ راجعا إلى طبرستان، فكان ذلك مما زاد أهل طبرستان عليه حنقا وغيظا، فلما صار رسول محمد بن عبد الله- وهو جابر بن هارون النصراني- إلى طبرستان لحيازة ما أقطعه هنالك محمد، عمد- فيما قيل لي- جابر بن هارون إلى ما أقطع محمد بن عبد الله من صوافي السلطان فحازه، وحاز ما اتصل به من موات الأرض التي يرتفق بها أهل تلك الناحية- فيما ذكر- فكان فيما رام حيازته من ذلك الموات الذى بقرب من الثغرين اللذين يسمى أحدهما كلار والآخر سالوس، وكان في تلك الناحية يومئذ رجلان معروفان بالبأس والشجاعة، وكانا مذكورين قديما بضبط تلك الناحية ممن رامها من الديلم، وبإطعام الناس بها وبالإفضال عن من ضوى إليهما، يقال لأحدهما محمد وللآخر جعفر، وهما ابنا رستم أخوان، فأنكرا ما فعل جابر بن هارون من حيازته الموات الذي وصفت أمره، ومانعاه ذلك وكان ابنا رستم في تلك الناحية مطاعين فاستنهضا من أطاعهما ممن في ناحيتهما لمنع جابر بن هارون من حيازة ما رام حيازته من الموات الذي هو مرفق لأهل تلك الناحية- فيما ذكر- وغير داخل فيما أقطعه صاحبه محمد بن عبد الله، فنهضوا معهما، وهرب جابر بن هارون خوفا على نفسه منهما وممن قد نهض معهما، لإنكار ما رام جابر النصراني فعله فلحق بسليمان بن عبد الله ابن طاهر، وأيقن محمد وجعفر ابنا رستم ومن نهض معهما في منع جابر عما حاول من حيازة ما حاول حيازته من الموات الذي ذكرت بالشر، وذلك أن عامل طبرستان كلها سليمان بن عبد الله، وهو أخو محمد بن عبد الله بن طاهر وعم محمد ابن طاهر بن عبد الله عامل المستعين على خراسان وطبرستان والري والمشرق كله يومئذ

(9/272)


فلما ايقن القوم بذلك، راسلوا جيرانهم من الديلم، وذكروهم وفاءهم لهم بالعهد الذي بينهم وبينهم، وما ركبهم به محمد بن أوس من الغدر والقتل والسبي، وأنهم لا يأمنون من ركوبه إياهم بمثل الذي ركبهم به، ويسألونهم مظاهرتهم عليه وعلى من معه، فأعلمهم الديلم أن ما يلي أرضهم من جميع نواحيها من الأرضين والبلاد، إنما عمالها إما عمال لطاهر، واما عمال من يتخذ آل طاهر إن احتاجوا إلى إنجادهم، وإن ما سألوا من معاونتهم لا سبيل لهم إليه إلا بزوال الخوف عنهم من أن يؤتوا من قبل ظهورهم إذا هم اشتغلوا بحرب من بين أيديهم من عمال سليمان بن عبد الله، فأعلمهم الذين سألوهم المظاهرة على حرب سليمان وعماله أنهم لا يغفلون عن كفايتهم ذلك، حتى يأمنوا مما خافوا منه فأجابهم الديلم إلى ما سألوهم من ذلك، وتعاقدوا هم وأهل كلار وسالوس على معاونه بعضهم بعضا على حرب سليمان ابن عبد الله وابن أوس وغيرهم ممن قصدهم بحرب.
ثم أرسل ابنا رستم محمد وجعفر- فيما ذكر- إلى رجل من الطالبيين المقيمين كانوا يومئذ بطبرستان، يقال له محمد بن إبراهيم، يدعونه إلى البيعة له، فأبى وامتنع عليهم، وقال لهم: لكني أدلكم على رجل منا هو أقوم بما دعوتموه إليه مني، فقالوا: من هو؟ فأخبرهم أنه الحسن بن زيد، ودلهم على منزله ومسكنه بالري فوجه القوم إلى الري عن رسالة محمد بن إبراهيم العلوي إليه من يدعوه إلى الشخوص معه إلى طبرستان، فشخص معه إليها، فوافاهم الحسن بن زيد، وقد صارت كلمة الديلم وأهل كلار وسالوس ورويان على بيعته وقتال سليمان بن عبد الله واحدة، فلما وافاهم الحسن بن زيد بايع له ابنا رستم، وجماعة أهل الثغور ورؤساء الديلم: كجايا ولاشام ووهسودان بن جستان، ومن أهل رويان عبد الله بن ونداميد- وكان عندهم من أهل التأله والتعبد- ثم ناهضوا من في تلك النواحي من عمال ابن أوس فطردوهم عنها، فلحقوا بابن أوس وسليمان بن عبد الله، وهما بمدينه ساريه، وانضم الى الحسن ابن زيد مع من بايعه من أهل النواحي التي ذكرت، لما بلغهم ظهوره بها

(9/273)


حوزيه جبال طبرستان كما صمغان وفادسبان وليث بن قباذ، ومن أهل السفح خشكجستان بن ابراهيم بن الخليل بن وندا سفجان، خلا ما كان من سكان جبل فريم، فإن رئيسهم كان يومئذ والمتملك عليهم قارن بن شهريار، فإنه كان ممتنعا بجبله وأصحابه، فلم ينقد للحسن بن زيد ولا من معه حتى مات ميتة نفسه، مع موادعة كانت بينهما في بعض الاحوال، ومخاتنه ومصاهرة كفا من قارن بذلك من فعله عادية الحسن بن زيد ومن معه.
ثم زحف الحسن بن زيد وقواده من أهل النواحي التي ذكرت نحو مدينة آمل، وهي أول مدن طبرستان مما يلي كلار وسالوس من السفح- وأقبل ابن أوس من سارية إليها يريد دفعه عنها، فالتقى جيشاهما في بعض نواحي آمل، ونشبت الحرب بينهم وخالف الحسن بن زيد وجماعة ممن معه من أصحابه موضع معركة القوم إلى ناحية أخرى، فدخلوها فاتصل الخبر بدخوله مدينة آمل بابن أوس، وهو مشتغل بحرب من هو في وجهه من رجال الحسن بن زيد، فلم يكن له هم إلا النجاء بنفسه واللحاق بسليمان بسارية، فلما دخل الحسن بن زيد آمل كثف جيشه، وغلظ أمره، وانقض إليه كل طالب نهب ومريد فتنة من الصعاليك والحوزية وغيرهم، فأقام- فيما حدثت- الحسن بن زيد بآمل أياما، حتى جبى الخراج من أهلها، واستعد ثم نهض بمن معه نحو سارية مريدا سليمان بن عبد الله، فخرج سليمان وابن أوس بمن معهما من جيوشهما، فالتقى الفريقان خارج مدينة سارية، ونشبت الحرب بينهم، فخالف الوجه الذي التقى فيه الجيشان بعض قواد الحسن بن زيد إلى وجه آخر من وجوه سارية، فدخلها برجاله وأصحابه، فانتهى الخبر إلى سليمان بن عبد الله ومن معه من الجند، فلم يكن لهم هم غير النجاة بأنفسهم.
ولقد حدثني جماعة من أهل تلك الناحية وغيرها، أن سليمان بن عبد الله هرب وترك أهله وعياله وثقله وكل ما كان له بسارية من مال وأثاث وغير ذلك بغير مانع ولا دافع، فلم يكن له ناهية دون جرجان وغلب على ما كان له ولغيره بها من جنده الحسن بن زيد وأصحابه

(9/274)


فأما عيال سليمان وأهله وأثاثه فإنه بلغني أن الحسن بن زيد أمر لهم بمركب حملهم فيه حتى ألحقهم بسليمان وهو بجرجان، وأما ما كان لأصحابه فإن من كان مع الحسن بن زيد من التبع انتهبه، فاجتمع للحسن بن زيد بلحاق سليمان بن عبد الله بجرجان إمرة طبرستان كلها.
فلما اجتمعت للحسن بن زيد طبرستان، وأخرج عنها سليمان ابن عبد الله وأصحابه وجه إلى الري خيلا مع رجل من أهل بيته، يقال له الحسن بن زيد، فصار إليها، فطرد عنها عاملها من قبل الطاهرية، فلما دخل الموجه به من قبل الطالبيين الري هرب منها عاملها، فاستخلف بها رجلا من الطالبيين يقال له محمد بن جعفر، وانصرف عنها، فاجتمعت للحسن بن زيد مع طبرستان الري إلى حد همذان، وورد الخبر بذلك على المستعين، ومدبر أمره يومئذ وصيف التركي، وكاتبه أحمد بن صالح بن شيرزاد، وإليه خاتم المستعين ووزارته فوجه إسماعيل بن فراشة في جمع الى همذان، وامره بالمقام بها وضبطها الى أن يتجاوز إليها خيل الحسن بن زيد، وذلك أن ما وراء عمل همذان كان إلى محمد بن طاهر بن عبد الله بن طاهر، وبه عماله، وعليه صلاحه.
فلما استقر بمحمد بن جعفر الطالبي القرار بالري ظهرت منه- فيما ذكر- أمور كرهها أهل الري، فوجه محمد بن طاهر بن عبد الله قائدا له من قبله، يقال له محمد بن ميكال- وهو أخو الشاه بن ميكال- في جمع من الخيل والرجالة إلى الري، فالتقى هو ومحمد بن جعفر الطالبي، خارج الري، فذكر أن محمد بن ميكال أسر محمد بن جعفر الطالبي، وفض جيشه، ودخل الري، فأقام بها، ودعا بها للسلطان، فلم يتطاول بها مكثه حتى وجه الحسن بن زيد إليه خيلا، عليها قائد له من اهل اللازر، يقال له واجن فلما صار واجن إلى الري خرج إليه محمد بن ميكال، فاقتتلا، فهزم واجن وأصحابه محمد بن ميكال وجيشه، والتجأ محمد بن ميكال إلى مدينة الري معتصما بها، فاتبعه واجن وأصحابه حتى قتلوه، وصارت الري إلى أصحاب الحسن بن زيد فلما كان يوم عرفة من هذه السنة بعد مقتل محمد بن ميكال، ظهر بالري أحمد بن عيسى بن علي بن حسين الصغير بْن علي بْن حسين بْن علي بْن

(9/275)


أبي طالب رضي الله عنه وإدريس بن موسى بْن عبد الله بْن موسى بْن عبد الله ابن حسن بْن حسن بْن علي بْن أبي طالب، فصلى أحمد بن عيسى بأهل الري صلاة العيد، ودعا للرضا من آل محمد، فحاربه محمد بن علي بن طاهر، فهزمه احمد بن عيسى، فصار الى قزوين
. [أخبار متفرقة]
وفي هذه السنة غضب على جعفر بن عبد الواحد، لأنه كان بعث إلى الشاكرية، فزعم وصيف أنه أفسدهم، فنفي إلى البصرة لسبع بقين من شهر ربيع الأول.
وفيها أسقطت مرتبة من كانت له مرتبة في دار العامة من بني أمية، كابن أبي الشوارب والعثمانيين.
وأخرج في هذه السنة من الحبس الحسن بن الأفشين.
وأجلس فيها العباس بن أحمد بن محمد، فعقد لجعفر بن الفضل بن عيسى ابن موسى المعروف ببشاشات على مكة في جمادى الأولى.
وفيها وثب أهل حمص وقوم من كلب- عليهم رجل يقال له عطيف ابن نعمة الكلبي- بالفضل بن قارن أخي مازيار بن قارن، وهو يومئذ عامل السلطان على حمص، فقتلوه في رجب، فوجه المستعين إليهم موسى بن بغا الكبير، فشخص موسى من سامرا يوم الخميس لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر رمضان، فلما قرب موسى تلقاه أهلها فيما بينها وبين الرستن، فحاربهم فهزمهم، وافتتح حمص وقتل من أهلها مقتلة عظيمة، وأحرقها وأسر جماعة من رؤساء أهلها، وكان عطيف قد لحق بالبدو.
وفيها مات جعفر بن أحمد بن عمار القاضي يوم الأحد لسبع بقين من شهر رمضان.
وفيها مات أحمد بن عبد الكريم الجواري والتيمي قاضي البصرة.
وفيها ولي أحمد بن الوزير قضاء سامرا

(9/276)


وفيها وثبت الشاكرية والجند بفارس بعبد الله بن إسحاق بن إبراهيم، فانتهبوا منزله، وقتلوا محمد بن الحسن بن قارن، وهرب عبد الله بن إسحاق.
وفيها وجه محمد بن طاهر من خراسان بفيلين كان وجه بهما إليه من كابل وأصنام وفوائح.
وغزا الصائفة فيها بلكاجور.
وحج بالناس في هذه السنة جعفر بن الفضل بشاشات وهو والي مكة.

(9/277)


ثم دخلت

سنة إحدى وخمسين ومائتين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)

ذكر خبر قتل باغر التركى
فمما كان فيها من ذلك قتل وصيف وبغا الصغير باغر التركي واضطراب أمر الموالي.
ذكر الخبر عن سبب قتلهما باغر:
ذكر أن سبب ذلك كان أن باغر كان أحد قتلة المتوكل، فزيد لذلك في أرزاقه، وأقطع قطائع، فكان مما أقطع ضياع بسواد الكوفة، فتضمن تلك الضياع التي أقطعها باغر هنالك من كاتب كان لباغر يهودي- رجل من دهاقين باروسما ونهر الملك- بألفي دينار في السنة، فعدا رجل بتلك الناحية، يقال له ابن مارمة على وكيل لباغر هنالك، فتناوله أو دس إليه من تناوله، فحبس ابن مارمة، وقيد، ثم عمل حتى تخلص من الحبس، فصار إلى سامرا، فلقي دليل بن يعقوب النصراني وهو يومئذ كاتب بغا الشرابي وصاحب أمره، وإليه أمر العسكر، يركب إليه القواد والعمال، لمكانه من بغا وكان ابن مارمة صديقا لدليل، وكان باغر أحد قواد بغا، فمنع دليل باغر من ظلم أحمد بن مارمة، وانتصف له منه، فأوغر ذلك من فعله بصدر باغر، وباين كل واحد من دليل وباغر صاحبه بذلك السبب، وباغر شجاع بطل معروف القدر في الاتراك، يتوقاه بغا وغيره، ويخافون شره.
فذكر أن باغر جاء يوم الثلاثاء لأربع بقين من ذي الحجة سنة خمسين ومائتين إلى بغا، وبغا في الحمام، وباغر سكران شديد السكر، وانتظره حتى خرج من الحمام، ثم دخل عليه، فقال له: والله ما من قتل دليل بد

(9/278)


ثم سبه، فقال له بغا: لو أردت قتل ابني فارس ما منعتك، فكيف دليل النصراني! ولكن أمري وأمر الخلافة في يديه فتنتظر حتى اصير مكانه إنسانا، وشانك به ثم وجه بغا إلى دليل يأمره ألا يركب، وقيل: بل تلقاه طبيب لبغا، يقال له ابن سرجويه، فأخبره بالقصة، فرجع إلى منزله، فاستخفى، وبعث بغا إلى محمد بن يحيى بن فيروز، وكان ابن فيروز يكتب له قبل ذلك، فجعله مكان دليل، فيوهم باغر أنه قد عزل دليلا، فسكن باغر، ثم أصلح بغا بين دليل وباغر، وباغر يتهدد دليلا بالقتل إذا خلا بأصحابه، ثم تلطف باغر للمستعين، ولزم الخدمة في الدار، وكره المستعين مكانه، فلما كان يوم نوبة بغا في منزله قال المستعين: أي شيء كان إلى إيتاخ من الأعمال؟ فأخبره وصيف، فقال: ينبغي أن تصيروا هذه الأعمال إلى أبي محمد باغر، فقال وصيف: نعم، وبلغت القصة دليلا، فركب إلى بغا فقال له: أنت في بيتك، وهم في تدبير عزلك عن كل أعمالك، فإذا عزلت فما بقاؤك إلا أن يقتلوك! فركب بغا إلى دار الخلافة في اليوم الذي نوبته في منزله بالعشي، فقال لوصيف: أردت أن تزيلني عن مرتبتي، وتجيء بباغر فتصيره مكاني، وإنما باغر عبد من عبيدي ورجل من أصحابي، فقال له وصيف: ما علمت ما أراد الخليفة من ذلك فتعاقد وصيف وبغا على تنحية باغر من الدار والاحتيال له، وأرجفوا له انه يؤمر ويضم إليه جيش سوى جيشه، ويخلع عليه، ويجلس في الدار مجلس بغا ووصيف- وهما يسميان الأميرين- ودافعوه بذلك وإنما كان المستعين تقرب إليه بذلك ليأمن ناحيته، فأحس هو ومن في ناحيته بالشر، فجمع إليه الجماعة الذين كانوا بايعوه على قتل المتوكل أو بعضها مع غيرهم، فلما جمعهم ناظرهم ووكد البيعة عليهم كما وكدها في قتل المتوكل، فقالوا: نحن على بيعتنا، فقال:
الزموا الدار حتى نقتل المستعين وبغا ووصيفا، ونجيء بعلي بن المعتصم أو بابن الواثق، فنقعده خليفة حتى يكون الأمر لنا، كما هو لهذين اللذين قد

(9/279)


استوليا على أمر الدنيا، وبقينا نحن في غير شيء، فأجابوه إلى ذلك، وانتهى الخبر إلى المستعين فبعث إلى بغا ووصيف، وذلك يوم الاثنين، فقال لهما: ما طلبت إليكما أن تجعلاني خليفة، وإنما جعلتماني وأصحابكما، ثم تريدان أن تقتلاني! فحلفا له أنهما ما علما بذلك، فأعلمهما الخبر.
وقيل: إن امرأة لباغر كانت مطلقة منه، سعت إلى أم المستعين وإلى بغا بذلك، وبكر دليل إلى بغا، وحضر وصيف إلى منزل بغا ومع وصيف أحمد بن صالح كاتبه، فاتفق رأيهم على أخذ باغر واثنين من الأتراك معه وحبسهم حتى يروا رأيهم فيهم، فأحضروا باغر، فأقبل في عدة حتى دخل الدار إلى بغا فذكر عن بشر بن سعيد المرثدي أنه قال: كنت حاضرا دخوله، فمنع من الوصول إلى بغا ووصيف، وعطف به إلى حمام لبغا، ودعي له بالقيود، فامتنع عليهم، فحبسوه في الحمام، وبلغ ذلك الأتراك في الهاروني والكرخ والدور، فوثبوا على إصطبل السلطان، فأخذوا ما كان فيه من الدواب فانتهبوها وركبوها، وحضروا الجوسق بالسلاح، فلما أمسوا أمر وصيف وبغا رشيد بن سعاد أخت وصيف أن يقتل باغر، فأتاه في عدة، فشدخوه بالطبرزينات حتى أسكنوه، فلما علم المستعين باجتماعهم، ركب ووصيف وبغا حراقة، وصاروا إلى دار وصيف جميعا، وتراكض الناس يومهم- وهو يوم الثلاثاء وليلته- بالسلاح جائين وذاهبين، فقال لهم وصيف:
ترفقوا حتى تنظروا، فإن ثبتوا على المقاومة رمينا إليهم برأسه فلما انتهى قتله إلى الأتراك المشغبة، أقاموا على ما هم عليه من الشغب حتى علموا أن المستعين وبغا ووصيف قد انحدروا إلى بغداد، وقد كان وصيف أعطى قوما من المغاربة فرسانا ورجالة السلاح والرماح، ووجه بهم إلى هؤلاء المشغبة، وبعث

(9/280)


إلى الشاكرية أن يكونوا على عدة إن احتيج إليهم، وسكن الناس عند الظهر، وهدأت الأمور، وقد كان عدة من قواد الأتراك صاروا إلى هؤلاء المشغبين وسألوهم الانصراف، فقالوا: يوق يوق، أي لا لا فذكر عن بشر بن سعيد عن جامع بن خالد- وكان أحد خلفاء وصيف من الأتراك- أنه كان المتولي مخاطبتهم مع عدة ممن يعرف التركية، فأعلموهم أن المستعين وبغا ووصيف قد خرجوا إلى بغداد، فأظهروا التندم، وانصرفوا منكسرين، فلما انتشر الخبر بخروج المستعين صار الأتراك الى دور دليل ابن يعقوب ودور أهل بيته ممن قرب منه وجيرانه، فانتهبوا ما فيها حتى صاروا إلى الخشب والدروندات، وقتلوا ما قدروا عليه من البغال، وانتهبوا علف الدواب والخمر التي في خزانة الشراب، ودفع عن دار سلمة بن سعيد النصراني جماعة كان وكلهم بها، من المصارعين وغيرهم من جيرانهم، ومنعوهم من دخول الدار، لأنهم أرادوا دار إبراهيم بن مهران النصراني العسكري، فدفعوهم عنها، وسلم سلمة وإبراهيم من النهب.
وقال في قتل باغر والفتنة التي هاجت بسببه بعض الشعراء، ذكر أن قائله أحمد بن الحارث اليمامي:
لعمري لئن قتلوا باغرا ... لقد هاج باغر حربا طحونا
وفر الخليفة والقائدان ... بالليل يلتمسان السفينا
وصاحوا بميسان ملاحهم ... فجاءهم يسبق الناظرينا
فألزمهم بطن حراقة ... وصرت مجاذيفهم سائرينا
وما كان قدر ابن مارمه ... فتكسب فيه الحروب الزبونا
ولكن دليل سعى سعية ... فأخزى الإله بها العالمينا
فحل ببغداد قبل الشروق ... فحل بها منه ما يكرهونا
فليت السفينة لم تأتنا ... وغرقها الله والراكبينا

(9/281)


وأقبلت الترك والمغربون ... وجاء الفراغنة الدارعونا
تسير كراديسهم في السلاح ... يروحون خيلا ورجلا ثبينا
فقام بحربهم عالم ... بأمر الحروب تولاه حينا
فجدد سورا على الجانبين ... حتى أحاطهم أجمعينا
وأحكم أبوابها المصمتات ... على السور يحمي بها المستعينا
وهيا مجانيق خطارة ... تفيت النفوس وتحمي العرينا
وعبى فروضا وجيشية ... ألوف ألوف إذ تحسبونا
وعبى المجانيق منظومة ... على السور حتى أغار العيونا
فذكر أنهم لما قدموا بغداد اعتل ابن مارمة، فعاده دليل بن يعقوب، فقال له: ما سبب علتك؟ قال: عقر القيد انتقض علي، فقال دليل:
لئن عقرك القيد، لقد نقضت الخلافة، وبعثت فتنة ومات ابن مارمة في تلك الأيام، فقال أبو علي اليمامي الحنفي في شخوص المستعين إلى بغداد:
ما زال إلا لزوال ملكه ... وحتفه من بعده وهلكه
ومنع الأتراك الناس من الانحدار إلى بغداد، فذكر أنهم أخذوا ملاحا قد أكرى سفينته، فضربوه مائتي سوط، وصلبوه على دقل سفينته، فامتنع أصحاب السفن من الانحدار الا سرا او بمؤنه ثقيله.

وقوع الفتنة ببغداد بين أهلها وبين جند السلطان
وفي هذه السنة هاجت الفتنة ووقعت الحرب بين أهل بغداد وجند السلطان الذين كانوا بسامرا، فبايع كل من كان بسامرا منهم المعتز، وأقام من ببغداد منهم على الوفاء ببيعة المستعين.
ذكر الخبر عن سبب هيج هذه الفتنة، وسبب بيعة من كان بسامرا من الجند المعتز وخلعهم المستعين، ونصبهم الحرب لمن اقام على الوفاء ببيعته:

(9/282)


قال ابو جعفر: قد ذكرنا قبل موافاة المستعين وشاهك الخادم ووصيف وبغا وأحمد بن صالح بن شيرزاد بغداد، وكانت موافاتهم إياها يوم الأربعاء لثلاث ساعات مضين من النهار لأربعة أيام- وقيل لخمسة أيام- خلون من المحرم من هذه السنة، فلما وافاها، نزل المستعين على محمد بن عبد الله بن طاهر في داره، ثم وافى بغداد خليفة لوصيف على أعماله، يعرف بسلام، فاستعلم ما عنده، ثم انصرف راجعا إلى منزله بسامرا، فوافى القواد خلا جعفر الخياط وسليمان بن يحيى بن معاذ بغداد مع جلة الكتاب والعمال وبني هاشم، ثم وافى بعد ذلك من قواد الأتراك الذين في ناحيه وصيف كلباتكين القائد وطيغج الخليفة، تركي، وابن عجوز الخليفة، نسائي، وممن في ناحية بغا بايكباك القائد من غلمان الخدمة مع عدة من خلفاء بغا.
وكان- فيما ذكر- وجه إليهم وصيف وبغا قبل قدومهم رسولا، يأمرانهم أن يصيروا إذا قدموا بغداد إلى الجزيرة التي حذاء دار محمد بن عبد الله بن طاهر، ولا يصيروا إلى الجسر، فيرعبوا العامة بدخولهم ففعلوا وصاروا إلى الجزيرة، فنزلوا عن دوابهم، فوجهت إليهم زواريق حتى عبروا فيها، فصعد كلباتكين وبايكباك والقواد من أهل الدور وأرناتجور التركي، فدخلوا على المستعين، فرموا بأنفسهم بين يديه، وجعلوا مناطقهم في أعناقهم تذللا وخضوعا، وكلموا المستعين وسألوه الصفح عنهم والرضا، فقال لهم: أنتم أهل بغي وفساد واستقلال للنعم، ألم ترفعوا إلي في أولادكم، فألحقتهم بكم، وهم نحو من ألفي غلام، وفي بناتكم فأمرت بتصييرهن في عداد المتزوجات وهن نحو من أربعة آلاف امرأة في المدركين والمولودين! وكل هذا قد أجبتكم إليه، وأدررت لكم الأرزاق حتى سبكت لكم آنية الذهب والفضة، ومنعت نفسي لذتها وشهوتها، كل ذلك إرادة لصلاحكم ورضاكم، وأنتم تزدادون بغيا وفسادا وتهددا وإبعادا! فتضرعوا، وقالوا: قد أخطأنا، وأمير المؤمنين الصادق في كل قوله، ونحن

(9/283)


نسأله العفو عنا والصفح عن زلتنا! فقال المستعين: قد صفحت عنكم ورضيت، فقال له بايكباك: فإن كنت قد رضيت عنا وصفحت، فقم فاركب معنا إلى سامرا، فإن الأتراك ينتظرونك، فأومأ محمد بن عبد الله إلى محمد بن أبي عون، فلكز في حلق بايكباك وقال له محمد بن عبد الله: هكذا يقال لأمير المؤمنين، قم فاركب معنا! فضحك المستعين من ذلك وقال: هؤلاء قوم عجم، ليس لهم معرفة بحدود الكلام وقال لهم المستعين، تصيرون الى إلى سامرا، فإن أرزاقكم دارة عليكم، وأنظر في امرى هاهنا ومقامي.
فانصرفوا آيسين منه، وأغضبهم ما كان من محمد بن عبد الله، وأخبروا من وردوا عليه من الأتراك خبرهم، وخالفوا فيما رد عليهم تحريضا لهم على خلعه والاستبدال به، وأجمع رأيهم على إخراج المعتز والبيعة له، وكان المعتز والمؤيد في حبس في الجوسق في حجرة صغيرة، مع كل واحد منهما غلام يخدمه، موكل بهم رجل من الأتراك يقال له عيسى خليفة بليار ومعه عدة من الأعوان، فأخرجوا المعتز من يومهم، فأخذوا من شعره، وقد كان بويع له بالخلافة، وأمر للناس برزق عشرة أشهر للبيعة، فلم يتم المال، فأعطوا شهرين لقلة المال عندهم.
وكان المستعين خلف بسامرا في بيت المال مما كان طلمجور وأساتكين القائدان قدما به من ناحية الموصل من مال الشام نحوا من خمسمائة ألف دينار، وفي بيت مال أم المستعين قيمة ألف ألف دينار، وفي بيت مال العباس ابن المستعين قيمه ستمائه ألف دينار، فذكر أن نسخة البيعة التي أخذت:
بسم الله الرحمن الرحيم تبايعون عبد الله الإمام المعتز بالله أمير المؤمنين بيعة طوع واعتقاد، ورضا ورغبة وإخلاص من سرائركم، وانشراح من صدوركم، وصدق من نياتكم، لا مكرهين ولا مجبرين، بل مقرين عالمين بما في هذه البيعة وتأكيدها من تقوى الله وإيثار طاعته، وإعزاز حقه ودينه، ومن عموم صلاح عباد الله واجتماع الكلمة، ولم الشعث، وسكون الدهماء، وأمن

(9/284)


العواقب، وعز الأولياء، وقمع الملحدين، على أن أبا عبد الله المعتز بالله عبد الله وخليفته المفترض عليكم طاعته ونصيحته والوفاء بحقه وعهده، لا تشكون ولا تدهنون، ولا تميلون ولا ترتابون، وعلى السمع والطاعة، والمشايعة والوفاء، والاستقامة والنصيحة في السر والعلانية، والخفوف والوقوف عند كل ما يأمر به عبد الله أبو عبد الله الإمام المعتز بالله أمير المؤمنين، من موالاة أوليائه، ومعاداة أعدائه، من خاص وعام، وقريب وبعيد، متمسكين ببيعته بوفاء العقد وذمة العهد، سرائركم في ذلك كعلانيتكم، وضمائركم فيه كمثل ألسنتكم، راضين بما يرضى به أمير المؤمنين بعد بيعتكم هذه على أنفسكم، وتأكيدكم إياها في أعناقكم صفقة، راغبين طائعين، عن سلامة من قلوبكم وأهوائكم ونياتكم، وبولاية عهد المسلمين لإبراهيم المؤيد بالله أخي أمير المؤمنين، وعلى ألا تسعوا في نقض شيء مما أكد عليكم، وعلى ألا يميل بكم في ذلك مميل عن نصرة وإخلاص وموالاة، وعلى ألا تبدلوا ولا تغيروا، ولا يرجع منكم راجع عن بيعته وانطوائه على غير علانيته، وعلى أن تكون بيعتكم التي أعطيتموها بألسنتكم وعهودكم بيعة يطلع الله من قلوبكم على اجتبائها واعتمادها.
وعلى الوفاء بذمة الله فيها، وعلى إخلاصكم في نصرتها وموالاة أهلها، لا يشوب ذلك منكم نفاق ولا إدهان ولا تأول، حتى تلقوا الله موفين بعهده، مؤدين حقه عليكم، غير مستريبين ولا ناكثين، إذ كان الذين يبايعون منكم أمير المؤمنين بيعة خلافته وولاية العهد من بعده لإبراهيم المؤيد بالله أخي أمير المؤمنين: «إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً.
» عليكم بذلك وبما أكدت عليكم به هذه البيعة في أعناقكم، وأعطيتم بها من صفقة أيمانكم، وبما اشترط عليكم من وفاء ونصرة، وموالاة واجتهاد وعليكم عهد الله إن عهده كان مسئولا، وذمة الله عز وجل وذمة محمد ص، وما أخذ الله على أنبيائه ورسله، وعلى أحد من عباده من مواكيده ومواثيقه،

(9/285)


أن تسمعوا ما أخذ عليكم في هذه البيعة ولا تبدلوا ولا تميلوا، وأن تمسكوا بما عاهدتم الله عليه تمسك أهل الطاعة بطاعتهم، وذوي الوفاء والعهد بوفائهم، ولا يلفتكم عن ذلك هوى ولا ميل، ولا يزيغ قلوبكم فتنة أو ضلالة عن هدى، باذلين في ذلك أنفسكم واجتهادكم، ومقدمين فيه حق الدين والطاعة والوفاء بما جعلتم على أنفسكم، لا يقبل الله منكم في هذه البيعة إلا الوفاء بها.
فمن نكث منكم ممن بايع أمير المؤمنين وولي عهد المسلمين أخا أمير المؤمنين هذه البيعة على ما أخذ عليكم، مسرا أو معلنا، مصرحا أو محتالا أو متأولا، وادهن فيما أعطى الله من نفسه، وفيما أخذ عليه من مواثيق الله وعهوده، وزاغ عن السبيل التي يعتصم بها أولو الرأي، فكل ما يملك كل واحد منكم ممن ختر في ذلك منكم عهده، من مال أو عقار أو سائمة أو زرع أو ضرع صدقة على المساكين في وجوه سبيل الله، محبوس محرم عليه أن يرجع شيئا من ذلك إلى ماله، عن حيلة يقدمها لنفسه، أو يحتال له بها، وما أفاد في بقية عمره من فائدة مال يقل خطرها أو يجل، فذلك سبيلها، إلى أن توافيه منيته، ويأتي عليه أجله وكل مملوك يملكه اليوم وإلى ثلاثين سنة، ذكر أو أنثى، أحرار لوجه الله، ونساؤه يوم يلزمه فيه الحنث ومن يتزوج بعدهن إلى ثلاثين سنة طوالق طلاق الحرج، لا يقبل الله منه إلا الوفاء بها، وهو بريء من الله ورسوله، والله ورسوله منه بريئان، ولا قبل الله منه صرفا ولا عدلا، والله عليكم بذلك شهيد، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وأحضر- فيما ذكر- البيعة ابو احمد بن الرشيد وبه النقرس محمولا في محفة، فأمر بالبيعة فامتنع، وقال للمعتز: خرجت إلينا خروج طائع فخلعتها، وزعمت أنك لا تقوم بها، فقال المعتز: أكرهت على ذلك وخفت السيف فقال أبو أحمد: ما علينا أنك أكرهت، وقد بايعنا هذا الرجل، فتريد أن نطلق نساءنا، ونخرج من أموالنا، ولا ندري ما يكون! إن تركتني على أمري حتى يجتمع الناس، وإلا فهذا السيف فقال المعتز اتركوه، فرد إلى منزله من غير بيعة

(9/286)


وكان ممن بايع إبراهيم الديرج وعتاب بن عتاب، فهرب فصار إلى بغداد وأما الديرج فخلع عليه، وأقر على الشرطة، وخلع على سليمان بن يسار الكاتب، وصير على ديوان الضياع، وأقام يومه يأمر وينهى وينفذ الأعمال، ثم توارى في الليل، وصار إلى بغداد ولما بايع الأتراك المعتز ولي عماله، فولى سعيد بن صالح الشرطه، وجعفر ابن دينار الحرس، وجعفر بن محمود الوزارة، وأبا الحمار ديوان الخراج، ثم عزل وجعل مكانه محمد بن ابراهيم منقار، وولى ديوان جيش الأتراك المعروف بأبي عمر كاتب سيما الشرابي، وولى مقلدا كيد الكلب أخا أبي عمر بيوت الأموال وإعطاء الأتراك والمغاربة والشاكرية، وولى بريد الآفاق والخاتم سيما السارباني، واستكتب أبا عمر، فكان في حد الوزارة.
ولما اتصل بمحمد بن عبد الله خبر البيعة للمعتز وتوجيهه العمال، أمر بقطع الميرة عن أهل سامرا، وكتب إلى مالك بن طوق في المصير إلى بغداد هو ومن معه من أهل بيته وجنده، وإلى نجوبة بن قيس وهو على الأنبار في الاحتشاد والجمع، وإلى سليمان بن عمران الموصلي في جمع أهل بيته ومنع السفن أو شيء من الميرة أن ينحدر إلى سامرا، ومنع أن يصعد شيء من الميرة من بغداد إلى سامرا، وأخذت سفينة فيها أرز وسقط، فهرب الملاح منها وبقيت السفينة حتى غرقت، وأمر المستعين محمد بن عبد الله بن طاهر بتحصين بغداد، فتقدم في ذلك، فأدير عليها السور من دجلة من باب الشماسية إلى سوق الثلاثاء حتى أورده دجلة ومن دجلة من باب قطيعة أم جعفر، حتى أورده قصر حميد بن عبد الحميد، ورتب على كل باب قائدا في جماعة من أصحابه وغيرهم وأمر بحفر الخنادق حول السورين كما يدوران في الجانبين جميعا ومظلات يأوي إليها الفرسان في الحر والأمطار، فبلغت النفقة- فيما ذكر- على السورين وحفر الخنادق والمظلات ثلاثمائة ألف دينار وثلاثين ألف دينار، وجعل على باب الشماسية خمس شداخات بعرض الطريق، فيها

(9/287)


