1. تاريخ الطبري = تاريخ الرسل والملوك، وصلة تاريخ الطبري
رابط التحميل من المشكاة
http://www.almeshkat.net/books/archive/books/altabri221.rar
المؤلف: محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري
(المتوفى: 310هـ)
الجزء الأول
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله الأول قبل كل أول، والآخر بعد كل آخر، والدائم بلا زوال، والقائم على كل
شيء بغير انتقال، والخالق خلقه من غير اصل ولا مثال، فهو الفرد الواحد من غير عدد،
وهو الباقي بعد كل أحد، إلى غير نهاية ولا أمد له الكبرياء والعظمه، والبهاء
والعزه، والسلطان والقدرة، تعالى عن أن يكون له شريك في سلطانه او في وحدانيته
نديد، أو في تدبيره معين أو ظهير، أو أن يكون له ولد، أو صاحبه او كفء أحد، لا
تحيط به الأوهام، ولا تحويه الأقطار، ولا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ، وهو يدرك
الأبصار، وهو اللطيف الخبير.
أحمده على آلائه، وأشكره على نعمائه، حمد من أفرده بالحمد، وشكر من رجا بالشكر منه
المزيد، وأستهديه من القول والعمل لما يقربني منه ويرضيه، وأومن به إيمان مخلص له
التوحيد، ومفرد له التمجيد.
وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده
النجيب، ورسوله الأمين، اصطفاه لرسالته، وابتعثه بوحيه، داعيا خلقه إلى عبادته،
فصدع بأمره، وجاهد في سبيله، ونصح لأمته، وعبده حتى أتاه اليقين من عنده، غير مقصر
في بلاغ، ولا وان في جهاد، صلى الله عليه أفضل صلاة وأزكاها، وسلم
(1/3)
أما بعد، فإن الله جل جلاله،
وتقدست أسماؤه، خلق خلقه من غير ضرورة كانت به إلى خلقهم، وأنشأهم من غير حاجة
كانت به إلى إنشائهم، بل خلق من خصه منهم بامره ونهيه، وامتحنه بعبادته، ليعبدوه
فيجود عليهم بنعمه، وليحمدوه على نعمه فيزيدهم من فضله ومننه، ويسبغ عليهم فضله
وطوله، كما قال عز وجل: «وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ
مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ
هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ» .
فلم يزده خلقه إياهم- إذ خلقهم- في سلطانه على ما لم يزل قبل خلقه إياهم مثقال
ذرة، ولا هو إن أفناهم واعدمهم ينقصه افناؤه إياهم ميزان شعره، لأنه لا تغيره
الأحوال، ولا يدخله الملال، ولا ينقص سلطانه الأيام والليال، لأنه خالق الدهور
والأزمان، فعم جميعهم في العاجل فضله وجوده، وشملهم كرمه وطوله، فجعل لهم أسماعا
وأبصارا وأفئدة، وخصهم بعقول يصلون بها الى التمييز بين الحق والباطل، ويعرفون بها
المنافع والمضار، وجعل لهم الأرض بساطا ليسلكوا منها سبلا فجاجا، والسماء سقفا
محفوظا، وبناء مسموكا، وأنزل لهم منها الغيث بالإدرار، والأرزاق بالمقدار، واجرى
لهم فيها قمر الليل وشمس النهار يتعاقبان بمصالحهم دائبين، فجعل لهم الليل لباسا،
والنهار معاشا، وخالف- منًّا مِنْه عليهم وتطولا- بين قمر الليل وشمس النهار، فمحا
آية الليل وجعل آية النهار مبصرة، كما قال جل جلاله وتقدست أسماؤه: «وَجَعَلْنَا
اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ
النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا
(1/4)
مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا
عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا» .
وليصلوا بذلك إلى العلم بأوقات فروضهم التي فرضها عليهم في ساعات الليل والنهار
والشهور والسنين، من الصلوات والزكوات والحج والصيام وغير ذلك من فروضهم، وحين حل
ديونهم وحقوقهم، كما قال عز وجل: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ
مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ» ، وقال: «هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً
وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ
وَالْحِسابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ
لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ
اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ» .
إنعاما منه بكل ذلك على خلقه، وتفضلا منه به عليهم وتطولا، فشَكَره على نعمه التي
أنعمها عليهم من خلقه خَلْق عظيم، فزاد كثيرا منهم من آلائه وأياديه، على ما
ابتدأهم به من فضله وطوله، كما وعدهم جل جلاله بقوله: «وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ
لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ»
، وجمع لهم الى الزيادة التي زادهم في عاجل دنياهم، الفوز بالنعيم المقيم، والخلود
في جنات النعيم، في آجل آخرتهم وأخر لكثير منهم الزيادة التي وعدهم فمدهم الى حين
مصيرهم اليه ووقت قدومهم عليه، توفيرا منه كرامته عليهم يوم تبلى السرائر وكفر
نعمه خلق منهم عظيم، فجحدوا آلاءه وعبدوا سواه، فسلب كثيرا منهم ما ابتدأهم به من
الفضل والإحسان، وأحل
(1/5)
بهم النقمة المهلكة في العاجل،
وذخر لهم العقوبة المخزية في الآجل، ومتع كثيرا منهم بنعمه ايام حياتهم استدراجا
منه لهم، وتوقيرا منه عليهم أوزارهم، ليستحقوا من عقوبته في الآجل ما قد أعد لهم.
نعوذ بالله من عمل يقرب من سخطه، ونسأله التوفيق لما يدني من رضاه ومحبته.
قال أبو جعفر: وأنا ذاكر في كتابي هذا من ملوك كل زمان، من لدن ابتدأ ربنا جل
جلاله خلق خلقه إلى حال فنائهم، من انتهى إلينا خبره ممن ابتدأه الله تعالى بآلائه
ونعمه فشكر نعمه، من رسول له مرسل، أو ملك مسلط، أو خليفة مستخلف، فزاده إلى ما
ابتدأه به من نعمه في العاجل نعما، وإلى ما تفضل به عليه فضلا، ومن أخر ذلك له
منهم، وجعله له عنده ذخرا ومن كفر منهم نعمه فسلبه ما ابتدأه به من نعمه، وعجل له
نقمه ومن كفر منهم نعمه فمتعه بما أنعم به عليه إلى حين وفاته وهلاكه، مقرونا ذكر
كل من أنا ذاكره منهم في كتابي هذا بذكر زمانه، وجمل ما كان من حوادث الأمور في
عصره وأيامه، إذ كان الاستقصاء في ذلك يقصر عنه العمر، وتطول به الكتب، مع ذكري مع
ذلك مبلغ مدة أكله، وحين أجله، بعد تقديمي أمام ذلك ما تقديمه بنا أولى، والابتداء
به قبله أحجى، من البيان عن الزمان: ما هو؟ وكم قدر جميعه، وابتداء أوله، وانتهاء
آخره؟ وهل كان قبل خلق الله تعالى إياه شيء غيره؟ وهل هو فان؟ وهل بعد فنائه شيء
غير وجه المسبح الخلاق، تعالى ذكره؟
وما الذي كان قبل خلق الله إياه؟ وما هو كائن بعد فنائه وانقضائه؟ وكيف
(1/6)
كان ابتداء خلق الله تعالى
إياه؟ وكيف يكون فناؤه؟ والدلالة على أن لا قديم إلا الله الواحد القهار، الذي له
ملك السموات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى بوجيز من الدلالة غير طويل، إذ لم
نقصد بكتابنا هذا قصد الاحتجاج لذلك، بل لما ذكرنا من تاريخ الملوك الماضين وجمل
من أخبارهم، وأزمان الرسل والأنبياء ومقادير أعمارهم، وأيام الخلفاء السالفين وبعض
سيرهم، ومبالغ ولاياتهم، والكائن الذي كان من الأحداث في أعصارهم ثم أنا متبع آخر
ذلك كله- إن شاء الله وأيد منه بعون وقوة- ذكر صحابه نبينا محمد ص وأسمائهم وكناهم
ومبالغ أنسابهم ومبالغ أعمارهم، ووقت وفاة كل إنسان منهم، والموضع الذي كانت به
وفاته ثم متبعهم ذكر من كان بعدهم من التابعين لهم بإحسان، على نحو ما شرطنا من
ذكرهم ثم ملحق بهم ذكر من كان بعدهم من الخلف لهم كذلك، وزائد في أمورهم للإبانة
عمن حمدت منهم روايته، وتقبلت أخباره، ومن رفضت منهم روايته ونبذت أخباره، ومن وهن
منهم نقله، وضعف خبره وما السبب الذي من أجله نبذ من نبذ منهم خبره، والعلة التي
من أجلها وهن من وهن منهم نقله.
وإلى الله عز وجل أنا راغب في العون على ما أقصده وأنويه، والتوفيق لما ألتمسه
وأبغيه، فإنه ولي الحول والقوة، وصلى الله على محمد نبيه وآله وسلم تسليما.
وليعلم الناظر في كتابنا هذا أن اعتمادي في كل ما أحضرت ذكره فيه مما شرطت أني
راسمه فيه، إنما هو على ما رويت من الأخبار التي أنا ذاكرها فيه، والآثار التي أنا
مسندها إلى رواتها فيه، دون ما أدرك بحجج العقول، واستنبط
(1/7)
بفكر النفوس، إلا اليسير القليل منه، إذ كان العلم بما كان من أخبار الماضين، وما هو كائن من أنباء الحادثين، غير واصل إلى من لم يشاهدهم ولم يدرك زمانهم، إلا بأخبار المخبرين، ونقل الناقلين، دون الاستخراج بالعقول، والاستنباط بفكر النفوس فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه، أو يستشنعه سامعه، من أجل أنه لم يعرف له وجها في الصحة، ولا معنى في الحقيقة، فليعلم انه لم يؤت في ذلك من قبلنا، وإنما أتى من قبل بعض ناقليه إلينا، وإنا إنما أدينا ذلك على نحو ما أدي إلينا
(1/8)
القول في الزمان ما هو
قال ابو جعفر: فالزمان هو ساعات الليل والنهار، وقد يقال ذلك للطويل من المدة والقصير
منها، والعرب تقول: أتيتك زمان الحجاج أمير، وزمن الحجاج أمير- تعني به: إذ الحجاج
أمير وتقول: اتيتك زمان الصرام وزمن الصرام- تعني به وقت الصرام ويقولون أيضا:
أتيتك أزمان الحجاج أمير، فيجمعون الزمان، يريدون بذلك أن يجعلوا كل وقت من أوقات
إمارته زمانا من الأزمنة، كما قال الراجز:
جاء الشتاء وقميصي أخلاق ... شراذم يضحك منه التواق
فجعل القميص أخلاقا، يريد بذلك وصف كل قطعة منه بالإخلاق، كما يقولون: أرض سباسب،
ونحو ذلك.
ومن قولهم للزمان: زمن قول أعشى بني قيس بن ثعلبة:
وكنت امرا زمنا بالعراق ... عفيف المناخ طويل التغن
يريد بقوله: زمنا زمانا، فالزمان اسم لما ذكرت من ساعات الليل والنهار على ما قد
بينت ووصفت
(1/9)
القول في كم قدر جميع الزمان
من ابتدائه إلى انتهائه وأوله إلى آخره
اختلف السلف قبلنا من أهل العلم في ذلك، فقال بعضهم: قدر جميع ذلك سبعة آلاف سنة.
ذكر من قَالَ ذَلِكَ:
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَعْقُوبَ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قال: الدنيا جمعة من جمع الآخرة، سبعة آلاف سنه، فقد مضى سته
آلاف سنه ومائتا سَنَةٍ، وَلَيَأْتِيَنَّ عَلَيْهَا مِئُونَ مِنْ سِنِينَ، لَيْسَ
عَلَيْهَا مُوَحِّدٌ.
وَقَالَ آخَرُونَ: قَدْرُ جَمِيعِ ذَلِكَ سِتَّةُ آلافِ سَنَةٍ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ:
حَدَّثَنَا أَبُو هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ، عَنْ سُفْيَانَ،
عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، قَالَ: قَالَ كَعْبٌ: الدُّنْيَا سِتَّةُ
آلافِ سَنَةٍ.
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلِ بْنِ عَسْكَرٍ، قال: حدثنا اسمعيل بن عبد
الكريم، قال: حدثني عبد الصمد بن معقل، أنه سمع وهبا يقول: قد خلا من الدنيا خمسه
آلاف سنه وستمائه سنه، وانى لأَعْرِفُ كُلَّ زَمَانٍ مِنْهَا، مَا كَانَ فِيهِ من
الملوك والأنبياء قلت لِوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ: كَمِ الدُّنْيَا؟ قَالَ: سِتَّةُ
آلاف سنه
(1/10)
قال أبو جعفر: والصواب من
القول في ذَلِكَ مَا دَلَّ عَلَى صِحَّتِهِ الْخَبَرُ الْوَارِدُ عن رسول الله ص،
وَذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ وَعَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ،
قَالا: حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: [سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ص يَقُولُ:
أَجَلُكُمْ فِي أَجَلِ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، مِنْ صَلاةِ الْعَصْرِ إِلَى
مَغْرِبِ الشَّمْسِ] .
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: حَدَّثَنِي
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عمر، قال: [سمعت النبي ص
يَقُولُ: أَلا إِنَّمَا أَجَلُكُمْ فِي أَجَلِ مَنْ خَلا مِنَ الأُمَمِ، كَمَا
بَيْنَ صَلاةِ الْعَصْرِ إِلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ] .
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمَّارُ بْنُ مُحَمَّدٍ،
ابْنُ أُخْتِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، أَبُو الْيَقْظَانِ، عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي
سُلَيْمٍ، عَنْ مُغِيرَةَ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ:
[قَالَ رَسُولُ الله ص: مَا بَقِيَ لأُمَّتِي مِنَ الدُّنْيَا إِلا كَمِقْدَارِ
الشَّمْسِ إِذَا صُلِّيَتِ الْعَصْرُ] .
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَوْفٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، قَالَ: سَمِعْتُ سَلَمَةَ بْنَ كُهَيْلٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ،
عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: [كُنَّا جُلُوسًا عند النبي ص وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ
عَلَى قُعَيْقِعَانَ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَقَالَ:
مَا أَعْمَارُكُمْ فِي أَعْمَارِ مَنْ مَضَى إِلا كَمَا بَقِيَ مِنْ هَذَا
النَّهَارِ فِيمَا مَضَى مِنْهُ] .
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى- قال ابن بشار: حدثنى خلف
ابن مُوسَى، وَقَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ مُوسَى- قَالَ:
حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ ص خَطَبَ أَصْحَابَهُ يَوْمًا- وَقَدْ كَادَتِ الشَّمْسُ أَنْ تَغِيبَ،
وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلا شِقٌّ يَسِيرٌ-[فقال: والذى
(1/11)
نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا
بَقِيَ مِنْ دُنْيَاكُمْ فِيمَا مَضَى مِنْهَا إِلا كَمَا بَقِيَ مِنْ يَوْمِكُمْ
هَذَا فِيمَا مَضَى مِنْهُ، وَمَا تَرَوْنَ مِنَ الشَّمْسِ إِلا الْيَسِيرَ] .
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ
زَيْدٍ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قال: [قال النبي ص عِنْدَ
غُرُوبِ الشَّمْسِ: إِنَّمَا مَثَلُ مَا بَقِيَ مِنَ الدُّنْيَا فِيمَا مَضَى
مِنْهَا كَبَقِيَّةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِيمَا مَضَى مِنْهُ] .
حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ وَأَبُو هِشَامٍ الرِّفَاعِيُّ، قَالا:
حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ،
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: [قَالَ رسول الله ص: بعثت انا وَالسَّاعَةَ
كَهَاتَيْنِ- وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى] .
حَدَّثَنَا أَبُو كريب، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ
أَبِي حُصَيْنٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ ابى هريرة، عن النبي بِنَحْوِهِ.
حَدَّثَنَا هَنَّادٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ وَأَبُو مُعَاوِيَةَ،
عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي خَالِدٍ الْوَالِبِيِّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ،
قَالَ: [قَالَ رسول الله ص: بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ] .
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَثَّامُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنِ
الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي خَالِدٍ الْوَالِبِيِّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ،
[قَالَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى إِصْبَعَيْ رَسُولِ الله ص- وَأَشَارَ
بِالْمُسَبِّحَةِ وَالَّتِي تَلِيهَا- وَهُوَ يَقُولُ:
بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَذِهِ مِنْ هَذِهِ] .
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، قَالَ: حدثنا
فطر، عَنْ أَبِي خَالِدٍ الْوَالِبِيِّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سمره، قال: [قال رسول
الله ص: بُعِثْتُ مِنَ السَّاعَةِ كَهَاتَيْنِ]- وَجَمَعَ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ
السبابة والوسطى
(1/12)
حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى،
قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ:
سَمِعْتُ قَتَادَةَ يُحَدِّثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ:
[قال رسول الله ص: بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ] قَالَ شُعْبَةُ:
سَمِعْتُ قَتَادَةَ يَقُولُ فِي قَصَصِهِ: كَفَضْلِ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى،
قَالَ: لا أَدْرِي أَذَكَرَهُ عَنْ أَنَسٍ أَوْ قَالَهُ قَتَادَةُ.
حَدَّثَنَا خَلادُ بْنُ أَسْلَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ،
قَالَ:
حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مالك، قال:
[قال رسول الله ص: بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ] .
حَدَّثَنَا مُجَاهِدُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا
شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النبي ص مِثْلَهُ،
وَزَادَ فِي حَدِيثِهِ:
وَأَشَارَ بِالْوُسْطَى وَالسَّبَّابَةِ.
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَيُّوبُ بْنُ سُوَيْدٍ، عَنِ الأوزاعي، قال: حدثنا اسمعيل بْنُ
عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَدِمَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَلَى الْوَلِيدِ بْنِ
عَبْدِ الْمَلِكِ، فَقَالَ له الوليد: ماذا سمعت رسول الله ص يَذْكُرُ بِهِ
السَّاعَةَ؟ قَالَ: [سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ص يَقُولُ:
أَنْتُمْ وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ،] وَأَشَارَ بِإِصْبَعَيْهِ.
حَدَّثَنِي الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، قَالَ: حدثنا
الأوزاعي، قال: حدثنى اسمعيل بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَدِمَ أَنَسُ بْنُ
مَالِكٍ عَلَى الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَقَالَ لَهُ الْوَلِيدُ: مَاذَا
سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ص يَذْكُرُ بِهِ السَّاعَةَ؟ [قَالَ: سَمِعْتُ
رَسُولَ اللَّهِ ص يقول: أنتم والساعة كتين] .
حَدَّثَنِي ابْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْبَرْقِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ
أَبِي سَلَمَةَ،
(1/13)
عن الأوزاعي، قال: حدثنى
اسمعيل بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَدِمَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَلَى
الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ
عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ
أَبِيهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَعْبَدٌ، حَدَّثَ أَنَسٌ، [عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ص
أَنَّهُ قَالَ: بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ،] وَقَالَ
بِإِصْبَعَيْهِ: هَكَذَا.
حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: [قَالَ رَسُولُ
الله ص:
بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ:] السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى قَالَ
أَبُو مُوسَى: وَأَشَارَ وَهْبٌ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى حَدَّثَنِي عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ أَبِي زِيَادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ وَقَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ:
[قَالَ رسول الله ص: بعثت انا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ،] وَقَرَنَ بَيْنَ
إِصْبَعَيْهِ.
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَزِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الفضيل
بن سليمان، حَدَّثَنَا أَبُو حَازِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ سعد، قال:
[رايت رسول الله ص قَالَ بِإِصْبَعَيْهِ هَكَذَا، الْوُسْطَى وَالَّتِي تَلِي
الإِبْهَامَ: بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ] .
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الأَدَمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو
ضَمْرَةَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ [سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ ان رسول
الله ص قَالَ: بُعِثْتُ وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ- وَضَمَّ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ
الْوُسْطَى، وَالَّتِي تَلِي الإِبْهَامَ- وَقَالَ: مَا مَثَلِي وَمَثَلُ
السَّاعَةِ إِلا كَفَرَسَيْ رِهَانٍ، ثُمَّ قَالَ: مَا مَثَلِي وَمَثَلُ
السَّاعَةِ إِلا كَمَثَلِ رَجُلٍ بَعَثَهُ قَوْمٌ طَلِيعَةً، فَلَمَّا خَشِيَ أَنْ
يُسْبَقُ أَلاحَ بِثَوْبِهِ: أُتِيتُمْ، أُتِيتُمْ، أَنَا ذَاكَ أَنَا ذَاكَ] .
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: [قَالَ رَسُولُ
الله ص:
بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ،] وَجَمَعَ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ
(1/14)
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ،
قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلالٍ، قَالَ:
حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: [قَالَ رسول الله ص:
بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ هَكَذَا،] وَقَرَنَ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ: الْوُسْطَى
وَالَّتِي تَلِي الإِبْهَامَ.
حَدَّثَنِي ابْنُ عَبْدِ الرحيم البرقي، عن سهل بن سعد، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ
أَبِي مَرْيَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي
أَبُو حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: [قَالَ رَسُولُ الله ص: بُعِثْتُ
أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ،] وَجَمَعَ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ.
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ
الْمُهَاجِرِ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ،
قَالَ: [سَمِعْتُ رسول الله ص يَقُولُ: بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ جَمِيعًا،
إِنْ كَادَتْ لِتَسْبِقَنِي] .
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ هَيَّاجٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنِي عُبَيْدَةُ بْنُ الأَسْوَدِ، عَنْ
مُجَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنِ الْمُسْتَوْرِدِ بْنِ شداد
الفهري، [عن النبي ص أَنَّهُ قَالَ: بُعِثْتُ فِي نَفْسِ السَّاعَةِ، سَبَقْتُهَا
كَمَا سَبَقَتْ هَذِهِ هَذِهِ،] لإِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى،
وَوَصَفَ لَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، وَجَمَعَهُمَا.
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَبِيبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو
نَصْرٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا الْمَسْعُودِيُّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ
الشَّعْبِيِّ، عَنْ أَبِي جبيرة، قال: [قال رسول الله ص: بُعِثْتُ مَعَ السَّاعَةِ
كَهَاتَيْنِ، - وَأَشَارَ بِإِصْبَعَيْهِ الْوُسْطَى وَالسَّبَّابَةِ- كَفَضْلِ
هَذِهِ عَلَى هَذِهِ] .
حَدَّثَنَا تَمِيمُ بْنُ الْمُنْتَصِرِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا يَزِيدُ، قَالَ:
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ شُبَيْلِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِي جُبَيْرَةَ،
عَنْ أَشْيَاخٍ مِنَ الأَنْصَارِ، قَالُوا:
(1/15)
[سمعنا رسول الله ص يَقُولُ:
جِئْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ هَكَذَا]- قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَأَرَانَا تَمِيمٌ،
وَضَمَّ السَّبَّابَةَ وَالْوُسْطَى وَقَالَ لَنَا: أَشَارَ يَزِيدُ
بِإِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى وَضَمَّهُمَا-[وَقَالَ: سَبَقْتُهَا
كَمَا سَبَقَتْ هَذِهِ هَذِهِ فِي نَفْسِ من الساعة، او في نَفْسَ السَّاعَةِ] .
فمعلوم إذ كان اليوم أوله طلوع الفجر وآخره غروب الشمس، وكان صحيحا عن نبينا ص، ما
رويناه عنه قبل، أنه قال بعد ما صلى العصر: ما بقي من الدنيا فِيمَا مَضَى مِنْهَا
إِلا كَمَا بَقِيَ مِنْ يومكم هذا فيما مضى منه.
وأنه قال لأصحابه: بعثت أنا والساعة كهاتين- وجمع بين السبابة والوسطى- سبقتها
بقدر هذه من هذه، يعني الوسطى من السبابة وكان قدر ما بين اوسط اوقات صلاه العصر-
وذلك إذا صار ظل كل شيء مثليه- على التحري إنما يكون قدر نصف سبع اليوم، يزيد
قليلا أو ينقص قليلا، وكذلك فضل ما بين الوسطى والسبابة، إنما يكون نحوا من ذلك
وقريبا منه.
وكان صحيحا مع ذلك عن رسول الله ص ما حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ وَهْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، قَالَ:
حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ
نُفَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا ثعلبه
الخشني صاحب النبي ص يقول: [ان رسول الله ص قَالَ: لَنْ يُعْجِزَ اللَّهُ هَذِهِ
الأُمَّةَ مِنْ نصف يوم،] وكان معنى قول النبي ذلك أن لن يعجز الله هذه الأمة من
نصف يوم الذي مقداره ألف سنة- كان بينا أن أولى القولين- اللذين ذكرت في مبلغ قدر
مدة جميع الزمان، اللذين أحدهما عن ابن عباس، والآخر منهما عن كعب- بالصواب،
وأشبههما بما دلت عليه الأخبار الوارده عن رسول الله ص قول ابن عباس، الذي روينا
عنه أنه قال: الدنيا جمعة من جمع الآخرة سبعة آلاف سنه
(1/16)
وإذ كان ذلك كذلك، وكان الخبر
عن رسول الله ص صحيحا أنه أخبر عن الباقي من ذلك في حياته انه نصف يوم، وذلك
خمسمائة عام، إذ كان ذلك نصف يوم من الأيام التي قدر اليوم الواحد منها ألف عام-
كان معلوما أن الماضي من الدنيا الى وقت قول النبي ص ما رويناه عن أبي ثعلبة
الخشني عنه، كان قدر سته آلاف سنه وخمسمائة سنة، أو نحوا من ذلك وقريبا منه والله
أعلم.
فهذا الذي قلنا- في قدر مدة أزمان الدنيا، من مبدأ أولها إلى منتهى آخرها- من أثبت
ما قيل في ذلك عندنا من القول، للشواهد الدالة التي بيناها على صحة ذلك.
وقد روي عن رسول الله ص خبر يدل على صحة قول من قال: إن الدنيا كلها ستة آلاف سنة،
لو كان صحيحا سنده لم نعد القول به إلى غيره، وذلك ما حَدَّثَنِي بِهِ مُحَمَّدُ
بْنُ سِنَانٍ الْقَزَّازُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ ابن عبد الوارث،
حدثنا زبان، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هريرة، ان [رسول الله ص
قَالَ: الْحُقْبُ ثَمَانُونَ عَامًا، الْيَوْمُ مِنْهَا سُدُسُ الدُّنْيَا] .
فبين في هذا الخبر أن الدنيا كلها ستة آلاف سنة، وذلك أن اليوم الذي هو من أيام
الآخرة إذا كان مقداره ألف سنة من سني الدنيا، وكان اليوم الواحد من ذلك سدس
الدنيا، كان معلوما بذلك أن جميعها ستة أيام من أيام الآخرة، وذلك ستة آلاف سنة.
وقد زعم اليهود أن جميع ما ثبت عندهم- على ما في التوراة مما هو فيها من لدن خلق
الله آدم إلى وقت الهجرة، وذلك في التوراة التي هي في ايديهم اليوم- اربعه آلاف
سنه وستمائه سنة واثنتان وأربعون سنة، وقد ذكروا تفصيل ذلك بولادة رجل رجل، ونبي
نبي، وموته من عهد آدم إلى هجرة نبينا محمد ص
(1/17)
وسأذكر تفصيلهم ذلك إن شاء
الله، وتفصيل غيرهم ممن فصله من علماء أهل الكتب وغيرهم من أهل العلم بالسير
وأخبار الناس إذا انتهيت إليه إن شاء الله.
وأما اليونانية من النصارى فإنها تزعم أن الذي ادعته اليهود من ذلك باطل، وأن
الصحيح من القول في قدر مدة أيام الدنيا- من لدن خلق الله آدم إلى وقت هجره نبينا
محمد ص على سياق ما عندهم في التوراة التي هي في ايديهم- خمسه آلاف سنه وتسعمائة
سنة واثنتان وتسعون سنة وأشهر وذكروا تفصيل ما ادعوه من ذلك بولادة نبي نبي، وملك
ملك، ووفاته من عهد آدم إلى وقت هجره رسول الله ص، وزعموا أن اليهود إنما نقصوا ما
نقصوا من عدد سني ما بين تاريخهم وتاريخ النصارى دفعا منهم لنبوه عيسى بن مريم ع
إذ كانت صفته ووقت مبعثه مثبتة في التوراة وقالوا: لم يأت الوقت الذي وقت لنا في
التوراة أن الذي صفته صفة عيسى يكون فيه، وهم ينتظرون- بزعمهم- خروجه ووقته.
واحسب أن الذي ينتظرونه ويدعون أن صفته في التوراة مثبتة، هو الدجال الذي وصفه
رسول الله ص لأمته، وذكر لهم أن عامة أتباعه اليهود، فإن كان ذلك هو عبد الله بن
صياد، فهو من نسل اليهود.
وأما المجوس فإنهم يزعمون أن قدر مدة الزمان من لدن ملك جيومرت إلى وقت هجرة نبينا
ص ثلاثة آلاف سنة ومائة سنة وتسع وثلاثون سنة، وهم لا يذكرون مع ذلك نسبا يعرف فوق
جيومرت، ويزعمون أنه آدم أبو البشر، ص وعلى جميع أنبياء الله ورسله.
ثم أهل الأخبار بعد في أمره مختلفون، فمن قائل منهم فيه مثل قول المجوس، ومن قائل
منهم إنه تسمى بآدم بعد أن ملك الأقاليم السبعة، وأنه إنما هو جامر بن يافث ابن
نوح، كان بنوح ع برا ولخدمته ملازما، وعليه حدبا شفيقا، فدعا الله له ولذريته نوح-
لذلك من بره به وخدمته له- بطول العمر، والتمكين في
(1/18)
البلاد، والنصر على من ناوأه
وإياهم، واتصال الملك له ولذريته، ودوامه له ولهم، فاستجيب له فيه، فأعطى جيومرت
ذلك وولده، فهو ابو الفراس، ولم يزل الملك فيه وفي ولده إلى أن زال عنهم بدخول
المسلمين مدائن كسرى، وغلبة أهل الإسلام إياهم على ملكهم.
ومن قائل غير ذلك، وسنذكر إن شاء الله ما انتهى إلينا من القول فيه إذا انتهينا
إلى ذكرنا تاريخ الملوك ومبالغ أعمارهم، وأنسابهم وأسباب ملكهم
(1/19)
القول في الدلالة على حدوث
الأوقات والأزمان والليل والنهار
قد قلنا قبل إن الزمان إنما هو اسم لساعات الليل والنهار، وساعات الليل والنهار
إنما هي مقادير من جري الشمس والقمر في الفلك، كما قال الله عز وجل:
«وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ
وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ
وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ لَا
الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ
النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ» .
فإذا كان الزمان ما ذكرنا من ساعات الليل والنهار، وكانت ساعات الليل والنهار إنما
هي قطع الشمس والقمر درجات الفلك، كان بيقين معلوما أن الزمان محدث والليل والنهار
محدثان، وان محدث ذلك الله الذي تفرد بإحداث جميع خلقه، كما قال: «وَهُوَ الَّذِي
خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ
يَسْبَحُونَ» .
ومن جهل حدوث ذلك من خلق الله فإنه لن يجهل اختلاف أحوال الليل والنهار، بأن
أحدهما يرد على الخلق- وهو الليل- بسواد وظلمة، وأن الآخر منهما يرد عليهم بنور
وضياء، ونسخ لسواد الليل وظلمته، وهو النهار.
فإذا كان ذلك كذلك، وكان من المحال اجتماعهما مع اختلاف أحوالهما في وقت واحد في
جزء واحد- كان معلوما يقينا أنه لا بد من أن يكون أحدهما كان قبل الآخر منهما،
وأيهما كان منهما قبل صاحبه فإن الآخر منهما كان
(1/20)
لا شك بعده، وذلك إبانة ودليل
على حدوثهما، وأنهما خلقان لخالقهما.
ومن الدلالة أيضا على حدوث الأيام والليالي أنه لا يوم إلا وهو بعد يوم كان قبله،
وقبل يوم كائن بعده، فمعلوم أن ما لم يكن ثم كان، أنه محدث مخلوق، وأن له خالقا
ومحدثا.
واخرى، أن الأيام والليالي معدودة، وما عد من الأشياء فغير خارج من أحد العددين:
شفع أو وتر، فإن يكن شفعا فإن أولها اثنان، وذلك تصحيح القول بأن لها ابتداء
وأولا، وإن كان وترا فإن أولها واحد، وذلك دليل على أن لها ابتداء وأولا، وما كان
له ابتداء فإنه لا بد له من مبتدئ، هو خالقه
(1/21)
القول في هل كان الله عز وجل
خلق قبل خلقه الزمان والليل والنهار شيئا غير ذلك من الخلق قد قلنا قبل: إن الزمان
إنما هو ساعات الليل والنهار، وإن الساعات إنما هي قطع الشمس والقمر درجات الفلك.
فإذا كان ذلك كذلك، وكان صحيحا عن رسول الله ص ما حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ
السَّرِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ أَبِي سَعْدٍ
الْبَقَّالِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- قَالَ هناد: وقرات سائر
الحديث على ابى بكر- ان اليهود أتت النبي ص فَسَأَلَتْهُ عَنْ خَلْقِ السَّمَوَاتِ
وَالأَرْضِ فَقَالَ: خَلَقَ اللَّهُ الأَرْضَ يَوْمَ الأَحَدِ وَالاثْنَيْنِ،
وَخَلَقَ الْجِبَالَ يَوْمَ الثُّلاثَاءِ وَمَا فِيهِنَّ مِنْ مَنَافِعَ، وَخَلَقَ
يوم الأربعاء الشجر والماء والمدائن والعمران والخراب، فهذه اربعه، ثم قال: «قُلْ
أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ
وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ
مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ
سَواءً لِلسَّائِلِينَ» ، لِمَنْ سَأَلَ قَالَ: وَخَلَقَ يَوْمَ الْخَمِيسِ
السَّمَاءَ، وَخَلَقَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ النُّجُومَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ
وَالْمَلائِكَةَ، إِلَى ثَلاثِ سَاعَاتٍ بَقِيَتْ مِنْهُ، فَخَلَقَ فِي أَوَّلِ
سَاعَةٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلاثِ السَّاعَاتِ الآجَالَ مَنْ يَحْيَا وَمَنْ يَمُوتُ،
وَفِي الثَّانِيَةِ أَلْقَى الآفَةَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مِمَّا يَنْتَفِعُ بِهِ
النَّاسُ، وَفِي الثَّالِثَةِ آدَمَ وَأَسْكَنَهُ الْجَنَّةَ، وَأَمَرَ إِبْلِيسَ
بِالسُّجُودِ لَهُ
(1/22)
وَأَخْرَجَهُ مِنْهَا فِي
آخِرِ سَاعَةٍ ثُمَّ قَالَتِ الْيَهُودُ: ثُمَّ مَاذَا يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ:
ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ، قَالُوا: قَدْ أَصَبْتَ لَوْ اتممت: قالوا: ثم
استراح، فغضب النبي ص غضبا شديدا، فنزل: «وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ
فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ» .
حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ بِشْرِ بْنِ مَعْرُوفٍ وَالْحُسَيْنُ بن علي الصدائي،
قالا: حدثنا حجاج، قال: قال ابن جريج: أخبرني إسماعيل بن أمية، عن أيوب بن خالد،
عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، عن أبي هريرة قال: [أخذ رسول الله ص بِيَدِي
فَقَالَ: خَلَقَ اللَّهُ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ، وَخَلَقَ فِيهَا
الْجِبَالَ يَوْمَ الأَحَدِ، وَخَلَقَ الشَّجَرَ يَوْمَ الاثْنَيْنِ، وَخَلَقَ
الْمَكْرُوهَ يَوْمَ الثُّلاثَاءِ، وَخَلَقَ النُّورَ يَوْمَ الأَرْبِعَاءِ،
وَبَثَّ فِيهَا الدَّوَابَّ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَخَلَقَ آدَمَ بَعْدَ الْعَصْرِ
مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، آخِرَ خَلْقٍ خُلِقَ، فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ
الْجُمُعَةِ، فِيمَا بَيْنَ الْعَصْرِ إِلَى اللَّيْلِ] .
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بزيع، قال: حدثنا الفضيل بْنُ
سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ زَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ
بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، قَالَ:
أَخْبَرَنِي ابْنُ سَلامٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ، فذكرا عن النبي ص السَّاعَةَ
الَّتِي فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَذَكَرَا أَنَّهُ قَالَهَا، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ سَلامٍ: أَنَا أَعْلَمُ أَيَّ سَاعَةٍ هِيَ، بَدَأَ اللَّهُ فِي خَلْقِ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَوْمَ الأَحَدِ، وَفَرَغَ فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ يَوْمِ
الْجُمُعَةِ، فَهِيَ فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ.
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قال: حدثنا الحجاج، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ عَطَاءِ
بْنِ السَّائِبِ، عَنْ عكرمه: [ان اليهود قالوا للنبي ص: ما يوم الأحد؟ فقال رسول
(1/23)
الله ص: خلق الله فيه الارض
وبسطها، قالوا: فالاثنين؟ قال: خلق الله فِيهِ آدَمَ، قَالُوا: فَالثُّلاثَاءِ؟
قَالَ: خَلَقَ فِيهِ الْجِبَالَ وَالْمَاءَ وَكَذَا وَكَذَا وَمَا شَاءَ اللَّهُ،
قَالُوا: فَيَوْمُ الأَرْبِعَاءِ؟ قَالَ: الأَقْوَاتَ، قَالُوا: فَيَوْمُ
الْخَمِيسِ؟ قَالَ: خَلَقَ السَّمَوَاتِ، قَالُوا: فَيَوْمُ الْجُمُعَةِ؟ قَالَ:
خَلَقَ اللَّهُ فِي سَاعَتَيْنِ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، ثُمَّ قَالُوا:
السَّبْتَ- وَذَكَرُوا الرَّاحَةَ- قَالَ: سُبْحَانَ الله! فانزل الله: «وَلَقَدْ
خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما
مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ] » .
فقد بين هذان الخبران اللذان رويناهما عن رسول الله ص أن الشمس والقمر خلقا بعد
خلق الله أشياء كثيرة من خلقه، وذلك أن حديث ابن عباس عن رسول الله ص ورد بأن الله
خلق الشمس والقمر يوم الجمعة فإن كان ذلك كذلك، فقد كانت الأرض والسماء وما فيهما-
سوى الملائكة وآدم- مخلوقة قبل خلق الله الشمس والقمر، وكان ذلك كله ولا ليل ولا
نهار، إذ كان الليل والنهار إنما هو اسم لساعات معلومة من قطع الشمس والقمر درج
الفلك.
وإذا كان صحيحا أن الأرض والسماء وما فيهما، سوى ما ذكرنا، قد كانت ولا شمس ولا
قمر- كان معلوما أن ذلك كله كان ولا ليل ولا نهار.
وكذلك حديث ابى هريرة عن [رسول الله ص، لأنه أخبر عنه أنه قال: خلق الله النور يوم
الأربعاء،] يعني بالنور الشمس إن شاء الله.
فإن قال لنا قائل: قد زعمت أن اليوم إنما هو اسم لميقات ما بين طلوع الفجر إلى
غروب الشمس، ثم زعمت الآن أن الله خلق الشمس والقمر بعد أيام من أول ابتدائه خلق
الأشياء التي خلقها، فأثبت مواقيت، وسميتها بالأيام، ولا شمس ولا قمر، وهذا إن لم
تأت ببرهان على صحته، فهو كلام ينقض بعضه بعضا!
(1/24)
قيل: إن الله سمى ما ذكرته
أياما، فسميته بالاسم الذي سماه به، وكان وجه تسميه ذلك أياما، ولا شمس ولا قمر،
نظير قوله عز وجل: «وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا» ولا بكرة ولا
عشي هنالك، إذ كان لا ليل في الآخرة ولا شمس ولا قمر، كما قال جل وعز: «وَلا
يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ
بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ» .
فسمى تعالى ذكره يوم القيامة يوما عقيما، إذ كان يوما لا ليل بعد مجيئه، وإنما
أريد بتسمية ما سمي أياما قبل خلق الشمس والقمر قدر مدة ألف عام من أعوام الدنيا،
التي العام منها اثنا عشر شهرا من شهور أهل الدنيا، التي تعد ساعاتها وأيامها بقطع
الشمس والقمر درج الفلك، كما سمي بكرة وعشيا لما يرزقه أهل الجنة في قدر المدة
التي كانوا يعرفون ذلك من الزمان في الدنيا بالشمس ومجراها في الفلك، ولا شمس
عندهم ولا ليل وبنحو الذي قلنا في ذلك قال السلف من أهل العلم.
ذكر بعض من حضرنا ذكره ممن قال ذلك:
حَدَّثَنِي القاسم، قال: حَدَّثَنَا الحسين، قال: حَدَّثَنِي الحجاج، عن ابن جريج،
عن مجاهد أنه قال: يقضي الله عز وجل أمر كل شيء ألف سنة إلى الملائكة، ثم كذلك حتى
يمضي ألف سنة، ثم يقضي أمر كل شيء ألفا، ثم كذلك أبدا، قال: «فِي يَوْمٍ كانَ
مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ» قال: اليوم أن يقول لما يقضي إلى الملائكة ألف سنة: كن
فيكون، ولكن سماه يوما، سماه كما شاء كل ذلك
(1/25)
عن مجاهد، قال: وقوله تعالى:
«وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ» قال: هو هو
سواء.
وبنحو الذي ورد عن رسول الله ص من الخبر، بأن الله جل جلاله خلق الشمس والقمر بعد
خلقه السموات والأرض وأشياء غير ذلك، ورد الخبر عن جماعة من السلف أنهم قالوه.
ذكر الخبر عمن قال ذلك منهم:
حدثنا ابو هشام الرفاعى، حدثنا ابن يمان، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ
جُرَيْجٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:
«فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا
طائِعِينَ» .
قَالَ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلسَّمَوَاتِ: أَطْلِعِي شمسى وقمرى، واطلعى
نجومى.
وَقَالَ لِلأَرْضِ: شَقِّقِي أَنْهَارَكِ، وَأَخْرِجِي ثِمَارَكِ، فَقَالَتَا:
أَتَيْنَا طَائِعِينَ.
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ،: قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قال: حدثنا سعيد، عن
قتادة:
«وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها» ، خلق فيها شمسها وقمرها ونجومها وصلاحها.
فقد بينت هذه الأخبار التي ذكرناها عن رسول الله ص وعمن ذكرناها عنه أن الله عز
وجل خلق السموات والأرض قبل خلقه الزمان والأيام والليالي، وقبل الشمس والقمر
والله أعلم
(1/26)
القول في الإبانة عن فناء
الزمان والليل والنهار وأن لا شيء يبقى غير الله تعالى ذكره
والدلالة على صحة ذلك قول الله تعالى ذكره: «كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَيَبْقى
وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ» ، وقوله تعالى: «لا إِلهَ إِلَّا
هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ» فإن كان كل شيء هالك غير وجهه- كما قال
جل وعز- وكان الليل والنهار ظلمة أو نورا خلقهما لمصالح خلقه، فلا شك انهما فانيان
هالكان، كما اخبر، وكما قال: «إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ» يعني بذلك أنها عميت
فذهب ضوءها، وذلك عند قيام الساعة، وهذا ما لا يحتاج إلى الإكثار فيه، إذ كان مما
يدين بالإقرار به جميع أهل التوحيد من أهل الإسلام وأهل التوراة والإنجيل والمجوس،
وإنما ينكره قوم من غير أهل التوحيد، لم نقصد بهذا الكتاب قصد الإبانة عن خطإ
قولهم فكل الذين ذكرنا عنهم أنهم مقرون بفناء جميع العالم حتى لا يبقى غير القديم
الواحد، مقرون بأن الله عز وجل محييهم بعد فنائهم، وباعثهم بعد هلاكهم، خلا قوم من
عبدة الأوثان، فإنهم يقرون بالفناء، وينكرون البعث
(1/27)
القول في الدلالة على أن الله
عز وجل القديم الأول قبل شيء وأنه هو المحدث كل شيء بقدرته تعالى ذكره فمن الدلالة
على ذلك أنه لا شيء في العالم مشاهد إلا جسم أو قائم بجسم، وأنه لا جسم إلا مفترق
أو مجتمع، وأنه لا مفترق منه إلا وهو موهوم فيه الائتلاف إلى غيره من أشكاله، ولا
مجتمع منه إلا وهو موهوم فيه الافتراق، وأنه متى عدم أحدهما عدم الآخر معه، وأنه
إذا اجتمع الجزءان منه بعد الافتراق، فمعلوم أن اجتماعهما حادث فيهما بعد أن لم
يكن، وأن الافتراق إذا حدث فيهما بعد الاجتماع، فمعلوم أن الافتراق فيهما حادث بعد
أن لم يكن.
وإذا كان الأمر فيما في العالم من شيء كذلك، وكان حكم ما لم يشاهد وما هو من جنس
ما شاهدنا في معنى جسم أو قائم بجسم، وكان ما لم يخل من الحدث لا شك أنه محدث
بتأليف مؤلف له إن كان مجتمعا، وتفريق مفرق له إن كان مفترقا وكان معلوما بذلك أن
جامع ذلك إن كان مجتمعا، ومفرقه إن كان مفترقا من لا يشبهه، ومن لا يجوز عليه
الاجتماع والافتراق، وهو الواحد القادر الجامع بين المختلفات، الذي لا يشبهه شيء،
وهو على كل شيء قدير- فبين بما وصفنا أن بارئ الأشياء ومحدثها كان قبل كل شيء، وأن
الليل والنهار والزمان والساعات محدثات، وأن محدثها الذي يدبرها ويصرفها قبلها، إذ
كان من المحال أن يكون شيء يحدث شيئا إلا ومحدثه قبله، وأن في قوله تعالى ذكره:
«أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ
رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ» ،
لابلغ الحجج،
(1/28)
وأدل الدلائل- لمن فكر بعقل،
واعتبر بفهم- على قدم بارئها، وحدوث كل ما جانسها، وأن لها خالقا لا يشبهها.
وذلك أن كل ما ذكر ربنا تبارك وتعالى في هذه الآية من الجبال والأرض والإبل فإن
ابن آدم يعالجه ويدبره بتحويل وتصريف وحفر ونحت وهدم، غير ممتنع عليه شيء من ذلك
ثم إن ابن آدم مع ذلك غير قادر على إيجاد شيء من ذلك من غير أصل، فمعلوم أن العاجز
عن إيجاد ذلك لم يحدث نفسه، وأن الذي هو غير ممتنع ممن أراد تصريفه وتقليبه لم
يوجده من هو مثله، ولا هو أوجد نفسه، وأن الذي أنشأه وأوجد عينه هو الذي لا يعجزه
شيء أراده، ولا يمتنع عليه إحداث شيء شاء إحداثه، وهُوَ اللَّهُ الْواحِدُ
الْقَهَّارُ.
فإن قال قائل: فما تنكر أن تكون الأشياء التي ذكرت من فعل قديمين؟
قيل: أنكرنا ذلك لوجودنا اتصال التدبير وتمام الخلق، فقلنا: لو كان المدبر اثنين،
لم يخلوا من اتفاق أو اختلاف، فإن كانا متفقين فمعناهما واحد، وإنما جعل الواحد
اثنين من قال بالاثنين وإن كانا مختلفين كان محالا وجود الخلق على التمام والتدبير
على الاتصال، لأن المختلفين، فعل كل واحد منهما خلاف فعل صاحبه، بأن أحدهما إذا
أحيا أمات الآخر، وإذا أوجد أحدهما أفنى الآخر، فكان محالا وجود شيء من الخلق على
ما وجد عليه من التمام والاتصال.
وفي قول الله عز وجل ذكره: «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا
فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ» ، وقوله عز وجل: «مَا
اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ
إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا
يَصِفُونَ عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ»
(1/29)
أبلغ حجة، وأوجز بيان، وأدل دليل على بطول ما قاله المبطلون من أهل الشرك بالله، وذلك أن السموات والأرض لو كان فيهما إله غير الله، لم يخل أمرهما مما وصفت من اتفاق واختلاف وفي القول باتفاقهما فساد القول بالتثنية، وإقرار بالتوحيد، وإحالة في الكلام بأن قائله سمى الواحد اثنين وفي القول باختلافهما، القول بفساد السموات والأرض، كما قال ربنا جل وعز: «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا» لأن أحدهما كان إذا أحدث شيئا وخلقه كان من شأن الآخر إعدامه وإبطاله، وذلك أن كل مختلفين فأفعالهما مختلفة، كالنار التي تسخن، والثلج الذي يبرد ما أسخنته النار وأخرى، أن ذلك لو كان كما قاله المشركون بالله لم يخل كل واحد من الاثنين اللذين أثبتوهما قديمين من أن يكونا قويين او عاجزين، فان كانا عاجزين فالعاجز مقهور وغير كائن إلها وإن كانا قويين فإن كل واحد منهما بعجزه عن صاحبه عاجز، والعاجز لا يكون إلها وإن كان كل واحد منهما قويا على صاحبه عاجز، والعاجز لا يكون إلها وإن كان كل واحد منهما قويا على صاحبه، فهو بقوة صاحبه عليه عاجز، تعالى ذكره عما يشرك المشركون! فتبين إذا أن القديم بارئ الأشياء وصانعها هو الواحد الذي كان قبل كل شيء، وهو الكائن بعد كل شيء، والأول قبل كل شيء، والآخر بعد كل شيء، وأنه كان ولا وقت ولا زمان، ولا ليل ولا نهار، ولا ظلمة ولا نور إلا نور وجهه الكريم ولا سماء ولا أرض، ولا شمس ولا قمر ولا نجوم، وأن كل شيء سواه محدث مدبر مصنوع، انفرد بخلق جميعه بغير شريك ولا معين ولا ظهير، سبحانه من قادر قاهر! وقد حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ الرَّمْلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ أَبِي الزَّرْقَاءِ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ الأَصَمِّ، عَنْ أَبِي هريرة، [ان النبي ص قال:
(1/30)
إِنَّكُمْ تَسْأَلُونَ بَعْدِي
عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى يَقُولُ الْقَائِلُ: هَذَا اللَّهُ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ
فمن ذا خلقه!] .
حدثنى على، حَدَّثَنَا زَيْدٌ، عَنْ جَعْفَرٍ، قَالَ: قَالَ يَزِيدُ بْنُ
الأَصَمِّ:
حَدَّثَنِي نَجَبَةُ بْنُ صَبِيغٍ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي هُرَيْرَةَ
فَسَأَلُوهُ عَنْ هَذَا فَكَبَّرَ وَقَالَ:
مَا حَدَّثَنِي خَلِيلِي بِشَيْءٍ إِلا قَدْ رَأَيْتُهُ- أَوْ أَنَا أَنْتَظِرُهُ
قَالَ جَعْفَرٌ: فَبَلَغَنِي أَنَّهُ قَالَ: إِذَا سَأَلَكُمُ النَّاسُ عَنْ هذا
فقولوا: الله خالق كل شيء، والله كَانَ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَاللَّهُ كَائِنٌ
بَعْدَ كُلِّ شَيْءٍ.
فَإِذَا كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ خَالِقَ الأَشْيَاءِ وَبَارِئَهَا كَانَ وَلا
شَيْءَ غَيْرَهُ، وَأَنَّهُ أَحْدَثَ الأَشْيَاءَ فَدَبَّرَهَا، وَأَنَّهُ قَدْ
خَلَقَ صُنُوفًا مِنْ خَلْقِهِ قَبْلَ خَلْقِ الأَزْمِنَةِ وَالأَوْقَاتِ،
وَقَبْلَ خَلْقِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ اللَّذَيْنِ يُجْرِيهِمَا فِي
أَفْلاكِهِمَا، وَبِهِمَا عُرِفَتِ الأَوْقَاتِ وَالسَّاعَاتِ، وَأُرِّخَتِ
التَّأْرِيخَاتِ، وَفُصِلَ بين الليل والنهار، فلنقل: فيم ذَلِكَ الْخَلْقُ
الَّذِي خُلِقَ قَبْلَ ذَلِكَ؟ وَمَا كان اوله؟
(1/31)
القول في ابتداء الخلق ما كان
أوله
صح الخبر عن رسول الله ص بِمَا حَدَّثَنِي بِهِ يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى،
قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ-
وحدثني عُبَيْدُ بْنُ آدَمَ بْنِ أَبِي إِيَاسٍ الْعَسْقَلانِيُّ، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ:
حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ- عَنْ أَيُّوبَ
بْنِ زِيَادٍ، قَالَ:
حَدَّثَنِي عُبَادَةُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ:
أَخْبَرَنِي أَبِي، قَالَ:
قَالَ أَبِي عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ: [يَا بُنَيَّ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ص
يَقُولُ:
إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمُ فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ، فَجَرَى فِي
تِلْكَ السَّاعَةِ بِمَا هُوَ كَائِنٌ] .
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَبِيبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ
الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ،
قَالَ: أَخْبَرَنَا رَبَاحُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ حَبِيبٍ، عَنِ
الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ [ابْنِ عَبَّاسٍ
أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص قَالَ: إِنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ خَلَقَ
اللَّهُ الْقَلَمَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَكْتُبَ كُلَّ شَيْءٍ] .
حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ سَهْلٍ الرَّمْلِيُّ، حَدَّثَنَا نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ،
حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، أَخْبَرَنَا رَبَاحُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عُمَرَ
بْنِ حَبِيبٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عن رسول الله ص بِنَحْوِهِ.
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الأَنْمَاطِيُّ، حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ
الْعَوَّامِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ سُلَيْمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ
عَطَاءً، قَالَ: سَأَلْتُ الْوَلِيدَ بْنَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ: كَيْفَ
كَانَتْ وَصِيَّةُ أَبِيكَ حِينَ حَضَرَهُ الْمَوْتُ؟ قَالَ: دَعَانِي فَقَالَ:
(1/32)
أَيْ بُنَيَّ، اتَّقِ اللَّهَ
وَاعْلَمْ أَنَّكَ لَنْ تَتَّقِيَ اللَّهَ، وَلَنْ تَبْلُغَ الْعِلْمَ حَتَّى
تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَحْدَهُ، وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، [إِنِّي سَمِعْتُ
رسول الله ص يَقُولُ: إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ
الْقَلَمَ، فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ، قَالَ: يَا رَبِّ وَمَا أَكْتُبُ؟ قَالَ:
اكْتُبِ الْقَدَرَ، قَالَ: فَجَرَى الْقَلَمُ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ بِمَا كَانَ
وَبِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى الأَبَدِ] .
وقد اختلف اهل السلف قبلنا في ذلك، فنذكر أقوالهم، ثم نتبع البيان عن ذلك إن شاء
الله تعالى.
فقال بعضهم في ذلك بنحو الذي روى عن رسول الله ص فيه.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ:
حَدَّثَنِي وَاصِلُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى الأَسَدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ، قَالَ: أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ الْقَلَمُ فَقَالَ لَهُ:
اكْتُبْ، فَقَالَ: وَمَا أَكْتُبُ يَا رَبِّ؟ قَالَ: اكْتُبِ الْقَدَرَ، قَالَ:
فَجَرَى الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ مِنْ ذَلِكَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ،
ثُمَّ رَفَعَ بُخَارَ الْمَاءِ فَفَتَقَ مِنْهُ السَّمَوَاتِ.
حَدَّثَنَا وَاصِلُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنِ الأعمش،
عن أبي ظبيان، عن ابن عباس نَحْوَهُ.
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ،
عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،
قَالَ: أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ الْقَلَمُ، فَجَرَى بِمَا هُوَ
كَائِنٌ.
حَدَّثَنَا تَمِيمُ بْنُ الْمُنْتَصِرِ، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ، عَنْ شَرِيكٍ،
عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ- أَوْ مُجَاهِدٌ-، عَنِ ابْنِ عباس بنحوه
(1/33)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
عَبْدِ الأَعْلَى، حَدَّثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ،
حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ أَنَّ ابن عباس قال: إن أول شيء خلق الْقَلَمُ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عطاء، عن ابى الضحا مُسْلِمِ
بْنِ صُبَيْحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: إِنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ خَلَقَ رَبِّي
عَزَّ وَجَلَّ القلم، فقال له: اكتب، فكتب ما هو كَائِنٌ إِلَى أَنْ تَقُومَ
السَّاعَةُ.
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ أَوَّلُ شَيْءٍ خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ
خَلْقِهِ النُّورُ وَالظُّلْمَةُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بْنُ الْفَضْلِ، قَالَ: قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ:
كَانَ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ النُّورُ وَالظُّلْمَةُ، ثُمَّ
مَيَّزَ بَيْنَهُمَا، فَجَعَلَ الظُّلْمَةَ لَيْلا أَسْوَدَ مُظْلِمًا، وَجَعَلَ
النُّورَ نَهَارًا مُضِيئًا مُبْصِرًا.
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك عِنْدِي بِالصَّوَابِ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ،
لِلْخَبَرِ الَّذِي ذكرت عن [رسول الله ص قبل، أَنَّهُ قَالَ:
أَوَّلُ شَيْءٍ خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ] .
فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: فَإِنَّكَ قُلْتَ: أَوْلَى الْقَوْلَيْنِ-
اللَّذَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ خَلَقَ اللَّهُ مِنْ خَلْقِهِ
الْقَلَمَ، وَالآخَرُ أَنَّهُ النُّورُ وَالظُّلْمَةُ- قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ
أَوَّلَ شَيْءٍ خَلَقَ اللَّهُ مِنْ خَلْقِهِ الْقَلَمَ، فَمَا وَجْهُ
الرِّوَايَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّتِي حَدَّثَكُمُوهَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ:
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي هَاشِمٍ، عَنْ
مُجَاهِدٍ، قَالَ: قُلْتُ لابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ نَاسًا يُكَذِّبُونَ
بِالْقَدَرِ، فَقَالَ: إِنَّهُمْ يُكَذِّبُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ، لآخُذَنَّ
بِشَعْرِ أَحَدِهِمْ فَلأَنْفُضَنَّ بِهِ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَهُ كَانَ
عَلَى عَرْشِهِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ شَيْئًا، فَكَانَ أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ
الْقَلَمَ، فَجَرَى بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ،
(1/34)
وَإِنَّمَا يَجْرِي النَّاسُ
عَلَى أَمْرٍ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ؟.
وعن ابن إسحاق، التي حدثكموها ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: يقول
الله عز وجل: «وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ
أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ» ، فكان كما وصف نفسه عز وجل، إذ ليس إلا
الماء عليه العرش، وعلى العرش ذو الجلال والإكرام، فكان أول ما خلق الله النور
والظلمة؟
قيل: أما قول ابن عباس: إن الله تبارك وتعالى كان عرشه على الماء قبل أن يخلق
شيئا، فكان أول ما خلق الله القلم- إن كان صحيحا عنه أنه قاله- فهو خبر منه أن
الله خلق القلم بعد خلقه عرشه، وقد روى عن أبي هاشم هذا الخبر شعبة، ولم يقل فيه
ما قال سفيان، من أن الله عز وجل كان على عرشه، فكان أول ما خلق القلم، بل روى ذلك
كالذي رواه سائر من ذكرنا من الرواة عن ابن عباس أنه قال: أول ما خلق الله عز وجل
القلم.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ:
حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الصَّمَدِ، قَالَ:
حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو هَاشِمٍ، سَمِعَ مُجَاهِدًا قَالَ:
سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ- لا يَدْرِي ابْنَ عُمَرَ أَوِ ابْنَ عَبَّاسٍ- قَالَ:
إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمُ فَقَالَ لَهُ: اجْرِ، فَجَرَى
الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ، وَإِنَّمَا يَعْمَلُ النَّاسُ الْيَوْمَ فِيمَا
قَدْ فُرِغَ مِنْهُ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ إِسْحَاقَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْهُ مَعْنَاهُ أَنَّ
اللَّهَ خَلَقَ النُّورَ وَالظُّلْمَةَ بَعْدَ خَلْقِهِ عَرْشَهُ، وَالْمَاءَ
الَّذِي عَلَيْهِ عَرْشُهُ وَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ ص الَّذِي رَوَيْنَاهُ عَنْهُ
أَوْلَى قَوْلٍ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ، لأَنَّهُ كَانَ أَعْلَمَ قَائِلٍ فِي
ذَلِكَ قولا بحقيقته وصحته، [وقد روينا عنه ع أَنَّهُ قَالَ: أَوَّلُ شَيْءٍ
خَلَقَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْقَلَمُ] مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ مِنْهُ
شَيْئًا مِنَ الأَشْيَاءِ أَنَهُّ تَقَدَّمَ خَلْقَ اللَّهِ إِيَّاهُ خلق القلم،
بل عم [بقوله ص: ان أول شيء خلقه الله القلم،] كل
(1/35)
شَيْءٍ، وَأَنَّ الْقَلَمَ
مَخْلُوقٌ قَبْلَهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَائِهِ مِنْ ذَلِكَ عَرْشًا وَلا مَاءً
وَلا شَيْئًا غَيْرَ ذَلِكَ.
فالرواية التي رويناها عن ابى ظبيان وابى الضحا، عن ابن عباس، أولى بالصحة عن ابن
عباس من خبر مجاهد عنه الذي رواه عنه أبو هاشم، إذ كان أبو هاشم قد اختلف في رواية
ذلك عنه شعبة وسفيان، على ما قد ذكرت من اختلافهما فيها.
وأما ابن إسحاق فإنه لم يسند قوله الذي قاله في ذلك إلى أحد، وذلك من الأمور التي
لا يدرك علمها إلا بخبر من الله عز وجل، أو خبر من رسول الله ص، وقد ذكرت الرواية
فيه عن رسول الله ص
(1/36)
القول في الذي ثنى خلق القلم
ثم إن الله جل جلاله خلق بعد القلم- وبعد أن أمره فكتب ما هو كائن إلى قيام
الساعة- سحابا رقيقا، وهو الغمام الذي ذكره جل وعز ذكره في محكم كتابه فقال: «هَلْ
يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ» ، وذلك
قبل أن يخلق عرشه، وبذلك ورد الخبر عن رسول الله ص.
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ الْقَطَّانُ، قَالا:
حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ يَعْلَى
بْنِ عَطَاءٍ، [عَنْ وَكِيعِ بْنِ حُدُسٍ، عَنْ عَمِّهِ أَبِي رَزِينٍ، قَالَ:
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيْنَ كَانَ رَبُّنَا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ
خَلْقَهُ؟ قَالَ:
كَانَ في عماء، ما تحته هواء، وما فوقه هَوَاءٌ، ثُمَّ خَلَقَ عَرْشَهُ عَلَى
الْمَاءِ] حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا
الْحَجَّاجُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ
وَكِيعِ بْنِ حُدُسٍ، عَنْ عَمِّهِ أَبِي رَزِينٍ العقيلي، قال:
(1/37)
[قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
أَيْنَ كَانَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ
وَالأَرْضَ؟
قَالَ: فِي عَمَاءٍ، فَوْقَهُ هَوَاءٌ، وَتَحْتَهُ هَوَاءٌ، ثُمَّ خَلَقَ عَرْشَهُ
عَلَى الْمَاءِ] .
حَدَّثَنَا خَلادُ بْنُ أَسْلَمَ، حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا الْمَسْعُودِيُّ، أَخْبَرَنَا جَامِعُ بْنُ شَدَّادٍ، عَنْ صَفْوَانَ
بْنِ مُحْرِزٍ، [عَنِ ابْنِ حُصَيْنٍ- وَكَانَ من اصحاب رسول الله ص- قال: اتى قوم
رسول الله ص فَدَخَلُوا عَلَيْهِ، فَجَعَلَ يُبَشِّرُهُمْ وَيَقُولُونَ:
أَعْطِنَا، حَتَّى ساء ذلك رسول الله ص، ثُمَّ خَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ وَجَاءَ
قَوْمٌ آخَرُونَ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا: جِئْنَا نُسَلِّمُ عَلَى رَسُولِ
الله ص، وَنَتَفَقَّهُ فِي الدِّينِ، وَنَسْأَلُهُ عَنْ بَدْءِ هَذَا الأَمْرِ،
قَالَ: فَاقْبَلُوا الْبُشْرَى إِذْ لَمْ يَقْبَلْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ
خَرَجُوا، قَالُوا: قَبِلْنَا، فَقَالَ رَسُولُ الله ص: كان الله لا شَيْءَ
غَيْرُهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ قَبْلَ كُلِّ
شَيْءٍ، ثُمَّ خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ] ثُمَّ أَتَانِي آتٍ فَقَالَ: تِلْكَ
نَاقَتُكَ قَدْ ذَهَبَتْ، فَخَرَجْتُ يَنْقَطِعُ دُونَهَا السَّرَابُ،
وَلَوَدِدْتُ أَنِّي تَرَكْتُهَا.
حَدَّثَنِي أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ
جَامِعِ ابن شَدَّادٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ، عَنْ عِمْرَانَ بن الحصين،
قال: [قال رسول الله ص: اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا بَنِي تَمِيمٍ، فَقَالُوا: قَدْ
بَشَّرْتَنَا فَأَعْطِنَا فَقَالَ:
اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا أَهْلَ الْيَمَنِ، فَقَالُوا: قَدْ قَبِلْنَا،
فَأَخْبِرْنَا عَنْ هَذَا الأمر كيف كان؟ فقال رسول الله ص: كَانَ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ عَلَى الْعَرْشِ، وَكَانَ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَكَتَبَ فِي اللَّوْحِ
كُلَّ شَيْءٍ يَكُونُ] قَالَ: فَأَتَانِي آتٍ فَقَالَ:
يَا عِمْرَانُ، هَذِهِ نَاقَتُكَ قَدْ حَلَّتْ عِقَالَهَا، فَقُمْتُ، فَإِذَا
السَّرَابُ يَنْقَطِعُ بَيْنِي وَبَيْنَهَا، فَلا أَدْرِي مَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ
(1/38)
ثُمَّ اخْتُلِفَ فِي الَّذِي
خَلَقَ تَعَالَى ذِكْرُهُ بَعْدَ الْعَمَاءِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: خَلَقَ بَعْدَ
ذَلِكَ عَرْشَهُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ:
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا
حيان ابن عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ، قَالَ، قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ الْعَرْشَ أَوَّلَ مَا خَلَقَ،
فَاسْتَوَى عَلَيْهِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمَاءَ قَبْلَ الْعَرْشِ، ثُمَّ
خَلَقَ عَرْشَهُ فَوَضَعَهُ عَلَى الْمَاءِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ:
حَدَّثَنَا مُوسَى بن هارون الهمداني، قال: حدثنا عمرو بن حَمَّادٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ بْنُ نَصْرٍ، عَنِ السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك وعن أبي
صالح، عن ابن عباس- وعن مرة الهمداني عن عبد الله بن مسعود- وعن ناس من اصحاب رسول
الله ص- قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ كَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ،
وَلَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا غَيْرَ مَا خَلَقَ قَبْلَ الْمَاءِ.
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلِ بن عسكر، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم،
قال: حدثني عبد الصمد بن معقل، قال: سمعت وهب بن منبه يقول: إن العرش كان قبل ان
يخلق السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ عَلَى الْمَاءِ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْلُقَ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ قَبَضَ مِنْ صَفَاةِ الْمَاءِ قَبْضَةً، ثُمَّ فَتَحَ
الْقَبْضَةَ فَارْتَفَعَتْ دُخَانًا، ثُمَّ قَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي
يَوْمَيْنِ، وَدَحَا الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ، وَفَرَغَ مِنَ الْخَلْقِ الْيَوْمَ
السَّابِعَ.
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الَّذِي خَلَقَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ بَعْدَ الْقَلَمِ
الْكُرْسِيَّ، ثُمَّ خَلَقَ بَعْدَ الْكُرْسِيِّ الْعَرْشَ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ
خَلَقَ الْهَوَاءَ وَالظُّلُمَاتِ، ثُمَّ خَلَقَ الْمَاءَ، فَوَضَعَ عَرْشَهُ عَلَيْهِ
(1/39)
قال أبو جعفر: وأولى القولين
في ذلك عندي بالصواب قول من قال: إن الله تبارك وتعالى خلق الماء قبل العرش، لصحة
الخبر الذي ذكرت قبل عن أبي رزين العقيلي عن [رسول الله ص أنه قال حين سئل:
أين كان ربنا عز وجل قبل أن يخلق خلقه؟ قال: كان في عماء، ما تحته هواء، وما فوقه
هواء، ثم خلق عرشه على الماء،] فاخبر ص أن الله خلق عرشه على الماء ومحال إذ كان
خلقه على الماء أن يكون خلقه عليه، والذي خلقه عليه غير موجود، إما قبله أو معه،
فإذا كان ذلك كذلك، فالعرش لا يخلو من أحد أمرين، إما أن يكون خلق بعد خلق الله
الماء، وإما أن يكون خلق هو والماء معا فأما أن يكون خلقه قبل خلق الماء، فذلك غير
جائز صحته على ما روى عن ابى رزين، عن النبي ص.
وقد قيل: إن الماء كان على متن الريح حين خلق عرشه عليه، فإن كان ذلك كذلك، فقد
كان الماء والريح خلقا قبل العرش.
ذكر من قال: كان الماء على متن الريح:
حَدَّثَنِي ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ
الأَعْمَشِ، عَنِ المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، قَالَ: سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ
عَنْ قَوْلِهِ عَزَّ وجل:
«وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ» : عَلَى أَيِّ شَيْءٍ كَانَ الْمَاءُ؟ قَالَ:
عَلَى مَتْنِ الرِّيحِ.
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ،
عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: سُئِلَ ابْنُ
عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ:
«وَكَانَ عرشه على الماء» : عَلَى أَيِّ شَيْءٍ كَانَ الْمَاءُ؟ قَالَ: عَلَى متن
الريح
(1/40)
حدثنا القاسم بن الحسن،
حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ دَاوُدَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ،
عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ.
قَالَ: وَالسَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَكُلُّ مَا فِيهِنَّ مِنْ شَيْءٍ يُحِيطُ بِهَا
الْبِحَارُ، وَيُحِيطُ بِذَلِكَ كُلِّهِ الْهَيْكَلُ، وَيُحِيطُ بِالْهَيْكَلِ-
فِيمَا قِيلَ- الْكُرْسِيُّ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ:
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سهل بن عسكر، حَدَّثَنَا إسماعيل بن عبد الكريم، قال:
حدثني عبد الصمد أنه سمع وهبا يقول- وذكر من عظمته- فقال: إن السموات والأرض
والبحار لفي الهيكل، وإن الهيكل لفي الكرسي، وإن قدميه عز وجل لعلى الكرسي، وهو
يحمل الكرسي، وقد عاد الكرسي كالنعل في قدميه.
وسئل وهب: ما الهيكل؟ قال: شيء من أطراف السموات محدق بالأرضين والبحار كأطناب
الفسطاط.
وسئل وهب عن الأرضين: كيف هي؟ قال: هي سبع أرضين ممهدة جزائر، بين كل أرضين بحر،
والبحر محيط بذلك كله، والهيكل من وراء البحر وقد قيل: إنه كان بين خلقه القلم
وخلقه سائر خلقه ألف عام.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ:
حَدَّثَنَا القاسم بن الحسن، قال: حَدَّثَنَا الحسين بن داود، قال: حَدَّثَنَا
مبشر الحلبي، عن أرطاة بن المنذر، قال: سمعت ضمرة يقول: إن الله خلق القلم، فكتب
به ما هو خالق وما هو كائن من خلقه، ثم إن ذلك الكتاب سبح الله ومجده ألف عام قبل
أن يخلق شيئا من الخلق، فلما أراد جل جلاله خلق السموات والأرض خلق- فيما ذكر-
أياما ستة، فسمى كل يوم منهن باسم غير الذي سمى به الآخر
(1/41)
وقيل: إن اسم أحد تلك الأيام
الستة أبجد، واسم الآخر منهن هوز، واسم الثالث منهن حطي، واسم الرابع منهن كلمن،
واسم الخامس منهن سعفص، واسم السادس منهن قرشت.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ:
حَدَّثَنِي الحضرمي، قال: حَدَّثَنَا مصرف بن عمرو اليامى، حدثنا حفص ابن غياث، عن
العلاء بن المسيب، عن رجل من كنده، قال: سمعت الضحاك ابن مزاحم يقول: خلق الله
السموات والأرض في ستة أيام، ليس منها يوم إلا له اسم: أبجد، هوز، حطي، كلمن،
سعفص، قرشت وقد حدث به عن حفص غير مصرف وقال: عنه، عن العلاء بن المسيب، قال:
حَدَّثَنِي شيخ من كندة قال: لقيت الضحاك بن مزاحم فحدثني قال: سمعت زيد بن أرقم
قال: إن الله تعالى خلق السموات والأرض في ستة أيام، لكل يوم منها اسم: أبجد، هوز،
حطي، كلمن، سعفص، قرشت.
وقال آخرون: بل خلق الله واحدا فسماه الأحد، وخلق ثانيا فسماه الاثنين، وخلق ثالثا
فسماه الثلاثاء، ورابعا فسماه الأربعاء، وخامسا فسماه الخميس.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ:
حَدَّثَنَا تَمِيمُ بن المنتصر، قال: أخبرنا إسحاق، عن شريك، عَنْ غَالِبِ بْنِ
غَلابٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: إِنَّ
اللَّهَ خَلَقَ يَوْمًا وَاحِدًا فَسَمَّاهُ الأَحَدَ، ثُمَّ خَلَقَ ثَانِيًا
فَسَمَّاهُ الاثْنَيْنَ، ثُمَّ خَلَقَ ثَالِثًا فَسَمَّاهُ الثُّلاثَاءَ، ثُمَّ
خَلَقَ رَابِعًا فَسَمَّاهُ الأَرْبِعَاءَ، ثُمَّ خَلَقَ خَامِسًا فَسَمَّاهُ
الْخَمِيسَ
(1/42)
وَهَذَانِ الْقَوْلانِ غَيْرُ
مُخْتَلِفَيْنِ، إِذْ كَانَ جَائِزًا ان تكون أَسْمَاءُ ذَلِكَ بِلِسَانِ
الْعَرَبِ عَلَى مَا قَالَهُ عَطَاءٌ، وَبِلِسَانِ آخَرِينَ، عَلَى مَا قَالَهُ
الضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ.
وَقَدْ قِيلَ إِنَّ الأَيَّامَ سَبْعَةٌ لا سِتَّةٌ ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ:
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سهل بن عسكر، حَدَّثَنَا إسماعيل بن عبد الكريم،
حَدَّثَنِي عبد الصمد بن معقل، قال: سمعت وهب بن منبه: يقول: الأيام سبعة.
وكلا القولين- اللذين روينا أحدهما عن الضحاك وعطاء، من أن الله خلق الأيام الستة،
والآخر منهما عن وهب بن منبه من أن الأيام سبعة- صحيح مؤتلف غير مختلف، وذلك أن
معنى قول عطاء والضحاك في ذلك كان أن الأيام التي خلق الله فيهن الخلق من حين
ابتدائه في خلق السماء والأرض وما فيهن إلى أن فرغ من جميعه ستة أيام، كما قال جل
ثناؤه: «وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ» ،
وأن معنى قول وهب بن منبه في ذلك كان أن عدد الأيام التي هي أيام الجمعة سبعة أيام
لا ستة.
واختلف السلف في اليوم الذي ابتدأ الله عز وجل فيه في خلق السموات والأرض، فقال بعضهم:
ابتدأ في ذلك يوم الأحد.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ:
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ شَاهِينَ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ،
عَنِ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ
أَخِيهِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ سَلامٍ: إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ابْتَدَأَ الْخَلْقَ،
فَخَلَقَ الأَرْضَ يَوْمَ الأَحَدِ وَيَوْمَ الاثْنَيْنِ
(1/43)
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ
إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنِي أَبُو
مَعْشَرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ
أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بَدَأَ الْخَلْقَ يَوْمَ الأَحَدِ،
فَخَلَقَ الأَرَضِينَ فِي الأَحَدِ وَالاثْنَيْنِ.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا جرير، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن كعب،
قال: بدأ الله خلق السموات والأرض يوم الأحد والاثنين.
حَدَّثَنِي محمد بن أبي منصور الآملي، حَدَّثَنَا علي بن الهيثم، عن المسيب بن
شريك، عن أبي روق، عن الضحاك في قوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ» قال: من أيام الآخرة، كل يوم مقداره الف سنه،
ابتدأ الخلق يوم الأجد.
حَدَّثَنِي المثنى، حَدَّثَنَا الحجاج، حَدَّثَنَا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن
مجاهد، قال: بدأ الخلق يوم الأحد وقال آخرون: اليوم الذي ابتدأ الله فيه في ذلك
يوم السبت.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، قَالَ: حَدَّثَنِي
محمد ابن أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: يَقُولُ أَهْلُ التَّوْرَاةِ: ابْتَدَأَ اللَّهُ
الْخَلْقَ يَوْمَ الأَحَدِ:
وَقَالَ أَهْلُ: الإِنْجِيلِ: ابْتَدَأَ اللَّهُ الْخَلْقَ يَوْمَ الاثْنَيْنِ
وَنَقُولُ نَحْنُ الْمُسْلِمُونَ فِيمَا انْتَهَى إِلَيْنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ
ص: ابْتَدَأَ اللَّهُ الْخَلْقَ يَوْمَ السَّبْتِ.
وَقَدْ رُوِيَ عن رسول الله ص الَّذِي قَالَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْ هَذَيْنِ
الْفَرِيقَيْنِ اللَّذَيْنِ قَالَ أَحَدُهُمَا: ابْتَدَأَ اللَّهُ الْخَلْقَ فِي
يَوْمِ الأَحَدِ، وَقَالَ الآخَرُ مِنْهُمَا:
ابْتَدَأَ فِي يَوْمِ السَّبْتِ، وَقَدْ مَضَى ذِكْرُنَا الْخَبَرَيْنِ، غَيْرَ
أَنَّا نُعِيدُ مِنْ ذَلِكَ فِي هَذَا
(1/44)
الْمَوْضِعِ بَعْضَ مَا فِيهِ
مِنَ الدَّلالَةِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ كُلِّ فَرِيقٍ مِنْهُمَا.
فأما الخبر عنه بتحقيق ما قال القائلون: كان ابتداء الخلق يوم الأحد، فما
حَدَّثَنَا بِهِ هَنَّادُ بن السري، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ
عَيَّاشٍ، عَنِ أبي سعد البقال، عن عكرمة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- قَالَ هَنَّادٌ:
وَقَرَأْتُ سَائِرَ الحديث- ان اليهود أتت النبي ص فَسَأَلَتْهُ عَنْ خَلْقِ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَقَالَ: خَلَقَ اللَّهُ الأَرْضَ يَوْمَ الأَحَدِ
وَالاثْنَيْنِ.
وأما الخبر عنه بتحقيق ما قاله القائلون من أن ابتداء الخلق كان يوم السبت، فما
حَدَّثَنِي القاسم بن بشر بن معروف والحسين بن علي الصدائي، قالا:
حدثنا حجاج، قال ابن جريج: أخبرني إسماعيل بن أمية، عن أيوب بن خالد، عن عبد الله
بن رافع مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: [أخذ رسول الله ص
بِيَدِي، فَقَالَ: خَلَقَ اللَّهُ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ، وَخَلَقَ
الْجِبَالَ يَوْمَ الأَحَدِ] .
وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قال: اليوم الذي ابتدأ الله تعالى ذكره
فيه خلق السموات والأرض يوم الأحد، لإجماع السلف من أهل العلم على ذلك.
فأما ما قال ابن إسحاق في ذلك، فإنه إنما استدل- بزعمه- على أن ذلك كذلك، لأن الله
عز ذكره فرغ من خلق جميع خلقه يوم الجمعة، وذلك اليوم السابع، وفيه استوى على
العرش، وجعل ذلك اليوم عيدا للمسلمين، ودليله على ما زعم أنه استدل به على صحه
قوله فيما حكينا عنه من ذلك هو الدليل على خطئه فيه، وذلك ان الله تبارك وتعالى أخبر
عباده في غير موضع من محكم تنزيله، أنه خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة
أيام، فقال: «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ
(1/45)
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما
بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ
دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ» وقال تعالى ذكره:
«قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ
وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ
مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ
سَواءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها
وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ فَقَضاهُنَّ
سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا
السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ
الْعَلِيمِ» .
ولا خلاف بين جميع أهل العلم أن اليومين اللذين ذكرهما الله تبارك وتعالى في قوله:
«فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ» داخلان في الأيام الستة اللاتي
ذكرهن قبل ذلك، فمعلوم إذ كان الله عز وجل إنما خلق السموات والأرضين وما فيهن في
ستة أيام، وكانت الأخبار مع ذلك متظاهرة عن رسول الله ص بان آخر ما خلق الله من
خلقه آدم، وأن خلقه إياه كان في يوم الجمعة- إن يوم الجمعة الذي فرغ فيه من خلق
خلقه داخل في الأيام الستة التي أخبر الله تعالى ذكره أنه خلق خلقه فيهن، لأن ذلك
لو لم يكن داخلا في الأيام الستة كان إنما خلق خلقه في سبعة أيام، لا في ستة، وذلك
خلاف ما جاء به التنزيل، فتبين إذا- إذ كان الأمر كالذي وصفنا في ذلك- أن أول
الأيام التي ابتدأ الله فيها خلق السموات والارض وما فيهن من خلقه يوم الأحد، إذ
كان الآخر يوم الجمعة، وذلك ستة أيام، كما قال ربنا جل جلاله.
فأما الأخبار الواردة عن رسول الله ص وعن أصحابه بأن الفراغ من الخلق كان يوم
الجمعة، فسنذكرها في مواضعها إن شاء الله تعالى
(1/46)
القول فيما خلق الله في كل يوم
من الأيام السته التي ذكر الله في كتابه أنه خلق فيهن السموات والأرض وما بينهما
اختلف السلف من أهل العلم في ذلك:
فقال بعضهم ما حَدَّثَنِي به المثنى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنِي أَبُو مَعْشَرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي
سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ، أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ بَدَأَ
الْخَلْقَ يَوْمَ الأَحَدِ، فَخَلَقَ الأَرَضِينَ فِي الأَحَدِ وَالاثْنَيْنِ،
وَخَلَقَ الأَقْوَاتَ وَالرَّوَاسِي فِي الثُّلاثَاءِ وَالأَرْبِعَاءِ، وَخَلَقَ
السَّمَوَاتِ فِي الْخَمِيسِ وَالْجُمُعَةِ، وَفَرَغَ فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ
يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَخَلَقَ فِيهَا آدَمَ عَلَى عَجَلٍ، فَتِلْكَ السَّاعَةُ
الَّتِي تَقُومُ فِيهَا السَّاعَةُ.
حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بن حماد، حدثنا أسباط، عن
السدي، في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس- وعن مرة الهمداني عن
ابن مسعود- وعن ناس من أصحاب النبي ص قَالُوا: جَعَلَ- يَعْنُونَ رَبَّنَا
تَبَارَكَ وَتَعَالَى- سَبْعَ أَرَضِينَ فِي يَوْمَيْنِ: الأَحَدِ وَالاثْنَيْنِ،
وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ، وَخَلَقَ الْجِبَالَ فِيهَا
وأقوات أهلها، وشجرها وما ينبغي لها في يَوْمَيْنِ: فِي الثُّلاثَاءِ
وَالأَرْبِعَاءِ، ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَجَعَلَهَا
سَمَاءً وَاحِدَةً، ثُمَّ فَتَقَهَا فَجَعَلَهَا سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ:
الْخَمِيسِ وَالْجُمُعَةِ.
حَدَّثَنَا تَمِيمُ بْنُ الْمُنْتَصِرِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إسحاق، عن شريك، عن
غالب ابن غَلابٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:
خَلَقَ اللَّهُ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ الأَحَدِ وَالاثْنَيْنِ.
ففي قول هؤلاء خلقت الأرض قبل السماء، لأنها خلقت عندهم في الأحد والاثنين
(1/47)
وقال آخرون: خلق الله عز وجل
الأرض قبل السماء بأقواتها من غير أن يدحوها، ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع
سموات، ثم دحا الأرض بعد ذلك.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ:
حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ:
حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ حَيْثُ ذَكَرَ خَلَقَ الأَرْضَ قَبْلَ السَّمَاءِ، ثُمَّ
ذَكَرَ السَّمَاءَ قَبْلَ الأَرْضِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الأَرْضَ
بِأَقْوَاتِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْحُوَهَا قَبْلَ السَّمَاءِ، ثُمَّ اسْتَوَى
إلى السماء فسواهن سبع سموات، ثم دحا الأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ
تَعَالَى: «وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها» .
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي
عَمِّي، قَالَ:
حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ
دَحاها أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها وَالْجِبالَ أَرْساها» ، يَعْنِي
أَنَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ السَّمَاءِ قَبْلَ
أَنْ يَخْلُقَ أَقْوَاتَ الأَرْضِ بَثَّ أَقْوَاتَ الأَرْضِ فِيهَا بَعْدَ خَلْقِ
السَّمَاءِ، وارسى الجبال- يعنى بذلك دحوها- وَلَمْ تَكُنْ تَصْلُحْ أَقْوَاتُ
الأَرْضِ وَنَبَاتُهَا إِلا بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ
وَجَلَّ: «وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها» ، أَلَمْ تَسْمَعْ أَنَّهُ قَالَ:
«أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها» ؟ قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك
عندنا ما قاله الذين قالوا:
إن الله خلق الأرض يوم الأحد، وخلق السماء يوم الخميس، وخلق النجوم والشمس والقمر
يوم الجمعة لصحة الخبر الذي ذكرنا قبل عن ابن عباس، عن رسول الله ص بذلك وغير
مستحيل ما روينا في ذلك عن ابن عباس من القول، وهو أن يكون الله تعالى ذكره خلق
الأرض ولم يدحها، ثم خلق السموات فسواهن، ثم دحا الأرض بعد ذلك، فأخرج منها ماءها
(1/48)
ومرعاها، والجبال أرساها، بل
ذلك عندي هو الصواب من القول في ذلك، وذلك أن معنى الدحو غير معنى الخلق، وقد قال
الله عز وجل: «أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها رَفَعَ سَمْكَها
فَسَوَّاها وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها.
وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها وَالْجِبالَ
أَرْساها» .
فإن قال قائل: فإنك قد علمت أن جماعة من أهل التأويل قد وجهت قول الله:
«وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها» إلى معنى مع ذلك دحاها، فما برهانك على صحة ما
قلت، من أن ذلك بمعنى بعد التي هي خلاف قبل؟
قيل: المعروف من معنى بعد في كلام العرب هو الذي قلنا من أنها بخلاف معنى قبل لا
بمعنى مع، وإنما توجه معاني الكلام إلى الأغلب عليه من معانيه المعروفة في أهله،
لا إلى غير ذلك.
وقد قيل: إن الله خلق البيت العتيق على الماء على أربعة أركان، قبل أن يخلق الدنيا
بألفي عام، ثم دحيت الأرض من تحته.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ الْقُمِّيُّ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ
عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وَضَعَ الْبَيْتَ على الماء على أربعة
أركان، قبل أن يخلق الدنيا بألفي عام، ثم دحيت الأرض مِنْ تَحْتِ الْبَيْتِ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مِهْرَانُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ
الأَعْمَشِ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الأَخْنَسِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عُمَرَ، قَالَ: خَلَقَ اللَّهُ الْبَيْتَ قَبْلَ الأَرْضِ بِأَلْفَيْ سَنَةٍ،
وَمِنْهُ دُحِيَتِ الأَرْضُ.
وَإِذَا كَانَ الأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ خَلْقُ الأَرْضِ قَبْلَ خَلْقِ
السَّمَوَاتِ، وَدَحْوِ
(1/49)
الأَرْضِ وَهُوَ بَسْطُهَا
بِأَقْوَاتِهَا وَمَرَاعِيهَا وَنَبَاتِهَا، بَعْدَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ، كَمَا
ذَكَرْنَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَدْ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مِهْرَانُ، عن ابن سِنَانٍ،
عَنْ أَبِي بَكْرٍ، [قَالَ: جَاءَ الْيَهُودُ الى النبي ص فَقَالُوا:
يَا مُحَمَّدُ، أَخْبِرْنَا: مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنَ الْخَلْقِ فِي هَذِهِ
الأَيَّامِ السِّتَّةِ؟ فَقَالَ: خَلَقَ الأَرْضَ يَوْمَ الأَحَدِ وَالاثْنَيْنِ،
وَخَلَقَ الْجِبَالَ يَوْمَ الثُّلاثَاءِ، وَخَلَقَ الْمَدَائِنَ وَالأَقْوَاتَ
وَالأَنْهَارَ وَعُمْرَانَهَا وَخَرَابَهَا يَوْمَ الأَرْبِعَاءِ، وَخَلَقَ
السَّمَوَاتِ وَالْمَلائِكَةَ يَوْمَ الْخَمِيسِ، إِلَى ثَلاثِ سَاعَاتٍ بَقِينَ
مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَخَلَقَ فِي أَوَّلِ الثَّلاثِ سَاعَاتٍ الآجَالَ،
وَفِي الثَّانِيَةِ الآفَةَ، وَفِي الثَّالِثَةِ آدَمَ قَالُوا: صدقت ان اتممت،
فعرف النبي ص مَا يُرِيدُونَ، فَغَضِبَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: «وَما
مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ] » .
فإن قال قائل: فإن كان الأمر كما وصفت من أن الله تعالى خلق الأرض قبل السماء، فما
معنى قول ابن عباس الذى حدثكموه واصل ابن عَبْدِ الأَعْلَى الأَسَدِيُّ، قَالَ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ شَيْءٍ
الْقَلَمُ، فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ، فَقَالَ: وَمَا أَكْتُبُ يَا رَبِّ؟ قَالَ:
اكْتُبِ الْقَدَرَ، قَالَ:
فَجَرَى الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ مِنْ ذَلِكَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ،
ثُمَّ رَفَعَ بُخَارَ الْمَاءِ فَفَتَقَ مِنْهُ السَّمَوَاتِ، ثُمَّ خَلَقَ
النُّونَ، فَدُحِيَتِ الأَرْضُ عَلَى ظَهْرِهِ، فَاضْطَرَبَ النُّونُ، فَمَادَتِ
الأَرْضُ فَأُثْبِتَتْ بِالْجِبَالِ، فَإِنَّهَا لَتَفْخَرُ عَلَى الارض
(1/50)
حَدَّثَنِي وَاصِلٌ، قَالَ:
حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
نَحْوَهُ.
حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ
شُعْبَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:
أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى الْقَلَمَ فَجَرَى بِمَا هُوَ كَائِنٌ، ثُمَّ
رَفَعَ بُخَارَ الْمَاءِ، فَخُلِقَتْ مِنْهُ السَّمَوَاتُ، ثُمَّ خَلَقَ النُّونَ،
فَبُسِطَتِ الأَرْضُ عَلَى ظهر النون، فتحرك النون، فمادت الارض فاثبت بالجبال،
فان الْجِبَالَ لَتَفْخَرُ عَلَى الأَرْضِ قَالَ: وَقَرَأَ: «ن وَالْقَلَمِ وَما
يَسْطُرُونَ» .
حدثني تميم بن المنتصر، قال: أخبرنا إسحاق، عَنْ شَرِيكٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ
أَبِي ظَبْيَانَ- او مُجَاهِدٍ- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِنَحْوِهِ، إِلا أَنَّهُ
قَالَ: فَفُتِقَتْ مِنْهُ السَّمَوَاتُ.
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ، عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ قَالَ: أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى الْقَلَمُ فَقَالَ: اكْتُبْ،
فَقَالَ: مَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبِ الْقَدَرَ، قَالَ: فَجَرَى بِمَا هُوَ
كَائِنٌ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ ثُمَّ خَلَقَ النُّونَ،
وَرَفَعَ بُخَارَ الْمَاءِ فَفُتِقَتْ مِنْهُ السَّمَاءُ، وَبُسِطَتِ الأَرْضُ
عَلَى ظَهْرِ النُّونِ، فَاضْطَرَبَ النُّونُ، فَمَادَتِ الأَرْضُ فَأُثْبِتَتْ
بِالْجِبَالِ، قَالَ: فَإِنَّهَا لَتَفْخَرُ عَلَى الأَرْضِ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ
السَّائِبِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى مُسْلِمِ بْنِ صُبَيْحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
قَالَ: أَوَّلُ شَيْءٍ خَلَقَ
(1/51)
اللَّهُ تَعَالَى الْقَلَمُ،
فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ، فَكَتَبَ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ،
ثُمَّ خَلَقَ النُّونَ فَوْقَ الْمَاءِ، ثُمَّ كَبَسَ الأَرْضَ عَلَيْهِ.
قيل: ذلك صحيح على ما روي عنه وعن غيره من معنى ذلك مشروحا مفسرا غير مخالف شيئا
مما رويناه عنه في ذلك.
فإن قال: وما الذي روي عنه وعن غيره من شرح ذلك الدال على صحة كل ما رويت لنا في
هذا المعنى عنه؟
قيل له: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ الْهَمْدَانِيُّ وَغَيْرُهُ، قَالُوا:
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ بْنُ نَصْرٍ، عَنِ
السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صالح، عن ابن عباس- وعن مرة
الهمداني عن عبد الله بن مسعود- وعن ناس من اصحاب رسول الله ص «هُوَ الَّذِي
خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ
فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ» قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ عَرْشُهُ
عَلَى الْمَاءِ وَلَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا غَيْرَ مَا خَلَقَ قَبْلَ الْمَاءِ،
فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ أَخْرَجَ مِنَ الْمَاءِ دُخَانًا
فَارْتَفَعَ فَوْقَ الْمَاءِ، فَسَمَا عَلَيْهِ، فَسَمَّاهُ سَمَاءً، ثُمَّ
أَيْبَسَ الْمَاءَ، فَجَعَلَهُ أَرْضًا وَاحِدَةً، ثُمَّ فَتَقَهَا فَجَعَلَهَا
سَبْعَ أَرَضِينَ فِي يَوْمَيْنِ، فِي الأَحَدِ وَالاثْنَيْنِ، فَخَلَقَ الأَرْضَ
عَلَى حُوتٍ- وَالْحُوتُ هُوَ النُّونُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي
الْقُرْآنِ: «ن وَالْقَلَمِ» - وَالْحُوتُ فِي الْمَاءِ، وَالْمَاءُ عَلَى ظَهْرِ
صَفَاةٍ، وَالصَّفَاةُ عَلَى ظَهْرِ مَلَكٍ، وَالْمَلَكُ عَلَى صَخْرَةٍ، والصخرة
على الرِّيحِ- وَهِيَ الصَّخْرَةُ الَّتِي ذَكَرَ لُقْمَانُ- لَيْسَتْ فِي
السَّمَاءِ وَلا فِي الأَرْضِ، فَتَحَرَّكَ الْحُوتُ فَاضْطَرَبَ، فَتَزَلْزَلَتِ
الأَرْضُ، فَأَرْسَى عَلَيْهَا الْجِبَالُ فَقَرَّتْ، فالجبال
(1/52)
تَفْخَرُ عَلَى الأَرْضِ،
فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: «وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ
بِكُمْ*» .
قال أبو جعفر: فقد أنبأ قول هؤلاء الذين ذكرت: إن الله تعالى أخرج من الماء دخانا
حين أراد أن يخلق السموات والأرض، فسما عليه- يعنون بقولهم:
فسما عليه علا على الماء، وكل شيء كان فوق شيء عاليا عليه فهو له سماء- ثم أيبس
بعد ذلك الماء، فجعله أرضا واحدة- إن الله خلق السماء غير مسواة قبل الأرض، ثم خلق
الأرض.
وإن كان الأمر كما قال هؤلاء، فغير محال أن يكون الله تعالى أثار من الماء دخانا
فعلاه على الماء، فكان له سماء، ثم ايبس الماء فصار الدخان الذي سما عليه أرضا،
ولم يدحها، ولم يقدر فيها أقواتها، ولم يخرج منها ماءها ومرعاها، حتى استوى إلى السماء،
التي هي الدخان الثائر من الماء العالي عليه، فسواهن سبع سموات، ثم دحا الأرض التي
كانت ماء فيبسه ففتقه، فجعلها سبع أرضين، وقدر فيها أقواتها، و «أَخْرَجَ مِنْها
ماءَها وَمَرْعاها وَالْجِبالَ أَرْساها» ، كما قال عز وجل فيكون كل الذي روي عن
ابن عباس في ذلك- على ما رويناه- صحيحا معناه.
وأما يوم الاثنين فقد ذكرنا اختلاف العلماء فيما خلق فيه، وما روي في ذلك عن رسول
الله ص قبل.
وأما ما خلق في يوم الثلاثاء والأربعاء، فقد ذكرنا أيضا بعض ما روي فيه، ونذكر في
هذا الموضع بعض ما لم نذكر منه قبل.
فالذي صح عندنا أنه خلق فيهما ما حَدَّثَنِي به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن
حماد، حدثنا أسباط، عن السدي، في خبر ذكره
(1/53)
عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن
ابن عباس- وعن مرة الهمداني، عن عبد الله بن مسعود- وعن ناس من أصحاب رسول الله ص:
وخلق الجبال فيها- يعني في الأرض- وأقوات أهلها وشجرها وما ينبغي لها في يومين: في
الثلاثاء والأربعاء، وذلك حين يقول الله عز وجل: «قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ
بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ
رَبُّ الْعالَمِينَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها
وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ» ،
يقول: من سأل فهكذا الأمر، ثم استوى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ، وكان ذلك
الدخان من تنفس الماء حين تنفس، فجعلها سماء واحدة، ثم فتقها فجعلها سبع سموات في
يومين في الخميس والجمعة.
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي
أَبُو مَعْشَرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
سَلامٍ، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الأَقْوَاتَ وَالرَّوَاسِيَ فِي
الثُّلاثَاءِ وَالأَرْبِعَاءِ.
حَدَّثَنِي تميم بن المنتصر، قال: أخبرنا إسحاق، عن شَرِيكٍ، عَنْ غَالِبِ بْنِ
غَلابٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:
إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْجِبَالَ يَوْمَ الثُّلاثَاءِ فَذَلِكَ قَوْلُ
النَّاسِ: هُوَ يَوْمٌ ثَقِيلٌ.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا، ما رويناه [عن النبي ص، قال: إن
الله تعالى خلق يوم الثلاثاء الجبال وما فيهن من المنافع، وخلق يوم الأربعاء
الشجر، والماء، والمدائن، والعمران، والخراب] حَدَّثَنَا بِذَلِكَ هَنَّادٌ،
قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنِ أبي سعد البقال، عن عكرمة، عن
ابن عباس، عن النبي ص.
وقد روى عن النبي ص أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْجِبَالَ يَوْمَ الأَحَدِ، وَالشَّجَرَ
يَوْمَ الاثْنَيْنِ، وَخَلَقَ الْمَكْرُوهَ يَوْمَ الثُّلاثَاءِ، وَالنُّورَ يوم
الأربعاء،
(1/54)
حَدَّثَنِي به القاسم بن بشر
بن معروف، والحسين بن علي الصدائي، قالا:
حدثنا حجاج، قال ابن جريج: أخبرني إسماعيل بن أمية، عن أيوب بن خالد، عن عبد الله
بن رافع مولى أم سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي ص.
والخبر الأول أصح مخرجا، وأولى بالحق، لأنه قول أكثر السلف.
وأما يوم الخميس فإنه خلق فيه السموات، ففتقت بعد أن كانت رتقا، كما حَدَّثَنِي
موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال:
حدثنا أسباط، عن السدي، في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح عن ابن عباس- وعن
مرة الهمداني عن عبد الله بن مسعود- وعن ناس من اصحاب النبي ص: «ثُمَّ اسْتَوى
إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ» ، وكان ذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس وجعلها
سماء واحدة، ثم فتقها فجعلها سبع سموات في يومين، في الخميس والجمعة.
وإنما سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السموات والأرض «وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ
أَمْرَها» قال: خلق في كل سماء خلقها من الملائكة، والخلق الذي فيها من البحار
وجبال البرد وما لم يعلم، ثم زين السماء الدنيا بالكواكب، فجعلها زينة وحفظا، تحفظ
من الشياطين، فلما فرغ من خلق ما أحب استوى على العرش فذلك حين يقول: «خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ*» ، ويقول:
«كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما» .
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو
مَعْشَرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ،
قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ السَّمَوَاتِ فِي الْخَمِيسِ وَالْجُمُعَةِ،
وَفَرَغَ فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ،
(1/55)
فَخَلَقَ فِيهَا آدَمَ عَلَى
عَجَلٍ، فَتِلْكَ السَّاعَةُ التي تقوم فيها الساعة.
حدثني تميم بن المنتصر، قال: أخبرنا إسحاق، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ غَالِبِ بْنِ
غَلابٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: إِنَّ
اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ مَوَاضِعَ الأَنْهَارِ والشجر يوم الأربعاء، وخلق الطير
والوحوش وَالْهَوَامَّ وَالسِّبَاعَ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَخَلَقَ الإِنْسَانَ
يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَفَرَغَ مِنْ خَلْقِ كُلِّ شَيْءٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وهذا
الذي قاله من ذكرنا قوله، من أن الله عز وجل خلق السموات والملائكة وآدم في يوم
الخميس والجمعة، هو الصحيح عندنا، للخبر الذي حَدَّثَنَا بِهِ هَنَّادُ بن السري
قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنِ أبي سعد البقال، عن عكرمة، عن
ابن عباس، عن النبي ص- قَالَ:
هَنَّادٌ، وَقَرَأْتُ سَائِرَ الْحَدِيثِ- قَالَ: وَخَلَقَ يَوْمَ الْخَمِيسِ
السَّمَاءَ، وَخَلَقَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ النُّجُومَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ
وَالْمَلائِكَةَ إِلَى ثَلاثِ سَاعَاتٍ بَقِيَتْ مِنْهُ، فَخَلَقَ فِي أَوَّلِ
سَاعَةٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلاثِ سَاعَاتِ الآجَالَ، مَنْ يَحْيَا وَمَنْ يَمُوتُ،
وَفِي الثَّانِيَةِ أَلْقَى الآفَةَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مِمَّا يَنْتَفِعُ بِهِ
النَّاسُ، وَفِي الثَّالِثَةِ آدَمَ وَأَسْكَنَهُ الْجَنَّةَ، وَأَمَرَ إِبْلِيسَ
بِالسُّجُودِ، وَأَخْرَجَهُ مِنْهَا فِي آخِرِ سَاعَةٍ.
حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ بِشْرِ بن معروف، والحسين بن علي الصدائي، قالا: حدثنا
حجاج، قال ابن جريج: أخبرني إسماعيل بن اميه، عن أيوب ابن خالد، عن عبد الله بن
رافع مولى أُمِّ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: [أَخَذَ رسول الله ص
بِيَدِي فَقَالَ: وَبَثَّ فِيهَا- يَعْنِي فِي الأَرْضِ- الدَّوَابَّ يَوْمَ
الْخَمِيسِ، وَخَلَقَ آدَمَ بَعْدَ الْعَصْرِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ آخِرَ
خَلْقٍ فِي آخِرِ سَاعَةٍ، مِنْ سَاعَاتِ الْجُمُعَةِ فِيمَا بَيْنَ الْعَصْرِ الى
الليل] .
فإذا كان الله تعالى ذكره خلق الخلق من لدن ابتداء خلق السموات والأرض إلى حين
فراغه من خلق جميعهم في ستة أيام، وكان كل يوم من
(1/56)
الأيام الستة التي خلقهم فيها
مقداره ألف سنة من أيام الدنيا، وكان بين ابتدائه في خلق ذلك وخلق القلم الذي أمره
بكتابه كل ما هو كائن إلى قيام الساعة ألف عام، وذلك يوم من أيام الآخرة التي قدر
اليوم الواحد منها ألف عام من أيام الدنيا- كان معلوما أن قدر مدة ما بين أول
ابتداء ربنا عز وجل في خلق ما خلق من خلقه إلى الفراغ من آخرهم سبعة آلاف عام يزيد
إن شاء الله شيئا أو ينقص شيئا، على ما قد روينا من الآثار والأخبار التي ذكرناها،
وتركنا ذكر كثير منها كراهة إطالة الكتاب بذكرها.
وإذا كان ذلك كذلك، وكان صحيحا أن مدة ما بين فراغ ربنا تعالى ذكره- من خلق جميع
خلقه إلى وقت فناء جميعهم بما قد دللنا قبل، واستشهدنا من الشواهد، وبما سنشرح فيما
بعد- سبعة آلاف سنة، تزيد قليلا أو تنقص قليلا- كان معلوما بذلك أن مدة ما بين أول
خلق خلقه الله تعالى إلى قيام الساعة وفناء جميع العالم، أربعة عشر ألف عام من
أعوام الدنيا، وذلك أربعة عشر يوما من أيام الآخرة، سبعة أيام من ذلك- وهي سبعة
آلاف عام من أعوام الدنيا- مدة ما بين أول ابتداء الله جل وتقدس في خلق أول خلقه
إلى فراغه من خلق آخرهم- وهو آدم ابو البشر ص، وسبعة أيام أخر، وهي سبعة آلاف عام
من أعوام الدنيا، من ذلك مدة ما بين فراغه جل ثناؤه من خلق آخر خلقه- وهو آدم- إلى
فناء آخرهم وقيام الساعة، وعود الأمر إلى ما كان عليه قبل أن يكون شيء غير القديم
البارئ الذي له الخلق والأمر الذي كان قبل كل شيء، فلا شيء كان قبله، والكائن بعد
كل شيء فلا شيء يبقى غير وجهه الكريم.