العوارض والألواح والمسامير الطوال الظاهرة، وجعل من خارج الباب الثاني باب معلق بمقدار الباب ثخين، قد ألبس بصفائح الحديد، وشد بالحبال كي إن وافى أحد ذلك الباب أرسل عليه الباب المعلق، فقتل من تحته وجعل على الباب الداخل عرادة، وعلى الباب الخارج خمسة مجانيق كبار، وفيها واحد كبير سموه الغضبان، وست عرادات ترمي بها إلى ناحية رقة الشماسية، وصير على باب البردان ثماني عرادات، في كل ناحية أربع، وأربع شداخات وكذلك على كل باب من أبواب بغداد في الجانب الشرقي والغربي، وجعل على كل باب من أبوابها قوادا برجالهم وجعل لكل باب من أبوابها دهليزا بسقائف تسع مائة فارس ومائة راجل، ولكل منجنيق وعرادة رجالا مرتبين يمدون بحباله وراميا يرمي إذا كان القتال وفرض فروضا ببغداد ومر قوم من اهل خراسان قدموا حجاجا، فسألوا المعونة على قتال الاتراك.
فأعينوا وأمر محمد بن عبد الله بن طاهر أن يفرض من العيارين فرض، وأن يجعل عليهم عريف، ويعمل لهم تراس من البواري المقيرة، وأن يعمل لهم مخال تملأ حجارة ففعل ذلك وتولى- فيما ذكر- عمل البواري المقيرة محمد بن أبي عون وكان الرجل منهم يقوم خلف البارية فلا يرى منها.
عملت نسائجات، أنفق عليها زيادة على مائة دينار، وكان العريف على أصحاب البواري المقيرة من العيارين رجلا يقال له ينتويه وكان الفراغ من عمل السور يوم الخميس لسبع بقين من المحرم.
وكتب المستعين إلى عمال الخراج بكل بلدة وموضع أن يكون حملهم ما يحملون من الأموال إلى السلطان إلى بغداد، ولا يحملون إلى سامرا شيئا، وإلى عمال المعاون في رد كتب الأتراك وأمر بالكتاب إلى الأتراك والجند الذين بسامرا يأمرهم بنقض بيعة المعتز ومراجعة الوفاء ببيعتهم إياه، ويذكرهم أياديه عندهم، وينهاهم عن معصيته ونكث بيعته، وكان كتابه بذلك إلى سيما الشرابي

(9/288)


ثم جرت بين المعتز ومحمد بن عبد الله بن طاهر مكاتبات ومراسلات، يدعو المعتز محمدا إلى الدخول فيما دخل فيه من بايعه بالخلافة وخلع المستعين، ويذكره ما كان أبوه المتوكل أخذ له عليه بعد أخيه المنتصر من العهد وعقد الخلافة، ودعوة محمد بن عبد الله المعتز إلى ما عليه من الأوبة إلى طاعة المستعين، واحتجاج كل واحد منهما على صاحبه فيما يدعوه إليه من ذلك بما يراه حجة له، تركت ذكرها كراهة الإطالة بذكرها.
وأمر محمد بن عبد الله بكسر القناطر وبثق المياه بطسوج الأنبار وما قرب منه من طسوج بادوريا، ليقطع طريق الأتراك حين تخوف من ورودهم الأنبار.
وكان الذي تولى ذلك نجوبة بن قيس ومحمد بن حمد بن منصور السعدي.
وبلغ محمد بن عبد الله توجيه الأتراك لاستقبال الشمسة التي كانت مع البينوق الفرغاني من يحميها من أصحابه فوجه محمد ليلة الأربعاء لعشر بقين من المحرم خالد بن عمران وبندار الطبري إلى ناحية الأنبار.
ثم وجه بعدهما رشيد بن كاوس، فصادفوا البينوق ومن معه من الأتراك والمغاربة، وطالبهم خالد وبندار بالشمسة، فصار البينوق وأصحابه مع خالد وبندار إلى بغداد إلى المستعين وكان محمد بن الحسن بن جيلويه الكردي يتولى معونة عكبراء، وكان على الراذان رجل من المغاربة قد اجتمع عنده مال، فتوجه إليه ابن جيلويه، ودعاه إلى حمل مال الناحية، فامتنع عليه، ونصب له الحرب، فأسر ابن جيلويه المغربي، وحمله إلى باب محمد بن عبد الله، ومعه من مال الناحية اثنا عشر ألف دينار وثلاثون ألف درهم، فأمر محمد بن عبد الله لابن جيلويه بعشرة آلاف درهم وكتب كل واحد من المستعين والمعتز إلى موسى بن بغا، وهو مقيم بأطراف الشام قرب الجزيرة- وكان خرج إلى حمص لحرب أهلها- يدعوه إلى نفسه، وبعث كل واحد منهما إليه بعدة ألوية يعقدها لمن أحب، ويأمره المستعين بالانصراف إلى مدينة السلام، ويستخلف على عمله من رأى فانصرف

(9/289)


إلى المعتز وصار معه وقدم عبد الله بن بغا الصغير بغداد على ابيه، وكان قد تخلف بسامرا حين خرج أبوه منها مع المستعين، وصار إلى المستعين، فاعتذر إليه وقال لأبيه: إنما قدمت إليك لأموت تحت ركابك وأقام ببغداد أياما، ثم استأذن ليخرج إلى قرية بقرب بغداد على طريق الأنبار، فأذن له، فأقام فيها إلى الليل، ثم هرب من تحت ليلته، فمضى في الجانب الغربي الى سامرا مجانبا لأبيه، وممالئا عليه، واعتذر إلى المعتز من مصيره إلى بغداد، وأخبره أنه إنما صار إليها ليعرف اخبارهم، وليصير اليه فيعرفه صحتها فقبل ذلك منه، ورده إلى خدمته.
وورد الحسن بن الأفشين بغداد، فخلع عليه المستعين، وضم إليه من الأشروسنية وغيرهم جماعة كثيرة، وزاد في أرزاقه ستة عشر ألف درهم في كل شهر.
ولم يزل أسد بن داود سياه مقيما بسامرا، حتى هرب منها، فذكر أن الأتراك بعثوا في طلبه إلى ناحية الموصل والأنبار والجانب الغربي في كل ناحية خمسين فارسا، فوافى مدينة السلام، فدخل على محمد بن عبد الله، فضم إليه من أصحاب إبراهيم الديرج مائة فارس ومائتي راجل، ووكله بباب الأنبار مع عبد الله بن موسى بن ابى خالد.
وعقد المعتز لأخيه أبي أحمد بن المتوكل يوم السبت لسبع بقين من المحرم من هذه السنة- وهي سنة إحدى وخمسين ومائتين- على حرب المستعين وابن طاهر، وولاه ذلك، وضم إليه الجيش، وجعل إليه الأمر والنهي، وجعل التدبير الى كلباتكين التركي، فعسكر بالقاطول في خمسة آلاف من الأتراك والفراغنة وألفين من المغاربة، وضم المغاربة إلى محمد بن راشد المغربي، فوافوا عكبراء ليلة الجمعة لليلة بقيت من المحرم، فصلى أبو أحمد، ودعا للمعتز بالخلافة، وكتب بذلك نسخا إلى المعتز، فذكر جماعة من أهل عكبراء أنهم رأوا الأتراك والمغاربة وسائر أتباعهم، وهم على خوف شديد، يرون أن محمد بن

(9/290)


عبد الله قد خرج إليهم فسبقهم إلى حربهم، وجعلوا ينتهبون القرى ما بين عكبراء وبغداد وأوانا وسائر القرى من الجانب الغربي، تخوفا على أنفسهم وخلوا عن الغلات والضياع، فخربت الضياع، وانتهبت الغلات والأمتعة وهدمت المنازل، وسلب الناس في الطريق.
ولما وافى أبو أحمد عكبراء ومن معه خرج جماعة من الأتراك الذين كانوا مع بغا الشرابي بمدينة السلام من مواليه والمضمومين إليه، فهربوا ليلا، فاجتازوا بباب الشماسية، وكان على الباب عبد الرحمن بن الخطاب، ولم يعلم بخبرهم، وبلغ محمد بن عبد الله ذلك، فأنكره عليه وعنفه، وتقدم في حفظ الأبواب وحراستها والنفقة على من يتولاها.
ولما وافى الحسن بن الأفشين مدينة السلام وكل بباب الشماسية.
ثم وافى أبو أحمد وعسكره الشماسية ليلة الأحد لسبع خلون من صفر، ومعه كاتبه محمد بن عبد الله بن بشر بن سعد المرثدي، وصاحب خبر العسكر من قبل المعتز الحسن بن عمرو بن قماش ومن قبله، صاحب خبر له يقال له جعفر بن احمد البناتى، يعرف بابن الخبازة، فقال رجل من البصريين كان في عسكره ويعرف بباذنجانة:
يا بني طاهر أتتكم جنود الله ... والموت بينها منثور
وجيوش أمامهن أبو أحمد ... نعم المولى ونعم النصير
ولما صار أبو أحمد بباب الشماسية ولى المستعين الحسين بن اسماعيل باب الشماسيه، وصير من هناك من القواد تحت يده، فلم يزل مقيما هناك مدة الحرب إلى أن شخص إلى الأنبار، فولى مكانه إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم، ولثلاث عشرة مضت من صفر، صار إلى محمد بن عبد الله جاسوس له، فأعلمه أن أبا أحمد قد عبى قوما يحرقون ظلال الأسواق من جانبي بغداد، فكشطت في ذلك اليوم

(9/291)


وذكر أن محمد بن عبد الله وجه محمد بن موسى المنجم والحسين بن إسماعيل، وأمرهما أن يخرجا من الجانب الغربي، وأن يرتفعا حتى يجاوزا عسكر أبي أحمد ويحزرا: كم في عسكره؟ فزعم محمد بن موسى أنه حزرهم ألفي إنسان، معهم ألف دابة، فلما كان يوم الاثنين لعشر خلون من صفر وافت طلائع الأتراك إلى باب الشماسية، فوقفوا بالقرب منه، فوجه محمد بن عبد الله الحسين بن إسماعيل والشاه بن ميكال وبندار الطبري فيمن معهم، وعزم على الركوب لمقاتلتهم، فانصرف إليه الشاه، فأعلمه أنه وافى بمن معه باب الشماسية.
فلما عاين الأتراك الأعلام والرايات وقد أقبلت نحوهم انصرفوا إلى معسكرهم، فانصرف الشاه والحسين، وترك محمد الركوب يومئذ.
فلما كان يوم الثلاثاء لإحدى عشرة ليلة خلت من صفر عزم محمد بن عبد الله على توجيه الجيوش إلى القفص ليعرض جنده، هنالك، ويرهب بذلك الأتراك، وركب معه وصيف وبغا في الدروع، وعلى محمد درع، وفوق الدرع صدرة من درع طاهر، وعليه ساعد حديد، ومضى معه بالفقهاء والقضاة، وعزم على دعائهم إلى الرجوع عما هم عليه من التمادي في الطغيان واللجاج والعصيان، وبعث يبذل لهم الأمان على أن يكون أبو عبد الله ولي العهد بعد المستعين، فإن قبلوا الأمان وإلا باكرهم بالقتال يوم الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة تخلو من صفر، فمضى نحو باب قطربل، فنزل على شاطئ دجلة هو ووصيف وبغا، ولم يمكنه التقدم لكثرة الناس، وعارضهم من جانب دجلة الشرقي محمد بن راشد المغربي.
ثم انصرف محمد، فلما كان من الغد وافته رسل عبد الرحمن بن الخطاب وجه الفلس وعلك القائد ومن معهما من القواد، يعلمونه أن القوم قد دنوا منهم، وأنهم قد رجعوا إلى عسكرهم إلى رقة الشماسية، فنزلوا وضربوا مضاربهم فأرسل إليهم ألا تبدءوهم، وإن قاتلوكم فلا تقاتلوهم، وادفعوهم اليوم فوافى باب الشماسية اثنا عشر فارسا من عسكر الأتراك- وكان على باب الشماسية

(9/292)


باب وسرب، وعلى السرب باب، فوقف الاثنا عشر الفارس بإزاء الباب، وشتموا من عليه، ورموا بالسهام، ومن باب الشماسية سكوت عنهم، فلما أكثروا أمر علك صاحب المنجنيق أن يرميهم، فرماهم فأصاب منهم رجلا فقتله، فنزل أصحابه إليه، فحملوه وانصرفوا إلى عسكرهم بباب الشماسية.
وقدم عبد الله بن سليمان خليفة وصيف التركي الموجه إلى طريق مكة لضبط الطريق مع أبي الساج في ثلاثمائة رجل من الشاكرية، فدخل على محمد بن عبد الله، فخلع عليه خمس خلع، وعلى آخر ممن معه أربع خلع.
ودخل أيضا في هذا اليوم رجل من الأعراب من أهل الثعلبية يطلب الفرض معه خمسون رجلا، وورد الشاكرية القادمون من سامرا من قيادات شتى، وهم أربعون رجلا، فأمر بإعطائهم وإنزالهم فأعطوا.
ووافى الأتراك في هذا اليوم باب الشماسية، فرموا بالسهام والمنجنيق والعرادات، وكان بينهم قتلى وجرحى كثير، وكان الأمير الحسين بن اسماعيل لمحاربتهم، ثم أمد بأربعمائة رجل من الملطيين مع رجل يعرف بأبي السنا الغنوي وهو ابن أخت الهيثم الغنوي، ثم أمدهم بقوم من الاعراب نحو من ثلاثمائة رجل، وحمل في هذا اليوم من الصلات لمن أبلى في الحرب.
خمسة وعشرين ألف درهم، واطوقه واسوره من ذهب، فصار ذلك الى الحسين ابن إسماعيل وعبد الرحمن بن الخطاب وعلك ويحيى بن هرثمة والحسن بن الأفشين وصاحب الحرب الحسين بن إسماعيل، فكان الجرحى من أهل بغداد أكثر من مائتي إنسان، والقتلى عدة، وكذلك الجراحات في الأتراك والقتلى أكثرهم بالمجانيق، وانهزم أكثر عامة أهل بغداد، وثبت أصحاب البواري وانصرفوا جميعا، وهم في القتلى والجرحى شبيه بالسواء، وجرح من هؤلاء- فيما ذكر- مائتان، ومن هؤلاء مائتان، وقتل جماعة من الفريقين.
وجاء كردوس من الفراغنة والأتراك في هذا اليوم إلى باب خراسان من

(9/293)


الجانب الشرقي ليدخلوا منه، وأتى الصريخ محمد بن عبد الله، وثبت لهم المبيضة والغوغاء فردوهم وقد كان محمد أمر أن يمخر تلك الناحية، فلما أرادوا الانصراف، وحلت عامة دوابهم، ونجا أكثرهم، أحضر الأتراك منجنيقا، فغلبهم الغوغاء عليه والمبيضة، وكسروا قائمة من قوائمه، وقتل اثنان من الشاشية من الحجاج، وأمر بحمل الآجر من قصر الطين وتلك الناحية إلى باب الشماسية، وفتحوا باب الشماسية، وأخرجوا إلى الآجر من لقطه، وردوه إلى هذا الجانب من السور.
وكان محمد بن عبد الله اتصل به أن جماعة من الأتراك قد صاروا إلى ناحية النهروان، فوجه قائدين من قواده يقال لهما عبد الله بن محمود السرخسي ويحيى بن حفص المعروف بحبوس في خمسمائة من الفرسان والرجالة إلى هذه الناحية، ثم اردفهم بسبعمائة رجل أيضا، وأمرهم بالمقام هناك، ومنع من أراده من الأتراك، فتوجه آخرهم إلى هذه الناحية يوم الجمعة لسبع خلون من صفر.
فلما كان ليلة الاثنين لثلاث عشرة بقيت من صفر، صار قوم من الأتراك إلى النهروان، فخرج جماعة ممن كان مع عبد الله بن محمود، فرجعوا هرابا، وأخذت دوابهم، وانصرف من نجا منهم إلى مدينة السلام مفلولين، وقتل زهاء خمسين رجلا، وأخذوا ستين دابة، وعدة من البغال قد كانت جاءت من ناحيه حلوان عليها الثلج، فوجهوا بها إلى سامرا، ووجهوا برءوس من قتلوا من الجند، فكانت أول رءوس وافت في تلك الحرب سامرا.
وانصرف عبد الله بن محمود مفلولا في شرذمة، وصار طريق خراسان في أيدي الأتراك، وانقطع الطريق من بغداد إلى خراسان.
وكان إسماعيل بن فراشة وجه إلى همذان للمقام بها، فكتب إليه بالانصراف، فانصرف، فأعطي هو وأصحابه استحقاقهم

(9/294)


ووجه المعتز عسكرا من الأتراك والمغاربة والفراغنة ومن هو في عدادهم.
وعلى الأتراك والفراغنة الدرغمان الفرغاني، وعلى المغاربة ربلة المغربي، فساروا إلى مدينة السلام من الجانب الغربي، فجازوا قطربل إلى بغداد، وضربوا عسكرهم بين قطربل وقطيعة أم جعفر، وذلك عشية الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من صفر فلما كان يوم الأربعاء من غد هذه الليلة، وجه محمد بن عبد الله بن طاهر الشاه بن ميكال من باب القطيعة وبندارا وخالد بن عمران فيمن معهم من أصحابهم من الفرسان والرجالة فصافهم الشاه وأصحابه، فتراموا بالحجارة والسهام، وألجئوا الشاه إلى مضيق عند باب القطيعة، وكثر المبيضة من أهل بغداد، ثم حمل الشاه والمبيضة حملة واحدة أزالوا بها الأتراك والمغاربة ومن معهم عن موضعهم، وحمل عليهم المبيضة، وأصحروا بهم، وحمل عليهم الطبرية فخالطوهم، وخرج عليهم بندار وخالد بن عمران من الكمين، وكانوا كمنوا في ناحية قطربل، فوضعوا في أصحاب أبي أحمد الأتراك منهم وغيرهم السيف، فقتلوهم أبرح قتل، فلم يفلت منهم إلا القليل، وانتهب المبيضة عسكرهم وما كان فيه من المتاع والأهل والأثقال والمضارب والخرثي، فكل من أفلت منهم من السيف رمى بنفسه في دجلة ليعبر إلى عسكر أبي أحمد، فأخذه أصحاب الشبارات، وكانت الشبارات قد شحنت بالمقاتلة- فقتلوا وأسروا، وجعل القتلى والرءوس من الأتراك والمغاربة وغيرهم في الزواريق، فنصبت بعضها في الجسرين، وعلى باب محمد بن عبد الله، فأمر محمد بن عبد الله لمن أبلى في هذا اليوم بالأسورة، فسور قوم كثير من الجند وغيرهم، فطلب المنهزمة، فبلغ بعضهم أوانا، وبلغ بعضهم ناحية عسكر أبي أحمد عبر دجلة، وبعضهم نفذ إلى سامرا.
وذكر أن عسكر الاتراك يوم هزموا بباب القطيعة كانوا أربعة آلاف، فقتل منهم يوم الوقعة هنالك ألفان، وكان وضع فيهم بالسيف من باب

(9/295)


القطيعة إلى القفص، فقتلوا من قتلوا، وغرق من غرق، وأسر منهم جماعة، فخلع محمد بن عبد الله على بندار أربع خلع ملحم، ووشي وسواد وخز، وطوقه طوقا من ذهب، وخلع على أبي السنا أربع خلع، وعلى خالد بن عمران وجميع القواد، كل رجل أربع خلع وكان انصرافهم من الوقعة مع المغرب، وسخرت البغال، وأخذ لها الجواليق لتحمل فيها الرءوس إلى بغداد.
وكان كل من وافى دار محمد برأس تركي أو مغربي أعطوه خمسين درهما، وكان أكثر ذلك العمل للمبيضه والعيارين، ثم وافى عيار وبغداد قطربل، فانتهبوا ما تركه الأتراك من متاع أهل قطربل وأبواب دورهم، فوجه محمد في آخر هذا اليوم أخاه أبا أحمد عبيد الله بن عبد الله والمظفر بن سيسل في أثر المنهزمين حياطة لأهل بغداد، لأنه لم يأمن رجعتهم عليه فبلغا القفص، وانصرفا سالمين، وزعجا من اقام من الرجاله والعيار بن بناحية قطربل، وأشير على محمد بن عبد الله أن يتبعهم بعسكر في اليوم الثاني وفي تلك الليلة، ليوغل في آثارهم، فأبى ذلك ولم يتبع موليا، ولم يأمر أن يجهز على جريح، وقبل أمان من استأمن، وأمر سعيد بن حميد فكتب كتابا يذكر فيه هذه الوقعة، فقرئ على أهل بغداد في مسجد جامعها، نسخته:
بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد، فالحمد لله المنعم فلا يبلغ أحد شكر نعمته، والقادر فلا يعارض في قدرته، والعزيز فلا يغالب في امره، والحكم العدل فلا يرد حكمه، والناصر فلا يكون نصره إلا للحق وأهله، والمالك لكل شيء فلا يخرج أحد عن أمره، والهادي إلى الرحمة فلا يضل من انقاد لطاعته، والمقدم إعذاره ليظاهر به حجته، الذي جعل دينه لعباده رحمة، وخلافته لدينه عصمة، وطاعة خلفائه فرضا واجبا على كافة الأمة، فهم المستحفظون في ارضه على

(9/296)


ما بعث به رسله، وأمناؤه على خلقه فيما دعاهم إليه من دينه، والحاملون لهم على منهاج حقه، لئلا يتشعب بهم الطريق إلى المخالفة لسبيله، والهادي لهم إلى صراطه، ليجمعهم على الجادة التي ندب إليها عباده الذين بهم يحمى الدين من الغواة والمخالفين، محتجين على الأمم بكتاب الله الذي استعملهم به، ودعا الأمة بحق الله الذي اختارهم له، إن جاهدوا كانت حجة الله معهم، وإن حاربوا حكم بالنصر لهم، وإن بغاهم عدو كانت كفاية الله حائلة دونهم ومعقلا لهم، وإن كادهم كائد فالله من وراء عونهم، نصبهم الله لإعزاز دينه، فمن عاداهم فإنما عادى الدين الذي أعزه وحرسه بهم، ومن ناواهم فإنما طعن على الحق الذي يكلؤه بحراستهم، جيوشهم بالنصر والعز منصورة، وكتائبهم بسلطان الله من عدوهم محفوظة، وأيديهم عن دين الله دافعة، وأشياعهم بتناصرهم في الحق عالية، وأحزاب أعدائهم ببغيهم مقموعة، وحجتهم عند الله وعند خلقه داحضه، ووسائلهم إلى النصر مردودة، تجمعهم مواطن التحاكم، وأحكام الله بخذلانهم واقعة، وأقداره بإسلامهم إلى أوليائه جارية، وعاداتهم في الأمم السالفة والقرون الخالية ماضية، ليكون أهل الحق على ثقة من انجاز سابق الوعد، واعداؤه محجوبون بما قدم إليهم من الإنذار، معجلة لهم نقمة الله بأيدي أوليائه، معد لهم العذاب عند ربهم، والخزي موصول بنواصيهم في دنياهم، وعذاب الآخرة من ورائهم وما الله بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ.
وصلى الله على نبيه المصطفى، ورسوله المرتضى، والمنقذ من الضلالة إلى الهدى، صلاة تامة نامية بركاتها، دائمة اتصالها، وسلم تسليما.
والحمد لله تواضعا لعظمته، والحمد لله إقرارا بربوبيته، والحمد لله اعترافا بقصور أقصى منازل الشكر عن أدنى منزلة من منازل كرامته والحمد لله الهادي إلى حمده، والموجب به مزيده، والمحصي به عوائد إحسانه، حمدا يرضاه ويتقبله، ويوجب طوله وأفضاله والحمد لله الذي حكم بالخذلان على من

(9/297)


بغى على أهل دينه، وسبق وعده بالنصر لمن بغي عليه من أنصار حقه.
وأنزل بذلك كتابه العزيز، موعظة للباغين، فإن أقلعوا كانت التذكرة نافعة لهم، والحجة عند الله لمن قام بها فيهم، ثم أوجب بعد التذكرة والإصرار جهادهم، فقال فيما قدم من وعده، وأبان من برهانه: «ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ» ، وعدا من الله حقا نهى به أعداءه عن معصيته، وثبت به أولياءه على سبيله، والله لا يخلف الميعاد ولله عند أمير المؤمنين في رئيس دعوته، وسيف دولته، والمحامي عن سلطانه ومحل ثقته، والمتقدم في طاعته ونصيحته لأوليائه، والذاب عن حقه، والقائم بمجاهدة أعدائه، محمد بن عبد الله مولى أمير المؤمنين، نعمة يرغب إلى الله في إتمامها، والتوفيق لشكرها، والتطول بمن أراد المزيد فيها، فإن الله قدر لآبائه القيام بالدعوة الأولى لآباء أمير المؤمنين، ثم جمع له آثارهم بقيامه بالدولة الثانية، حين حاول أعداء الله أن يطمسوا معالم دينه ويعفوها، فقام بحق الله وحق خليفته، محاميا عنها، ومراميا من ورائها، متناولا للبعيد برأيه ونظره، مباشرا للقريب بإشرافه وتفقده، باذلا نفسه في كل ما قربه من الله، وأوجب له الزلفة عنده، وسيمتع الله أمير المؤمنين به وليا، مكانفا على الحق، وناصرا موازرا على الخير، وظهيرا مجاهدا لعدو الدين وقد علمتم ما كان كتاب أمير المؤمنين تقدم به إليكم فيما أحدثته الفرقة الضالة عن سبيل ربها، المفارقة لعصمة دينها، الكافرة لنعم الله ونعم خليفته عندها، المباينة لجماعة الأمة التي ألف الله بخلافته نظامها، المحاولة لتشتيت الكلمة بعد اجتماعها، الناكثة لبيعته، الخالعة لربقة الإسلام من أعناقها، الموالي الأتراك، وما صارت إليه من نصر الغلام المعروف بأبي عبد الله بن المتوكل لإقامتها عند مصير أمير المؤمنين إلى مدينة السلام، محل سلطانه، ومجتمع أنصاره وأبناء أنصار آبائه، وما قابل به أمير المؤمنين خيانتهم وآثره من الأناة في أمرهم

(9/298)


ثم إن هؤلاء الناكثين جمعوا جمعا من الأتراك والمغاربة، ومن ولج في سوادهم، ودخل في غمارهم، مؤاتيا للفتنة من ألفاف الغي، ورأسوا عليهم المعروف بأبي أحمد بن المتوكل، ثم ساروا نحو مدينة السلام في الجانب الشرقي، معلنين للبغي والاقتدار، مظهرين للغي والإصرار، فتأناهم أمير المؤمنين، وفسح لهم في النظرة لهم، وأمر بالكتاب إليهم بما فيه تبصيرهم الرشد، وتذكيرهم بما قدموا من البيعة، وإفهامهم ما لله عليهم وله في ذلك من الحق، وأن خروجهم مما دخلوا فيه من بيعتهم طوعا، الخروج من دين الله والبراءة منه ومن رسوله، وتحريمهم أموالهم ونساءهم عليهم، وأن في تمسكهم به سلامة أديانهم، وبقاء نعمتهم، والاحتراس من حلول النقم بهم، وأن يبين لهم ما سلف من بلائه عندهم، من أسنى المواهب، وأرفع الرغائب، والاختصاص بسني المراتب، والتقدم في المحافل، فأبوا إلا تماديا ونفارا، وتمسكا بالغي وإصرارا.
فقلد أمير المؤمنين نصيحة المؤتمن ووليه محمد بن عبد الله مولى امير المؤمنين تدبير أمورهم ودعائهم إلى الحق ما كانت الإنابة او محاربتهم ان جنح بهم غيهم، وتتابعوا في ضلالهم، فلم يألهم نظرا وإفهاما، وتبيينا وإرشادا، وهم في ذلك رافعون أصواتهم بالتوعد لأهل لمدينه السلام، بسفك دمائهم وسبي نسائهم وتغنم أموالهم، وقبل ذلك ما كانوا في مسيرهم على السبيل التي يستعملها أهل الشرك في غاراتهم، ويميلون إليها عند إمكان النهزة لهم، لا يجتازون بعامر إلا أخربوه، ولا بحريم لمسلم ولا غيره إلا أباحوه، ولا بمسلم يعجز عنهم إلا قتلوه، ولا بمال لمسلم ولا ذمي إلا أخذوه، حتى انتقل كثير ممن سبقت إليه أخبارهم ممن أمامهم عن أوطانهم، وفارقوا منازلهم ورباعهم، وفزعوا إلى باب أمير المؤمنين تحصنا من معرتهم، لا يمرون بغني إلا خلعوا عنه لباس الغنى، ولا بمستور إلا هتكوا عن الذرية والنساء ستره، لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً، ولا يتوقفون عن مسلم بهتك ولا مثلة، ولا يرغبون عما حرم الله من دم ولا حرمة.
ثم تلقوا التذكرة بالحرب، وقابلوا الموعظة بالإصرار على الذنب، وعارضوا

(9/299)


التبصير بالاستبصار في الباطل، فذلفوا نحو باب الشماسيه، وقد رتب محمد ابن عبد الله مولى أمير المؤمنين بذلك الباب والأبواب التي سبيلها سبيله من أبواب مدينة السلام الجيوش في العدة الكاملة، والعدة المتظاهرة، معاقلهم التوكل على ربهم، وحصونهم الاعتصام بطاعته، وشعارهم التكبير والتهليل أمام عدوهم.
ومحمد بن عبد الله مولى أمير المؤمنين، يأمرهم بتحصين ما يليهم والإمساك عن الحرب ما كانت مندوحة لهم، فباداهم الأولياء بالموعظة، وبدأهم الغواة الناكثون بحربهم، وعادوهم أياما بجموعهم وعدادهم، مدلين بعدتهم ومقدرين ألا غالب لهم، ولا يعلمون بالله أن قدرته فوق قدرتهم، وأن أقداره نافذة بخلاف إرادتهم، وأحكامه عادلة ماضية لأهل الحق عليهم، حتى إذا كان يوم السبت للنصف من صفر وافوا باب الشماسية بأجمعهم، قد نشروا أعلامهم، وتنادوا بشعارهم، وتحصنوا بأسلحتهم، وبدا الأمر منهم لمن عاينهم، ليس لهم وعيد دون سفك الدماء، وسبي النساء، واستباحة الأموال، فبدأهم الأولياء بالموعظة فلم يسمعوا، وقابلوهم بالتذكرة فلم يصغوا إليها، وبدءوا بالحرب منابذين لها، فتسرع الأولياء عند ذلك إليهم، واستنصروا عليهم، واستحكمت بالله ثقتهم، ونفذت به بصائرهم، فلم تزل الحرب بينهم إلى وقت العصر من هذا اليوم، فقتل الله من حماتهم وفرسانهم ورؤسائهم وقاده باطلهم جماعه كثيرا عددها، ونالت الجراحة المثخنة التي تأتي على من نالته أكثر عامتهم.
فلما رأى أعداء الله وأعداء دينه أن قد أكذب ظنونهم، وحال بينهم وبين أمانيهم، وجعل عواقبها حسرات عليهم، استنهضوا جيشا من سامرا من الأتراك والمغاربة في العتاد والعدة والجلد والأسلحة في الجانب الغربي، طالبين المعرة، ومؤملين أن ينالوا نيلا من أهله باشتغال إخوانهم في الجانب الشرقي بأعدائهم.
وقد كان محمد بن عبد الله مولى أمير المؤمنين شحن الجانبين جميعا

(9/300)


بالرجال والعدة، ووكل بكل ناحية من يقوم بحفظها وحراستها، ويكف عن الرعية بوائق أعدائهم، ووكل بكل باب من الأبواب قائدا في جمع كثيف، ورتب على السور من يراعيه في الليل والنهار وبث الرجال ليعرف أخبار أعداء الله في حركاتهم ونهوضهم ومقامهم وتصرفهم، فيعامل كل حال لهم بحال يفت الله في أعضادهم بها.
فلما كان يوم الأربعاء لإحدى عشرة ليلة بقيت من صفر، وافى الجيش الذي أنهضوه من الجانب الغربي الباب المعروف بباب قطربل، فوقفوا بإزاء الناكثين المعسكرين بالجانب الشرقي من دجلة في عدد لا يسعه إلا الفضاء، ولا يحمله إلا المجال الفسيح، وقد تواعدوا أن يكون دنوهم من الأبواب معا لشغل الأولياء بحربهم من الجهات، فيضعفوا عنهم ويغلبوا حقهم بباطلهم، املا كاذبا كادهم الله فيه غير صادق، وظنا خائبا لله فيه قضاء نافذ.
وأنهض محمد بن عبد الله نحوهم محمد بن أبي عون وبندار بن موسى الطبري مولى أمير المؤمنين وعبد الله بن نصر بن حمزة من باب قطربل، وأمرهم بتقوى الله وطاعته، والاتباع لأمره والتصرف مع كتابه، والتوقف عن الحرب حتى تسبق التذكره الاسماع، وتزول الحجة بالتتابع منهم والإصرار، فنفذوا في جمع يقابل جمعهم، مستبصرين في حق الله عليهم، مسارعين إلى لقاء عدوهم، محتسبين خطاهم ومسيرهم، واثقين بالثواب الآجل والجزاء العاجل فتلقاهم ومن معهم أعداء الله، قد أطلقوا نحوهم أعنتهم، وأشرعوا لنحورهم أسنتهم، لا يشكون أنهم نهزة المختلس، وغنيمه المنتهب، فنادوهم بالموعظة نداء مسمعا، فمجتها أسماعهم، وعميت عنها أبصارهم، وصدقهم أولياء الله في لقائهم، بقلوب مستجمعة لهم، وعلم بأن الله لا يخلف وعده فيهم، فجالت الخيل بهم جولة، وعاودت كرة بعد كرة عليهم، طعنا بالرماح، وضربا بالسيوف، ورشقا بالسهام، فلما مسهم ألم جراحها، وكلمتهم الحرب بأنيابها، ودارت

(9/301)


عليهم رحاها، وصمم عليهم أبناؤها، ظمأ إلى دمائهم، ولوا أدبارهم، ومنح الله أكتافهم، وأوقع بأسه بهم، فقتلت منهم جماعة لم يحترسوا من عذاب الله بتوبة، ولم يتحصنوا من عقابه بأمانة، ثم ثابت ثانية، فوقفوا بإزاء الأولياء، وعبر إليهم أشياعهم الغاوون من عسكرهم بباب الشماسية ألف رجل من أنجادهم في السفن، معاونين لهم على ضلالتهم، فانهض لهم محمد بن عبد الله خالد بن عمران والشاه بن ميكال مولى طاهر نحوهم، فنفذوا ببصيرة لا يتخونها فتور، ونية لا يلحقها تقصير، ومعهما العباس بن قارن مولى أمير المؤمنين.
فلما وافى الشاه فيمن معه أعداء الله، وكل بالمواضع التي يتخوف منها مدخل الكمناء، ثم حمل من توجه معه من القواد المسمين ماضين لا يغويهم الوعيد، ولا يشكون من الله في النصر والتأييد، فوضعوا أسيافهم فيهم، تمضي أحكام الله عليهم، حتى ألحقوهم بالمعسكر الذي كانوا عسكروا فيه وجاوزوه، وسلبوهم كل ما كان من سلاح وكراع وعتاد الحرب، فمن قتيل غودرت جثته بمصرعه، ونقلت هامته إلى مصير فيه معتبر لغيره، ومن لاجئ من السيف إلى الغرق لم يجره الله من حذاره، ومن أسير مصفود يقاد إلى دار أولياء الله وحزبه، ومن هارب بحشاشة نفسه، قد أسكن الله الخوف قلبه، فكانت النقمة بحمد الله واقعة بالفريقين ممن وافى الجانب الغربي قادما، ومن عبر إليهم من الجانب الشرقي منجدا، لم ينج منهم ناج، ولم يعتصم منهم بالتوبة معتصم، ولا أقبل إلى الله مقبل، فرقا أربعا يجمعها النار، ويشملها عاجل النكال، عظة ومعتبرا لأولي الأبصار، فكانوا كما قال اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ.
» ولم تزل الحرب بين الأولياء وبين الفرقة التي كانت في الجانب الشرقي والقتل محتفل في أعلامهم، والجراح فاشية فيهم، حتى إذا عاينوا ما أنزل الله بأشياعهم من البوار، وأحل بهم من النقمة والاستئصال، ما لهم من الله من عاصم، ولا من أوليائه ملجأ ولا موئل، ولوا منهزمين مفلولين منكوبين، قد

(9/302)


أراهم الله العبر في إخوانهم الغاوية، وطوائفهم المضلة، وضل ما كان في أنفسهم لما رأوا من نصر الله لجنده، وإعزازه لأوليائه، والحمد لله رب العالمين، قامع الغواة الناكبين عن دينه، والبغاة الناقضين لعهده، والمراق الخارجين من جملة أهل حقه، حمدا مبلغا رضاه، وموجبا أفضل مزيده وصلى الله أولا وآخرا على محمد عبده ورسوله، الهادي إلى سبيله، والداعي إليه بإذنه، وسلم تسليما.
وكتب سعيد بن حميد يوم السبت لسبع خلون من صفر سنة إحدى وخمسين ومائتين وركب محمد بن عبد الله بن طاهر يوم الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من صفر إلى باب الشماسية، وأمر بهدم ما وراء سور بغداد من الدور والحوانيت والبساتين وقطع النخل والشجر من باب الشماسيه الى ثلاثة أبواب، لتتسع الناحية على من يحارب فيها، وكان وجه من ناحية فارس والأهواز نيف وسبعون حمارا بمال إلى بغداد، قدم به- فيما ذكر- منكجور بن قارن الأشروسني القائد، فوجه الاتراك وأبو أحمد بن بابك إلى طرارستان في ثلاثمائة فارس وراجل، ليلتقى ذلك المال إذا صار إليها فوجه محمد بن عبد الله قائدا له يقال له يحيى بن حفص، يحمل ذلك المال، فعدل به عن طرارستان، خوفا من ابن بابك، فلما علم ابن بابك أن المال قد فاته صار بمن معه إلى النهروان، فأوقع من كان معه من الجند بأهلها، وأخرج أكثرهم، وأحرق سفن الجسر، وهي أكثر من عشرين سفينة، وانصرف إلى سامرا.
وقدم محمد بن خالد بن يزيد- وكان المستعين قلده الثغور الجزرية، وكان مقيما بمدينة بلد ينتظر من يصير إليه من الجند والمال- فلما كان من اضطراب أمر الأتراك ودخول المستعين بغداد ما كان، لم يمكنه المصير إلى بغداد إلا من طريق الرقة، فصار إليها بمن معه من خاصته وأصحابه، وهم زهاء أربعمائة فارس وراجل، ثم انحدر منها إلى مدينة السلام، فدخلها يوم الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من صفر، فصار إلى دار محمد بن عبد الله بن طاهر، فخلع عليه خمس خلع: دبيقي، وملحم، وخز، ووشي، وسواد،

(9/303)


ثم وجهه في جيش كثيف لمحاربة أيوب بن أحمد، فأخذ على ظهر الفرات فحاربه في نفر يسير، فهزم وصار إلى ضيعته بالسواد.
فذكر عن سعيد بن حميد أنه قال: لما انتهى خبر هزيمة محمد بن عبد الله، قال: ليس يفلح أحد من العرب إلا أن يكون معه نبي ينصره به.
وفي هذا اليوم كانت للأتراك وقعة بباب الشماسيه، كانوا صاروا إلى الباب، فقاتلوا عليه قتالا شديدا حتى كشفوا من عليه، ورموا المنجنيق المنصوب بسره الباب بالنفط والنار، فلم يعمل فيه نارهم، وكثرهم من على الباب من الجند حتى أزالوهم عن موقفهم، ودفعوهم عن الباب بعد قتلهم عدة يسيرة من أهل بغداد، وجرحهم منهم جماعة كثيرة بالسهام فوجه محمد بن عبد الله إليهم عند ذلك العرادات التي كانت تحمل في السفن والزواريق، فرموهم بها رميا شديدا، فقتلوا منهم جماعة كثيرة نحوا من مائة إنسان، فتنحوا عن الباب، وكان بعض المغاربة صار في هذا اليوم إلى سور باب الشماسيه، فرمى كلاب إلى السور، وتعلق به وصعد، فأخذه الموكلون بالسور فقتلوه، ورموا برأسه في المنجنيق إلى عسكر الأتراك، وانصرفوا عند ذلك إلى معسكرهم.
وذكر أن بعض الموكلين بسور باب الشماسية من الأبناء هاله ما رأى من كثرة من ورد باب الشماسيه في هذا اليوم من الأتراك والمغاربة، وكانوا قربوا من الباب بأعلامهم وطبولهم، ووضع بعض المغاربة كلابا على السور، فأراد بعض الموكلين بالسور أن يصيح: يا مستعين، يا منصور، فغلط، فصاح: يا معتز، يا منصور، فظنه بعض الموكلين بالباب من المغاربة، فقتلوه وبعثوا برأسه الى دار محمد بن عبد الله، فأمر بنصبه، فجاءت أمه وأخوه في عشية هذا اليوم بجثته في محمل يصيحان ويطلبان رأسه، فلم يدفع إليهما، ولم يزل منصوبا على الجسر إلى أن أنزل مع ما أنزل من الرءوس.
ووافى ليلة الجمعة لسبع بقين من صفر جماعة من الأتراك باب البردان، وكان الموكل به محمد بن رجاء، وذلك قبل شخوصه إلى ناحية واسط، فقتل منهم

(9/304)


ستة نفر، وأسر أربعة، وكان الدرغمان شجاعا بطلا، وصار في بعض الأيام مع الأتراك إلى باب الشماسية، فرمى بحجر منجنيق، فأصاب صدره، فانصرف به إلى سامرا، فمات بين بصرى وعكبراء، فحمل إلى سامرا، فذكر يحيى بن العكي القائد المغربي أنه كان إلى جنب الدرغمان في يوم من ايامهم، إذ وافاه ناوكي، فأصاب عينه، ثم أصابه بعد ذلك حجر فأطار رأسه، فحمل ميتا.
وذكر عن علي بن حسن الرامي، أنه قال: كنا قد جمعنا على السور على باب الشماسية من الرماة جماعة، وكان مغربي يجيء حتى يقرب من الباب، ثم يكشف استه ثم يضرط ويصيح، قال: فانتخبت له سهما فأنفذته في دبره حتى خرج من حلقه، وسقط ميتا وخرج من الباب جماعة فنصبوه كالمصلوب، وجاءت المغاربة بعد ذلك، فاحتملوه.
وذكر أن الغوغاء اجتمعوا بسامرا بعد هزيمة الأتراك يوم قطربل، ورأوا ضعف أمر المعتز، فانتهبوا سوق أصحاب الحلي والسيوف والصيارفة، وأخذوا جميع ما وجدوا فيها من متاع وغيره، فاجتمع التجار إلى إبراهيم المؤيد أخي المعتز، فشكوا ذلك اليه، واعلموه انهم قد كانوا ضمنوا لهم أموالهم وحفظها عليهم قال: فقال لهم: كان ينبغي لكم أن تحولوا متاعكم الى منازلكم، وكبر عنده ذلك وقدم بحونه بن قيس بن أبي السعدي يوم السبت لثمان بقين من صفر بمن فرض من الاعراب وهم ستمائه راجل ومائتا فارس وقدم في هذا اليوم عشرة نفر من وجوه أهل طرسوس يشكون بلكاجور، ويزعمون أن بيعة المعتز وردت عليه، فخرج بعد ساعتين من وصول الكتاب، ودعا إلى بيعة المعتز، وأخذ القواد وأهل الثغر بذلك.
فبايع أكثرهم، وامتنع بعض، فأقبل على من امتنع بالضرب والقيد والحبس، وذكر أنهم امتنعوا وهربوا لما أخذهم بالبيعة

(9/305)


كرها، فقال وصيف: ما أظن الرجل إلا اغترموه عليه وإن الوارد عليه بكتاب المعتز هو الليث بن بابك، وذكر له أن المستعين مات، وأقاموا المعتز مكانه، فتكلم هؤلاء النفر يشكون بلكاجور، ونسبوه إلى أنه فعل ذلك على عمد، ورفعوا عليه أنه كان يرى في بني الواثق، وقد ورد كتاب بلكاجور يوم الأربعاء لأربع بقين من صفر مع رجل يقال له على الحسين المعروف بابن الصعلوك، يذكر فيه أنه ورد عليه كتاب من أبي عبد الله بن المتوكل، أنه قد ولي الخلافة، وبايع له فلما ورد عليه كتاب المستعين بصحة الأمر، جدد أخذ البيعة على من قبله، وأنه على السمع والطاعة له فأمر للرسول بألف درهم فقبضها، وقد كان أمر بالكتاب إلى محمد بن علي الأرمني المعروف بأبي نصر بولايته على الثغور الشامية فلما ورد كتاب بلكاجور بالطاعة أمسك عن إنفاذ كتاب محمد بن علي الأرمني بالولاية.
وفي يوم الاثنين لست بقين من صفر من هذه السنة قدم إسماعيل بن فراشة من ناحيه همذان في نحو ثلاثمائة فارس، وكان جنده ألفا وخمسمائة، فتقدم بعضهم وتأخر بعض، وتفرقوا، وقدم معه برسول للمعتز، كان وجه إليه لأخذ البيعة، فقيد الرسول، وصار به إلى مدينة السلام على بغل بلا اكاف، فخلع على إسماعيل خمس خلع وورد برجل ذكر أنه علوي أخذ بناحية الري وطبرستان، متوجها إلى من هناك من العلوية، وكان معه دواب وغلمان، فأمر به فحبس في دار العامة أشهرا، ثم أخذ منه كفيل وأطلق.
وقرئ في هذا اليوم كتاب موسى بن بغا يذكر فيه أنه ورد كتاب المعتز، وأنه دعا أصحابه، وأخبرهم بما حدث، وأمرهم بالانصراف معه إلى مدينة السلام، فامتنعوا، وأجابه الشاكرية والأبناء، واعتزله الأتراك ومن كانفهم، وحاربوه فقتل منهم جماعة وأسر أسرى، فهم قادمون معه فكبروا في دار ابن طاهر عند قراءتهم كتابه.
ولخمس بقين من صفر دخل من البصرة عشر سفائن بحرية، تسمى

(9/306)


البوارج، في كل سفينة اشتيام وثلاثة نفاطين ونجار وخباز وتسعة وثلاثون رجلا من الجذافين والمقاتلة، فذلك في كل سفينة خمسة وأربعون رجلا.
فمدت إلى الجزيرة التي بحذاء دار ابن طاهر، ولعب أصحابها بالنيران، ثم مدت إلى ناحية الشماسية في هذه الليلة، فرمى من فيها من الأتراك بالنيران، فعزموا على الانتقال من معسكرهم برقه الشماسيه الى بستان ابى جعفر بالحير، ثم بدا لهم فارتفعوا فوق عسكرهم في موضع لا ينالهم شيء من النار.
ولليلة بقيت من صفر صار الأتراك والمغاربة إلى أبواب مدينة السلام من الجانب الشرقي، فأغلقت الأبواب في وجوههم، ورموا بالسهام والمنجنيقات والعرادات، فقتل من الفريقين وجرح جماعة كثيرة، فلم يزالوا كذلك إلى العصر.
وفي هذه السنة كر سليمان بن عبد الله راجعا من جرجان إلى طبرستان وشخص من آمل، وخرج بجمع كثير وخيل وسلاح، فتنحى الحسن بن زيد ولحق بالديلم، فكتب إلى السلطان ابن أخيه محمد بن طاهر بدخوله طبرستان، فقرئ كتابه ببغداد، وكتب نسخة ذلك المستعين إلى بغا الصغير مولى أمير المؤمنين بفتح طبرستان على يدي محمد بن طاهر وهزيمه الحسن ابن زيد، وأن سليمان بن عبد الله دخل سارية على حال من السلامة، وأنه ورد عليه ابنان لقارن بن شهريار مولى أمير المؤمنين، يقال لهما مازيار ورستم، في خمسمائة رجل، إلى ما ذكر من غير ذلك في الفتح، وأن أهل آمل أتوه منيبين مظهرين إنابتهم، مستقيلين عثراتهم، فلقيهم بما زاد في سكونهم وثقتهم، ونهض بعسكره على تعبيته، مستقرئا للقرى والطرق، وتقدم بالنهي عن القتل، وترك العرض لأحد في سلب وغيره، وتوعد من جاوز ذلك، وأن كتاب أسد بن جندان وافاه بهزيمة علي بن عبد الله الطالبي المسمى بالمرعشي فيمن كان معه، وهم أكثر من ألفي رجل ورجلين من رؤساء الجبل، في جمع عظيم عند تأدي الخبر إليهم بانهزام الحسن بن زيد ودخوله بالأولياء إلى تلك الناحية، وأنه دخل مدينة آمل في احسن هيئة، واظهر عزه وسلامه شامله،

(9/307)


وانقطعت عنه أسباب الفتنة ولخمس بقين من المحرم من هذه السنة ورد كتاب العلاء بن أحمد عامل بغا الشرابي على الخراج والضياع بأرمينية، بما كان من خروج رجلين بتلك الناحية، سماهما وذكر إيقاعه بهما، وأنهما التجآ إلى قلعة، فوضع عليها المجانيق حتى جهدها، وأنهما خرجا من القلعة هاربين، وخفي أمرهما وصارت القلعة في أيدي الأولياء.
وفيها أيضا ورد كتاب مؤرخ لإحدى عشرة ليلة بقيت من المحرم بانتقاض أهل أردبيل، وكتاب الطالبي إليهم، وأنه بعث أربعة عساكر على أربعة أبواب مدينتهم ليحاصرهم وفيها ورد كتاب مخبر عن الحرب التي كانت بين عيسى بن الشيخ والموفق الخارجي وأسر عيسى الموفق، ومسألة عيسى المستعين توجيه ما يحتاج إليه من السلاح، ليكون عدة له في البلد، يقوى به الجند على الغزو، وأن يكتب إلى صاحب الصور في توجيه أربع مراكب إليه بجميع آلتها، تكون قبله مع ما قبله منها وفيها أيضا ورد كتاب محمد بن طاهر بخبر الطالبي الذي ظهر بالري ونواحيها، وما أعد له من العساكر، ووجه اليه من المقاتله، وبهرب الحسن ابن زيد عند مصيره إلى المحمدية وإحاطة عسكره بها، وأنه عند دخوله المحمدية وكل بالمسالك والطرق، وبث أصحابه، وأن الله أظفره بمحمد بن جعفر أسيرا على غير عقد ولا عهد والذي صار إلى الري من العلوية في المرة الثانية بعد ما أسر محمد بن جعفر أحمد بن عيسى بن علي بن حسين الصغير بن على ابن الحسين بن علي بن أبي طالب، وإدريس بن موسى بْن عبد الله بْن موسى بْن

(9/308)


عبد الله بْن حسن بْن علي بْن أبي طالب، وهو الذي خرج في مصعد الحاج، والذي بطبرستان الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بْن الحسن بْن زيد بْن الحسن بْن علي بن أبي طالب رحمة الله عليه ورضوانه وفيها أيضا ورد كتاب من محمد بن طاهر على المستعين، يذكر فيه انهزام الحسن بن زيد منه، وأنه لقيه في زهاء ثلاثين ألفا، فجرت فيما بينه وبينه حرب، وأنه قتل من رءوس اصحابه ثلاثمائة ونيفا وأربعين رجلا وأمر المستعين أن يقرأ نسخة كتابه في الآفاق 4 وفيها خرج يوسف بن إسماعيل العلوي ابن أخت موسى بن عبد الله الحسيني وفي شهر ربيع الأول منها أمر محمد بن عبد الله أن يتخذ لعيارى اهل بغداد كافر كوبات، وأن يصير فيها مسامير الحديد، ويجعل ذلك في دار المظفر بن سيسل، لأنهم كانوا يحضرون القتال بغير سلاح، وكانوا يرمون بالآجر، ثم أمر مناديا، فنادى: من أراد السلاح فليحضر دار المظفر، فوافاها العيارون من كل جانب، فقسم ذلك فيهم، وأثبت أسماءهم، ورأس العيارون عليهم رجلا يدعى ينتويه، ويكنى أبا جعفر وعدة أخر، يدعى أحدهم دونل، والآخر دمحال، والآخر أبا نملة، والآخر أبا عصارة، فلم يثبت منهم إلا ينتويه، فإنه لم يزل رئيسا على عياري الجانب الغربي، حتى انقضى امر هذه الفتنة ولما اعطى العيارون الكافر كوبات تفرقوا على أبواب بغداد، فقتلوا من الأتراك ومن أتباعهم نحوا من خمسين نفسا في ذلك اليوم، وقتل منهم عشره انفس وجرح منهم خمسمائة بالنشاب، وأخذوا من الأتراك علمين وسلمين.
وفيها كانت لبحونه بن قيس وقعة مع جماعة من الأتراك بناحيه بزوغى،

(9/309)


لقيهم هو ومحمد بن أبي عون وغيرهما، فأسروا منهم سبعة، وقتلوا ثلاثة، ورمى بعضهم بنفسه في الماء، فغرق بعضهم ونجا بعضهم.
وذكر عن أحمد بن صالح بن شيرزاد، أنه سأل رجلا من الأسرى عن عدة القوم الذين لقيهم بحونه، قال: كنا اربعين رجلا، فلقينا بحونه وأصحابه سحرا، فقتل منا ثلاثة، وغرق ثلاثة، وأسر ثمانية، وأفلت الباقون، وأخذ ثماني عشرة دابة وجواشن وراية لعامل أوانا، وهو أخو هارون بن شعيب.
وكانت الوقعة بأوانا يوم الأربعاء، واقام جند بحونه وعبد الله بن نصر بن حمزة بقطربل مسلحة.
وخرج- فيما ذكر- ينتويه وأصحابه من العيارين في بعض هذه الأيام من باب قطربل، فمضوا يشتمون الأتراك حتى جازوا قطربل، فعبر من عبر إليهم من الأتراك ناشبة في الزواريق، فقتلوا منهم رجلا، وجرحوا منهم عشرة، وكاثرهم العيارون بالحجارة فأثخنوهم، فرجعوا إلى معسكرهم، فأحضر ينتويه دار ابن طاهر، فأمر ألا يخرج إلا في يوم قتال، وسور، وامر له بخمسمائة درهم.
ولأربع عشرة خلت من ربيع الأول منها، قدم من ناحية الرقة مزاحم بن خاقان، وأمر القواد وبني هاشم وأصحاب الدواوين بتلقيه، وقدم معه من كان معه من اصحابه من الخراسانية والأتراك والمغاربة، وكانوا زهاء ألف رجل، معهم عتاد الحرب من كل صنف، ودخل بغداد، ووصيف عن يمينه وبغا عن شماله، وعبيد الله بن عبد الله بن طاهر عن يسار بغا، وإبراهيم بن إسحاق خلفهم، وهو بوقار ظاهر، فلما وصل خلع عليه سبع خلع، وقلد سيفا، وخلع على ابنيه، على كل واحد منهما خمس خلع ثم أمر أن يفرض له ثلاثة آلاف رجل من الفرسان والرجالة، ووجه المعتز موسى بن اشناس ومعه حاتم بن داود بن بنحور في ثلاثة آلاف رجل من الفرسان والرجالة فعسكر بإزاء عسكر أبي أحمد من الجانب الغربي بباب قطربل لليلة خلت

(9/310)


من ربيع الأول وخرج رجل من العيارين يعرف بديكويه على حمار وخليفته على حمار، ومعهم ترسة وسلاح، وخرج آخر في الجانب الشرقي يكنى أبا جعفر ويعرف بالمخرمي في خمسمائة رجل في سلاح ظاهر، معهم الترسة وبواري مقيره وسيوف وسكاكين في مناطقهم، ومعهم كافر كوبات، وقرب العسكر الوارد من سامرا إلى الجانب الغربي من بغداد فركب محمد بن عبد الله ومعه أربعة عشر قائدا من قواده في عدة كاملة، وخرج من المبيضة والنظارة خلق كثير، فسار حتى حاذى عسكر أبي أحمد، وكانت بينهم في الماء جولة قتل من عسكر أبي أحمد أكثر من خمسين رجلا، ومضى المبيضة حتى جازت العسكر بأكثر من نصف فرسخ، فعبرت إليهم شبارات من عسكر أبي أحمد، فكانت بينهم مناوشة، وأخذوا عدة من الشبارات بما فيها من المقاتلة والملاحين، فاستوثق منهم، وانصرف محمد بن عبد الله، وأمر ابن أبي عون أن يصرف الناس، فوجه ابن أبي عون إلى النظارة والعامة من صرفهم وأغلظ لهم القول، وشتمهم وشتموه، وضرب رجلا منهم فقتله وحملت عليه العامة، فانكشف من بين أيديهم، وقد كان أربع شبارات من شبارات أهل بغداد تخلفت، فلما انصرف ابن أبي عون منهزما من العامة نظر إليها أهل عسكر أبي أحمد فوجهوا في طلبها شبارات، فأخذوها وأحرقوا سفينة فيها عرادة لأهل بغداد وصار العامة من فورهم إلى دار ابن أبي عون لينهبوها، وقالوا:
مايل الأتراك، وأعانهم وانهزم بأصحابه، وكلموا محمد بن عبد الله في صرفه وضجوا، فوجه المظفر بن سيسل في أصحابه، وأمره أن يصرف العامة ويمنعهم أن يأخذوا لابن أبي عون شيئا من متاعه، وأعلمهم أنه قد عزله عن امر الشبارات والبحريات والحرب، وصير ذلك إلى أخيه عبيد الله بن عبد الله، فمضى مظفر، فصرف الناس عن دار محمد بن أبي عون.
وفي يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الأول وافى عسكر الأتراك الشاخص من سامرا إلى بغداد عكبراء، فأخرج ابن طاهر بندار الطبري وأخاه عبيد الله وأبا السنا ومزاحم بن خاقان وأسد بن داود سياه وخالد

(9/311)


ابن عمران وغيرهم من قواده، فمضوا حتى بلغوا قطربل، وفيها كمين الأتراك فأوقع بهم، ونشبت الحرب بينهم، فدفعهم الأتراك حتى بلغوا الحائطين بطريق قطربل وقاتل أبو السنا وأسد بن داود قتالا شديدا، وقتل كل واحد منهما عدة من الأتراك والمغاربة، ومال أبو السنا ميله، وتبعه الناس، فقتل قائدا من قواد الأتراك يقال له سور، ورفع رأسه فصار من فوره إلى دار ابن طاهر، وأعلمه هزيمة الناس وسأله المدد، فأمر ابن طاهر به فطوق- وكان وزن الأطواق كل طوق ثلاثين دينارا، وكل سوار سبعة مثاقيل ونصف- وانصرف أبو السنا راجعا إلى الناس فيمن أخرج إليهم من المدد من جميع الأبواب، فذكر أن محمد بن عبد الله عنف أبا السنا بإخلاله بموضعه ومجيئه نفسه بالراس، وقال له: اخللت بالفاس، فقبح الله هذا الرأس ومجيئك به! ولما انصرف محمد بن عبدوس قاتل أسد بن داود أشد قتال بعد تفرق الناس عنه، فقتل وثاب إلى موضعه قوم من أهل بغداد بعد ما أخذ الأتراك رأسه، فدافعوهم عن جثته، فحملوه إلى بغداد في زورق، وبلغ الأتراك باب قطربل، فخرج الناس إليهم فدفعوهم عن الباب دفعا شديدا، واتبعوهم حتى نحوهم، فأتي دار ابن طاهر بعدة رءوس ممن قتل من الأتراك والمغاربة في هذا اليوم، فأمر بنصبها بباب الشماسية، فنصبت هنالك، ثم رجع الاتراك والمغاربه على اهل بغداد ممن ناحية قطربل، فقتل من أهل بغداد خلق كثير، وقتل من الأتراك جمع كثير، ولم يزل بندار ومن معه يقاتلونهم حتى أمسوا وانصرف بندار بالناس، وغلقت الأبواب، وأمر ابن طاهر المظفر بن سيسل ورشيد ابن كاوس وقائدا معهم فتوجهوا في نحو من خمسمائة فارس من باب قطربل إلى ناحية عسكر ابن أشناس، فوافوهم على حال سكون وأمن، فقتلوا منهم نحوا من ثلاثمائة، وأسروا عدة وانصرفوا.
وذكر أن الأتراك والمغاربة وافوا في هذا اليوم باب القطيعة، فنقبوا نقبا

(9/312)


بقرب الحمام الذي يعرف بباب القطيعة، فقتل أول من خرج منهم من النقب، وكان القتل في هذا اليوم أكثر في الأتراك والمغاربة والجراح بالسهام في أهل بغداد.
وسمعت جماعة يذكرون أنه حضر هذه الوقعة غلام لم يبلغ الحلم، ومعه مخلاة فيها حجارة ومقلاع في يده، يرمي عنه فلا يخطئ وجوه الأتراك ووجوه دوابهم وأن أربعة من فرسان الأتراك الناشبة جعلوا يرمونه فيخطئونه، وجعل يرميهم فلا يخطئ، وتقطر بهم دوابهم، فمضوا حتى جاءوا معهم بأربعة من رجالة المغاربة بأيديهم الرماح والتراس، فجعلوا يحملون عليه، ثم داخله اثنان منهم، فرمى بنفسه في الماء، ودخلا خلفه فلم يلحقاه، وعبر إلى الجانب الشرقي، وصيح بهما، وكبر الناس، فرجعوا ولم يصلوا إليه.
وذكر أن عبيد الله بن عبد الله دعا القواد في هذا اليوم وهم خمسة نفر، فأمر كل واحد منهم بناحية، ثم مضى الناس إلى الحرب، وانصرف هو إلى الباب، فقال لعبد الله بن جهم وهو موكل بباب قطربل: إياك أن تدع منهم أحدا يدخل منهزما من الباب ونشبت الحرب، وتشتت الناس، ووقعت الهزيمة، وثبت أسد بن داود، حتى قتل وقتل بيده ثلاثة، ثم أتاه سهم غرب، فوقع في حلقه فولى، وجاء سهم آخر فوقع في كفل دابته فشبت به فصرعته، ولم يثبت معه أحد إلا ابنه، فجرح، وكان إغلاق الباب على المنهزمين أشد من عدوهم، وحمل- فيما ذكر- إلى سامرا من أهل بغداد سبعون أسيرا، ومن الرءوس ثلاثمائة رأس.
وذكر أن الاسرى لما قربوا من سامرا أمر الذي وجه به معهم ألا يدخلهم سامرا إلا مغطي الوجوه، وأن أهل سامرا لما رأوهم كثر ضجيجهم وبكاؤهم، وارتفعت أصواتهم وأصوات نسائهم بالصراخ والدعاء، فبلغ ذلك المعتز، فكره ان تغلظ قلوب من بحضرته من الناس عليه، فأمر لكل أسير بدينارين،

(9/313)


وتقدم إليهم بترك معاودة القتال، وأمر بالرءوس فدفنت.
وكان في الأسرى ابن لمحمد بن نصر بن حمزة وأخ لقسطنطينة جارية أم حبيب وخمسة من وجوه بغداد ممن كان في النظارة، فأما ابن محمد بن نصر، فذكر أنه قتل وصلب بإزاء باب الشماسية لمكان أبيه.
وفي يوم الخميس لأربع بقين من شهر ربيع الأول، قدم أبو الساج من طريق مكة في نحو من سبعمائة فارس ومعه ثمانية عشر محملا فيها ستة وثلاثون أسيرا من أسارى الأعراب في الأغلال، ودخل هو وأصحابه بغداد في زي حسن وسلاح ظاهر، فصار إلى الدار، فخلع عليه خمس خلع، وقلد سيفا، وانصرف إلى منزله مع أصحابه.
وقد خلع على أربع نفر من أصحابه وفي يوم الاثنين لانسلاخ شهر ربيع الأول، وافى باب الشماسية- فيما قيل- جماعة من الأتراك، معهم من المعتز كتاب إلى محمد بن عبد الله، وسألوا إيصاله إليه، فامتنع الحسين بن إسماعيل من قبوله حتى استأمر، فأمر بقبوله، فوافى يوم الجمعة ثلاثة فوارس، فأخرج إليهم الحسين بن إسماعيل رجلا معه سيف وترس، فأخذ الكتاب من خريطة، فأخرج، فأوصله إلى محمد، فإذا فيه تذكير محمد بما يجب عليه من حفظه لقديم العهد بينه وبين المعتز والحرمة، وأن الواجب كان عليه أن يكون أول من سعى في أمره وتوجيه خلافته، وذكر أن ذلك أول كتاب ورد عليه من المعتز بعد الحرب.
وفي يوم السبت لخمس خلون من ربيع الآخر وافى بغداد حبشون ابن بغا الكبير ومعه يوسف بن يعقوب قوصرة مولى الهادي فيمن كان مع موسى ابن بغا من الشاكرية، وانضم إليهم عامة الشاكرية المقيمين بالرقة، وهم في نحو من ألف وثلاثمائة، فخلع عليه خمس خلع، وعلى يوسف أربع خلع، وعلى نحو من عشرين من وجوه الشاكرية، وانصرفوا إلى منازلهم

(9/314)


وقدم بغداد رجل ذكر أن عدة الأتراك والمغاربة وحشوهم في الجانب الغربي اثنا عشر ألف رجل ورأسهم بايكباك القائد، وأن عدة من مع أبي أحمد في الجانب الشرقي سبعة آلاف رجل خليفته عليهم الدرغمان الفرغاني، وأنه ليس بسامرا من قواد الأتراك ولا من قواد المغاربة إلا ستة نفر، وكلوا بحفظ الأبواب وكانت بين الفريقين وقعة يوم الأربعاء لسبع خلون من شهر ربيع الآخر، فقتل- فيما ذكر- فيها من أصحاب المعتز مع من غرق منهم أربعمائة رجل، وقتل من أصحاب ابن طاهر مع من غرق ثلاثمائة رجل، لم يكن فيهم إلا جندي، وذلك أنه لم يخرج في ذلك اليوم من الغوغاء أحد وقتل الحسن بن علي الحربي، وكان يوما صعبا على الفريقين جميعا.
وذكر أن مزاحم بن خاقان رمى فيه موسى بن أشناس بسهم فأصابه، فانصرف مجروحا، وافتقد من عسكر أبي أحمد نحو من عشرين قائدا من الأتراك والمغاربة.
ولما كان يوم الخميس لأربع عشرة بقيت من شهر ربيع الآخر خلع على أبي الساج خمس خلع، وعلى ابن فراشة أربع خلع، وعلى يحيى بن حفص حبوس ثلاث خلع وعسكر أبو الساج في سوق الثلاثاء، وأعطى الجند بغالا من بغال السلطان يحمل عليها الرجالة، وحول مزاحم بن خاقان من باب حرب إلى باب السلامة، وصار مكان مزاحم خالد بن عمران الطائي الموصلي.
وذكر أن أبا الساج لما أمره ابن طاهر بالشخوص قال له: أيها الأمير، عندي مشورة أشير بها، قال: قل يا أبا جعفر، فإنك غير متهم، قال:
إن كنت تريد أن تجاد هؤلاء القوم فالرأي لك ألا تفارق قوادك ولا تفرقهم، واجمعهم حتى تفض هذا العسكر المقيم بإزائك، فإنك إذا فرغت من هؤلاء فما أقدرك على من وراءك! فقال: ان لي تدبيرا، ويكفى ان شاء فقال

(9/315)


أبو الساج: السمع والطاعة، ومضى لما أمر به.
وذكر أن المعتز كتب إلى أبي أحمد يلومه للتقصير في قتال أهل بغداد، فكتب إليه:
لأمر المنايا علينا طريق ... وللدهر فيه اتساع وضيق
فأيامنا عبر للأنام ... فمنها البكور ومنها الطروق
ومنها هنات تشيب الوليد ... ويخذل فيها الصديق الصديق
وسور عريض له ذروة ... تفوت العيون وبحر عميق
قتال مبيد، وسيف عتيد ... وخوف شديد، وحصن وثيق
وطول صياح لداعي الصباح ... السلاح السلاح، فما يستفيق
فهذا قتيل وهذا جريح ... وهذا حريق وهذا غريق
وهذا قتيل وهذا تليل ... وآخر يشدخه المنجنيق
هناك اغتصاب وثم انتهاب ... ودور خراب وكانت تروق
إذا ما سمونا إلى مسلك ... وجدناه قد سد عنا الطريق
فبالله نبلغ ما نرتجيه ... وبالله ندفع ما لا نطيق
فأجابه محمد بن عبد الله- أو قيل على لسانه:
ألا كل من زاغ عن أمره ... وجار به عن هداه الطريق
ملاق من الأمر ما قد وصفت ... وهذا بأمثال هذا خليق
ولا سيما ناكث بيعة ... وتوكيدها فيه عهد وثيق
يسد عليه طريق الهدى ... ويلقى من الأمر ما لا يطيق
وليس ببالغ ما يرتجيه ... من كان عن غيه لا يفيق

(9/316)


أتانا به خبر سائر ... رواه لنا عن خلوق خلوق
وهذا الكتاب لنا شاهد ... يصدقه ذا النبي الصدوق
أما الشعر الأول، فإنه ينشد لعلي بن أمية في فتنة المخلوع والمأمون، والجواب لا يعرف قائله.
وفي ربيع الآخر من هذه السنة ذكر أن مائتي نفس من بين فارس وراجل مضوا من قبل المعتز الى ناحيه البندنيجين ورئيسهم تركي يدعى أبلج، فقصدوا الحسن بن علي، فانتهبوا داره، وأغاروا على قريته، ثم صاروا إلى قرية قريبة منها، فأكلوا وشربوا، فلما اطمأنوا استصرخ عليهم الحسن بن علي أكرادا من أخواله وقوما من قرى حوله، فصاروا إليهم وهم غارون، فأوقع بهم وقتل أكثرهم، وأسر سبعة عشر رجلا منهم، وقتل أبلج، وهرب من بقي منهم ليلا، ثم بعث الحسن بن علي الأسرى ورأس أبلج ورءوس من قتل معه إلى بغداد.
والحسن بن علي هذا رجل من شيبان كان يخلف- فيما ذكر- يحيى بن حفص في عمله، وأمه من الأكراد.