فإن قال قائل: وما دليلك على أن الأيام الستة التي خلق الله فيهن خلقه كان قدر كل
يوم منهن قدر ألف عام من أعوام الدنيا دون أن يكون ذلك
(1/57)
كأيام أهل الدنيا التي
يتعارفونها بينهم، وإنما قال الله عز وجل في كتابه:
«الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ*»
، فلم يعلمنا أن ذلك كما ذكرت، بل أخبرنا أنه خلق ذلك في ستة أيام، والأيام
المعروفة عند المخاطبين بهذه المخاطبة هي أيامهم التي أول اليوم منها طلوع الفجر
إلى غروب الشمس، ومن قولك: إن خطاب الله عباده بما خاطبهم به في تنزيله إنما هو
موجه إلى الأشهر والأغلب عليه من معانيه، وقد وجهت خبر الله في كتابه عن خلقه
السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام إلى غير المعروف من معاني الأيام، وأمر
الله عز وجل إذا أراد شيئا أن يكونه أنفذ وأمضى من أن يوصف بأنه خلق السموات
والأرض وما بينهما في ستة أيام، مقدارهن ستة آلاف عام من أعوام الدنيا، وإنما أمره
إذا أراد شيئا أن يقول له: كن فيكون، وذلك كما قال ربنا تبارك وتعالى: «وَما
أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ» ؟
قيل له: قد قلنا فيما تقدم من كتابنا هذا إنا إنما نعتمد في معظم ما نرسمه في
كتابنا هذا على الآثار والاخبار عن نبينا ص وعن السلف الصالحين قبلنا دون
الاستخراج بالعقول والفكر، إذ أكثره خبر عما مضى من الأمور، وعما هو كائن من
الأحداث، وذلك غير مدرك علمه بالاستنباط الاستخراج بالعقول:
فإن قال: فهل من حجة على صحة ذلك من جهة الخبر؟
قيل: ذلك ما لا نعلم قائلا من أئمة الدين قال خلافه.
فإن قال: فهل من رواية عن أحد منهم بذلك؟
قيل: علم ذلك عند أهل العلم من السلف كان أشهر من أن يحتاج فيه إلى رواية منسوبة
إلى شخص منهم بعينه، وقد روي ذلك عن جماعة منهم مسمين بأعيانهم
(1/58)
فإن قال: فاذكرهم لنا.
قيل: حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا حكام: عن عنبسة، عن سِمَاكٍ، عَنْ
عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خلق الله السموات والأرض في ستة أيام،
فَكُلُّ يَوْمٍ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ
أَنْتُمْ حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ إِسْرَائِيلَ،
عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ
أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ» .
قَالَ: السِّتَّةُ الأَيَّامُ الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ فِيهَا السَّمَوَاتِ
وَالأَرْضَ.
حَدَّثَنَا عبدة، حَدَّثَنِي الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا
عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: «فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ
مِمَّا تَعُدُّونَ» : يعني هذا اليوم من الأيام الستة التي خلق الله فيهن السموات
والأرض وما بينهما.
حَدَّثَنِي المثنى، حَدَّثَنَا علي، عن المسيب بن شريك، عن أبي روق، عن الضحاك:
«وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ» .
قال: من ايام الآخرة، كل يوم كان مقداره ألف سنة، ابتدأ في الخلق يوم الأحد،
واجتمع الخلق يوم الجمعة.
حَدَّثَنَا ابن حميد قَالَ: حَدَّثَنَا جرير، عن الأعمش، عن أبي صالح: عن كعب،
قال: بدأ الله خلق السموات والأرض يوم الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء
والخميس، وفرغ منها يوم الجمعة، قال: فجعل مكان كل يوم ألف سنة
(1/59)
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى،
قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ، حَدَّثَنَا أَبُو عوانة، عن أبي بشر، عن مجاهد،
قال: يَوْمٌ مِنَ السِّتَّةِ الأَيَّامِ، كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ.
فهذا هذا وبعد، فلا وجه لقول قائل: وكيف يوصف الله تعالى ذكره بأنه خلق السموات
والأرض وما بينهما في ستة أيام قدر مدتها من أيام الدنيا ستة آلاف سنة، وإنما أمره
إذا أراد شيئا أن يقول له: كن فيكون، لأنه لا شيء يتوهمه متوهم في قول قائل ذلك
إلا وهو موجود في قول قائل: خلق ذلك كله في ستة أيام مدتها مدة ستة أيام من أيام
الدنيا، لأن أمره جل جلاله إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون
(1/60)
القول في الليل والنهار أيهما
خلق قبل صاحبه
وفي بدء خلق الشمس والقمر وصفتهما إذ كانت الأزمنة بهما تعرف قد قلنا في خلق الله
عز ذكره ما خلق من الأشياء قبل خلقه الأوقات والأزمنة، وبيَّنَّا أن الأوقات
والأزمنة إنما هي ساعات الليل والنهار، وأن ذلك إنما هو قطع الشمس والقمر درجات
الفلك، فلنقل الآن: بأي ذلك كان الابتداء، بالليل أم بالنهار؟ إذ كان الاختلاف في
ذلك موجودا بين ذوي النظر فيه، بأن بعضهم يقول فيه: خلق الله الليل قبل النهار،
ويستشهد على حقيقة قوله ذلك بأن الشمس إذا غابت وذهب ضوءها الذي هو نهار هجم الليل
بظلامه، فكان معلوما بذلك أن الضياء هو المتورد على الليل، وأن الليل إن لم يبطله
النهار المتورد عليه هو الثابت، فكان بذلك من أمرهما دلالة على أن الليل هو الأول
خلقا، وأن الشمس هو الآخر منهما خلقا، وهذا قول يروى عن ابن عباس.
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سُئِلَ: هَلِ اللَّيْلُ
كَانَ قَبْلَ النَّهَارِ؟.
قَالَ: أَرَأَيْتُمْ حِينَ كَانَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ رَتْقًا، هَلْ كَانَ
بَيْنَهُمَا إِلا ظُلْمَةٌ! ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّيْلَ كَانَ قَبْلَ
النَّهَارِ.
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ،
أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،
قَالَ: إِنَّ اللَّيْلَ قَبْلَ النَّهَارِ، ثُمَّ قال: «كانَتا رَتْقاً
فَفَتَقْناهُما» .
حَدَّثَنَا محمد بن بشار، قال: حَدَّثَنَا وهب بن جرير، حَدَّثَنَا أبي، قال: سمعت
يحيى بن أيوب يحدث عن يزيد بن أبي حبيب، عن مرثد
(1/61)
ابن عبد الله اليزني، قال: لم
يكن عقبة بن عامر إذا رأى الهلال- هلال رمضان- يقوم تلك الليلة حتى يصوم يومها، ثم
يقوم بعد ذلك فذكرت ذلك لابن حجيرة فقال: الليل قبل النهار أم النهار قبل الليل؟
وقال آخرون: كان النهار قبل الليل، واستشهدوا لصحة قولهم هذا بأن الله عز ذكره كان
ولا ليل ولا نهار ولا شيء غيره، وأن نوره كان يضيء به كل شيء خلقه بعد ما خلقه حتى
خلق الليل.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ:
حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ بِلالٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنِ الزُّبَيْرِ أَبِي عَبْدِ السَّلامِ،
عَنْ أَيُّوبَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْفِهْرِيِّ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَالَ:
إِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ عِنْدَهُ لَيْلٌ وَلا نَهَارٌ، نُورُ السَّمَوَاتِ مِنْ
نُورِ وَجْهِهِ، وَإِنَّ مِقْدَارَ كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِكُمْ هَذِهِ
عِنْدَهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَاعَةً.
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قال:
كان الليل قبل النهار، لأن النهار هو ما ذكرت من ضوء الشمس، وإنما خلق الله الشمس
وأجراها في الفلك بعد ما دحا الأرض فبسطها، كما قال عز وجل: «أَأَنْتُمْ أَشَدُّ
خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها وَأَغْطَشَ لَيْلَها
وَأَخْرَجَ ضُحاها» ، فإذا كانت الشمس خلقت بعد ما سمكت السماء، وأغطش ليلها،
فمعلوم أنها كانت- قبل أن تخلق الشمس، وقبل أن يخرج الله من السماء ضحاها- مظلمة
لا مضيئة.
وبعد، فإن في مشاهدتنا من أمر الليل والنهار ما نشاهده دليلا بَيِّنًا
(1/62)
على أن النهار هو الهاجم على
الليل لأن الشمس متى غابت فذهب ضوءها ليلا او نهارا أظلم الجو، فكان معلوما بذلك
أن النهار هو الهاجم على الليل بضوئه ونوره والله أعلم.
فأما القول في بدء خلقهما فإن الخبر عن رسول الله ص بوقت خلق الله الشمس والقمر
مختلف.
فأما ابْنِ عَبَّاسٍ فروي عنه أنه قال: خلق الله يوم الجمعة الشمس والقمر والنجوم
والملائكة إلى ثلاث ساعات بقيت منه، حَدَّثَنَا بذلك هناد بن السري، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنِ أبي سعد البقال، عن عكرمه، عن ابن
عباس، عن النبي ص.
[وروى ابو هريرة عن النبي ص أنه قال: خلق الله النور يوم الأربعاء،] حَدَّثَنِي
بِذَلِكَ الْقَاسِمُ بْنُ بِشْرٍ وَالْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالا: حَدَّثَنَا
حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ،
عَنْ أيوب بن خالد، عن عبد الله بن رافع، عن ابى هريرة، عن النبي ص.
وأي ذلك كان، فقد خلق الله قبل خلقه إياهما خلقا كثيرا غيرهما، ثم خلقهما عز وجل
لما هو أعلم به من مصلحة خلقه، فجعلهما دائبي الجري، ثم فصل بينهما، فجعل إحداهما
آية الليل، والأخرى أية النهار، فمحا آية الليل، وجعل آية النهار مبصره وقد روى عن
رسول الله ص في سبب اختلاف حالتي آية الليل وآية النهار أخبار أنا ذاكر منها بعض
ما حضرني ذكره وعن جماعة من السلف أيضا نحو ذلك.
فمما روى عن رسول الله ص في ذلك، ما حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مَنْصُورٍ
الآملي، حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ وَاصِلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ
(1/63)
صُبْحٍ أَبُو نُعَيْمٍ
الْبَلْخِيُّ، عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
أَبْزَى، عَنْ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ، قَالَ: كُنْتُ آخُذُ بِيَدِ رسول الله ص
وَنَحْنُ نَتَمَاشَى جَمِيعًا نَحْوَ الْمَغْرِبِ، وَقَدْ طَفَلَتِ الشَّمْسُ،
فَمَا زِلْنَا نَنْظُرُ إِلَيْهَا حَتَّى غَابَتْ، [قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، أَيْنَ تَغْرُبُ؟ قَالَ: تَغْرُبُ فِي السَّمَاءِ، ثُمَّ تُرْفَعُ مِنْ
سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ حَتَّى تُرْفَعَ إِلَى السَّمَاءِ السابعة العليا، حتى تكون
تحت العرش، فتخر سَاجِدَةً، فَتَسْجُدُ مَعَهَا الْمَلائِكَةُ الْمُوَكَّلُونَ
بِهَا، ثُمَّ تَقُولُ: يَا رَبِّ، مِنْ أَيْنَ تَأْمُرُنِي أَنْ أَطْلُعَ، أَمِنْ
مَغْرِبِي أَمْ مِنْ مَطْلَعِي؟ قَالَ: فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ:
«وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها» حَيْثُ تُحْبَسُ تَحْتَ الْعَرْشِ،
«ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ» قال: يعنى ب ذَلِكَ صُنْعُ الرَّبِّ
الْعَزِيزِ فِي مُلْكِهِ الْعَلِيمِ بخلقه قال: فيأتيها جبرئيل بحلة ضوء من نور
العرش، على مقادير ساعات النهار، في طوله في الصيف، أو قصره في الشتاء، أو ما بين
ذلك في الخريف والربيع قال: فتلبس تلك الحلة كما يلبس احدكم ثيابه، ثم تنطلق بها
في جو السماء حتى تطلع من مطلعها، قال النبي ص: فكأنها قد حبست مقدار ثلاث ليال ثم
لا تكسى ضوءا، وتؤمر أن تطلع من مغربها، فذلك قوله عز وجل: «إِذَا الشَّمْسُ
كُوِّرَتْ» .
قال: والقمر كذلك في مطلعه ومجراه في أفق السماء ومغربه وارتفاعه إلى السماء
السابعة العليا، ومحبسه تحت العرش وسجوده واستئذانه، ولكن جبرائيل ع يأتيه بالحلة
من نور الكرسي قال: فذلك قوله عز وجل: «جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ
نُوراً] » قال أبو ذر: ثم عدلت مع رسول الله ص
(1/64)
فصلينا المغرب فهذا الخبر عن رسول الله ينبئ أن سبب اختلاف حالة الشمس والقمر إنما هو أن ضوء الشمس من كسوة كسيتها من ضوء العرش، وأن نور القمر من كسوة كسيها من نور الكرسي فأما الخبر الآخر الذي يدل على غير هذا المعنى، فما حدثنى محمد ابن أَبِي مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ وَاصِلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: بَيْنَا ابْنِ عَبَّاسٍ ذَاتَ يَوْمٍ جَالِسٌ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يا بن عَبَّاسٍ، سَمِعْتُ الْعَجَبَ مِنْ كَعْبٍ الْحَبْرِ يَذْكُرُ فِي الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ قَالَ: وَكَانَ مُتَّكِئًا فَاحْتَفَزَ ثُمَّ قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: زَعَمَ أَنَّهُ يُجَاءُ بِالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا ثَوْرَانِ عَقِيرَانِ، فَيُقْذَفَانِ فِي جَهَنَّمَ قَالَ عِكْرِمَةُ: فَطَارَتْ مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ شِقَّةٌ وَوَقَعَتْ أُخْرَى غَضَبًا، ثُمَّ قَالَ: كَذَبَ كَعْبٌ! كَذَبَ كَعْبٌ! كَذَبَ كَعْبٌ! ثَلاثَ مَرَّاتٍ، بَلْ هَذِهِ يَهُودِيَّةٌ يُرِيدُ إِدْخَالَهَا فِي الإِسْلامِ، اللَّهُ أَجَلُّ وَأَكْرَمُ مِنْ أَنْ يُعَذِّبَ عَلَى طَاعَتِهِ، أَلَمْ تَسْمَعْ لِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتعَالَى: «وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ» ، إِنَّمَا يَعْنِي دءوبِهِمَا فِي الطَّاعَةِ، فَكَيْفَ يُعَذِّبُ عَبْدَيْنِ يُثْنِي عَلَيْهِمَا، أَنَّهُمَا دَائِبَانِ فِي طَاعَتِهِ! قَاتَلَ اللَّهُ هَذَا الْحَبْرَ وَقَبَّحَ حَبْرِيَّتَهُ! مَا أَجْرَأَهُ عَلَى اللَّهِ وَأَعْظَمَ فِرْيَتِهِ عَلَى هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ الْمُطِيعَيْنِ لِلَّهِ! قَالَ: ثُمَّ اسْتَرْجَعَ مِرَارًا، وَأَخَذَ عُوَيْدًا مِنَ الأَرْضِ، فَجَعَلَ يَنْكُتُهُ فِي الأَرْضِ، فَظَلَّ كَذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ انه رفع راسه، ورمى بالعويد [فقال: أَلا أُحَدِّثُكُمْ بِمَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ص، يَقُولُ فِي الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَبَدْءِ خَلْقِهِمَا وَمَصِيرُ أَمْرِهِمَا؟ فَقُلْنَا: بَلَى رَحِمَكَ اللَّهُ! فَقَالَ: إِنَّ رسول الله ص سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمَّا أَبْرَمَ خَلْقَهُ إِحْكَامًا فَلَمْ يَبْقَ مِنْ خَلْقِهِ غَيْرُ آدَمَ خَلَقَ شَمْسَيْنِ مِنْ نُورِ عَرْشِهِ، فَأَمَّا مَا كَانَ فِي سَابِقِ عِلْمِهِ أَنَّهُ يَدَعُهَا شَمْسًا، فَإِنَّهُ خَلَقَهَا مِثْلَ الدُّنْيَا مَا بَيْنَ مَشَارِقِهَا وَمَغَارِبِهَا،
(1/65)
وَأَمَّا مَا كَانَ فِي
سَابِقِ عِلْمِهِ أَنَّهُ يَطْمِسُهَا وَيُحَوِّلُهَا قَمَرًا، فَإِنَّهُ دُونَ
الشَّمْسِ فِي الْعِظَمِ، وَلَكِنْ إِنَّمَا يُرَى صِغَرُهُمَا مِنْ شِدَّةِ
ارْتِفَاعِ السَّمَاءِ وَبُعْدِهَا مِنَ الأَرْضِ.
قَالَ: فَلَوْ تَرَكَ اللَّهُ الشَّمْسَيْنِ كَمَا كَانَ خَلَقَهُمَا فِي بَدْءِ
الأَمْرِ لَمْ يَكُنْ يُعْرَفُ اللَّيْلُ مِنَ النَّهَارِ، وَلا النَّهَارُ مِنَ
اللَّيْلِ، وَكَانَ لا يَدْرِي الأَجِيرُ إِلَى مَتَى يَعْمَلُ، وَمَتَى يَأْخُذُ
أَجْرَهُ وَلا يَدْرِي الصَّائِمُ إِلَى مَتَى يَصُومُ، وَلا تَدْرِي الْمَرْأَةُ
كَيْفَ تَعْتَدُّ، وَلا يَدْرِي الْمُسْلِمُونَ مَتَى وَقْتُ الْحَجِّ، وَلا
يَدْرِي الدُّيَّانُ مَتَى تَحِلُّ دُيُونُهُمْ، وَلا يَدْرِي النَّاسُ مَتَى
يَنْصَرِفُونَ لِمَعَايِشِهِمْ، وَمَتَى يَسْكُنُونَ لِرَاحَةِ أَجْسَادِهِمْ.
وَكَانَ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ أَنْظَرَ لِعِبَادِهِ وَأَرْحَمَ بِهِمْ، فأرسل
جبرئيل ع فَأَمَرَ جِنَاحه على وجه القمر- وهو يومئذ شمس- ثلاث مرات، فطمس عنه
الضوء، وبقي فيه النور، فذلك قوله عز وجل: «وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ
آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً»
قال: فالسواد الذي ترونه في القمر شبه الخطوط فيه فهو أثر المحو ثم خلق الله للشمس
عجلة من ضوء نور العرش لها ثلاثمائة وستون عروه، ووكل بالشمس وعجلتها ثلاثمائة
وستين ملكا من الملائكة من أهل السماء الدنيا، قد تعلق كل ملك منهم بعروة من تلك العرا،
ووكل بالقمر وعجلته ثلاثمائة وستين ملكا من الملائكة من أهل السماء، قد تعلق بكل
عروه من تلك العرا ملك منهم.
ثم قال: وخلق الله لهما مشارق ومغارب في قطري الأرض وكنفي السماء ثمانين ومائة عين
في المغرب، طينة سوداء، فذلك قوله عز وجل: «وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ
حَمِئَةٍ» انما يعنى حماه سوداء من طين، وثمانين ومائة عين في
(1/66)
المشرق مثل ذلك طينة سوداء
تفور غليا كغلي القدر إذا ما اشتد غليها قال:
فكل يوم وكل ليله لها مطلع جديد ومغرب جديد، ما بين أولها مطلعا، وآخرها مغربا
أطول ما يكون النهار في الصيف إلى آخرها مطلعا، وأولها مغربا أقصر ما يكون النهار
في الشتاء، فذلك قوله تعالى: «رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ»
يعنى آخرها هاهنا وآخرها ثم، وترك ما بين ذلك من المشارق والمغارب، ثم جمعهما
فقال: «بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ» ، فذكر عدة تلك العيون كلها.
قال: وخلق الله بحرا، فجرى دون السماء مقدار ثلاث فراسخ، وهو موج مكفوف قائم في
الهواء بأمر الله عز وجل لا يقطر منه قطرة، والبحار كلها.
ساكنة، وذلك البحر جار في سرعة السهم ثم انطلاقه في الهواء مستويا، كأنه حبل ممدود
ما بين المشرق والمغرب، فتجري الشمس والقمر والخنس في لجة غمر ذلك البحر، فذلك
قوله تعالى: «كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ*» ، والفلك دوران العجلة في لجة غمر
ذلك البحر والذي نفس محمد بيده، لو بدت الشمس من ذلك البحر لأحرقت كل شيء في
الأرض، حتى الصخور والحجارة، ولو بدا القمر من ذلك لافتتن أهل الأرض حتى يعبدوه من
دون الله، إلا من شاء الله أن يعصم من أوليائه.
قال ابْنُ عَبَّاسٍ: فقال عَلِيّ بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: بأبي أنت
وأمي يا رسول الله! ذكرت مجرى الخنس مع الشمس والقمر، وقد أقسم الله بالخنس في
القرآن إلى ما كان من ذكرك، فما الخنس؟ قال: يا علي، هن خمسة كواكب: البرجيس،
وزحل، وعطارد، وبهرام، والزهرة،
(1/67)
فهذه الكواكب الخمسة الطالعات
الجاريات، مثل الشمس والقمر، العاديات معهما، فأما سائر الكواكب فمعلقات من السماء
كتعليق القناديل من المساجد، وهي تحوم مع السماء دورانا بالتسبيح والتقديس والصلاة
لله، ثم قال النبي ص: فإن أحببتم أن تستبينوا ذلك، فانظروا إلى دوران الفلك مره
هاهنا ومره هاهنا، فذلك دوران السماء، ودوران الكواكب معها كلها سوى هذه الخمسة،
ودورانها اليوم كما ترون، وتلك صلاتها، ودورانها إلى يوم القيامة في سرعة دوران
الرحا من أهوال يوم القيامة وزلازله، فذلك قوله عز وجل: «ْمَ تَمُورُ السَّماءُ
مَوْراً وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً.
فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ» .
قال: فإذا طلعت الشمس فإنها تطلع من بعض تلك العيون على عجلتها ومعها ثلاثمائة
وستون ملكا ناشري أجنحتهم، يجرونها في الفلك بالتسبيح والتقديس والصلاة لله على
قدر ساعات الليل وساعات النهار ليلا كان أو نهارا، فإذا أحب الله أن يبتلي الشمس
والقمر فيري العباد آية من الآيات فيستعتبهم رجوعا عن معصيته وإقبالا على طاعته،
خرت الشمس من العجلة فتقع في غمر ذلك البحر وهو الفلك، فإذا أحب الله أن يعظم
الآية ويشدد تخويف العباد وقعت الشمس كلها فلا يبقى منها على العجلة شيء، فذلك حين
يظلم النهار وتبدو النجوم، وهو المنتهى من كسوفها فإذا أراد أن يجعل آية دون آية
وقع منها النصف أو الثلث أو الثلثان في الماء، ويبقى سائر ذلك على العجلة، فهو
كسوف دون كسوف، وبلاء للشمس أو للقمر، وتخويف للعباد، واستعتاب من الرب عز وجل،
فأي ذلك كان صارت الملائكة الموكلون بعجلتها فرقتين: فرقة منها يقبلون على الشمس
فيجرونها نحو العجلة، والفرقة الأخرى
(1/68)
يقبلون على العجلة فيجرونها
نحو الشمس، وهم في ذلك يقرونها في الفلك بالتسبيح والتقديس والصلاة لله على قدر
ساعات النهار أو ساعات الليل، ليلا كان أو نهارا، في الصيف كان ذلك أو في الشتاء،
أو ما بين ذلك في الخريف والربيع، لكيلا يزيد في طولهما شيء، ولكن قد ألهمهم الله
علم ذلك، وجعل لهم تلك القوة، والذي ترون من خروج الشمس أو القمر بعد الكسوف قليلا
قليلا، من غمر ذلك البحر الذي يعلوهما، فإذا أخرجوها كلها اجتمعت الملائكة كلهم،
فاحتملوها حتى يضعوها على العجلة، فيحمدون الله على ما قواهم لذلك، ويتعلقون بعرا
العجلة، ويجرونها في الفلك بالتسبيح والتقديس والصلاة لله حتى يبلغوا بها المغرب،
فإذا بلغوا بها المغرب أدخلوها تلك العين، فتسقط من أفق السماء في العين.
ثم قال النبي ص، وعجب من خلق الله: وللعجب من القدرة فيما لم نر أعجب من ذلك، وذلك
قول جبرئيل ع لساره:
«أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ» وذلك أن الله عز وجل خلق مدينتين: إحداهما
بالمشرق والأخرى بالمغرب، أهل المدينة التي بالمشرق من بقايا عاد من نسل مؤمنيهم،
وأهل التي بالمغرب من بقايا ثمود من نسل الذين آمنوا بصالح، اسم التي بالمشرق
بالسريانية مرقيسيا وبالعربية جابلق واسم التي بالمغرب بالسريانية برجيسيا
وبالعربية جابرس ولكل مدينة منهما عشرة آلاف باب، ما بين
(1/69)
كل بابين فرسخ، ينوب كل يوم
على كل باب من أبواب هاتين المدينتين عشرة آلاف رجل من الحراسة، عليهم السلاح، لا
تنوبهم الحراسة بعد ذلك إلى يوم ينفخ في الصور، فو الذى نفس محمد بيده، لولا كثرة
هؤلاء القوم وضجيج أصواتهم لسمع الناس من جميع أهل الدنيا هدة وقعة الشمس حين تطلع
وحين تغرب، ومن ورائهم ثلاث أمم: منسك، وتافيل، وتاريس، ومن دونهم يأجوج وماجوج.
وان جبرئيل ع انطلق بي اليهم ليله اسرى بي من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى،
فدعوت يأجوج ومأجوج إلى عبادة الله عز وجل فأبوا أن يجيبوني، ثم انطلق بي إلى أهل
المدينتين، فدعوتهم إلى دين الله عز وجل والى عبادته فأجابوا وأنابوا، فهم في
الدين إخواننا، من أحسن منهم فهو مع محسنكم، ومن أساء منهم فأولئك مع المسيئين
منكم ثم انطلق بي إلى الأمم الثلاث، فدعوتهم إلى دين الله وإلى عبادته فأنكروا ما
دعوتهم إليه، فكفروا بالله عز وجل وكذبوا رسله، فهم مع يأجوج ومأجوج وسائر من عصى
الله في النار، فإذا ما غربت الشمس رفع بها من سماء إلى سماء في سرعة طيران
الملائكة، حتى يبلغ بها إلى السماء السابعة العليا، حتى تكون تحت العرش فتخر
ساجده، وتسجد معها الملائكة الموكلون بها، فيحدر بها من سماء إلى سماء، فإذا وصلت
إلى هذه السماء فذلك حين ينفجر الفجر، فإذا انحدرت من بعض تلك العيون، فذاك حين
يضيء الصبح، فإذا وصلت إلى هذا الوجه من السماء فذاك حين يضيء النهار.
قال: وجعل الله عند المشرق حجابا من الظلمة على البحر السابع، مقدار
(1/70)
عدة الليالي منذ يوم خلق الله
الدنيا إلى يوم تصرم، فإذا كان عند الغروب أقبل ملك قد وكل بالليل فيقبض قبضة من
ظلمة ذلك الحجاب، ثم يستقبل المغرب، فلا يزال يرسل من الظلمة من خلل اصابته قليلا
قليلا وهو يراعي الشفق، فإذا غاب الشفق أرسل الظلمة كلها ثم ينشر جناحيه، فيبلغان
قطري الأرض وكنفي السماء، ويجاوزان ما شاء الله عز وجل خارجا في الهواء، فيسوق
ظلمة الليل بجناحيه بالتسبيح والتقديس والصلاة لله حتى يبلغ المغرب، فإذا بلغ
المغرب انفجر الصبح من المشرق، فضم جناحيه، ثم يضم الظلمة بعضها إلى بعض بكفيه، ثم
يقبض عليها بكف واحدة نحو قبضته إذا تناولها من الحجاب بالمشرق، فيضعها عند المغرب
على البحر السابع من هناك ظلمة الليل فإذا ما نقل ذلك الحجاب من المشرق إلى المغرب
نفخ في الصور، وانقضت الدنيا، فضوء النهار من قبل المشرق، وظلمة الليل من قبل ذلك
الحجاب، فلا تزال الشمس والقمر كذلك من مطالعهما إلى مغاربهما إلى ارتفاعهما، إلى
السماء السابعة العليا، إلى محبسهما تحت العرش، حتى يأتي الوقت الذي ضرب الله
لتوبة العباد، فتكثر المعاصي في الأرض ويذهب المعروف، فلا يأمر به أحد، ويفشو
المنكر فلا ينهى عنه أحد.
فإذا كان ذلك حبست الشمس مقدار ليلة تحت العرش، فكلما سجدت واستأذنت: من أين تطلع؟
لم يحر إليها جواب، حتى يوافيها القمر ويسجد معها، ويستأذن: من أين يطلع؟ فلا يحار
إليه جواب، حتى يحبسهما مقدار ثلاث ليال للشمس، وليلتين للقمر، فلا يعرف طول تلك
الليلة إلا المتهجدون في الأرض، وهم حينئذ عصابة قليلة في كل بلدة من بلاد
المسلمين، في هو ان من الناس وذلة من أنفسهم، فينام أحدهم تلك الليلة قدر ما كان
ينام قبلها من الليالي، ثم يقوم فيتوضأ ويدخل مصلاه فيصلي ورده، كما كان يصلي
(1/71)
قبل ذلك، ثم يخرج فلا يرى
الصبح، فينكر ذلك ويظن فيه الظنون من الشر ثم يقول: فلعلي خففت قراءتي، أو قصرت
صلاتي، أو قمت قبل حيني!] [قال: ثم يعود أيضا فيصلي ورده كمثل ورده، الليلة
الثانية، ثم يخرج فلا يرى الصبح، فيزيده ذلك إنكارا، ويخالطه الخوف، ويظن في ذلك
الظنون من الشر، ثم يقول: فلعلي خففت قراءتي، أو قصرت صلاتي، أو قمت من أول الليل!
ثم يعود أيضا الثالثة وهو وجل مشفق لما يتوقع من هول تلك الليلة، فيصلي أيضا مثل
ورده، الليلة الثالثة، ثم يخرج فإذا هو بالليل مكانه والنجوم قد استدارت وصارت إلى
مكانها من أول الليل فيشفق عند ذلك شفقة الخائف العارف بما كان يتوقع من هول تلك
الليلة فيستلحمه الخوف، ويستخفه البكاء، ثم ينادي بعضهم بعضا، وقبل ذلك كانوا
يتعارفون ويتواصلون، فيجتمع المتهجدون من أهل كل بلدة إلى مسجد من مساجدها،
ويجأرون إلى الله عز وجل بالبكاء والصراخ بقية تلك الليلة، والغافلون في غفلتهم،
حتى إذا ما تم لهما مقدار ثلاث ليال للشمس وللقمر ليلتين، أتاهما جبرئيل فيقول:
ان الرب عز وجل يأمر كما أن ترجعا إلى مغاربكما فتطلعا منها، وأنه لا ضوء لكما
عندنا ولا نور قال: فيبكيان عند ذلك بكاء يسمعه أهل سبع سموات من دونهما وأهل
سرادقات العرش وحملة العرش من فوقهما، فيبكون لبكائهما مع ما يخالطهم من خوف الموت،
وخوف يوم القيامة.
قال: فبينا الناس ينتظرون طلوعهما من المشرق إذا هما قد طلعا خلف أقفيتهم من
المغرب أسودين مكورين كالغرارتين، ولا ضوء للشمس ولا نور للقمر، مثلهما في كسوفهما
قبل ذلك، فيتصايح أهل الدنيا وتذهل الأمهات عن أولادها، والأحبة عن ثمرة قلوبها،
فتشتغل كل نفس بما أتاها قال:
فأما الصالحون والأبرار فإنه ينفعهم بكاؤهم يومئذ، ويكتب ذلك لهم عبادة.
وأما الفاسقون والفجار فإنه لا ينفعهم بكاؤهم يومئذ، ويكتب ذلك عليهم خسارة قال:
فيرتفعان مثل البعيرين القرينين، ينازع كل واحد منهما
(1/72)
صاحبه استباقا، حتى إذا بلغا
سرة السماء- وهو منصفها- أتاهما جبرئيل فأخذ بقرونهما ثم ردهما إلى المغرب، فلا
يغربهما في مغاربهما من تلك العيون، ولكن يغربهما في باب التوبة.
فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنا وأهلي فداؤك يا رسول الله! فما باب التوبة؟
قال: يا عمر، خلق الله عز وجل بابا للتوبة خلف المغرب، مصراعين من ذهب، مكللا
بالدر والجوهر، ما بين المصراع إلى المصراع الآخر مسيرة أربعين عاما للراكب
المسرع، فذلك الباب مفتوح منذ خلق الله خلقه إلى صبيحة تلك الليلة عند طلوع الشمس
والقمر من مغاربهما، ولم يتب عبد من عباد الله توبة نصوحا من لدن آدم إلى صبيحة
تلك الليلة إلا ولجت تلك التوبة في ذلك الباب، ثم ترفع إلى الله عز وجل قال معاذ
بن جبل: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! وما التوبة النصوح؟
قال: أن يندم المذنب على الذنب الذي أصابه فيعتذر إلى الله ثم لا يعود إليه، كما
لا يعود اللبن إلى الضرع قال: فيرد جبرئيل بالمصراعين فيلأم بينهما ويصيرهما كأنه
لم يكن فيما بينهما صدع قط، فإذا اغلق باب التوبة لم يقبل بعد ذلك توبة، ولم ينفع
بعد ذلك حسنة يعملها في الإسلام إلا من كان قبل ذلك محسنا، فإنه يجري لهم وعليهم
بعد ذلك ما كان يجري قبل ذلك، قال فذلك قوله عز وجل: «يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ
رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ
كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً» .
فقال أُبي بن كعب: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! فكيف بالشمس والقمر بعد ذلك! وكيف
بالناس والدنيا! فقال: يا أبي، إن الشمس والقمر
(1/73)
بعد ذلك يكسيان النور والضوء،
ويطلعان على الناس ويغربان كما كانا قبل ذلك، وأما الناس فإنهم نظروا إلى ما نظروا
إليه من فظاعة الآية، فيلحون على الدنيا حتى يجروا فيها الأنهار، ويغرسوا فيها
الشجر، ويبنوا فيها البنيان وأما الدنيا فإنه لو أنتج رجل مهرا لم يركبه من لدن
طلوع الشمس من مغربها إلى يوم ينفخ في الصور.
فقال حذيفة بن اليمان: أنا وأهلي فداؤك يا رسول الله! فكيف هم عند النفخ في الصور!
فقال: يا حذيفة، والذي نفس محمد بيده، لتقومن الساعة ولينفخن في الصور والرجل قد
لط حوضه فلا يسقى منه، ولتقومن الساعة والثوب بين الرجلين فلا يطويانه، ولا
يتبايعانه ولتقومن الساعة والرجل قد رفع لقمته إلى فيه فلا يطعمها، ولتقومن الساعة
والرجل قد انصرف بلبن لقحته من تحتها فلا يشربه، ثم تلا رسول الله ص هذه الآية:
«وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» .
فإذا نفخ في الصور، وقامت الساعة، وميز الله بين أهل الجنة وأهل النار ولما
يدخلوهما بعد، إذ يدعو الله عز وجل بالشمس والقمر، فيجاء بهما أسودين مكورين قد
وقعا في زلزال وبلبال، ترعد فرائصهما من هول ذلك اليوم ومخافة الرحمن، حتى إذا
كانا حيال العرش خرا لله ساجدين، فيقولان: إلهنا قد علمت طاعتنا ودءوبنا في
عبادتك، وسرعتنا للمضي في أمرك أيام الدنيا، فلا تعذبنا بعبادة المشركين إيانا،
فإنا لم ندع الى عبادتنا، ولم نذهل عن عبادتك! قال: فيقول الرب تبارك وتعالى:
صدقتما، وإني قضيت على نفسي أن أبدئ وأعيد، وإني معيدكما فيما بدأتكما منه، فارجعا
إلى ما خلقتما منه،
(1/74)
قالا: إلهنا، ومم خلقتنا؟ قال:
خلقتكما من نور عرشي، فارجعا إليه قال:
فيلتمع من كل واحد منهما برقة تكاد تخطف الأبصار نورا، فتختلط بنور العرش فذلك
قوله عز وجل: «يُبْدِئُ وَيُعِيدُ] » .
قال عكرمة: فقمت مع النفر الذين حدثوا به، حتى أتينا كعبا فأخبرناه بما كان من وجد
ابن عباس من حديثه، وبما حدث عن رسول الله ص، فقام كعب معنا حتى أتينا ابْنَ
عَبَّاسٍ، فقال: قد بلغني ما كان من وجدك من حديثي، وأستغفر الله وأتوب إليه، وإني
إنما حدثت عن كتاب دارس قد تداولته الأيدي، ولا أدري ما كان فيه من تبديل اليهود،
وإنك حدثت عن كتاب جديد حديث العهد بالرحمن عز وجل وعن سيد الأنبياء وخير النبيين،
فأنا أحب أن تحدثني الحديث فأحفظه عنك، فإذا حدثت به كان مكان حديثي الأول.
قال عكرمة: فأعاد عليه ابْنِ عَبَّاسٍ الحديث، وأنا أستقريه في قلبي بابا بابا،
فما زاد شيئا ولا نقص، ولا قدم شيئا ولا أخر، فزادني ذلك في ابْنِ عَبَّاسٍ رغبة،
وللحديث حفظا.
ومما روي عن السلف في ذلك مَا حَدَّثَنَاهُ ابن حميد، قال:
حدثنا جَرِيرٌ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ،
قَالَ: [قَالَ ابْنُ الْكَواءِ لِعَلِيٍّ ع: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا
هَذِهِ اللَّطْخَةُ الَّتِي فِي الْقَمَرِ؟
فَقَالَ: وَيْحَكَ! أَمَا تَقْرَأُ الْقُرْآنَ: «فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ» !
فهذه محوه]
(1/75)
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ،
قَالَ: حَدَّثَنَا طَلْقٌ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ
رَبِيعَةَ، [قال: سال ابن الكواء عليا ع فَقَالَ:
مَا هَذَا السَّوَادُ فِي الْقَمَرِ؟ فَقَالَ عَلِيٌّ: «فَمَحَوْنا آيَةَ
اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً» ، هُوَ الْمَحْوُ] .
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ:
حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ،
قَالَ: [كنت عند على ع، فَسَأَلَهُ ابْنُ الْكَوَاءِ عَنِ السَّوَادِ الَّذِي فِي
الْقَمَرِ فَقَالَ: ذَاكَ آيَةُ اللَّيْلِ مُحِيَتْ] .
حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي الشَّوَارِبِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ،
قَالَ:
حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ حُدَيْرٍ، عَنْ رفيع، ابى كثيره، قَالَ: [قَالَ عَلِيُّ
بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: سَلُوا عَمَّا شِئْتُمْ، فَقَامَ ابْنُ
الْكَوَاءِ فَقَالَ: مَا السَّوَادُ الَّذِي فِي الْقَمَرِ؟ فَقَالَ: قَاتَلَكَ
اللَّهُ! هَلا سَأَلْتَ عَنْ أَمْرِ دِينِكَ وَآخِرَتِكَ! ثُمَّ قَالَ:
ذَاكَ مَحْوُ اللَّيْلِ] .
حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبَانٍ الْمِصْرِيُّ، قَالَ:
حَدَّثَنَا ابْنُ عُفَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ حُيَيِّ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو
بْنِ الْعَاصِ، [أَنَّ رَجُلا قَالَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا
السَّوَادُ الَّذِي فِي الْقَمَرِ؟ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: «وَجَعَلْنَا
اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ
النَّهارِ مُبْصِرَةً] » .
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي
عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ:
«وَجَعَلْنَا
(1/76)
اللَّيْلَ وَالنَّهارَ
آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ» ، قَالَ: هُوَ السَّوَادُ بِاللَّيْلِ.
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جُرَيْجٍ
قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ الْقَمَرُ يُضِيءُ كَمَا تُضِيءُ الشَّمْسُ،
وَالْقَمَرُ آيَةُ اللَّيْلِ، والشمس آيه النهار، «فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ» ،
قال: السواد الذي في القمر، كذلك خلقه الله.
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي
حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ
وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ» ، قَالَ: لَيْلا وَنَهَارًا كَذَلِكَ خَلَقَهُمَا اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ.
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَأَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ، قَالَ:
«فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً» ، قَالَ:
ظُلْمَةُ اللَّيْلِ وَسَدَفُ النَّهَارِ.
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ، قوله عز وجل: «وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ
وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ» ، كنا نحدث أن محو آية الليل
سواد القمر الذي فيه، «وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً» ، منيرة، وخلق
الشمس أنور من القمر وأعظم.
حدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث، قال:
حدثنا الحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: «وَجَعَلْنَا
اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ» ، قال: ليلا ونهارا، كذلك جعلهما الله عز وجل
(1/77)
قال أبو جعفر: والصواب من
القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره خلق شمس النهار وقمر الليل آيتين،
فجعل آية النهار التي هي الشمس مبصرة يبصر بها، ومحا آية الليل التي هي القمر
بالسواد الذي فيه.
وجائز أن يكون الله تعالى ذكره خلقهما شمسين من نور عرشه، ثم محا نور القمر بالليل
على نحو ما قاله من ذكرنا قوله، فكان ذلك سبب اختلاف حالتيهما.
وجائز أن يكون إضاءة الشمس للكسوة التي تكساها من ضوء العرش، ونور القمر من الكسوة
التي يكساها من نور الكرسي.
ولو صح سند أحد الخبرين اللذين ذكرتهما لقلنا به، ولكن في أسانيدهما نظرا، فلم
نستجز قطع القول بتصحيح ما فيهما من الخبر عن سبب اختلاف حال الشمس والقمر، غير
أنا بيقين نعلم أن الله عز وجل خالف بين صفتيهما في الإضاءة لما كان أعلم به من
صلاح خلقه باختلاف أمريهما، فخالف بينهما، فجعل أحدهما مضيئا مبصرا به، والآخر
ممحو الضوء.
وإنما ذكرنا قدر ما ذكرنا من أمر الشمس والقمر في كتابنا هذا، وإن كنا قد أعرضنا
عن ذكر كثير من أمرهما وأخبارهما، مع إعراضنا عن ذكر بدء خلق الله السموات والأرض
وصفة ذلك، وسائر ما تركنا ذكره من جميع خلق الله في هذا الكتاب، لأن قصدنا في
كتابنا هذا ذكر ما قدمنا الخبر عنه أنا ذاكروه فيه من ذكر الأزمنة وتاريخ الملوك
والأنبياء والرسل، على ما قد شرطنا في أول هذا الكتاب، وكانت التأريخات والأزمنة
إنما توقت بالليالي والأيام التي إنما هي مقادير ساعات جري الشمس والقمر في
أفلاكهما على ما قد ذكرنا في الأخبار التي رويناها عن رسول الله ص، وكان ما كان
قبل
(1/78)
خلق الله عز ذكره إياهما من
خلقه في غير أوقات ولا ساعات ولا ليل ولا نهار.
وإذ كنا قد بينا مقدار مدة ما بين أول ابتداء الله عز وجل في إنشاء ما أراد إنشاءه
من خلقه إلى حين فراغه من إنشاء جميعهم من سني الدنيا ومدة أزمانها بالشواهد التي
استشهدنا بها من الآثار والأخبار، وأتينا على القول في مدة ما بعد أن فرغ من خلق
جميعه إلى فناء الجميع بالأدلة التي دللنا بها على صحة ذلك من الاخبار الوارده عن
رسول الله ص وعن الصحابة وغيرهم من علماء الأمة، وكان الغرض في كتابنا هذا ذكر ما
قد بينا أنا ذاكروه من تاريخ الملوك الجبابرة العاصية ربها عز وجل والمطيعة ربها
منهم، وأزمان الرسل والأنبياء، وكنا قد أتينا على ذكر ما به تصح التأريخات وتعرف
به الأوقات والساعات، وذلك الشمس والقمر اللذان بأحدهما تدرك معرفه ساعات الليل
وأوقاته، وبالآخر تدرك علم ساعات النهار وأوقاته فلنقل الآن في أول من أعطاه الله
ملكا، وأنعم عليه فكفر نعمته، وجحد ربوبيته، وعتا على ربه واستكبر، فسلبه الله
نعمته، وأخزاه وأذله ثم نتبعه ذكر من استن في ذلك سنته، واقتفى فيه أثره، فأحل
الله به نقمته وجعله من شيعته، وألحقه به في الخزي والذل ونذكر من كان بإزائه أو
بعده من الملوك المطيعة ربها المحمودة آثارها، أو من الرسل والأنبياء إن شاء الله
عز وجل.
فأولهم وإمامهم في ذلك ورئيسهم وقائدهم فيه إبليس لعنه الله.
وكان الله عز وجل قد احسن خلقه وشرفه وكرمه وملكه على سماء الدنيا والأرض فيما
ذكر، وجعله مع ذلك من خزان الجنة، فاستكبر على ربه
(1/79)
وادعى الربوبية، ودعا من كان
تحت يده فيما ذكر إلى عبادته، فمسخه الله تعالى شيطانا رجيما، وشوه خلقه، وسلبه ما
كان حوله، ولعنه وطرده عن سمواته في العاجل، ثم جعل مسكنه ومسكن اتباعه وشيعته في
الآخرة نار جهنم، نعوذ بالله من غضبه، ومن عمل يقرب من غضبه، ومن الحور بعد الكور.
ونبدأ بذكر جمل من الأخبار الواردة عن السلف بما كان الله عز وجل أعطاه من الكرامة
قبل استكباره عليه، وادعائه ما لم يكن له ادعاؤه، ثم نتبع ذلك ما كان من الأحداث
في أيام سلطانه وملكه إلى حين زوال ذلك عنه، والسبب الذي به زال عنه ما كان فيه من
نعمة الله عليه، وجميل آلائه، وغير ذلك من أموره، إن شاء الله مختصرا
(1/80)
ذكر الأخبار الواردة بأن إبليس
كان له ملك السماء الدنيا والأرض وما بين ذلك
حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين بْنُ دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنِي
حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ إِبْلِيسُ
مِنْ أَشْرَافِ الْمَلائِكَةِ وَأَكْرَمِهِمْ قَبِيلَةً، وَكَانَ خَازِنًا عَلَى
الْجِنَانِ، وَكَانَ لَهُ سُلْطَانُ سَمَاءِ الدُّنْيَا، وَكَانَ لَهُ سُلْطَانُ
الأَرْضِ.
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن
صالح مولى التوءمه وَشَرِيكِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ- أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا- عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: إِنَّ مِنَ الْمَلائِكَةِ قَبِيلَةً مِنَ الْجِنِّ وَكَانَ
إِبْلِيسُ مِنْهَا، وَكَانَ يَسُوسُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ.
حَدَّثَنَا مُوسَى بن هارون الهمداني، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط،
عن السدي، في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني
عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي ص جعل ابليس على سَمَاءِ الدُّنْيَا،
وَكَانَ مِنْ قَبِيلَةٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ يُقَالُ لَهُمُ الْجِنُّ، وَإِنَّمَا
سُمُّوا الْجِنَّ لأَنَّهُمْ خُزَّانُ الْجَنَّةِ، وَكَانَ إِبْلِيسُ مَعَ
مُلْكِهِ خَازِنًا.
حَدَّثَنِي عَبْدَانُ الْمَرْوَزِيُّ، حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَرَجِ،
قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ الْفَضْلَ بْنَ خَالِدٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سمعت الضحاك ابن مُزَاحِمٍ يَقُولُ فِي
قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: «فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ» ،
قَالَ: كَانَ ابْنِ عَبَّاسٍ يَقُولُ: إِنَّ إِبْلِيسَ كان من اشرف الملائكة
واكرمهم
(1/81)
قَبِيلَةً، وَكَانَ خَازِنًا
عَلَى الْجِنَانِ، وَكَانَ لَهُ سُلْطَانُ سَمَاءِ الدُّنْيَا، وَكَانَ لَهُ
سُلْطَانُ الأَرْضِ.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حَدَّثَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ مُجَاهِدٍ
أَبُو الأَزْهَرِ، عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ، عَنْ
صَالِحٍ مَوْلَى التَّوْءَمَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: إِنَّ مِنَ
الْمَلائِكَةِ قَبِيلا يُقَالُ لَهُمُ الْجِنُّ، فَكَانَ إِبْلِيسُ مِنْهُمْ،
وَكَانَ يَسُوسُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ فَعَصَى، فَمَسَخَهُ اللَّهُ
شَيْطَانًا رجيما
(1/82)
ذكر الخبر عن غمط عدو الله
نعمة ربه واستكباره عليه وادعائه الربوبية
حَدَّثَنَا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج: «وَمَنْ
يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ» قال: قال، ابن جريج:
من يقل من الملائكة إني إله من دونه، فلم يقله إلا إبليس، دعا إلى عباده نفسه،
فنزلت هذه الآية في إبليس.
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قال: حدثنا سعيد، عن
قتادة: «وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ
جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ» ، وإنما كانت هذه الآية خاصة لعدو الله
إبليس لما قال ما قال، لعنه الله وجعله رجيما، فقال: «فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ
كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ» .
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا محمد بن ثور، عن
معمر، عن قتادة: «وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ
نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ» ، قال: هي خاصة لإبليس
(1/83)
القول في الأحداث التي كانت في
أيام ملك ابليس وسلطانه والسبب الذي به هلك وادعى الربوبية
فمن الأحداث التي كانت في ملك عدو الله- إذ كان لله مطيعا- ما ذكر لنا عن ابْنِ
عَبَّاسٍ في الخبر الذي حَدَّثَنَاهُ أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ،
عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ
إِبْلِيسُ مِنْ حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْمَلائِكَةِ يُقَالُ لَهُمُ: الْجِنُّ
خُلِقُوا مِنْ نَارِ السَّمُومِ مِنْ بَيْنَ الْمَلائِكَةِ، قَالَ: وَكَانَ
اسْمُهُ الْحَارِثَ، قَالَ: وَكَانَ خَازِنًا مِنْ خُزَّانِ الْجَنَّةِ، قَالَ:
وَخُلِقَتِ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ مِنْ نُورٍ غَيْرَ هَذَا الْحَيِّ، قَالَ:
وَخُلِقَتِ الْجِنُّ الَّذِينَ ذُكِرُوا في القرآن من مارج من نار، وَهُوَ لِسَانُ
النَّارِ الَّذِي يَكُونُ فِي طَرْفِهَا إِذَا أُلْهِبَتْ، قَالَ: وَخُلِقَ
الإِنْسَانُ مِنْ طِينٍ، فَأَوَّلُ مَنْ سَكَنَ الأَرْضَ الْجِنُّ فَأَفْسَدُوا
فِيهَا وَسَفَكُوا الدِّمَاءَ، وَقَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، قَالَ: فَبَعَثَ اللَّهُ
إِلَيْهِمْ إِبْلِيسَ فِي جُنْدٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ وهم هَذَا الْحَيُّ الَّذِينَ
يُقَالُ لَهُمُ الْجِنُّ، فَقَتَلَهُمْ ابليس ومن معه حي أَلْحَقَهُمْ بِجَزَائِرِ
الْبُحُورِ وَأَطْرَافِ الْجِبَالِ، فَلَمَّا فَعَلَ إِبْلِيسُ ذَلِكَ اغْتَرَّ
فِي نَفْسِهِ، وَقَالَ: قَدْ صَنَعْتُ شَيْئًا لَمْ يَصْنَعْهُ أَحَدٌ، قَالَ:
فَاطَّلَعَ الله على ذلك من قبله، وَلَمْ تَطَّلِعْ عَلَيْهِ الْمَلائِكَةُ
الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ.
حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر عَنْ
أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْمَلائِكَةَ
يَوْمَ الأَرْبِعَاءِ، وَخَلَقَ الْجِنَّ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَخَلَقَ آدَمَ
يَوْمَ الْجُمُعَةِ، قَالَ:
فَكَفَرَ قَوْمٌ مِنَ الْجِنِّ، فَكَانَتِ الْمَلائِكَةُ تهبط اليهم في الارض
فتقتلهم فَكَانَتِ الدِّمَاءُ وَكَانَ الْفَسَادُ فِي الأَرْضِ
(1/84)
ذكر السبب الذي به هلك عدو
الله وسولت له نفسه من أجله الاستكبار على ربه عز وجل
اختلف السلف من الصحابة والتابعين في ذلك، وقد ذكرنا أحد الأقوال التي رويت في ذلك
عن ابْنِ عَبَّاسٍ، وذلك ما ذكر الضحاك عنه، أنه لما قتل الجن الذين عصوا الله،
وأفسدوا في الأرض وشردهم، أعجبته نفسه ورأى في نفسه أن له بذلك من الفضيلة ما ليس
لغيره.
والقول الثاني من الأقوال المروية في ذلك عن ابْنِ عَبَّاسٍ، أنه كان ملك سماء
الدنيا وسائسها، وسائس ما بينها وبين الأرض، وخازن الجنة، مع اجتهاده في العبادة،
فأعجب بنفسه، ورأى أن له بذلك الفضل، فاستكبر على ربه عز وجل.
ذكر الرواية عنه بذلك:
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ هَارُونَ الْهَمْدَانِيُّ، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال:
حدثنا أسباط، عن السدي، في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس- وعن
مرة الهمداني عن ابن مسعود- وعن ناس من اصحاب النبي ص، قال: لَمَّا فَرَغَ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ مِنْ خَلْقِ مَا أَحَبَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ، فَجَعَلَ
إِبْلِيسَ عَلَى مُلْكِ سَمَاءِ الدُّنْيَا وَكَانَ مِنْ قَبِيلَةٍ مِنَ
الْمَلائِكَةِ يُقَالُ لَهُمُ الْجِنُّ، وَإِنَّمَا سُمُّوا الْجِنَّ لأَنَّهُمْ
خُزَّانُ الْجَنَّةِ، وَكَانَ إِبْلِيسُ مَعَ مُلْكِهِ خَازِنًا، فَوَقَعَ فِي
صَدْرِهِ كِبْرٌ، وَقَالَ: مَا أَعْطَانِي اللَّهُ هَذَا إِلا لِمَزِيَّةٍ،
هَكَذَا حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ
(1/85)
وحدثني بِهِ أَحْمَدُ بْنُ
أَبِي خَيْثَمَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ حَمَّادٍ، قَالَ:
لِمَزِيَّةٍ لِي عَلَى الْمَلائِكَةِ فَلَمَّا وَقَعَ ذَلِكَ الْكِبْرُ فِي
نَفْسِهِ اطَّلَعَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى ذَلِكَ مِنْهُ، فَقَالَ اللَّهُ
لِلْمَلائِكَةِ: «إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» .
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، عَنِ
ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ خَلادِ بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،
قَالَ: كَانَ إِبْلِيسُ قَبْلَ أَنْ يَرْكَبَ الْمَعْصِيَةَ مِنَ الْمَلائِكَةِ
اسْمُهُ عَزَازِيلُ، وَكَانَ مِنْ سُكَّانِ الأَرْضِ، وَكَانَ مِنْ أَشَدِّ
الْمَلائِكَةِ اجْتِهَادًا، وَأَكْثَرِهِمْ عِلْمًا، فَذَلِكَ الَّذِي دَعَاهُ
إِلَى الْكِبْرِ، وَكَانَ مِنْ حَيٍّ يُسَمُّونَ جِنًّا.
وَحَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ مَرَّةً أُخْرَى، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ،
عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ خَلادِ بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ طَاوُسٍ- أَوْ مُجَاهِدٍ
أَبِي الْحَجَّاجِ- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ بِنَحْوِهِ، إِلا أَنَّهُ
قَالَ: كَانَ مَلَكًا مِنَ الْمَلائِكَةِ اسْمُهُ عَزَازِيلُ، وَكَانَ مِنْ
سُكَّانِ الأَرْضِ وَعُمَّارِهَا، وَكَانَ سُكَّانُ الأَرْضِ فِيهِمْ يُسَمُّونَ
الْجِنَّ مِنْ بَيْنِ الْمَلائِكَةِ.
حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قال: حدثنا شيبان، قال: حدثنا سلام ابن مِسْكِينٍ،
عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، قَالَ: كَانَ إِبْلِيسُ رَئِيسَ
مَلائِكَةِ سَمَاءِ الدُّنْيَا.
والقول الثالث من الأقوال المروية عنه أنه كان يقول: السبب في ذلك أنه كان من
بقايا خلق خلقهم الله عز وجل، فأمرهم بأمر فأبوا طاعته.
ذكر الرواية عنه بذلك:
(1/86)
حدثني محمد بن سنان القزاز،
قال: حدثنا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ شَبِيبٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،
قَالَ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ خَلْقًا فَقَالَ: اسْجُدُوا لآدَمَ، فَقَالُوا: لا
نَفْعَلُ، قَالَ: فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نَارًا تَحْرِقُهُمْ، ثُمَّ خَلَقَ
خَلْقًا آخَرَ فَقَالَ: إِنِّي خَالِقُ بَشَرًا مِنْ طِينٍ فَاسْجُدُوا لآدَمَ،
فَأَبَوْا، فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نَارًا فَأَحْرَقَتْهُمْ، قَالَ: ثُمَّ
خَلَقَ هَؤُلاءِ فَقَالَ: الا تسجدوا لادم! قالوا: نعم، قال: وَكَانَ إِبْلِيسُ
مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَبَوْا أَنْ يَسْجُدُوا لآدَمَ.
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ بَقَايَا
الْجِنِّ الَّذِينَ كَانُوا فِي الأَرْضِ، فَسَفَكُوا فِيهَا الدِّمَاءَ،
وَأَفْسَدُوا فِيهَا، وَعَصَوْا رَبَّهُمْ، فَقَاتَلَتْهُمُ الْمَلائِكَةُ.
ذِكْرُ مَنْ قال ذلك:
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا أبو سعيد اليحمدي إسماعيل بن إبراهيم، قال: حَدَّثَنِي سوار بن الجعد
اليحمدي، عن شهر بن حوشب، قوله: «كانَ مِنَ الْجِنِّ» ، قال:
كان إبليس من الجن الذين طردتهم الملائكة، فأسره بعض الملائكة فذهب به إلى السماء.
حَدَّثَنِي علي بن الحسن، قال: حَدَّثَنِي أبو نصر أحمد بن محمد الخلال، قال:
حَدَّثَنِي سنيد بن داود، قال: حَدَّثَنَا هشيم، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن يحيى،
عن موسى بن نمير وعثمان بن سعيد بن كامل، عن سعد ابن مسعود، قال: كانت الملائكة
تقاتل الجن فسبي إبليس، وكان صغيرا، وكان مع الملائكة يتعبد معهم، فلما أمروا أن
يسجدوا لآدم سجدوا وأبى إبليس، فلذلك قال الله عز وجل: «إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ
مِنَ الْجِنِّ»
(1/87)
قال ابو جعفر: وأولى الأقوال
في ذلك عندي بالصواب أن يقال كما قال الله عز وجل: «وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ
اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ
أَمْرِ رَبِّهِ» ، وجائز أن يكون فسوقه عن أمر ربه كان من أجل أنه كان من الجن،
وجائز أن يكون من أجل إعجابه بنفسه لشدة اجتهاده كان في عبادة ربه، وكثرة علمه،
وما كان أوتي من ملك السماء الدنيا والأرض وخزن الجنان وجائز أن يكون كان لغير ذلك
من الأمور، ولا يدرك علم ذلك إلا بخبر تقوم به الحجة، ولا خبر في ذلك عندنا كذلك،
والاختلاف في أمره على ما حكينا ورويناه.
وقد قيل: إن سبب هلاكه كان من أجل أن الأرض كان فيها قبل آدم الجن، فبعث الله
إبليس قاضيا يقضي بينهم، فلم يزل يقضي بينهم بالحق ألف سنة حتى سمي حكما، وسماه
الله به، وأوحى إليه اسمه، فعند ذلك دخله الكبر، فتعظم وتكبر، وألقى بين الذين كان
الله بعثه إليهم حكما البأس والعداوة والبغضاء، فاقتتلوا عند ذلك في الأرض ألفي
سنة فيما زعموا، حتى إن خيولهم تخوض في دمائهم، قالوا: وذلك قول الله تبارك
وتعالى: «أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ
جَدِيدٍ» ، وقول الملائكة: «أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ
الدِّماءَ» ! فبعث الله تعالى عند ذلك نارا فأحرقتهم قالوا:
فلما رأى إبليس ما نزل بقومه من العذاب عرج إلى السماء، فأقام عند الملائكة يعبد
الله في السماء مجتهدا لم يعبده شيء من خلقه مثل عبادته، فلم يزل مجتهدا في
العبادة حتى خلق الله آدم، فكان من امره ومعصيته ربه ما كان
(1/88)
القول في خلق آدم ع
وكان مما حدث في أيام سلطانه وملكه خلق الله تعالى ذكره أبانا آدم أبا البشر، وذلك
لما أراد جل جلاله أن يطلع ملائكته على ما قد علم من انطواء إبليس على الكبر ولم
يعلمه الملائكة، وأراد إظهار أمره لهم حين دنا أمره للبوار، وملكه وسلطانه للزوال،
فقال عز ذكره لما أراد ذلك للملائكة: «إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» ،
فأجابوه بأن قالوا له: «أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ
الدِّماءَ» ! فروي عن ابْنِ عَبَّاسٍ أن الملائكة قالت ذلك كذلك للذين قد كانوا
عهدوا من أمر الجن الذين كانوا سكان الأرض قبل ذلك، فقالوا لربهم جل ثناؤه لما قال
لهم: «إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» أتجعل فيها من يكون فيها مثل الجن
الذين كانوا فيها، فكانوا يسفكون فيها الدماء ويفسدون فيها ويعصونك، وَنَحْنُ
نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لك، فقال الرب تعالى ذكره لهم: «إِنِّي أَعْلَمُ
ما لا تَعْلَمُونَ» ، يقول: اعلم ما لا تعلمون من انطواء إبليس على التكبر، وعزمه
على خلافه أمري، وتسويل نفسه له الباطل واغتراره، وأنا مبد ذلك لكم منه لتروا ذلك
منه عيانا.
وقيل أقوال كثيرة في ذلك، قد حكينا منها جملا في كتابنا المسمى:
جامع البيان عن تأويل آي القرآن، فكرهنا إطالة الكتاب بذكر ذلك في هذا الموضع.
فلما أراد الله عز وجل أن يخلق آدم ع أمر بتربته أن تؤخذ من الأرض، كما حَدَّثَنَا
أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا
(1/89)
بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنْ
أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: ثُمَّ أَمَرَ-
يَعْنِي الرَّبَّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِتُرْبَةِ آدَمَ فَرُفِعَتْ، فخلق الله
آدم من طين لا رب- وَاللازِبُ اللَّزِجُ الطَّيِّبُ- مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ،
مُنْتِنٍ، قَالَ:
وَإِنَّمَا كَانَ حَمَأً مَسْنُونًا بَعْدَ التُّرَابِ، قَالَ: فَخَلَقَ مِنْهُ
آدَمَ بِيَدِهِ.
حَدَّثَنِي مُوسَى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال:
حدثنا أسباط، عن السدي- في خبر ذكره- عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس- وعن
مرة الهمداني، عن ابن مسعود- وعن ناس من أصحاب النبي ص، قَالَ: قَالَتِ
الْمَلائِكَةُ: «أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ
وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا
تَعْلَمُونَ» يعنى من شان ابليس، فبعث الله جبرئيل ع إِلَى الأَرْضِ لِيَأْتِيَهُ
بِطِينٍ مِنْهَا، فَقَالَتِ الأَرْضُ: إِنِّي أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ أَنْ
تُنْقِصَ مِنِّي شيئا وتشينى، فَرَجَعَ وَلَمْ يَأْخُذْ، وَقَالَ: يَا رَبِّ
إِنَّهَا عَاذَتْ بِكَ فَأَعَذْتُهَا، فَبَعَثَ مِيكَائِيلَ فَعَاذَتْ مِنْهُ
فاعاذها فرجع، فقال كما قال جبرئيل، فبعث ملك الموت فَعَاذَتْ مِنْهُ،
فَأَعَاذَهَا فَرَجَعَ، فَقَالَ كَمَا قَالَ جبرئيل، فَبَعَثَ مَلَكُ الْمَوْتِ
فَعَاذَتْ مِنْهُ، فَقَالَ: وَأَنَا أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَرْجِعَ، وَلَمْ
أُنَفِّذْ أَمْرَهُ، فاخذ مِنْ وَجْهِ الأَرْضِ، وَخَلَطَ فَلَمْ يَأْخُذْ مِنْ
مَكَانٍ وَاحِدٍ، وَأَخَذَ مِنْ تُرْبَةٍ حَمْرَاءَ وَبَيْضَاءَ وَسَوْدَاءَ،
فَلِذَلِكَ خَرَجَ بَنُو آدَمَ مُخْتَلِفِينَ، فَصَعِدَ بِهِ فَبَلَّ التُّرَابَ
حَتَّى عَادَ طِينًا لازِبًا- وَاللازِبُ هُوَ الَّذِي يَلْتَزِقُ بَعْضُهُ
بِبَعْضٍ- ثُمَّ تُرِكَ حَتَّى تَغَيَّرَ وَأَنْتَنَ، وَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ:
«مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ*» ، قَالَ: مُنْتِنٌ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ الْقُمِّيُّ، عَنْ
جَعْفَرِ بْنِ أَبِي الْمُغِيرَةِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ، قَالَ: بَعَثَ رَبُّ الْعِزَّةِ عز وَجَلَّ إِبْلِيسَ، فَأَخَذَ مِنْ
أَدِيمِ الأَرْضِ، مِنْ عَذْبِهَا وَمَلْحِهَا، فَخَلَقَ مِنْهُ آدَمَ،
(1/90)
وَمِنْ ثَمَّ سُمِّيَ آدَمَ،
لأَنَّهُ خُلِقَ مِنْ أَدِيمِ الأَرْضِ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ إِبْلِيسُ:
«أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً» ، أَيْ هَذِهِ الطِّينَةُ أَنَا جِئْتُ
بِهَا.
حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ:
حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ:
إِنَّمَا سُمِّيَ آدَمَ لأَنَّهُ خُلِقَ مِنْ أَدِيمِ الأَرْضِ حَدَّثَنِي
أَحْمَدُ بْنُ إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد، قال:
حدثنا مسعر، عن أبي حصين، عن سعيد بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: خُلِقَ آدَمُ مِنْ
أَدِيمِ الأَرْضِ فَسُمِّيَ آدَمَ.
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ:
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، [عَنْ عَلِيٍّ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ:
إِنَّ آدَمَ خُلِقَ مِنْ أَدِيمِ الأَرْضِ، فِيهِ الطَّيِّبُ وَالصَّالِحُ
وَالرَّدِيءُ، فَكُلُّ ذَلِكَ أَنْتَ رَاءٍ فِي وَلَدِهِ الصَّالِحِ وَالرَّدِيءِ]
.
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ
عَوْفٍ- وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ وَعُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالا:
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا عَوْفٌ وَحَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي
عَدِيٍّ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ وَعَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ، قَالُوا:
حَدَّثَنَا عَوْفٌ وحدثني مُحَمَّدُ بْنُ عُمَارَةَ الأَسَدِيُّ، قَالَ:
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَنْبَسَةُ، عَنْ عَوْفٍ
الأَعْرَابِيِّ- عَنْ قَسَامَةَ بْنِ زُهَيْرٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ،
قَالَ: [قَالَ رسول الله ص: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا
مِنْ جَمِيعِ الأَرْضِ، فَجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى قَدْرِ الأَرْضِ، جَاءَ
مِنْهُمُ الأَحْمَرُ، وَالأَسْوَدُ، وَالأَبْيَضُ، وَبَيْنَ ذَلِكَ وَالسَّهْلُ،
وَالْحَزْنُ، وَالْخَبِيثُ، وَالطَّيِّبُ، ثُمَّ بُلَّتْ طِينَتُهُ حَتَّى صَارَتْ
طِينًا لازِبًا، ثُمَّ تُرِكَتْ حَتَّى صَارَتْ حَمَأً مَسْنُونًا، ثُمَّ تُرِكَتْ
حَتَّى صَارَتْ صَلْصَالا
(1/91)
كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
«وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ] » .
وَحَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَعَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، قَالا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ
مُسْلِمٍ الْبُطَيْنِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قال:
خُلِقَ آدَمُ مِنْ ثَلاثَةٍ: مِنْ صَلْصَالٍ، وَمِنْ حَمَإٍ، وَمِنْ طِينٍ لازِبٍ
فَأَمَّا اللازِبُ فَالْجَيِّدُ، وَأَمَّا الْحَمَأُ فَالْحَمِئَةُ، وَأَمَّا
الصَّلْصَالُ فَالتُّرَابُ الْمُدَقَّقُ، ويعنى تعالى ذكره بقوله: «مِنْ
صَلْصالٍ*» ، مِنْ طِينٍ يَابِسٍ لَهُ صَلْصَلَةٌ، وَالصَّلْصَلَةُ: الصَّوْتُ.
وَذَكَرَ أَنَّ اللَّهَ تعالى ذَكَرَهُ لَمَّا خَمَّرَ طِينَةَ آدَمَ تَرَكَهَا
أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَقِيلَ أَرْبَعِينَ عَامًا جَسَدًا مُلْقًى.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ:
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:
أَمَرَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِتُرْبَةِ آدَمَ فَرُفِعَتْ، فَخُلِقَ آدَمُ
مِنْ طِينٍ لازِبٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ قَالَ: وَإِنَّمَا كَانَ حَمَأً
مَسْنُونًا بَعْدَ التُّرَابِ، قَالَ: فَخَلَقَ مِنْهُ آدَمَ بِيَدِهِ، قَالَ:
فَمَكَثَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً جَسَدًا مُلْقًى، فَكَانَ إِبْلِيسُ يَأْتِيهِ
فَيَضْرِبُهُ بِرِجْلِهِ، فَيُصَلْصِلُ فَيُصَوِّتُ، قَالَ: فَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى: «مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ» ، يَقُولُ: كَالشَّيْءِ
الْمُنْفَرِجِ الَّذِي لَيْسَ بِمُصْمَتٍ، قَالَ: ثُمَّ يَدْخُلُ فِي فِيهِ
وَيَخْرُجُ مِنْ دُبُرِهِ، وَيَدْخُلُ فِي دُبُرِهِ وَيَخْرُجُ مِنْ فِيهِ، ثُمَّ
يَقُولُ:
لَسْتَ شَيْئًا لِلصَّلْصَلَةِ، وَلِشَيْءٍ مَا خُلِقْتَ، وَلَئِنْ سُلِّطْتُ
عَلَيْكَ لأُهْلِكَنَّكَ، وَلَئِنْ سُلِّطْتَ عَلَيَّ لاعصينك
(1/92)
حدثني موسى بن هارون، قال:
حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي- في خبر ذكره- عن أبي مالك وعن
أبي صالح، عن ابن عباس- وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود- وعن ناس من اصحاب رسول
الله ص، قَالَ اللَّهُ لِلْمَلائِكَةِ: «إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ.
فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ» ،
فَخَلَقَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِيَدَيْهِ لِكَيْلا يَتَكَبَّرُ ابليس عنه
ليقول حين يتكبر: تتكبر عَمَّا عَمِلْتُ بِيَدِي وَلَمْ أَتَكَبَّرْ أَنَا عَنْهُ!
فَخَلَقَهُ بَشَرًا، فَكَانَ جَسَدًا مِنْ طِينٍ أَرْبَعِينَ سَنَةً مِنْ
مِقْدَارِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَمَرَّتْ بِهِ الْمَلائِكَةُ فَفَزِعُوا مِنْهُ
لَمَّا رَأَوْهُ، وَكَانَ أَشَدَّهُمْ فَزَعًا إِبْلِيسَ، فَكَانَ يَمُرُّ بِهِ
فَيَضْرِبُهُ فَيُصَوِّتُ الْجَسَدُ كَمَا يُصَوِّتُ الْفَخَّارُ تَكُونُ لَهُ
صَلْصَلَةٌ، فذلك حين يقول: «مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ» ، وَيَقُولُ: لأَمْرٍ
مَا خُلِقْتَ وَدَخَلَ مِنْ فِيهِ وَخَرَجَ مِنْ دُبُرِهِ، فَقَالَ
لِلْمَلائِكَةِ: لا تَرْهَبُوا مِنْ هَذَا، فَإِنَّ رَبَّكُمْ صَمَدٌ وَهَذَا
أَجْوَفُ، لَئِنْ سُلِّطْتُ عَلَيْهِ لأُهْلِكَنَّهُ.
وَحَدَّثَنَا عَنِ الْحَسَنِ بن بلال، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عَنْ سُلَيْمَانَ
التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ،
قَالَ: خَمَّرَ اللَّهُ تَعَالَى طينه آدم ع أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ جَمَعَهُ
بِيَدَيْهِ، فَخَرَجَ طِيبُهُ بِيَمِينِهِ، وَخَبِيثُهُ بِشِمَالِهِ، ثُمَّ مَسَحَ
يَدَيْهِ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى، فَخَلَطَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، فَمِنْ ثَمَّ
يَخْرُجُ الطَّيِّبُ مِنَ الْخَبِيثِ، وَالْخَبِيثُ مِنَ الطَّيِّبِ.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ:
يُقَالُ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ: خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ، ثُمَّ وَضَعَهُ يَنْظُرُ
إِلَيْهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا قَبْلَ أَنْ يَنْفُخَ فِيهِ الرُّوحَ، حَتَّى عَادَ
صَلْصَالا كَالْفَخَّارِ، وَلَمْ تَمَسَّهُ نَارٌ، قَالَ: فلما
(1/93)
مَضَى لَهُ مِنَ الْمُدَّةِ
مَا مَضَى وَهُوَ طِينٌ صَلْصَالٌ كَالْفَخَّارِ، وَأَرَادَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ
يَنْفُخَ فِيهِ الرُّوحَ، تَقَدَّمَ إِلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ لَهُمْ: إِذَا
نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ.
فَلَمَّا نَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ أَتَتْهُ الرُّوحُ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ، فِيمَا
ذُكِرَ عَنِ السَّلَفِ قَبْلِنَا أَنَّهُمْ قَالُوهُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذلك:
حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي- في
خبر ذكره- عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس- وعن مرة الهمداني، عن ابن
مسعود- وعن ناس من اصحاب النبي ص: فَلَمَّا بَلَغَ الْحِينَ الَّذِي أَرَادَ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَنْفُخَ فِيهِ الرُّوحَ قَالَ لِلْمَلائِكَةِ: إِذَا
نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَاسْجُدُوا لَهُ، فَلَمَّا نَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ
فَدَخَلَ الرُّوحُ، فِي رَأْسِهِ عَطَسَ، فَقَالَتِ الْمَلائِكَةُ: قُلِ الْحَمْدُ
لِلَّهِ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ:
رَحِمَكَ رَبُّكَ فَلَمَّا دَخَلَ الرُّوحُ فِي عَيْنَيْهِ نَظَرَ إِلَى ثِمَارِ
الْجَنَّةِ، فَلَمَّا دَخَلَ فِي جَوْفِهِ اشْتَهَى الطَّعَامَ، فَوَثَبَ قَبْلَ
أَنْ تَبْلُغَ الرُّوحُ رِجْلَيْهِ عَجْلانَ إِلَى ثِمَارِ الْجَنَّةِ، فَذَلِكَ
حِينَ يَقُولُ: «خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ» ، «فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ
كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ» ،
«أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ» ، فقال الله له: «ما مَنَعَكَ
أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ» لِمَا خَلَقْتُ بِيَدِي، قَالَ:
أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ، لَمْ أَكُنْ لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ،
قَالَ اللَّهُ لَهُ:
«فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ» - يَعْنِي مَا يَنْبَغِي لَكَ- «أَنْ
تَتَكَبَّرَ
(1/94)
فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ
الصَّاغِرِينَ» ، وَالصّغَارُ الذُّلُّ.
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ، قَالَ: فَلَمَّا نَفَخَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ- يَعْنِي فِي
آدَمَ- مِنْ رُوحِهِ أَتَتِ النَّفْخَةُ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ، فَجَعَلَ لا
يَجْرِي شَيْءٌ مِنْهَا فِي جَسَدِهِ إِلا صَارَ لَحْمًا وَدَمًا، فَلَمَّا
انْتَهَتِ النَّفْخَةُ إِلَى سُرَّتِهِ نَظَرَ إِلَى جَسَدِهِ فَأَعْجَبَهُ مَا
رَأَى مِنْ حُسْنِهِ، فَذَهَبَ لِيَنْهَضَ فَلَمْ يَقْدِرْ، فَهُوَ قَوْلُ الله عز
وجل «خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ» ، قَالَ: ضَجِرًا لا صَبْرَ لَهُ عَلَى
سَرَّاءٍ وَلا ضَرَّاءٍ، قَالَ: فَلَمَّا تَمَّتِ النَّفْخَةُ فِي جَسَدِهِ عَطَسَ
فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، بِإِلْهَامِ اللَّهِ، فَقَالَ:
يَرْحَمُكَ اللَّهُ يَا آدَمُ، ثُمَّ قَالَ لِلْمَلائِكَةِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ
إِبْلِيسَ خَاصَّةً دُونَ الْمَلائِكَةِ الَّذِينَ فِي السَّمَوَاتُ: اسْجُدُوا
لآدَمَ، فَسَجَدُوا كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ،
لِمَا كَانَ حَدَّثَ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ كبره واغتراره، فقال: لا اسجد، وَأَنَا
خَيْرٌ مِنْهُ وَأَكْبَرُ سِنًّا، وَأَقْوَى خَلْقًا، «خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ
وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ*» ، يَقُولُ: إِنَّ النَّارَ أَقْوَى مِنَ الطِّينِ،
قَالَ: فَلَمَّا أَبَى إِبْلِيسُ أَنْ يَسْجُدَ أَبْلَسَهُ اللَّهُ تعالى، أيأسه
مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ، وَجَعَلَهُ شَيْطَانًا رَجِيمًا عُقُوبَةً
لِمَعْصِيَتِهِ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
إِسْحَاقَ، قَالَ:
فَيُقَالُ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ-: إِنَّهُ لَمَّا انْتَهَى الرُّوحُ إِلَى رَأْسِهِ
عَطَسَ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، قَالَ: فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ: يَرْحَمُكَ
رَبُّكَ، وَوَقَعَتِ الْمَلائِكَةُ حِينَ اسْتَوَى سُجُودًا لَهُ، حِفْظًا
لِعَهْدِ اللَّهِ الَّذِي عَهِدَ إِلَيْهِمْ، وَطَاعَةً لأَمْرِهِ الَّذِي
أَمَرَهُمْ بِهِ، وَقَامَ عدو الله ابليس من بينهم، فلم يسجد متكبرا متعظما بغيا
وحسدا، فقال:
«يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ» إِلَى قَوْلِهِ:
«لَأَمْلَأَنَ
(1/95)
جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ
تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ» ، قَالَ: فَلَمَّا فَرَغَ اللَّهُ تعالى مِنْ
إِبْلِيسَ وَمُعَاتَبَتِهِ وَأَبَى إِلا الْمَعْصِيَةَ أَوْقَعَ اللَّهُ تعالى
عَلَيْهِ اللَّعْنَةَ، وَأَخْرَجَهُ مِنَ الْجَنَّةِ.
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ خَلَفٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ،
قَالَ:
حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ سُلَيْمَانُ بْنُ حَيَّانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ
بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ، ع
قَالَ أَبُو خَالِدٍ: وحدثني الأَعْمَشُ عَنْ أَبِي صالح، عن ابى هريرة، عن النبي
ص قَالَ أَبُو خَالِدٍ:
وحدثني دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ
النبي ص قَالَ أَبُو خَالِدٍ: وحدثني ابْنُ أَبِي ذُبَابٍ الدَّوْسِيُّ، قَالَ:
حَدَّثَنِي سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ، وَيَزِيدُ بْنُ هرمز عن ابى هريرة، [عن النبي
ص أَنَّهُ قَالَ: خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ آدَمَ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيهِ
مِنْ رُوحِهِ، وَأَمَرَ الْمَلأَ مِنَ الْمَلائِكَةِ فَسَجَدُوا لَهُ، فَجَلَسَ
فَعَطَسَ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ: يَرْحَمُكَ رَبُّكَ،
ايت أُولَئِكَ الْمَلأَ مِنَ الْمَلائِكَةِ فَقُلْ لَهُمُ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ
فَأَتَاهُمْ فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ، فَقَالُوا لَهُ: وَعَلَيْكَ السَّلامُ
وَرَحْمَةُ اللَّهِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ لَهُ:
هَذِهِ تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ بَيْنَهُمْ فَلَمَّا أَظْهَرَ
إِبْلِيسُ مِنْ نَفْسِهِ مَا كَانَ لَهُ مَخْفِيًّا فِيهَا مِنَ الْكِبْرِ
وَالْمَعْصِيَةِ لِرَبِّهِ، وَكَانَتِ الْمَلائِكَةُ قَدْ قَالَتْ لِرَبِّهَا
عَزَّ وَجَلَّ حِينَ قَالَ لَهُمْ: إِنِّي جاعل في الأرض خليفة: أَتَجْعَلُ فِيهَا
مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ
وَنُقَدِّسُ لَكَ فَقَالَ لَهُمْ رَبُّهُمْ:
إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ، تَبَيَّنَ لَهُمْ مَا كَانَ عَنْهُمْ
مُسْتَتِرًا، وَعَلِمُوا أَنَّ فِيهِمْ مَنْ مِنْهُ الْمَعْصِيَةُ لِلَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ وَالْخِلافُ لأَمْرِهِ] .
ثُمَّ عَلَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا وَاخْتَلَفَ
السَّلَفُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَبْلَنَا فِي الأَسْمَاءِ الَّتِي عُلِّمَهَا
آدَمُ: أَخَاصًّا مِنَ الأَسْمَاءِ علم، اما عَامًّا؟
فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عُلِّمَ اسْمَ كُلِّ شَيْءٍ
(1/96)
ذكر من قال ذلك:
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا بشر ابن عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ، قَالَ: «عَلَّمَ اللَّهُ تَعَالَى آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها» ، وَهِيَ
هَذِهِ الأَسْمَاءُ الَّتِي يَتَعَارَفُ بِهَا النَّاسُ:
إِنْسَانٌ، وَدَابَّةٌ، وَأَرْضٌ، وَسَهْلٌ، وَبَحْرٌ، وَجَبَلٌ، وَحِمَارٌ،
وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِنَ الأُمَمِ وَغَيْرِهَا.
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ الأَهْوَازِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو
أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ
سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: «وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها»
، قَالَ: عَلَّمَهُ اسْمَ كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى الْفَسْوَةِ وَالْفُسَيَّةِ.
حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ، حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ الْجَرْمِيُّ، قَالَ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُصْعَبٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ، عَنْ عَاصِمِ
بْنِ كُلَيْبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَعْبَدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِ
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: «وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها» قَالَ:
عَلَّمَهُ اسْمَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى الْهَنَةِ وَالْهُنَيَّةِ، وَالْفَسْوَةِ
وَالضَّرْطَةِ.
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى ابن
ميمون، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ:
«وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها» قَالَ: مَا خَلَقَ اللَّهُ تعالى كُلَّهُ.
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ سفيان، عَنْ خَصِيفٍ،
عَنْ مُجَاهِدٍ: «وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها» قَالَ: عَلَّمَهُ اسْمَ
كُلِّ شَيْءٍ
(1/97)
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ سَالِمٍ الأَفْطَسِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
جُبَيْرٍ، قَالَ: عَلَّمَهُ اسْمَ كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى الْبَعِيرِ،
وَالْبَقَرَةِ، وَالشَّاةِ.
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر،
عن قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: «وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها»
، قَالَ: عَلَّمَهُ اسْمَ كُلِّ شَيْءٍ: هَذَا جَبَلٌ، وَهَذَا بَحْرٌ، وَهَذَا
كَذَا، وَهَذَا كَذَا، لِكُلِّ شَيْءٍ، ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ،
فَقَالَ: «أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» .
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ سَعِيدٍ،
عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ عَزَّ وجل: و «عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها»
حَتَّى بَلَغَ «إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ» ، قَالَ: يَا آدَمُ
أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ، فَأَنْبَأَ كُلَّ صِنْفٍ مِنَ الْخَلْقِ بِاسْمِهِ،
وَأَلْجَأَهُ إِلَى جِنْسِهِ.
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: حدثنا الحسين بن داود، قَالَ:
حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ ومبارك، عن الحسن وأبي بكر، عن
الحسن وَقَتَادَةَ، قَالا: عَلَّمَهُ اسْمَ كُلِّ شَيْءٍ، هَذِهِ الخيل، وهذه
البغال، والإبل، والجن، والوحش، وجعل يسمي كل شيء برسمه.
وقال آخرون: بل إنما علم اسما خاصا من الأسماء، قالوا: والذي علمه أسماء الملائكة.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذلك:
(1/98)
حَدَّثَنِي عَبْدَةُ
الْمَرْوَزِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمَّارُ بْنُ الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن
أبي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، قَوْلُهُ تعالى: «وَعَلَّمَ آدَمَ
الْأَسْماءَ كُلَّها» ، قَالَ: أَسْمَاءُ الْمَلائِكَةِ.
وَقَالَ آخَرُونَ مِثْلَ قَوْلِ هَؤُلاءِ فِي أَنَّ الَّذِي عُلِّمَ آدَمَ مِنَ
الأَسْمَاءِ اسْمًا خَاصًّا مِنَ الأَشْيَاءِ، غَيْرَ أَنَّهُمْ قَالُوا: الَّذِي
عُلِّمَ مِنْ ذَلِكَ أَسْمَاءَ ذُرِّيَّتِهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ:
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ
فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: «وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها» ، قَالَ:
أَسْمَاءَ ذُرِّيَّتِهِ، فَلَمَّا «عَلَّمَ اللَّهُ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها»
عَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَهْلَ الأَسْمَاءِ عَلَى الْمَلائِكَةِ، فَقَالَ
لَهُمْ: «أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» ، وإنما قال
ذلك عز وجل للملائكة- فيما ذكر- لقولهم إذ قال لهم: «إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ
خَلِيفَةً» : «أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ
وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ» فعرض- بعد ان خلق آدم ع ونفخ فيه
الروح، وعلمه أسماء كل شيء- مما خلق من الخلق- عليهم، فقال لهم:
«أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» أني إن جعلت منكم
خليفتي في الأرض أطعتموني وسبحتموني وقدستموني ولم تعصوني، وإن جعلته من غيركم
أفسد فيها وسفك، فإنكم إن لم تعلموا ما أسماؤهم وأنتم مشاهدوهم ومعاينوهم، فأنتم
بألا تعلموا ما يكون من أمركم- إن جعلت خليفتي في الأرض منكم، أو من غيركم إن
جعلته من غيركم، فهم عن أبصاركم غُيَّبٌ لا ترونهم ولا تعاينونهم، ولم تخبروا بما
هو كائن منكم ومنهم- أحرى
(1/99)
وهذا قول روي عن جماعة من
السلف.
ذكر بعض من روي ذلك عنه:
حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ حماد، قال:
حدثنا أسباط، عن السدي- في خبر ذكره- عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس- وعن
مرة الهمداني، عن عبد الله بن مسعود- وعن ناس من اصحاب النبي ص: «إِنْ كُنْتُمْ
صادِقِينَ» أَنَّ بَنِي آدَمَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَيَسْفِكُونَ الدِّمَاءَ.
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ:
«إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» ، إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ لَمْ أَجْعَلْ فِي
الأَرْضِ خَلِيفَةً.
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ اللَّهَ جَلَّ جَلالَهُ قَالَ ذَلِكَ لِلْمَلائِكَةِ لأَنَّهُ
جَلَّ جَلالَهُ لَمَّا ابْتَدَأَ فِي خَلْقِ آدَمَ قَالُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ:
لِيَخْلُقُ رَبُّنَا مَا شَاءَ أَنْ يَخْلُقَ، فَلَنْ يخلق خلقا إلا كنا أعلم منه،
وأكرم عليه منه، فلما خلق آدم ع وَعَلَّمَهُ أَسْمَاءَ كُلَّ شَيْءٍ عَرَضَ
الأَشْيَاءَ الَّتِي علم آدم أسمائها عليهم، فقال لهم: «أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ
هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» فِي قِيلِكُمْ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ
خَلْقًا إِلا كُنْتُمْ أَعْلَمَ مِنْهُ، وَأَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنْهُ.
ذكر من قال ذلك:
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: قوله: «وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ
إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، فاستشار الملائكة في خلق آدم ع ف قالُوا:
«أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ» ، وقد علمت الملائكة
من علم الله أنه لا شيء أكره إلى الله عز وجل من سفك الدماء والفساد في الأرض،
(1/100)
«وَنَحْنُ نُسَبِّحُ
بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ» ، فَكان في
علم الله عز وجل انه سيكون من تلك الخليقة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة.
قال: وذكر لنا أن ابْنِ عَبَّاسٍ كان يقول: إن الله تعالى لما أخذ في خلق آدم قالت
الملائكة: ما الله تعالى بخالق خلقا أكرم عليه منا، ولا أعلم منا، فابتلوا بخلق
آدم ع- وكل خلق مبتلى، كما ابتليت السموات والأرض بالطاعة- فقال الله تعالى:
«ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ» .
حَدَّثَنَا القاسم، قال: حَدَّثَنَا الحسين بن داود، قال: حَدَّثَنِي حجاج، عن
جرير بن حازم، ومبارك عن الحسن وأبي بكر عن الحسن وقتادة قالا: قال الله عز وجل
للملائكة: «إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» قال لهم: إني فاعل، فعرضوا
برأيهم، فعلمهم علما وطوى منهم علما علمه لا يعلمونه، فقالوا بالعلم الذي علمهم:
«أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ» - وقد كانت الملائكة
علمت من علم الله تعالى أنه لا ذنب عند الله تعالى أعظم من سفك الدِّمَاءَ-
«وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا
تَعْلَمُونَ» ، فلما أخذ تعالى في خلق آدم ع همست الملائكة فيما بينهم، فقالوا:
ليخلق ربنا عز وجل ما شاء أن يخلق، فلن يخلق خلقا إلا كنا أعلم منه، وأكرم عليه
منه، فلما خلقه ونفخ فيه من روحه أمرهم أن يسجدوا له لما قالوا، ففضله عليهم،
فعلموا أنهم ليسوا بخير منه، فقالوا:
إن لم نكن خيرا منه، فنحن أعلم منه، لأنا كنا قبله، وخلقت الأمم قبله،
(1/101)
فلما أعجبوا بعلمهم ابتلوا،
«فعلم آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ:
أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ، إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» أني لم أخلق خلقا إلا
كنتم أعلم منه، فأخبروني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالا: ففزع القوم إلى التوبة،
وإليها يفزع كل مؤمن، فقالوا: «سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنا
إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ
فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ
غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ
تَكْتُمُونَ» لقولهم: ليخلق ربنا ما شاء، فلن يخلق خلقا أكرم عليه منا، ولا أعلم
منا، قال: علمه اسم كل شيء:
هذه الخيل، وهذه البغال، والإبل، والجن، والوحش، وجعل يسمي كل شيء باسمه، وعرضت
عليه أمة أمة، قال: «أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ» ، قال:
اما ما أبدوا فقولهم: «أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ
الدِّماءَ» ، وأما ما كتموا فقولهم بعضهم لبعض: نحن خير منه وأعلم.
حَدَّثَنَا عَمَّارُ بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن
الربيع بن أَنَسٍ: «ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي
بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» إِلَى قَوْلِهِ: «إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ
» ، قَالَ: وَذَلِكَ حِينَ قَالُوا: «أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها
وَيَسْفِكُ الدِّماءَ» إِلَى قَوْلِهِ «وَنُقَدِّسُ لَكَ» قَالَ: فَلَمَّا
عَرَفُوا أَنَّهُ جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا بَيْنَهُمْ: لَنْ
يَخْلُقَ اللَّهُ تعالى خَلْقًا إِلا كُنَّا نَحْنُ أَعْلَمُ مِنْهُ وَأَكْرَمُ
عَلَيْهِ، فَأَرَادَ اللَّهُ تعالى أَنْ يُخْبِرَهُمْ أَنَّهُ قَدْ فَضَّلَ
عَلَيْهِمْ آدَمَ، وَعَلَّمَهُ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا، وَقَالَ
(1/102)
لِلْمَلائِكَةِ: «أَنْبِئُونِي
بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» إِلَى «وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ
وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ» ، فَكَانَ الَّذِي أَبْدَوْا حِينَ قالُوا:
«أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ» ، وَكَانَ الَّذِي
كَتَمُوا بَيْنَهُمْ قَوْلُهُمْ: لَنْ يَخْلُقَ رَبُّنَا خَلْقًا إِلا كُنَّا نَحْنُ
أَعْلَمُ مِنْهُ وَأَكْرَمُ، فَعَرَفُوا أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَضَّلَ
عَلَيْهِمْ آدَمَ فِي الْعِلْمِ وَالْكَرَمِ.
فَلَمَّا ظَهَرَ لِلْمَلائِكَةِ مِنَ اسْتِكْبَارِ إِبْلِيسَ مَا ظَهَرَ، وَمِنْ
خِلافِهِ أَمْرَ رَبِّهِ مَا كَانَ مُسْتَتِرًا عَنْهُمْ مِنْ ذَلِكَ، عَاتَبَهُ
رَبُّهُ عَلَى مَا أَظْهَرَ مِنْ مَعْصِيَتِهِ إِيَّاهُ بِتَرْكِهِ السُّجُودَ
لآدَمَ، فَأَصَرَّ عَلَى مَعْصِيَتِهِ، وَأَقَامَ عَلَى غَيِّهِ وَطُغْيَانِهِ-
لَعَنَهُ اللَّهُ- فَأَخْرَجَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَطَرَدَهُ مِنْهَا، وَسَلَبَهُ
مَا كَانَ آتَاهُ مِنْ مُلْكِ السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَالأَرْضِ، وَعَزَلَهُ عن
خزن الجنه فقال له جَلَّ جَلالُهُ: «فَاخْرُجْ مِنْها» ، يَعْنِي مِنَ الْجَنَّةِ
«فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ» ، وَهُوَ
بَعْدُ فِي السَّمَاءِ لَمْ يَهْبِطْ إِلَى الارض.
واسكن اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ حِينَئِذٍ آدَمَ جَنَّتَهُ، كَمَا حدثني موسى بن
هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي- في خبر ذكره- عن أبي
مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس- وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود- وعن ناس من اصحاب
رسول الله ص: فَأُخْرِجَ إِبْلِيسُ مِنَ الْجَنَّةِ حِينَ لُعِنَ وَأُسْكِنَ آدَمُ
الْجَنَّةَ، فَكَانَ يَمْشِي فِيهَا وَحْشِيًّا لَيْسَ لَهُ زَوْجٌ يَسْكُنُ
إِلَيْهَا، فَنَامَ نَوْمَةً فَاسْتَيْقَظَ، فَإِذَا عِنْدَ رَأْسِهِ امْرَأَةٌ
قَاعِدَةٌ خَلَقَهَا اللَّهُ مِنْ ضِلْعِهِ، فَسَأَلَهَا: مَا أَنْتِ؟ قَالَتِ:
امْرَأَةٌ، قَالَ: وَلِمَ خُلِقْتِ؟ قَالَتْ:
(1/103)
لِتَسْكُنَ إِلَيَّ، قَالَتْ
لَهُ الْمَلائِكَةُ يَنْظُرُونَ مَا بَلَغَ عِلْمُهُ: مَا اسْمُهَا يَا آدَمُ؟
قَالَ: حَوَّاءُ، قَالُوا: لِمَ سُمِّيَتْ حَوَّاءَ؟ قَالَ: لأَنَّهَا خُلِقَتْ
مِنْ شَيْءٍ حَيٍّ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ
وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما» .
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما فرغ الله
تعالى من معاتبه ابليس اقبل على آدم ع وقد علمه الأسماء كلها، فقال: «يَا آدَمُ
أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ» إِلَى «وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ
تَكْتُمُونَ» ، قال: ثم ألقى السنة على آدم- فيما بلغنا عن أهل الكتاب من أهل
التوراة وغيرهم من أهل العلم- عن عبد الله بن العباس وغيره، ثم أخذ ضلعا من أضلاعه
من شقه الأيسر، ولأم مكانها لحما، وآدم ع نائم لم يهب من نومته، حتى خلق الله
تعالى من ضلعه تلك زوجه حواء، فسواها امراه ليسكن إليها، فلما كشف عنه السنة وهب
من نومته رآها إلى جنبه، فقال- فيما يزعمون والله أعلم: لحمي ودمي وزوجتي، فسكن
إليها، فلما زوجه الله عز وجل وجعل له سكنا من نفسه، قال له قبلا: «يا آدَمُ
اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا
تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ» .
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: «وَخَلَقَ مِنْها
(1/104)
زَوْجَها» قال: حواء من قصيرى
آدم، وهو ناعم فَاسْتَيْقَظَ فَقَالَ:
أثا بِالنَّبَطِيَّةِ، امْرَأَةٌ.
حَدَّثَنَا المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن
مجاهد مثله.
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها» ، يَعْنِي
حَوَّاءَ، خُلِقَتْ مِنْ آدَمَ مِنْ ضِلْعٍ مِنْ أَضْلاعِهِ
(1/105)
القول في ذكر امتحان الله
تعالى أبانا آدم ع
وابتلائه إياه بما امتحنه به من طاعته، وذكر ركوب آدم معصية ربه بعد الذي كان
أعطاه من كرامته وشريف المنزلة عنده، ومكنه في جنته من رغد العيش وهنيئه، وما أزال
ذلك عنه، فصار من نعيم الجنة ولذيذ رغد العيش إلى نكد عيش أهل الأرض وعلاج الحراثة
والعمل بالمساحي والزراعة فيها.
فلما أسكن الله عز وجل آدم ع وزوجه اطلق لهما ان يأكلا كل ما شاء أكله من كل ما
فيها من ثمارها، غير ثمر شجرة واحدة ابتلاء منه لهما بذلك، وليمضي قضاء الله فيهما
وفي ذريتهما، كما قال عز وجل:
«وَقُلْنا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً
حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ» ،
فوسوس لهما الشيطان حتى زين لهما أكل ما نهاهما ربهما عن أكله من ثمر تلك الشجرة،
وحسن لهما معصية الله في ذلك، حتى أكلا منها، فبدت لهما من سوآتهما ما كان موارى
عنهما منها فكان وصول عدو الله إبليس إلى تزيين ذلك لهما ما ذكر في الخبر الذي
حَدَّثَنِي موسى بن هارون الهمداني، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط،
عن السدي- في خبر ذكره- عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس- وعن مرة
الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ- وَعَنْ أُنَاسٍ مِنْ اصحاب النبي ص،
قَالَ: لَمَّا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لآدَمَ:
«اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما
وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ» ، أَرَادَ
إِبْلِيسُ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِمَا الجنه
(1/106)
فمنعه الْخَزَنَةُ، فَأَتَى
الْحَيَّةَ، وَهِيَ دَابَّةٌ لَهَا أَرْبَعُ قَوَائِمَ، كَأَنَّهَا الْبَعِيرُ،
وَهِيَ كَأَحْسَنِ الدَّوَابِّ فَكَلَّمَهَا أَنْ تُدْخِلَهُ فِي فَمِهَا حَتَّى
تَدْخُلَ بِهِ إِلَى آدَمَ، فَأَدْخَلَتْهُ فِي فَمِهَا، فَمَرَّتِ الْحَيَّةُ على
الخزنه فدخلت وَهُمْ لا يَعْلَمُونَ، لِمَا أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ
الأَمْرِ، فَكَلَّمَهُ مِنْ فَمِهَا وَلَمْ يُبَالِ كَلامَهُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ
فَقَالَ: «يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى»
، يَقُولُ: هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةٍ إِنْ أَكَلْتَ مِنْهَا كُنْتَ مَلِكًا
مِثْلَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ فَلا
تَمُوتَانِ أَبَدًا وَحَلَفَ لَهُمَا بِاللَّهِ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ
النَّاصِحِينَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ أَنْ يُبْدِيَ لَهُمَا مَا تَوَارَى
عَنْهُمَا مِنْ سَوْءَاتِهِمَا بِهَتْكِ لِبَاسِهِمَا، وَكَانَ قَدْ عَلِمَ أَنَّ
لَهُمَا سَوْءَةً لِمَا كَانَ يَقْرَأُ مِنْ كُتُبِ الْمَلائِكَةِ، وَلَمْ يَكُنْ
آدَمُ يَعْلَمُ ذَلِكَ، وَكَانَ لِبَاسُهُمَا الظُّفُرَ، فَأَبَى آدَمُ أَنْ
يَأْكُلَ مِنْهَا، فَتَقَدَّمَتْ حَوَّاءُ فَأَكَلَتْ، ثُمَّ قَالَتْ: يَا آدَمُ
كُلْ، فَإِنِّي قَدْ أَكَلْتُ، فلم يضرني، فلما اكل بدت لَهُما سَوْآتُهُما، وَطَفِقا
يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ» .
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن ليث ابن أَبِي
سُلَيْمٍ، عَنْ طَاوُسٍ الْيَمَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: إِنَّ عَدُوَّ
اللَّهِ إِبْلِيسَ عَرَضَ نَفْسَهُ عَلَى دَوَابِّ الأَرْضِ: أَيِّهَا تَحْمِلُهُ
حَتَّى تدخل بِهِ الْجَنَّةَ حَتَّى يُكَلِّمَ آدَمَ وَزَوْجَهُ، فَكُلُّ
الدَّوَابِّ أَبَى ذَلِكَ عَلَيْهِ، حَتَّى كَلَّمَ الْحَيَّةَ، فَقَالَ لَهَا:
أَمْنَعُكِ مِنْ بَنِي آدَمَ، فَأَنْتِ فِي ذِمَّتِي إِنْ أَنْتِ أَدْخَلْتِنِي الْجَنَّةَ،
فَجَعَلَتْهُ بَيْنَ نَابَيْنِ مِنْ أَنْيَابِهَا ثُمَّ دَخَلَتْ بِهِ،
فَكَلَّمَهُمَا مِنْ فَمِهَا وَكَانَتْ كَاسِيَةً تَمْشِي عَلَى أَرْبَعِ
قَوَائِمَ، فَأَعْرَاهَا اللَّهُ تَعَالَى وَجَعَلَهَا تَمْشِي عَلَى بَطْنِهَا،
قَالَ: يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ:
اقْتُلُوهَا حَيْثُ وَجَدْتُمُوهَا، وَاخْفِرُوا ذِمَّةَ عَدُوِّ اللَّهِ فِيهَا
(1/107)
حدثنا الحسن بن يحيى، قال:
أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا عمر بن عبد الرحمن بن مهرب، قال: سمعت وهب بن منبه
يقول:
لما أسكن الله تعالى آدم وزوجته الجنة، ونهاه عن الشجرة، وكانت شجرة غصونها متشعب
بعضها في بعض، وكان لها ثمر تأكله الملائكة لخلدهم، وهي الثمرة التي نهى الله عنها
آدم وزوجته، فلما أراد إبليس أن يستزلهما دخل في جوف الحية، وكان للحية أربع
قوائم، كأنها بختية من أحسن دابة خلقها الله تعالى، فلما دخلت الحيه الجنة خرج من
جوفها إبليس، فأخذ من الشجرة التي نهى الله عنها آدم وزوجته، فجاء بها إلى حواء،
فقال:
انظري إلى هذه الشجرة، ما أطيب ريحها، وأطيب طعمها، وأحسن لونها! فأخذت حواء فأكلت
منها، ثم ذهبت بها إلى آدم، فقالت: أنظر إلى هذه الشجرة ما أطيب ريحها، وأطيب
طعمها، وأحسن لونها! فأكل منها آدم، فبدت لهما سوآتهما، فدخل آدم في جوف الشجرة،
فناداه ربه: يا آدم، أين أنت؟ قال: أنا هذا يا رب، قال: ألا تخرج؟ قال: أستحي منك
يا رب، قال: ملعونة الأرض التي خلقت منها لعنة حتى يتحول ثمارها شوكا! قال: ولم
يكن في الجنة ولا في الأرض شجرة كانت أفضل من الطلح والسدر.