ذكر خبر المدائن في هذه الفتنة
ذكر أن أبا الساج وإسماعيل بن فراشة ويحيى بن حفص، لما خلع عليهم للشخوص نحو المدائن، عسكروا بسوق الثلاثاء، فلما كان يوم الأحد لعشر بقين من شهر ربيع الأول، حمل رجالته على البغال، وصار إلى المدائن، ثم إلى الصيادة، وابتدأ في حفر خندق المدائن- وهو خندق كسرى- وكتب يستمد، فوجه اليه خمسمائة رجل من رجاله الجيشية، وكان شخوصه في ثلاثة آلاف فارس وراجل، ثم استمده فأمده، فحصل في عسكره ثلاثة آلاف فارس وألفا راجل، ثم أمد بمائتي راجل من الشاكرية القدماء، وحملوا في السفن، وانحدروا إليه يوم الأحد لأربع خلون من جمادى الآخرة

(9/317)


ذكر الخبر عن أمر الأنبار وما كان فيها من هذه الفتنة فمما كان بها ان محمد بن عبد الله وجه بحونه بن قيس في الأعراب إلى الأنبار، وأمره بالمقام بها والفرض لأعراب الناحية، ففرض قوما منهم ومن المشبهة بهم نحوا من ألفي رجل، فأقام بالأنبار وضبطها، فبلغه أن قوما من الأتراك قد قصدوه، فبثق الماء من الفرات إلى خندق الأنبار، فامتلأ الخندق لزيادة الماء، وفاض على ما يليه من الصحاري، فصار الماء إلى السالحين فصار ما يلي الأنبار بطيحة واحدة، وقطع القناطر التي توصل إلى الأنبار، وكتب يستمد فندب للخروج إليه رشيد بن كاوس أخو الأفشين، وضم إليه ممن كان معه من رجاله تتمة ألف رجل، خمسمائة فارس وخمسمائة راجل، فشخص وعسكر في قصر عبدويه، وأمده ابن طاهر بثلاثمائة راجل من الملطيين القادمين من الثغور، وانتخبوا، ودفع إليهم استحقاقهم، ونفذوا إليه يوم الثلاثاء ورحل من قصر عبدويه يوم الاثنين سلخ ربيع الآخر في نحو من الف وخمسمائة رجل، وأخرج المعتز أبا نصر بن بغا من سامرا على طريق الإسحاقي يوم الثلاثاء، فسار يومه وليلته، فصبح الأنبار ساعة نزلها رشيد بن كاوس.
وكان بحونه نازلا في المدينة ورشيد خارجها، فلما وافى أبو نصر عاجل رشيدا وأصحابه وهم غارون على غير تعبئة، فوضع أصحابه فيهم السيف، ورموهم بالنشاب فقتلوا عدة، وثار بعض أصحاب رشيد إلى أسلحتهم، فقاتلوا الاتراك والمغاربه قتالا شديدا، وقتلوا منهم جماعة، ثم انهزم الشاكرية ورشيد على الطريق الذي جاءوا فيه منصرفين الى بغداد.
ولما بلغ بجونه ما لقيه أصحاب رشيد، وأن الأتراك قد مالوا عند انهزام رشيد إلى الأنبار عبر إلى الجانب الغربي، وقطع جسر الأنبار، وعبر معه جماعة من أصحابه، وصار رشيد إلى المحول في ليلته، وسار بحونه

(9/318)


في الجانب الغربي حتى وافى بغداد يوم الخميس بالعشي ثم دخل رشيد في هذه العشية الى دار ابن طاهر، فاعلم بحونه محمد بن عبد الله أنه عند مصير الأتراك إلى الأنبار وجه إلى رشيد يسأله أن يوجه إليه مائة رجل من الناشبة ليرتبهم قدام أصحابه، فامتنع من ذلك، وسأله أن يضم إليه ناشبة من الفرسان والرجالة ليصير إلى بني عمه، وذكر أنهم مقيمون هنالك في الجانب الغربي على الطاعة وانتظار أمير المؤمنين، وضمن أن يتلافى ما كان منه فضم اليه ثلاثمائة رجل من فرسان الشاكرية الناشبة ورجالتهم، وخلع عليه خمس خلع، ومضى إلى قصر ابن هبيرة يستعد هنالك.
ثم اختار محمد بن عبد الله الحسين بن إسماعيل للأنبار، ووجه محمد بن رجاء الحضاري معه وعبد الله بن نصر بن حمزة ورشيد بن كاوس ومحمد بن يحيى وجماعة من الناس، وأمر بإخراج المال لمن يخرج مع الحسين ومع هؤلاء القوم، فامتنع من كان قدم من ملطية من الشاكرية وهم عظم الناس من قبض رزق أربعة أشهر، لأن أكثرهم كان بغير دواب، وقالوا: نحتاج إلى أن نقوى في أنفسنا، ونشتري الدواب وكان الذي أطلق لهم أربعة آلاف دينار، ثم رضوا بقبض أربعة أشهر، فجلس الحسين في مجلس على باب محمد بن عبد الله، وتقدم في تصحيح الجرائد، ليكون عرضه الناس وأصحابه في مدينة أبي جعفر، فأعطى في ذلك اليوم جماعة من خاصته ثم صار الحسين وأصحاب الدواوين بعد ذلك الى مدينة أبي جعفر، ووضع العطاء لمن يخرج معه من الجند في ثلاثة مجالس، واستتم إعطاؤهم يوم السبت لاثنتي عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى.
فلما كان يوم الاثنين أحضر الحسين بن إسماعيل الدار ومعه القواد الخارجون معه: رشيد بن كاوس، ومحمد بن رجاء، وعبد الله بن نصر بن حمزه، وارمش الفرغاني، ومحمد بن يعقوب أخو حزام، ويوسف بن منصور بن يوسف البرم، والحسين بن علي بن يحيى الأرمني، والفضل بن محمد بن الفضل، ومحمد بن هرثمة بن النصر،، وخلع على الحسين، وقدمت مرتبته

(9/319)


إلى الفوج الثاني- وكان في الفوج الرابع- وخلع على هؤلاء القواد، وصير رشيد بن كاوس على المقدمة، ومحمد بن رجاء على الساقة، ومضى الحسين ومن ضم إليه من عشيرته وقواده إلى معسكرهم، وأمر وصيف وبغا أن يسبقا الحسين إلى معسكره، وشيعه عبيد الله بن عبد الله وجميع قواد ابن طاهر وكتابه وبنو هاشم والوجوه إلى الياسرية، وأخرج لأهل العسكر من المال ستة وثلاثون ألف دينار، وحمل إلى معسكر الياسرية بعد لاعطاء من بقي الف وثمانمائه دينار، تمام استحقاقهم.
فلما كان يوم الخميس سارت مقدمة الحسين والمقلد لها عبد الله بن نصر ومحمد بن يعقوب في ألف فارس وراجل، فنزلوا البثق المعروف بالقاطوفة، وكان الأتراك قد وجهوا إلى المنصورية على خمسة فراسخ من بغداد جماعة منهم ومن المغاربة والغوغاء زهاء مائة إنسان، فظفر بسبعة من المغاربة، فوجه بهم إلى الحسين، فأنفذهم إلى الباب، وسار الحسين يوم الجمعة لسبع بقين من جمادى الأولى وقد كان أهل الأنبار حين تنحى بحونه ورشيد، وصار الأتراك والمغاربة إلى الأنبار ونادوا الأمان، فأعطوه، وأمروا بفتح حوانيتهم والتسوق فيها والانتشار في أمورهم، واطمأنوا إلى ذلك منهم وسكنوا، وطمعوا فيهم أن يفوا لهم، فأقاموا بذلك يومهم وليلتهم حتى أصبحوا، وكان في وقت غلبتهم عليها وافتهم سفن من الرقة فيها دقيق وأطواف فيها زيت وغير ذلك، فأخذوه وجمعوا ما وجدوا فيها من إبل ودواب وبغال وحمير، ووجهوا بذلك مع من يؤديه إلى منازلهم بسامرا، وانتهبوا ما وجدوا، ووجهوا برءوس من قتل من أصحاب رشيد وبحونه وأهل بغداد وبمن أسروا وكانوا مائة وعشرين رجلا، والرءوس سبعون رأسا، وجعلوا الأسرى في الجوالقات، قد أخرجوا منها رءوسهم حتى صاروا إلى سامرا، وصار الأتراك إلى فم الأستانة، وحاولوا سدها ليقطعوا ماء الفرات عن بغداد، فوجهوا رجلا، ودفعوا إليه مالا لآلة السكر وسده مع القلوس والصواري، ففطن به وهو يبتاع ذلك، فحمل إلى دار

(9/320)


ابن طاهر بعد أن نالته العامة بالضرب والشتم، حتى أشفى على الموت، فسئل عن أمره فصدق، فوجه به إلى الحبس.
وكان ابن طاهر قد وجه الحارث خليفة أبي الساج، فكان على طريق مكة إلى قصر ابن هبيرة، وضم اليه خمسمائة رجل من فرسان الشاكرية القادمين معه، فنفذ ومن معه لسبع خلون من جمادى الأولى، ووجه ابن ابى دلف هشام ابن القاسم في مائتي راجل وفارس إلى السيبين، ليقيم هناك، فلما توجه الحسين إلى الأنبار كتب إليه باللحاق بعسكر الحسين ليصير معه إلى الأنبار، ونودي ببغداد في أصحاب الحسين ومزاحم بن خاقان أن يلحقوا بقوادهم فسار الحسين، وتقدم خالد بن عمران حتى نزل دمما، فأراد أن يعقد على نهر أنق جسرا ليعبر عليه أصحابه، فمانعه الأتراك، فعبر إليهم جماعة من الرجالة فكشفوهم، وعقد خالد الجسر، فعبر هو وأصحابه، وصار الحسين إلى دمما فعسكر خارجها، وأقام في معسكره يوما، ووافته طلائع الأتراك مما يلي نهر أنق ونهر رفيل فوق قرية دمما، فصف الحسين أصحابه من جانب النهر والأتراك من الجانب الآخر، وهم زهاء ألف رجل، وتراشقوا بالسهام، فجرح بينهم عداد، وانصرف الأتراك إلى الأنبار.
وكان بحونه مقيما بقصر ابن هبيرة، فانضم إلى الحسين في جميع من كان معه من الأعراب وغيرهم، وكتب بحونه يسأل مالا لإعطاء أصحابه، فأمر أن يحمل الى معسكر الحسين لاعطاء اصحاب بحونه ثلاثة آلاف دينار، وحمل إلى الحسين مال واطواق واسوره وجوائز لمن أبلى في الحرب، وكان الحسين وعد أن يمد بالرجال حتى يكمل عسكره عشره آلاف رجل، فكتب ينتجز ذلك، فأمر بتوجيه أبي السنا محمد بن عبدوس الغنوي والجحاف بن سواد في ألف فارس وراجل من الملطيين وجند انتخبوا من قيادات شتى، فقبضوا أنزالهم لليلتين بقيتا من جمادى وساروا مع أبي السناء والجحاف على نهر كرخايا إلى المحول، ثم إلى دمما، ونزل الحسين بعسكره في موضع يعرف

(9/321)


بالقطيعة واسع يحتمل العسكر، فأقام فيه يومه، ثم عزم على الرحلة منه إلى قرب الأنبار، فأشار عليه رشيد والقواد أن ينزل عسكره بهذا الموضع لسعته وحصانته، ويسير هو وقواده في خيل جريدة، فإن كان الأمر له كان قادرا أن ينقل عسكره، وإن كان عليه انحاز إلى عسكره وراجع عدوه، فلم يقبل الرأي، وحملهم على المسير من موضعهم، فساروا بين الموضعين فرسخان أو نحوهما فلما بلغوا الموضع الذي أراد الحسين النزول فيه، أمر الناس بالنزول، وكان جواسيس الأتراك في عسكر الحسين، فساروا إليهم، وأعلموهم رحلة الحسين، وضيق العسكر بالموضع الذي نزل فيه، فوافوهم والناس يحطون أثقالهم، فسار أهل العسكر، ونادوا السلاح، فصافوهم، فكانت بينهم قتلى من الفريقين، وحمل أصحاب الحسين عليهم فكشفوهم كشفا قبيحا، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وغرق منهم خلق كثير في الفرات وكان الأتراك قد كمنوا قوما، فخرج الكمين عند ذلك على بقية العسكر، فلم يكن لهم ملجأ إلا الفرات وغرق من أصحاب الحسين خلق كثير، وقتل جماعة وأسر من الرجالة جماعة، وأما الفرسان فضربوا دوابهم هرابا لا يلوون على شيء، والقواد ينادونهم يسألونهم الرجعة، فلم يرجع منهم أحد، وأبلى محمد بن رجاء ورشيد يومئذ بلاء حسنا، ولم يكن لمن انهزم معقل دون الياسرية على باب بغداد، فلم يملك القواد أمور أصحابهم، فأشفقوا حينئذ على أنفسهم، فانثنوا راجعين وراءهم، يحمونهم من أدبارهم أن يتبعوا، وحوى الأتراك جميع عسكر الحسين بما فيه من المضارب وأثاث الجند وتجارات أهل السوق، وكان معه في السفن سلاح سلم، لأن الملاحين حرزوا سفنهم، فسلم ما كان معهم من السلاح ومن تجارات التجار.
وذكر عن ابن زنبور كاتب الحسين أنه أخذ للحسين اثنا عشر صندوقا فيها كسوة ومال من مال السلطان مبلغه ثمانية آلاف دينار، ونحو من أربعة آلاف دينار لنفسه، ونحو من مائة بغل، وانتهب فروض الحسين مضارب الحسين وأصحابه، وطاروا مع من طار، فوافوا الياسرية، وكان اكثر

(9/322)


النهب مع أصحاب أبي السنا ووافى الحسين والفل الياسرية يوم الثلاثاء لست خلون من جمادى الآخرة.
ولقي الحسين رجل من التجار في جماعة ممن ذهبت أموالهم في عسكره، فقال: الحمد لله الذي بيض وجهك! أصعدت في اثني عشر يوما، وانصرفت في يوم واحد! فتغافل عنه.
قال أبو جعفر: ومما انتهى إلينا من خبر الحسين بن إسماعيل ومن كان معه من القواد والجند الذين كان محمد بن عبد الله بن طاهر استنهضهم من بغداد في هذه السنة لحرب من كان قصد الأنبار وما اتصل بها من البلاد من الأتراك والمغاربة، أنه لما صار إلى الياسرية منصرفه مهزوما من دمما، أقام بها في بستان ابن الحروري، وأقام من وافى الياسرية من المنهزمة في الجانب الغربي من الياسرية، ومنعوا من العبور، ونودي ببغداد فيمن دخلها من الجند الذين في عسكر الحسين أن يلحقوا بالحسين في معسكره، وأجلوا ثلاثة ايام، فمن وجد منهم ببغداد بعد ثلاثة ضرب ثلاثمائة سوط، ومحي اسمه من الديوان.
فخرج الناس، وأمر خالد بن عمران في الليلة التي قدم فيها الحسين أن يعسكر في أصحابه بالمحول، وأعطى أصحابه أرزاقهم في تلك الليلة في الشرج، ونودي في أصحابه بالمحول باللحاق به.
ونودي في الفرض القدماء الذين كانوا فرضوا بسبب أبي الحسين يحيى بن عمر بالكوفه وهم خمسمائة رجل، وأصحاب خالد وهم نحو من ألف رجل، فعسكروا بالمحول يوم الثلاثاء لسبع خلون من جمادى الآخرة وأمر ابن طاهر الشاه بن ميكال في صبيحة الليلة التي وافى فيها الحسين أن يتلقاه ويمنعه من دخول بغداد فلقيه في الطريق، فرده إلى بستان ابن الحروري، وأقاموا يومهم، فلما كان الليل صاروا إلى دار ابن طاهر، فوبخه ابن طاهر وأمره بالرجوع إلى الياسرية لينفذ إلى الأنبار مع من ينفذ إليها من الجند، فصار من ليلته إلى الياسرية، ثم أمر بإخراج مال لإعطاء شهر واحد لآل هذا العسكر

(9/323)


فحمل تسعة آلاف دينار، وصار كتاب ديوان العطاء وديوان العرض إلى الياسرية لعرض الجند وإعطائهم.
فلما كان يوم الجمعة لسبع خلون من جمادى الآخرة توجه خالد بن عمران مصعدا إلى قنطرة بهلايا- وهي موضع السكر- وخرجت معه نحو من عشرين سفينة وركب عبيد الله بن عبد الله وأحمد بن إسرائيل والحسن بن مخلد إلى عسكر الحسين بن إسماعيل بالياسرية، فقرءوا على الحسين والقواد كتابا كتب به عن المستعين، يخبرهم فيه بسوء طاعتهم وما ركبوا من العصيان والتخاذل، فقرئ عليهم والعسكر مقيم، والعراض يعرضونهم ليتعرفوا من قتل ومن غرق من كل قيادة، ونودي باللحاق بعسكرهم، فخرجوا.
وأتاهم كتاب بعض عيونهم بالأنبار يخبر أن القتلى كانت من الأتراك أكثر من مائتين، والجرحى نحوا من أربعمائة، وأن جميع من أسره الأتراك من أهل بغداد الجيشية والفروض من الرجالة مائتان وعشرون إنسانا، وأنه عد رءوس من قتل فوجدها سبعين رأسا، وكانوا أخذوا جماعة من أهل الأسواق.
فصاحوا لأبي نصر: نحن أهل السوق، فقال: ما بالكم معهم! فقالوا:
أكرهنا فخرجنا، شئنا او أبينا فأطلق من كان منهم يشبه السوقة، وأمر بحبس الأسرى في القطيعة.
وذكر عن صاحب بغال السلطان: أن جميع ما ذهب من بغال السلطان مائة وعشرون بغلا.
ورحل الحسين يوم الاثنين لاثنتي عشرة بقيت من جمادى الآخرة، وكتب إلى خالد بن عمران وهو مقيم على السكر، أن يرحل متقدما أمامه، فامتنع خالد من ذلك، وذكر أنه لا يبرح من موضعه إلا أن يأتيه قائد في جند كثيف فيقيم مكانه، لأنه يتخوف أن يأتيه الأتراك من خلفه من عسكرهم بناحية قطربل وأمر ابن طاهر بمال، فحمل إلى الحسين بن إسماعيل لإعطاء جميع من في عسكره رزق شهر واحد، ليفرق فيهم بدمما، وأمر أن يخرج معه الكتاب والعراض لأصحابه هنالك، وقلد أمر نفقات

(9/324)


عسكره وإعطاء الجند من قبل ديوان الخراج الفضل بن مظفر السبعي، وحمل المال مع السبعي إلى معسكر الحسين، لينفذ.
معه إذا نفذ وقد قيل: إن الحسين ارتحل إلى الأنبار في النصف من ليلة الأربعاء لعشر بقين من جمادى الآخرة، فسار وتبعه من في عسكره يوم الأربعاء، ونودي في أصحابه باللحاق به، فسار حتى نزل دمما، وأراد أن يعقد على نهر أنق جسرا ليعبر عليه، فمانعه الأتراك، فعبر إليهم جماعة من أصحابه من الرجالة، فحاربوهم حتى كشفوهم وعقد خالد الجسر، فعبر اصحابه ووجه محمد بن عبد الله بكاتبه محمد بن عيسى بشيء شافهه به، فيقال: أنه حمل معه أطواقا وأسورة، وانصرف إلى منزله، وصار إلى الحسين يوم السبت لثمان خلون من رجب رجل، فأخبره أن الأتراك قد دلوا على عدة مواضع في الفرات، تخاض إلى عسكره، فأمر بضرب الرجل مائتي سوط، ووكل بالمخاوض رجلا من قواده، يقال له الحسين بن علي بن يحيى الأرمني في مائة راجل ومائة فارس، فطلع أول القوم، فخرج عليهم وقد أتاه منهم أربعة عشر علما، فقاتل أصحابه ساعة، ووكل بالقنطرة أبا السنا، وأمره أن يمنع من انهزم من العبور، فأتى الأتراك المخاضة، فرأوا الموكل بها، فتركوه واقفا، وصاروا إلى مخاضة أخرى خلف الموكل فقاتلوهم، فصبر الحسين بن علي وقاتل، فقيل للحسين بن إسماعيل، فقصد نحوه، ولم يصل إليه حتى انهزم، وانهزم خالد بن عمران معه ومن معه، ومنعهم أبو السنا من العبور على القنطرة، فرجع الرجالة والخراسانية فرموا بأنفسهم في الفرات، فغرق من لم يحسن السباحة، وعبر من كان يحسن السباحة، فنجا عريانا، وخرج إلى جزيرة لا يصل منها إلى الشط، لما على الشط من الأتراك، فذكر عن بعض جند الحسين، أنه قال: بعث الحسين بن علي الأرمني إلى الحسين بن إسماعيل أن الأتراك قد وافوا المخاضة، فأتاه الرسول، فقيل: الأمير نائم، فرجع الرسول فأعلمه، فرد آخر، فقال له الحاجب: الأمير في المخرج، فرجع فأخبره، فرد

(9/325)


رسولا ثالثا، فقال: قد خرج من المخرج ونام، فعلت الصيحة فعبر الاتراك، فقعد الحسين في زورق أو شبارة، وانحدر واستأثر قوم من الخراسانية، ورموا ثيابهم وسلاحهم، وقعدوا على الشط عراة، وشد أصحاب أعلام الأتراك حتى ضربوا أعلامهم على مضرب الحسين بن إسماعيل، واقتطعوا السوق، وانحدرت عامة السفن، فسلمت إلا ما كان موكلا به منها، ولحق الأتراك أصحاب الحسين، فوضعوا فيهم السيف، فقتلوا وأسروا نحوا من مائتين، وغرق خلق كثير، ووافى الحسين والمنهزمة بغداد نصف الليل، ووافى فلهم وبقيتهم في النهار، وفيهم جرحى كثيرة، فلم يزالوا إلى نصف النهار يتتابعون عراة مجرحين، وفقد من قواد الحسين بن يوسف البرم وغيره.
ثم جاء كتابه أنه أسير في أيدي الأتراك عند مفلح، وأن عدة الأسرى من وقعة الحسين الثانية مائة ونيف وسبعون إنسانا، والقتلى مائة، والدواب نحو من ألفي دابة ومائتي بغل وأكثر، وقيمة السلاح والثياب وغير ذلك اكثر من مائه الف دينار، فقال الهندواني في الحسين بن إسماعيل:
يا أحزم الناس رأيا في تخلفه ... عن القتال خلطت الصفو بالكدر
لما رأيت سيوف الترك مصلتة ... علمت ما في سيوف الترك من قدر
فصرت منحجزا ذلا ومنقصة ... والنجح يذهب بين العجز والضجر
ولحق بالمعتز في جمادى الآخرة منها من بغداد جماعة من الكتاب وبني هاشم، ومن القواد مزاحم بن خاقان أرطوج، ومن الكتاب عيسى بن ابراهيم ابن نوح ويعقوب بن إسحاق ونماري ويعقوب بن صالح بن مرشد ومقله وابن لأبي مزاحم بن يحيى بن خاقان ومن بني هاشم على ومحمد ابنا الواثق، ومحمد ابن هارون بن عيسى بن جعفر، ومحمد بن سليمان من ولد عبد الصمد بن علي وفيها كانت وقعة بين محمد بن خالد بن يزيد وأحمد المولد وأيوب بن أحمد

(9/326)


بالسكير من أرض بني تغلب، قتل بين الفريقين جماعه كثيره، وانهزم محمد ابن خالد، وانتهب الآخرون متاعه، وهدم أيوب دور آل هارون بن معمر.
وقتل من ظفر به من رجالهم وفيها كانت لبلكاجور غزوة فتح- فيما ذكر- فيها مطمورة أصاب فيها غنيمة كثيرة، وأسر جماعة من الأعلاج، وورد بذلك على المستعين كتاب تاريخه يوم الأربعاء لثلاث ليال بقين من شهر ربيع الآخر سنة إحدى وخمسين ومائتين وفي يوم السبت لثمان بقين من رجب من هذه السنة كانت وقعه بين محمد ابن رجاء وإسماعيل بن فراشة وبين جعلان التركي بناحية بادرايا وباكسايا، فهزم ابن رجاء وابن فراشة جعلان، وقتلا من أصحابه جماعة.
وأسرا جماعة وفي رجب منها كان- فيما ذكر- وقعة بين ديوداد أبي الساج وبين بايكباك بناحية جرجرايا، قتل فيها أبو الساج بايكباك، وقتل من رجاله جماعة، وأسر منهم جماعة، وغرق منهم في النهروان جماعة.
وفي النصف من رجب منها اجتمع من كان ببغداد من بني هاشم من العباسيين، فصاروا إلى الجزيرة التي بإزاء دار محمد بن عبد الله، فصاحوا بالمستعين وتناولوا محمد بن عبد الله بالشتم القبيح، وقالوا: قد منعنا أرزاقنا، وتدفع الأموال إلى غيرنا ممن لا يستحقها، ونحن نموت هزلا وجوعا! فإن دفعت إلينا أرزاقنا وإلا قصدنا إلى الأبواب ففتحناها، وأدخلنا الأتراك، فليس يخالفنا أحد من أهل بغداد فعبر إليهم الشاه بن ميكال، فكلمهم ورفق بهم، وسألهم أن يعبر معه منهم ثلاثة أنفس ليدخلهم على ابن طاهر، فامتنعوا من ذلك، وأبوا إلا الصياح وشتم محمد بن عبد الله، فانصرف عنهم الشاه، فلم يزالوا على حالهم إلى قرب الليل، ثم انصرفوا واجتمعوا من غد ذلك اليوم، فوجه إليهم محمد بن عبد الله، فأمرهم بحضور الدار يوم الاثنين ليأمر من يناظرهم،

(9/327)


فصاروا إلى الدار، فأمر محمد بن داود الطوسي بمناظرتهم، وبذل لهم رزق شهر واحد، وأمرهم أن يقبضوا ذلك، ولا يكلفوا الخليفة أكثر من هذا، فأبوا أن يقبضوا رزق شهر، وانصرفوا.

خروج الحسين بن محمد الطالبي وما آل اليه امره
وفيها خرج بالكوفة رجل من الطالبيين يقال له الحسين بن محمد بن حمزة بن عبد الله بن الحسين بْن علي بْن حسين بْن علي بْن أبي طالب، فاستخلف بها رجلا منهم يقال له محمد بن جعفر بن الحسين بن جعفر بن الحسين بن حسن، ويكنى أبا أحمد، فوجه إليه المستعين مزاحم بن خاقان أرطوج، وكان العلوي بسواد الكوفه في ثلاثمائة رجل من بنى اسد وثلاثمائة رجل من الجارودية والزيدية وعامتهم صوافية، وكان العامل يومئذ بالكوفه احمد ابن نصر بن مالك الخزاعي، فقتل العلوي من أصحاب ابن نصر أحد عشر رجلا، منهم من جند الكوفة أربعة، وهرب أحمد بن نصر إلى قصر ابن هبيرة، فاجتمع هو وهشام بن أبي دلف، وكان يلي بعض سواد الكوفة- فلما صار مزاحم إلى قرية شاهي كتب إليه في المقام حتى يوجه إلى العلوي من يرده إلى الفيئة والرجوع فوجه إليه داود بن القاسم الجعفري، وأمر له بمال، فتوجه إليه وأبطأ داود وخبره على مزاحم، فزحف مزاحم إلى الكوفة من قرية شاهي، فدخلها وقصد العلوي فهرب، فوجه في طلبه قائدا، وكتب بفتحه الكوفة في خريطة مريشة 4 وقد ذكر أن أهل الكوفة عند ورود مزاحم حملوا العلوي على قتاله، ووعدوه النصر، فخرج في غربي الفرات، فوجه مزاحم قائدا من قواده في الشرقي من الفرات، وأمره أن يمضي حتى يعبر قنطرة الكوفة ثم يرجع، فمضى القائد لذلك، وأمر مزاحم بعض أصحابه الذين بقوا معه أن يعبروا مخاضة الفرات في

(9/328)


قرية شاهي، وأن يتقدموا حتى يحاربوا أهل الكوفة ويصافوهم من أمامهم فساروا ومعهم مزاحم، وعبر الفرات، وخلف أثقاله ومن بقي معه من أصحابه، فلما رآهم أهل الكوفة ناوشوهم الحرب، ووافاهم قائد مزاحم، فقاتلهم من ورائهم ومزاحم من أمامهم، فأطبقوا عليهم جميعا فلم يفلت منهم أحد.
وذكر عن ابن الكردية أن مزاحما قتل من أصحابه قبل دخوله الكوفة ثلاثة عشر رجلا، وقتل من الزيدية أصحاب الصوف سبعة عشر رجلا، ومن الأعراب ثلاثمائة رجل، وأنه لما دخل الكوفة رمي بالحجارة فضرب ناحيتي الكوفة.
بالنار، وأحرق سبعة أسواق، حتى خرجت النار إلى السبيع، وهجم على الدار التي فيها العلوي فهرب، ثم أتي به وقتل في المعركة من العلوية رجل وذكر أنه حبس جميع من بالكوفة من العلوية، وحبس أبناء هاشم، وكان العلوي فيهم.
وذكر عن أبي إسماعيل العلوي أن مزاحما أحرق بالكوفة ألف دار، وأنه أخذ ابنة الرجل منهم فعنفها.
وذكر أنه أخذ للعلوي جوار، فيهم امرأة حرة مضمومة، فأقامها على باب المسجد ونادى عليها.
وفي النصف من رجب من هذه السنة، ورد على مزاحم كتاب من المعتز يأمره بالمصير إليه، ويعده وأصحابه ما يحب ويحبون فقرأ الكتاب مزاحم على أصحابه، فأجابه الأتراك والفراغنة والمغاربة، وأبي الشاكرية ذلك، فمضى فيمن أطاعه منهم وهم زهاء أربعمائة إنسان وقد كان أبو نوح تقدمه إلى سامرا، فأشار بالكتاب إليه، وكان مزاحم ينتظر أمر الحسين بن إسماعيل، فلما انهزم الحسين مضى إلى سامرا، وقد كان المستعين وجه إلى مزاحم عند فتح الكوفة عشرة آلاف دينار وخمس خلع وسيفا ونفذ الرسول إليه، والفى الجند الذين كانوا معه في الطريق، فردوا جميع ذلك معهم، وصاروا إلى باب محمد بن عبد الله، وأعلموه ما فعل مزاحم وكان في الجند والشاكرية خليفة

(9/329)


الحسين بن يزيد الحراني وهشام بن أبي دلف والحارث خليفة أبي الساج، فأمر ابن طاهر أن يخلع على كل واحد منهم ثلاث خلع وذكر أن هذا العلوي كان قد ظهر بنينوى في آخر جمادى الآخرة من هذه السنة، فاجتمع إليه جماعة من الأعراب، وفيهم قوم ممن كان خرج مع يحيى بن عمر في سنة خمسين ومائتين، وقد كان قدم إلى تلك الناحية هشام ابن ابى دلف، فواقعهم العلوي في جماعه نحو من خمسين رجلا، فهزمه وقتل عدة من أصحابه، وأسر عشرين رجلا وغلاما، وهرب العلوى إلى الكوفة، فاختفى بها، ثم ظهر بعد ذلك وحمل الأسرى والرءوس إلى بغداد، فعرف خمسة نفر ممن كان مع أصحاب أبي الحسين يحيى بن عمر، فأطلقوا.
وأمر محمد بن عبد الله أن يضرب كل واحد ممن اطلق وعاد خمسمائة سوط، فضربوا في آخر يوم من جمادى الآخرة وذكر أن كتب أبي الساج لما وردت بما كان من إيقاعه ببايكباك، وذلك لاثنتي عشرة بقيت من رجب من هذه السنة، وجه إليه بعشرة آلاف دينار معونة له، وبخلعه فيها خمسه أثواب وسيف.
[أخبار متفرقة]
وفيها كانت وقعة- فيما ذكر- بين منكجور بن خيدر وبين جماعة من الأتراك بباب المدائن هزمهم فيها منكجور، وقتل منهم جماعة وفيها كانت لبلكاجور صائفة، فتح فيها فتوحا فيما ذكر وفيها كانت وقعة بين يحيى بن هرثمة وأبي الحسين بن قريش، قتل من الفريقين جماعة، ثم انهزم أبو الحسين بن قريش وفي يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة خلت من شعبان كانت بباب بغواريا وقعة بين الأتراك وأصحاب ابن طاهر، وكان السبب في ذلك ان الموكل كان بباب بغواريا إبراهيم بن محمد بن حاتم والقائد المعروف بالنساوى في نحو من

(9/330)


ثلاثمائة فارس وراجل، فجاءت الأتراك والمغاربة في جمع كثير، فنقبوا السور في موضعين، فدخلوا منهما، فقاتلهم النساوي فهزموه، ووافوا باب الأنبار، وعليه إبراهيم بن مصعب وابن أبي خالد وابن أسد بن داود سياه، وهم لا يعلمون بدخولهم باب بغواريا، فقاتلهم قتالا شديدا، فقتل من الفريقين جماعة ثم إن من كان على باب الأنبار من أهل بغداد انهزموا لا يلوون على شيء، فضرب الأتراك والمغاربة باب الأنبار بالنار فاحترق، وأحرقوا ما كان على باب الأنبار من المجانيق والعرادات، ودخلوا بغداد حتى صاروا إلى باب الحديد ومقابر الرهينة ومن ناحية الشارع إلى موضع أصحاب الدواليب، فاحرقوا ما هنالك وأحرقوا كل ما قرب من ذلك من أمامهم وورائهم، ونصبوا أعلامهم على الحوانيت التي تقرب من ذلك الموضع، وانهزم الناس، حتى لم يقف بين أيديهم أحد، وكان ذلك مع صلاة الغداة، فوجه ابن طاهر إلى القواد، ثم ركب في السلاح فوقف على باب درب صالح المسكين، ووافاه القواد، فوجههم إلى باب الأنبار وباب بغواريا وجميع الأبواب التي في الجانب الغربي، وشحنها بالرجال، وركب بغا ووصيف، فتوجه بغا في أصحابه وولده إلى باب بغواريا، وصار الشاه بن ميكال والعباس بن قارن والحسين بن إسماعيل إلى باب الأنبار والغوغاء، فالتقوا والأتراك في داخل الباب، فبادرهم العباس بن قارن، فقتل- فيما ذكر- في مقام واحد جماعة من الأتراك، ووجه برءوسهم إلى باب ابن طاهر، وكاثرهم الناس على هذه الأبواب، فدفعوهم حتى أخرجوهم بعد أن قتل منهم جماعة، وكان بغا الشرابي خرج إلى باب بغواريا في جمع كثير، فوافاهم وهم غارون، فقتل منهم جماعة كثيرة، وهرب الباقون، فخرجوا من الباب، فلم يزل بغا يحاربهم إلى العصر، ثم انهزموا وانصرفوا، ووكل بالباب من يحفظه، وانصرف إلى باب الأنبار، ووجه في حمل الجص والآجر، وأمر بسده.
وفي هذا اليوم أيضا كانت حرب شديدة بباب الشماسية، قتل من الفريقين- فيما ذكر- جماعة كثيرة، وجرح آخرون، وكان الذي قاتل الأتراك في هذا اليوم- فيما ذكر- يوسف بن يعقوب قوصرة

(9/331)


وفيها أمر محمد بن عبد الله المظفر بن سيسل أن يعسكر بالياسرية، ففعل ذلك، ثم انتقل إلى الكناسة إلى أن وافاه بالفردل بن إيزنكجيك الأشروسني، فأمر له بفرض، وضم إليه رجالا من الشاكرية وغيرهم، وأمر أن يضام المظفر ويعسكر بالكناسة، ويكون أمرهما واحدا، ويضبط تلك الناحية، فأقاما هنالك حينا، ثم أمر بالفردل المظفر بالمضي، ليعرف خبر الأتراك ليدبر في أمرهم بما يراه، فامتنع من ذلك المظفر، وزعم أن الأمير لم يأمره بشيء مما سأله، وكتب كل واحد منهما يشكو صاحبه، وكتب المظفر يستعفي من المقام بالكناسة، ويزعم أنه ليس بصاحب حرب، فأعفي، وأمر بالانصراف ولزوم البيت، وقلد أمر ذلك العسكر ومن فيه من الجند النائبة والأثبات بالفردل، وضم إليه أثبات المظفر وأفرد بالناحية.
وفي شهر رمضان من هذه السنة التقى هشام بن أبي دلف والعلوي الخارج بنينوى، ومعه رجل من بني أسد، فاقتتلوا فقتل من أصحاب العلوي- فيما ذكر- نحو من أربعين رجلا، ثم افترقا، فدخل العلوي الكوفة فبايع أهلها المعتز، ودخل هشام بن أبي دلف بغداد وفي شهر رمضان من هذه السنة كانت بين أبي الساج والأتراك وقعه بناحيه جرجرايا، هزمهم فيها أبو الساج، وقتل منهم جماعة كثيرة، واسر منهم جماعه اخر.

ذكر خبر قتل بالفردل
ولليلة بقيت من شهر رمضان منها قتل بالفردل، وكان سبب قتله أن أبا نصر بن بغا لما غلب على الأنبار وما قرب منها، وهزم جيوش ابن طاهر من تلك الناحية وأجلاهم عنها، بث خيله ورجاله في أطراف بغداد من الجانب الغربي، وصار الى قصر ابن هبيرة، وبها بحونه بن قيس من قبل ابن طاهر، فهرب منه من غير قتال جرى بينه وبينه، ثم صار أبو نصر إلى نهر صرصر،

(9/332)


واتصل بابن طاهر خبره وخبر الوقعة التي كانت بين أبي الساج والأتراك بجرجرايا وخذلان من معه من الفروض إياه عند احمرار البأس فندب بالفردل إلى اللحاق بأبي الساج والمسير بمن معه إليه، فسار بالفردل فيمن معه غداة يوم الثلاثاء لليلتين بقيتا من شهر رمضان، فسار يومه وصبح المدائن، فوافاها مع موافاة الأتراك ومن هو مضموم إليهم من غيرهم، وبالمدائن رجال ابن طاهر وقواده، فقاتلهم الأتراك، فانهزموا ولحق من فيها من القواد بأبي الساج، وقاتل بالفردل قتالا شديدا، ولما راى انهزام من هنا لك من أصحاب ابن طاهر مضى متوجها نحو أبي الساج بمن معه فأدرك فقتل.
وذكر عن ابن القواريري- وكان أحد القواد- قال: كنت وابو الحسين ابن هشام موكلين بباب بغداد ومنكجور منفرد بباب ساباط، وكان بقرب بابه ثلمة في سور المدائن، فسألت منكجور أن يسدها فأبى، فدخل الأتراك منها، وتفرق أصحابه قال: وبقيت في نحو من عشرة أنفس، ووافى بالفردل هو وأصحابه، فقال: أنا الأمير، أنا فارس ومعي فرسان، نمضي على الشط، وتكون الرجالة على السفن، فدافع ساعه ثم مضى لوجهه وعسكره في السفن على حالهم يريد أبا الساج، أو تلك الناحية، وأقمت بعده ساعة تامة، وتحتي أشقر عليه حلية، فصرت إلى نهر فعثر بي، فسقطت عنه، وقصدوني يقولون: صاحب الأشقر! فخرجت من النهر راجلا قد طرحت عني السلاح، فنجوت.
وغضب ابن طاهر على ابن القواريري وأصحابه، وأمرهم بلزوم منازلهم، وغرق بالفردل.
ولأربع خلون من شوال من هذه السنة، جمع- فِيمَا ذكر- مُحَمَّد بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طاهر جميع قواده الموكلين بأبواب بغداد وغيرهم، فشاورهم جميعا في الأمور، وأعلمهم ما ورد عليهم من الهزائم، فكل أجاب بما أحب من بذل النفس والدم والأموال، فجزاهم خيرا وأدخلهم إلى المستعين، وأعلمه ما ناظرهم

(9/333)


فيه وما ردوا عليه من الجواب، فقال لهم المستعين: والله يا معشر القواد، لئن قاتلت عن نفسي وسلطاني ما أقاتل إلا عن دولتكم وعامتكم، وأن يرد الله إليكم أموركم قبل مجيء الأتراك وأشباههم، فقد يجب عليكم المناصحة والجهد في قتال هؤلاء الفسقة، فردوا أحسن مرد، وجزاهم الخير، وأمرهم بالانصراف الى مراكزهم فانصرفوا.

ذكر خبر هزيمه الاتراك ببغداد
وفي يوم الاثنين لأيام خلت من ذي القعدة من هذه السنة كانت وقعة عظيمة لأهل بغداد، هزموا فيها الأتراك، وانتهبوا عسكرهم، وكان سبب ذلك أن الأبواب كلها من الجانبين فتحت ونصبت المجانيق والعرادات في الأبواب كلها والشبارات في دجلة، وخرج منها الجند كلهم، وخرج ابن طاهر وبغا ووصيف حين تزاحف الفريقان، واشتدت الحرب إلى باب القطيعة، ثم عبروا إلى باب الشماسية، وقعد ابن طاهر في قبة ضربت له، وأقبلت الرماة من بغداد بالناوكية في الزواريق، ربما انتظم السهم الواحد عدة منهم فقتلهم، فهزمت الأتراك، وتبعهم أهل بغداد حتى صاروا إلى عسكرهم، وانتهبوا سوقهم هنالك، وضربوا زورقا لهم كان يقال له الحديدي، كان آفة على أهل بغداد بالنار، وغرق من فيه، وأخذوا لهم شبارتين، وهرب الأتراك على وجوههم لا يلوون على شيء، وجعل وصيف وبغا يقولان كلما جيء برأس: ذهب والله الموالي واتبعهم أهل بغداد إلى الروذبار، ووقف أبو أحمد بن المتوكل يرد الموالي، ويخبرهم أنهم إن لم يكروا لم يبق لهم بقية، وأن القوم يتبعونهم إلى سامرا فتراجعوا، وثاب بعضهم، وأقبلت العامة تحز رءوس من قتل، وجعل محمد بن عبد الله يطوق كل من جاء برأس ويصله، حتى كثر ذلك، وبدت الكراهة في وجوه من مع بغا ووصيف من الأتراك والموالي، ثم ارتفعت غبرة من ريح جنوب، وارتفع الدخان مما احترق،

(9/334)


وأقبلت أعلام الحسن بن الأفشين مع أعلام الأتراك يقدمها علم أحمر، قد استلبه غلام لشاهك، فنسي أن ينكسه، فلما رأى الناس العلم الأحمر ومن خلفه، توهموا أن الأتراك قد رجعوا عليهم وانهزموا، وأراد بعض من وقف أن يقتل غلام شاهك، ففهمه، فنكس العلم، والناس قد ازدحموا منهزمين، وتراجع الأتراك إلى معسكرهم ولم يعلموا بهزيمة أهل بغداد، فتحملوا عليهم، فانصرف الفريقان بعضهم عن بعض
. خبر وقعه ابى السلاسل مع المغاربه
وفيها كانت وقعة لأبي السلاسل وكيل وصيف بناحية الجبل مع المغاربة، وكان سبب ذلك- فيما ذكر- أن رجلا من المغاربة يقال له نصر سلهب، صار بجماعة من المغاربة إلى عمل بعض ما إلى أبي الساج من الأرض، وانتهب هو وأصحابه ما هنالك من القوى، فكتب أبو السلاسل إلى أبي الساج يعلمه ذلك، فوجه أبو الساج إليه- فيما ذكر- بنحو من مائة نفس بين فارس وراجل، فلما صاروا إليه كبس أولئك المغاربة، فقتل منهم تسعة، وأسر عشرين، وأفلت نصر سهلب ساريا
. ذكر خبر وقوع الصلح بين الموالي وابن طاهر
ووضعت الحرب أوزارها بعد هذه الوقعة بين الموالي وابن طاهر، فلم يعودوا لها، وكان السبب في ذلك- فيما ذكر- أن ابن الطاهر قد كان كاتب المعتز قبل ذلك في الصلح، فلما كانت هذه الوقعة أنكرت عليه، فكتب إليه، فذكر أنه لا يعود بعدها لشيء يكرهه، ثم أغلقت بعد ذلك على أهل بغداد أبوابها، فاشتد عليهم الحصار، فصاحوا في أول ذي القعدة من هذه السنة في يوم الجمعة: الجوع! ومضوا إلى الجزيرة التي هي تلقاء دار ابن طاهر، فأرسل إليهم ابن طاهر: وجهوا إلي منكم خمسة مشايخ، فوجهوا بهم، فأدخلوا عليه، فقال لهم: إن من الأمور أمورا لا يعلم بها العامة، وأنا عليل، ولعلي

(9/335)


أعطي الجند أرزاقهم ثم أخرج بهم إلى عدوكم فطابت أنفسهم، وخرجوا عن غير شيء، وعادت العامة والتجار بعد إلى الجزيرة التي بحذاء دار ابن طاهر، فصاحوا وشكوا ما هم فيه من غلاء السعر، فبعث إليهم فسكنهم، ووعدهم ومناهم وأرسل ابن طاهر إلى المعتز في الصلح واضطرب أمر أهل بغداد، فوافى بغداد للنصف من ذي القعدة من هذه السنه حماد بن إسحاق ابن حماد بن زيد، ووجه مكانه أبو سعيد الأنصاري إلى عسكر أبي أحمد رهينة، فلقي حماد بن إسحاق ابن طاهر، فخلا به فلم يذكر ما جرى بينهما.
ثم انصرف حماد إلى عسكر أبي أحمد، ورجع أبو سعيد الأنصاري، ثم رجع حماد إلى ابن طاهر، فجرت بين ابن طاهر وبين أبي أحمد رسائل مع حماد.
ولتسع بقين من ذي القعدة خرج أحمد بن إسرائيل إلى عسكر أبي أحمد مع حماد وأحمد بن إسحاق وكيل عبيد الله بن يحيى بإذن ابن طاهر لمناظرة أبي أحمد في الصلح.
ولسبع بقين من ذي القعدة أمر ابن طاهر بإطلاق جميع من في الحبوس ممن كان حبس بسبب ما كان بينه وبين أبي أحمد من الحروب ومعاونته إياه عليه فأطلقه ومن غد هذا اليوم اجتمع قوم من رجالة الجند وكثير من العامة، فطلب الجند أرزاقهم، وشكت العامة سوء الحال التي هم بها من الضيق وغلاء السعر وشدة الحصار، وقالوا: إما خرجت فقاتلت، وإما تركتنا، فوعدهم أيضا الخروج أو فتح الباب للصلح، ومناهم فانصرفوا.
فلما كان بعد ذلك، وذلك لخمس بقين من ذي القعدة شحن السجون والجسر وباب داره والجزيرة بالجند والرجال، فحضر الجزيرة بشر كثير، فطردوا من كان ابن طاهر صيرهم فيها، ثم صاروا إلى الجسر من الجانب الشرقي، ففتحوا سجن النساء، وأخرجوا من فيه، ومنعهم علي بن جهشيار ومن معه من الطبرية من سجن الرجال، ومانعهم أبو مالك الموكل بالجسر الشرقي، فشجوه وجرحوا دابتين لأصحابه، فدخل داره وخلاهم، فانتهبوا ما في

(9/336)


مجلسه، وشد عليهم الطبرية فنحوهم حتى أخرجوهم من الأبواب، وأغلقوها دونهم، وخرج منهم جماعة، ثم عبر إليهم محمد بن أبي عون، فضمن للجند رزق أربعة أشهر، فانصرفوا على ذلك، وأمر ابن طاهر بإعطاء أصحاب ابن جهشيار أرزاقهم لشهرين من يومهم فأعطوا.

ذكر بدء عزم ابن طاهر على خلع المستعين والبيعه للمعتز
ووجه أبو أحمد خمس سفائن من دقيق وحنطة وشعير وقت وتبن إلى ابن طاهر في هذه الأيام، فوصلت إليه ولما كان يوم الخميس لأربع خلون من ذي الحجة علم الناس ما عليه ابن طاهر من خلعه المستعين وبيعته للمعتز، ووجه ابن طاهر قواده إلى أبي أحمد حتى بايعوه للمعتز، فخلع على كل واحد منهم أربع خلع، وظنت العامة أن الصلح جرى بإذن الخليفة المستعين، وان المعتز ولى عهده.

خروج العامه ونصره المستعين على ابن طاهر
ولما كان يوم الأربعاء خرج رشيد بن كاوس- وكان موكلا بباب السلامة- مع قائد يقال له نهشل بن صخر بن خزيمة بن خازم وعبد الله بن محمود، ووجه إلى الأتراك بأنه على المصير إليهم ليكون معهم، فوافاه من الأتراك زهاء ألف فارس، فخرج إليهم على سبيل التسليم عليهم، على ان الصلح قد وقع، فسلم عليهم، وعانق من عرف منهم، وأخذوا بلجام دابته، ومضوا به وبابنه في أثره، فلما كان يوم الاثنين صار رشيد إلى باب الشماسية فكلم الناس، وقال: ان امير المؤمنين وأبا جعفر يقرئان عليكم السلام، ويقولان لكم: من دخل في طاعتنا قربناه ووصلناه، ومن آثر غير ذلك فهو أعلم، فشتمه العامة ثم طاف على جميع أبواب الشرقية بمثل ذلك، وهو يشئم في كل باب، ويشتم المعتز فلما فعل رشيد ذلك علمت العامة ما عليه ابن طاهر، فمضت إلى الجزيرة التي بحذاء دار ابن طاهر، فصاحوا به وشتموه أقبح شتم، ثم صاروا إلى بابه، ففعلوا مثل ذلك، فخرج إليهم راغب الخادم، فحضهم على ما فعلوا، وسألهم الزيادة فيما هم فيه من نصرة المستعين، ثم مضى إلى الحظيرة

(9/337)


التي فيها الجيش، فمضى بهم وجماعة أخر غيرهم وهم زهاء ثلاثمائة في السلاح، فصاروا إلى باب ابن طاهر، فكشفوا من عليه وردوهم، فلم يبرحوا يقاتلونهم، حتى صاروا إلى دهليز الدار، وأرادوا إحراق الباب الداخل فلم يجدوا نارا، وقد كانوا باتوا بالجزيرة الليل كله يشتمونه ويتناولنه بالقبيح.
وذكر عن ابن شجاع البلخي أنه قال: كنت عند الأمير وهو يحدثني ويسمع ما يقذف به من كل إنسان، حتى ذكروا اسم أمه، فضحك وقال:
يا أبا عبد الله، ما أدري كيف عرفوا اسم أمي! ولقد كان كثير من جواري أبي العباس عبد الله بن طاهر لا يعرفون اسمها، فقلت له: أيها الأمير، ما رأيت أوسع من حلمك، فقال لي: يا أبا عبد الله، ما رأيت أوفق من الصبر عليهم، ولا بد من ذلك فلما أصبحوا وافوا الباب، فصاحوا، فصار ابن طاهر إلى المستعين يسأله أن يطلع إليهم ويسكنهم ويعلمهم ما هو عليه لهم، فأشرف عليهم من أعلى الباب وعليه البردة والطويلة، وابن طاهر إلى جانبه، فحلف لهم بالله ما اتهمه، وإني لفي عافية ما علي منه بأس، وإنه لم يخلع، ووعدهم أنه يخرج في غد يوم الجمعة ليصلي بهم، ويظهر لهم فانصرف عامتهم بعد قتلى وقعت ولما كان يوم الجمعة بكر الناس بالصياح يطلبون المستعين، وانتهبوا دواب علي بن جهشيار- وكانت في الخراب، على باب الجسر الشرقي- وانتهب جميع ما كان في منزله وهرب، وما زال الناس وقوفا على ما هم عليه إلى ارتفاع النهار، فوافى وصيف وبغا وأولادهما ومواليهما وقوادهما وأخوال المستعين، فصار الناس جميعا إلى الباب، فدخل وصيف وبغا في خاصتهما، ودخل أخوال المستعين معهم إلى الدهليز، ووقفوا على دوابهم، وأعلم ابن طاهر بمكان الأخوال، فأذن لهم.
بالنزول فأبوا، وقالوا: ليس هذا يوم نزولنا عن ظهور دوابنا حتى نعلم نحن والعامه ما نحن عليه، ولم تزل الرسل تختلف إليهم، وهم يأبون،

(9/338)


فخرج إليهم محمد بن عبد الله نفسه، فسألهم النزول والدخول إلى المستعين، فأعلموه أن العامة قد ضجت مما بلغها وصح عندها ما أنت عليه من خلع المستعين والبيعة للمعتز، وتوجيهك القواد بعد القواد للبيعة للمعتز، وإرادتك التهويل ليصير الأمر اليه وادخاله الأتراك والمغاربة بغداد، فيحكموا فيهم بحكمهم فيمن ظهروا عليه من أهل المدائن والقرى، واستراب بك أهل بغداد.
واتهموك على خليفتهم وأموالهم وأولادهم وأنفسهم، وسألوا إخراج الخليفة إليهم ليروه ويكذبوا ما بلغهم عنه فلما تبين محمد بن عبد الله صحة قولهم، ونظر إلى كثرة اجتماع الناس وضجيجهم سأل المستعين الخروج إليهم، فخرج إلى دار العامة التي كان يدخلها جميع الناس، فنصب له فيها كرسي، وأدخل إليه جماعة من الناس فنظروا إليه، ثم خرجوا إلى من وراءهم، فأعلموهم صحة أمره، فلم يقنعوا بذلك، فلما تبين له أنهم لا يسكنون دون أن يخرج إليهم- وقد كان عرف كثرة الناس- أمر بإغلاق الباب الحديد الخارج فأغلق، وصار المستعين وأخواله ومحمد بن موسى المنجم ومحمد بن عبد الله إلى الدرجة التي تفضي إلى سطوح دار العامة وخزائن السلاح، ثم نصب لهم سلاليم على سطح المجلس الذي يجلس فيه محمد بن عبد الله والفتح بن سهل، فأشرف المستعين على الناس وعليه سواد، وفوق السواد برده النبي ص، ومعه القضيب، فكلم الناس وناشدهم، وسألهم بحق صاحب البردة إلا انصرفوا، فإنه في أمن وسلامة، وإنه لا بأس عليه من محمد بن عبد الله، فسألوه الركوب معهم والخروج من دار محمد بن عبد الله لأنهم لا يأمنونه عليه، فأعلمهم أنه على النقلة منها إلى دار عمته أم حبيب ابنة الرشيد، بعد أن يصلح له ما ينبغي أن يسكن فيه، وبعد أن يحول أمواله وخزائنه وسلاحه وفرشه وجميع ماله في دار محمد بن عبد الله، فانصرف أكثر الناس، وسكن أهل بغداد ولما فعل أهل بغداد ما فعلوا من اجتماعهم على ابن طاهر مرة بعد مرة وإسماعهم إياه المكروه، تقدم إلى أصحاب المعاون ببغداد بتسخير ما قدروا

(9/339)


عليه من الإبل والبغال والحمير لينتقل عنها.
وذكروا أنه أراد أن يقصد المدائن، واجتمع على بابه جماعة من مشايخ الحربية والأرباض جميعا، يعتذرون إليه، ويسألونه الصفح عما كان منهم، ويذكرون أن الذي فعل ذلك الغوغاء والسفهاء لسوء الحال التي كانوا بها والفاقة التي نالتهم، فرد عليهم- فيما ذكر- مردا جميلا، وقال لهم قولا حسنا، وأثنى عليهم، وصفح عما كان منهم، وتقدم إليهم بالتقدم إلى شبابهم وسفهائهم في الأخذ على أيديهم، وأجابهم إلى ترك النقلة، وكتب إلى أصحاب المعاون بترك السخره.

ذكر خبر انتقال المستعين الى دار رزق الخادم بالرصافة
ولأيام خلون من ذي الحجة انتقل المستعين من دار محمد بن عبد الله، وركب منها، فصار إلى دار رزق الخادم في الرصافة، ومر بدار علي بن المعتصم، فخرج إليه علي، فسأله النزول عنده، فأمره بالركوب، فلما صار إلى دار رزق الخادم نزلها، فوصل إليها- فيما ذكر- مساء، فأمر للفرسان من الجند حين صار إليها بعشرة دنانير لكل فارس منهم، وبخمسة دنانير لكل راجل وركب بركوب المستعين ابن طاهر، وبيده الحربة يسير بها بين يديه، والقواد خلفه، وأقام- فيما ذكر- مع المستعين ليلة انتقل إلى دار رزق محمد بن عبد الله إلى ثلث الليل، ثم انصرف، وبات عنده وصيف وبغا حتى السحر، ثم انصرفا إلى منازلهما ولما كان صبيحة الليلة التي انتقل المستعين فيها من دار ابن طاهر اجتمع الناس في الرصافة، وأمر القواد وبنو هاشم بالمصير إلى ابن طاهر والسلام عليه، وأن يسيروا معه إذا ركب إلى الرصافة فصاروا إليه، فلما كان الضحى الأكبر من ذلك اليوم، ركب ابن طاهر وجميع قواده في تعبئه

(9/340)


وحوله ناشبة رجالة، فلما خرج من داره وقف للناس، فعاتبهم وحلف أنه ما أضمر لأمير المؤمنين- أعزه الله- ولا لولي له ولا لأحد من الناس سوءا، وأنه ما يريد إلا إصلاح أحوالهم، وما تدوم به النعمة عليهم، وأنهم قد توهموا عليه ما لا يعرفه، حتى أبكى الناس فدعا له من حضر، وعبر الجسر، وصار إلى المستعين، وبعث فأحضر جيرانه ووجوه أهل الأرباض من الجانب الغربي، فخاطبهم بكلام عاتبهم فيه، واعتذر إليهم مما بلغهم، ووجه وصيف وبغا من طاف على أبواب بغداد، ووكلا صالح بن وصيف بباب الشماسية.
وذكر أن المستعين كان كارها لنقله عن دار محمد، ولكنه انتقل عنها من أجل أن الناس ركبوا الزواريق بالنفاطين ليضربوا روشن ابن طاهر بالنار لما صعب عليهم فتح بابه يوم الجمعة.
وذكر أن قوما منهم كنجور، وقفوا بباب الشماسية من قبل أبي أحمد، فطلبوا ابن طاهر ليكلموه، فكتب إلى وصيف يعلمه خبر القوم، ويسأله أن يعلم المستعين ذلك ليأمر فيه بما يرى، فرد المستعين الأمر في ذلك إليه، وأن التدبير في جميع ذلك مردود إليه، فيتقدم في ذلك بما رأى وذكر أن علي بن يحيى بن أبي منصور المنجم كلم محمد بن عبد الله في ذلك بكلام غليظ، فوثب عليه محمد بن أبي عون فأسمعه وتناوله.
وذكر عن سعيد بن حميد أن أحمد بن إسرائيل والحسن بن مخلد وعبيد الله بن يحيى خلوا بابن طاهر، فما زالوا يفتلونه في الذروة والغارب، ويشيرون عليه بالصلح، وأنه ربما كان عنده قوم فأجروا الكلام في خلاف الصلح، فيكشر في وجوههم، ويعرض عنهم، فإذا حضر هؤلاء الثلاثة أقبل عليهم وحادثهم وشاورهم.
وذكر عن بعضهم أنه قال: قلت لسعيد بن حميد يوما: ما ينبغي إلا أن يكون قد كان انطوى على المداهنة في أول أمره، قال: وددت أنه كان كذلك، لا والله ما هو إلا أن هزم أصحابه من المدائن والأنبار حتى

(9/341)


كاتب القوم، وأجابهم بعد أن كان قد جادهم.
وحدثني أحمد بن يحيى النحوي- وكان يؤدب ولد ابن طاهر- أن محمد بن عبد الله لم يزل جادا في نصرة المستعين حتى أحفظه عبيد الله بن يحيى ابن خاقان، فقال له: أطال الله بقاءك! إن هذا الذي تنصره وتجد في أمره من أشد الناس نفاقا، وأخبثهم دينا، والله لقد أمر وصيفا وبغا بقتلك، فاستعظما ذلك ولم يفعلاه، وإن كنت شاكا فيما وصفت من أمره، فسل تخبره، وإن من ظاهر نفاقه أنه كان وهو بسامرا لا يجهر في صلاته ببسم الله الرحمن الرحيم، فلما صار إلى ما قبلك، جهر بها مراءاة لك، وتترك نصرة وليك وصهرك وتربيتك، ونحو ذلك من كلام كلمه به، فقال محمد بن عبد الله: أخزى الله هذا، لا يصلح لدين ولا دنيا، قال: وكان أول من تقدم على صرف محمد بن عبد الله عن الجد في أمر المستعين عبيد الله بن يحيى في هذا المجلس، ثم ظاهر عبيد الله بن يحيى على ذلك أحمد بن إسرائيل والحسن بن مخلد، فلم يزالوا به حتى صرفوه عما كان عليه من الرأي في نصرة المستعين.
وفي يوم الأضحى من هذه السنة صلى بالناس المستعين صلاة الأضحى في الجزيرة التي بحذاء دار ابن طاهر، وركب وبين يديه عبيد الله بن عبد الله، معه الحربة التي لسليمان، وبيد الحسين بن إسماعيل حربة السلطان، وبغا ووصيف يكنفانه، ولم يركب محمد بن عبد الله بن طاهر، وصلى عبد الله ابن إسحاق في الرصافه.

ذكر بدء المفاوضه في امر خلع المستعين
وفي يوم الخميس ركب محمد بن عبد الله إلى المستعين، وحضره عدة من الفقهاء والقضاة، فذكر أنه قال للمستعين: قد كنت فارقتني على ان

(9/342)


تنفذ في كل ما أعزم عليه، ولك عندي بخطك رقعة بذلك، فقال المستعين:
أحضر الرقعة فأحضرها، فإذا فيها ذكر الصلح، وليس فيها ذكر الخلع، فقال: نعم، أنفذ الصلح، فقام الحلنجى فقال: يا أمير المؤمنين، أنه يسألك أن تخلع قميصا قمصك به الله وتكلم علي بن يحيى المنجم فاغلظ لمحمد ابن عبد الله.
ثم ركب بعد ذلك محمد بن عبد الله- وذلك للنصف من ذي الحجة- إلى المستعين بالرصافة، ثم انصرف ومعه وصيف وبغا، فمضوا جميعا حتى صاروا إلى باب الشماسية، فوقف محمد بن عبد الله على دابته، ومضى وصيف وبغا إلى دار الحسن بن الأفشين، وانحدرت المبيضة والغوغاء من السور، ولم يطلق لأحد فتح الأبواب، وقد كان خرج قبل ذلك جماعة كثيرة إلى عسكر أبي أحمد، فاشتروا ما أرادوا، فلما خرج من ذكرنا إلى باب الشماسية نودي في أصحاب أبي أحمد ألا يباع من أحد من أهل بغداد شيء، فمنعوا من الشراء، وكان قد ضرب لمحمد بن عبد الله بباب الشماسية مضرب كبير أحمر، وكان مع ابن طاهر بندار الطبرى وأبو السنا ونحو من مائتي فارس ومائتي راجل، وجاء أبو أحمد في زلال حتى قرب من المضرب، ثم خرج ودخل المضرب مع محمد بن عبد الله، ووقف الذين مع كل واحد منهما من الجند ناحية، فتناظر ابن طاهر وأبو أحمد طويلا، ثم خرجا من المضرب، وانصرف ابن طاهر من مضربه إلى داره في زلال، فلما صار إليها خرج من الزلال، فركب ومضى إلى المستعين ليخبره بما دار بينه وبين أبي أحمد، وأقام عنده إلى العصر، ثم انصرف، فذكر أنه فارقه على أن يعطى خمسين ألف دينار، ويقطع غلة ثلاثين ألف دينار في السنة، وأن يكون مقامه بغداد حتى يجتمع لهم مال يعطون الجند، وعلى أن يولي بغا مكة والمدينة والحجاز، ووصيف الجبل وما والاه، ويكون ثلث ما يجيء من المال لمحمد بن عبد الله، وجند بغداد والثلثان للموالي والاتراك

(9/343)


وذكر أن أحمد بن إسرائيل لما صار إلى المعتز ولاه ديوان البريد، وفارقه على ان يكون هو الوزير وعيسى بن فرخان شاه على ديوان الخراج وأبو نوح على الخاتم والتوقيع، فاقتسموا الأعمال، فوردت خريطة الموسم إلى بغداد بالسلامة، فبعث بها إلى أبي أحمد، ثم ركب ابن طاهر- فيما قيل- لأربع عشرة بقيت من ذي الحجة من هذه السنة إلى المستعين، لمناظرته في الخلع، فناظره فامتنع عليه المستعين، وظن المستعين أن بغا ووصيفا معه، فكاشفاه، فقال المستعين: هذا عنقي والسيف والنطع، فلما رأى امتناعه انصرف عنه، فبعث المستعين إلى ابن طاهر بعلي بن يحيى المنجم وقوم من ثقاته، وقال: قولوا له:
اتق الله، فإنما جئتك لتدفع عني، فإن لم تدفع عني فكف عني فرد عليه، أما أنا فأقعد في بيتي، ولكن لا بد لك من خلعها طائعا أو مكرها.
وذكر عن علي بن يحيى أنه قال له: قل له: إن خلعتها فلا باس، فو الله لقد تمزقت تمزقا لا يرقع، وما تركت فيها فضلا فلما رأى المستعين ضعف أمره وخذلان ناصريه أجاب إلى الخلع، فلما كان يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة، وجه ابن طاهر ابن الكردية وهو محمد بن إبراهيم بن جعفر الأصغر بن المنصور والخلنجي وموسى بن صالح بن شيخ وأبا سعيد الأنصاري وأحمد بن إسرائيل ومحمد بن موسى المنجم الى عسكر ابى أحمد ليوصلوا كتاب محمد إليه بأشياء سألها المستعين من حين ندب إلى أن يخلع نفسه فأوصلوا الكتاب، فأجاب إلى ما سأل وكتب الجواب بأن يقطع وينزل مدينة الرسول ص، وأن يكون مضطربه من مكة إلى المدينة ومن المدينة إلى مكة فأجابه إلى ذلك، فلم يقنع المستعين إلا بخروج ابن الكردية بما سأل إلى المعتز، حتى يكتب بإجابته بذلك بخطه بعد مشافهة ابن الكردية المعتز بذلك، فتوجه ابن الكردية بها.
وكان سبب إجابة المستعين إلى الخلع- فيما ذكر- أن وصيفا وبغا وابن طاهر ناظروه في ذلك وأشاروا عليه، فأغلظ لهم، فقال له وصيف:

(9/344)


أنت أمرتنا بقتل باغر، فصرنا إلى ما نحن فيه، وأنت عرضتنا لقتل اوتامش، وقلت: إن محمدا ليس بناصح، وما زالوا يفزعونه ويحتالون له، فقال محمد ابن عبد الله: وقد قلت لي إن أمرنا لا يصطلح إلا باستراحتنا من هذين، فلما اجتمعت كلمتهم أذعن لهم بالخلع، وكتب بما اشترط لنفسه عليهم، وذلك لإحدى عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة.
ولما كان يوم السبت لعشر بقين من ذي الحجة، ركب محمد بن عبد الله إلى الرصافة وجميع القضاة والفقهاء، وأدخلهم على المستعين فوجا فوجا، واشهدهم عليه انه قد صير أمره إلى محمد بن عبد الله بن طاهر، ثم أدخل عليه البوابين والخدم، وأخذ منه جوهر الخلافة، وأقام عنده حتى مضى هوي من الليل، وأصبح الناس يرجفون بألوان الأراجيف، وبعث ابن طاهر إلى قواده في موافاته، مع كل قائد منهم عشرة نفر من وجوه أصحابه، فوافوه، فأدخلهم ومناهم، وقال لهم: إنما أردت بما فعلت صلاحكم وسلامتكم وحقن الدماء وأعد للخروج إلى المعتز في الشروط التي اشترطها للمستعين ولنفسه ولقواده قوما ليوقع المعتز في ذلك بخطه ثم أخرجهم إلى المعتز، فمضوا إليه حتى وقع في ذلك بخطه إمضاء كل ما سأل المستعين وابن طاهر لأنفسهما من الشروط، وشهدوا عليه بإقراره بذلك كله، وخلع المعتز على الرسل، وقلدهم سيوفا، وانصرفوا بغير جائزة ولا نظر في حاجة لهم، ووجه معهم لأخذ البيعة له على المستعين جماعة من عنده، ولم يأمر للجند بشيء.
وحمل إلى المستعين أمه وابنته وعياله بعد ما فتش عياله، وأخذ منهم بعض ما كان معهم مع سعيد بن صالح، فكان دخول الرسل بغداد منصرفهم من عند المعتز يوم الخميس لثلاث خلون من المحرم سنة اثنتين وخمسين ومائتين.
وذكر أن رسل المعتز لما صاروا بالشماسية، قال ابن سجادة: أنا أخاف من أهل بغداد، فإما أن يحمل المستعين إلى الشماسية أو إلى دار محمد بن عبد الله ليبايع المعتز، ويخلع نفسه ويؤخذ منه القضيب والبرده

(9/345)


وفي شهر ربيع الأول من هذه السنة كان ظهور المعروف بالكوكبي بقزوين وزنجان وغلبته عليها وطرده عنها آل طاهر، واسم الكوكبي الحسين بن احمد ابن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل الأرقط بن مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ ابن أبي طالب رضي الله عنه.
وفيها قطعت بنو عقيل طريق جدة، فحاربهم جعفر بشاشات، فقتل من اهل مكة نحو من ثلاثمائة رجل، وبعض بني عقيل القائل:
عليك ثوبان وأمي عاريه ... فالق لي ثوبك يا بن الزانية
فلما فعل بنو عقيل ما فعلوا غلت بمكة الأسعار، وأغارت الأعراب على القرى.

ذكر خبر خروج اسماعيل بن يوسف بمكة
وفيها ظهر إسماعيل بن يوسف بن إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن ابن علي بن أبي طالب بمكة، فهرب جعفر بن الفضل بن عيسى بن موسى العاملي على مكة، فانتهب إسماعيل بن يوسف منزل جعفر ومنزل أصحاب السلطان، وقتل الجند وجماعة من أهل مكة، وأخذ ما كان حمل لإصلاح العين من المال وما كان في الكعبة من الذهب، وما في خزائنها من الذهب والفضة والطيب وكسوة الكعبة، وأخذ من الناس نحوا من مائتي ألف دينار، وأنهب مكة، وأحرق بعضها في شهر ربيع الأول منها ثم خرج منها بعد خمسين يوما، ثم صار إلى المدينة، فتوارى علي بن الحسين بن إسماعيل العامل عليها، ثم رجع إسماعيل إلى مكة في رجب، فحصرهم حتى تماوت أهلها جوعا وعطشا، وبلغ الخبز ثلاث أواق بدرهم، واللحم رطل بأربعة دراهم، وشربة ماء ثلاثة دراهم، ولقي أهل مكة منه كل بلاء ثم رحل بعد مقام سبعة وخمسين يوما إلى جدة، فحبس عن الناس الطعام، وأخذ أموال التجار

(9/346)


وأصحاب المراكب، فحمل إلى مكة الحنطة والذرة من اليمن، ثم وافت المراكب من القلزم، ثم وافى إسماعيل بن يوسف الموقف، وذلك يوم عرفة، وبه محمد بن أحمد بن عيسى بن المنصور الملقب كعب البقر، وعيسى بن محمد المخزومي صاحب جيش مكة- وكان المعتز وجههما إليها- فقاتلهم، فقتل نحو من ألف ومائة من الحاج، وسلب الناس، وهربوا إلى مكة، ولم يقفوا بعرفة ليلا ولا نهارا، ووقف إسماعيل وأصحابه، ثم رجع إلى جدة فأفنى أموالها

(9/347)


ثم دخلت

سنة اثنتين وخمسين ومائتين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)

ذكر خبر خلع المستعين وبيعه المعتز
فمن ذلك ما كان من خلع المستعين أحمد بن محمد بن المعتصم نفسه من الخلافة، وبيعته للمعتز محمد بن جعفر المتوكل بن محمد المعتصم، والدعاء للمعتز على منبري بغداد ومسجدي جانبيها الشرقي منها والغربي، يوم الجمعة لأربع خلون من المحرم من هذه السنة، وأخذ البيعة له بها على من كان يومئذ بها من الجند.
وذكر أن ابن طاهر دخل على المستعين ومعه سعيد بن حميد حين كتب له بشروط الأمان، فقال له: يا أمير المؤمنين، قد كتب سعيد كتب الشروط وأكد غاية التأكيد، فنقرؤه عليك فتسمعه؟ فقال له المستعين: لا عليك! ألا تركتها يا أبا العباس، فما القوم بأعلم بالله منك، قد أكدت على نفسك قبلهم فكان ما قد علمت، فما رد عليه محمد شيئا.
ولما بايع المستعين المعتز، وأخذ عليه البيعة ببغداد، وأشهد عليه الشهود من بني هاشم والقضاة والفقهاء والقواد نقل من الموضع الذي كان به من الرصافة إلى قصر الحسن بن سهل بالمخرم هو وعياله وولده وجواريه، فأنزلوهم فيه جميعا، ووكل بهم سعيد بن رجاء الحضاري في أصحابه، وأخذ المستعين البردة والقضيب والخاتم، ووجه مع عبيد الله بن عبد الله بن طاهر، وكتب معه:
أما بعد، فالحمد لله متمم النعم برحمته، والهادي إلى شكره بفضله، وصلى

(9/348)


الله على محمد عبده ورسوله، الذي جمع له ما فرق من الفضل في الرسل قبله، وجعل تراثه راجعا إلى من خصه بخلافته، وسلم تسليما كتابي إلى أمير المؤمنين وقد تمم الله له أمره، وتسلمت تراث رسول الله ص ممن كان عنده، وأنفذته إلى أمير المؤمنين مع عبيد الله بن عبد الله مولى أمير المؤمنين وعبده.
ومنع المستعين الخروج إلى مكة، واختار أن ينزل البصرة فذكر عن سعيد ابن حميد أن محمد بن موسى بن شاكر قال: البصرة وبية، فكيف اخترت أن تنزلها! فقال المستعين: هي أوبى، أو ترك الخلافة! وذكر أن قرب جارية قبيحة جاءت برسالة إلى المستعين من المعتز، يسأله أن ينزل عن ثلاث جوار كان المستعين تزوجهن من جواري المتوكل، فنزل عنهن، وجعل أمرهن إليهن، وكان احتبس عنده من الجوهر خاتمين يقال لأحدهما البرج وللآخر الجبل، فوجه إليه محمد بن عبد الله بقرب خاصية المعتز وجماعة، فدفعهما إليهم، وانصرفوا بذلك إلى محمد بن عبد الله، فوجه به إلى المعتز.
ولست خلون من المحرم دخل- فيما قيل- بغداد أكثر من مائتي سفينة، فيها من صنوف التجارات وغنم كثير، وأشخص المستعين مع محمد بن مظفر ابن سيسل وابن أبي حفصة إلى واسط في نحو من أربعمائة فرسان ورجالة.
وقدم بعد ذلك على ابن طاهر عيسى بن فرخان شاه وقرب، فأخبراه أن ياقوتة من جوهر الخلافة قد حبسها أحمد بن محمد عنده، فوجه ابن طاهر الحسين ابن إسماعيل فأخرجها، فإذا ياقوتة بهية، أربع أصابع طولا في عرض مثل ذلك، وإذا هو قد كتب عليها اسمه، فدفعت إلى قرب، فبعثت بها إلى المعتز.
واستوزر المعتز أحمد بن إسرائيل، وخلع عليه، ووضع تاجا على رأسه، وشخص أبو أحمد إلى سامرا يوم السبت لاثنتي عشرة خلت من المحرم منها، وشيعه محمد بن عبد الله والحسن بن مخلد، فخلع على محمد بن عبد الله خمس خلع وسيفا، ورجع من الروذبار

(9/349)


وقال بعض الشعراء في خلع المستعين:
خلع الخلافة أحمد بن محمد ... وسيقتل التالي له أو يخلع
ويزول ملك بني أبيه ولا يرى ... أحد تملك منهم يستمتع
إيها بني العباس إن سبيلكم ... في قتل أعبدكم طريق مهيع
رقعتم دنياكم فتمزقت ... بكم الحياة تمزقا لا يرقع
وقال بعض البغداديين:
إني أراك من الفراق جزوعا ... أضحى الإمام مسيرا مخلوعا
كانت به الآفاق تضحك بهجة ... وهو الربيع لمن أراد ربيعا
لا تنكري حدث الزمان وريبه ... إن الزمان يفرق المجموعا
لبس الخلافة واستجد محبة ... يقضي أمور المسلمين جميعا
فجنت عليه يد الزمان بصرفه ... حربا وكان عن الحروب شسوعا
وتجانف الأتراك عنه تمردا ... أضحى، وكان ولا يراع مروعا
فنزا بهم، فنزوا به وتعاورت ... أيدي الكماة من الرءوس نجيعا
فأزاله المقدار عن رتب العلا ... فثوى بواسط لا يحس رجوعا
غدروا به، مكروا به، خانوا به ... لزم الفراش، وحالف التضجيعا
وتكنفوا بغداد من أقطارها ... قد ذللوا ما كان قبل منيعا
ولو أنه سعر الحروب بنفسه ... متلببا للقائهن دروعا
حتى يصادم بالكماة كماته ... فيكون من قصد الحروب صريعا
لغدا على ريب الزمان محرما ... ولكان إذ غدر اللئام منيعا
لكن عصى رأي الشفيق وعذله ... وغدا لأمر الناكثين مطيعا

(9/350)


والملك ليس بمالك سلطانه ... من كان للرأي السديد مضيعا
ما زال يخدع نفسه عن نفسه ... حتى غدا عن ملكه مخدوعا
باع ابن طاهر دينه عن بيعة ... أمسى بها ملك الإمام منيعا
خلع الخلافة والرعية فاغتدي ... من دين رب محمد مخلوعا
فليجرعن بذاك كأسا مرة ... وليلفين لتابعيه تبيعا
وقال محمد بن مروان بن أبي الجنوب بن مروان حين خلع المستعين، وصار إلى واسط:
إن الأمور إلى المعتز قد رجعت ... والمستعان إلى حالاته رجعا
وكان يعلم أن الملك ليس له ... وأنه لك لكن نفسه خدعا
ومالك الملك مؤتيه ونازعه ... آتاك ملكا ومنه الملك قد نزعا
إن الخلافة كانت لا تلائمه ... كانت كذات حليل زوجت متعا
ما كان أقبح عند الناس بيعته ... وكان أحسن قول الناس قد خلعا
ليت السفين إلى قاف دفعن به ... نفسي الفداء لملاح به دفعا
كم ساس قبلك أمر الناس من ملك ... لو كان حمل ما حملته ظلعا
أمسى بك الناس بعد الضيق في سعة ... والله يجعل بعد الضيق متسعا
والله يدفع عنك السوء من ملك ... فإنه بك عنا السوء قد دفعا
ما ضاع مدحي ولا ضاع اصطناعك لي ... وقد وجدت بحمد الله مصطنعا
فاردد علي بنجد ضيعة قبضت ... فإن مثلك مثلي يقطع الضيعا
فإن رددت إمام العدل غلتها ... فالله آنف حسادي به جدعا
وقال يمدح المعتز بعد خلع المستعين:
قد عادت الدنيا إلى حالها ... وسرنا الله بإقبالها
دنيا بك الله كفى أهلها ... ما كان من شده أهوالها

(9/351)


وكان قد ملكها جاهل ... لا تصلح الدنيا لجهالها
قد كانت الدنيا به قفلت ... فكنت مفتاحا لأقفالها
إن التي فزت بها دونه ... عادت إلى أحسن أحوالها
خلافة كنت حقيقا بها ... فضلك الله بسربالها
فرده الله إلى حاله ... وردها الله إلى حالها
ولم تكن أول عارية ... ردت على رغم إلى آلها
والله لو كان على قرية ... ما كان يجزي بعض أعمالها
أدخل في الملك يدا رعدة ... أخرجها من بعد إدخالها
بدلنا الله به سيدا ... أسكن دنيا بعد زلزالها
بدلت الأمة هذا بذا ... كأنها في وقت دجالها
وقام بالملك وأثقاله ... وقام بالحرب وأثقالها
أبطل ما كان العدا أملوا ... رميك بالخيل وأبطالها
تعمل خيلا طالما نجحت ... ما عملت خيل كأعمالها
وقال الوليد بن عبيد البحتري في خلع المستعين ومدح المعتز:
ألا هل أتاها أن مظلمة الدجى ... تجلت وأن العيش سهل جانبه
وأنا رددنا المستعار مذمما ... على أهله واستأنف الحق صاحبه
عجبت لهذا الدهر أعيت صروفه ... وما الدهر إلا صرفه وعجائبه
متى امل الدياك أن يصطفى له ... عرى التاج أو يثنى عليه عصائبه
وكيف ادعى حق الخلافة غاصب ... حوى دونه إرث النبي أقاربه
بكى المنبر الشرقي إذ خار فوقه ... على الناس ثور قد تدلت غباغبه
ثقيل على جنب الثريد مراقب ... لشخص الخوان يبتدي فيواثبه

(9/352)


إذا ما احتشى من حاضر الزاد لم يبل ... أضاء شهاب الملك أم كل ثاقبه
إذا بكر الفراش ينثو حديثه ... تضاءل مطريه وأطنب عائبه
تخطى إلى الأمر الذي ليس أهله ... فطورا يناغيه وطورا يشاغبه
فكيف رأيت الحق قر قراره ... وكيف رأيت الظلم زالت عواقبه
ولم يكن المعتز بالله إذ سرى ... ليعجز والمعتز بالله طالبه
رمى بالقضيب عنوة وهو صاغر ... وعري من برد النبي مناكبه
وقد سرني أن قيل وجه مسرعا ... الى الشرق تحدى سفنه وركائبه
إلى كسكر خلف الدجاج ولم يكن ... لتنشب إلا في الدجاج مخالبه
وما لحية القصار حيث تنفشت ... بجالبة خيرا على من يناسبه
يحوز ابن خلاد على الشعر عنده ... ويضحي شجاع وهو للجهل كاتبه
فأقسمت بالوادي الحرام وما حوت ... أباطحه من محرم وأخاشبه
لقد حمل المعتز أمة أحمد ... على سنن يسري إلى الحق لاحبه
تدارك دين الله من بعد ما عفت ... معالمه فينا وغارت كواكبه
وضم شعاع الملك حتى تجمعت ... مشارقه موفورة ومغاربه
وانصرف أبو الساج ديوداد بن ديودست إلى بغداد لسبع بقين من المحرم من هذه السنة، فقلده محمد بن عبد الله معاون ما سقى الفرات من السواد، فوجه أبو الساج خليفة له يقال له كربه إلى الأنبار، ووجه قوما من أصحابه إلى قصر ابن هبيرة مع خليفة له، ووجه الحارث بن اسد في خمسمائة فارس وراجل، يستقرئ أعماله، ويطرد الأتراك والمغاربة عنها، وقد كانوا عاثوا في النواحي وتلصصوا ثم شخص أبو الساج من بغداد لثلاث خلون من ربيع الأول، ففرق أصحابه في طساسيج الفرات، ونزل قصر ابن هبيرة، ثم صار إلى الكوفة، ووافى أبو أحمد سامرا منصرفا من معسكره إليها لإحدى

(9/353)


عشرة بقيت من المحرم، فخلع المعتز عليه ستة أثواب وسيفا، وتوج تاج ذهب بقلنسوة مجوهرة، ووشح وشاحي ذهب بجوهر، وقلد سيفا آخر مرصعا بالجوهر، وأجلس على كرسي، وخلع على الوجوه من القواد.