ثم قال: يا حواء، أنت التي غررت عبدي، فإنك لا تحملين حملا إلا حملته كرها، فإذا
أردت أن تضعي ما في بطنك أشرفت على الموت مرارا وقال للحية: أنت التي دخل الملعون
في بطنك حتى غر عبدي، ملعونة أنت لعنة حتى تتحول قوائمك في بطنك، ولا يكن لك رزق
إلا التراب، أنت عدوة بني آدم وهم أعداؤك، حيث لقيت أحدا منهم أخذت بعقبه، وحيث
لقيك شدخ رأسك
(1/108)
قيل لوهب: وما كانت الملائكة
تأكل؟ قال: يفعل الله ما يشاء.
حَدَّثَنَا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثني حجاج، عن أبي
معشر، عن محمد بن قيس، قال: نهى الله تعالى آدم وحواء أن يأكلا من شجرة واحدة في
الجنة، ويأكلا منها رغدا حيث شاءا، فجاء الشيطان فدخل في جوف الحية، فكلم حواء،
ووسوس إلى آدم فقال: «مَا نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ
تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما
لَمِنَ النَّاصِحِينَ» قال: فقطعت حواء الشجرة فدميت الشجرة، وسقط عنهما رياشهما
الذي كان عليهما، «وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ
وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ
لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ» لم أكلتها وقد نهيتك عنها؟ قال:
يا رب أطعمتني حواء، قال لحواء: لم أطعمته؟ قالت:
أمرتني الحية، قال للحية: لم أمرتها؟ قالت: أمرني إبليس، قال: ملعون مدحور! أما
أنت يا حواء، فكما أدميت الشجرة تدمين في كل هلال، وأما أنت يا حية، فأقطع قوائمك
فتمشين جريا على وجهك، وسيشدخ رأسك من لقيك بالحجر، اهبطوا بعضكم لبعض عدو.
حدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع،
قال: حَدَّثَنِي محدث أن الشيطان دخل الجنة في صورة دابة ذات قوائم، فكان يرى أنه
البعير، قال: فلعن فسقطت قوائمه فصار حية.
حدثت عن عمار، قال: حَدَّثَنَا عبد الله بن أبي جعفر، عن
(1/109)
أبيه، عن الربيع قال: وحدثني
أبو العالية، قال: إن من الإبل ما كان أولها من الجن قال: فأبيحت له الجنة كلها-
يعنى آدم- الا الشجرة، وقيل لهما: «لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ
الظَّالِمِينَ» ، قال: فأتى الشيطان حواء فبدأ بها، فقال: نهيتما عن شيء؟ قالت:
نعم، عن هذه الشجرة، فقال:
«ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ
أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ» قال: فبدت حواء فأكلت منها، ثم أمرت آدم فأكل
منها قال: وكانت شجرة، من أكل منها أحدث، قال: ولا ينبغي أن يكون في الجنة حدث،
قال: «فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كَانَا فِيهِ» ،
قال: فأخرج آدم من الجنة.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ،
عَنْ بَعْضِ أَهْلِ العلم أن آدم ع حين دخل الجنة ورأى ما فيها من الكرامة، وما
أعطاه الله منها، قال: لو أنا خلدنا! فاغتمز فيها منه الشيطان لما سمعها منه،
فأتاه من قبل الخلد.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، قال:
حدثت أن أول ما ابتدأهما به من كيده إياهما أنه ناح عليهما نياحة أحزنتهما حين
سمعاها، فقالا له: ما يبكيك؟ قال: أبكي عليكما،
(1/110)
تموتان فتفارقان ما أنتما فيه
من النعمة والكرامة فوقع ذلك في أنفسهما، ثم أتاهما فوسوس إليهما، فقال: يا آدم هل
أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى؟ وقال: «ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ
الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ
وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ» ، أي تكونان ملكين أو تخلدان،
أي إن لم تكونا ملكين في نعمة الجنة فلا تموتان يقول الله عز وجل: «فَدَلَّاهُما
بِغُرُورٍ» .
حدثني يونس، قال أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله سبحانه وتعالى:
«فَوَسْوَسَ» : وسوس الشيطان إلى حواء في الشجرة حتى اتى بها إليها، ثم حسنتها في
عين آدم، قال: فدعاها آدم لحاجته، قالت:
لا: الا ان تأتي هاهنا، فلما أتى قالت: لا، إلا أن تأكل من هذه الشجرة، قال: فأكلا
منها، فبدت لهما سوءاتهما قال: وذهب آدم هاربا في الجنة، فناداه ربه: يا آدم، أمني
تفر؟ قال: لا يا رب، ولكن حياء منك، قال: يا آدم، انى اتيت؟ قال: من قبل حواء يا
رب، فقال الله عز وجل: فإن لها علي أن أدميها في كل شهر مرة، كما أدمت هذه الشجرة،
وأن أجعلها سفيهة، وقد كنت خلقتها حليمة، وأن أجعلها تحمل كرها وتضع كرها، وقد كنت
جعلتها تحمل يسرا وتضع يسرا قال ابن زيد: ولولا البلية التي أصابت حواء لكان نساء
أهل الدنيا لا يحضن، ولكن حليمات، ولكن يحملن يسرا،.
ويضعن يسرا.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ
يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الله بن قسيط، عن سعيد بن المسيب، قال: سمعته يحلف بالله ما
يستثني: ما أكل آدم من الشجرة وهو يعقل، ولكن حواء سقته
(1/111)
الخمر حتى إذا سكر قادته
إليها، فأكل منها فلما واقع آدم وحواء الخطيئة، أخرجهما الله تعالى من الجنه
وسلبهما ما كانا فيه من النعمة والكرامة، وأهبطهما وعدوهما إبليس والحية إلى
الأرض، فقال لهم ربهم: اهبطوا بعضكم لبعض عدو.
وكالذي قلنا في ذلك قال السلف من أهل العلم.
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ
الرحمن ابن مَهْدِيٍّ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ السُّدِّيِّ، قَالَ:
حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: «اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ
عَدُوٌّ» ، قَالَ: آدَمُ وَحَوَّاءُ وَإِبْلِيسُ وَالْحَيَّةُ.
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ، وَمُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالا: حَدَّثَنَا
عمرو ابن حَمَّادٍ، عَنْ أَسْبَاطٍ، عَنِ السُّدِّيِّ- فِي خَبَرٍ ذكره- عن أبي
مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس- وعن مرة الهمداني، عن ابْنِ مَسْعُودٍ- وَعَنْ
نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ الله ص: «اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ» ،
فَلَعَنَ الْحَيَّةَ فَقَطَعَ قَوَائِمَهَا، وَتَرَكَهَا تَمْشِي عَلَى بَطْنِهَا،
وَجَعَلَ رِزْقَهَا مِنَ التُّرَابِ، وَأَهْبَطَ إِلَى الأَرْضِ آدَمَ وَحَوَّاءَ
وَإِبْلِيسَ وَالْحَيَّةَ.
حَدَّثَنِي محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميمون، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله عز وجل:
«اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ» ، قال: آدم وحواء وإبليس والحية
(1/112)
القول في قدر مكث آدم في الجنة
ووقت خلق الله عز وجل إياه ووقت إهباطه إياه من السماء إلى الأرض
قد تظاهرت الاخبار عن رسول الله ص بان الله عز وجل خلق آدم ع يوم الجمعة، وأنه
أخرجه فيه من الجنة، وأهبطه إلى الأرض فيه، وأنه فيه تاب عليه، وفيه قبضه.
ذكر الأخبار عن رسول الله ص بذلك:
حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، قَالَ:
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مَعْبَدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ
عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُقَيْلٍ، عن عمرو بن شرحبيل عن
سَعِيدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، عَنْ سَعْدِ بن عباده، [عن رسول الله ص،
قَالَ: إِنَّ فِي الْجُمُعَةِ خَمْسَ خِلالٍ: فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ
أُهْبِطَ إِلَى الأَرْضِ، وَفِيهِ تَوَفَّى اللَّهُ آدَمَ، وَفِيهِ سَاعَةٌ لا
يَسْأَلُ الْعَبْدُ فِيهَا رَبَّهُ شَيْئًا إِلا أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ، مَا
لَمْ يَسْأَلْ إِثْمًا أَوْ قَطِيعَةً، وَفِيهِ: تَقُومُ السَّاعَةُ، وَمَا مِنْ
مَلَكٍ مُقَرَّبٍ وَلا سَمَاءٍ وَلا جَبَلٍ وَلا أَرْضٍ وَلا رِيحٍ، إِلا مُشْفِقٌ
مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ] .
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ، قَالا: حَدَّثَنَا
أَبُو عَامِرٍ، حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ عُقَيْلٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ الأَنْصَارِيِّ،
عَنْ أَبِي لُبَابَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ، [أَنَّ النَّبِيَّ ص قَالَ:
سَيِّدُ الأَيَّامِ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَأَعْظَمُهَا وَأَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ
مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ وَيَوْمِ النَّحْرِ، وَفِيهِ خَمْسُ خِلالٍ: خَلَقَ اللَّهُ
تَعَالَى فِيهِ آدَمَ، وَأَهْبَطَهُ فِيهِ إِلَى الأَرْضِ، وَفِيهِ تَوَفَّى
اللَّهُ تَعَالَى آدَمَ، وَفِيهِ سَاعَةٌ لا يَسْأَلُ اللَّهَ الْعَبْدُ شَيْئًا
إِلا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ مَا لَمْ يَكُنْ حَرَامًا وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ،
مَا مِنْ مَلَكٍ مُقَرَّبٍ وَلا سَمَاءٍ وَلا أَرْضٍ وَلا جِبَالٍ وَلا رِيَاحٍ
وَلا بَحْرٍ إِلا وَهُوَ مُشْفِقٌ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، أَنْ تَقُومَ فِيهِ
السَّاعَةُ] .
وَاللَّفْظُ لِحَدِيثِ ابْنِ بَشَّارٍ
(1/113)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
مَعْمَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عامر، قال: حدثنا زهير ابن مُحَمَّدٍ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُقَيْلٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ بْنِ
سَعِيدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ سَعْدِ
بْنِ عُبَادَةَ، [أَنَّ رَجُلا اتى النبي ص، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
أَخْبِرْنَا عَنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، مَاذَا فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ؟ فَقَالَ:
فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ أُهْبِطَ آدَمُ، وَفِيهِ تَوَفَّى آدَمَ، وَفِيهِ
سَاعَةٌ لا يَسْأَلُ الْعَبْدُ فِيهَا شَيْئًا إِلا أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ،
مَا لَمْ يَسْأَلْ مَأْثَمًا أَوْ قَطِيعَةً، وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ، مَا
مِنْ مَلَكٍ مُقَرَّبٍ وَلا سَمَاءٍ وَلا أَرْضٍ وَلا جِبَالٍ وَلا رِيحٍ إِلا
هُنَّ يُشْفِقْنَ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ] .
حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: [قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ ص: خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتِ الشَّمْسُ عَلَيْهِ يَوْمُ
الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ أُدْخِلَ الْجَنَّةُ وَأُخْرِجَ
مِنْهَا] .
حَدَّثَنِي بَحْرُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ:
أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي
عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: [قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص: سَيِّدُ
الأَيَّامِ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ،
وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا، وَلا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلا يَوْمَ الْجُمَعَةِ] .
حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ
اللَّيْثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ
رَبِيعَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ، أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا
هُرَيْرَةَ يَقُولُ: [قَالَ رسول الله ص: لَمْ تَطْلُعِ الشَّمْسُ عَلَى يَوْمٍ
مِثْلَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنَ
الْجَنَّةِ، وَفِيهِ أُعِيدَ فِيهَا] .
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ
وَمُغِيرَةُ، عَنْ زِيَادِ بْنِ كُلَيْبٍ أَبِي مَعْشَرٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ
الْقَرْثَعِ الضَّبِّيِّ- وَكَانَ الْقَرْثَعُ
(1/114)
مِنَ الْقُرَّاءِ
الأَوَّلِينَ- قَالَ: [قَالَ سَلْمَانُ: قَالَ لي رسول الله ص:
يَا سَلْمَانُ، أَتَدْرِي مَا يَوْمُ الْجُمُعَةِ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ
أَعْلَمُ، يَقُولُهَا ثَلاثًا:
يَا سَلْمَانُ، أَتَدْرِي مَا يَوْمُ الْجُمُعَةِ؟ فِيهِ جُمِّعَ أَبُوكَ، أَوْ
أَبُوكُمْ] .
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُمَارَةَ الأَسَدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ
اللَّهِ بْنُ مُوسَى قَالَ: أَخْبَرَنَا شَيْبَانُ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي
سَلَمَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ أَنَّهُ سَمِعَ كَعْبًا
يَقُولُ: خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ يوم الجمعه، فيه خلق آدم ع،
وَفِيهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا، وَفِيهِ تَقُومُ
السَّاعَةُ.
حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ يَزِيدَ الآدَمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا روح بن عبادة،
قَالَ: حَدَّثَنَا زكرياء بن إسحاق، عن عمرو بن دينار، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ
عُمَيْرٍ، قَالَ: إِنَّ أَوَّلَ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ شَمْسُهُ يَوْمُ
الْجُمُعَةِ، وَهُوَ أَفْضَلُ الأَيَّامِ: فِيهِ خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ
آدَمَ، خَلَقَهُ عَلَى مِثْلِ صُورَتِهِ، فَلَمَّا فَرَغَ عَطَسَ آدَمُ فَأَلْقَى
اللَّهُ تعالى عَلَيْهِ الْحَمْدَ، فَقَالَ اللَّهُ: يَرْحَمُكَ رَبُّكَ.
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ
أَبِي كُدَيْنَةَ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ زِيَادٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ
عَلْقَمَةَ، عَنِ الْقَرْثَعِ، [عَنْ سَلْمَانَ، قَالَ: قال رسول الله ص:
أَتَدْرِي مَا يَوْمُ الْجُمُعَةِ؟
هُوَ يَوْمٌ جُمِّعَ فيه ابوك، او أبوكم آدم ع] .
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي
الأَحْوَصِ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، قَالَ: [قَالَ
سَلْمَانُ قَالَ لي رسول الله ص: يَا سَلْمَانُ، أَتَدْرِي مَا يَوْمُ
الْجُمُعَةِ؟ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا، قَالَ: هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي جُمِّعَ
فِيهِ أَبُوكُمْ آدَمُ، أَوْ جُمِّعَ فِيهِ أَبُوكُمْ] .
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ عَطِيَّةَ، قَالَ:
حَدَّثَنَا قَيْسٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنِ الْقَرْثَعِ، [عَنْ
سَلْمَانَ، قَالَ: قَالَ
(1/115)
رسول الله ص: اتدرى ما
الْجُمُعَةِ؟ أَوْ قَالَ: كَذَا، فِيهَا جُمِّعَ أَبُوكُمْ آدَمُ] .
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ، قَالَ: سَمِعْتُ
أَبِي يَقُولُ:
أَخْبَرَنَا أَبُو حَمْزَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ
الْقَرْثَعِ، [عَنْ سَلْمَانَ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ الله ص: أَتَدْرِي مَا
يَوْمُ الْجُمُعَةِ؟ قُلْتُ: لا، قَالَ: فِيهِ جُمِّعَ أَبُوكَ]
(1/116)
ذكر الوقت الذى فيه خلق آدم ع
من يوم الجمعة والوقت الذي أهبط إلى الأرض
اخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ، فَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ وَغَيْرِهِ فِي
ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، قَالَ:
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،
قَالَ: [قَالَ رَسُولُ الله ص:
خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ،
وَفِيهِ أُسْكِنَ الْجَنَّةَ، وَفِيهِ اهبط، وفيه تقوم الساعة، وفيه ساعه- يقللها-
لا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللَّهَ تعالى فيها خيرا الا آتاه الله
إِيَّاهُ،] فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ: قَدْ عَلِمْتُ أَيُّ سَاعَةٍ
هِيَ، هِيَ آخِرُ سَاعَاتِ النَّهَارِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، قَالَ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ:
«خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ» .
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُحَارِبِيُّ وَعَبْدَةُ بْنُ
سُلَيْمَانَ وَأَسَدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ، عَنْ ابى هريرة، عن النبي ص نَحْوَهُ، وَذَكَرَ فِيهِ
كَلامَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ بِنَحْوِهِ.
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله عز وجل: «خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ» ،
قَالَ: قَوْلُ آدَمَ حِينَ خُلِقَ بَعْدَ كُلِّ شيء آخر النهار من يوم الجمعه،
خُلِقَ الْخَلْقُ، فَلَمَّا أَحْيَا الرُّوحُ عَيْنَيْهِ وَلِسَانَهُ وَرَأْسَهُ
وَلَمْ يَبْلُغْ أَسْفَلَهُ، قَالَ: يَا رَبِّ اسْتَعْجِلْ بِخَلْقِي قَبْلَ
غُرُوبِ الشَّمْسِ
(1/117)
حدثني الحارث، قال: حدثنا
الحسن، قال: حدثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنَا
حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ مُجَاهِدٌ: «خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ
عَجَلٍ» ، قَالَ: آدَمُ حِينَ خُلِقَ بعد كل شيء، ثم ذكره نحوه، غير أنه قال في
حديثه: استعجل بخلقي، قد غربت الشمس.
حَدَّثَنِي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:
«خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ» ، قال: على عجل خلق آدم آخر ذلك اليوم من ذينك
اليومين- يريد يوم الجمعة- وخلقه على عجلة وجعله عجولا.
وقد زعم بعضهم أن الله عز وجل أسكن آدم وزوجته الفردوس لساعتين مضتا من نهار يوم
الجمعة، وقيل لثلاث ساعات مضين منه، وأهبطه إلى الأرض لسبع ساعات مضين من ذلك
اليوم، فكان مقدار مكثهما في الجنة خمس ساعات منه وقيل: كان ذلك ثلاث ساعات وقال
بعضهم: اخرج آدم ع من الجنه الساعة التاسعة أو العاشرة ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ:
قال أبو جعفر: قرأت على عبدان بن محمد المروزي، قال: حَدَّثَنَا عمار بن الحسن،
قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أنس عن أبي العالية،
قال: أخرج آدم من الجنة للساعة التاسعة أو العاشرة، فقال لي: نعم، لخمسة أيام مضين
من نيسان.
فإن كان قائل هذا القول أراد الله أن تبارك وتعالى أسكن آدم وزوجته الفردوس
لساعتين مضتا من نهار يوم الجمعة من أيام أهل الدنيا التي هي على
(1/118)
ما هي به اليوم، فلم يبعد قوله من الصواب في ذلك، لأن الأخبار إذا كانت واردة عن السلف من أهل العلم، بأن آدم خلق في آخر ساعة من اليوم السادس من الأيام التي مقدار اليوم الواحد منها ألف سنة من سنيننا فمعلوم أن الساعة الواحدة من ساعات ذلك اليوم ثلاثة وثمانون عاما من أعوامنا، وقد ذكرنا أن آدم بعد أن خمر ربنا عز وجل طينته بقي قبل أن ينفخ فيه الروح أربعين عاما، وذلك لا شك أنه عنى به من أعوامنا وسنيننا، ثم من بعد أن نفخ فيه الروح إلى أن تناهى أمره، وأسكن الفردوس، وأهبط إلى الأرض- غير مستنكر أن يكون كان مقداره من سنيننا قدر خمس وثلاثين سنة فإن كان أراد أنه أسكن الفردوس لساعتين مضتا من نهار يوم الجمعة من الأيام التي مقدار اليوم الواحد منها ألف سنة من سنيننا، فقد قال غير الحق، وذلك أن جميع من حفظ له قول في ذلك من أهل العلم، فإنه كان يقول إن آدم نفخ فيه الروح في آخر النهار من يوم الجمعة قبل غروب الشمس من ذلك اليوم ثم الاخبار عن رسول الله ص متظاهرة بأن الله تبارك وتعالى أسكنه الجنة فيه، وفيه أهبطه إلى الأرض فإن كان ذلك صحيحا، فمعلوم أن آخر ساعة من نهار يوم من أيام الآخرة ومن الأيام التي اليوم الواحد منها مقداره ألف سنة من سنيننا، إنما هي ساعة بعد مضي إحدى عشرة ساعة، وذلك ساعة من اثنتي عشرة ساعة، وهي ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر من سنيننا، فآدم صلوات الله عليه إذ كان الأمر كذلك، إنما خلق لمضي إحدى عشرة ساعة من نهار يوم الجمعة من الأيام التي اليوم الواحد منها ألف سنة من سنيننا، فمكث جسدا ملقى لم ينفخ فيه الروح أربعين عاما من أعوامنا ثم نفخ فيه الروح فكان مكثه في السماء بعد ذلك ومقامه في الجنة، إلى أن أصاب الخطيئة وأهبط إلى الأرض ثلاثا وأربعين سنة من سنيننا وأربعة أشهر، وذلك ساعة من ساعات يوم من الأيام الستة التي خلق الله تعالى فيها الخلق
(1/119)
وَقَدْ حَدَّثَنِي الْحَارِثُ
بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: أخبرني أبي، عن أبي صالح، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ، قَالَ: خَرَجَ آدَمُ مِنَ الْجَنَّةِ بَيْنَ الصَّلاتَيْنِ: صَلاةِ
الظُّهْرِ وَصَلاةِ الْعَصْرِ، فَأُنْزِلَ إِلَى الأَرْضِ وَكَانَ مُكْثُهُ فِي
الْجَنَّةِ نصف يوم يوم من ايام الآخرة، وهو خمسمائة سَنَةٍ، مِنْ يَوْمٍ كَانَ
مِقْدَارُهُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَاعَةً، وَالْيَوْمُ أَلْفُ سَنَةٍ مِمَّا
يَعُدُّ أَهْلُ الدُّنْيَا، وَهَذَا أَيْضًا قَوْلٌ خِلافُ مَا وَرَدَتْ به
الاخبار عن رسول الله ص، وَعَنِ السَّلَفِ مِنْ عُلَمَائِنَا.
(1/120)
القول في الموضع الذي أهبط آدم
وحواء إليه من الأرض حين أهبطا إليها
ثم إن الله عز وجل أهبط آدم قبل غروب الشمس من اليوم الذي خلقه فيه- وذلك يوم
الجمعة- من السماء مع زوجته، وأنزل آدم- فيما قال علماء سلف أمة نبينا ص- بالهند.
ذكر من حضرنا ذكره ممن قال ذلك منهم:
220- حَدَّثَنَا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال:
أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: أهبط الله عز وجل آدم إلى الأرض، وكان مهبطه بأرض
الهند.
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ،
قَالَ: أَخْبَرَنَا عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ، قال: إِنَّ أَوَّلَ مَا أَهْبَطَ اللَّهُ تَعَالَى آدَمَ أهبطه
بدهنا أَرْضِ الْهِنْدِ.
حدثت عن عمار، قال: حَدَّثَنَا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس،
عن أبي العالية، قال: أهبط آدم إلى الهند.
حَدَّثَنِي ابْنُ سِنَانٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ، قَالَ: حَدَّثَنَا
حَمَّادُ بن سلمة، عن عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:
[قال على بن ابى طالب ع: أَطْيَبُ أَرْضٍ فِي الأَرْضِ رِيحًا أَرْضُ الْهِنْدِ،
أُهْبِطَ بِهَا آدَمُ، فَعَلِقَ شَجَرُهَا مِنْ رِيحِ الْجَنَّةِ] .
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا
هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: أُهْبِطَ
آدَمُ بِالْهِنْدِ، وَحَوَّاءُ بِجِدَّةَ، فَجَاءَ فِي طَلَبِهَا حَتَّى
اجْتَمَعَا، فَازْدَلَفَتْ إِلَيْهِ حَوَّاءُ، فَلِذَلِكَ
(1/121)
سُمِّيَتِ الْمُزْدَلِفَةَ،
وَتَعَارَفَا بِعَرَفَاتٍ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ عَرَفَاتٍ، وَاجْتَمَعَا بِجَمْعٍ
فَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ جَمْعًا قَالَ: وَأُهْبِطَ آدَمُ عَلَى جَبَلٍ بِالْهِنْدِ
يُقَالُ لَهُ بُوذُ.
حدثنا أبو همام، قال: حدثني أبي، قال: حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ خَيْثَمَةَ، عَنْ
أَبِي يَحْيَى بَائِعِ الْقَتِّ، قَالَ: قَالَ لِي مُجَاهِدٌ: لَقَدْ حَدَّثَنَا
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ آدَمَ نَزَلَ حِينَ نَزَلَ بِالْهِنْدِ.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: وأما أهل التوراة
فإنهم قالوا: أهبط آدم بالهند على جبل يقال له واسم، عند وإذ يقال له بهيل بين
الدهنج والمندل: بلدين بأرض الهند قالوا:
وأهبطت حواء بجدة من أرض مكة.
وقال آخرون: بل أهبط آدم بسرنديب، على جبل يدعى بوذ، وحواء بجدة من أرض مكة،
وإبليس بميسان، والحية بأصبهان وقد قيل: أهبطت الحية بالبرية، وإبليس بساحل بحر
الأيلة.
وهذا مما لا يوصل إلى علم صحته إلا بخبر يجيء مجيء الحجة، ولا يعلم خبر في ذلك ورد
كذلك، غير ما ورد من خبر هبوط آدم بأرض الهند، فإن ذلك مما لا يدفع صحته علماء
الإسلام وأهل التوراة والإنجيل، والحجة قد ثبتت بأخبار بعض هؤلاء وذكر أن الجبل
الذي اهبط عليه آدم ع ذروته من أقرب ذرا جبال الأرض إلى السماء، وأن آدم حين أهبط
عليه كانت رجلاه عليه ورأسه في السماء يسمع دعاء الملائكة وتسبيحهم، فكان آدم يأنس
بذلك، وكانت
(1/122)
الملائكة تهابه، فنقص من طول
آدم لذلك.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ:
حَدَّثَنَا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا هشام بن حسان، عن
سوار ختن عطاء، عن عطاء بن أبي رباح، قال: لما أهبط الله عز وجل آدم من الجنة كان
رجلاه في الأرض، ورأسه في السماء، يسمع كلام أهل السماء ودعاءهم، يأنس إليهم،
فهابته الملائكة حتى شكت إلى الله تعالى في دعائها وفي صلاتها، فخفضه الى الارض،
فلما فقد ما كان يسمع منهم استوحش حتى شكا ذلك إلى الله عز وجل في دعائه وفي صلاته،
فوجه إلى مكة فصار موضع قدمه قرية، وخطوته مفازة، حتى انتهى إلى مكة، وأنزل الله
تعالى ياقوتة من ياقوت الجنة، فكانت على موضع البيت الآن، فلم يزل يطوف به حتى
أنزل الله تعالى الطوفان، فرفعت تلك الياقوتة حتى بعث الله تعالى ابراهيم الخليل ع
فبناه، فذلك قوله تعالى:
«وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ» .
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال:
وضع الله تعالى البيت مع آدم، فكان رأسه في السماء ورجلاه في الأرض، فكانت
الملائكة تهابه، فنقص إلى ستين ذراعا، فحزن آدم إذ فقد أصوات الملائكة وتسبيحهم،
فشكا ذلك إلى الله، فقال الله: يا آدم، إني أهبطت لك بيتا تطوف به كما يطاف حول
عرشي، وتصلي عنده كما يصلى عند عرشي فانطلق اليه آدم ع، فخرج ومد له في خطوه، فكان
بين كل خطوة مفازة، فلم تزل تلك المفاوز بعد ذلك، فاتى آدم ع البيت، فطاف به ومن
بعده من الأنبياء
(1/123)
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: لما حط من طول آدم ع إِلَى سِتِّينَ ذِرَاعًا أَنْشَأَ يَقُولُ: رَبِّ، كُنْتُ جَارَكَ فِي دَارِكَ، لَيْسَ لِي رَبٌّ غَيْرُكَ، وَلا رَقِيبٌ دُونَكَ، آكُلُ فِيهَا رَغَدًا، وَأَسْكُنُ حَيْثُ أَحْبَبْتُ، فَأَهْبَطْتَنِي إِلَى هَذَا الْجَبَلِ الْمُقَدَّسِ، فَكُنْتُ أَسْمَعُ أَصْوَاتَ الْمَلائِكَةِ، وَأَرَاهُمْ كَيْفَ يَحُفُّونَ بِعَرْشِكَ، وَأَجِدُ رِيحَ الْجَنَّةِ وَطِيبَهَا، ثُمَّ أَهْبَطْتَنِي إِلَى الأَرْضِ، وَحَطَطْتَنِي إِلَى سِتِّينَ ذِرَاعًا، فَقَدِ انْقَطَعَ عَنِّي الصَّوْتُ وَالنَّظَرُ، وَذَهَبَ عَنِّي رِيحَ الْجَنَّةِ فَأَجَابَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: لِمَعْصِيَتِكَ يَا آدَمُ فَعَلْتُ ذَلِكَ بِكَ فَلَمَّا رَأَى اللَّهُ تَعَالَى عُرْيَ آدَمَ وَحَوَّاءَ أَمَرَهُ أَنْ يَذْبَحَ كَبْشًا مِنَ الضَّأْنِ مِنَ الثَّمَانِيَةِ الأَزْوَاجِ الَّتِي أَنْزَلَ مِنَ الْجَنَّةِ، فَأَخَذَ كَبْشًا فَذَبَحَهُ، ثُمَّ أَخَذَ صُوفَهُ فَغَزَلَتْهُ حَوَّاءُ، وَنَسَجَهُ هُوَ وَحَوَّاءُ، فَنَسَجَ آدَمُ جُبَّةً لِنَفْسِهِ، وَجَعَلَ لِحَوَّاءَ دِرْعًا وخمارا، فلبسا ذلك، واوحى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى آدَمَ أَنْ لِي حَرَمًا بِحِيَالِ عَرْشِي، فَانْطَلِقْ فَابْنِ لِي فِيهِ بَيْتًا، ثم حف به كما رايت ملائكى يَحُفُّونَ بِعَرْشِي، فَهُنَالِكَ أَسْتَجِيبُ لَكَ وَلِوَلَدِكَ، مَنْ كَانَ مِنْهُمْ فِي طَاعَتِي، فَقَالَ آدَمُ: أَيْ رَبِّ، فَكَيْفَ لِي بِذَلِكَ، لَسْتُ أَقْوَى عَلَيْهِ وَلا أَهْتَدِي لَهُ! فَقَيَّضَ اللَّهُ لَهُ مَلَكًا، فَانْطَلَقَ بِهِ نَحْوَ مَكَّةَ، فَكَانَ آدَمُ إِذَا مَرَّ بِرَوْضَةٍ وَمَكَانٍ يُعْجِبُهُ قَالَ لِلْمَلَكِ: انْزِلْ بنا هاهنا، فَيَقُولُ لَهُ الْمَلَكُ: مَكَانَكَ، حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ، فَكَانَ كُلُّ مَكَانٍ نَزَلَ بِهِ صَارَ عُمْرَانًا، وَكُلُّ مَكَانٍ تَعَدَّاهُ صَارَ مَفَاوِزَ وَقِفَارًا، فَبَنَى الْبَيْتَ مِنْ خَمْسَةِ أَجْبُلٍ: مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ وَطُورِ زَيْتُونٍ وَلِبْنَانَ وَالْجُودِيِّ، وَبَنَى قَوَاعِدَهُ مِنْ حِرَاءَ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ بِنَائِهِ خَرَجَ بِهِ الْمَلَكُ إِلَى عَرَفَاتٍ، فَأَرَاهُ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا الَّتِي تَفْعَلُهَا النَّاسُ الْيَوْمَ، ثُمَّ قَدِمَ بِهِ مَكَّةَ، فَطَافَ بِالْبَيْتِ أُسْبُوعًا، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَرْضِ الْهِنْدِ، فَمَاتَ عَلَى بُوذَ
(1/124)
حدثنا أبو همام، قال: حدثني
أبي، قال: حدثني زياد بن خيثمة، عن أبي يحيى بَائِعِ الْقَتِّ، قَالَ: قَالَ لِي
مُجَاهِدٌ: لَقَدْ حدثنى عبد الله ابن عباس ان آدم ع نَزَلَ حِينَ نَزَلَ
بِالْهِنْدِ، وَلَقَدْ حَجَّ مِنْهَا أَرْبَعِينَ حِجَّةً عَلَى رِجْلَيْهِ،
فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا الْحَجَّاجِ، أَلا كَانَ يَرْكَبُ؟ قَالَ: فَأَيُّ شيء
كان يحمله! فو الله إِنَّ خَطْوَهُ مَسِيرَةُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ، وَإِنْ كَانَ
رَأْسُهُ لَيَبْلُغُ السَّمَاءَ، فَاشْتَكَتِ الْمَلائِكَةُ نَفَسَهُ، فَهَمَزَهُ
الرَّحْمَنُ هَمْزَةً، فَتَطَأْطَأَ مِقْدَارَ أَرْبَعِينَ سَنَةً.
حَدَّثَنِي صَالِحُ بْنُ حَرْبٍ أَبُو مَعْمَرٍ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا
ثُمَامَةُ بْنُ عُبَيْدَةَ السُّلَمِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ،
قَالَ: قَالَ نَافِعٌ:
سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ، يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى اوحى الى آدم ع وَهُوَ
بِبِلادِ الْهِنْدِ:
أَنْ حُجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَحَجَّ آدَمُ مِنْ بِلادِ الْهِنْدِ، فَكَانَ
كُلَّمَا وَضَعَ قَدَمَهُ صَارَ قَرْيَةً، وَمَا بَيْنَ خُطْوَتَيْهِ مَفَازَةً،
حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْبَيْتِ فَطَافَ بِهِ، وَقَضَى الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا،
ثُمَّ أَرَادَ الرُّجُوعَ إِلَى بِلادِ الْهِنْدِ فَمَضَى، حَتَّى إِذَا كَانَ بِمَأْزِمَيْ
عَرَفَاتٍ، تَلَقَّتْهُ الْمَلائِكَةُ، فَقَالُوا: بِرَّ حَجَّكَ يَا آدَمُ!
فَدَخَلَهُ مِنْ ذَلِكَ عُجْبٌ، فَلَمَّا رَأَتِ الْمَلائِكَةُ ذَلِكَ مِنْهُ
قَالُوا: يَا آدَمُ، إِنَّا قَدْ حَجَجْنَا هَذَا الْبَيْتَ قَبْلَ أَنْ تُخْلَقَ
بِأَلْفَيْ سَنَةٍ، قَالَ: فَتَقَاصَرَتْ إِلَى آدَمَ نَفْسُهُ.
وذكر ان آدم ع أُهْبِطَ إِلَى الأَرْضِ، وَعَلَى رَأْسِهِ إِكْلِيلٌ مِنْ شَجَرِ
الْجَنَّةِ، فَلَمَّا صَارَ إِلَى الأَرْضِ، وَيَبِسَ الإِكْلِيلُ، تَحَاتَّ
وَرَقُهُ فَنَبَتَ مِنْهُ أَنْوَاعُ الطِّيبِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ كَانَ ذَلِكَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمَا،
أَنَّهُمَا جَعَلا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ، فَلَمَّا
يَبِسَ ذَلِكَ الْوَرَقُ الَّذِي خَصَفَاهُ عَلَيْهِمَا تَحَاتَّ فَنَبَتَ مِنْ
ذَلِكَ الْوَرَقِ انواع الطيب والله اعلم
(1/125)
وقال آخرون: بل لَمَّا عَلِمَ
آدَمُ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مُهْبِطُهُ إِلَى الأَرْضِ، جَعَلَ لا يَمُرُّ
بِشَجَرَةٍ مِنْ شَجَرِ الْجَنَّةِ إِلَّا أَخَذَ غُصْنًا مِنْ أَغْصَانِهَا،
فَهَبَطَ إِلَى الأَرْضِ وَتِلْكَ الأَغْصَانُ مَعَهُ، فَلَمَّا يَبِسَ وَرَقُهَا
تَحَاتَّ، فَكَانَ ذَلِكَ أَصْلُ الطِّيبِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ:
232- حَدَّثَنَا أَبُو هَمَّامٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا
زِيَادُ بن خيثمة، عن أبي يحيى بائع القت قَالَ: قَالَ لِي مُجَاهِدٌ: لَقَدْ
حَدَّثَنِي عَبْدُ الله ابن عَبَّاسٍ، أَنَّ آدَمَ حِينَ خَرَجَ مِنَ الْجَنَّةِ
كَانَ لا يَمُرُّ بِشَيْءٍ إِلا عَبَثَ بِهِ، فَقِيلَ لِلْمَلائِكَةِ: دَعُوهُ
فَلْيَتَزَوَّدْ مِنْهَا مَا شَاءَ، فَنَزَلَ حِينَ نَزَلَ بِالْهِنْدِ، وَإِنَّ
هَذَا الطِّيبَ الَّذِي يُجَاءُ بِهِ مِنَ الْهِنْدِ مِمَّا خَرَجَ بِهِ آدَمُ
مِنَ الْجَنَّةِ ذكر من قال: كان على راس آدم ع حين أهبط من الجنة إكليل من شجر
الجنة:
حدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن
أنس، عن أبي العالية، قال: خرج آدم من الجنة، فخرج منها ومعه عصا من شجر الجنة،
وعلى رأسه تاج أو إكليل من شجر الجنة، قال: فأهبط إلى الهند، ومنه كل طيب بالهند.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، قال:
هبط آدم عليه- يعني على الجبل الذي هبط عليه- ومعه ورق من ورق الجنة، فبثه في ذلك
الجبل، فمنه كان أصل الطيب كله، وكل فاكهة لا توجد إلا بأرض الهند
(1/126)
وقال آخرون: بل زوده الله من
ثمار الجنة، فثمارنا هذه من تلك الثمار ذِكْرُ من قال ذلك:
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ وعبد الوهاب
ومحمد بن جعفر، عن عوف، عن قسامة بن زهير، عن الأشعري، قال:
إن الله تبارك وتعالى لما اخرج آدم من الجنة زوده من ثمار الجنة، وعلمه صنعة كل
شيء، فثماركم هذه من ثمار الجنة، غير أن هذه تتغير وتلك لا تتغير.
وقال آخرون: إنما علق بأشجار الهند طيب ريح آدم ع.
ذكر من قال إنما صار الطيب بالهند لأن آدم حين أهبط إليها علق بأشجارها طيب ريحه:
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ:
أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ محمد، قال: أخبرني أبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال:
نزل آدم ع مَعَهُ رِيحُ الْجَنَّةِ، فَعَلِقَ بِشَجَرِهَا وَأَوْدِيَتِهَا وَامْتَلأَ
ما هنالك طِيبًا، فَمِنْ ثَمَّ يُؤْتَى بِالطِّيبِ مِنْ رِيحِ الْجَنَّةِ.
وَقَالُوا: أُنْزِلَ مَعَهُ مِنْ طِيبِ الْجَنَّةِ.
وَقَالَ: أُنْزِلَ مَعَهُ الْحَجَرُ الأَسْوَدُ، وَكَانَ أَشَدَّ بَيَاضًا مِنَ
الثَّلْجِ، وَعَصَا مُوسَى، وَكَانَتْ مِنْ آسِ الْجَنَّةِ، طُولُهَا عَشَرَةُ
أَذْرُعٍ عَلَى طُولِ مُوسَى، ومر ولبان، ثُمَّ أُنْزِلَ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ
العَلاةُ وَالمِطْرَقَةُ وَالْكَلْبَتَانِ، فَنَظَرَ آدَمُ
(1/127)
حِينَ أُهْبِطَ عَلَى
الْجَبَلِ إِلَى قَضِيبٍ مِنْ حَدِيدٍ نَابِتٍ عَلَى الْجَبَلِ، فَقَالَ: هَذَا
مِنْ هَذَا، فَجَعَلَ يَكْسِرُ أَشْجَارًا قَدْ عَتِقَتْ وَيَبِسَتْ
بِالمِطْرَقَةِ، ثُمَّ أَوْقَدَ عَلَى ذَلِكَ الْغُصْنُ حَتَّى ذَابَ، فَكَانَ
أَوَّلُ شَيْءٍ ضَرَبَهُ مُدْيَةً، فَكَانَ يَعْمَلُ بِهَا، ثُمَّ ضَرَبَ
التَّنُّورَ، وَهُوَ الَّذِي وَرِثَهُ نُوحٌ، وَهُوَ الَّذِي فَارَ بِالْعَذَابِ
بِالْهِنْدِ.
وَكَانَ آدَمُ حِينَ هَبَطَ يَمْسَحُ رَأْسَهُ السَّمَاءُ، فَمِنْ ثَمَّ صَلِعَ،
وَأَوْرَثَ وَلَدَهُ الصَّلَعَ وَنَفَرَتْ مِنْ طُولِهِ دَوَابُّ الْبَرِّ،
فَصَارَتْ وَحْشًا مِنْ يومئذ، وكان آدم ع وَهُوَ عَلَى ذَلِكَ الْجَبَلِ قَائِمٌ
يَسْمَعُ أَصْوَاتَ الْمَلائِكَةِ، وَيَجِدُ رِيحَ الْجَنَّةِ، فَحُطَّ مِنْ
طُولِهِ ذَلِكَ إِلَى سِتِّينَ ذِرَاعًا، فَكَانَ ذَلِكَ طُولُهُ إِلَى أَنْ مَاتَ
وَلَمْ يُجْمَعْ حُسْنُ آدَمَ ع لأحد من ولده الا ليوسف ع.
وَقِيلَ: إِنَّ مِنَ الثِّمَارِ الَّتِي زَوَّدَ اللَّهُ عز وجل آدم ع حين اهبط
إِلَى الأَرْضِ ثَلاثِينَ نَوْعًا، عَشَرَةً مِنْهَا فِي الْقُشُورِ وَعَشَرَةً
لَهَا نَوَى، وَعَشَرَةً لا قُشُورَ لَهَا وَلا نَوَى فَأَمَّا الَّتِي فِي
الْقُشُورِ مِنْهَا فَالْجَوْزُ، وَاللَّوْزُ، وَالْفُسْتُقُ، وَالْبُنْدُقُ،
وَالْخَشْخَاشُ، وَالْبَلُّوطُ، والشاهبلوط، وَالرَّانِجُ، وَالرُّمَّانُ،
وَالْمَوْزُ وَأَمَّا الَّتِي لَهَا نَوَى مِنْهَا فَالْخَوْخُ، وَالْمِشْمِشُ،
وَالإِجَّاصُ، وَالرُّطَبُ، وَالْغُبَيْرَاءُ، وَالنَّبَقُ، وَالزُّعْرُورُ، وَالْعِنَّابُ،
وَالْمُقْلُ، وَالشَّاهَلُوجُ وَأَمَّا الَّتِي لا قُشُورَ لَهَا وَلا نَوَى
فَالتُّفَّاحُ، وَالسَّفَرْجَلُ، وَالْكُمَّثْرَى، وَالْعِنَبُ، وَالتُّوتُ،
وَالتِّينُ، وَالأُتْرُجُّ، وَالْخُرْنُوبُ، وَالْخِيارُ، وَالْبِطِّيخُ.
وَقِيلَ: كَانَ مِمَّا أَخْرَجَ آدَمُ مَعَهُ مِنَ الْجَنَّةِ صُرَّةٌ مِنْ
حِنْطَةٍ، وَقِيلَ: إِنَّ الْحِنْطَةَ انما جاءه بها جبرئيل ع بَعْدَ أَنْ جَاعَ
آدَمُ، وَاسْتَطْعَمَ رَبَّهُ، فَبَعَثَ الله اليه مع جبرئيل ع بِسَبْعِ حَبَّاتٍ
مِنْ حِنْطَةٍ، فَوَضَعَهَا فِي يَدِ آدم ع، فقال آدم لجبرئيل: ما هذا؟ فقال له
جبرئيل: هَذَا الَّذِي أَخْرَجَكَ مِنَ الْجَنَّةِ، وَكَانَ وَزْنُ الحبه منها
مائه الف درهم وثمانمائه دِرْهَمٍ، فَقَالَ آدَمُ:
مَا أَصْنَعُ بِهَذَا؟ قَالَ: انْثُرْهُ فِي الأَرْضِ فَفَعَلَ، فَأَنْبَتَهُ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ سَاعَتِهِ، فَجَرَتْ سُنَّةٌ فِي وَلَدِهِ الْبَذْرُ
فِي الأَرْضِ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَحَصَدَهُ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَجَمَعَهُ وَفَرَكَهُ
بِيَدِهِ، ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يُذْرِيَهُ، ثُمَّ أَتَاهُ بِحَجَرَيْنِ فَوَضَعَ
أَحَدَهُمَا عَلَى الآخر
(1/128)
فَطَحَنَهُ، ثُمَّ أَمَرَهُ
أَنْ يَعْجِنَهُ، ثُمَّ أَمَرَهُ ان يخبزه مله، وجمع له جبرئيل ع الْحَجَرَ
وَالْحَدِيدَ فَقَدَحَهُ، فَخَرَجَتْ مِنْهُ النَّارُ، فَهُوَ أول من خبز الملة.
وهذا القول الَّذِي حَكَيْنَاهُ عَنْ قَائِلِ هَذَا الْقَوْلِ، خِلافُ مَا جَاءَتْ
بِهِ الرِّوَايَاتُ عَنْ سَلَفِ أُمَّةِ نبينا ص، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُثَنَّى بْنَ
إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنِي أَنَّ إِسْحَاقَ حَدَّثَهُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ
الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَابْنُ الْمُبَارَكِ،
عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، وعن سعيد ابن
جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَتِ الشَّجَرَةَ الَّتِي نَهَى اللَّهُ
عَنْهَا آدَمَ وَزَوْجَتَهُ السُّنْبُلَةُ، فَلَمَّا أَكَلا مِنْهَا بَدَتْ
لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا، وَكَانَ الَّذِي وَارَى عَنْهُمَا مِنْ سَوْءَاتِهِمَا
أَظْفَارُهُمَا، وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ،
وَرَقِ التِّينِ يُلْصِقَانِ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ، فَانْطَلَقَ آدَمُ
مُوَلِّيًا فِي الْجَنَّةِ، فَأَخَذَتْ بِرَأْسِهِ شَجَرَةٌ مِنَ الْجَنَّةِ
فَنَادَاهُ: يَا آدَمُ، أَمِنِّي تَفِرُّ؟ قَالَ: لا، ولكنى استحيتك يَا رَبِّ،
قَالَ: أَمَا كَانَ لَكَ فِيمَا مَنَحْتُكَ مِنَ الْجَنَّةِ وَأَبَحْتُكَ مِنْهَا
مَنْدُوحَةٌ عَمَّا حَرَّمْتُ عَلَيْكَ! قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ، وَلَكِنْ
وَعِزَّتِكَ مَا حَسِبْتُ أَنَّ أَحَدًا يَحْلِفُ بِكَ كَاذِبًا، قَالَ- وَهُوَ
قَوْلُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: «وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ
النَّاصِحِينَ» - قَالَ: فَبِعِزَّتِي لأُهْبِطَنَّكَ إِلَى الأَرْضِ، فَلا
تَنَالُ الْعَيْشَ إِلا كَدًّا.
قَالَ: فَأُهْبِطَ مِنَ الْجَنَّةِ، وَكَانَا يَأْكُلانِ فِيهَا رَغَدًا،
فَأُهْبِطَ إِلَى غَيْرِ رَغَدٍ مِنْ طَعَامٍ وَشَرَابٍ، فَعُلِّمَ صَنْعَةَ
الْحَدِيدِ، وَأُمِرَ بِالْحَرْثِ فَحَرَثَ وَزَرَعَ ثُمَّ سَقَى، حَتَّى إِذَا
بَلَغَ حَصَدَهُ، ثُمَّ دَاسَهُ، ثُمَّ ذَرَاهُ، ثُمَّ طَحَنَهُ، ثُمَّ عَجَنَهُ،
ثُمَّ خَبَزَهُ، ثُمَّ اكله، فلم يبلغه حَتَّى بَلَغَ مِنْهُ مَا شَاءَ اللَّهُ
أَنْ يبلغ
(1/129)
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا
يعقوب، عن جعفر، عن سعيد، قال: أهبط إلى آدم ثور احمر، فكان يحدث عليه، ويمسح
العرق عن جبينه، فهو الذي قال الله عز وجل: «فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ
فَتَشْقى» ، فكان ذلك شقاؤه.
فهذا الذي قاله هؤلاء هو أولى بالصواب، وأشبه بما دل عليه كتاب ربنا عز وجل، وذلك
أن الله عز ذكره لما تقدم إلى آدم وزوجته حواء بالنهي عن طاعة عدوهما، قال لآدم:
«يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ
الْجَنَّةِ فَتَشْقى إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى.
وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى» ، فكان معلوما أن الشقاء الذي أعلمه
أنه يكون إن أطاع عدوه إبليس، هو مشقة الوصول إلى ما يزيل الجوع والعري عنه، وذلك
هي الأسباب التي بها يصل أولاده إلى الغذاء، من حراثة وبذر وعلاج وسقي، وغير ذلك
من الأسباب الشاقة المؤلمة ولو كان جبرئيل أتاه بالغذاء الذي يصل إليه ببذره دون
سائر المؤن غيره، لم يكن هناك من الشقاء الذي توعده به ربه على طاعة الشيطان
ومعصية الرحمن كبير خطب، ولكن الأمر كان- والله أعلم- على ما روينا عن ابْنِ
عَبَّاسٍ وغيره.
وقد قيل: إن آدم ع نزل معه السندان، والكلبتان، والميقعة، والمطرقة.
ذِكْرُ من قال ذلك:
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا الحسين، عَنْ عَلْبَاءَ بْنِ أَحْمَرَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ قَالَ: ثَلاثَةُ أَشْيَاءٍ نَزَلَتْ مَعَ آدم ع: السِّنْدَانُ،
وَالْكَلْبَتَانِ، وَالْمِيقَعَةُ، وَالْمِطْرَقَةُ
(1/130)
ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ
ذِكْرُهُ فِيمَا ذُكِرَ أَنْزَلَ آدَمَ مِنَ الْجَبَلِ الَّذِي أَهْبَطَهُ
عَلَيْهِ إِلَى سَفْحِهِ، وَمَلَّكَهُ الأَرْضَ كُلَّهَا، وَجَمِيعَ مَا عَلَيْهَا
مِنَ الْجِنِّ وَالْبَهَائِمِ وَالدَّوَابِّ وَالْوَحْشِ وَالطَّيْرِ وغير ذلك،
وان آدم ع لَمَّا نَزَلَ مِنْ رَأْسِ ذَلِكَ الْجَبَلِ، وَفَقَدَ كَلامَ أَهْلِ
السَّمَاءِ، وَغَابَتْ عَنْهُ أَصْوَاتُ الْمَلائِكَةِ، وَنَظَرَ إِلَى سِعَةِ
الأَرْضِ وَبَسْطَتِهَا، وَلَمْ يَرَ فِيهَا أَحَدًا غَيْرَهُ، اسْتَوْحَشَ
فَقَالَ: يَا رَبِّ، أَمَا لأَرْضِكَ هَذِهِ عَامِرٌ يُسَبِّحُكَ غَيْرِي! فأجيب
بما حَدَّثَنِي المثنى بن إبراهيم، قال: أخبرنا إسحاق بن الحجاج، قال: حدثنا
إسماعيل بن عبد الكريم، قال: حدثنى عبد الصمد ابن معقل، أنه سمع وهبا يقول: إن آدم
لما أهبط إلى الأرض فرأى سعتها ولم ير فيها أحدا غيره قال: يا رب، أما لأرضك هذه
عامر يسبح بحمدك ويقدس لك غيري! قال الله: إني سأجعل فيها من ولدك من يسبح بحمدي
ويقدسني، وسأجعل فيها بيوتا ترفع لذكري، ويسبح فيها خلقي، ويذكر فيها اسمي، وسأجعل
من تلك البيوت بيتا أخصه بكرامتي، وأوثره باسمي، وأسميه بيتي، أنطقه بعظمتي، وعليه
وضعت جلالي ثم أنا مع ذلك في كل شيء ومع كل شيء، أجعل ذلك البيت حرما آمنا يحرم
بحرمته من حوله ومن تحته ومن فوقه، فمن حرمه بحرمتي استوجب بذلك كرامتي، ومن أخاف
أهله فيه فقد أخفر ذمتي، وأباح حرمتي أجعله أول بيت وضع للناس ببطن مكة مباركا،
يأتونه شعثا غبرا على كل ضامر، من كل فج عميق، يرجون بالتلبية رجيجا، ويثجون
بالبكاء ثجيجا، ويعجون بالتكبير عجيجا، فمن اعتمده ولا يريد غيره فقد وفد إليَّ
وزارني وضافني، وحق على الكريم أن يكرم وفده وأضيافه، وأن يسعف كلا بحاجته تعمره
يا آدم ما كنت حيا، ثم تعمره الأمم والقرون والأنبياء من ولدك أمة بعد أمة، وقرنا
بعد قرن.