ذكر خبر قتل شريح الحبشي
وفيها قتل شريح الحبشي، وكان سبب ذلك أنه حين وقع الصلح، هرب في عدة من الحبشة، فقطع الطريق فيما بين واسط وناحية الجبل والأهواز، ونزل قرية من قرى أم المتوكل يقال لها ديري، فنزل في خانها في خمسه عشر رجلا، فشربوا وسكروا، فوثب عليهم أهل القرية فكتفوهم، وحملوهم إلى واسط، إلى منصور بن نصر، فحملهم منصور إلى بغداد، فأنفذهم محمد ابن عبد الله إلى العسكر، فلما وصلوا قام بايكباك إلى شريح فوسطه بالسيف وصلب على خشبة بابك، وضرب أصحابه بالسياط ما بين الخمسمائة إلى الألف.
وفي شهر ربيع الآخر منها توفي عبيد الله بن يحيى بن خاقان في مدينه ابى جعفر.

ذكر حال بغا ووصيف
وفيها كتب المعتز إلى محمد بن عبد الله في إسقاط اسم بغا ووصيف ومن كان في رسمهما من الدواوين.
وذكر أن محمد بن أبي عون أحد قواد محمد بن عبد الله ناظره لما صار أبو أحمد إلى سامرا في قتل بغا ووصيف، فوعده أن يقتلهما، فبعث المعتز إلى محمد ابن عبد الله بلواء، وعقد لمحمد بن أبي عون لواء على البصرة واليمامة والبحرين،

(9/354)


فكتب قوم من أصحاب بغا ووصيف إليهما بذلك، وحذروهما محمد بن عبد الله، فركب وصيف وبغا إليه يوم الثلاثاء لخمس بقين من ربيع الأول، فقال له بغا: بلغنا أيها الأمير ما ضمنه ابن أبي عون من قتلنا، والقوم قد غدروا وخالفوا ما فارقونا عليه، والله لو أرادوا أن يقتلونا ما قدروا عليه فحلف لهما أنه ما علم بشيء من ذلك، وتكلم بغا بكلام شديد، ووصيف يكفه، وقال وصيف: أيها الأمير، قد غدر القوم ونحن نمسك ونقعد في منازلنا حتى يجيء من يقتلنا! وكانا دخلا مع جماعة، ثم رجعا إلى منازلهما، فجمعا جندهما ومواليهما، وأخذا في الاستعداد وشرى السلاح وتفريق الأموال في جيرانهما إلى سلخ ربيع وكان وصيف وبغا عند قدوم قرب، وجه إليهما محمد ابن عبد الله كاتبه محمد بن عيسى، فأقبلا معه حتى صارا عند دار محمد بن عبد الله بقرب الجسر، فلقيهما جعفر الكردي وابن خالد البرمكي، فتعلق كل واحد منهما بلجام واحد منهما، وقال لهما: إنما دعيتما لتحملا إلى العسكر، وقد أعد لكما لذلك قوم أو لتقتلا، فرجعا وجمعا جمعا، وأجريا على كل رجل كل يوم درهمين، فأقاما في منازلهما.
وكان وصيف وجه أخته سعاد إلى المؤيد، وكان المؤيد في حجرها، فأخرجت من قصر وصيف الف الف دينار كانت مدفونة فيه، فدفعتها إلى المؤيد، فكلم المؤيد المعتز في الرضا عن وصيف، فكتب إليه بالرضا عنه، فضرب مضاربه بباب الشماسية على ان يخرج، وتكلم ابو احمد ابن المتوكل في الرضا عن بغا، فكتب إليه بالرضا، واضطرب أمرهما وهما مقيمان ببغداد.
ثم اجتمع على المعتز الأتراك فسألوه الأمر بإحضارهما، وقالوا: هما كبيرانا ورئيسانا، فكتب إليهما بذلك، فجاء بالكتاب بايكباك في نحو من ثلاثمائة رجل، فأقام بالبردان، ووجه إليهما الكتاب لسبع بقين من شهر رمضان من هذه السنة، فكتب إلى محمد بن عبد الله بمنعهما، فوجها بكاتبيهما احمد

(9/355)


ابن صالح ودليل بن يعقوب إلى محمد بن عبد الله ليستأذناه، فأتاهما جيش من الأتراك، فنزلوا بالمصلى، وخرج وصيف وبغا وأولادهما وفرسانهما في نحو من أربعمائة إنسان، وخلفا في دورهما الثقل والعيال، ودعا أهل بغداد لهما ودعوا لهم.
وقد كان ابن طاهر وجه محمد بن يحيى الواثقي وبندار الطبرى الى باب الشماسيه وباب البرد ان ليمنعوهما، ومضيا من باب خراسان، ونفذا ولم يعلم كاتباهما حتى قال محمد بن عبد الله لأحمد ودليل: ما صنع صاحبا كما؟ فقال احمد ابن صالح: خلفت وصيفا في منزله قال: فإنه قد شخص الساعة، قال:
ما علمت، فلما صار إلى سامرا بكر أحمد بن إسرائيل يوم الأحد لتسع بقين من شوال من هذه السنة في السحر إلى وصيف، وأقام عنده مليا، ثم انصرف إلى بغا، فأقام عنده مليا، ثم صار إلى الدار، فاجتمع الموالي وسألوا ردهما إلى مراتبهما، فأجيبوا إلى ذلك، وبعث إليهما، فحضرا ورتبا في مرتبتهما التي كانت قبل مصيرهما إلى بغداد، وأمر برد ضياعهما، وخلع عليهما خلع المرتبة ثم ركب المعتز إلى دار العامة، وعقد لبغا ووصيف على أعمالهما ورد ديوان البريد كما كان قبل إلى موسى بن بغا الكبير، فقبل موسى ذلك.

ذكر الفتنة بين جند بغداد وأصحاب محمد بن عبد الله بن طاهر
وفي شهر رمضان من هذه السنة كانت وقعة بين جند بغداد وأصحاب محمد بن عبد الله بن طاهر، ورئيس الجند يومئذ ابن الخيل وكان السبب في ذلك- فيما ذكر- أن المعتز كتب إلى محمد بن عبد الله في بيع غله طساسيج ضياع بادوريا وقطربل ومسكن وغيرها، كل كرين بالمعدل بخمسة وثلاثين دينارا من غلة سنة اثنتين وخمسين ومائتين، وكان المعتز ولى بريد بغداد رجلا يقال له صالح بن الهيثم، وكان أخوه منقطعا إلى أتامش أيام

(9/356)


المتوكل، فارتفع أمر صالح هذا أيام المستعين، وكان ممن أقام بسامرا، وهو من أهل المخرم، وكان أبوه حائكا ثم صار يبيع الغزل، ثم انتقل أخوه إليه لما ارتفع فلما اقام ببغداد كتب اليه يؤمر أن يقرأ الكتاب على قواد أهل بغداد كعتاب بن عتاب ومحمد بن يحيى الواثقي ومحمد بن هرثمة ومحمد بن رجاء وشعيب ابن عجيف ونظرائهم، فقرأه عليهم، فصاروا إلى محمد بن عبد الله، فأخبروه، فأمر محمد بن عبد الله فأحضر صالح بن الهيثم، وقال: ما حملك على هذا بغير علمي! وتهدده وأسمعه وقال للقواد: انتظروا حتى أرى رأيي، وآمركم بما أعزم عليه، فانصرفوا من عنده على ذلك، وشخص بعد ذلك، واجتمع الفروض والشاكرية والنائبة إلى باب محمد بن عبد الله يطلبون أرزاقهم لعشر خلون من شهر رمضان، فأخبرهم أن كتاب الخليفة ورد عليه، جواب كتاب له كان كتب بمسألة أرزاق جند بغداد، إن كنت فرضت الفروض لنفسك، فأعطهم أرزاقهم، وإن كنت فرضت لنا فلا حاجة لنا فيهم فلما ورد الكتاب عليه أخرج لهم بعد شغبهم بيوم ألفي دينار، فوضعت لهم ثم سكنوا.
ثم اجتمعوا لإحدى عشرة خلت من شهر رمضان، ومعهم الأعلام والطبول، وضربوا المضارب والخيم على باب حرب وباب الشماسية وغيرهما، وبنوا بيوتا من بواري وقصب، وباتوا ليلتهم فلما أصبحوا كثر جمعهم، وبيت ابن طاهر قوما من خاصته في داره، وأعطاهم درهما درهما، فلما أصبحوا مضوا من داره إلى المشغبة، فصاروا معهم فجمع ابن طاهر جنده القادمين معه من خراسان، وأعطاهم لشهرين، وأعطى جند بغداد القدماء، الفارس دينارين والراجل دينارا، وشحن داره بالرجال، فلما كان يوم الجمعة اجتمع من المشغبة خلق كثير بباب حرب بالسلاح والأعلام والطبول، ورئيسهم رجل يقال له عبدان بن الموفق، ويكنى أبا القاسم، وكان من أثبات عبيد الله بن يحيى بن خاقان، وكان ديوان عبدان في ديوان وصيف، فقدم بغداد، فباع دارا له بمائة ألف دينار، فشخص إلى سامرا، فلما وثبت الشاكرية بباب العامة كان معهم، فضربه سعيد الحاجب خمسمائة سوط، وحبسه حبسا طويلا،

(9/357)


ثم أطلق فلما كان فتنة المستعين صار إلى بغداد، وانضم إليه هؤلاء المشغبة، فحضهم على الطلب بأرزاقهم وفائتهم، وضمن لهم أن يكون لهم رأسا يدبر أمرهم فأجابوه إلى ذلك، فأنفق عليهم يوم الأربعاء ويوم الخميس ويوم الجمعة نحوا من ثلاثين دينارا فيما أقام لهم من الطعام، ومن كانت لهم كفاية لم يحتج إلى نفقته، فكان ينصرف إلى منزله، فلما كان يوم الجمعة اجتمعت منهم جماعة كثيرة، وعزموا على المصير إلى المدينة ليمضوا إلى الأمام فيمنعوه من الصلاة والدعاء للمعتز، فساروا على تعبئة في شارع باب حرب، حتى انتهوا إلى باب المدينة في شارع باب الشام، وجعل أبو القاسم هذا على كل درب يمر به قوما من المشغبة، من بين رامح وصاحب سيف ليحفظوا الدروب، كيلا يخرج منها أحد لقتالهم.
ولما انتهى إلى باب المدينة دخل معهم المدينة جماعة كثيرة، فصاروا بين البابين وبين الطاقات، فأقاموا هناك ساعة، ثم وجهوا جماعه منهم يكونون نحوا من ثلاثمائة رجل بالسلاح إلى رحبة الجامع بالمدينة، ودخل معهم من العامة خلق كثير، فأقاموا في الرحبة، وصاروا إلى جعفر بن العباس الإمام، فأعلموه أنهم لا يمنعونه من الصلاة، وأنهم يمنعونه من الدعاء للمعتز فأعلمهم جعفر أنه مريض لا يقدر على الخروج إلى الصلاة، فانصرفوا عنه، وصاروا إلى درب أسد بن مرزبان، فشحنوا الشارع النافذ إلى درب الرقيق، ووكلوا بباب درب سليمان بن أبي جعفر جماعة، ثم مضوا يريدون الجسر في شارع الحدادين، فوجه إليهم ابن طاهر عدة من قواده فيهم الحسين بن اسماعيل والعباس ابن قارن وعلي بن جهشيار وعبد الله بن الأفشين في جماعة من الفرسان، فناظروهم ودفعوهم دفعا رفيقا، وحمل عليهم الجند والشاكرية حملة جرحوا فيها جماعة من قواد ابن طاهر، وأخذوا دابة ابن قارن وابن جهشيار ورجل من فرض عبيد الله بن يحيى من الشاميين يقال له سعد الضبابي، وجرحوا المعروف بأبي السنا، ودفعوهم عن الجسر حتى صيروهم إلى باب عمرو بن مسعدة

(9/358)


فلما رأى الذين بالجانب الشرقي منهم أن أصحابهم قد أزالوا أصحاب ابن طاهر عن الجسر كبروا، وحملوا يريدون العبور إلى أصحابهم، وكان ابن طاهر قد أعد سفينة فيها شوك وقصب ليضرم فيها النار، ويرسلها على الجسر الأعلى، ففعل ذلك، فأحرقت عامة سفنه وقطعته، وصارت إلى الآخر، فأدركها أهل الجانب الغربي، ففرقوها وأطفئوا النار التي تعلقت بسفن الجسر وعبر من الجانب الشرقي إلى الجانب الغربي خلق كثير، ودفعوا أصحاب ابن طاهر عن ساباط عمرو بن مسعدة، وصاروا إلى باب ابن طاهر، وصار الشاكرية والجند إلى ساباط عمرو بن مسعدة، وقتل من الفريقين إلى الظهر نحو من عشرة نفر، وصار جماعة من الغوغاء والعامة إلى المجلس الذي يعرف بمجلس الشرطة في الجسر.
من الجانب الغربي إلى بيت يقال له بيت الرفوع، فكسروا الباب، وانتهبوا ما فيه، وكان فيه أصناف من المتاع، فاقتتلوا عليه فلم يتركوا فيه شيئا، وكان كثيرا جليلا وأحرق ابن طاهر الجسرين لما رأى الجند قد ظهروا على أصحابه، وأمر بالحوانيت التي على باب الجسر التي تتصل بدرب سليمان أن تحرق يمنة ويسرة، ففعل فاحترق فيها للتجار متاع كثير، وتهدم حيطان مجلس صاحب الشرطة، فلما ضربت الحوانيت بالنار حالت النار بين الفريقين، وكبرت الجند عند ذلك تكبيرة شديدة، ثم انصرفوا إلى معسكرهم بباب حرب، وصار الحسين بن إسماعيل مع جماعة من القواد والشاكرية إلى باب الشام، فوقف على التجار والعامة فوبخهم على معونتهم الجند، وقال:
هؤلاء قاتلوا على خبزهم وهم معذورون، وأنتم جيران الأمير ومن يجب عليه نصرته، فلم فعلتم ما فعلتم، وأعنتم الشاكرية عليه ورميتم بالحجارة، والأمير متحول عنكم! ثم صار محمد بن أبي عون إليهم، فقال لهم مثل ذلك، وانصرف إلى ابن طاهر، فمكث الجند المشتغبون في مواضعهم ومعسكرهم، وانضم إلى ابن طاهر جماعة من الأثبات وجمع جميع أصحابه، فجعل بعضهم في داره، وبعضهم في الشارع النافذ من الجسر إلى داره، قد عباهم تعبئة الحرب، حذارا من كرة الجند عليه أياما، فلم يكن لهم عودة، فصار في بعض الأيام

(9/359)


التي كان من عودتهم ابن طاهر على وجل- فيما ذكر- رجلان من المشغبة استأمنا إليه، فأخبراه بعورة أصحابهما، فأمر لهما بمائتي دينار، ثم أمر الشاه بن ميكال والحسين بن إسماعيل بعد العشاء الآخرة بالمصير في جماعة من أصحابهما إلى باب حرب، فتلطفا لأبي القاسم رئيس القوم وابن الخليل- وكان من أصحاب محمد بن أبي عون- فصاروا إلى ما هناك، وكان أبو القاسم وابن الخليل قد صار كل واحد منهما عند مفارقة الرجلين اللذين صارا إلى ابن طاهر ورجل آخر يقال له القمي، وتفرق الشاكرية عنهما الى ناحيه خوفا على انفسهم، فمضى الشاه والحسين في طلبهما حتى خرجا من باب الأنبار، وتوجها نحو جسر بطاطيا، فذكر أن ابن الخليل استقبلهما قبل أن يصيرا إلى جسر بطاطيا، فصاح بهما ابن الخليل وبمن معهما من هؤلاء، وصاحوا به، فلما عرفهم حمل عليهم، فجرح منهم عدة، فأحدقوا به، وصار في وسط القوم، فطعنه رجل من أصحاب الشاه، فرمى به إلى الأرض، فبعجه علي بن جهشيار بالسيف وهو في الأرض، ثم حمل على بغل وبه رمق، فلم يصلوا به إلى ابن طاهر حتى قضى وأمر الشاه بطرحه في كنيف في دهليز الدار إلى أن حمل إلى الجانب الشرقي، وأما عبدان بن الموفق فإنه كان قد صار إلى منزله وإلى موضع اختفى فيه، فدل عليه، وأخذ وحمل إلى ابن طاهر، وتفرق الشاكرية الذين كانوا بباب حرب، وصاروا إلى منازلهم، وقيد عبدان بن الموفق بقيدين فيهما ثلاثون رطلا ثم صار الحسين بن إسماعيل إلى الحبس الذي هو فيه في دار العامة، وقعد على كرسي، ودعا به، فسأله:
هل هو دسيس لأحد، أو فعل ما فعل من قبل نفسه؟ فأخبره أنه لم يدسه أحد، وإنما هو رجل من الشاكرية طلب بخبزه فرجع الحسين إلى ابن طاهر فأعلمه ذلك، فخرج طاهر بن محمد وأخوه إلى دار العامة الداخلة، فقعدا وأحضرا من بات في الدار من القواد والحسين بن إسماعيل والشاه بن ميكال، وأحضرا عبدان، فحمله رجلان، فكان المخاطب له الحسين، فقال:
أنت رئيس القوم؟ فقال: لا، إنما أنا رجل منهم، طلبت ما طلبوا، فشتمه

(9/360)


الحسين، وقال حرب بن محمد بن عبد الله بن حرب: كذبت، بل أنت رئيس القوم، وقد رأيناك تعبيهم بباب حرب وفي المدينة وباب الشام، فقال:
ما كنت لهم برأس، وإنما أنا رجل منهم، طلبت ما طلبوا، فأعاد عليه الحسين الشتم، وأمر بصفعه فصفع، وأمر بسحبه فسحب بقيوده إلى أن أخرج من الدار، وشتمه كل من لحقه، ودخل طاهر بن محمد إلى أبيه فأخبره خبره، وحمل عبدان على بغل، ومضى به إلى الحبس، وحمل ابن الخليل في زورق عبر به إلى الجانب الشرقي، وصلب، وأمر بعبدان فجرد وضرب مائة سوط بثمارها وأراد الحسين قتله، فقال لمحمد بن نصر: ما ترى في ضربه خمسين سوطا على خاصرته؟ فقال له محمد: هذا شهر عظيم، ولا يحل لك أن تصنع به هذا، فأمر به فصلب حيا، وحمل على سلم حتى صلب على الجسر، وربط بالحبال، فاستسقى بعد ما صلب، فمنعه الحسين فقيل له: إن شرب الماء مات، قال: فاسقوه إذا، فسقوه، فترك مصلوبا إلى وقت العصر، ثم حبس، فلم يزل في الحبس يومين ثم مات اليوم الثالث مع الظهر، وأمر بصلبه على الخشبة التي كان صلب عليها ابن الخليل، ودفع ابن الخليل الى اوليائه فدفن.

ذكر الخبر عن خلع المؤيد ثم موته
وفي رجب من هذه السنة خلع المعتز المؤيد أخاه من ولاية العهد بعده.
ذكر الخبر عن سبب خلعه إياه: كان السبب في ذلك- فيما بلغنا- أن العلاء بن أحمد عامل أرمينية بعث إلى إبراهيم المؤيد بخمسة آلاف دينار ليصلح بها أمره، فبعث ابن فرخان شاه إليه، فأخذها، فأغرى المؤيد الأتراك بعيسى بن فرخان شاه، وخالفهم المغاربة، فبعث المعتز إلى أخويه: المؤيد وأبي أحمد، فحبسهما في الجوسق، وقيد المؤيد وصيره في حجرة ضيقة، وأدر العطاء للأتراك والمغاربة، وحبس كنجور حاجب المؤيد، وضربه خمسين مقرعه، وضرب خليفته أبا الهول خمسمائة

(9/361)


سوط وطوف به على جمل، ثم رضي عنه وعن كنجور، فصرف إلى منزله.
وقد ذكر أنه ضرب أخاه المؤيد أربعين مقرعة، ثم خلع بسامرا يوم الجمعة لسبع خلون من رجب، وخلع ببغداد يوم الأحد لإحدى عشرة خلت من رجب، وأخذت رقعة بخطه بخلع نفسه.
ولست بقين من رجب من هذه السنة- وقيل لثمان بقين منه- كانت وفاة إبراهيم بن جعفر المعروف بالمؤيد ذكر الخبر عن سبب وفاته:
ذكر أن امرأة من نساء الأتراك جاءت محمد بن راشد المغربي، فأخبرته أن الأتراك يريدون إخراج إبراهيم المؤيد من الحبس، وركب محمد بن راشد إلى المعتز، فأعلمه ذلك، فدعا بموسى بن بغا، فسأله فأنكر، وقال:
يا أمير المؤمنين، إنما أرادوا أن يخرجوا أبا أحمد بن المتوكل لأنسهم به كان في الحرب التي كانت، وأما المؤيد فلا فلما كان يوم الخميس لثمان بقين من رجب دعا بالقضاة والفقهاء والشهود والوجوه، فأخرج إليهم إبراهيم المؤيد ميتا لا أثر به ولا جرح، وحمل الى أمه إسحاق- وهي أم أبي أحمد- على حمار، وحمل معه كفن وحنوط وأمر بدفنه، وحول أبو أحمد إلى الحجرة التي كان فيها المؤيد.
وذكر أن المؤيد أدرج في لحاف سمور، ثم أمسك طرفاه حتى مات.
وقيل: أنه أقعد في حجر من ثلج، ونضدت عليه حجارة الثلج فمات بردا.

ذكر الخبر عن مقتل المستعين
وفي شوال منها قتل أحمد بن محمد المستعين.
ذكر الخبر عن قتله:
ذكر أن المعتز لما هم بقتل المستعين، ورد كتابه على محمد بن عبد الله

(9/362)


ابن طاهر بنكبته، وأمره بتوجيه أصحاب معاونه في الطساسيج، ثم ورد عليه منه بعد ذلك كتاب مع خادم يدعى سيما، يؤمر فيه بالكتاب الى منصور ابن نصر بن حمزة- وهو على واسط- بتسليم المستعين إليه، وكان المستعين بها مقيما، وكان الموكل به ابن أبي خميصة وابن المظفر بن سيسل ومنصور ابن نصر بن حمزة وصاحب البريد، فكتب محمد في تسليم المستعين إليه، ثم وجه- فيما قيل- أحمد بن طولون التركي في جيش، فأخرج المستعين لست بقين من شهر رمضان، فوافى به القاطول لثلاث خلون من شوال.
وقيل أن أحمد بن طولون كان موكلا بالمستعين، فوجه سعيد بن صالح إلى المستعين في حمله، فصار إليه سعيد فحمله.
وقيل أن سعيدا إنما تسلم المستعين من ابن طولون في القاطول بعد ما صار به ابن طولون إليها، ثم اختلف في أمرهما، فقال بعضهم: قتله سعيد بالقاطول، فلما كان غد اليوم الذي قتله فيه أحضر جواريه وقال: انظرن إلى مولاكن قد مات، وقد قال بعضهم: بل أدخله سعيد وابن طولون سامرا، ثم صار به سعيد إلى منزل له فعذبه حتى مات.
وقيل: بل ركب معه في زورق ومعه عدة حتى حاذى به فم دجيل، وشد في رجله حجرا، وألقاه في الماء.
وذكر عن متطبب كان مع المستعين نصراني يقال له فضلان، أنه قال:
كنت معه حين حمل، وأنه أخذ به على طريق سامرا، فلما انتهى إلى نهر نظر إلى موكب وأعلام وجماعة، فقال لفضلان: تقدم فانظر من هذا، فإن كان سعيدا فقد ذهبت نفسي، قال فضلان فتقدمت إلى أول الجيش، فسألتهم فقالوا: سعيد الحاجب، فرجعت إليه فأعلمته- وكان في قبة تعادله امرأة- فقال: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! ذهبت نفسي والله! وتأخرت عنه قليلا.

(9/363)


قال: فلقيه أول الجيش، فأقاموا عليه وأنزلوه ودابته، فضربوه ضربه بالسيف، فصاح وصاحت دايته، ثم قتل، فلما قتل انصرف الجيش.
قال: فصرت إلى الموضع، فإذا هو مقتول في سراويل بلا رأس، وإذا المرأة مقتولة، وبها عدة ضربات، فطرحنا عليهما نحن تراب النهر حتى واريناهما، ثم انصرفنا.
قال: وأتي المعتز برأسه وهو يلعب بالشطرنج، فقيل: هذا رأس المخلوع فقال: ضعوه هنالك، ثم فرغ من لعبه، ودعا به فنظر إليه، ثم أمر بدفنه، وأمر لسعيد بخمسين ألف درهم وولي معونة البصرة.
وذكر عن بعض غلمان المستعين ان سعيدا لما استقبله أنزله، ووكل به رجلا من الأتراك يقتله، فسأله، أن يمهله حتى يصلي ركعتين، وكانت عليه جبة، فسأل سعيد التركي الموكل بقتله أن يطلبها منه قبل قتله، ففعل ذلك، فلما سجد في الركعة الثانية قتله واحتز رأسه، وأمر بدفنه، وخفي مكانه.
وقال محمد بن مروان بن أبي الجنوب بن مروان بن أبي حفصة في أمر المؤيد، ويمدح المعتز:
أنت الذي يمسك الدنيا إذا اضطربت ... يا ممسك الدين والدنيا إذا اضطربا
إن الرعية- أبقاك الإله لها ... - ترجو بعدلك أن تبقى لها حقبا
لقد عنيت بحرب غير هينة ... وكان عودك نبعا لم يكن غربا
ما كنت أول رأس خانه ذنب ... والرأس كنت وكان الناكث الذنبا
لو كان تم له ما كان دبره ... لأصبح الملك والإسلام قد ذهبا
أراد يهلك دنيانا ويعطبها ... وقد أراد هلاك الدين والعطبا

(9/364)


لما أراد وثوبا من سفاهته ... أمسى عليه إمام العدل قد وثبا
لقد رماك بسهم لم يصبك به ... ومن رماك عليه سهمه انقلبا
لقد رعيت له ما كان من سبب ... فما رعى لك إحسانا ولا سببا
كحسن فعلك لم يفعل أخ بأخ ... كنا لذاك شهودا لم نكن غيبا
قد كنت مشتغلا بالحرب ذا تعب ... وكان يلعب ما كلفته تعبا
قد كان يا ذا الندى يعطى بلا طلب ... وكنت يا ذا الندى تعطيه ما طلبا
وكنت أكثر برا من أبيه به ... ولم تكن بأخ في البر، كنت أبا
وكان قرب سرير الملك مجلسه ... فقد تباعد منه بعد ما اقتربا
وكان في نعم زالت وكان له ... باب يزار فأمسى اليوم محتجبا
أمسى وحيدا وقد كانت مواكبه ... عشرين ألفا تراهم خلفه عصبا
أين الصفوف التي كانت تقوم له ... كما يقوم إذا ما جاء أو ذهبا
وذل بعد تماديه ونخوته ... كالحوت أصبح عنه الماء قد نضبا
وقد فسخت عن الأعناق بيعته ... فلا خطيب له يدعو إذا اختطبا
لقبته نقبا من بعد إمرته ... والله بدله بالإمرة اللقبا
كسوته ثوب عز فاستهان به ... ولم يصنه فأمسى عنه مغتصبا
كم نعمة لك فيها كنت تشركه ... والله أخرجه منها بما اكتسبا
شبهته بسراج كان ذا لهب ... فما تركت له نورا ولا لهبا
أمست قطيعة إبراهيم قد قطعت ... حبل الصفاء وحبل الود فانقضبا
وما تؤاخذ يا حلف الندى أحدا ... حتى تبين فيه النكث والريبا
إني بمدح بني العباس ذو حسب ... وكان مدح بني العباس لي حسبا

(9/365)


إن التقى يا بني العباس أدبكم ... حتى استفادت قريش منكم الأدبا
من كان مقتضبا في حول مدحكم ... فلست فيه بحمد الله مقتضبا.

امر المعتز مع اهل بغداد
ذكر عن أبي عبد الرحمن الفاني أن فتى من اهل سامرا املى عليه مما عمله بعض أهلها عن ألسن الأتراك أن المعتز لما أفضت إليه الخلافة، وقلده الله القيام بأمر عباده في المشارق والمغارب، والبر والبحر، والبدو والحضر، والسهل والجبل، تألم بسوء اختيار أهل بغداد وفتنتهم، فأمر المعتز بالله بإحضار جماعة ممن صفت أذهانهم، ورقت طبائعهم، ولطف ظنهم، وصحت نحائزهم، وجادت غرائزهم، وكملت عقولهم بالمشورة، فقال أمير المؤمنين:
أما تنظرون إلى هذه العصابة التي ذاع نفاقهم، وغار شأوهم، الهمج الطغام، والأوغاد الذين لا مسكة بهم، ولا اختيار لهم، ولا تمييز معهم، قد زين لهم تقحم الخطا سوء أعمالهم، فهم الأقلون وإن كثروا والمذمومون إن ذكروا، وقد علمت أنه لا يصلح لقود الجيوش وسد الثغور وإبرام الأمور وتدبير الأقاليم إلا رجل قد تكاملت فيه خلال أربع: حزم يقف به عند موارد الأمور حقائق مصادرها، وعلم يحجزه عن التهور والتغرير في الأشياء إلا مع إمكان فرصتها، وشجاعة لا ينقصها الملمات مع تواتر حوائجها، وجود يهون به تبذير جلائل الأموال عند سؤالها وأما الثلاث: فسرعة مكافأة الإحسان إلى صالح الأعوان، وثقل الوطأة على أهل الزيغ والعدوان، والاستعداد للحوادث، إذ لا تؤمن من نوائب الزمان وأما الاثنتان، فإسقاط الحاجب عن الرعية، والحكم بين القوي والضعيف بالسوية وأما الواحدة فالتيقظ في الأمور مع عدم تأخير عمل اليوم لغد، فما ترون، وقد اخترت رجالا لهم من موالي، أحدهم شديد الشكيمة، ماضي العزيمة، لا تبطره السراء، ولا تدهشه الضراء، لا يهاب ما وراءه، ولا يهوله ما تلقاءه، وهو كالحريش في أصل السلام، إن

(9/366)


حرك حمل، وإن نهش قتل، عدته عتيدة، ونقمته شديدة، يلقى الجيش في النفر القليل العدد بقلب أشد من الحديد طالب للثأر، لا يفله العساكر، باسل البأس، مقتضب الأنفاس لا يعوزه ما طلب، ولا يفوته من هرب، واري الزناد، مطلع العماد، لا تشرهه الرغائب، ولا تعجزه النوائب، إن ولي كفى، وإن وعد وفى، وإن نازل فبطل، وإن قال فعل، ظله لوليه ظليل، وبأسه في الهياج عليه دليل، يفوق من ساماه، ويعجز من ناواه، ويتعب من جاراه، وينعش من والاه.
فقام إليه رجل من القوم، فقال: قد جمع الله لك يا أمير المؤمنين فضائل الأدب، وخصك بإرث النبوة، وألقى إليك أزمة الحكمة، ووفر نصيبك من حباء الكرامة، وفسح لك في الفهم، ونور قلبك بأنفس العلوم وصفاء الذهن، فأفصح عن القلب البيان، وأدرك فهمك يا أمير المؤمنين ما والله خبىء على من لم يحب بما حبيت من المنن العظام، والأيادي الجسام، والفضائل المحمودة، وشرف الطباع فنطقت الحكمة على لسانك، فما ظننته فهو صواب، وما فهمته فهو الحق الذي لا يعاب، وأنت والله يا أمير المؤمنين نسيج وحده، وقريع دهره، لا يبلغ كلية فضله الوصف، ولا يحصر أجزاء شرف فضله النعت.
ثم أمر أمير المؤمنين بالعقد لأنصاره على النواحي، وأطلقهم في أشعار أعدائهم وأبشارهم ودمائهم، فلما بلغ محمد بن عبد الله ما أمر به في النواحي أنشأ كتابا نسخته:
أما بعد فإن زيغ الهوى صدف بكم عن حزم الرأي، فأقحمكم حبائل الخطا، ولو ملكتم الحق عليكم، وحكمتم به فيكم لاوردكم البصيره، ونفى عنكم غيايه الحيرة، والآن فإن تجنحوا للسلم تحقنوا دماءكم، وترغدوا عيشكم، ويصفح أمير المؤمنين عن جريرة جارمكم، وأخلى لكم ذروة سبوغ النعمة عليكم، وإن مضيتم على غلوائكم، وسول لكم الأمل أسوأ أعمالكم، فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، بعد نبذ المعذرة إليكم، وإقامة الحجة عليكم،

(9/367)


ولئن شنت الغارات، وشب ضرام الحرب، ودارت رحاها على قطبها، وحسمت الصوارم أوصال حماتها، واستجرت العوالي من نهمها، ودعيت نزال، والتحم الأبطال، وكلحت الحرب عن أنيابها أشداقها، وألقت للتجرد عنها قناعها، واختلفت أعناق الخيل، وزحف أهل النجدة إلى أهل البغي، لتعلمن أي الفريقين أسمح بالموت نفسا، وأشد عند اللقاء بطشا، ولات حين معذرة، ولا قبول فدية! وقد أعذر من أنذر، وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ! فبلغ كتاب محمد بن عبد الله الأتراك، فكتبوا جواب كتابه:
إن شخص الباطل تصور لك في صورة الحق، فتخيل لك الغي رشدا كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماء حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً، ولو راجعت عزوب عقلك أنار لك برهان البصيرة، وحسم عنك مواد الشبهة، لكن حصت عن سنه الحقيقة، ونكصت على عقبيك لما ملك طباعك من دواعي الحيرة، فكنت في الإصغاء لهتافه والتجرد إلى وروده كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران ولعمرك يا محمد، لقد ورد وعدك لنا ووعيدك إيانا، فلم يدننا منك، ولم ينئنا عنك، إذ كان فحص اليقين قد كشف عن مكنون ضميرك، وألفاك كالمكتفي بالبرق نهجا، إذا أضاء له مشى فيه، وإذا أظلم عليه قام ولعمرك لئن اشتد في البغى شاوك، ومتعت بصبابه من الأمل ليكونن أمرك عليك غمة، ولنأتينك بجنود لا قبل لك بها، ولنخرجنك منها ذليلا، وأنت من الصاغرين ولولا انتظارنا كتاب أمير المؤمنين بأعلامنا ما نعمل في شاكلته، بلغنا بالسياط النياط، وغمدنا السيوف وهي كالة، وجعلنا عاليها سافلها، وجعلناها مأوى الظلمان والحيات والبوم، وقد ناديناك من كثب، وأسمعناك إن كنت حيا، فإن تجب تفلح، وإن تأب إلا غيا نخزك به، وعما قليل لتصبحن نادمين.

(9/368)


وقوع الفتنة بين الاتراك والمغاربه
وفي أول يوم من رجب من هذه السنة كانت بين المغاربة والأتراك ملحمة، وذلك أن المغاربة اجتمعت فيه مع محمد بن راشد ونصر بن سعيد، فغلبوا الأتراك على الجوسق، وأخرجوهم منه، وقالوا لهم: في كل يوم تقتلون خليفة، وتخلعون آخر، وتقتلون وزيرا! وكانوا قد وثبوا على عيسى بن فرخان شاه، فتناولوه بالضرب، وأخذوا دوابه ولما أخرجت المغاربة الأتراك من الجوسق، وغلبوهم على بيت المال، أخذوا خمسين دابة مما كان الأتراك يركبونها، فاجتمع الأتراك، وأرسلوا إلى من بالكرخ والدور منهم، فتلاقوا هم والمغاربة، فقتل من المغاربة رجل، فأخذت المغاربة قاتله، وأعانت المغاربة الغوغاء والشاكريه، فضعف الأتراك، وانقادوا للمغاربة فأصلح جعفر بن عبد الواحد بين الفريقين، فاصطلحوا على ألا يحدثوا شيئا، ويكون في كل موضع يكون فيه رجل من قبل أحد الفريقين يكون فيه آخر من الفريق الآخر، فمكثوا على ذلك مديده.
وبلغ الأتراك اجتماع المغاربة إلى محمد بن راشد ونصر بن سعيد، واجتمع الأتراك إلى بايكباك، فقالوا: نطلب هذين الرأسين، فإن ظفرنا بهما فلا أحد ينطق، وكان محمد بن راشد ونصر بن سعيد قد اجتمعا في صدر اليوم الذي عزم الأتراك فيه على الوثوب بهما، ثم انصرفا إلى منازلهما، فبلغهما أن بايكباك قد صار إلى منزل ابن راشد، فعدل محمد بن راشد ونصر بن سعيد إلى منزل محمد بن عزون ليكونا عنده حتى يسكن الأتراك، ثم يرجعا إلى جمعهما، فغمز الى بايكباك رجل، ودله عليهما وقيل إن ابن عزون هو الذي دس من دل بايكباك والأتراك عليهما، فأخذهما الأتراك فقتلوهما، فبلغ ذلك المعتز، فأراد قتل ابن عزون، فكلم فيه فنفاه الى بغداد.

ذكر خبر حمل الطالبيين من بغداد الى سامرا
وفيها حمل محمد بن علي بن خلف العطار وجماعة من الطالبيين من بغداد إلى سامرا، فيهم أبو أحمد محمد بن جعفر بن حسن بن جعفر بْن حسن بْن

(9/369)


حسن بن علي بن أبي طالب، وحمل معهم أبو هاشم داود بن القاسم الجعفري وذلك لثمان خلون من شعبان منها ذكر السبب في حملهم:
وكان السبب- فيما ذكر- أن رجلا من الطالبيين شخص من بغداد في جماعة من الجيشية والشاكرية إلى ناحية الكوفة، وكانت الكوفة وسوادها من عمل أبي الساج في تلك الأيام، وكان مقيما ببغداد لمناظرة ابن طاهر إياه في الخروج إلى الري، فلما بلغ ابن طاهر خبر الطالبي الشاخص من بغداد إلى ناحية الكوفة، أمر أبا الساج بالشخوص إلى عمله بالكوفة، فقدم أبو الساج خليفته عبد الرحمن إلى الكوفة، فلقي أبا الساج أبو هاشم الجعفري مع جماعة معه من الطالبيين ببغداد، فكلموه في أمر الطالبي الشاخص إلى الكوفة، فقال لهم أبو الساج: قولوا له يتنحى عني، ولا أراه فلما صار عبد الرحمن خليفة أبي الساج إلى الكوفة ودخلها رمي بالحجارة حتى صار إلى المسجد، فظنوا أنه جاء لحرب العلوي، فقال لهم: إني لست بعامل، إنما أنا رجل وجهت لحرب الأعراب، فكفوا عنه، وأقام بالكوفة وكان أبو أحمد محمد بن جعفر الطالبي الذى ذكرت انه حمل من الطالبيين إلى سامرا كان المعتز ولاه الكوفة بعد ما هزم مزاحم بن خاقان العلوي الذي كان وجه لقتاله بها الذي قد مضى ذكره قبل في موضعه، فعاث- فيما ذكر- أبو أحمد هذا في نواحي الكوفة وآذى الناس، وأخذ أموالهم وضياعهم فلما أقام خليفة أبي الساج بالكوفة لطف لأبي أحمد العلوي هذا وآنسه حتى خالطه في المؤاكلة والمشاربة، وداخله ثم خرج متنزها معه إلى بستان من بساتين الكوفة، فأمسى وقد عبى له عبد الرحمن اصحابه، فقيده وحمله مقيدا بالليل على بغال الدخول، حتى ورد به بغداد في أول شهر ربيع الآخر، فلما أتي به محمد بن عبد الله حبسه عنده، ثم أخذ منه كفيلا وأطلقه، ووجدت مع ابن أخ لمحمد بن علي بن خلف العطار كتب من الحسن بن زيد، فكتب بخبره إلى المعتز، فورد الكتاب بحمله مع عتاب بن عتاب، وحمل هؤلاء الطالبيين، فحملوا جميعا

(9/370)


مع خمسين فارسا، وحمل أبو أحمد هذا وأبو هاشم الجعفري وعلي بن عبيد الله ابن عبد الله بن حسن بن جعفر بْن حسن بْن حسن بْن علي بْن أبي طالب، وتحدث الناس في علي بن عبيد الله أنه إنما استأذن في المصير إلى منزله بسامرا، فأذن له ووصله- فيما قيل- محمد بن عبد الله بألف درهم، لأنه شكا إليه ضيقه، وودع أبو هاشم أهله.
وقيل إن سبب حمل أبي هاشم، إنما كان ابن الكردية وعبد الله بن داود بن عيسى بن موسى قالا للمعتز: إنك إن كتبت إلى محمد بن عبد الله في حمل داود بن القاسم لم يحمله، فاكتب إليه، وأعلمه أنك تريد توجيهه إلى طبرستان لإصلاح أمرها، فإذا صار إليك رأيت فيه رأيك، فحمل على هذا السبيل ولم يعرض له بمكروه.
وفيها ولي الحسن بن أبي الشوارب قضاء القضاة، وكان محمد بن عمران الضبي مؤدب المعتز قد سمى رجالا للمعتز للقضاء نحو ثمانية رجال، فيهم الخلنجي والخصاف، وكتب كتبهم، فوقع فيه شفيع الخادم ومحمد بن إبراهيم بن الكردية وعبد السميع بن هارون بن سليمان بن أبي جعفر، وقالوا:
انهم من اصحاب ابن ابى داود، وهم رافضة وقدرية وزيدية وجهمية.
فأمر المعتز بطردهم وإخراجهم إلى بغداد، ووثب العامة بالخصاف، وخرج الآخرون إلى بغداد، وعزل الضبي إلا عن المظالم.
وذكر أن أرزاق الأتراك والمغاربة والشاكرية قدرت في هذه السنة، فكان مبلغ ما يحتاجون إليه في السنة مائتي ألف ألف دينار، وذلك خراج المملكة كلها لسنتين.
وفيها توجه أبو الساج إلى طريق مكة، وكان سبب ذلك- فيما ذكر- إن وصيفا لما صلح أمره، ودفع المعتز اليه خاتمه كتب إلى أبي الساج يأمره

(9/371)


بالخروج إلى طريق مكة ليصلحه، ووجه إليه من المال ما يحتاج إليه، فأخذ في الجهاز، فكتب محمد بن عبد الله يسأل أن يصير طريق مكة إليه، فأجيب إلى ذلك، فوجه أبا الساج من قبله.
وفي أول ذي الحجة عقد لعيسى بن الشيخ بن السليل على الرملة، فأنفذ خليفته أبا المغراء إليها، فقيل: أنه أعطى بغا أربعين ألف دينار على ذلك، أو ضمنها إليه.
وفيها كتب وصيف إلى عبد العزيز بن أبي دلف بتوليته الجبل، وبعث إليه بخلع، فتولى ذلك من قبله.
وفيها قتل محمد بن عمرو الشاري بديار ربيعة، قتله خليفة لأيوب بن أحمد في ذي القعدة.
وفيها سخط على كنجور، وأمر بحبسه في الجوسق، ثم حمل إلى بغداد مقيدا، ثم وجه به إلى اليمامة فحبس هنالك وفيها أغار ابن جستان صاحب الديلم مع أحمد بن عيسى العلوي والحسين ابن احمد الكوكبى على الري فقتلوا وسبوا، وكان ما بها حين قصدوها عبد الله ابن عزيز، فهرب منها، فصالحهم أهل الري على الفى درهم، فأدوها، وارتحل عنها ابن جستان، وعاد إليها ابن عزيز، فأسر أحمد بن عيسى وبعث به إلى نيسابور.
وفيها مات إسماعيل بن يوسف الطالبي الذي كان فعل بمكة ما فعل.
وحج فيها بالناس محمد بن أحمد بن عيسى بن المنصور من قبل المعتز.

(9/372)


ثم دخلت

سنه ثلاث وخمسين ومائتين

ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث
فمن ذلك ما كان من عقد المعتز في اليوم الرابع من رجب لموسى بن بغا الكبير على الجبل، ومعه من الجيش يومئذ من الأتراك ومن يجري مجراهم الفان وأربعمائة وثلاثة وأربعون رجلا، منهم مع مفلح ألف ومائه وثلاثون رجلا.

ذكر خبر أخذ الكرج من ابن ابى دلف
وفيها أوقع مفلح وهو على مقدمة موسى بن بغا بعبد العزيز بن أبي دلف لثمان ليال بقين من رجب من هذه السنة وعبد العزيز في زهاء عشرين ألفا من الصعاليك وغيرهم، وكانت الوقعة بينهما- فيما قيل- خارج همذان على نحو من ميل، فهزمه مفلح ثلاثة فراسخ يقتلون ويأسرون، ثم رجع مفلح ومن معه سالمين، وكتب بالفتح في ذلك اليوم فلما كان في شهر رمضان عبا مفلح خيله نحو الكرج، وجعل لهم كمنين، ووجه عبد العزيز عسكرا فيه أربعة آلاف فقاتلهم مفلح، وخرج كمين مفلح على أصحاب عبد العزيز فانهزموا، ووضع أصحاب مفلح فيهم السيف، فقتلوا وأسروا، وأقبل عبد العزيز معينا لأصحابه، فانهزم بانهزام أصحابه، وترك الكرج، ومضى إلى قلعة له في الكرج يقال له زز، متحصنا بها، ودخل مفلح الكرج، فأخذ جماعة من آل أبي دلف أسرا، وأخذ نساء من نسائهم، يقال أنه كان فيهم أم عبد العزيز، فأوثقهم.
وذكر أنه وجه سبعين حملا من الرءوس إلى سامرا وأعلاما كثيرة.
وشخص فيها موسى بن بغا من سامرا إلى همذان فنزلها.
وفيها خلع المعتز على بغا الشرابي في شهر رمضان، وألبسه التاج والوشاحين، فخرج فيهما الى منزله.

(9/373)


ذكر الخبر عن قتل وصيف
وفيها قتل وصيف التركي، وذلك لثلاث بقين من شوال منها، وكان السبب في ذلك- فيما ذكر- أن الأتراك والفراغنة والأشروسنية شغبوا وطلبوا أرزاقهم لاربعه اشهر، فخرج إليهم بغا ووصيف وسيما الشرابي في نحو من مائة إنسان من أصحابهم، فكلمهم وصيف، وقال: ما تريدون؟ قالوا:
أرزاقنا، فقال: خذوا ترابا، وهل عندنا مال! وقال بغا: نعم، نسأل أمير المؤمنين في ذلك، ونتناظر في دار أشناس، وينصرف عنكم من ليس منكم، فدخلوا دار أشناس، ومضى سيما الشرابي منصرفا الى سامرا، ثم تبعه بغا لاستمار الخليفة في إعطائهم، وكان وصيف في أيديهم، فوثب عليه بعضهم، فضربه بالسيف ضربتين، ووجأه آخر بسكين، فاحتمله نوشري بن طاجبك- وهو أحد قواده- إلى منزله، فلما أبطأ عليهم بغا ظنوا انهم في التعبئة عليهم، فاستخرجوه من منزل نوشري، فضربوه بالطبرزينات حتى كسروا عضديه، ثم ضربوا عنقه، ونصبوا رأسه على محراك تنور، وقصدت العامة بسامرا الانتهاب لمنازل وصيف وولده، فرجع بنو وصيف، فمنعوا منازلهم، ثم جعل المعتز ما كان إلى وصيف من الأمور إلى بغا الشرابي.

ذكر الخبر عن قتل بندار الطبرى
وفي يوم الفطر من هذه السنة قتل بندار الطبري.
ذكر سبب قتله:
فكان سبب ذلك أنه حكم بالبوازيج محكم يدعى مساور بن عبد الحميد، في رجب من هذه السنة، فوجه المعتز إليه في شهر رمضان ساتكين، فمال إلى ناحية طريق خراسان، فوجه محمد بن عبد الله إليه، وذلك أن طريق خراسان كان إليه بندار ومظفر بن سيسل مسلحة، فلما صارا بدسكرة الملك أقاما، فذكر أن بندار خرج في آخر يوم من شهر رمضان متصيدا، فبعد في

(9/374)


طلب الصيد حتى جاوز دور الدسكرة بنحو فرسخ، فبينا هو كذلك، إذ نظر إلى علمين مقبلين معهما جماعة مقبلة نحو الدسكرة، فوجه بعض أصحابه لينظر ما الأعلام، فأخبره صاحب الجماعة أنه عامل كرخ جدان، وأنه انتهى إليه أن رجلا يقال له مساور بن عبد الحميد من الدهاقين من أهل البوازيج شرى، وأنه بلغه أنه يصير إلى كرخ جدان، فلما بلغه ذلك خرج هاربا إلى الدسكرة ليأنس بقرب بندار ومظفر، فانصرف بندار من ساعته إلى المظفر فقال له: إن الشاري يقصد كرخ جدان، ويريدنا، فامض بنا نلقاه، فقال له المظفر: قد أمسينا ونريد أن نصلي الجمعة، وغدا العيد، فإذا انقضى العيد قصدناه فأبى بندار، ومضى من ساعته طمعا بالمظفر الشاري وحده دون مظفر، فأقام مظفر ولم يبرح من الدسكرة- وبين الدسكرة وتل عكبراء ثمانية فراسخ، وبين تل عكبراء وموضع الوقعة أربعة فراسخ- فصار بندار إلى تل عكبراء، فوافاها عند العتمة ليلة الفطر فعلف دوابه شيئا، ثم ركب، فسار حتى أشرف على عسكر الشاري ليلا وهم يصلون ويقرءون القرآن، فأشار عليه بعض أصحابه وخاصته أن يبيتهم وهم غارون، فأبى وقال: لا، حتى أنظر إليهم وينظروا إلي فوجه فارسين أو ثلاثة ليأتوه بخبرهم، فلما قربوا من عسكرهم نذروا بهم، فصاحوا: السلاح! وركبوا فتواقفوا إلى أن أصبحوا، ثم اقتتلوا، فلم يمكن أصحاب بندار أن يرموا بسهم واحد، وكانوا زهاء ثلاثمائة فارس وراجل فعباهم ميمنة وميسرة وساقة، وأقام هو في القلب، فحمل عليهم مساور وأصحابه، فثبت لهم بندار وأصحابه، ثم انحدر لهم الشراة عن موضع عسكرهم ومبيتهم، ليطمع بندار وأصحابه في النهب، فلم يعرض بندار وأصحابه لعسكرهم ثم كر الشراة عليهم بالسيوف والرماح، وهم زهاء سبعمائة، فصبر الفريقان، فصار الشراة إلى السيوف دون الرماح، فقتل من الشراة نحو من خمسين رجلا، ومن أصحاب بندار مثلهم، ثم حمل الشراة حملة، فاقتطعوا من أصحاب بندار نحوا من

(9/375)


مائة رجل، فصبر لهم المائة ساعة، ثم قتلوا جميعا، وانهزم بندار وأصحابه، فجعلوا يقتطعونهم قطعة بعد قطعة فيقتلونهم وأمعن بندار في الهرب، فطلبوه فلحقوه بقرب تل عكبراء على قدر أربعة فراسخ من موضع الوقعة، فقتلوه ونصبوا رأسه، ونجا من أصحاب بندار نحو من خمسين رجلا- وقيل مائة رجل- انحازوا عن الوقعة عند اشتغال الخوارج بمن كانوا يقتطعون منهم، وانتهى خبره إلى مظفر وهو مقيم بالدسكرة، فتنحى من الدسكرة إلى ما قرب من بغداد، ووصل خبر مقتله إلى محمد بن عبد الله بغد الفطر، فذكر أنه لم يشرب ولم يله كما كان يفعل، غما بما ورد عليه من مقتله.
ثم مضى مساور من فوره إلى حلوان، فخرج اليه أهلها فقاتلوه، فقتل منهم أربعمائة إنسان، وقتلوا جماعة من أصحاب الشاري، وقتل عدة من حجاج خراسان كانوا بحلوان، فأعانوا اهل حلوان، ثم انصرفوا عنهم
. ذكر خبر موت محمد بن عبد الله بن طاهر
وليلة أربع عشرة من ذي القعدة منها، انخسف القمر، فغرق كله أو غاب أكثره، ومات محمد بن عبد الله بن طاهر مع انتهاء خسوفه- فيما ذكر- وكانت علته التي مات فيها قروحا أصابته في حلقه ورأسه فذبحته وذكر أن القروح التي كانت في حلقه ورأسه كانت تدخل فيها الفتائل، فلما مات تنازع الصلاة عليه أخوه عبيد الله وابنه طاهر، فصلى عليه ابنه وكان أوصى بذلك- فيما قيل ثم وقع بين عبيد الله بن عبد الله أخي محمد بن عبد الله وبين حشم محمد بن عبد الله تنازع حتى سلوا السيوف عليه، ورمي بالحجارة، ومالت الغوغاء والعامة وموالي إسحاق بن إبراهيم مع طاهر بن محمد بن عبد الله بن طاهر، ثم صاحوا: طاهر يا منصور، فعبر عبيد الله إلى ناحية الشرقية إلى داره،

(9/376)


ومال معه القواد لاستخلاف محمد بن عبد الله كان إياه على أعماله ووصيته بذلك، وكتابه بذلك إلى عماله، ثم وجه المعتز الخلع وولاية بغداد إلى عبيد الله، وأمر عبيد الله للذي أتاه بالخلع من قبل المعتز فيما قيل بخمسين ألف درهم.
نسخة الكتاب الذي كتبه محمد بن عبد الله إلى عماله باستخلافه أخاه عبيد الله بعده:
أما بعد فإن الله عز وجل جعل الموت حتما مقضيا جاريا على الباقين من خلقه، حسبما جرى على الماضين، وحقيق على من أعطي حظا من توفيق الله، أن يكون على استعداد لحلول ما لا بد منه ولا محيص عنه في كل الأحوال.
وكتابي هذا وأنا في علة قد اشتد الإشفاق منها، وكاد الإياس يغلب على الرجاء فيها، فإن يبل الله ويدفع فبقدرته وكريم عادته، وإن يحدث بي الحدث الذي هو سبيل الأولين والآخرين، فقد استخلفت عبيد الله بن عبد الله مولى أمير المؤمنين أخي الموثوق باقتفائه أثري، وأخذه بسد ما أنا بسبيله من سلطان أمير المؤمنين إلى أن يأتيه من أمره ما يعمل بحسبه، فاعلم ذلك وائتمر فيما تتولاه بما يرد به كتب عبيد الله وأمره إن شاء الله.
وكتب يوم الخميس لثلاث عشرة خلت من ذي القعده سنه ثلاث وخمسين ومائتين.
[أخبار متفرقة]
وفيها نفى المعتز أبا أحمد بن المتوكل إلى واسط، ثم إلى البصرة، ثم رد إلى بغداد، وأنزل إلى الجانب الشرقي في قصر دينار بن عبد الله.
وفيها نفي أيضا علي بن المعتصم إلى واسط ثم رد إلى بغداد فيها.
وفيها مات مزاحم بن خاقان بمصر في ذي الحجة.
وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة عَبْد اللَّهِ بن محمد بن سليمان الزينبي.
وفيها غزا محمد بن معاذ بالمسلمين في ذي القعدة من ناحية ملطية، فهزموا وأسر محمد بن معاذ

(9/377)


وفيها التقى موسى بن بغا والكوكبي الطالبي على فرسخ من قزوين يوم الاثنين سلخ ذي القعد منها، فهزم موسى الكوكبي، فلحق بالديلم، ودخل موسى بن بغا قزوين.
وذكر لي بعض من شهد الوقعة، أن أصحاب الكوكبي من الديلم لما التقوا بموسى وأصحابه صفوا صفوفا، وأقاموا ترستهم في وجوههم يتقون بذلك سهام أصحاب موسى، فلما رأى موسى أن سهام أصحابه لا تصل إليهم مع ما قد فعلوا، أمر بما معه من النفط أن يصب في الأرض التي التقى هو وهم فيها، ثم أمر أصحابه بالاستطراد لهم، وإظهار هزيمة منهم، ففعل ذلك أصحابه، فلما فعلوا ذلك ظن الكوكبي وأصحابه أنهم انهزموا، فتبعوهم فلما علم موسى أن أصحاب الكوكبي قد توسطوا النفط امر بالنار فاشعلت فيه، فأخذت فيه النار، وخرجت من تحت أصحاب الكوكبي، فجعلت تحرقهم، وهرب الآخرون وكان هزيمة القوم عند ذلك ودخول موسى قزوين وفيها لقي خطارمش مساور الشاري بناحية جلولاء في ذي الحجة، فهزمه مساور.

(9/378)


ثم دخلت

سنة أربع وخمسين ومائتين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك ما كان من مقتل بغا الشرابي.
ذكر الخبر عن سبب مقتله:

ذكر خبر مقتل بغا الشرابي
ذكر أن السبب في ذلك كان أنه كان يحض المعتز على المصير إلى بغداد، والمعتز يأبى ذلك عليه ثم إن بغا اشتغل مع صالح بن وصيف في خاصته بعرس جمعة بنت بغا، كان صالح بن وصيف تزوجها للنصف من ذي القعدة، فركب المعتز ليلا، ومعه أحمد بن إسرائيل إلى كرخ سامرا يريد بايكباك ومن كان معه على مثل ما هو عليه من انحرافه عن بغا وكان سبب انحرافه عنه- فيما ذكر- أنهما كانا في شراب لهما يشربانه، فعربد أحدهما على صاحبه، فتهاجرا لذلك، وكان بايكباك بسبب ذلك هاربا من بغا مستخفيا منه، فلما وافى المعتز بمن معه الكرخ اجتمع مع بايكباك أهل الكرخ وأهل الدور، ثم أقبلوا مع المعتز إلى الجوسق بسامرا، وبلغ ذلك بغا، فخرج في غلمانه وهم زهاء خمسمائة ومثلهم من ولده وأصحابه وقواده، وصار إلى نهر نيزك، ثم انتقل إلى مواضع، ثم صار إلى السن، ومعه من العين تسع عشرة بدرة دنانير ومائة بدرة دراهم، أخذها من بيت ماله وبيوت أموال السلطان، فأنفق منها شيئا يسيرا حتى قتل.
وذكر أنه لما بلغه أن المعتز قد صار إلى موضع الكرخ مع أحمد بن إسرائيل خرج في خاصة قواده حتى صار إلى تل عكبراء، ثم مضى فصار إلى السن، فشكا أصحابه بعضهم إلى بعض ما هم فيه من العسف، وأنهم

(9/379)


لم يخرجوا معهم بمضارب، ولا ما يتدفئون به من البرد، وأنهم في شتاء وكان بغا في مضرب له صغير على دجلة، كان يكون فيه، فأتاه ساتكين، فقال: أصلح الله الأمير! قد تكلم أهل العسكر، وخاضوا في كذا وأنا رسولهم إليك، فقال: كلهم يقول مثل قولك؟ قال: نعم، وإن شئت فابعث إليهم حتى يقولوا مثل قولي، قال: دعني الليلة حتى أنظر، ويخرج إليكم أمري بالغداة، فلما جن عليه الليل دعا بزورق، فركبه مع خادمين معه، وحمل معه شيئا من المال، ولم يحمل معه سلاحا ولا سكينا ولا عمودا، ولا يعلم أهل عسكره بذلك من أمره، والمعتز في غيبة بغا لا ينام إلا في ثيابه، وعليه السلاح، ولا يشرب نبيذا، وجميع جواريه على رجل فصار بغا إلى الجسر في الثلث الأول من الليل، فلما قارب الزورق الجسر بعث الموكلون به من في الزورق، فصاح بالغلام، فرجع إليهم وخرج بغا في البستان الخاقاني، فلحقه عدة منهم، فوقف لهم وقال: أنا بغا ولحقه وليد المغربي، فقال له: ما لك جعلت فداك! فقال: إما أن تذهب بي إلى منزل صالح بن وصيف، وإما أن تصيروا معي إلى منزلي، حتى أحسن إليكم فوكل به وليد المغربي، ومر يركض إلى الجوسق، فاستأذن على المعتز، فأذن له، فقال: يا سيدي هذا بغا قد أخذته ووكلت به، قال: ويلك! جئني برأسه، فرجع وليد، فقال للموكلين به: تنحوا عنه حتى أبلغه الرسالة، فتنحوا عنه، فضربه ضربة على جبهته ورأسه، ثم تناهى على يديه فقطعهما، ثم ضربه حتى صرعه وذبحه، وحمل رأسه في بركة قبائه، وأتى به المعتز، فوهب له عشرة آلاف دينار، وخلع عليه خلعة، ونصب رأسه بسامرا، ثم ببغداد، ووثبت المغاربة على جثته، فأحرقوه بالنار، وبعث المعتز من ساعته إلى أحمد بن إسرائيل والحسن بن مخلد وأبي نوح، فأحضرهم وأخبرهم، وتتبع عبيد الله بن طاهر بنيه ببغداد، وكانوا صاروا إليها هرابا مع قوم يثقون بهم، فاستتر ما عندهم

(9/380)


فذكر أنه حبس في قصر الذهب من ولده وأصحابه، خمسة عشر إنسانا، وفي المطبق عشرة.
وقيل: إن بغا لما انحدر إلى سامرا ليلة أخذ شاور أصحابه في الانحدار إليها مكتتما، فيصير إلى منزل صالح بن وصيف، وإذا قرب العيد دخل أهل العسكر، وخرج هو وصالح بن وصيف وأصحابه، فوثبوا بالمغاربه، فوثبوا بالمعتز.
[أخبار متفرقة]
وفيها عقد صالح بن وصيف لديوداد على ديار مضر وقنسرين والعواصم فوثبوا بالمعتز في ربيع الأول منها.
وفيها عقد بايكباك لأحمد بن طولون على مصر.
وفيها أوقع مفلح وباجور بأهل قم، فقتلا منهم مقتلة عظيمة، وذلك في شهر ربيع الأول منها.
وفيها مات علي بن محمد بن علي بن موسى الرضا يوم الاثنين لأربع بقين من جمادى الآخرة، وصلى عليه أبو أحمد بن المتوكل في الشارع المنسوب إلى أبي أحمد، ودفن في داره.
وفيها في جمادى الآخرة وافى الأهواز دلف بن عبد العزيز بن أبي دلف بتوجيه والده عبد العزيز إياه إليها وجندي سابور وتستر، فجباها مائتي ألف دينار ثم انصرف.
وفي شهر رمضان منها شخص نوشري إلى مساور الشاري فلقيه وهزمه، وقتل من أصحابه جماعة كثيرة.
وحج بالناس في هذه السنة علي بن الحسين بن إسماعيل بن العباس بن محمد.

(9/381)


ثم دخلت

سنة خمس وخمسين ومائتين

ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث
فمن ذلك ما كان من دخول مفلح طبرستان ووقعة كانت بينه وبين الحسن بن زيد الطالبي، هزم فيها مفلح الحسن بن زيد، فلحق بالديلم، ثم دخل مفلح آمل، وأحرق منازل الحسن بن زيد، ثم توجه نحو الديلم في طلب الحسن بن زيد
. ذكر خبر استيلاء يعقوب بن الليث على كرمان
وفيها كانت وقعة بين يعقوب بن الليث وطوق بن المغلس خارج كرمان أسر فيها يعقوب طوقا، وكان السبب في ذلك- فيما ذكر- أن علي بن الحسين بن قريش بن شبل كتب إلى السلطان يخطب كرمان- وكان قبل من عمال آل طاهر- وكتب يذكر ضعف آل طاهر وقلة ضبطهم، بما إليهم من البلاد، وأن يعقوب بن الليث قد غلبهم على سجستان، وتباطأ على السلطان بتوجيه خراج فارس، فكتب السلطان إليه بولاية كرمان، وكتب إلى يعقوب بولايتها يلتمس بذلك إغراء كل واحد منهما بصاحبه ليسقط مؤنة الهالك منهما عنه ويتفرد بمؤونه الآخر، إذ كان كل واحد منهما عنده حربا له وفي غير طاعته، فلما فعل ذلك بهما زحف يعقوب بن الليث من سجستان يريد كرمان، ووجه علي بن الحسين طوق بن المغلس وقد بلغه خبر يعقوب وقصده كرمان في جيش عظيم من فارس، فصار طوق بكرمان، وسبق يعقوب إليها فدخلها، وأقبل يعقوب من سجستان، فصار من كرمان على مرحلة.
فحدثني من ذكر أنه كان شاهدا أمرهما، أن يعقوب بقي مقيما في

(9/382)


الموضع الذي أقام به من كرمان على مرحلة لا يرتحل عنه شهرا أو شهرين، يتجسس أخبار طوق، ويسأل عن أمره كل من مر به خارجا من كرمان إلى ناحيته، ولا يدع أحدا يجوز عسكره من ناحيته إلى كرمان، ولا يزحف طوق إليه ولا هو إلى طوق فلما طال ذلك من أمرهما كذلك أظهر يعقوب الارتحال عن معسكره إلى ناحية سجستان، فارتحل عنه مرحلة.
وبلغ طوقا ارتحاله، فظن أنه قد بدا له في حربه، وترك عليه كرمان وعلى علي بن الحسين، فوضع آلة الحرب، وقعد للشرب، ودعا بالملاهي، ويعقوب في كل ذلك لا يغفل عن البحث عن أخباره فاتصل به ووضع طوق آلة الحرب وإقباله على الشراب واللهو بارتحاله، فكر راجعا، فطوى المرحلتين إليه في يوم واحد، فلم يشعر طوق وهو في لهوه وشربه في آخر نهاره إلا بغبرة قد ارتفعت من خارج المدينة التي هو فيها من كرمان، فقال لأهل القرية:
ما هذه الغبرة؟ فقيل له: غبرة مواشي أهل القرية منصرفة إلى أهلها، ثم لم يكن الا كلا ولا، حتى وفاه يعقوب في أصحابه، فأحاط به وبأصحابه، فذهب أصحاب طوق لما أحيط بهم يريدون المدافعة عن أنفسهم، فقال يعقوب لأصحابه: أفرجوا للقوم، فأفرجوا لهم، فمروا هاربين على وجوههم، وخلوا كل شيء لهم مما كان معهم في معسكرهم، وأسر يعقوب طوقا.
فحدثني ابن حماد البربري أن علي بن الحسين لما وجه طوقا حمله صناديق في بعضها اطواقه وأسورة ليطوق ويسور من أبلى معه من أصحابه، وفي بعضها أموال ليجيز من استحق الجائزة منهم، وفي بعضها قيود وأغلال ليقيد بها من أخذ من أصحاب يعقوب، فلما أسر يعقوب طوقا ورؤساء الجيش الذين كانوا معه أمر بحيازة كل ما كان مع طوق وأصحابه من المال والأثاث والكراع والسلاح، فحيز ذلك كله، وجمع إليه، فلما أتي بالصناديق أتي بها مقفله،

(9/383)


فأمر ببعضها أن يفتح، ففتح فإذا فيه القيود والأغلال، فقال لطوق: يا طوق، ما هذه القيود والأغلال؟ قال: حملنيها علي بن الحسين لأقيد بها الأسرى وأغلهم بها، فقال: يا فلان، انظر أكبرها وأثقلها فاجعله في رجلي طوق وغله بغل ثم جعل يفعل مثل ذلك بمن أسر من أصحاب طوق قال:
ثم أمر بصناديق أخر ففتحت، فإذا فيها أطوقة وأسورة، فقال: يا طوق.
ما هذه؟ قال: حملنيها علي لأطوق بها وأسور أهل البلاء من أصحابي، قال: يا فلان، خذ من ذلك طوق كذا وسوار كذا، فطوق فلانا وسوره، ثم جعل يفعل ذلك بأصحاب نفسه حتى طوقهم وسورهم، ثم جعل يفعل كذلك بالصناديق قال: ولما أمر يعقوب بمديد طوق ليضعها في الغل، إذا على ذراعه عصابة، فقال له: ما هذا يا طوق؟ قال: أصلح الله الأمير! إني وجدت حرارة ففضدتها، فدعا بعض من معه فامر بمد خفه من رجله ففعل ذلك، فلما نزعه من رجله تناثر من خفه كسر خبز يابسة فقال: يا طوق هذا خفي لم أنزعه من رجلي منذ شهرين، وخبزي في خفي منه آكل لا أطأ فراشا، وأنت جالس في الشرب والملاهي! بهذا التدبير أردت حربي وقتالي! فلما فرغ يعقوب بن الليث من أمر طوق دخل كرمان وحازها وصارت مع سجستان من عمله.