ثم أمر آدم ع- فيما ذكر- أن يأتي البيت الحرام الذي اهبط
(1/131)
له إلى الأرض، فيطوف به كما
كان يرى الملائكة تطوف حول عرش الله، وكان ذلك ياقوتة واحدة أو درة واحدة، كما
حدثني الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن أبان، أن
البيت أهبط ياقوتة واحدة أو درة واحدة، حتى إذا أغرق الله قوم نوح رفعه وبقي
أساسه، فبوأه الله عز وجل لإبراهيم فبناه، وقد ذكرت الأخبار الواردة بذلك فيما مضى
قبل.
فذكر ان آدم ع بكى واشتد بكاؤه على خطيئته، وندم عليها، وسأل الله عز وجل قبول
توبته، وغفران خطيئته، فقال في مسألته إياه: ما سأل من ذلك، كما حَدَّثَنَا أَبُو
كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَطِيَّةَ، عَنْ قَيْسٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي
لَيْلَى، عَنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:
«فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ» قَالَ: أَيْ رَبِّ،
أَلَمْ تَخْلُقْنِي بِيَدِكَ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: أَيْ رَبِّ، أَلَمْ تَنْفُخْ
فِيَّ مِنْ رُوحِكَ؟
قَالَ: بَلَى، قَالَ: أَيْ رَبِّ، أَلَمْ تُسْكِنِّي جَنَّتَكَ؟ قَالَ: بَلَى،
قَالَ: أَيْ رَبِّ، أَلَمْ تَسْبِقْ رَحْمَتُكَ غَضَبَكَ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ:
أَرَأَيْتَ إِنْ تُبْتُ وَأَصْلَحْتُ أَرَاجِعِي أَنْتَ إِلَى الْجَنَّةِ؟ قَالَ:
بَلَى، قَالَ: فَهُوَ قَوْلُهُ تعالى: «فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ» .
حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زريع، عن سعيد،
عن قتادة، قوله تعالى «فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ» ذكر لنا أنه قال:
يا رب: أرأيت إن أنا تبت وأصلحت! قال: إذا أرجعك إلى الجنة، قال:
وقال الحسن: إنهما قالا: «رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا
وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ» .
حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حَدَّثَنَا سفيان وقيس،
عن خصيف، عن مجاهد، في قوله عز وجل:
(1/132)
«فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ
رَبِّهِ كَلِماتٍ» قال: قوله: «رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ
لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ» .
حَدَّثَنِي الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدٍ،
قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبِي، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:
أَنْزَلَ آدَمُ مَعَهُ حِينَ أُهْبِطَ مِنَ الْجَنَّةِ الْحَجَرَ الأَسْوَدَ،
وَكَانَ أَشَدَّ بَيَاضًا مِنَ الثَّلْجِ، وَبَكَى آدَمُ وَحَوَّاءُ عَلَى مَا
فَاتَهُمَا- يَعْنِي مِنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ- مِائَتَيْ سَنَةٍ، وَلَمْ يَأْكُلا
وَلَمْ يَشْرَبَا أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ أَكَلا وَشَرِبَا، وَهُمَا
يَوْمَئِذٍ عَلَى بُوذَ، الْجَبَلِ الَّذِي أُهْبِطَ عَلَيْهِ آدَمُ وَلَمْ
يَقْرَبْ حَوَّاءَ مِائَةَ سَنَةٍ.
حَدَّثَنَا أبو همام، قال: حدثني أبي، قال: حدثني زياد بن خيثمة، عن أبي يحيى بائع
القت، قال: قال لي مجاهد، ونحن جلوس في المسجد: هل ترى هذا؟ قلت: يا أبا الحجاج،
الحجر؟ قال: كذلك تقول؟
قلت: او ليس حجرا! قال: فو الله لحدثني عبد الله بن عباس أنها ياقوتة بيضاء، خرج
بها آدم من الجنة، كان يمسح بها دموعه، وأن آدم لم ترقأ دموعه منذ خرج من الجنة
حتى رجع إليها ألفي سنة، وما قدر منه إبليس على شيء، فقلت له: يا أبا الحجاج، فمن
أي شيء اسود؟ قال: كان الْحُيَّضُ يلمسنه في الجاهلية فخرج آدم ع من الهند يؤم البيت
الذي أمره الله عز وجل بالمصير إليه، حتى أتاه، فطاف به، ونسك المناسك، فذكر أنه
التقى هو وحواء بعرفات، فتعارفا بها، ثم ازدلف إليها بالمزدلفة، ثم رجع إلى الهند
مع حواء، فاتخذا مغارة يأويان إليها في ليلهما ونهارهما، وأرسل الله إليهما ملكا
يعلمهما ما يلبسانه ويستتران به، فزعموا أن ذلك كان من جلود الضأن والأنعام
والسباع وقال بعضهم: إنما كان ذلك لباس أولادهما، فأما آدم وحواء فإن لباسهما كان
ما كانا خصفا على أنفسهما من ورق الجنة ثم إن الله عز ذكره مسح ظهر آدم ع بنعمان
من عرفة، وأخرج
(1/133)
ذريته، فنثرهم بين يديه كالذر،
فأخذ مواثيقهم، وأشهدهم على أنفسهم:
ألست بربكم؟ قالوا: بلى، كما قال عز وجل: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ
مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ
بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى» .
وَقَدْ حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الطُّوسِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا
الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ
كُلْثُومِ بْنِ جَبْرٍ، عَنْ سعيد ابن جبير، عن ابن عباس، [عن النبي ص، قَالَ:
أَخَذَ اللَّهُ الْمِيثَاقَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ بِنَعْمَانَ- يَعْنِي عَرَفَةَ-
فَأَخْرَجَ مِنْ صُلْبِهِ كُلَّ ذُرِّيَّةٍ ذَرَأَهَا، فَنَثَرَهُمْ بَيْنَ
يَدَيْهِ كَالذَّرِّ، ثُمَّ كَلَّمَهُمْ قِبَلا، وَقَالَ: «أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ
قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ» إِلَى قَوْلِهِ: «بِما
فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ] » .
حَدَّثَنِي عِمْرَانُ بْنُ مُوسَى الْقَزَّازُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ
سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا كُلْثُومُ بْنُ جَبْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:
«وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ
وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى» ، قَالَ:
مَسَحَ رَبُّنَا ظَهْرَ آدَمَ، فَخَرَجَتْ كُلُّ نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة
بنعمان هَذِهِ- وَأَشَارَ بِيَدِهِ- فَأَخَذَ مَوَاثِيقَهُمْ، وَأَشْهَدَهُمْ
عَلَى أَنْفُسِهِمْ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى.
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ وَيَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالا: حَدَّثَنَا ابْنُ
عُلَيَّةَ، عَنْ كُلْثُومِ بْنِ جَبْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ عز وجل:
«وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ
وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى» ، قَالَ:
مَسَحَ ظَهْرَ آدَمَ فَخَرَجَ كُلُّ نَسَمَةٍ هُوَ خَالِقُهَا إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ بِنَعْمَانَ، هَذَا الَّذِي وَرَاءَ عَرَفَةَ، وَأَخَذَ
مِيثَاقَهُمْ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى شَهِدْنَا، وَاللَّفْظُ
لِحَدِيثِ يَعْقُوبَ.
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عن عطاء،
(1/134)
عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أُهْبِطَ آدَمُ حِينَ أُهْبِطَ فَمَسَحَ اللَّهُ
ظَهْرَهُ، فَأَخْرَجَ مِنْهُ كُلَّ نَسَمَةٍ هُوَ خَالِقُهَا إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ، ثُمَّ قَالَ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى، ثُمَّ تَلَى:
«وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ» ،
فَجَفَّ الْقَلَمُ مِنْ يَوْمِئِذٍ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عيسى، عن الأعمش، عن
حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ في
«وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ» ،
قَالَ: لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ آدَمَ ع أَخَذَ ذُرِّيَّتَهُ مِنْ
ظَهْرِهِ مِثْلَ الذَّرِّ، فَقَبَضَ قَبْضَتَيْنِ، فَقَالَ لأَصْحَابِ الْيَمِينِ:
ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلامٍ، وَقَالَ لِلآخَرِينَ: ادْخُلُوا النَّارَ وَلا
أُبَالِي.
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا رَوْحُ
بْنُ عُبَادَةَ وَسَعْدُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ
أَنَسٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ
الْجُهَنِيِّ، [أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سُئِلَ عَنْ
هَذِهِ الآية:
«وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ» ، فقال
عمر: سمعت رسول الله ص قَالَ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ ثُمَّ مَسَحَ عَلَى
ظَهْرِهِ بِيَمِينِهِ وَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً، فَقَالَ: خَلَقْتُ
هَؤُلاءِ لِلْجَنَّةِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَعْمَلُونَ، ثُمَّ مَسَحَ
عَلَى ظَهْرِهِ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً فَقَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلاءِ
لِلنَّارِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، فَفِيمَ الْعَمَلُ؟ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتعالى إِذَا خَلَقَ
الْعَبْدَ لِلْجَنَّةِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، حَتَّى يَمُوتَ
عَلَى عَمَلٍ مِنْ عَمَلِ أَهْلِ الجنه فيدخله الْجَنَّةِ، وَإِذَا خَلَقَ
الْعَبْدَ لِلنَّارِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى
عَمَلٍ مِنْ عَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيُدْخِلُهُ النَّارَ] .
وَقِيلَ: إِنَّهُ أخذ ذريه آدم ع من ظهره بدحنا
(1/135)
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا حَكَّامٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ
قَيْسٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ
مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ» قَالَ: لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ آدَمَ مسح ظهره بدحنا فَأَخْرَجَ مِنْ ظَهْرِهِ كُلَّ نَسَمَةٍ هُوَ
خَالِقُهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَقَالَ:
أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَيَرَوْنَ يَوْمَئِذٍ، جَفَّ الْقَلَمُ
بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَخْرَجَ
اللَّهُ ذُرِّيَّةَ آدَمَ مِنْ صُلْبِهِ فِي السَّمَاءِ قَبْلَ أَنْ يُهْبِطَهُ
إِلَى الأَرْضِ، وَبَعْدَ أَنْ أَخْرَجَهُ مِنَ الْجَنَّةِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذلك:
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو بن حماد، عن أسباط، عن السدي: «وَإِذْ أَخَذَ
رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى
أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى» ، قال: أخرج الله آدم من الجنة
ولم يهبطه من السماء، ثم إنه مسح من آدم صفحة ظهره اليمنى، فأخرج منه ذرية كهيئة
الذر بيضاء مثل اللؤلؤ، فقال لهم: ادخلوا الجنه برحمتي، ومسح صفحه ظهره اليسرى،
فأخرج منه كهيئة الذر سودا، فقال: ادخلوا النار ولا أبالي فذلك حين يقول: أصحاب
اليمين وأصحاب الشمال ثم أخذ الميثاق فقال: ألست بربكم؟ قالوا بلى، فأعطاه طائفة
طائعين، وطائفة على وجه التقية
(1/136)
ذكر الأحداث التي كانت في عهد
آدم ع بعد أن أهبط إلى الأرض
فكان أول ذلك قتل قابيل بن آدم أخاه هابيل، وأهل العلم يختلفون في اسم قابيل،
فيقول بعضهم: هو قين بن آدم، ويقول بعضهم: هو قايين ابن آدم ويقول بعضهم: هو قاين
ويقول بعضهم: هو قابيل.
واختلفوا أيضا في السبب الذي من أجله قتله:
فقال بعضهم في ذلك مَا حَدَّثَنِي بِهِ مُوسَى بن هارون الهمداني، قال:
حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي- في خبر ذكره- عن أبي مالك وعن
أبي صالح عن ابن عباس- وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود- وعن ناس من أصحاب رسول الله
ص، قَالَ: كَانَ لا يُولَدُ لآدَمَ مَوْلُودٌ إِلا وُلِدَ مَعَهُ جَارِيَةٌ،
فَكَانَ يُزَوِّجُ غُلامَ هَذَا البطن جاريه هذا البطن الآخر ويزوج جاريه هذا
البطن غلام هَذَا الْبَطْنِ الآخَرِ، حَتَّى وُلِدَ لَهُ ابْنَانِ، يُقَالُ
لَهُمَا قَابِيلُ وَهَابِيلُ، وَكَانَ قَابِيلُ صَاحِبَ زَرْعٍ، وَكَانَ هَابِيلُ
صَاحِبَ ضَرْعٍ، وَكَانَ قَابِيلُ أَكْبَرَهُمَا، وَكَانَتْ لَهُ أُخْتٌ أَحْسَنَ
مِنْ أُخْتِ هَابِيلَ، وَإِنَّ هَابِيلَ طَلَبَ أَنْ يَنْكِحَ أُخْتَ قَابِيلَ،
فَأَبَى عَلَيْهِ وَقَالَ: هِيَ أُخْتِي وُلِدَتْ مَعِي، وَهِيَ أَحْسَنُ مِنْ
أُخْتِكَ، وَأَنَا أَحَقُّ أَنْ أَتَزَوَّجَهَا، فَأَمَرَهُ أَبُوهُ أَنْ
يُزَوِّجَهَا هَابِيلَ، فَأَبَى وَإِنَّهُمَا قَرَّبَا قُرْبَانًا إِلَى اللَّهِ
أَيُّهُمَا أَحَقُّ بِالْجَارِيَةِ، وَكَانَ
(1/137)
آدَمُ يَوْمَئِذٍ قَدْ غَابَ
عَنْهُمَا وَأَتَى مَكَّةَ يَنْظُرُ إِلَيْهَا، قَالَ اللَّهُ لآدَمَ: يَا آدَمُ،
هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ لِي بَيْتًا فِي الأَرْضِ؟ قَالَ: اللَّهُمَّ لا، قَالَ:
فَإِنَّ لِي بَيْتًا بِمَكَّةَ فَأْتِهِ، فَقَالَ آدَمُ لِلسَّمَاءِ: احْفَظِي
وَلَدَيَّ بِالأَمَانَةِ، فَأَبَتْ، وَقَالَ لِلأَرْضِ فَأَبَتْ، وَقَالَ
لِلْجِبَالِ: فَأَبَتْ، فَقَالَ لِقَابِيلَ، فَقَالَ: نَعَمْ، تَذْهَبُ وَتَرْجِعُ
وَتَجِدُ أَهْلَكَ كَمَا يَسُرُّكَ فَلَمَّا انْطَلَقَ آدَمُ قَرَّبَا قُرْبَانًا،
وَكَانَ قَابِيلُ يَفْخَرُ عَلَيْهِ فَيَقُولُ: أَنَا أَحَقُّ بِهَا مِنْكَ هِيَ
أُخْتِي، وَأَنَا أَكْبَرُ مِنْكَ، وَأَنَا وَصِيُّ وَالِدِي، فَلَمَّا قَرَّبَا،
قَرَّبَ هَابِيلُ جَذَعَةَ سَمِينَةً، وَقَرَّبَ قَابِيلُ حِزْمَةَ سُنْبُلٍ،
فَوَجَدَ فِيهَا سُنْبُلَةً عَظِيمَةً فَفَرَكَهَا فَأَكَلَهَا، فَنَزَلَتِ
النَّارُ فَأَكَلَتْ قُرْبَانَ هَابِيلَ، وَتَرَكَتْ قُرْبَانَ قَابِيلَ، فَغَضِبَ
وَقَالَ: لأَقْتُلَنَّكَ حَتَّى لا تَنْكِحَ أُخْتِي، فَقَالَ هَابِيلُ:
«إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ
لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ» ، إِلَى
قَوْلِهِ: «فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ» ، فَطَلَبَهُ لِيَقْتُلَهُ،
فَرَاغَ الْغُلامُ مِنْهُ فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ، فَأَتَاهُ يَوْمًا مِنَ
الأَيَّامِ وَهُوَ يَرْعَى غَنَمَهُ فِي جَبَلٍ وَهُوَ نَائِمٌ، فَرَفَعَ صَخْرَةً
فَشَدَخَ بِهَا رَأْسَهُ، فَمَاتَ وَتَرَكَهُ بِالْعَرَاءِ، لا يَعْلَمُ كَيْفَ
يُدْفَنُ، فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابَيْنِ أَخَوَيْنِ فَاقْتَتَلا، فَقَتَلَ
أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَحَفَرَ لَهُ ثُمَّ حثا عليه، فلما رآه قال: «يا وَيْلَتى
أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي» ،
فَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: «فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ
لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ» فَرَجَعَ آدَمُ فَوَجَدَ ابْنَهُ
قَدْ قَتَلَ أَخَاهُ، فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «إِنَّا
عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ» - إِلَى آخِرِ
الآيَةِ- «إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا
» يَعْنِي قَابِيلَ حِينَ حَمَلَ أَمَانَةَ آدَمَ، ثُمَّ لَمْ يَحْفَظْ لَهُ
أَهْلَهُ
(1/138)
وَقَالَ آخَرُونَ: كَانَ
السَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ آدَمَ كَانَ يُولَدُ لَهُ مِنْ حَوَّاءَ فِي كُلِّ
بَطْنٍ ذَكَرٌ وَأُنْثَى، فَإِذَا بَلَغَ الذَّكَرُ منهما زوج منه ولده الأُنْثَى
الَّتِي وُلِدَتْ مَعَ أَخِيهِ الَّذِي وُلِدَ فِي الْبَطْنِ الآخَرِ، قَبْلَهُ
أَوْ بَعْدَهُ.
فَرَغِبَ قَابِيلُ بِتَوْءَمَتِهِ عَنْ هَابِيلَ.
كَمَا حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بن الحسن، قال: حدثنا الحسين، قال:
حدثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ، قَالَ: أَقْبَلْتُ مَعَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَرْمِي
الْجَمْرَةَ، وَهُوَ متقنع متوكى عَلَى يَدِي، حَتَّى إِذَا وَازَيْنَا بِمَنْزِلِ
سَمُرَةَ الصَّوَّافِ، وَقَفَ يُحَدِّثُنِي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: نُهِيَ
أَنْ تَنْكِحَ الْمَرْأَةُ أَخَاهَا تَوْءَمَهَا، وَيَنْكِحُهَا غَيْرُهُ مِنْ
إِخْوَتِهَا، وَكَانَ يُولَدُ فِي كُلِّ بَطْنٍ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ، فَوُلِدَتِ
امْرَأَةٌ وَسِيمَةٌ وَوُلِدَتِ امْرَأَةٌ قَبِيحَةٌ، فَقَالَ أَخُو الدَّمِيمَةِ:
أَنْكِحْنِي أُخْتَكَ وَأُنْكِحَكَ أُخْتِي، قَالَ: لا، أَنَا أَحَقُّ بِأُخْتِي،
فَقَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ صَاحِبِ الْكَبْشِ، وَلَمْ يُتَقَبَّلْ
مِنْ صَاحِبِ الزَّرْعِ، فَقَتَلَهُ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ الْكَبْشُ مَحْبُوسًا
عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى أَخْرَجَهُ فِي فِدَاءِ إِسْحَاقَ،
فَذَبَحَهُ عَلَى هَذَا الصَّفَا، فِي ثَبِيرٍ، عِنْدَ مَنْزِلِ سَمُرَةَ
الصَّوَّافِ، وَهُوَ عَلَى يَمِينِكَ حِينَ تَرْمِي الْجِمَارَ.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ
بَعْضِ أَهْلِ العلم من أهل الكتاب الأول، أن آدم ع كان يغشى حواء في الجنة قبل أن
تصيب الخطيئة، فحملت له بقين بن آدم وتوءمته، فلم تجد عليهما وحما ولا وصبا، ولم
تجد عليهما طلقا حين ولدتهما، ولم تر معهما دما لطهر الجنة، فلما أكلا من الشجرة
وأصابا المعصية، وهبطا إلى الأرض واطمأنا بها تغشاها، فحملت بهابيل وتوءمته، فوجدت
عليهما الوحم والوصب، ووجدت حين ولدتهما الطلق ورأت معهما الدم، وكانت حواء-
(1/139)
فيما يذكرون- لا تحمل إلا
توءما ذكرا وأنثى، فولدت حواء لآدم أربعين ولدا لصلبه من ذكر وأنثى في عشرين بطنا،
وكان الرجل منهم أي أخواته شاء تزوج إلا توءمته التي تولد معه، فإنها لا تحل له،
وذلك أنه لم يكن نساء يومئذ إلا أخواتهم وأمهم حواء.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن بعض أهل العلم
بالكتاب الأول أن آدم أمر ابنه قينا أن ينكح توءمته هابيل، وأمر هابيل أن ينكح
أخته توءمته قينا، فسلم لذلك هابيل ورضي، وأبى ذلك قين وكره تكرما عن أخت هابيل،
ورغب بأخته عن هابيل، وقال، نحن ولادة الجنة، وهما من ولادة الأرض، وأنا أحق
بأختي- ويقول بعض أهل العلم من أهل الكتاب الأول: بل كانت أخت قين من أحسن الناس،
فضن بها عن أخيه، وأرادها لنفسه- والله أعلم أي ذلك كان- فقال له أبوه: يا بني
إنها لا تحل لك، فأبى قين أن يقبل ذلك من قول أبيه، فقال له أبوه: يا بني، فقرب
قربانا، ويقرب أخوك هابيل قربانا، فأيكما قبل الله قربانه فهو أحق بها، وكان قين
على بذر الأرض، وكان هابيل على رعاية الماشية، فقرب قين قمحا، وقرب هابيل أبكارا
من أبكار غنمه- وبعضهم يقول:
قرب بقره- فأرسل الله جل وعز نارا بيضاء، فأكلت قربان هابيل وتركت قربان قين وبذلك
كان يقبل القربان إذا قبله الله عز وجل، فلما قبل الله قربان هابيل- وكان في ذلك
القضاء له بأخت قين- غضب قين، وغلب عليه الكبر واستحوذ عليه الشيطان، فاتبع أخاه
هابيل، وهو في ماشيته فقتله، فهما اللذان قص الله خبرهما في القرآن على محمد ص،
فقال:
«وَاتْلُ عَلَيْهِمْ» يعني أهل الكتاب «نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ
قَرَّبا قُرْباناً
(1/140)
فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما»
إلى آخر القصة، قال: فلما قتله سقط في يديه، ولم يدر كيف يواريه، وذلك أنه كان-
فيما يزعمون- أول قتيل من بني آدم:
«فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي
سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ
فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي» .
إلى قوله: «ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ
لَمُسْرِفُونَ» قال: ويزعم أهل التوراة أن قينا حين قتل أخاه هابيل، قال الله له:
أين أخوك هابيل؟ قال: ما أدري، ما كنت عليه رقيبا، فقال الله له: إن صوت دم أخيك
ليناديني من الأرض! الآن أنت ملعون من الأرض التي فتحت فاها، فتلقت دم أخيك من
يدك، فإذا أنت عملت في الأرض، فإنها لا تعود تعطيك حرثها حتى تكون فزعا تائها في
الأرض، فقال قين: عظمت خطيئتي من أن تغفرها، قد اخرجتنى اليوم عن وجه الارض
واتوارى من قدامك، وأكون فزعا تائها في الأرض، وكل من لقيني، قتلني فقال الله عز
وجل: ليس ذلك كذلك، فلا يكون كل من قتل قتيلا يجزى بواحد سبعة، ولكن من قتل قينا
يجزي سبعة، وجعل الله في قين آية لئلا يقتله كل من وجده، وخرج قين من قدام الله عز
وجل من شرقي عدن الجنة.
وقال آخرون في ذلك: إنما كان قتل القاتل منهما أخاه أن الله عز وجل أمرهما بتقريب
قربان، فتقبل قربان أحدهما، ولم يتقبل من الآخر، فبغاه الذي لم يتقبل قربانه
فقتله.
ذكر من قال ذلك:
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جعفر، قال: حدثنا
(1/141)
عَوْفٌ، عَنْ أَبِي
الْمُغِيرَةِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: إِنَّ ابْنَيْ آدَمَ
اللَّذَيْنِ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّل
مِنَ الآخَرِ كَانَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَ حَرْثٍ، وَالآخَرُ صَاحِبَ غَنَمٍ،
وَأَنَّهُمَا أُمِرَا أَنْ يُقَرِّبَا قُرْبَانًا، وَأَنَّ صَاحِبَ الْغَنَمِ
قَرَّبَ أَكْرَمَ غَنَمِهِ وَأَسْمَنَهَا وَأَحْسَنَهَا، طَيِّبَةً بِهَا
نَفْسُهُ، وَأَنَّ صَاحِبَ الْحَرْثِ قرب، شر حرثه: الكوزر وَالزِّوَانَ، غَيْرَ
طَيِّبَةٍ بِهَا نَفْسُهُ، وَأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ تَقَبَّلَ قُرْبَانَ
صَاحِبِ الْغَنَمِ، وَلَمْ يَتَقَبَّلْ قُرْبَانَ صَاحِبِ الْحَرْثِ، وَكَانَ مِنْ
قِصَّتِهِمَا مَا قَصَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَقَالَ: أَيْمِ اللَّهِ، إِنْ
كَانَ الْمَقْتُولُ لأَشَدَّ الرَّجُلَيْنِ، وَلَكِنْ مَنَعَهُ التَّحَرُّجُ أَنْ
يَنْبَسِطَ إِلَى أَخِيهِ.
وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا حَدَّثَنِي بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي
أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:
كَانَ مِنْ شَأْنِهِمَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِسْكِينٌ يُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ،
وَإِنَّمَا كَانَ الْقُرْبَانُ يُقَرِّبُهُ الرَّجُلُ، فَبَيْنَا ابْنَا آدَمَ
قَاعِدَانِ إِذْ قَالا: لَوْ قَرَّبْنَا قُرْبَانًا! وَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا
قَرَّبَ قُرْبَانًا فَرَضِيَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِ نَارًا
فَأَكَلَتْهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَضِيَهُ اللَّهُ خَبَتِ النَّارُ، فَقَرَّبَا
قُرْبَانًا، وَكَانَ أَحَدُهُمَا رَاعِيًا وَالآخَرُ حَرَّاثًا، وَإِنَّ صَاحِبَ
الْغَنَمِ قَرَّبَ خَيْرَ غَنَمِهِ وَأَسْمَنَهَا، وَقَرْبَ الآخَرُ بَعْضَ
زَرْعِهِ، فَجَاءَتِ النار فنزلت بينهما فَأَكَلَتِ الشَّاةَ وَتَرَكَتِ الزَّرْعَ،
وَإِنَّ ابْنَ آدَمَ قَالَ لأَخِيهِ: أَتَمْشِي فِي النَّاسِ، وَقَدْ عَلِمُوا
أَنَّكَ قَرَّبْتَ قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْكَ وَرُدَّ عَلَيَّ قُرْبَانِي!
فَلا وَاللَّهِ لا يَنْظُرُ النَّاسُ إِلَيَّ وَإِلَيْكَ وَأَنْتَ خَيْرٌ مِنِّي،
فَقَالَ: لأَقْتُلَنَّكَ، فَقَالَ لَهُ أَخُوهُ:
مَا ذَنْبِي! إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ.
وَقَالَ آخَرُونَ: لَمْ تَكُنْ قِصَّةُ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ فِي عَهْدِ آدَمَ،
وَلا كَانَ القربان
(1/142)
فِي عَصْرِهِ، وَقَالُوا:
إِنَّمَا كَانَ هَذَانِ رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقَالُوا: إِنَّ
أَوَّلَ مَيِّتٍ مات في الارض آدم ع، لَمْ يَمُتْ قَبْلَهُ أَحَدٌ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ:
حَدَّثَنَا سفيان بن وكيع، قال: حَدَّثَنَا سهل بن يوسف، عن عمرو، عن الحسن، قال:
كان الرجلان اللذان في القرآن قال الله عز وجل فيهما: «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ
ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ» من بني إسرائيل، ولم يكونا ابني آدم لصلبه، وإنما كان
القربان في بني إسرائيل، وكان آدم أول من مات.
وقال بعضهم: إن آدم غشي حواء بعد مهبطهما إلى الأرض بمائة سنة، فولدت له قابيل
وتوءمته قليما في بطن واحد، ثم هابيل وتوءمته في بطن واحد، فلما شبوا أراد آدم ع
أن يزوج أخت قابيل التي ولدت معه في بطن واحد من هابيل، فامتنع من ذلك قابيل،
وقربا بهذا السبب قربانا فتقبل قربان هابيل، ولم يتقبل قربان قابيل، فحسده قابيل،
فقتله عند عقبه حرى ثم نزل قابيل من الجبل، آخذا بيد أخته قليما، فهرب بها إلى عدن
من أرض اليمن.
حَدَّثَنِي بِذَلِكَ الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ:
أَخْبَرَنِي هِشَامٌ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قَالَ:
لَمَّا قَتَلَ قَابِيلُ أَخَاهُ هَابِيلَ أَخَذَ بِيَدِ أُخْتِهِ ثُمَّ هَبَطَ
بِهَا مِنْ جَبَلِ بُوذَ إِلَى الْحَضِيضِ، فَقَالَ آدَمُ لِقَابِيلَ: اذْهَبْ
فَلا تَزَالُ مَرْعُوبًا لا تَأْمَنُ مَنْ تَرَاهُ، فَكَانَ لا يَمُرُّ بِهِ
أَحَدٌ مِنْ وَلَدِهِ إِلا رَمَاهُ، فَأَقْبَلَ ابْنٌ لِقَابِيلَ أَعْمَى،
وَمَعَهُ ابْنٌ لَهُ، فَقَالَ لِلأَعْمَى ابْنُهُ:
هَذَا أَبُوكَ قَابِيلُ، فَرَمَى الأَعْمَى أَبَاهُ قَابِيلَ فَقَتَلَهُ، فَقَالَ
ابْنُ الأَعْمَى: قَتَلْتَ
(1/143)
يَا أَبَتَاهُ أَبَاكَ،
فَرَفَعَ الأَعْمَى يَدَهُ، فَلَطَمَ ابْنَهُ فَمَاتَ ابْنُهُ، فَقَالَ الأَعْمَى:
وَيْلٌ لِي! قَتَلْتُ أَبِي بِرَمْيَتِي، وَقَتَلْتُ ابْنِي بِلَطْمَتِي! وَذُكِرَ
فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ هَابِيلَ قُتِلَ وَلَهُ عِشْرُونَ سَنَةً، وَأَنَّ
قَابِيلَ كَانَ لَهُ يَوْمَ قَتَلَهُ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً.
وَالصَّحِيحُ مِنَ الْقَوْلِ عِنْدَنَا أَنَّ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ فِي
كِتَابِهِ أَنَّهُ قتل أخاه من ابنى آدم هو ابن آدَمَ لِصُلْبِهِ، لِنَقْلِ
الْحُجَّةِ أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَأَنَّ هَنَّادَ بْنَ السَّرِيِّ حَدَّثَنَا،
قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ وَوَكِيعٌ جَمِيعًا عَنِ الأَعْمَشِ.
- وَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ وَحَدَّثَنَا ابْنُ
وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ وَأَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الأَعْمَشِ- عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: [قَالَ
النَّبِيُّ ص: مَا مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمًا إِلا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ
الأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا،] وَذَلِكَ لأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ.
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ-
وَحَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي- جَمِيعًا عَنْ سُفْيَانَ،
عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ، عن النبي ص نَحْوَهُ.
فَقَدْ بَيَّنَ هَذَا الْخَبَرُ عَنْ رَسُولِ الله ص صِحَّةَ قَوْلِ مَنْ قَالَ:
إِنَّ اللَّذَيْنِ قَصَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ قِصَّتَهُمَا مِنَ ابْنَيْ آدَمَ
كَانَا ابْنَيْهِ لِصُلْبِهِ، لأَنَّهُ لا شَكَّ أَنَّهُمَا لَوْ كَانَا مِنْ
بَنِي إِسْرَائِيلَ- كَمَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ- لَمْ يَكُنِ الَّذِي وُصِفَ
مِنْهُمَا بِأَنَّهُ قَتَلَ أَخَاهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ، إِذْ كَانَ الْقَتْلَ
فِي بَنِي آدَمَ قَدْ كَانَ قَبْلَ إِسْرَائِيلَ وَوَلَدِهِ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا بُرْهَانُكَ عَلَى أَنَّهُمَا وَلَدَا آدَمَ
لِصُلْبِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُونَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ؟
(1/144)
قِيلَ: لا خِلافَ بَيْنَ
سَلَفِ عُلَمَاءِ أُمَّتِنَا في ذلك، إذا فَسَدَ قَوْلُ مَنْ قَالَ:
كَانَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَذُكِرَ أَنَّ قَابِيلَ لَمَّا قَتَلَ أَخَاهُ
هابيل بكاه آدم ع فَقَالَ- فِيمَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا
سَلَمَةُ، عَنْ غِيَاثِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيِّ،
قَالَ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: لَمَّا قَتَلَ
ابْنُ آدَمَ أَخَاهُ بَكَاهُ آدَمُ، فَقَالَ:
تَغَيَّرَتِ الْبِلادُ ومن عليها ... فوجه الأَرْضِ مُغْبَرٌّ قَبِيحُ
تَغَيَّرَ كُلُّ ذِي طَعْمٍ وَلَوْنٍ ... وَقَلَّ بَشَاشَةُ الْوَجْهِ الْمَلِيحِ
قَالَ: فَأُجِيبَ آدم ع:
أَبَا هَابِيلَ قَدْ قُتِلا جَمِيعًا ... وَصَارَ الْحَيُّ كَالْمَيْتِ الذَّبِيحِ
وَجَاءَ بِشِرَّةٍ قَدْ كَانَ مِنْهَا ... عَلَى خَوْفٍ فَجَاءَ بِهَا يَصِيحُ
وَذُكِرَ أَنَّ حواء ولدت لادم ع عِشْرِينَ وَمِائَةَ بَطْنٍ، أَوَّلُهُمْ
قَابِيلُ وَتَوْءَمَتُهُ قلِيمَا، وَآخِرُهُمْ عَبْدُ الْمُغِيثِ وَتَوْءَمَتُهُ
أَمَةُ الْمُغِيثِ.
وَأَمَّا ابْنُ إِسْحَاقَ فَذُكِرَ عَنْهُ مَا قَدْ ذَكَرْتُ قَبْلُ، وَهُوَ أَنَّ
جَمِيعَ مَا وَلَدَتْهُ حَوَّاءُ لآدَمَ لِصُلْبِهِ أَرْبَعُونَ مِنْ ذَكَرٍ
وَأُنْثَى فِي عِشْرِينَ بَطْنًا، وَقَالَ: قَدْ بَلَغَنَا أَسْمَاءُ بَعْضِهِمْ
وَلَمْ يَبْلُغْنَا بَعْضٌ.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، قال:
فكان من بلغنا اسمه خمسة عشر رجلا وأربع نسوة، منهم قين وتوءمته، وهابيل وليوذا
وأشوث بنت آدم وتوءمها، وشيث وتوءمته، وحزورة وتوءمها، على
(1/145)
ثلاثين ومائه سنه من عمره ثم
اباد بن آدم وتوءمته، ثم بالغ بن آدم وتوءمته، ثم أثاثي بن آدم وتوءمته، ثم توبه
بن آدم وتوءمته، ثم بنان ابن آدم وتوءمته، ثم شبوبة بن آدم وتوءمته، ثم حيان بن
آدم وتوءمته، ثم ضرابيس بن آدم وتوءمته، ثم هذر بن آدم وتوءمته، ثم يحود بن آدم
وتوءمته، ثم سندل بن آدم وتوءمته، ثم بارق بن آدم وتوءمته، كل رجل منهم تولد معه
امرأة في بطنه الذي يحمل به فيه.
وقد زعم أكثر علماء الفرس أن جيومرت هو آدم، وزعم بعضهم أنه ابن آدم لصلبه من
حواء.
وقال فيه غيرهم أقوالا كثيرة، يطول بذكر أقوالهم الكتاب، وتركنا ذكر ذلك إذ كان
قصدنا في كتابنا هذا ذكر الملوك وأيامهم، وما قد شرطنا في كتابنا هذا أنا ذاكروه
فيه، ولم يكن ذكر اختلاف المختلفين في نسب ملك من جنس ما أنشأنا له صنعة الكتاب،
فإن ذكرنا من ذلك شيئا فلتعريف من ذكرنا، ليعرفه من لم يكن به عارفا، فأما ذكر
الاختلاف في نسبه فإنه غير المقصود به في كتابنا هذا.
وقد خالف علماء الفرس فيما قالوا من ذلك آخرون من غيرهم ممن زعم أنه آدم، ووافق
علماء الفرس على اسمه وخالفه في عينه وصفته، فزعم أن
(1/146)
جيومرت الذى زعمت الفرس انه
آدم ع انما هو جامر بن يافث ابن نوح، وأنه كان معمرا سيدا، نزل جبل دنباوند من
جبال طبرستان من أرض المشرق، وتملك بها وبفارس، ثم عظم أمره وأمر ولده، حتى ملكوا
بابل، وملكوا في بعض الأوقات الأقاليم كلها، وأن جيومرت منع من البلاد ما صار
إليه، وابتنى المدن والحصون وعمرها، وأعد السلاح، واتخذ الخيل، وأنه تجبر في آخر
عمره، وتسمى بآدم، وقال: من سماني بغير هذا الاسم ضربت عنقه، وأنه تزوج ثلاثين
امرأة، فكثر منهن نسله، وأن ماري ابنه وماريانة أخته، ممن كان ولد له في آخر عمره،
فأعجب بهما وقدمهما، فصار الملوك بذلك السبب من نسلهما، وأن ملكه اتسع وعظم.
وإنما ذكرت من أمر جيومرت في هذا الموضع ما ذكرت، لأنه لا تدافع بين علماء الأمم
أن جيومرت هو أبو الفرس من العجم، وإنما اختلفوا فيه:
هل هو آدم أبو البشر على ما قاله الذين ذكرنا قولهم أم هو غيره؟ ثم مع ذلك فلأن
ملكه وملك أولاده لم يزل منتظما على سياق، متسقا بأرض المشرق وجبالها إلى أن قتل
يزدجرد بن شهريار من ولد ولده بمرو- أبعده الله- أيام عثمان بن عفان رضي الله عنه،
فتأريخ ما مضى من سني العالم على أعمار ملوكهم أسهل بيانا، وأوضح منارا منه على
أعمار ملوك غيرهم من الأمم، إذ لا تعلم أمة من الأمم الذين ينتسبون الى آدم ع دامت
لها المملكة، واتصل لهم الملك، وكانت لهم ملوك تجمعهم، ورءوس تحامي عنهم من
ناوأهم، وتغالب بهم من عازهم، وتدفع ظالمهم عن مظلومهم، وتحملهم من الأمور على ما
فيه حظهم
(1/147)
على اتصال ودوام ونظام، يأخذ
ذلك آخرهم عن أولهم، وغابرهم عن سالفهم- سواهم، فالتأريخ على أعمار ملوكهم أصح
مخرجا، وأحسن وضوحا.
وأنا ذاكر ما انتهى إلينا من القول في عمر آدم ع وأعمار من كان بعده من ولده الذين
خلفوه في النبوة والملك، على قول من خالف قول الفرس الذين زعموا أنه جيومرت، وعلى
قول من قال: إنه هو جيومرت أبو الفرس، وذاكر ما اختلفوا فيه من أمرهم إلى الحال
التي اجتمعوا عليها، فاتفقوا على من ملك منهم في زمان بعينه أنه كان هو الملك في
ذلك الزمان إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَلا حول وَلا قوة إلا بالله، ثم سائق ذلك كذلك
إلى زماننا هذا.
ونرجع الآن إلى الزيادة في الإبانة عن خطإ قول من قال: إن أول ميت كان في أول
الارض آدم، وإنكاره الذين قص الله نبأهما في قوله:
«وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً» ،
أن يكونا من صلب آدم من أجل ذلك.
فَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ
عَبْدِ الْوَارِثِ، قال: حدثنا عُمَرُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ
الْحَسَنِ، عن سمره بن جندب، [عن النبي ع قَالَ: كَانَتْ حَوَّاءُ لا يَعِيشُ
لَهَا وَلَدٌ، فَنَذَرَتْ لِئَنْ عَاشَ لَهَا وَلَدٌ لَتُسَمِّيَنَّهُ عَبْدَ
الْحَارِثِ، فَعَاشَ لَهَا وَلَدٌ فَسَمَّتْهُ عَبْدَ الْحَارِثِ، وانما كان ذلك
عن وحى الشيطان] .
وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ
الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَتْ حَوَّاءُ
تَلِدُ لآدَمَ فَتُعَبِّدُهُمُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَتُسَمِّيهِمْ: عَبْدَ
اللَّهِ، وَعُبَيْدَ اللَّهِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ،
(1/148)
فيصيبهم الموت، فأتاها ابليس
وآدم ع، فَقَالَ: إِنَّكُمَا لَوْ تُسَمِّيَانَهُ بِغَيْرِ الَّذِي تُسَمِّيَانَهُ
بِهِ لَعَاشَ، فَوَلَدَتْ لَهُ ذَكَرًا، فَسَمَّيَاهُ عَبْدَ الْحَارِثِ، فَفِيهِ
أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ ذِكْرُهُ، يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «هُوَ الَّذِي
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ» ، إِلَى قَوْلِهِ: «جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما
آتاهُما» الى آخر الآية حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا ابن فضيل، عن سالم بن أبي
حفصة، عن سعيد بن جبير: «فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما» الى
قوله:
«فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ» .
قال: ولما حملت حواء في أول ولد ولدته حين أثقلت أتاها إبليس قبل أن تلد فقال: يا
حواء، ما هذا في بطنك؟ فقالت: ما ادرى من؟ فقال:
أين يخرج؟ من أنفك؟ أو من عينك؟ أو من أذنك؟ قالت: لا أدري، قال: أرأيت إن خرج
سليما أمطيعتي أنت فيما آمرك به؟ قالت: نعم، قال:
سميه عبد الحارث- وقد كان يسمى إبليس لعنه الله الحارث- فقالت: نعم، ثم قالت بعد
ذلك لآدم: أتاني آت في النوم فقال لي: كذا وكذا، فقال: ان ذاك الشيطان فاحذريه،
فإنه عدونا الذي أخرجنا من الجنة، ثم أتاها إبليس لعنه الله فأعاد عليها، فقالت:
نعم، فلما وضعته أخرجه الله سليما فسمته عبد الحارث، فهو قوله: «جَعَلا لَهُ
شُرَكاءَ فِيما آتاهُما» الى قوله: «فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ» .
حَدَّثَنَا ابن وكيع، قال: حَدَّثَنَا جرير وابن فضيل، عن عبد الملك، عن سعيد بن
جبير، قال: قيل له: أشرك آدم؟ قال: اعوذ بالله ان ازعم ان آدم ع أشرك! ولكن حواء
لما أثقلت أتاها إبليس
(1/149)
فقال لها: من أين يخرج هذا؟ من
أنفك، أو من عينك، أو من فيك؟
فقنطها، ثم قال: أرأيت إن خرج سويا- قال ابن وكيع: زاد ابن فضيل:
لم يضرك ولم يقتلك- أتطيعينني؟ قالت: نعم، قال: فسميه عبد الحارث، ففعلت- زاد
جرير: فإنما كان شركه في الاسم.
حَدَّثَنَا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال:
حَدَّثَنَا أسباط، عن السدي: فولدت- يعني حواء- غلاما، فأتاها إبليس فقال: سموه
عبدي، وإلا قتلته، قال له آدم: قد أطعتك وأخرجتني من الجنة فأبى أن يطيعه، فسماه
عبد الرحمن، فسلط عليه إبليس لعنه الله فقتله، فحملت بآخر فلما ولدته، قال: سميه
عبدى والا قتلته، قال له آدم ع: قد أطعتك فأخرجتني من الجنة فأبى فسماه صالحا،
فقتله، فلما كان الثالث قال لهما: فإذ غلبتموني فسموه عبد الحارث، وكان اسم إبليس
الحارث، - وإنما سمى ابليس حين ابلس تحير- فذلك حين يقول الله عز وجل: «جَعَلا
لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما» - يعني في الأسماء.
فهؤلاء الذين ذكرت الرواية عنهم بما ذكرت، من أنه مات لآدم وحواء أولاد قبلهما،
ومن لم نذكر أقوالهم ممن عددهم أكثر من عدد من ذكرت قوله والرواية عنه، قالوا خلاف
قول الحسن الذي روي عنه أنه قال: أول من مات آدم ع.
وكان آدم مع ما كان الله عز وجل قد أعطاه من ملك الأرض والسلطان فيها قد نبأه،
وجعله رسولا إلى ولده، وأنزل عليه إحدى وعشرين صحيفة كتبها آدم ع بخطه، علمه إياها
جبرئيل ع.
وَقَدْ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَهْبٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنِي الْمَاضِي بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي
سُلَيْمَانَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ
(1/150)
أَبِي إِدْرِيسَ
الْخَوْلانِيِّ، [عَنْ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ، قال: دخلت المسجد فإذا رسول
الله ص جالس وحده، فجلست اليه فقال لي: يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّ لِلْمَسْجِدِ
تَحِيَّةً وَإِنَّ تَحِيَّتَهُ رَكْعَتَانِ، فَقُمْ فَارْكَعْهُمَا، فَلَمَّا
رَكَعْتُهُمَا جَلَسْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ
أَمَرْتَنِي بِالصَّلاةِ فَمَا الصَّلاةُ؟ قَالَ: خَيْرُ مَوْضُوعٍ، اسْتُكْثِرَ
أَوِ اسْتُقِلَّ، ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةً طَوِيلَةً قَالَ فِيهَا: قُلْتُ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، كَمِ الأَنْبِيَاءُ؟ قَالَ: مِائَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ
وَعِشْرُونَ أَلْفًا، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَمِ الْمُرْسَلُ مِنْ
ذلك؟ قال: ثلاثمائة وَثَلاثَةَ عَشَرَ جَمًّا غَفِيرًا، يَعْنِي كَثِيرًا
طَيِّبًا، قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ كَانَ أَوَّلَهُمْ؟ قَالَ:
آدَمُ، قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَآدَمُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ؟ قَالَ:
نَعَمْ خَلَقَهُ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، ثُمَّ سَوَّاهُ
قُبُلا] .
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، قال: حدثنى محمد ابن
إِسْحَاقَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، [عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قُلْتُ، يَا نَبِيَّ
اللَّهِ، أَنَبِيًّا كَانَ آدَمُ؟ قَالَ: نَعَمْ، كَانَ نَبِيًّا، كَلَّمَهُ
اللَّهُ قُبُلا] .
وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى آدَمَ تَحْرِيمُ
الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَحُرُوفُ الْمُعْجَمِ فِي إِحْدَى
وعشرين ورقه
(1/151)
ذكر ولادة حواء شيثا
ولما مضى لآدم ص من عمره مائة وثلاثون سنة، وذلك بعد قتل قابيل هابيل بخمس سنين،
ولدت له حواء ابنه شيثا، فذكر أهل التوراة أن شيثا ولد فردا بغير توءم، وتفسير شيث
عندهم هبة الله، ومعناه أنه خلف من هابيل.
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ:
أَخْبَرَنَا هِشَامٌ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قَالَ:
وَلَدَتْ حَوَّاءُ لآدَمَ شِيثًا وَأُخْتَهُ عَزْوَرَا، فَسُمِّيَ هَبَةُ اللَّهِ،
اشْتُقَّ لَهُ مِنْ هَابِيلَ، قال لها جبرئيل حِينَ وَلَدَتْهُ: هَذَا هِبَةُ
اللَّهِ بَدَلُ هَابِيلَ، وهو بالعربية شث، وبالسريانية شَاثَ،
وَبِالْعِبْرَانِيَّةِ شِيثُ، وَإِلَيْهِ أَوْصَى آدَمُ، وَكَانَ آدَمُ يَوْمَ
وُلِدَ لَهُ شِيثُ ابْنُ ثَلاثِينَ وَمِائَةِ سَنَةٍ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
إِسْحَاقَ، قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ آدَمَ الْوَفَاةُ- فِيمَا يَذْكُرُونَ
وَاللَّهُ أَعْلَمُ- دَعَا ابْنَهُ شِيثًا فَعَهِدَ إِلَيْهِ عَهْدَهُ،
وَعَلَّمَهُ سَاعَاتِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَعْلَمَهُ عِبَادَةَ الْخَلْقِ
فِي كُلِّ سَاعَةٍ مِنْهُنَّ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّ لِكُلِّ سَاعَةٍ صِنْفًا مِنَ
الْخَلْقِ فِيهَا عِبَادَتُهُ وَقَالَ لَهُ: يَا بُنَيَّ إِنَّ الطُّوفَانَ
سَيَكُونُ فِي الأَرْضِ يَلْبَثُ فِيهَا سَبْعَ سِنِينَ وَكَتَبَ وَصِيَّتَهُ،
فَكَانَ شيث- فيما ذكر- وصى ابيه آدم ع، وَصَارَتِ الرِّيَاسَةُ مِنْ بَعْدِ
وَفَاةِ آدَمَ لِشِيثٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِيمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ
الله ص خَمْسِينَ صَحِيفَةً.
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَهْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا
عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمَاضِي بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ،
عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلانِيِّ، [عَنْ
أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَمْ
(1/152)
كِتَابٍ أَنْزَلَهُ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ؟ قَالَ: مِائَةُ كتاب واربعه كتب، انزل الله على شيث خَمْسِينَ
صَحِيفَةً] .
وَإِلَى شِيثَ أَنْسَابُ بَنِي آدَمَ كُلِّهِمُ الْيَوْمَ، وَذَلِكَ أَنَّ نَسْلَ
سَائِرِ وَلَدِ آدَمَ غَيْرَ نَسْلِ شِيثَ، انْقَرَضُوا وَبَادُوا فَلَمْ يَبْقَ
مِنْهُمْ أَحَدٌ، فَأَنْسَابُ النَّاسِ كُلِّهِمُ الْيَوْمَ الى شيث ع.
وَأَمَّا الْفُرْسُ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ جِيُومِرْتَ هُوَ آدم، فإنهم قالوا:
ولد لجيومرت ابنه ميشى، وتزوج ميشى اخته ميشانه فولدت له سيامك بن ميشى، وسيامى
ابنه ميشى، فولد لسيامك بن ميشى بن جيومرت افرواك، وديس، وبراسب، واجوب، وأوراش
بنو سيامك، وأفرى، ودذى، وبرى وأوراشى بنات سيامك، أمهم جميعا سيامى بنت ميشى،
وَهِيَ أُخْتُ أَبِيهِمْ.
وَذَكَرُوا أَنَّ الأَرْضَ كُلَّهَا سَبْعَةُ أَقَالِيمَ، فَأَرْضُ بَابِلَ وَمَا
يوصلُ إِلَيْهِ مِمَّا يَأْتِيهِ النَّاسُ بَرًّا أَوْ بَحْرًا فَهُوَ إِقْلِيمٌ
وَاحِدٌ، وَسُكَّانُهُ نَسْلُ وَلَدِ أفرواك بْنِ سيامكَ وَأَعْقَابُهُمْ،
وَأَمَّا الأَقَالِيمُ السِّتَّةُ الْبَاقِيَةِ الَّتِي لا يوصلُ إِلَيْهَا
الْيَوْمَ بَرًّا أَوْ بَحْرًا فَنَسْلُ سَائِرِ وَلَدِ سيامكَ، مِنْ بَنِيهِ
وَبَنَاتِهِ.
فَوُلِدَ لأفرواك بْنِ سيامك مِنْ أَفْرَى بِنْتِ سيامِكَ هُوشنكُ بيشدَاذَ
الْمَلِكُ، وَهُوَ الَّذِي خَلَفَ جَدَّهُ جيومرتَ فِي الْمُلْكِ، وَأَوَّلُ مَنْ
جُمِعَ لَهُ مُلْكُ الأَقَالِيمِ السَّبْعَةِ، وَسَنَذْكُرُ أَخْبَارَهُ إِنْ
شَاءَ اللَّهُ إِذَا انْتَهَيْنَا إِلَيْهِ وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَزْعُمُ أَنَّ
أوشهنجَ هَذَا، هُوَ ابْنُ آدَمَ لِصُلْبِهِ مِنْ حَوَّاءَ.