ذكر خبر دخول يعقوب بن الليث فارس
وفيها دخل يعقوب بن الليث فارس وأسر علي بن الحسين بن قريش.
ذكر الخبر عن سبب أسره إياه وكيف وصل إليه:
حدثني ابن حماد البربري، قال: كنت يومئذ بفارس عند علي بن الحسين بن قريش، فورد عليه خبر وقعة يعقوب بن الليث بصاحبه طوق ابن المغلس ودخول يعقوب كرمان واستيلائه عليها، ورجع إليه الفل، فأيقن بإقبال يعقوب إلى فارس، وعلي يومئذ بشيراز من أرض فارس، فضم اليه

(9/384)


جيشه ورجالة الفل من عند طوق وغيرهم، وأعطاهم السلاح، ثم برز من شيراز، فصار إلى كر خارج شيراز بين آخر طرفه عرضا مما يلي أرض شيراز، وبين عرض جبل بها من الفضاء قدر ممر رجل أو دابة، لا يمكن من ضيقه أن يمر فيه أكثر من رجل واحد فأقام في ذلك الموضع، وضرب عسكره على شط ذلك الكز مما يلي شيراز، وأخرج معه المتسوقة والتجار من مدينة شيراز إلى معسكره، وقال: إن جاء يعقوب لم يجد موضعا يجوز الفلاة إلينا، لأنه لا طريق له إلا الفضاء الذي بين الجبل والكر، وإنما هو قدر ممر رجل، إذا أقام عليه رجل واحد منع من يريد أن يجوزه، وإن لم يقدر أن يجوز إلينا بقي في البر بحيث لا طعام له ولا لأصحابه ولا علف لدوابهم.
قال ابن حماد: فأقبل يعقوب حتى قرب من الكر، فأمر أصحابه بالنزول أول يوم على نحو من ميل من الكر مما يلي كرمان، ثم أقبل هو وحده وبيده رمح عشاري، يقول ابن حماد: كأني أنظر إليه حين أقبل وحده على دابته، ما معه إلا رجل واحد، فنظر إلى الكر والجبل والطريق، وقرب من الكر، وتأمل عسكر علي بن الحسين، فجعل أصحاب علي يشتمونه، ويقولون: لنردنك إلى شعب المراجل والقماقم، يا صفار- وهو ساكت لا يرد عليهم شيئا- قال: فلما تأمل ما أراد من ذلك ورآه، انصرف راجعا إلى أصحابه قال: فلما كان من الغد عند الظهر أقبل بأصحابه ورجاله حتى صار على شط كر مما يلي بر كرمان، فأمر أصحابه فنزلوا عن دوابهم، وحطوا أثقالهم قال: ثم فتح صندوقا كان معه.
قال ابن حماد: كأني أنظر إليهم وقد أخرجوا كلبا ذئبيا، ثم ركبوا دوابهم أعراء، وأخذوا رماحهم بأيديهم قال: وقبل ذلك كان قد عبأ علي ابن الحسين أصحابه، فأقامهم صفوفا على الممر الذي بين الجبل والكر، وهم يرون أنه لا سبيل ليعقوب، ولا طريق له يمكنه أن يجوزه غيره قال: ثم

(9/385)


جاءوا بالكلب، فرموا به في الكر، ونحن وأصحاب علي ينظرون إليهم يضحكون منهم ومنه قال: فلما رموا بالكلب فيه، جعل الكلب يسبح في الماء إلى جانب عسكر علي بن الحسين، وأقحم أصحاب يعقوب دوابهم خلف الكلب، وبأيديهم رماحهم، يسيرون في أثر الكلب فلما راى على ابن الحسين أن يعقوب قد قطع عامة الكر إليه وإلى أصحابه، انتقض عليه تدبيره، وتحير في أمره، ولم يلبث أصحاب يعقوب إلا أيسر ذلك حتى خرجوا من الكر من وراء أصحاب علي بن الحسين، فلم يكن بأسرع من أن خرج أوائلهم منه حتى هرب أصحاب علي يطلبون مدينة شيراز، لأنهم كانوا يصيرون إذا خرج أصحاب يعقوب من الكر بين جيش يعقوب وبين الكر، ولا يجدون ملجأ إن هزموا وانهزم علي بن الحسين بانهزام أصحابه، وقد خرج أصحاب يعقوب من الكر، فكبت به دابته، فسقط إلى الأرض ولحقه بعض السجزية فهم عليه بسيفه ليضربه، فبلغ إليه خادم له، فقال: الأمير.
فنزل إليه السجزي، فوضع في عنقه عمامته، ثم جره إلى يعقوب، فلما أتي به أمر بتقييده، وأمر بما كان في عسكره من آلة الحرب من السلاح والكراع وغير ذلك، فجمع إليه، ثم أقام بموضعه حتى أمسى، وهجم عليه الليل، ثم رحل من موضعه ودخل مدينة شيراز ليلا وأصحابه يضربون بالطبول، فلم يتحرك في المدينة أحد، فلما أصبح أنهب أصحابه دار علي بن الحسين ودور أصحابه، ثم نظر إلى ما اجتمع في بيت المال من مال الخراج والضياع، فاحتمله ووضع الخراج، فجباه، ثم شخص منها متوجها إلى سجستان، وحمل معه ابن قريش ومن أسر معه.
وفيها وجه يعقوب بن الليث إلى المعتز بدواب وبزاة ومسك هدية.
وفيها ولي سليمان بن عبد الله بن طاهر شرطة بغداد والسواد، وذلك لست خلون من شهر ربيع الآخر، وكانت موافاته سامرا من خراسان- فيما ذكر-

(9/386)


يوم الخميس لثمان خلون من شهر ربيع الأول، وصار إلى الإيتاخية، ثم دخل على المعتز يوم السبت، فخلع عليه وانصرف.
وفيها كانت وقعة بين مساور الشاري ويارجوخ، فهزمه الشاري وانصرف إلى سامرا مفلولا.
ومات المعلى بن أيوب في شهر ربيع الآخر منها.

ذكر فعل صالح بن وصيف مع احمد بن إسرائيل ورفيقيه
وفيها أخذ صالح بن وصيف أحمد بن إسرائيل والحسن بن مخلد وأبا نوح عيسى بن إبراهيم فقيدهم، وطالبهم بأموال، وكان سبب ذلك- فيما ذكر- أن هؤلاء الكتاب الذين ذكرت كانوا اجتمعوا يوم الأربعاء لليلتين خلتا من جمادى الآخرة من هذه السنة على شراب لهم يشربونه، فلما كان يوم الخميس غد ذلك اليوم، ركب ابن إسرائيل في جمع عظيم إلى دار السلطان التي يقعد فيها، وركب ابن مخلد إلى دار قبيحة أم المعتز- وهو كاتبها- وحضر أبو نوح الدار، والمعتز نائم، فانتبه قريبا من انتصاف النهار، فأذن لهم، فحمل صالح بن وصيف على أحمد بن إسرائيل، وقال للمعتز: يا امير المؤمنين، ليس للأتراك عطاء ولا في بيت المال مال، وقد ذهب ابن إسرائيل وأصحابه بأموال الدنيا، فقال له احمد: يا عاصي يا بن العاصي! ثم لم يزالا يتراجعان الكلام حتى سقط صالح مغشيا عليه، فرش على وجهه الماء وبلغ ذلك أصحابه وهم على الباب، فصاحوا صيحة واحدة، واخترطوا سيوفهم، ودخلوا على المعتز مصلتين، فلما رأى ذلك المعتز دخل وتركهم، وأخذ صالح بن وصيف ابن إسرائيل وابن مخلد وعيسى بن إبراهيم فقيدهم، وأثقلهم بالحديد، وحملهم إلى داره، فقال المعتز لصالح قبل أن يحملهم: هب لي أحمد، فإنه كاتبي، وقد رباني، فلم يفعل ذلك صالح، ثم ضرب ابن إسرائيل، حتى كسرت أسنانه، وبطح ابن مخلد فضرب مائة سوط، وكان عيسى بن إبراهيم محتجما فلم يزل يصفع حتى جرت الدماء من محاجمه، ثم لم يتركوا حتى أخذت رقاعهم بمال جليل قسط عليهم

(9/387)


وتوجه قوم من الأتراك إلى إسكاف ليأتوا بجعفر بن محمود، فقال المعتز:
أما جعفر فلا أرب لي فيه ولا يعمل لي فمضوا، فبعث المعتز إلى أبي صالح عبد الله بن محمد بن يزداد المروزي، فحمل ليصيره وزيرا، وبعث الى إسحاق ابن منصور، فأشخص وبعثت قبيحة إلى صالح بن وصيف في ابن إسرائيل:
إما حملته إلى المعتز وإما ركبت إليك فيه.
وقد ذكر أن السبب في ذلك كان أن الأتراك طلبوا أرزاقهم، وأنهم جعلوا ذلك سببا لما كان من أمرهم، وأن الرسل لم تزل تختلف بينهم وبين هؤلاء الكتاب، إلى أن قال أبو نوح لصالح بن وصيف: هذا تدبيرك على الخليفة، فغشي على صالح حينئذ مما داخله من الحرد والغيظ حتى رشوا على وجهه الماء، فلما أفاق جرى بين يدي المعتز كلام كثير، ثم خرجوا إلى الصلاة، وخلا صالح بالمعتز، ثم دعي بالقوم فلم يلبثوا إلا قليلا، حتى أخرجوا إلى قبة في الصحن، ثم دعي بأبي نوح وابن مخلد فأخذت سيوفهما وقلانسهما ومزقت ثيابهما، وحلقهما ابن إسرائيل فألقى نفسه عليهما، فثلث به، ثم أخرجوا إلى الدهليز وحملوا على الدواب والبغال، وارتدف خلف كل واحد منهم تركي، وبعث بهم إلى دار صالح على طريق الحير، وانصرف صالح بعد ساعة، وتفرق الأتراك، فانصرفوا فلما كان بعد ذلك بأيام جعل في رجل كل واحد منهم ثلاثون رطلا، وفي عنق كل واحد منهم عشرون رطلا من حديد، وطولبوا بالأموال، فلم يجب واحد منهم إلى شيء، ولم ينقطع أمرهم إلى أن دخل رجب، فوجهوا في قبض ضياعهم ودورهم وضياع أسبابهم وأموالهم، وسموا الكتاب الخونة، فقدم جعفر بن محمود يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الآخرة فولي الأمر والنهي.
ولليلتين خلتا من رجب ظهر بالكوفة عيسى بن جعفر وعلي بن زيد الحسنيان، فقتلا بها عبد الله بن محمد بن داود بن عيسى

(9/388)


ذكر الخبر عن خلع المعتز ثم موته
ولثلاث بقين من رجب منها خلع المعتز ولليلتين خلتا من شعبان أظهر موته، وكان سبب خلعه- فيما ذكر- ان الكتاب الذى ذكرنا أمرهم، لما فعل بهم الأتراك ما فعلوا، ولم يقروا لهم بشيء، صاروا إلى المعتز يطلبون أرزاقهم، وقالوا له: أعطنا أرزاقنا حتى نقتل لك صالح بن وصيف، فأرسل المعتز الى أمه يسألها ان تعطيه ما لا ليعطيهم، فأرسلت إليه: ما عندي شيء، فلما رأى الأتراك ومن بسامرا من الجند أن قد امتنع الكتاب من أن يعطوهم شيئا، ولم يجدوا في بيت المال شيئا، والمعتز وأمه قد امتنعا من أن يسمحا لهم بشيء، صارت كلمة الأتراك والفراغنة والمغاربة واحدة، فاجتمعوا على خلع المعتز، فصاروا إليه لثلاث بقين من رجب، فذكر بعض أسباب السلطان أنه كان في اليوم الذي صاروا إليه عند نحرير الخادم في دار المعتز، فلم يرعه إلا صياح القوم من أهل الكرخ والدور، وإذا صالح بن وصيف وبايكباك ومحمد بن بغا المعروف بأبي نصر، قد دخلوا في السلاح، فجلسوا على باب المنزل الذي ينزله المعتز، ثم بعثوا إليه: اخرج إلينا، فبعث إليهم: إني أخذت الدواء أمس، وقد أجفلني اثنتي عشرة مرة، ولا أقدر على الكلام من الضعف، فإن كان أمرا لا بد منه، فليدخل إلي بعضكم فليعلمني وهو يرى أن أمره واقف على حاله فدخل إليه جماعة من أهل الكرخ والدور من خلفاء القواد، فجروا برجله إلى باب الحجرة، قال: وأحسبهم كانوا قد تناولوه بالضرب بالدبابيس، فخرج وقميصه مخرق في مواضع، وآثار الدم على منكبه، فأقاموه في الشمس في الدار في وقت شديد الحر قال: فجعلت أنظر إليه يرفع قدمه ساعة بعد ساعة من حرارة الموضع الذي قد أقيم فيه قال: فرأيت بعضهم يلطمه وهو يتقي بيده، وجعلوا يقولون: اخلعها، فأدخلوه حجرة على باب حجرة المعتز كان موسى بن بغا يسكنها حين كان حاضرا، ثم بعثوا

(9/389)


إلى ابن أبي الشوارب، فأحضروه مع جماعة من أصحابه، فقال له صالح وأصحابه: أكتب عليه كتاب خلع، فقال: لا أحسنه، وكان معه رجل أصبهاني، فقال: أنا أكتب، فكتب وشهدوا عليه وخرجوا وقال ابن أبي الشوارب لصالح: قد شهدوا أن له ولأخته وابنه وأمه الأمان، فقال صالح بكفه: أي نعم، ووكلوا بذلك المجلس وبامه نساء يحفظنها.
فذكر أن قبيحة كانت اتخذت في الدار التي كانت فيها سربا، وأنها احتالت هي وقرب وأخت المعتز، فخرجوا من السرب، وكانوا أخذوا عليها الطرق، ومنعوا الناس أن يجوزوا من يوم فعلوا بالمعتز ما فعلوا، وذلك يوم الاثنين الى يوم الأربعاء ليله بقيت من رجب.
فذكر أنه لما خلع دفع إلى من يعذبه ومنع الطعام والشراب ثلاثة أيام، فطلب حسوة من ماء البئر، فمنعوه ثم جصصوا سردابا بالجص الثخين، ثم أدخلوه فيه، وأطبقوا عليه بابه، فأصبح ميتا.
وكانت وفاته لليلتين خلتا من شعبان من هذه السنة فلما مات أشهد على موته بنو هاشم والقواد، وأنه صحيح لا أثر فيه، فدفن مع المنتصر في ناحية قصر الصوامع، فكانت خلافته من يوم بويع له بسامرا إلى أن خلع أربع سنين وستة أشهر وثلاثة وعشرين يوما وكان عمره كله أربعا وعشرين سنة.
وكان أبيض أسود الشعر كثيفه، حسن العينين والوجه، ضيق الجبين، أحمر الوجنتين، حسن الجسم، طويلا.
وكان مولده بسامرا

(9/390)


خلافة ابن الواثق المهتدي بالله
وفي يوم الأربعاء لليلة بقيت من رجب من هذه السنة، بويع محمد بن الواثق، فسمي بالمهتدي بالله، وكان يكنى أبا عبد الله، وأمه رومية، وكانت تسمى قرب.
وذكر عن بعض من كان شاهدا أمرهم، أن محمد بن الواثق لم يقبل بيعة أحد، حتى أتي بالمعتز فخلع نفسه، وأخبر عن عجزه عن القيام بما أسند إليه، ورغبته في تسليمها إلى محمد بن الواثق، وأن المعتز مد يده فبايع الواثق، فسموه بالمهتدي، ثم تنحى وبايع خاصة الموالي.
وكانت نسخة الرقعة بخلع المعتز نفسه:
بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما أشهد عليه الشهود المسمون في هذا الكتاب، شهدوا ان أبا عبد الله بن أمير المؤمنين المتوكل على الله أقر عندهم، وأشهدهم على نفسه في صحة من عقله، وجواز من أمره، طائعا غير مكره، أنه نظر فيما كان تقلده من أمر الخلافة والقيام بأمور المسلمين، فرأى أنه لا يصلح لذلك، ولا يكمل له، وأنه عاجز عن القيام بما يجب عليه منها، ضعيف عن ذلك، فأخرج نفسه، وتبرأ منها، وخلعها من رقبته، وخلع نفسه منها، وبرأ كل من كانت له في عنقه بيعة من جميع أوليائه وسائر الناس مما كان له في رقابهم من البيعة والعهود والمواثيق والإيمان بالطلاق والعتاق والصدقة والحج وسائر الأيمان، وحللهم من جميع ذلك وجعلهم في سعة منه في الدنيا والآخرة، بعد أن تبين له أن الصلاح له وللمسلمين في خروجه عن الخلافة والتبرؤ منها، وأشهد على نفسه بجميع ما سمي، ووصف في هذا الكتاب جميع الشهود المسمين فيه، وجميع من حضر، بعد أن قرئ عليه حرفا حرفا، فأقر بفهمه ومعرفته جميع ما فيه طائعا غير مكره، وذلك يوم الاثنين لثلاث بقين من رجب سنة

(9/391)


خمس وخمسين ومائتين.
فوقع المعتز في ذلك: أقر أبو عبد الله بجميع ما في هذا الكتاب، وكتب بخطه.
وكتب الشهود شهاداتهم: شهد الحسن بن محمد ومحمد بن يحيى واحمد ابن جناب ويحيى بن زكرياء بن أبي يعقوب الأصبهاني وعبد الله بن محمد العامري وأحمد بن الفضل بن يحيى وحماد بن إسحاق وعبد الله بن محمد وابراهيم ابن محمد، وذلك يوم الاثنين لثلاث بقين من رجب سنه خمس وخمسين ومائتين.

قيام الشغب ببغداد ووثوب العامه بسليمان بن عبد الله
وفي سلخ رجب من هذه السنة، كان ببغداد شغب ووثوب العامة بسليمان بن عبد الله بن طاهر.
ذكر الخبر عن سبب ذلك وإلى ما آل الأمر إليه:
وكان السبب في ذلك، أن الكتاب من محمد بن الواثق ورد يوم الخميس سلخ رجب على سليمان ببغداد ببيعة الناس له، وبها أبو أحمد بن المتوكل، وكان أخوه المعتز سيره إلى البصرة حين سخط على أخيه من أمه المؤيد، فلما وقعت العصبية بالبصرة نقله إلى بغداد، فكان مقيما بها، فبعث سليمان بن عبد الله بن طاهر وإليه الشرطة يومئذ ببغداد، فأحضره داره، وسمع من ببغداد من الجند والغوغاء بأمر المعتز وابن الواثق، فاجتمعوا إلى باب سليمان، وضجوا هنالك، ثم انصرفوا على أنه قيل لهم: لم يرد علينا من الخبر ما نعلم به ما عمل به القوم، فغدوا يوم الجمعة على ذلك من الصياح والقول الذي كان قيل لهم يوم الخميس، وصلى الناس في المسجدين، ودعي فيهما للمعتز، فلما كان يوم السبت غدا القوم، فهجموا على دار سليمان، وهتفوا باسم أبي أحمد، ودعوا إلى بيعته، وخلصوا إلى سليمان في داره، وسألوه أن يريهم أبا احمد

(9/392)


ابن المتوكل، فأظهره لهم، ووعدهم المصير إلى محبتهم إن تأخر عنهم ما يحبون، فانصرفوا عنه بعد أن أكدوا عليه في حفظه.
وقدم يارجوخ فنزل البردان ومعه ثلاثون ألف دينار لإعطاء الجند ممن بمدينة السلام، ثم صار إلى الشماسية، ثم غدا ليدخل بغداد، فبلغ الناس الخبر، فضجوا وتبادروا بالخروج إليه، وبلغ يارجوخ الخبر، فرجع إلى البردان، فأقام بها، وكتب إلى السلطان، واختلفت الكتب حتى وجه إلى أهل بغداد بمال رضوا به، ووقعت بيعة الخاصة ببغداد للمهتدي يوم الخميس لسبع ليال خلون من شعبان، ودعي له يوم الجمعة لثمان خلون من شعبان بعد أن كانت ببغداد فتنة، قتل فيها وغرق في دجلة قوم، وجرح آخرون لأن سليمان كان يحفظ داره قوم من الطبرية بالسلاح، فحاربهم أهل بغداد في شارع دجلة وعلى الجسر، ثم استقام الأمر بعد ذلك وسكنوا.

ذكر خبر ظهور قبيحه أم المعتز
وفي شهر رمضان من هذه السنة ظهرت قبيحة للأتراك، ودلتهم على الأموال التي عندها والذخائر والجوهر، وذلك أنها- فيما ذكر- قد قدرت الفتك بصالح، وواطأت على ذلك النفر من الكتاب الذين أوقع بهم صالح، فلما أوقع بهم صالح، وعلمت أنهم لم يطووا عن صالح شيئا من الخبر بسبب ما نالهم من العذاب، أيقنت بالهلاك، فعملت في التخلص، فأخرجت ما في الخزائن داخل الجوسق من الأموال والجواهر وفاخر المتاع، فأودعت ذلك كله مع ما كانت أودعت قبل ذلك مما هو في هذا المعنى، ثم لم تأمن المعاجلة إلى ما نزل بها وبابنها، فاحتالت للهرب وجها، فحفرت سربا من داخل القصر من حجرة لها خاصة ينفذ إلى موضع يفوت التفتيش، فلما علمت

(9/393)


بالحادثة بادرت من غير تلبث ولا تلوم، حتى صارت في ذلك السرب، ثم خرجت من القصر، فلما فرغ الذين شغبوا في أمر ابنها مما أرادوا إحكامه، فصاروا إلى طلبها غير شاكين في القدرة عليها، وجدوا القصر منها خاليا، وأمرها عنهم مستترا، لا يقفون منه على شيء، ولا ما يؤديهم إلى معرفته، حتى وقفوا على السرب، فعلموا حينئذ أنهم منه أوتوا فسلكوه، وانتهوا إلى موضع لا يوقف منه على خبر ولا أثر، فأيقنوا بالفوت، ثم رجموا الظنون، فلم يجدوا لها معقلا أعز ولا أمنع إن هي لجأت إليه من حبيب حرة موسى بن بغا التي تزوجها من جواري المتوكل، فأحالوا على تلك الناحية، وكرهوا التعرض لشيء من أسبابها، ووضعوا العيون والأرصاد عليها، وأظهروا التوعد لمن وقفوا على معرفته بأمرها، ثم لم يظهرهم عليها، فلم يزل الأمر منطويا عنهم، حتى ظهرت في شهر رمضان، وصارت إلى صالح بن وصيف، ووسطت بينها وبين صالح العطارة، وكانت تثق بها، وكانت لها أموال ببغداد، فكتبت في حملها، فاستخرج وحمل منها إلى سامرا فذكر أنه وافى سامرا يوم الثلاثاء لإحدى عشرة ليلة خلت من شهر رمضان من هذه السنه قدر خمسمائة ألف دينار، ووقعوا لها على خزائن ببغداد فوجه في حملها، فاستخرج وحمل منها، فحمل إلى السلطان من ذلك متاع كثير، وأحيل من ببغداد من الجند والشاكرية المرتزقة بمال عظيم عليه ولم تزل تباع تلك الخزائن متصلا ببغداد وسامرا عده شهور، حتى نفدت.
ولم تزل قبيحة مقيمة إلى أن شخص الناس إلى مكة في هذه السنة، فسيرت إليها مع رجاء الربابى ووحش مولى المهتدي، فذكر عمن سمعها في طريقها وهي تدعو الله على صالح بن وصيف بصوت عال وتقول: اللهم اخز صالح ابن وصيف، كما هتك ستري، وقتل ولدي، وبدد شملي، وأخذ مالي، وغربني عن بلدي، وركب الفاحشة مني! فانصرف الناس عن الموسم واحتبست بمكة.
وذكر أن الأتراك لما تحركوا، وثاروا بالمعتز أرسلوا إليه يطلبون منه خمسين

(9/394)


ألف دينار، على أن يقتلوا صالحا، ويستوي لهم الأمر فأرسل إلى أمه يعلمها اضطرابهم عليه، وأنه خائف على نفسه منهم، فقالت: ما عندي مال، وقد وردت لنا سفاتج، فلينتظروا حتى نقبض ونعطيهم، فلما قتل المعتز، أرسل صالح إلى رجل جوهري قال الرجل: فدخلت إليه وعنده احمد ابن خاقان، فقال: ويحك! هو ذا ترى ما أنا فيه! وكان صالح قد أخافوه وطالبوه بالمال، ولم يكن عنده شيء، فقال لي: قد بلغني أن لقبيحة خزانة في موضع يرشدك إليه هذا الرجل- وإذا رجل بين يديه- فامض ومعك احمد ابن خاقان، فإن أصبتم شيئا فاثبته عندك، وسلمه إلى أحمد بن خاقان، وصر إلي معه قال: فمضيت إلى الصفوف بحضرة المسجد الجامع، فجاء بنا ذلك الرجل إلى دار صغيرة معمورة نظيفة، فدخلنا ففتشنا كل موضع فيها فلم نجد شيئا، وجعل ذلك يغلظ على أحمد بن خاقان، وهو يتهدد الرجل ويتوعده، ويغلظ له، وأخذ الرجل فاسا ينقر به الحيطان يطلب موضعا قد ستر فيه المال، فلم يزل كذلك حتى وقع الفأس على مكان في الحائط استدل بصوته على أن فيه شيئا، فهدمه وإذا من ورائه باب، ففتحناه ودخلنا إليه، فأدانا إلى سرب، وصرنا إلى دار تحت الدار التي دخلناها على بنائها وقسمتها، فوجدنا من المال على رفوف في أسفاط زهاء ألف ألف دينار، فأخذ أحمد منها ومن كان معه قدر ثلاثمائة ألف دينار، ووجدنا ثلاثة أسفاط: سفطا فيه مقدار مكوك زمرد إلا أنه من الزمرد الذي لم أر للمتوكل مثله ولا لغيره، وسفطا دونه فيه نصف مكوك حب كبار، لم أر والله للمتوكل ولا لغيره مثله، وسفطا دونه فيه مقدار كيلجة ياقوت أحمر لم أر مثله، ولا ظننت أن مثله يكون في الدنيا، فقومت الجميع على البيع، فكانت قيمته ألفي ألف دينار، فحملناه كله إلى صالح، فلما رآه جعل لا يصدق ولا يوقن حتى أحضر بحضرته ووقف عليه، فقال عند ذلك:
فعل الله بها وفعل، عرضت ابنها للقتل في مقدار خمسين ألف دينار، وعندها مثل هذا في خزانة واحدة من خزائنها!

(9/395)


وكانت أم محمد بن الواثق توفيت قبل أن يبايع، وكانت تحت المستعين، فلما قتل المستعين صيرها المعتز في قصر الرصافة الذي فيه الحرم، فلما ولي الخلافة المهتدي قال يوما لجماعة من الموالي: أما أنا فليس لي أم أحتاج لها إلى غلة عشرة آلاف ألف في كل سنة لجواريها وخدمها والمتصلين بها، وما أريد لنفسي وولدي إلا القوت، وما أريد فضلا إلا لإخوتي فإن الضيقه قد مستهم
. ذكر الخبر عن قتل احمد بن إسرائيل وابى نوح
ولثلاث بقين من رمضان من هذه السنة قتل أحمد بن إسرائيل وأبو نوح.
ذكر الخبر عن صفة القتلة التي قتلا بها:
فأما السبب الذي أداهما إلى القتل، فقد ذكرناه قبل، وأما القتلة التي قتلا بها، فإنه ذكر أن صالح بن وصيف لما استصفى أموالهما ومال الحسن ابن مخلد، وعذبهم بالضرب والقيد وقرب كوانين الفحم في شدة الحر منهم، ومنعهم كل راحة، وهم في يده على حالهم، ونسبهم إلى أمور عظام من الخيانة والقصد لذل السلطان والحرص على دوام الفتن والسعي في شق عصا المسلمين، فلم يعارضه المهتدي في شيء من أمورهم، ولم يوافقه على شيء أنكره من فعله بهم ثم وجه إليهم الحسن بن سليمان الدوشابي في شهر رمضان، ليتولى استخراج شيء إن كان زوي عنه من أموالهم.
قال: فأخرج إلي أحمد بن إسرائيل، فقلت له: يا فاجر، تظن أن الله يمهلك، وأن أمير المؤمنين لا يستحل قتلك، وأنت السبب في الفتن، والشريك في الدماء، مع عظيم الخيانة وفساد النية والطوية! إن في أقل من هذا ما تستوجب به المثلة كما استوجب من كان قبلك، والقتل في العاجلة والعذاب

(9/396)


والخزي في الآجلة، إن لم تسعد من الله بعفو وإمهال، ومن إمامك بصفح واحتمال، فاستر نفسك من نزول ما تستحق بالصدق عما عندك من المال، فإنك إن تفعل ويوقف على صدقك تسلم بنفسك قال: فذكر أنه لا شيء عنده، ولا ترك له إلى هذا الوقت مال ولا عقدة قال: فدعوت بالمقارع وأمرت أن يقام في الشمس، وأرعدت وأبرقت، وإن كان ليفوتني الظفر منه بشيء من صرامة ورجلة حتى أومى إلى قدر تسعة عشر ألف دينار، فأخذت رقعته بها قال: ثم أحضرت أبا نوح عيسى بن إبراهيم فقلت له مثل الذي قلت لأحمد أو نحوه، وزدت في ذلك بأن قلت: وأنت مع هذا مقيم على دينك النصرانية، مرتكب فروج المسلمات تشفيا من الإسلام وأهله! ولا دلالة أدل على ذلك ممن لم يزل في منزلك على حال النصرانية من أهل وولد، ومن كان ذا عقدة فقد أباح الله دمه.
قال: فلم يجب إلى شيء، وأظهر ضعفا وفقرا.
قال: وأما الحسن بن مخلد فأخرجته، فلما خاطبته خاطبت رجلا موضعا رخوا، قال: فبكته بما ظهر منه، وقلت: من كان له الراضة بين يديه إذا سار على الشهاري وقدر ما قدرت، وأراد ما أردت، لم يكن موضعا رطبا ولا مخنثا رخوا قال: ولم أزل به حتى كتب رقعة بجوهر قيمته نيف وثلاثون ألف دينار، قال: وردوا جميعا إلى موضعهم، وانصرفت.
فكانت مناظرة الحسن بن سليمان الدوشابي لهم آخر مناظرة كانت معهم، ولم يناظروا أيام المهتدي فيما بلغني مناظرة غيرها.
فلما كان يوم الخميس لثلاث بقين من شهر رمضان أخرج أحمد بن إسرائيل وأبو نوح عيسى بن إبراهيم إلى باب العامة، فقعد صالح بن وصيف

(9/397)


في الدار، ووكل بضربهما حماد بن محمد بن حماد بن دنقش، فأقام أحمد بن إسرائيل وابن دنقش يقول: أوجع، وكان كل جلاد يضربه سوطين، وينتحى حتى وفوه خمسمائة سوط ثم أقاموا أبا نوح أيضا فضرب خمسمائة سوط ضرب التلف، ثم حملا على بغلين من بغال السقائين على بطونهما، منكسة رءوسهما، ظاهرة ظهورهما للناس فأما أحمد فحين بلغ خشبة بابك مات، وحين وصلوا بأبي نوح مات، فدفن أحمد بين الحائطين ويقال إن أبا نوح مات من يومه في حبس السرخسي خليفة طلمجور على شرط الخاصة، وبقي الحسن بن مخلد في الحبس.
وذكر عن بعض من حضر أنه قال: لقد رأيت حماد بن محمد بن حماد بن دنقش وهو يقول للجلادين: أنفسكم يا بني الفاعلة- لا يكني- ويقول: أوجعوا وغيروا السياط، وبدلوا الرجال، وأحمد بن إسرائيل وعيسى يستغيثان، فذكر أن المهتدي لما بلغه ذلك قال: أما عقوبة إلا السوط أو القتل! أما يقوم مقام هذا شيء! أما يكفي! إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، يقول ذلك ويسترجع مرارا.
وذكر عن الحسن بن مخلد أنه قال: لم يكن الأمر فينا عند صالح إذا لم يحضره عبد الله بن محمد بن يزداد على ما كان يكون عليه من الغلظة إذا حضر قال: وكان يقول لصالح: اضرب وعذب فإن الأصلح من وراء ذلك القتل، فإنهم إن أفلتوا لم تؤمن بوائقهم في الأعقاب، فضلا عن الواترين، ويذكره قبيح ما بلغه عنهم وكان يسر بذلك.
قال: وكان داود بن ابى العباس الطوسي يحضرنا عند صالح فيقول:
وما هؤلاء، أعزك الله، فبلغ منك الغضب بسببهم هذا المبلغ! فظنه يرققه علينا حتى يقول: على أني والله أعلم انهم ان تخلصوا انتشر منهم شر كبير وفساد في الإسلام عظيم، فينصرف وقد أفتاه بقتلنا، وأشار عليه بإهلاكنا،

(9/398)


فيزداد برأيه وما قال له علينا غيظا، وإلى الإساءة بنا أنسا، فسئل بعض من كان يخبر أمرهم: كيف نجا الحسن بن مخلد مما صلي به صاحباه؟ فقال:
بخصلتين، إحداهما أنه صدقه عن الخبر في أول وهله واوجد الدلائل على ما قاله له أنه حق، وقد كان وعده العفو إن صدقه، وحلف له على ذلك، والأخرى أن أمير المؤمنين كلمه فيه وأعلمه حرمة أهله به، وأوما إلى محبته لإصلاح شأنه، فرده عن عظيم المكروه فيه، وقد كنت أرى أنه لو طالت لصالح مدة وهو في يده، أطلقه واصطنعه، ولم يكن صالح بن وصيف اقتصر في أمر الكتاب على أخذ أموالهم وأموال أولادهم، حتى أخاف أسبابهم وقراباتهم بأخذ أموالهم، وتخطى الى المتصلين بهم
. شغب الجند والعامه ببغداد وولايه سليمان بن عبد الله بن طاهر عليها
ولثلاث عشرة خلت من شهر رمضان منها فتح السجن ببغداد، ووثبت الشاكرية والنائبة ببغداد من جندها بمحمد بن أوس البلخي: ذكر الخبر عن سبب ذلك وما آل الأمر إليه فيه:
ذكر أن السبب في ذلك كان أن محمد بن أوس، قدم بغداد مع سليمان ابن عبد الله بن طاهر وهو على الجيش القادمين من خراسان مع سليمان والصعاليك الذين تألفهم سليمان بالري، ولم تكن أسماؤهم في ديوان السلطان بالعراق، ولا أمر سليمان فيهم بشيء، وكانت السنة فيهم أن يقام لمن قدم معه من خراسان بالعراق حسب ما يقام بخراسان لنظرائهم من مال ضياع ورثة ذي اليمينين، ويكتب بذلك إلى خراسان ليعارض الورثه هناك من مال العامة، بدل ما كان دفع من مالهم بالعراق فلما قدم سليمان بن عبد الله العراق، وجد بيت مال الورثة فارغا وعبيد الله بن عبد الله بن طاهر قد تقدم عند ما صح عنده من الخبر بتصيير الأمر فيما كان يتولاه إلى أخيه سليمان بن عبد الله،

(9/399)


فأخذ ما كان حاصلا لورثة أبيه وجده في بيت ما لهم، واستسلف على ما لم يرتفع، وتعجل من المتقبلين اموال نجوم لم تحل حتى استنظفت ذلك أجمع، وشخص فأقام بالجويث في شرقي دجلة، ثم عبر حتى صار في غربيها، فضاقت بسليمان الدنيا، وتحرك الشاكرية والجند في طلب الأرزاق، وكتب سليمان إلى أبي عبد الله المعتز بذلك وقدر أموالهم، وأدخل في المال تقدير القادمين معه، ووجه محمد بن عيسى بن عبد الرحمن الكاتب الخراساني كاتبه في ذلك فأجيب بعد مناظرات إلى أن سبب له على عمال السواد مال صودر عليه لطمع من بمدينة السلام وشحن السواد لا يقوم بما يجب للنائبة فضلا عن القادمين مع النائبة، فلم يتهيأ لسليمان الوصول إلى شيء من المال، وقدم ابن أوس والصعاليك وأصحابه، فقصر المال عنه وعمن كان يقدر وصوله إليه من النائبة، فوقفوا على ذلك وعلى السبب المضر بهم فيه وكان القادمون مع سليمان من الصعاليك وغيرهم لما قدموا بغداد أساءوا المجاورة لأهلها، وجاهروا بالفاحشة، وتعرضوا للحرم والعبيد والغلمان، وعادوهم لمكانهم من السلطان، حتى امتلئوا عليهم غيظا وحنقا وقد كان سليمان بن عبد الله وحر على الحسين بن إسماعيل بن إبراهيم بن مصعب بن رزيق، لمكانه كان من عبيد الله بن عبد الله بن طاهر ونصرته له وكفايته، وانصرافه عن سليمان وأسبابه فلما انصرف الحسين ابن إسماعيل إلى بغداد بعقب ما كان يتولاه لعبيد الله من أمر الجند والشاكرية، فحبس كاتبه في المطبق وحاجبه في سجن باب الشام، ووكل بباب الحسين ابن إسماعيل جندا من قبل إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم، لأن سليمان ولى إبراهيم ما كان الحسين بن إسماعيل يتولاه لعبيد الله من أمر جسري بغداد وطساسيج قطربل ومسكن والأنبار، فلما حدث ما حدث من بيعة المهتدي وشغب الجند والشاكرية بمدينة السلام، ووقعت الحرب في تلك الأيام، شد محمد ابن أوس على رجل من المراوزة، كان من الشيعة، فضربه في دار سليمان ثلاثمائة==

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كتاب الرد علي كتاب الناسخ والمنسوخ عند القرآنيين وإنكارهم له/ دكتور عبد الغفار سليمان البنداري

الرد علي الناسخ والمنسوخ كتاب الناسخ والمنسوخ وانكار القرآنيين كتاب الرد علي كتاب الناسخ والمنسوخ عند القرآنيين وإنكارهم له بقلم وتعليق...