وَأَمَّا هِشَامٌ الْكَلْبِيُّ فَإِنَّهُ فِيمَا حَدَّثْتُ عَنْهُ قَالَ:
بَلَغَنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أَوَّلَ مَلِكٍ مَلَكَ الأَرْضَ أوشهنقُ بْنُ
عَابرِ بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح قال:
(1/153)
وَالْفُرْسُ تَدَّعِيهِ
وَتَزْعُمُ أَنَّهُ كَانَ بَعْدَ وَفَاةِ آدَمَ بِمِائَتَيْ سَنَةٍ، قَالَ:
وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا الْمَلِكُ فِيمَا بَلَغَنَا بَعْدَ نُوحٍ بِمِائَتَيْ
سَنَةٍ، فَصَيَّرَهُ أَهْلُ فَارِسَ بَعْدَ آدَمَ بِمِائَتَيْ سَنَةٍ، وَلَمْ
يَعْرِفُوا مَا كَانَ قَبْلَ نُوحٍ.
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ هِشَامٌ قَوْلٌ لا وَجْهَ لَهُ، لأَنَّ هوشهنكَ الْمِلكَ
فِي أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِأَنْسَابِ الْفُرْسِ أَشْهَرُ مِنَ الْحَجَّاجِ بْنِ
يُوسُفَ فِي أَهْلِ الإِسْلامِ، وَكُلُّ قَوْمٍ فَهُمْ بِآبَائِهِمْ
وَأَنْسَابِهِمْ وَمَآثِرِهِمْ أَعْلَمُ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ فِي
كُلِّ أَمْرٍ الْتَبَسَ إِلَى أَهْلِهِ.
وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ نَسَّابَةُ الْفُرْسِ أَنَّ أوشهنجَ بيشداذَ الْمَلِكَ هَذَا
هُوَ مهلائيلُ، وَأَنَّ أَبَاهُ فرواكَ هُوَ قينانُ أَبُو مهلائيلَ، وَأَنَّ
سيامكَ هُوَ أنوشُ ابو قينان، وان ميشى هُوَ شيثَ أَبُو أنوشَ، وَأَنَّ جيومرتَ
هُوَ آدم ص.
فَإِنْ كَانَ الأَمْرُ كَمَا قَالَ، فَلا شَكَّ أَنَّ أوشهنجَ كَانَ فِي زَمَانِ
آدَمَ رَجُلا، وذلك ان مهلائيل فيما ذكر في الكتاب الأُوَلِ كَانَتْ وِلادَةُ
أُمِّهِ دينةَ ابنةِ براكيلَ ابن محويل بن خنوخ بن قين بن آدم إِيَّاهُ بَعْدَ مَا
مَضَى مِنْ عُمْرِ آدَمَ ص ثلاثمائة سَنَةٍ وَخَمْسٌ وَتِسْعُونَ سَنَةً، فَقَدْ
كَانَ لَهُ حين وفاه آدم ستمائه سنه وخمسين سِنِينَ، عَلَى حِسَابِ مَا رُوِيَ
عَنْ رَسُولِ الله ص فِي عُمْرِ آدَمَ أَنَّهُ كَانَ عُمْرُهُ أَلْفَ سَنَةٍ.
وَقَدْ زَعَمَتْ عُلَمَاءُ الْفُرْسِ أَنَّ مَلِكَ أوشهنجَ هَذَا كَانَ
أَرْبَعِينَ سَنَةً فَإِنْ كَانَ الأَمْرُ فِي هَذَا الْمَلِكِ كَالَّذِي قَالَهُ
النَّسَّابَةُ الَّذِي ذَكَرْتُ عَنْهُ مَا ذَكَرْتُ فَلَمْ يَبْعُدْ مَنْ قَالَ:
إِنَّ مُلْكَهُ كَانَ بَعْدَ وَفَاةِ آدم ص بمائتي سنه
(1/154)
ذكر وفاه آدم ع
اختلف في مدة عمره، وابن كم كان يوم قبضه الله عز وجل إليه.
فأما الاخبار عن رسول الله ص فإنها واردة بما حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ خَلَفٍ
الْعَسْقَلانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ سُلَيْمَانُ بْنُ حَيَّانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ
بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سلمه، عن ابى هريرة عن النبي ص- قَالَ أَبُو خَالِدٍ:
وحدثني الأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي صالح عن ابى هريرة عن النبي ص قَالَ أَبُو خَالِدٍ:
وحدثني دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ
النبي ص قَالَ أَبُو خَالِدٍ: وحدثني ابْنُ أَبِي ذُبَابٍ الدَّوْسِيُّ، قَالَ:
حَدَّثَنَا سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ وَيَزِيدُ بْنُ هرمز، عن ابى هريرة، [عن النبي
ص- أَنَّهُ قَالَ: خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ،
وَأَمَرَ الْمَلائِكَةَ فَسَجَدُوا لَهُ، فَجَلَسَ فَعَطَسَ فَقَالَ: الْحَمْدُ
لِلَّهِ، فَقَالَ لَهُ ربه: يرحمك ربك، ايت أُولَئِكَ الْمَلأَ مِنَ الْمَلائِكَةِ
فَقُلْ لَهُمُ: السَّلامُ عليكم، فأتاهم فقال لهم: السلام عليكم قالوا لَهُ:
وَعَلَيْكَ السَّلامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى رَبِّهِ فَقَالَ
لَهُ: هَذِهِ تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ قَبَضَ لَهُ
يَدَيْهِ، فَقَالَ له: خُذْ وَاخْتَرْ، قَالَ:
اخْتَرْتُ يَمِينَ رَبِّي وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، فَفَتَحَهَا لَهُ، فَإِذَا
فِيهَا صُورَةُ آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ كُلِّهِمْ، فَإِذَا كُلُّ رَجُلٍ مَكْتُوبٌ
عِنْدَهُ أَجَلُهُ، وَإِذَا آدَمُ قَدْ كُتِبَ لَهُ عُمْرُ أَلْفِ سَنَةٍ، وَإِذَا
قَوْمٌ عَلَيْهِمِ النُّورُ، فَقَالَ: يَا رَبِّ، مَنْ هَؤُلاءِ الَّذِينَ
عَلَيْهِمِ النُّورُ، فَقَالَ: هَؤُلاءِ الأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ الَّذِينَ
أُرْسِلُ إِلَى عِبَادِي، وَإِذَا فِيهِمْ رَجُلٌ هُوَ أَضْوَءُهُمْ نُورًا،
وَلَمْ يُكْتَبْ لَهُ مِنَ الْعُمْرِ إِلا اربعون سنه، فقال: يا رب، ما بال هذا،
من اضوئهم نُورًا وَلَمْ يُكْتَبْ لَهُ مِنَ الْعُمْرِ إِلا أَرْبَعُونَ سَنَةً؟
فَقَالَ:
ذَاكَ مَا كُتِبَ لَهُ، فَقَالَ: يَا رَبِّ، انْقُصْ لَهُ مِنْ عُمْرِي ستين سنه
فقال رسول الله ص: فَلَمَّا أَسْكَنَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ ثُمَّ أُهْبِطَ إِلَى
الأَرْضِ كَانَ يَعُدُّ
(1/155)
أَيَّامَهُ، فَلَمَّا أَتَاهُ
مَلَكُ الْمَوْتِ لِيَقْبِضَهُ قَالَ لَهُ آدَمُ: عَجِلْتَ عَلَيَّ يَا مَلَكَ
الْمَوْتِ! فَقَالَ: مَا فَعَلْتُ، فَقَالَ: قَدْ بَقِيَ مِنْ عُمْرِي سِتُّونَ
سَنَةً، فَقَالَ لَهُ مَلَكُ الْمَوْتِ:
مَا بَقِيَ مِنْ عُمْرِكَ شَيْءٌ، قَدْ سَأَلْتَ رَبَّكَ أَنْ يَكْتُبَهُ لابْنِكَ
دَاوُدَ، فَقَالَ:
مَا فعلت فقال: رسول الله ص: فَنَسِيَ آدَمُ، فَنَسِيَتْ ذُرِّيَّتُهُ، وَجَحَدَ
آدَمُ فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُهُ، فَيَوْمَئِذٍ وَضَعَ اللَّهُ الْكِتَابَ، وَأَمَرَ
بِالشُّهُودِ] .
حَدَّثَنِي ابْنُ سِنَانٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ:
حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ
مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: [لَمَّا نَزَلَتْ «آيَةُ الدين» قال رسول
الله ص: ان أول من جحد آدم ع ثَلاثَ مَرَّاتٍ، وَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى لَمَّا خَلَقَهُ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَأَخْرَجَ مِنْهُ مَا هُوَ ذَارٍ
إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَجَعَلَ يَعْرِضُهُمْ عَلَى آدَمَ، فَرَأَى فِيهِمْ
رَجُلا يَزْهَرُ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، أَيُّ نَبِيٍّ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا ابْنُكَ
دَاوُدُ، قَالَ: أَيْ رَبِّ، كَمْ عُمْرُهُ؟ قَالَ: سِتُّونَ سَنَةً، قَالَ: أَيْ
رَبِّ، زِدْهُ فِي عُمْرِهِ، قَالَ: لا، إِلا أَنْ تَزِيدَهُ أَنْتَ مِنْ
عُمْرِكَ، وَكَانَ عُمْرُ آدَمَ أَلْفَ سَنَةٍ، فَوَهَبَ لَهُ مِنْ عُمْرِهِ
أَرْبَعِينَ عَامًا، فَكَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ كِتَابًا وَأَشْهَدَ
عَلَيْهِ الْمَلائِكَةَ، فَلَمَّا احْتُضِرَ آدَمُ أَتَتْهُ الْمَلائِكَةُ
لِتَقْبِضَ رُوحَهُ، قَالَ: إِنَّهُ قَدْ بَقِيَ مِنْ عُمْرِي أَرْبَعُونَ سَنَةً،
قَالُوا: إِنَّكَ قَدْ وَهَبْتَهَا لابْنِكَ دَاوُدَ، قَالَ: مَا فَعَلْتُ وَلا
وَهَبْتُ لَهُ شَيْئًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْكِتَابَ، وَأَقَامَ
عَلَيْهِ الْمَلائِكَةَ شُهُودًا، فَأَكْمَلَ لآدَمَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَأَكْمَلَ
لِدَاوُدَ مِائَةَ سَنَةٍ] .
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي
عَمِّي، قَالَ:
حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ عز وجل: «وَإِذْ
أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ» إِلَى
قَوْلِهِ: «قالُوا بَلى شَهِدْنا» ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ
وَجَلَّ لَمَّا خَلَقَ آدَمَ مَسَحَ ظَهْرَهُ، وَأَخْرَجَ ذُرِّيَّتَهُ
(1/156)
كُلَّهُمْ كَهَيْئَةِ
الذَّرِّ، فَأَنْطَقَهُمْ فَتَكَلَّمُوا، وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ،
وَجَعَلَ مَعَ بَعْضِهِمُ النُّورَ وَأَنَّهُ قَالَ لآدَمَ: هَؤُلاءِ ذُرِّيَّتُكَ
أُخِذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقُ:
أَنِّي أَنَا رَبُّهُمْ لِئَلا يُشْرِكُوا بِي شَيْئًا، وَعَلَيَّ رِزْقُهُمْ
قَالَ آدَمُ: فَمَنْ هَذَا الَّذِي مَعَهُ النُّورُ؟ قَالَ: هُوَ دَاوُدُ، قَالَ:
يَا رَبِّ، كَمْ كَتَبْتَ لَهُ مِنَ الأَجَلِ؟
قَالَ: سِتِّينَ سَنَةً، قَالَ: كَمْ كَتَبْتَ لِي؟ قَالَ: أَلْفَ سَنَةٍ، وَقَدْ
كَتَبْتُ لِكُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ: كَمْ يُعَمَّرُ، وَكَمْ يَلْبَثُ، قَالَ:
يَا رَبِّ زِدْهُ، قَالَ: هَذَا الْكِتَابُ مَوْضُوعٌ فَأَعْطِهِ إِنْ شِئْتَ مِنْ
عُمْرِكَ، قَالَ: نَعَمْ، وَقَدْ جَفَّ الْقَلَمُ عَنْ سَائِرِ بَنِي آدَمَ،
فَكُتِبَ لَهُ مِنْ أَجَلِ آدَمَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَصَارَ أَجَلُهُ مِائَةَ
سنه، فلما عمر تسعمائة سَنَةٍ وَسِتِّينَ سَنَةً جَاءَهُ مَلَكُ الْمَوْتِ،
فَلَمَّا ان رآه آدم قال:
ما لك؟ قَالَ لَهُ: قَدِ اسْتَوْفَيْتَ أَجَلَكَ، قَالَ لَهُ آدم: انما عمرت
تسعمائة سنه وستين سنه، وبقي لي أَرْبَعُونَ سَنَةً، فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ
لِلْمَلَكِ، قَالَ الْمَلَكُ:
قَدْ أَخْبَرَنِي بِهَا رَبِّي، قَالَ: فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَسَلْهُ،
فَرَجَعَ الْمَلَكُ إِلَى رَبِّهِ فقال:
مَالَكَ؟ قَالَ: يَا رَبِّ رَجَعْتُ إِلَيْكَ لِمَا كُنْتُ أَعْلَمُ مِنْ
تَكْرِمَتِكَ إِيَّاهُ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ارْجِعْ فَأَخْبِرْهُ،
أَنَّهُ قَدْ أَعْطَى ابْنَهُ دَاوُدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً.
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جعفر، قال: حدثنا
شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في هذه الآية: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ
بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ
أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ» ، قال: أخرجهم من ظهر آدم، وجعل لآدم عمر ألف سنة، قال:
فعرضوا على آدم، فرأى رجلا من ذريته له نور، فأعجبه فسأله عنه فقال: هو داود، وقد
جعل عمره ستين سنة، فجعل له من عمره اربعين سنه، فلما احتضر آدم ع جعل يخاصمهم في
الأربعين السنه، فقيل له: إنك قد أعطيتها داود، قال: فجعل يخاصمهم
(1/157)
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا
يعقوب، عن جعفر، عن سعيد، في قوله عز وجل: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي
آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ» قال: أخرج ذريته من ظهره في صورة كهيئة
الذر، فعرضهم على آدم بأسمائهم وأسماء آبائهم وآجالهم، قال: فعرض عليه روح داود في
نور ساطع، فقال: من هذا؟ قال: هذا من ذريتك، نبي خلقته، قال: كم عمره؟
قال: ستون سنة، قال: زيدوه من عمرى اربعين سنه، قال: والأقلام رطبه تجرى، واثبتت
لداود ع الأربعون، وكان عمر آدم ألف سنة، فلما استكملها إلا الأربعين سنة بعث إليه
ملك الموت قال: يا آدم أمرت أن أقبضك، قال: ألم يبق من عمري أربعون سنة؟ قال: فرجع
ملك الموت إلى ربه عز وجل فقال: إن آدم يدعي من عمره أربعين سنة، قال: أخبر آدم
أنه جعلها لابنه داود والأقلام رطبه، واثبتت لداود الاربعون.
حَدَّثَنَا ابن وكيع، قال: حَدَّثَنَا أبو داود، عن يعقوب، عن جعفر، عن سعيد،
بنحوه وذكر ان آدم ع مرض قبل موته أحد عشر يوما، وأوصى الى ابنه شيث ع وكتب وصيته،
ثم دفع كتاب وصيته إلى شيث، وأمره أن يخفيه من قابيل وولده، لأن قابيل قد كان قتل
هابيل حسدا منه حين خصه آدم بالعلم، فاستخفى شيث وولده بما عندهم من العلم، ولم
يكن عند قابيل وولده علم ينتفعون به ويزعم اهل التوراة ان عمر آدم ع كله كان
تسعمائة سنة.
وثلاثين سنة.
حَدَّثَنَا الْحَارِثُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ: أخبرني هشام ابن
محمد، قال: أخبرني أبي، عن أبي صالح، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ عُمْرُ
آدَمَ تسعمائة سَنَةٍ وَسِتًّا وَثَلاثِينَ سَنَةً، وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(1/158)
والاخبار الوارده عن رسول الله
ص والعلماء من سلفنا ما قد ذكرت، ورسول الله ص كان أعلم الخلق بذلك.
وقد ذكرت الأخبار الواردة عنه أنه قال: كان عمره ألف سنة، وأنه بعد ما جعل لابنه
داود من ذلك ما جعل له، أكمل الله له عدة ما كان أعطاه من العمر قبل أن يهب لداود
ما وهب له من ذلك، ولعل ما كان جعل من ذلك آدم ع لداود ع لم يحسب في عمر آدم في
التوراة، فقيل: كان عمره تسعمائة وثلاثين سنة.
فإن قال قائل: فإن الأمر وإن كان كذلك، فإن آدم إنما كان جعل لابنه داود من عمره
أربعين سنة، فكان ينبغى ان يكون في التوراة تسعمائة سنة وستون، ليوافق ذلك ما جاءت
به الاخبار عن رسول الله ص.
قيل: قد روينا عن رسول الله ص في ذلك أن الذي كان جعل آدم لابنه داود من عمره ستون
سنة، وذلك في رواية لأبي هريرة عنه، وقد ذكرناها قبل فإن يكن ذلك كذلك، فالذي
زعموا أنه في التوراة من الخبر عن مدة حياه آدم ع موافق لما روينا عن رسول الله ص
في ذلك.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، أنه قال: لما كتب آدم
الوصية مات صلوات الله عليه، واجتمعت عليه الملائكة من أجل أنه كان صفي الرحمن،
فقبرته الملائكة، وشيث وإخوته في مشارق الفردوس، عند قرية هي أول قرية كانت في
الأرض، وكسفت عليه الشمس والقمر سبعة أيام ولياليهن، فلما اجتمعت عليه الملائكة
وجمع الوصية، جعلها في معراج، ومعها القرن الذي أخرج أبونا آدم من الفردوس، لكيلا
يغفل عن ذكر الله عز وجل.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَحْيَى
بْنِ عَبَّادٍ، عَنْ أَبِيهِ، قال: سمعته يقول: بلغنى ان آدم ع حين
(1/159)
مَاتَ بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِ
بِكَفَنِهِ وَحَنُوطِهِ مِنَ الْجَنَّةِ، ثُمَّ وَلِيَتِ الْمَلائِكَةُ قَبْرَهُ
وَدَفْنَهُ حَتَّى غَيَّبُوهُ.
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ أَسْلَمَ، قَالَ:
حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنِ الْحَسَنِ،
[عَنِ النبي ص قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ آدَمُ غَسَّلَتْهُ الْمَلائِكَةُ
بِالْمَاءِ وِتْرًا، وَأَلْحَدُوا لَهُ، وَقَالَتْ:
هَذِهِ سُنَّةُ آدَمَ فِي وَلَدِهِ] .
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الحسن ابن
ذَكْوَانَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ،
قَالَ: [قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص: إِنَّ أَبَاكُمْ آدَمَ كَانَ طُوَالا
كَالنَّخْلَةِ السَّحُوقِ، سِتِّينَ ذِرَاعًا، كَثِيرَ الشَّعْرِ، مُوَارَى
الْعَوْرَةِ، وَأَنَّهُ لَمَّا أَصَابَ الْخَطِيئَةَ بَدَتْ لَهُ سَوْءَتُهُ
فَخَرَجَ هَارِبًا فِي الْجَنَّةِ فَتَلَقَّاهُ شَجَرَةٌ، فَأَخَذَتْ
بِنَاصِيَتِهِ، وَنَادَاهُ رَبُّهُ: أَفِرَارًا مِنِّي يَا آدَمُ! قَالَ: لا
وَاللَّهِ يَا رَبِّ وَلَكِنْ حَيَاءً مِنْكَ مما قد جَنَيْتُ، فَأَهْبَطَهُ
اللَّهُ إِلَى الأَرْضِ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِ
بِحَنُوطِهِ وَكَفَنِهِ مِنَ الْجَنَّةِ، فَلَمَّا رَأَتْ حَوَّاءُ الْمَلائِكَةَ
ذَهَبَتْ لِتَدْخُلَ دونهم اليه، فقال: خلى عَنِّي وَعَنْ رُسُلِ رَبِّي، فَإِنِّي
مَا لَقِيتُ مَا لَقِيتُ إِلا مِنْكِ، وَلا أَصَابَنِي مَا أَصَابَنِي إِلا فِيكِ
فَلَمَّا قُبِضَ غَسَّلُوهُ بِالسِّدْرِ وَالْمَاءِ وِتْرًا، وَكَفَّنُوهُ فِي
وِتْرٍ مِنَ الثِّيَابِ، ثُمَّ لَحَدُوا لَهُ فَدَفَنُوهُ،] ثُمَّ قَالُوا: هَذِهِ
سُنَّةُ وَلَدِ آدَمَ مِنْ بَعْدِهِ.
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ الْمِقْدَامِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ
سُلَيْمَانَ، قَالَ:
قَالَ أَبِي: - وَزَعَمَ قَتَادَةُ عَنْ صَاحِبٍ لَهُ حَدَّثَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ
كَعْبٍ قَالَ: [قال رسول الله ص: كَانَ آدَمُ رَجُلا طُوَّالا كَأَنَّهُ نَخْلَةٌ
سَحُوقٌ] .
حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ:
أَخْبَرَنِي هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: أخبرني أبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس
قال:
(1/160)
لما مات آدم ع قال شيث لجبرئيل
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا: صَلِّ عَلَى آدَمَ، قَالَ: تَقَدَّمْ أَنْتَ فَصَلِّ
عَلَى أَبِيكَ، وَكَبِّرْ عَلَيْهِ ثَلاثِينَ تَكْبِيرَةً، فَأَمَّا خَمْسٌ فَهِيَ
الصَّلاةُ، وَأَمَّا خمس وعشرون فتفضيلا لادم ص.
وقد اختلف في موضع قبر آدم ع، فَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ مَا قَدْ مَضَى ذِكْرُهُ،
وَأَمَّا غَيْرُهُ فَإِنَّهُ قَالَ: دُفِنَ بِمَكَّةَ فِي غَارِ أَبِي قُبَيْسٍ،
وَهُوَ غَارٌ يُقَالُ لَهُ غَارُ الْكَنْزِ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذلك، مَا حَدَّثَنِي بِهِ الْحَارِثُ، قَالَ:
حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا أبي، عن
أبي صالح، عن ابن عباس قَالَ: لَمَّا خَرَجَ نُوحٌ مِنَ السَّفِينَةِ دَفَنَ آدم ع
بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَقَدْ مَضَى ذِكْرُنَا الرِّوَايَةَ
بِذَلِكَ، فَكَرِهْنَا إِعَادَتَهُ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ مَا حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ:
حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي هشام بن محمد، قال: أخبرني أبي، عن
أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: مَاتَ آدم ع عَلَى بُوذَ- قَالَ أَبُو
جَعْفَرٍ يَعْنِي الْجَبَلَ الَّذِي أُهْبِطَ عَلَيْهِ- وَذَكَرَ أَنَّ حَوَّاءَ
عَاشَتْ بَعْدَهُ سَنَةً ثُمَّ مَاتَتْ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، فَدُفِنَتْ مَعَ
زَوْجِهَا فِي الْغَارِ الَّذِي ذَكَرْتُ، وَأَنَّهُمَا لَمْ يَزَالا
مَدْفُونَيْنِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، حَتَّى كَانَ الطُّوفَانُ،
فَاسْتَخْرَجَهُمَا نُوحٌ، وَجَعَلَهُمَا فِي تَابُوتٍ، ثُمَّ حَمَلَهُمَا مَعَهُ
فِي السَّفِينَةِ، فَلَمَّا غَاضَتِ الأَرْضُ الْمَاءَ رَدَّهُمَا إِلَى
مَكَانِهِمَا الَّذِي كَانَا فِيهِ قَبْلَ الطُّوفَانِ، وَكَانَتْ حَوَّاءُ قَدْ
غَزَلَتْ- فيما ذكر-
(1/161)
وَنَسَجَتْ وَعَجَنَتْ
وَخَبَزَتْ، وَعَمِلَتْ أَعْمَالَ النِّسَاءِ كُلَّهَا.
ونرجع الآن إلى قصة قابيل وخبره وأخبار ولده وأخبار شيث وخبر ولده- إذ كنا قد
أتينا من ذكر آدم وعدوه إبليس وذكر أخبارهما، وما صنع الله بإبليس إذ تجبر وتعظم
وطغى على ربه عز وجل فأشر وبطر نعمته التي أنعمها الله عليه، وتمادى في جهله وغيه،
وسأل ربه النظرة، فأنظره إلى يوم الوقت المعلوم، وما صنع الله بآدم صلوات الله
عليه إذ خطئ ونسي عهد الله من تعجيل عقوبته له على خطيئته، ثم تغمده إياه بفضله
ورحمته، إذ تاب إليه من زلته فتاب عليه وهداه، وأنقذه من الضلالة والردى- حتى نأتي
على ذكر من سلك سبيل كل واحد منهما، من تباع آدم ع على منهاجه وشيعة إبليس
والمقتدين به في ضلالته، إن شاء الله، وما كان من صنع الله تبارك وتعالى بكل فريق
منهم.
فاما شيث ع فقد ذكرنا بعض أمره، وأنه كان وصي ابيه آدم ع في مخلفيه بعد مضيه
لسبيله، وما أنزل الله عليه من الصحف.
وقيل: إنه لم يزل مقيما بمكة يحج ويعتمر إلى أن مات، وإنه كان جمع ما أنزل الله عز
وجل عليه من الصحف إلى صحف ابيه آدم ع، وعمل بما فيها، وإنه بنى الكعبة بالحجارة
والطين.
وأما السلف من علمائنا فإنهم قالوا: لم تزل القبة التي جعل الله لآدم في مكان
البيت إلى أيام الطوفان، وإنما رفعها الله عز وجل حين أرسل الطوفان.
وقيل: ان شيثا لما مرض أوصى ابنه أنوش ومات، فدفن مع أبويه في غار أبي قبيس، وكان
مولده لمضي مائتي سنة وخمس وثلاثين سنة، من عمر آدم
(1/162)
ع وكانت وفاته وقد أتت له
تسعمائة سنة واثنتا عشرة سنة.
وولد لشيث أنوش، بعد ان مضى من عمره ستمائه سنه وخمس سنين، فيما يزعم أهل التوراة.
وَأَمَّا ابْنُ إِسْحَاقَ، فَإِنَّهُ قَالَ فِيمَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ،
قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، عنه: نكح شيث بن آدم أخته حزورة ابنة
آدم، فولدت له يانش بن شيث، ونعمة ابنة شيث، وشيث يومئذ ابن مائة سنة وخمس سنين،
فعاش بعد ما ولد له يانش ثمانمائه سنة وسبع سنين.
وقام أنوش بعد مضي أبيه شيث لسبيله بسياسة الملك، وتدبير من تحت يديه من رعيته
مقام أبيه شيث، ولم يزل- فيما ذكر- على منهاج أبيه، لا يوقف منه على تغيير ولا
تبديل وكان جميع عمر أنوش- فيما ذكر أهل التوراة- تسعمائة سنة وخمس سنين.
حَدَّثَنِي الحارث، قال: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي هِشَامٌ،
قَالَ:
أَخْبَرَنِي أبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قَالَ: وَلَدَ شِيثٌ انُوشَ وَنَفَرًا
كَثِيرًا، وَإِلَيْهِ أَوْصَى شِيثٌ، ثُمَّ وُلِدَ لأُنُوشَ بْنِ شِيثِ بْنِ آدَمَ
ابْنُهُ قَيْنَانُ مِنْ أُخْتِهِ نِعْمَةَ ابْنَةِ شِيثٍ بَعْدَ مُضِيِّ تِسْعِينَ
سَنَةً مِنْ عمر انوش، ومن عمر آدم ثلاثمائة سَنَةٍ وَخَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً.
وَأَمَّا ابْنُ إِسْحَاقَ فَإِنَّهُ قَالَ فِيمَا حَدَّثَنَا ابن حميد، قال:
حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق: نكح يانش بن شيث أخته نعمة ابنه شيث، فولدت له
قينان، ويانش يومئذ ابن تسعين سنة، فعاش يانش بعد ما ولد له قينان ثمانمائه سنة
وخمس عشرة سنة، وولد له بنون وبنات، فكان كل ما عاش يانش تسعمائة سنة وخمس سنين ثم
نكح قينان بن يانش- وهو ابن
(1/163)
سبعين سنة- دينة ابنة براكيل
بن محويل بن خنوح بن قين بن آدم.
فولدت له مهلائيل بن قينان، فعاش قينان بعد ما ولد له مهلائيل ثمانمائه سنة
وأربعين سنة، فكان كل ما عاش قينان تسعمائة سنة وعشر سنين.
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي
هِشَامٌ، قَالَ:
أَخْبَرَنِي أبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قَالَ: وَلَدَ أَنُوشُ قِينَانَ،
وَنَفَرًا كَثِيرًا، وَإِلَيْهِ الْوَصِيَّةُ، فَوَلَدَ قِينَانُ مَهْلائِيلَ
وَنَفَرًا مَعَهُ، وَإِلَيْهِ الْوَصِيَّةُ، فَوَلَدَ مَهْلائِيلُ يردَ- وَهُوَ
الْياردَ- وَنَفَرًا مَعَهُ، وَإِلَيْهِ الْوَصِيَّةُ، فَوَلَدَ يردُ أَخنوخَ
وَهُوَ ادريس النبي ص ونفرا معه، فولد اخنوخ متوشلخَ وَنَفَرًا مَعَهُ وَإِلَيْهِ
الْوَصِيَّةُ، فَوَلَدَ متوشلخُ لمكَ وَنَفَرًا مَعَهُ وَإِلَيْهِ الْوَصِيَّةُ.
وَأَمَّا التَّوْرَاةُ فَمَا ذَكَرَهُ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنَّهُ فِيهَا أَنَّ
مَوْلِدَ مهلائيلَ بَعْدَ أَنْ مَضَتْ مِنْ عُمْرِ آدم ثلاثمائة سَنَةٍ وَخَمْسٌ
وَتِسْعُونَ سَنَةً، وَمِنْ عُمْرِ قينانَ سبعون سنه.
ونكح مهلائيل بْنُ قَينانَ- وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَسِتِّينَ سَنَةً، فيما
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق- خالته سمعن ابنة براكيل
ابن محويل بن خنوخ بن قين بن آدم، فولدت له يرد بن مهلائيل، فعاش مهلائيل بعد ما
ولد له يرد ثمانمائه سنة وثلاثين سنة، فولد له بنون وبنات، فكان كل ما عاش مهلائيل
ثمانمائه سنة وخمسا وتسعين سنة، ثم مات.
وأما في التوراة فإنه ذكر أن فيها أن يرد ولد لمهلائيل بعد ما مضى من عمر آدم
أربعمائة سنة وستون سنة، وأنه كان على منهاج أبيه قينان، غير أن الأحداث بدت في
زمانه
(1/164)
ذكر الأحداث التي كانت في أيام
بني آدم من لدن ملك شيث بن آدم إلى أيام يرد
ذكر أن قابيل لما قتل هابيل، وهرب من أبيه آدم إلى اليمن، أتاه إبليس، فقال له: إن
هابيل إنما قبل قربانه وأكلته النار، لأنه كان يخدم النار ويعبدها، فانصب أنت أيضا
نارا تكون لك ولعقبك فبنى بيت نار، فهو أول من نصب النار وعبدها.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: إن قينا نكح أخته
أشوث بنت آدم، فولدت له رجلا وامرأة: خنوخ بن قين، وعذب بنت قين، فنكح خنوخ بن قين
أخته عذب بنت قين، فولدت له ثلاثة نفر وامرأة: عيرد بن خنوخ ومحويل بن خنوخ
وأنوشيل بن خنوخ، وموليث بنت خنوخ، فنكح أنوشيل بن خنوخ موليث ابنة خنوخ، فولدت
لانوشيل رجلا اسمه لامك، فنكح لامك امرأتين: اسم إحداهما عدى واسم الاخرى صلى،
فولدت له عدى تولين بن لامك، فكان أول من سكن القباب، واقتنى المال، وتوبيش، وكان
أول من ضرب بالونج والصنج، وولدت رجلا اسمه توبلقين، فكان أول من عمل النحاس
والحديد، وكان أولادهم جبابرة وفراعنة، وكانوا قد أعطوا بسطة في الخلق، كان الرجل
فيما يزعمون يكون ثلاثين ذراعا قال: ثم انقرض ولد قين، ولم يتركوا عقبا إلا قليلا،
وذرية آدم كلهم جهلت أنسابهم وانقطع نسلهم، إلا ما كان من شيث بن آدم، فمنه كان
النسل، وأنساب الناس اليوم كلهم إليه دون أبيه آدم، فهو أبو البشر، إلا ما كان من
أبيه وإخوته ممن لم يترك عقبا
(1/165)
قال: ويقول أهل التوراة: بل
نكح قين أشوث، فولدت له خنوخ، فولد لخنوخ عيرد، فولد عيرد محويل، فولد محويل
انوشيل، فولد انوشيل، لامك، فنكح لامك عدى وصلى، فولدتا له من سميت والله أعلم.
فلم يذكر ابن إسحاق من أمر قابيل وعقبه إلا ما حكيت.
وأما غيره من أهل العلم بالتوراة فإنه ذكر أن الذي اتخذ الملاهي من ولد قايين رجل
يقال له توبال، اتخذ في زمان مهلائيل بن قينان آلات اللهو من المزامير والطبول
والعيدان والطنابير والمعازف، فانهمك ولد قايين في اللهو، وتناهى خبرهم إلى من
بالجبل من نسل شيث، فهم منهم مائة رجل بالنزول إليهم، وبمخالفة ما أوصاهم به
آباؤهم، وبلغ ذلك يارد، فوعظهم ونهاهم، فأبوا إلا تماديا، ونزلوا إلى ولد قايين،
فأعجبوا بما رأوا منهم، فلما أرادوا الرجوع حيل بينهم وبين ذلك لدعوة سبقت من
آبائهم، فلما أبطئوا بمواضعهم، ظن من كان في نفسه زيغ ممن كان بالجبل انهم أقاموا
اعتباطا، فتساللوا ينزلون عن الجبل، ورأوا اللهو فأعجبهم، ووافقوا نساء من ولد
قايين متسرعات إليهم، وصرن معهم، وانهمكوا في الطغيان، وفشت الفاحشة وشرب الخمر.
قال أبو جعفر: وهذا القول غير بعيد من الحق، وذلك أنه قول قد روي عن جماعة من سلف
علماء أمة نبينا ص نحو منه، وإن لم يكونوا بينوا زمان من حدث ذلك في ملكه، سوى
ذكرهم أن ذلك كان فيما بين آدم ونوح ص.
ذكر من روي ذلك عنه:
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ،
قَالَ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ- يَعْنِي ابْنَ أَبِي الْفُرَاتِ- قَالَ: حَدَّثَنَا
عَلْبَاءُ بْنُ أَحْمَرَ، عَنْ عِكْرِمَةَ،
(1/166)
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ
تَلا هَذِهِ الآيَةَ: «وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى» .
قَالَ: كَانَتْ فِيمَا بَيْنَ نُوحٍ وَإِدْرِيسَ، وَكَانَتْ أَلْفَ سَنَةٍ،
وَإِنَّ بَطْنَيْنِ مِنْ وَلَدِ آدَمَ، كَانَ أَحَدُهُمَا يَسْكُنُ السَّهْلَ،
وَالآخَرُ يَسْكُنُ الْجَبَلَ، وَكَانَ رِجَالُ الْجَبَلِ صِبَاحًا وَفِي
النِّسَاءِ دَمَامَةٌ، وَكَانَ نِسَاءُ السَّهْلِ صِبَاحًا وَفِي الرِّجَالِ
دَمَامَةٌ، وَإِنَّ إِبْلِيسَ أَتَى رَجُلا مِنْ أَهْلِ السَّهْلِ فِي صُورَةِ
غُلامٍ فَآجَرَ نَفْسَهُ مِنْهُ، وَكَانَ يَخْدِمُهُ، وَاتَّخَذَ إِبْلِيسُ
لَعَنَهُ اللَّهُ شَيْئًا مِثْلَ الَّذِي يَزْمِرُ فِيهِ الرِّعَاءُ، فَجَاءَ
فِيهِ بِصَوْتٍ لَمْ يَسْمَعِ النَّاسُ مِثْلَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ مَنْ حَوْلَهُمْ،
فَانْتَابُوهُمْ يَسْمَعُونَ إِلَيْهِ، وَاتَّخَذُوا عِيدًا يَجْتَمِعُونَ
إِلَيْهِ فِي السَّنَةِ، فَتَتَبَرَّجُ النِّسَاءُ لِلرِّجَالِ، قَالَ: وَيَنْزِلُ
الرِّجَالُ لَهُنَّ وَإِنَّ رَجُلا مِنْ أَهْلِ الْجَبَلِ هَجَمَ عَلَيْهِمْ
وَهُمْ فِي عِيدِهِمْ ذَلِكَ، فَرَأَى النِّسَاءَ وَصَبَاحَتَهُنَّ، فَأَتَى
أَصْحَابَهُ فَأَخْبَرَهُمْ بِذَلِكَ، فتحولوا اليهن، فَنَزَلُوا عَلَيْهِنَّ،
فَظَهَرَتِ الْفَاحِشَةُ فِيهِنَّ، فَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ:
«وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى» .
حَدَّثَنَا ابن وكيع، قال: حَدَّثَنَا ابن أبي غنية، عن أبيه، عن الحكم:
«وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى» ، قال: كان بين آدم ونوح
ثمانمائه سنة، وكان نساؤهم أقبح ما يكون من النساء، ورجالهم حسان، فكانت المرأة
تريد الرجل على نفسها، فأنزلت هذه الآية: «وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ
الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى» .
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرني هشام، قال:
أخبرني أبي، عن أبي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمْ يَمُتْ آدَمُ
حَتَّى بَلَغَ وَلَدُهُ وَوَلَدُ وَلَدِهِ أَرْبَعِينَ ألفا ببوذ
(1/167)
وَرَأَى آدَمُ فِيهِمُ
الزِّنَا وَشُرْبَ الْخَمْرِ وَالْفَسَادَ، فَأَوْصَى أَلا يُنَاكِحُ بَنُو شِيثٍ
بَنِي قَابِيلَ، فَجَعَلَ بَنُو شِيثٍ آدَمَ فِي مَغَارَةٍ، وَجَعَلُوا عَلَيْهِ
حَافِظًا، لا يَقْرُبُهُ أَحَدٌ مِنْ بَنِي قابيل، وَكَانَ الَّذِينَ يَأْتُونَهُ
وَيَسْتَغْفِرُ لَهُمْ مِنْ بَنِي شِيثٍ، فَقَالَ مِائَةٌ مِنْ بَنِي شِيثٍ
صَبَاحٍ: لَوْ نَظَرْنَا إِلَى مَا فَعَلَ بَنُو عَمِّنَا! يَعْنُونَ بَنِي
قَابِيلَ.
فَهَبَطَتِ الْمِائَةُ إِلَى نِسَاءِ صَبَاحٍ مِنْ بَنِي قَابِيلَ، فَاحْتَبَسَ
النِّسَاءُ الرِّجَالَ، ثُمَّ مَكَثُوا مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ قَالَ مِائَةٌ
آخَرُونَ: لَوْ نَظَرْنَا مَا فَعَلَ إِخْوَتُنَا! فَهَبَطُوا مِنَ الْجَبَلِ
إِلَيْهِمْ، فَاحْتَبَسَهَمُ النِّسَاءُ ثُمَّ هَبَطَ بَنُو شِيثَ كُلُّهُمْ،
فَجَاءَتِ الْمَعْصِيَةُ، وَتَنَاكَحُوا واختلطوا، وكثر بنو قابيل حتى ملئوا
الأَرْضَ، وَهُمُ الَّذِينَ غَرَقُوا أَيَّامَ نُوحٍ.
وَأَمَّا نَسَّابُو الْفُرْسِ فَقَدْ ذَكَرْتُ مَا قَالُوا فِي مهلائِيلَ بْنِ
قينانَ، وَأَنَّهُ هُوَ أوشهنجَ الَّذِي مَلَكَ الأَقَالِيمَ السَّبْعَةَ،
وَبَيَّنْتُ قَوْلَ مَنْ خَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْ نَسَّابِي الْعَرَبِ.
فَإِنْ كَانَ الأَمْرُ فِيهِ كَالَّذِي قَالَهُ نَسَّابُو الْفُرْسِ، فَإِنَّيِ
حدثت عن هشام ابن مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ، أَنَّهُ هُوَ أَوَّلُ مَنْ قَطَعَ
الشَّجَرَ، وَبَنَى الْبِنَاءَ، وَأَوَّلُ مَنِ اسْتَخْرَجَ الْمَعَادِنَ وَفَطَنَ
النَّاسُ لَهَا، وَأَمَرَ أَهْلَ زَمَانِهِ بِاتِّخَاذِ الْمَسَاجِدَ، وَبَنَى
مَدِينَتَيْنِ كَانَتَا أَوَّلَ مَا بُنِيَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ مِنَ
الْمَدَائِنِ، وَهُمَا مَدِينَةُ بَابِلَ الَّتِي بِسَوَادِ الْكُوفَةِ،
وَمَدِينَةُ السُّوسِ وَكَانَ مُلْكُهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً.
وَأَمَّا غَيْرُهُ فَإِنَّهُ قَالَ: هُوَ أَوَّلُ مَنِ اسْتَنْبَطَ الْحَدِيدَ فِي
مُلْكِهِ، فَاتَّخَذَ مِنْهُ الأَدَوَاتَ لِلصِّنَاعَاتِ، وَقَدَّرَ الْمِيَاهَ
فِي مَوَاضِعِ الْمَنَاقِعِ، وَحَضَّ النَّاسَ عَلَى الْحِرَاثَةِ وَالزِّرَاعَة
وَالْحَصَادِ وَاعْتِمَالِ الأَعْمَالِ، وَأَمَرَ بِقَتْلِ السِّبَاعِ
الضَّارِيَةِ، وَاتِّخَاذِ الْمَلابِسِ
(1/168)
من جلودها والمفارش، وبذبح
البقر والغنم والوحش وَالأَكْلِ مِنْ لُحُومِهَا، وَأَنَّ مُلْكَهُ كَانَ
أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَأَنَّهُ بَنَى مَدِينَةَ الريِّ قَالُوا: وَهِيَ أَوَّلُ
مَدِينَةٍ بُنِيَتْ بَعْدَ مَدِينَةِ جُيومرْتَ الَّتِي كَانَ يَسْكُنُهَا
بِدَنبَاوَنْدَ مِنْ طَبَرِسْتَانَ.
وَقَالَتِ الْفُرْسُ: إِنَّ أوشهنْجَ هَذَا وُلِدَ مَلِكًا، وَكَانَ فَاضِلا
محمودا في سيرته وسياسه رَعِيَّتَهُ، وَذَكَرُوا أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ وَضَعَ
الأَحْكَامَ وَالْحُدُودَ، وَكَانَ مُلَقَّبًا بِذَلِكَ، يُدْعَى فيشداذَ
وَمَعْنَاهُ بِالْفَارِسِيَّةِ أَوَّلُ مَنْ حَكَمَ بِالْعَدْلِ، وَذَلِكَ أَنَّ
فَاشَ مَعْنَاهُ أَوَّلُ، وَأَنَّ دَاذَ عَدْلٌ وَقَضَاءٌ، وَذَكَرُوا أَنَّهُ
نَزَلَ الْهِنْدَ، وَتَنَقَّلَ فِي الْبِلادِ، فَلَمَّا اسْتَقَامَ أَمْرُهُ
وَاسْتَوْثَقَ لَهُ الْمُلْكُ عَقَدَ عَلَى رَأْسِهِ تَاجًا، وَخَطَبَ خُطْبَةً،
فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: إِنَّهُ وَرِثَ الْمُلْكَ عَنْ جَدِّهِ جيومرتَ،
وَإِنَّهُ عَذَابٌ وَنَقْمَةٌ عَلَى مَرَدَةِ الإِنْسِ وَالشَّيَاطِينِ وَذَكَرُوا
أَنَّهُ قَهَرَ إِبْلِيسَ وَجُنُودَهُ، وَمَنَعَهُمُ الاخْتِلاطَ بِالنَّاسِ،
وَكَتَبَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا فِي طِرْسٍ أَبْيَضَ أخذ عليهم فيه المواثيق الا
يَعْرِضُوا لأَحَدٍ مِنَ الإِنْسِ، وَتَوَعَّدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَقَتَلَ
مَرَدَتَهُمْ وَجَمَاعَةً مِنَ الْغِيلانِ، فَهَرَبُوا مِنْ خوفه الى المفاوز
والجبال والأدوية، وَأَنَّهُ مَلَكَ الأَقَالِيمَ كُلَّهَا، وَأَنَّهُ كَانَ
بَيْنَ مَوْتِ جيومرتَ إِلَى مَوْلِدِ أوشهنجَ وَمُلْكِهِ مِائتا سنه.
وَثَلاثٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً.
وَذَكَرُوا أَنَّ إِبْلِيسَ وَجُنُودَهُ فَرِحُوا بِمَوْتِ أوشهنْجَ، وَذَلِكَ
أَنَّهُمْ دَخَلُوا بِمَوْتِهِ مَسَاكِنَ بَنِي آدَمَ، وَنَزَلُوا إِلَيْهِمْ مِنَ
الْجِبَالِ وَالأَوْدِيَةِ.
وَنَرْجِعُ الآنَ إِلَى ذِكْرِ يردَ- وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ هُوَ يَاردَ- فَوُلِدَ
يردُ لمهلائِيلَ مِنْ خالته سمعن ابنة براكيل بن محويل بن خنوخَ بْنِ قينَ، بَعْدَ
مَا مَضَى مِنْ عمر آدم أربعمائة وَسِتُّونَ سَنَةً، فَكَانَ وَصِيَّ أَبِيهِ
وَخَلِيفَتِهِ فِيمَا كَانَ وَالِدُ مهلائِيلَ أَوْصَى إِلَى مهلائيلَ، وَاسْتَخْلَفَهُ
عَلَيْهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَكَانَتْ وِلادَةُ أُمِّهِ إِيَّاهُ بَعْدَ مَا مَضَى
مِنْ عُمْرِ أَبِيهِ مهلائيلَ- فِيمَا ذَكَرُوا- خَمْسٌ وَسِتُّونَ سَنَةً،
فَقَامَ مِنْ بَعْدِ مَهْلِكِ أَبِيهِ مِنْ وَصِيَّةِ أَجْدَادِهِ وَآبَائِهِ
بِمَا كَانُوا يَقُومُونَ بِهِ أَيَّامَ حَيَاتِهِمْ.
ثُمَّ نَكَحَ يَردُ- فيما حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن
(1/169)
إسحاق، وهو ابن مائة سنة
واثنتين وستين سنة- بركنا ابنة الدرمسيل بن محويل بن خنوخ بن قين بن آدم فولدت له
أخنوخ بن يرد- وأخنوخ إدريس النبي، وكان أول بني آدم أعطي النبوة- فيما زعم ابن
إسحاق- وخط بالقلم، عاش يرد بعد ما ولد له اخنوخ ثمانمائه سنة، وولد له بنون
وبنات، فكان كل ما عاش يرد تسعمائة سنة واثنتين وستين سنة ثم مات.
وقال غيره من أهل التوراة: ولد ليرد أخنوخ- وهو إدريس- فنبأه الله عز وجل، وقد مضى
من عمر آدم ستمائه سنة واثنتان وعشرون سنة، وأنزل عليه ثلاثون صحيفة وهو أول من خط
بعد آدم وجاهد في سبيل الله، وقطع الثياب وخاطها، وأول من سبى من ولد قابيل،
فاسترق منهم، وكان وصي والده يرد فيما كان آباؤه أوصوا به إليه، وفيما أوصى به
بعضهم بعضا، وذلك كله من فعله في حياه آدم.
قال: وتوفى آدم ع بعد ان مضى من عمر اخنوخ ثلاثمائة سنه وثماني سنين، تتمه تسعمائة
وثلاثين سنة التي ذكرنا أنها عمر آدم قال:
ودعا أخنوخ قومه ووعظهم، وأمرهم بطاعة الله عز وجل ومعصية الشيطان، وألا يلابسوا
ولد قابيل، فلم يقبلوا منه، وكانت العصابة بعد العصابة من ولد شيث تنزل إلى ولد
قايين.
قال: وفي التوراة: إن الله تبارك وتعالى رفع ادريس بعد ثلاثمائة سنة وخمس وستين
سنة مضت من عمره، وبعد خمسمائة سنة وسبع وعشرين سنة مضت من عمر ابيه، فعاش أبوه
بعد ارتفاعه أربعمائة وخمسا وثلاثين سنه تمام تسعمائة واثنتين وستين سنه، وكان عمر
يارد تسعمائة واثنتين وستين سنة، وولد أخنوخ وقد مضت من عمر يارد مائة واثنتان
وستون سنة.
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرني هشام، قال:
أخبرني أبي، عن أبي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: فِي زَمَانِ يَرْدَ
عُمِلَتِ الأَصْنَامُ، وَرَجَعَ مَنْ رَجَعَ عَنِ الإِسْلامِ.
وَقَدْ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَهْبٍ، قَالَ:
حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ:
(1/170)
حَدَّثَنِي الْمَاضِي بْنُ
مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي
إِدْرِيسَ الْخَوْلانِيِّ، [عَنْ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ، قَالَ: قَالَ لي رسول
الله ص: يَا أَبَا ذَرٍّ، أَرْبَعَةٌ- يَعْنِي مِنَ الرُّسُلِ- سريانيون: آدم،
وشيث، ونوح، واخنوخ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ خَطَّ بِالْقَلَمِ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ
تَعَالَى عَلَى أَخْنُوخَ ثَلاثِينَ صَحِيفَةً] .
وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ اللَّهَ بَعَثَ إِدْرِيسَ إِلَى جَمِيعِ أَهْلِ
الأَرْضِ فِي زَمَانِهِ، وَجَمَعَ لَهُ عِلْمَ الْمَاضِينَ، وَأَنَّ اللَّهَ عَزَّ
وَجَلَّ زَادَهُ مَعَ ذَلِكَ ثَلاثِينَ صَحِيفَةً، قَالَ: فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ: «إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ
وَمُوسى» وَقَالَ: يَعْنِي بِالصُّحُفِ الأُولَى الصُّحُفَ الَّتِي أُنْزِلَتْ على
ابن آدم هبه الله وادريس ع.
وقال بعضهم: ملك بيوراسب في عهد إدريس، وقد كان وقع إليه كلام من كلام آدم صلوات
الله عليه، فاتخذه في ذلك الزمان سحرا، وكان بيوراسب يعمل به، وكان إذا أراد شيئا
من جميع مملكته أو أعجبته دابة أو امرأة نفخ بقصبة كانت له من ذهب، وكان يجيء إليه
كل شيء يريده، فمن ثم تنفخ اليهود في الشبورات.
وأما الفرس فإنهم قالوا: ملك بعد موت أوشهنج طهمورث بن ويونجهان ابن خبانداذ بن
خيايذار بن اوشهنج.
وقد اختلف في نسب طهمورث الى اوشهنج، فنسبه بعضهم النسبه التي ذكرت وقال بعض نسابه
الفرس: هو طهمورث بن ايونكهان بن أنكهد ابن اسكهد بن اوشهنج
(1/171)
وقال هشام بن محمد الكلبي- فيما
حدثت عنه: ذكر أهل العلم أن أول ملوك بابل طهمورث، قال: وبلغنا- والله أعلم- أن
الله أعطاه من القوة ما خضع له إبليس وشياطينه، وأنه كان مطيعا لله، وكان ملكه
أربعين سنه واما الفرس فإنها تزعم ان طهمورث ملك الأقاليم كلها، وعقد على رأسه
تاجا، وقال يوم ملك: نحن دافعون بعون الله عن خليقته المردة الفسدة.
وكان محمودا في ملكه، حدبا على رعيته، وأنه ابتنى سابور من فارس ونزلها، وتنقل في
البلدان، وأنه وثب بإبليس حتى ركبه، فطاف عليه في أداني الأرض وأقاصيها، وأفزعه
ومردة أصحابه حتى تطايروا وتفرقوا، وأنه أول من اتخذ الصوف والشعر للباس والفرش،
وأول من اتخذ زينة الملوك من الخيل والبغال والحمير، وأمر باتخاذ الكلاب لحفظ
المواشي وحراستها من السباع والجوارح للصيد، وكتب بالفارسيه، وان بيوراسب ظهر في
أول سنة من ملكه، ودعا إلى ملة الصابئين.
ثم رجعنا إلى ذكر اخنوخ، وهو ادريس ع.
ثم نكح- فيما حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عن ابن
إسحاق: أخنوخ بن يرد هدانة- ويقال: أدانة- ابنة باويل ابن محويل بن خنوخ بن قين بن
آدم، وهو ابن خمس وستين سنة، فولدت له متوشلخ بن أخنوخ، فعاش بعد ما ولد له متوشلخ
ثلاثمائة سنة، وولد له بنون وبنات، فكان كل ما عاش اخنوخ ثلاثمائة سنة وخمسا وستين
سنة ثم مات.
وأما غيره من أهل التوراة فإنه قال فيما ذكر عن التوراة: ولد لاخنوخ بعد ستمائه
سنة وسبع وثمانين سنة خلت من عمر آدم متوشلخ، فاستخلفه
(1/172)
أخنوخ على أمر الله، وأوصاه
وأهل بيته قبل أن يرفع، وأعلمهم أن الله عز وجل سيعذب ولد قايين ومن خالطهم ومال
إليهم، ونهاهم عن مخالطتهم، وذكر أنه كان أول من ركب الخيل، لأنه اقتفى رسم أبيه
في الجهاد، وسلك في أيامه في العمل بطاعة الله طريق آبائه وكان عمر اخنوخ الى ان
رفع ثلاثمائة سنة وخمسا وستين سنة وولد له متوشلخ بعد ما مضى من عمره خمس وستون
سنة.
ثم نكح- فيما حَدَّثَنِي ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ عَنْ ابن
إسحاق- متوشلخ بن أخنوخ عربا ابنة عزرائيل بن أنوشيل بن خنوخ بن قين بن آدم، وهو
ابن مائة سنة وسبع وثلاثين سنة فولدت له لمك بن متوشلخ، فعاش بعد ما ولد له لمك
سبعمائة سنة، فولد له بنون وبنات، وكان كل ما عاش متوشلخ تسعمائة سنة وتسع عشرة
سنة ثم مات ونكح لمك بن متوشلخ بن اخنوخ بتنوس ابنة براكيل بن محويل بن خنوخ بن
قين بن آدم ع، وهو ابن مائة سنة وسبع وثمانين سنة فولدت له نوحا النبي ص، فعاش لمك
بعد ما ولد له نوح خمسمائة سنه وخمسا وتسعين سنة، وولد له بنون وبنات، فكان كل ما
عاش سبعمائة سنة وثمانين سنة، ثم مات ونكح نوح ابن لمك عمذرة ابنة براكيل بن محويل
بن خنوخ بن قين بن آدم، وهو ابن خمسمائة سنه، فولدت له بينه: سام، وحام، ويافث،
بني نوح وقال أهل التوراة: ولد لمتوشلخ بعد ثمانمائه سنة وأربع وسبعين سنة من عمر
آدم لملك، فأقام على ما كان عليه آباؤه: من طاعة الله وحفظ عهوده.
قالوا: فلما حضرت متوشلخ الوفاة استخلف لملك على أمره، وأوصاه بمثل ما كان آباؤه
يوصون به قالوا: وكان لمك يعظ قومه، وينهاهم عن النزول إلى ولد قايين فلا يتعظون،
حتى نزل جميع من كان في الجبل إلى ولد قايين
(1/173)
وقيل: إنه كان لمتوشلخ ابن آخر
غير لمك، يقال له صابئ- وقيل:
إن الصابئين به سموا صابئين- وكان عمر متوشلخ تسعمائة وستين سنة، وكان مولد لمك
بعد أن مضى من عمر متوشلخ مائة وسبع وثمانون سنة.
ثم ولد لمك نوحا بعد وفاة آدم بمائة سنة وست وعشرين سنة، وذلك لألف سنة وست وخمسين
سنة مضت من يوم أهبط الله عز وجل آدم إلى مولد نوح ع، فلما أدرك نوح قال له لمك:
قد علمت أنه لم يبق في هذا الموضع غيرنا، فلا تستوحش ولا تتبع الأمة الخاطئة، فكان
نوح يدعو إلى ربه، ويعظ قومه فيستخفون به، فأوحى الله عز وجل إليه أنه قد أمهلهم،
فأنظرهم ليراجعوا ويتوبوا مدة، فانقضت المدة قبل أن يتوبوا وينيبوا.
وقال آخرون غير من ذكرت قوله: كان نوح في عهد بيوراسب، وكان قومه يعبدون الأصنام،
فدعاهم الى الله جل وعز تسعمائة وستة وخمسين سنة، كلما مضى قرن تبعهم قرن، على ملة
واحدة من الكفر، حتى أنزل الله عليهم العذاب فأفناهم.
حَدَّثَنَا الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حدثني هشام، قال:
أخبرني أبي، عن أبي صالح، عن ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: وَلَدَ متوشلخُ لمكَ
وَنَفَرًا مَعَهُ، وَإِلَيْهِ الْوَصِيَّةُ، فَوَلَدَ لَمكُ نُوحًا، وَكَانَ
لِلمكَ يَوْمَ وُلِدَ نُوحٌ اثْنَتَانِ وَثَمَانُونَ سَنَةً، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ
فِي ذَلِكَ الزَّمَانُ يَنْهَى عَنْ مُنْكَرٍ، فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ
نُوحًا، وَهُوَ ابن أربعمائة سَنَةٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، ثُمَّ دَعَاهُمْ فِي
نُبُوَّتِهِ مائه وعشرين سنه، ثم امره بصنعه السفينة فصنعها وركبها وهو ابن ستمائه
سَنَةٍ، وَغَرِقَ مَنْ غَرِقَ، ثُمَّ مَكَثَ بَعْدَ السفينة ثلاثمائه سَنَةٍ
وَخَمْسِينَ سَنَةً.
وَأَمَّا عُلَمَاءُ الْفُرْسِ فَإِنَّهُمْ قالوا: ملك بعد طهمورث جم الشيذَ-
وَالشِّيذُ مَعْنَاهُ عِنْدَهُمُ الشُّعَاعُ، لَقَّبُوهُ بِذَلِكَ فِيمَا زَعَمُوا
لِجَمَالِهِ- وَهُوَ جمُ بْنُ ويونجهان، وهو أخو طهمورث وَقِيلَ إِنَّهُ مَلَكَ
الأَقَالِيمَ السَّبْعَةَ كُلَّهَا، وَسُخِّرَ لَهُ مَا فِيهَا مِنَ
(1/174)
الْجِنِّ وَالإِنْسِ، وَعُقِدَ
عَلَى رَأْسِهِ التَّاجُ وَقَالَ حِينَ قَعَدَ فِي مُلْكِهِ: إِنَّ اللَّهَ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدْ أَكْمَلَ بَهَاءَنَا وَأَحْسَنَ تَأْيِيدَنَا،
وَسَنُوسِعُ رَعِيَّتَنَا خَيْرًا وَإِنَّهُ ابْتَدَعَ صَنْعَةَ السُّيُوفِ
وَالسِّلاحِ، وَدَلَّ عَلَى صَنْعَةِ الإِبْرِيسمِ وَالْقَزِّ وَغَيْرِهِ مِمَّا
يغزل، وامر بِنَسْجِ الثِّيَابِ وَصَبْغِهَا، وَنَحْتِ السُّرُوجِ وَالأَكُفِّ
وَتَذْلِيلِ الدَّوَابِّ بِهَا.
وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ إِنَّهُ تَوَارَى بَعْدَ ما مضى من ملكه ستمائه سَنَةٍ
وَسِتُّ عَشَرَةَ سَنَةً وَسِتَّةُ أَشْهُرٍ، فَخَلَتِ الْبِلادُ مِنْهُ سَنَةً،
وَأَنَّهُ أَمَرَ لِمُضِيِّ سَنَةٍ مِنْ مُلْكِهِ إِلَى سَنَةِ خَمْسٍ مِنْهُ
بِصَنْعَةِ السُّيُوفِ وَالدُّرُوعِ وَالْبِيضِ وَسَائِرِ صُنُوفِ الأَسْلِحَةِ
وَآلَةِ الصُّنَّاعِ مِنَ الْحَدِيدِ وَمِنْ سَنَةِ خَمْسِينَ مِنْ مُلْكِهِ إِلَى
سَنَةِ مِائَةٍ بِغَزْلِ الإِبْرِيسمِ وَالْقَزِّ وَالْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ
وَكُلِّ مَا يُسْتَطَاعُ غَزْلُهُ وَحِيَاكَةِ ذَلِكَ وَصِبْغَتِهِ أَلْوَانًا
وَتَقْطِيعِهِ أَنْوَاعًا وَلُبْسِهِ وَمِنْ سَنَةِ مِائَةٍ إِلَى سَنَةِ
خَمْسِينَ وَمِائَةٍ صَنَّفَ النَّاسَ أَرْبَعَ طَبَقَاتٍ:
طَبَقَةَ مُقَاتِلَةٍ، وَطَبَقَةُ فُقَهَاءٍ، وطبقه كتابا وَصُنَّاعًا
وَحَرَّاثِينَ، وَاتَّخَذَ طَبَقَةً مِنْهُمْ خَدَمًا، وَأَمَرَ كُلَّ طَبَقَةٍ
مِنْ تِلْكَ الطَّبَقَاتِ بِلُزُومِ الْعَمَلِ الَّذِي أَلْزَمَهَا إِيَّاهُ
وَمِنْ سَنَةِ مِائَةٍ وَخَمْسِينَ إِلَى سَنَةِ خَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ حَارَبَ
الشَّيَاطِينَ وَالْجِنَّ وَأَثْخَنَهُمْ وَأَذَلَّهُمْ وَسُخِّرُوا لَهُ
وَانْقَادُوا لأَمْرِهِ وَمِنْ سَنَةِ خَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ إِلَى سَنَةِ سِتِّ
عَشْرَةَ وثلاثمائة وَكَّلَ الشَّيَاطِينَ بِقَطْعِ الْحِجَارَةَ وَالصُّخُورَ
مِنَ الْجِبَالِ، وَعَمَلِ الرُّخَامِ وَالْجَصِّ وَالْكِلْسِ، وَالْبِنَاءِ
بِذَلِكَ، وَبِالطِّينِ الْبنيَانِ وَالْحَمَّامَاتِ، وَصَنْعَةِ النُّورَةِ،
وَالنَّقْلِ مِنَ الْبِحَارِ وَالْجِبَالِ وَالْمَعَادِنِ وَالْفلَوَاتِ كُلُّ مَا
يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ، وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَسَائِرِ مَا يُذَابُ مِنَ
الْجَوَاهِرِ، وَأَنْوَاعِ الطِّيبِ وَالأَدْوِيَةِ فَنَفَذُوا فِي كُلِّ ذَلِكَ
لأَمْرِهِ ثُمَّ أَمَرَ فَصُنِعَتْ لَهُ عَجَلَةٌ مِنْ زُجَاجٍ، فَصَفَّدَ فِيهَا
الشَّيَاطِينَ وَرَكِبَهَا، وَأَقْبَلَ عَلَيْهَا فِي الْهَوَاءِ مِنْ بَلَدِهِ،
مِنْ دنباونْدَ إِلَى بَابِلَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَذَلِكَ يَوْمَ هرمز از
فروردين ماه، فَاتَّخَذَ النَّاسُ لِلأُعْجُوبَةِ الَّتِي رَأَوْا مِنْ اجرائه ما اجرى
على تلك الحال نوروز، وَأَمَرَهُمْ بِاتِّخَاذِ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَخَمْسَةِ
أَيَّامٍ بَعْدَهُ عِيدًا، وَالتَّنَعُّمِ وَالتَّلَذُّذِ فِيهَا، وَكَتَبَ إِلَى
النَّاسِ اليوم السادس، وهو خرداذ روز يُخْبِرُهُمْ أَنَّهُ قَدْ سَارَ فِيهِمْ
بِسِيرَةٍ ارْتَضَاهَا اللَّهُ، فَكَانَ مِنْ جَزَائِهِ
(1/175)
إِيَّاهُ عَلَيْهَا أَنْ
جَنَّبَهُمُ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ وَالأَسْقَامَ والهرم والحسد، فمكث الناس
ثلاثمائة سنه بعد الثلثمائه وَالسِّتَّ عَشَرَةَ سَنَةً الَّتِي خَلَتْ مِنْ
مُلْكِهِ، لا يُصِيبُهُمْ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرَ أَنَّ اللَّهَ جل وعز جَنَّبَهُمْ
إِيَّاهُ.
ثُمَّ إِنَّ جما بَطَرَ بَعْدَ ذلك نعمه الله عنده، وجمع الانس والجن،
فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ وَلِيُّهُمْ وَمَالِكُهُمْ وَالدَّافِعُ بِقُوَّتِهِ
عَنْهُمُ الأَسْقَامَ وَالْهَرَمَ وَالْمَوْتَ، وَجَحَدَ إِحْسَانَ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ إِلَيْهِ، وَتَمَادَى فِي غَيِّهِ فَلَمْ يَحْرِ أَحَدٌ مِمَّنْ حَضَرَهُ
لَهُ جَوَابًا، وَفَقَدَ مَكَانَهُ بهاءه وعزه، وَتَخَلَّتْ عَنْهُ الْمَلائِكَةُ
الَّذِينَ كَانَ اللَّهُ أَمَرَهُمْ بسياسة امره، فأحس بذلك بيوراسب الذى يسمى
الضحاك فابتدر الى جم لينتهسه فهرب منه، ثم ظفر به بيوراسب بعد ذلك، فامتلخ امعاءه
واسترطها، وَنَشَرَهُ بِمِنْشَارٍ.
وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْفُرْسِ: إِنَّ جمًّا لَمْ يَزَلْ مَحْمُودَ
السِّيرَةِ إِلَى أَنْ بَقِيَ مِنْ مُلْكِهِ مِائَةُ سَنَةٍ فَخَلَّطَ حِينَئِذٍ،
وَادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ اضْطَرَبَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ،
وَوَثَبَ عَلَيْهِ أَخُوهُ اسفتورُ وَطَلَبَهُ لِيَقْتُلَهُ، فَتَوَارَى عَنْهُ،
وَكَانَ فِي تَوَارِيهِ مَلِكًا يَنْتَقِلُ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ، ثُمَّ
خَرَجَ عَلَيْهِ بيوراسب فَغَلَبَهُ عَلَى مُلْكِهِ، وَنَشَرَهُ بِالْمِنْشَارِ.
وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ ان ملك جم كان سبعمائة سَنَةٍ وَسِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً
وَأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا.
وقد ذكرت عن وهب بن منبه، عن ملك من ملوك الماضين قصة شبيهة بقصة جم شاذ الملك،
ولولا أن تاريخه خلاف تاريخ جم لقلت إنها قصة جم
(1/176)
وذلك ما حَدَّثَنِي محمد بن
سهل بن عسكر، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد بن معقل، عن
وهب بن منبه، أنه قال: إن رجلا ملك وهو فتى شاب، فقال: إني لأجد للملك لذة وطعما،
فلا أدري: أكذلك كل الناس أم أنا وجدته من بينهم؟ فقيل له:
بل الملك كذلك، فقال: ما الذي يقيمه لي؟ فقيل له: يقيمه لك أن تطيع الله فلا تعصيه
فدعا ناسا من خيار من كان في ملكه فقال لهم:
كونوا بحضرتي في مجلسي، فما رأيتم أنه طاعة لله عز وجل فأمروني أن أعمل به، وما
رأيتم أنه معصية لله فازجروني عنه أنزجر، ففعل ذلك هو وهم، واستقام له ملكه بذلك
أربعمائة سنة مطيعا لله عز وجل ثم إن إبليس انتبه لذلك فقال:
تركت رجلا يعبد الله ملكا أربعمائة سنة! فجاء فدخل عليه فتمثل له برجل، ففزع منه
الملك، فقال: من أنت؟ قال إبليس: لا ترع، ولكن أخبرني من أنت؟ قال الملك: أنا رجل
من بني آدم، فقال له إبليس: لو كنت من بني آدم لقد مت كما يموت بنو آدم، ألم تر كم
قد مات من الناس وذهب من القرون! لو كنت منهم لقد مت كما ماتوا، ولكنك إله، فادع
الناس إلى عبادتك فدخل ذلك في قلبه ثم صعد المنبر، فخطب الناس فقال: أيها الناس، إني
قد كنت أخفيت عنكم أمرا بان لي إظهاره، لكم تعلمون أني ملكتكم منذ أربعمائة سنة،
ولو كنت من بني آدم لقد مت كما ماتوا، ولكني إله فاعبدوني فأرعش مكانه، وأوحى الله
إلى بعض من كان معه فقال:
أخبره أني قد استقمت له ما استقام لي، فإذا تحول عن طاعتي إلى معصيتي فلم يستقم
لي، فبعزتي حلفت لأسلطن عليه بخت ناصر، فليضربن عنقه، وليأخذن ما في خزائنه وكان
في ذلك الزمان لا يسخط الله على أحد إلا سلط عليه بخت ناصر، فلم يتحول الملك عن
قوله، حتى سلط الله عليه بخت ناصر، فضرب عنقه، وأوقر من خزائنه سبعين سفينة ذهبا.
قال أبو جعفر: ولكن بين بخت ناصر وجم دهر طويل، إلا أن يكون الضحاك كان يدعى في
ذلك الزمان بخت ناصر
(1/177)
وأما هشام بن الكلبي فإني حدثت
عنه انه قال: ملك بعد طهمورث جم، وكان أصبح أهل زمانه وجها، وأعظمهم جسما، قال:
فذكروا انه غبر ستمائه سنة وتسع عشرة سنة مطيعا لله مستعليا أمره مستوثقة له
البلاد ثم إنه طغى وبغى، فسلط الله عليه الضحاك، فسار إليه في مائتي ألف، فهرب جم
منه مائة سنة، ثم إن الضحاك ظفر به فنشره بمنشار قال: فكان جميع ملك جم، منذ ملك
الى ان قتل سبعمائة وتسع عشرة سنة.
وقد روي عن جماعة من السلف أنه كان بين آدم ونوح عشرة قرون، كلهم على ملة الحق،
وأن الكفر بالله إنما حدث في القرن الذين بعث اليهم نوح ع، وقالوا: إن أول نبي
أرسله الله إلى قوم بالإنذار والدعاء الى توحيده نوح ع.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ:
حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،
قَالَ: كَانَ بين نوح وآدم ع عَشَرَةُ قُرُونٍ، كُلُّهُمْ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ
الْحَقِّ، فَاخْتَلَفُوا، فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ
وَمُنْذِرِينَ، قَالَ: وَكَذَلِكَ هِيَ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: «كَانَ
النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا» حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يحيى، قال:
أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: قَوْلَهُ عَزَّ
وَجَلَّ: «كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً» ، قَالَ: كَانُوا عَلَى الْهُدَى
جَمِيعًا فَاخْتَلَفُوا، فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ
وَمُنْذِرِينَ، فَكَانَ أَوَّلَ نَبِيٍّ بعث نوح ع
(1/178)
ذكر الأحداث التي كانت في عهد
نوح ع
قد ذكرنا اختلاف المختلفين في ديانة القوم الذين ارسل اليهم نوح ع، وأن منهم من
يقول: كانوا قد أجمعوا على العمل بما يكرهه الله، من ركوب الفواحش وشرب الخمور
والاشتغال بالملاهي عن طاعة الله عز وجل، وأن منهم من يقول: كانوا أهل طاعة
بيوراسب، وكان بيوراسب أول من أظهر القول بقول الصابئين، وتبعه على ذلك الذين ارسل
اليهم نوح ع، وسأذكر إن شاء الله خبر بيوراسب فيما بعد فأما كتاب الله فإنه ينبئ
عنهم أنهم كانوا أهل أوثان، وذلك أن الله عز وجل يقول مخبرا عن نوح: «قالَ نُوحٌ
رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ
إِلَّا خَساراً وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ
وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً، وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً وَقَدْ
أَضَلُّوا كَثِيراً» فبعث الله اليهم نوحا مخوفهم بأسه، ومخدرهم سطوته، وداعيا لهم
إلى التوبة والمراجعة إلى الحق، والعمل بما أمر الله به رسله وأنزله في صحف آدم وشيث
وأخنوخ ونوح يوم ابتعثه الله نبيا إليهم- فيما ذكر- ابن خمسين سنة.
وقيل أيضا ما حَدَّثَنَا به نصر بن علي الجهضمي، قال: حَدَّثَنَا نوح بن قيس، قال:
حَدَّثَنَا عون بن أبي شداد، قال: إن الله تبارك وتعالى أرسل نوحا إلى قومه وهو
ابن خمسين وثلاثمائة سنة، فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما، ثم عاش بعد ذلك خمسين
وثلاثمائة سنة.
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا
هِشَامٌ، قَالَ:
أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: بَعَثَ الله
نوحا اليهم وهو ابن أربعمائة سَنَةٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، ثُمَّ دَعَاهُمْ فِي
نُبُوَّتِهِ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً،
(1/179)
وركب السفينة وهو ابن ستمائه
سنه، ثم مكث بعد ذلك ثلاثمائة وَخَمْسِينَ سَنَةً.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا كَمَا
قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ سِرًّا وَجَهْرًا، يَمْضِي
قَرْنٌ بَعْدَ قَرْنٍ، فَلا يَسْتَجِيبُونَ لَهُ، حَتَّى مَضَى قُرُونٌ ثَلاثَةٌ
عَلَى ذَلِكَ مِنْ حَالِهِ وَحَالِهِمْ، فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وجل
اهلاكهم دعا عليهم نوح ع فَقَالَ: «رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ
لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً» ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالى
ذِكْرُهُ أَنْ يَغْرِسَ شَجَرَةً فَغَرَسَهَا، فَعَظُمَتْ وَذَهَبَتْ كُلَّ
مَذْهَبٍ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِقَطْعِهَا مِنْ بَعْدِ مَا غَرَسَهَا بِأَرْبَعِينَ
سَنَةً، فَيَتَّخِذَ مِنْهَا سَفِينَةً، كَمَا قَالَ اللَّهُ لَهُ: «وَاصْنَعِ
الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا» ، فَقَطَعَهَا وَجَعَلَ يَعْمَلُهَا.
وَحَدَّثَنَا صَالِحُ بْنُ مِسْمَارٍ الْمَرْوَزِيُّ وَالْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ،
قَالا: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ
يَعْقُوبَ، قال: حدثنى فائد مولى عبيد الله ابن عَلِيِّ بْنِ أَبِي رَافِعٍ، أَنَّ
إِبْرَاهِيمَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، أَخْبَرَهُ أَنَّ
عائشة زوج النبي ص اخبرته [ان رسول الله ص قَالَ: لَوْ رَحِمَ اللَّهُ أَحَدًا
مِنْ قَوْمِ نُوحٍ لَرَحِمَ أُمَّ الصَّبِيِّ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص: كَانَ
نُوحٌ مَكَثَ فِي قَوْمِهِ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا، يَدْعُوهُمْ
إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، حَتَّى كَانَ آخِرَ زَمَانِهِ غَرَسَ شَجَرَةً
فَعَظُمَتْ وَذَهَبَتْ كُلَّ مَذْهَبٍ ثُمَّ قَطَعَهَا، ثُمَّ جَعَلَ يَعْمَلُ
سَفِينَةً فَيَمُرُّونَ فَيَسْأَلُونَهُ فَيَقُولُ: أَعْمَلُهَا سَفِينَةً،
فَيَسْخَرُونَ مِنْهُ، وَيَقُولُونَ: تَعْمَلُ سَفِينَةً فِي الْبَرِّ فَكَيْفَ
تَجْرِي! فَيَقُولُ: سَوْفَ تَعْلَمُونَ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا وَفَارَ
التَّنُّورُ وَكَثُرَ الْمَاءُ فِي السِّكَكِ خَشِيَتْ أُمُّ الصَّبِيِّ عَلَيْهِ-
وَكَانَتْ تُحِبُّهُ حُبًّا شَدِيدًا- فَخَرَجَتْ إِلَى الْجَبَلِ حَتَّى بَلَغَتْ
ثُلُثَهُ، فَلَمَّا بَلَغَهَا الْمَاءُ خَرَجَتْ حَتَّى بَلَغَتْ ثُلُثَيِ
الْجَبَلِ، فَلَمَّا بَلَغَهَا الْمَاءُ خَرَجَتْ حَتَّى اسْتَوَتْ عَلَى
الْجَبَلِ، فَلَمَّا بَلَغَ الْمَاءُ رَقَبَتَهَا رَفَعَتْهُ بِيَدِهَا، حَتَّى
ذَهَبَ بِهِ الْمَاءُ، فَلَوْ رَحِمَ اللَّهُ مِنْهُمْ أَحَدًا لَرَحِمَ أُمَّ
الصَّبِيِّ] .
حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بن الهيثم، عن
المسيب بن
(1/180)
شَرِيكٍ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ،
عَنِ الضَّحَّاكِ، قَالَ: قال سلمان الفارسي: عمل نوح السفينة أربعمائة سَنَةٍ،
وَأَنْبَتَ السَّاجَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، حَتَّى كَانَ طوله ثلاثمائة ذِرَاعٍ،
وَالذِّرَاعُ إِلَى الْمَنْكِبِ.
فَعَمِلَ نُوحٌ بِوَحْيِ اللَّهِ إِلَيْهِ، وَتَعْلِيمِهِ إِيَّاهُ، عَمِلَهَا
فَكَانَتْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ،
قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ طول السفينة ثلاثمائة ذِرَاعٍ، وَعَرْضَهَا خَمْسُونَ
ذِرَاعًا، وَطُولُهَا فِي السَّمَاءِ ثَلاثُونَ ذِرَاعًا، وَبَابُهَا فِي
عَرْضِهَا حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قال: حدثنا عبد العزيز، قال: حدثنا مبارك، عَنِ
الْحَسَنِ، قَالَ: كَانَ طُولُ سَفِينَةِ نُوحٍ الف ذراع ومائتي ذراع، وعرضها
ستمائه ذِرَاعٍ.
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي
حَجَّاجٌ، عَنْ مُفَضَّلِ بْنِ فَضَالَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ
جُدْعَانَ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ
الحواريون لعيسى بن مَرْيَمَ: لَوْ بَعَثْتَ لَنَا رَجُلا شَهِدَ السَّفِينَةَ
فَحَدَّثَنَا عَنْهَا! فَانْطَلَقَ بِهِمْ حَتَّى انْتَهَى إِلَى كَثِيبٍ مِنْ
تُرَابٍ، فَأَخَذَ كَفًّا مِنْ ذَلِكَ التُّرَابِ بِكَفِّهِ، فَقَالَ: أَتَدْرُونَ
مَا هَذَا؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: هَذَا قَبْرُ حَامِ
بْنِ نُوحٍ، قَالَ: فَضَرَبَ الْكَثِيبَ بِعَصَاهُ وَقَالَ: قُمْ بِإِذْنِ
اللَّهِ، فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ يَنْفُضُ التُّرَابَ عَنْ رَأْسِهِ، وَقَدْ شَابَ،
فَقَالَ لَهُ عيسى ع: هَكَذَا هَلَكْتَ؟ قَالَ: لا، وَلَكِنِّي مِتُّ وَأَنَا
شَابٌّ، وَلَكِنِّي ظَنَنْتُ أَنَّهَا السَّاعَةُ، فَمِنْ ثَمَّ شِبْتُ قَالَ:
حَدِّثْنَا عَنْ سَفِينَةِ نُوحٍ، قَالَ:
كَانَ طُولُهَا أَلْفَ ذِرَاعٍ وَمِائَتَيْ ذِرَاعٍ وَعَرْضُهَا ستمائه ذِرَاعٍ،
وَكَانَتْ ثَلاثَ طَبَقَاتٍ: فَطَبَقَةٌ فِيهَا الدَّوَابُّ وَالْوَحْشُ،
وَطَبَقَةٌ فِيهَا الإِنْسُ، وَطَبَقَةٌ فِيهَا الطَّيْرُ، فَلَمَّا كَثُرَ
أَرْوَاثُ الدَّوَابِّ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى نُوحٍ أَنِ اغْمِزْ ذَنَبَ الْفِيلِ،
فَغَمَزَ فَوَقَعَ منه خِنْزِيرٌ وَخِنْزِيرَةٌ، فَأَقْبَلا عَلَى الرَّوْثِ،
فَلَمَّا وَقَعَ الْفَأْرُ بِخُرَزِ السَّفِينَةِ يَقْرِضُهُ، أَوْحَى اللَّهُ
إِلَى نُوحٍ أَنِ اضْرِبْ بَيْنَ عَيْنَيِ الأَسَدِ، فَخَرَجَ مِنْ مَنْخَرِهِ
سِنَّوْرٌ وَسِنَّوْرَةٌ، فَأَقْبَلا عَلَى الْفَأْرِ فَقَالَ لَهُ عِيسَى: كَيْفَ
عَلِمَ نُوحٌ أَنَّ الْبِلادَ قَدْ غَرِقَتْ؟ قَالَ: بَعَثَ الْغُرَابَ يَأْتِيهِ
بِالْخَبَرِ، فَوَجَدَ جِيفَةً فَوَقَعَ عَلَيْهَا، فَدَعَا عَلَيْهِ بِالْخَوْفِ،
فَلِذَلِكَ لا يَأْلَفُ الْبُيُوتَ قَالَ: ثُمَّ بَعَثَ الْحَمَامَةَ، فَجَاءَتْ
(1/181)
بِوَرَقِ زَيْتُونٍ
بِمِنْقَارِهَا وَطِينٍ بِرِجْلَيْهَا، فَعَلِمَ أَنَّ الْبِلادَ قَدْ غَرِقَتْ
قَالَ: فَطَوَّقَهَا الْخُضْرَةَ الَّتِي في عنقها، دعا لَهَا أَنْ تَكُونَ فِي
أَنَسٍ وَأَمَانٍ، فَمِنْ ثَمَّ تَأْلَفُ الْبُيُوتَ قَالَ: فَقَالَتِ
الْحَوَارِيُّونَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلا نَنْطَلِقْ بِهِ إِلَى أَهْلِنَا،
فَيَجْلِسَ مَعَنَا وَيُحَدِّثَنَا؟ قَالَ: كَيْفَ يَتْبَعُكُمْ مَنْ لا رِزْقَ
لَهُ؟ قَالَ:
فَقَالَ لَهُ: عُدْ بِإِذْنِ اللَّهِ، فَعَادَ تُرَابًا.
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي
هِشَامٌ، قَالَ: أخبرني أبي، عن أبي صالح، عن ابن عَبَّاسٍ، قَالَ: نَجَرَ نُوحٌ
السَّفِينَةَ بِجَبَلِ بُوذَ، من ثم تبدى الطوفان قال: وكان طول السفينة ثلاثمائة
ذِرَاعٍ بِذِرَاعِ جَدِّ أَبِي نُوحٍ، وَعَرْضُهَا خَمْسِينَ ذِرَاعًا، وَطُولُهَا
فِي السَّمَاءِ ثَلاثِينَ ذِرَاعًا، وَخَرَجَ مِنْهَا مِنَ الْمَاءِ سِتَّةُ
أَذْرُعٍ، وَكَانَتْ مُطَبَّقَةً، وَجُعِلَ لَهَا ثَلاثَةُ أَبْوَابٍ، بَعْضُهَا
أَسْفَلُ مِنْ بعض.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عمن لا يتهم، عن
عبيد بن عمير الليثي، أنه كان يحدث أنه بلغه أنهم كانوا يبطشون به- يعني قوم نوح
بنوح- فيخنقونه حتى يغشى عليه، فإذا أفاق قال:
اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون.
قال ابن إسحاق: حتى إذا تمادوا في المعصية، وعظمت في الأرض منهم الخطيئة، وتطاول
عليه وعليهم الشأن، واشتد عليه منهم البلاء، وانتظر النجل بعد النجل، فلا يأتي قرن
إلا كان أخبث من الذي قبله، حتى إن كان الآخر منهم ليقول: قد كان هذا مع آبائنا
ومع أجدادنا، هكذا مجنونا! لا يقبلون منه شيئا، حتى شكا ذلك من أمرهم نوح إلى الله
عز وجل، فقال كما قص الله عز وجل علينا في كتابه: «رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي
لَيْلًا وَنَهاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً» إلى آخر القصة، حتى
قال: «رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ
تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً» ، إلى آخر
القصة فلما شكا ذلك منهم نوح إلى الله عز وجل
(1/182)
واستنصره عليهم اوحى الله اليه
ان «اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ
ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ» فاقبل نوح على عمل الفلك، ولها عن قومه، وجعل
يقطع الخشب ويضرب الحديد،، ويهيئ عدة الفلك من القار وغيره مما لا يصلحه إلا هو،
وجعل قومه يمرون به، وهو في ذلك من عمله، فيسخرون منه، ويستهزئون به فيقول: «إِنْ
تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ
تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ»
قال: ويقولون- فيما بلغني-: يا نوح قد صرت نجارا بعد النبوة! قال: وأعقم الله
أرحام النساء فلا يولد لهم.
قال: ويزعم أهل التوراة أن الله عز وجل أمره أن يصنع الفلك من خشب الساج، وأن
يصنعه أزور، وأن يطليه بالقار من داخله وخارجه، وأن يجعل طوله ثمانين ذراعا وعرضه
خمسين ذراعا، وطوله في السماء ثلاثين ذراعا، وأن يجعله ثلاثة أطباق: سفلا ووسطا
وعلوا، وأن يجعل فيه كوا ففعل نوح كما امره الله عز وجل، حتى إذا فرغ منه وقد عهد
الله إليه: «إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ
كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ
وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ» وقد جعل التنور آية فيما بينه
وبينه، فقال: إذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين واركب فلما
فار التنور حمل نوح في الفلك من أمره الله تعالى به- وكانوا قليلا كما قال- وحمل
فيها من كل زوجين اثنين مما فيه الروح والشجر، ذكرا وأنثى فحمل فيه بنيه الثلاثة:
سام وحام ويافث ونساءهم، وستة أناس ممن كان آمن به فكانوا عشرة نفر: نوح وبنوه
وأزواجهم، ثم أدخل ما أمره الله به من الدواب، وتخلف عنه ابنه يام، وكان كافرا
(1/183)
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ،
قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عن ابن إسحاق، عن الحسن ابن دِينَارٍ، عَنْ عَلِيِّ
بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:
سَمِعْتُهُ يَقُولُ: كَانَ أَوَّلَ مَا حَمَلَ نُوحٌ فِي الْفُلْكِ مِنَ
الدَّوَابِّ الذرة، وَآخِرَ مَا حَمَلَ الْحِمَارُ فَلَمَّا أَدْخَلَ الْحِمَارَ
وَدَخَلَ صَدْرُهُ تَعَلَّقَ إِبْلِيسُ لَعَنَهُ اللَّهُ بِذَنَبِهِ فَلَمْ
تَسْتَقِلَّ رِجْلاهُ، فَجَعَلَ نُوحٌ يَقُولُ: وَيْحَكَ! ادْخُلْ، فَيَنْهَضُ
فَلا يَسْتَطِيعُ، حَتَّى قَالَ نُوحٌ، وَيْحَكَ! ادْخُلْ وَإِنْ كَانَ
الشَّيْطَانُ مَعَكَ، قَالَ كَلِمَةٌ زَلَّتْ عَنْ لِسَانِهِ، فَلَمَّا قَالَهَا
نُوحٌ خَلَّى الشَّيْطَانُ سَبِيلَهُ، فَدَخَلَ وَدَخَلَ الشَّيْطَانُ مَعَهُ،
فَقَالَ لَهُ نُوحٌ: مَا أَدْخَلَكَ عَلَيَّ يَا عَدُوَّ اللَّهِ! قَالَ: أَلَمْ
تَقُلِ: ادْخُلْ وَإِنْ كَانَ الشَّيْطَانُ مَعَكَ!، قَالَ: اخْرُجْ عَنِّي يَا
عَدُوَّ اللَّهِ، فَقَالَ: مالك بُدٌّ مِنْ أَنْ تَحْمِلَنِي، فَكَانَ- فِيمَا
يَزْعُمُونَ- فِي ظَهْرِ الْفُلْكِ، فَلَمَّا اطْمَأَنَّ نُوحٌ فِي الْفُلْكِ
وَأَدْخَلَ فِيهِ كُلَّ مَنْ آمَنَ بِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي الشَّهْرِ مِنَ
السَّنَةِ الَّتِي دخل فيها نوح بعد ستمائه سَنَةٍ مِنْ عُمْرِهِ لِسَبْعَ
عَشْرَةَ لَيْلَةً مَضَتْ مِنَ الشَّهْرِ، فَلَمَّا دَخَلَ وَحَمَلَ مَعَهُ مَنْ
حمل، تحرك يَنَابِيعُ الْغَوْطِ الأَكْبَرِ، وَفُتِحَتْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ،
كَمَا قال الله لنبيه ص: «فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ
وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ»
فَدَخَلَ نُوحٌ وَمَنْ مَعَهُ الْفُلْكَ وَغَطَّاهُ عَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ مَعَهُ
بِطَبَقَةٍ، فَكَانَ بَيْنَ أَنْ أَرْسَلَ اللَّهُ الْمَاءَ وَبَيْنَ أَنِ
احْتَمَلَ الْمَاءُ الْفُلْكَ أَرْبَعُونَ يَوْمًا وَأَرْبَعُونَ لَيْلَةً ثُمَّ
احْتَمَلَ الْمَاءُ كَمَا يَزْعُمُ أَهْلُ التَّوْرَاةِ، وَكَثُرَ وَاشْتَدَّ
وَارْتَفَعَ، يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ص.
«وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ
كانَ كُفِرَ» .
وَالدُّسُرُ: الْمَسَامِيرُ، مَسَامِيرُ الْحَدِيدِ فَجَعَلَتِ الْفُلْكُ تَجْرِي
بِهِ وَبِمَنْ مَعَهُ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ، وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ الَّذِي
هَلَكَ فِيمَنْ هَلَكَ، وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ حِينَ رَأَى نُوحٌ مِنْ صِدْقِ
مَوْعُودِ رَبِّهِ مَا رَأَى، فَقَالَ: «يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ
مَعَ الْكافِرِينَ» ، وَكَانَ شَقِيًّا قَدْ أُضْمِرَ كُفْرًا، «قالَ سَآوِي إِلى
جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ» ، وَكَانَ عَهَدَ الْجِبَالَ وهي حرز
(1/184)
مِنَ الأَمْطَارِ إِذَا
كَانَتْ، فَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ كما كان يكون، قال نوح: «لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ
أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ
الْمُغْرَقِينَ» .
وَكَثُرَ الْمَاءُ وَطَغَى، وَارْتَفَعَ فَوْقَ الْجِبَالِ- كما يزعم أَهْلُ
التَّوْرَاةِ- خَمْسَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا، فَبَادَ مَا عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ مِنَ
الْخَلْقِ، مِنْ كُلِّ شَيْءٍ فِيهِ الرُّوحُ أَوْ شَجَرٍ، فَلَمْ يَبْقَ شَيْءٌ
مِنَ الْخَلائِقِ إِلا نُوحٌ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ، وَإِلا عوجُ بْنُ عنقٍ-
فِيمَا يَزْعُمُ أَهْلُ الْكِتَابِ- فَكَانَ بَيْنَ أَنْ أَرْسَلَ اللَّهُ
الطُّوفَانَ وَبَيْنَ أَنْ غَاضَ الْمَاءُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرُ لَيَالٍ.
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي
هِشَامٌ، قَالَ:
أَخْبَرَنِي أبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قَالَ: أَرْسَلَ اللَّهُ الْمَطَرَ
أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، فَأَقْبَلَتِ الْوُحُوشُ حِينَ
أَصَابَهَا الْمَطَرُ وَالدَّوَابُّ وَالطَّيْرُ كُلُّهَا إِلَى نُوحٍ،
وَسُخِّرَتْ لَهُ، فَحَمَلَ مِنْهَا كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «مِنْ
كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ» ، وَحَمَلَ مَعَهُ جَسَدَ آدَمَ، فَجَعَلَهُ حَاجِزًا
بَيْنَ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ، فَرَكِبُوا فِيهَا لِعَشْرِ لَيَالٍ مَضَيْنَ
مِنْ رَجَبٍ، وَخَرَجُوا مِنْهَا يَوْمَ عَاشُورَاءَ مِنَ الْمُحَرَّمِ،
فَلِذَلِكَ صَامَ مَنْ صَامَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأُخْرِجَ الْمَاءُ نِصْفَيْنِ،
فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ «فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ
مُنْهَمِرٍ» ، يقول: منصب، «وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً» ، يَقُولُ:
شَقَقْنَا الأَرْضَ، «فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ» فَصَارَ
الْمَاءُ نِصْفَيْنِ: نِصْفٌ مِنَ السَّمَاءِ وَنِصْفٌ مِنَ الأَرْضِ، وَارْتَفَعَ
الْمَاءُ عَلَى أَطْوَلِ جَبَلٍ فِي الأَرْضِ خَمْسَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا، فَسَارَتْ
بِهِمُ السَّفِينَةُ، فَطَافَتْ بِهِمُ الأَرْضَ كُلَّهَا فِي سِتَّةِ أَشْهُرٍ لا
تَسْتَقِرُّ عَلَى شَيْءٍ، حَتَّى أَتَتِ الْحَرَمَ فَلَمْ تَدْخُلْهُ، وَدَارَتْ
بِالْحَرَمِ أُسْبُوعًا، وَرُفِعَ البيت الذى بناه آدم ع، رُفِعَ مِنَ الْغَرَقِ،
- وَهُوَ الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ وَالْحَجَرُ الأَسْوَدُ- عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ،
فَلَمَّا دَارَتْ بِالْحَرَمِ ذَهَبَتْ فِي الأَرْضِ تَسِيرُ بِهِمْ، حَتَّى
انْتَهَتْ إِلَى الْجُودِيِّ- وَهُوَ جَبَلٌ بِالْحَضِيضِ مِنْ
(1/185)
أَرْضِ الْمَوْصِلِ-
فَاسْتَقَرَّتْ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لِتَمَامِ السَّبْعِ، فَقِيلَ بَعْدَ
السَّبْعَةِ الأَشْهُرِ:
«بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» ، فلما استقرت عَلَى الْجُودِيِّ قِيلَ يا
أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ» ، يَقُولُ: أَنْشِفِي مَاءَكِ الَّذِي خَرَجَ مِنْكِ،
«وَيا سَماءُ أَقْلِعِي» ، يقول:
احبسى ماءك، «وَغِيضَ الْماءُ» نَشَّفَتْهُ الأَرْضُ، فَصَارَ مَا نَزَلَ مِنَ
السَّمَاءِ هَذِهِ الْبُحُورَ الَّتِي تَرَوْنَ فِي الأَرْضِ، فَآخِرُ مَا بَقِيَ
مِنَ الطُّوفَانِ فِي الأَرْضِ مَاءٌ بِحَسْمَى بَقِيَ فِي الأَرْضِ أَرْبَعِينَ
سَنَةً بَعْدَ الطُّوفَانِ ثُمَّ ذَهَبَ.
وَكَانَ التَّنُّورُ الَّذِي جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ آيَةَ مَا بَيْنَهُ
وَبَيْنَ نُوحٍ فَوَرَانَ الْمَاءِ مِنْهُ تَنُّورًا كَانَ لِحَوَّاءَ من
حِجَارَةً، وَصَارَ إِلَى نُوحٍ.
حَدَّثَنِي يعقوب بن إبراهيم، قال: حَدَّثَنَا هشيم، عن أبي محمد، عن الحسن، قال:
كان تنورا من حجارة، كان لحواء حتى صار إلى نوح، قال: فقيل له: إذا رأيت الماء
يفور من التنور، فاركب أنت وأصحابك.
وقد اختلف في المكان الذي كان به التنور الذي جعل الله فوران مائه آية، ما بينه
وبين نوح، فقال بعضهم: كان بالهند.
ذِكْرُ مَنْ قال ذلك:
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عَبْدُ الْحَمِيدِ الْحِمَّانِيُّ، عَنِ النَّضْرِ
أَبِي عُمَرَ الْخَزَّازِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فِي: «وَفارَ
التَّنُّورُ» قَالَ:
فَارَ بِالْهِنْدِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: كَانَ ذَلِكَ بِنَاحِيَةِ الْكُوفَةِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ:
(1/186)
حدثني الحارث، قال: حدثنا
الحسن، قال: حدثنا خَلَفُ بْنُ خَلِيفَةَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ:
نَبَعَ الْمَاءُ فِي التَّنُّورِ، فَعَلِمَتْ بِهِ امْرَأَتُهُ فَأَخْبَرَتْهُ،
قَالَ: وَكَانَ ذَلِكَ فِي نَاحِيَةِ الْكُوفَةِ.
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ
بْنُ ثَابِتٍ، عَنِ السَّرِيِّ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، أَنَّهُ
كَانَ يَحْلِفُ بِاللَّهِ: مَا فَارَ التَّنُّورُ إِلا مِنْ نَاحِيَةِ الْكُوفَةِ.
وَاخْتُلِفَ فِي عَدَدِ مَنْ رَكِبَ الْفُلْكَ مِنْ بَنِي آدَمَ، فَقَالَ
بَعْضُهُمْ:
كَانُوا ثَمَانِينَ نَفْسًا.
ذكر من قال ذلك:
حدثني موسى بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَسْرُوقِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ
الْحُبَابِ، قَالَ: حَدَّثَنِي حُسَيْنُ بْنُ وَاقِدٍ الْخُرَاسَانِيُّ، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَبُو نَهِيكٍ، قَالَ:
سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: كَانَ فِي سَفِينَةِ نُوحٍ ثَمَانُونَ رَجُلا،
أَحَدُهُمْ جُرْهُمٌ.
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي
حَجَّاجٌ، قَالَ:
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ: حَمَلَ نُوحٌ مَعَهُ فِي
السَّفِينَةِ ثَمَانِينَ إِنْسَانًا.
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ، قَالَ: قَالَ
سُفْيَانُ: كَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ: كَانُوا ثَمَانِينَ- يَعْنِي الْقَلِيلَ
الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:
«وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ» .
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرني هشام، قال:
أخبرني أبي، عن أبي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: حَمَلَ نُوحٌ فِي
السَّفِينَةِ بَنِيهِ: سَامَ، وَحَامَ، وَيَافِثَ وَكَنَائِنَهُ، نِسَاءَ بَنِيهِ
هَؤُلاءِ، وَثَلاثَةَ وَسَبْعِينَ مِنْ بَنِي شِيثٍ، مِمَّنْ آمَنَ بِهِ،
فَكَانُوا ثَمَانِينَ فِي السفينة
(1/187)
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ كَانُوا
ثَمَانِيَةَ أَنْفُسٍ ذِكْرُ من قال ذلك:
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قال: ذكر لنا أنه لَمْ يَتِمَّ فِي
السَّفِينَةِ إِلا نُوحٌ وَامْرَأَتُهُ وَثَلاثَةٌ بَنِيهِ، وَنِسَاؤُهُمْ،
فَجَمِيعُهُمْ ثَمَانِيَةٌ.
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ وَالْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ، قَالا: حَدَّثَنَا يَحْيَى
بن عبد الملك ابن أبي غنية، عن أبيه، عن الحكم: «وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا
قَلِيلٌ» ، قَالَ: نُوحٌ، وَثَلاثَةُ بَنِيهِ، وَأَرْبَعُ كَنَائِنِهِ.
حَدَّثَنَا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قَالَ:
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: حُدِّثْتُ أَنَّ نُوحًا حَمَلَ مَعَهُ بَنِيهِ الثَّلاثَةَ
وَثَلاثَ نِسْوَةٍ لِبَنِيهِ، وَامْرَأَةَ نُوحٍ، فَهُمْ ثَمَانِيَةٌ
بِأَزْوَاجِهِمْ، وَأَسْمَاءُ بَنِيهِ: يَافِثُ، وَحَامُ، وَسَامُ.
فَأَصَابَ حَامُ امْرَأَتَهُ فِي السَّفِينَةِ، فَدَعَا نُوحٌ أَنْ تُغَيَّرَ
نُطْفَتُهُ، فَجَاءَ بِالسُّودَانِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَانُوا سَبْعَةَ أَنْفُسٍ.
ذكر من قَالَ ذلك:
حدثني الحارث، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ،
عَنِ الاعمش: «وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ» ، قَالَ: كَانُوا سَبْعَةً:
نُوحٌ، وَثَلاثُ كَنَائِنَ، وَثَلاثَةُ بَنِينَ لَهُ.
وَقَالَ آخَرُونَ: كَانُوا عَشَرَةً سِوَى نِسَائِهِمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ:
(1/188)
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال:
حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، قال:
حمل بنيه الثلاثة: سام، وحام، ويافث ونساءهم، وستة أناسي ممن كان آمن به، فكانوا
عشرة نفر بنوح وبنيه وأزواجهم وأرسل الله تبارك وتعالى الطوفان لمضي ستمائه سنة من
عمر نوح- فيما ذكره أهل العلم من أهل الكتاب وغيرهم- ولتتمة ألفي سنة ومائتي سنة
وست وخمسين سنة من لدن اهبط آدم إلى الأرض.
وقيل: إن الله عز وجل أرسل الطوفان لثلاث عشرة خلت من آب، وإن نوحا أقام في الفلك
إلى أن غاض الماء، واستوت الفلك على جبل الجودي بقردى، في اليوم السابع عشر من
الشهر السادس فلما خرج نوح منها اتخذ بناحية قردى من أرض الجزيرة موضعا، وابتنى
هناك قرية سماها ثمانين، لأنه كان بنى فيها بيتا لكل إنسان ممن آمن معه وهم
ثمانون، فهي إلى اليوم تسمى سوق ثمانين.
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي
هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قال: أخبرني أبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: هبط نوح
ع إِلَى قَرْيَةٍ، فَبَنَى كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ بَيْتًا، فَسُمِّيَتْ سُوقَ
ثَمَانِينَ، فَغَرِقَ بَنُو قَابِيلَ كُلُّهُمْ، وَمَا بَيْنَ نُوحٍ إِلَى آدَمَ
مِنَ الآبَاءِ كَانُوا عَلَى الإِسْلامِ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَصَارَ هُوَ وَأَهْلُهُ فِيهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ
أَنَّهُ لا يُعِيدُ الطُّوفَانَ إِلَى الأَرْضِ أَبَدًا.
وَقَدْ حَدَّثَنِي عَبَّادُ بْنُ يَعْقُوبَ الأَسَدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا
المحاربى، عن عثمان
(1/189)
ابن مَطَرٍ، عَنْ عَبْدِ
الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ الْغَفُورِ، عن ابيه، قال: [قال رسول الله ص: فِي أَوَّلِ
يَوْمٍ مِنْ رَجَبٍ رَكِبَ نُوحٌ السَّفِينَةَ، فَصَامَ هُوَ وَجَمِيعُ مَنْ
مَعَهُ، وَجَرَتْ بِهِمْ السَّفِينَةُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، فَانْتَهَى ذَلِكَ إِلَى
الْمُحَرَّمِ، فَأَرْسَتِ السَّفِينَةُ عَلَى الْجُودِيِّ يَوْمَ عَاشُورَاءَ،
فَصَامَ نُوحٌ، وَأَمَرَ جَمِيعَ مَنْ مَعَهُ مِنَ الْوَحْشِ وَالدَّوَابِّ
فَصَامُوا شُكْرًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ] .
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ،
قَالَ: كَانَتِ السَّفِينَةُ أَعْلاهَا الطَّيْرُ، وَوَسَطُهَا النَّاسُ،
وَأَسْفَلُهَا السِّبَاعُ.
وَكَانَ طُولُهَا فِي السَّمَاءِ ثَلاثِينَ ذِرَاعًا، وَدُفِعَتْ مِنْ عَيْنِ
وَرْدَةٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِعَشْرِ لَيَالٍ مَضَيْنَ مِنْ رَجَبٍ، وَأَرْسَتْ
عَلَى الْجُودِيِّ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَمَرَّتْ بِالْبَيْتِ، فَطَافَتْ بِهِ
سَبْعًا، وَقَدْ رَفَعَهُ اللَّهُ مِنَ الْغَرَقِ، ثُمَّ جَاءَتِ الْيَمَنَ، ثُمَّ
رَجَعَتْ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حدثنا
حجاج، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: هَبَطَ نُوحٌ مِنَ
السَّفِينَةِ يَوْمَ الْعَاشِرِ مِنَ الْمُحَرَّمِ، فَقَالَ لِمَنْ مَعَهُ: مَنْ
كَانَ مِنْكُمْ صَائِمًا فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، وَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُفْطِرًا
فَلْيَصُمْ.
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا
سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّهَا- يَعْنِي الْفُلْكَ-
اسْتَقَلَّتْ بِهِمْ فِي عَشْرٍ خَلَوْنَ مِنْ رَجَبٍ، فَكَانَتْ فِي الْمَاءِ
خَمْسِينَ وَمِائَةَ يَوْمٍ، وَاسْتَقَرَّتْ عَلَى الْجُودِيِّ شَهْرًا،
وَأَهْبَطَ بِهِمْ فِي عَشْرٍ خَلَوْنَ مِنَ الْمُحَرَّمِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ.
حَدَّثَنَا القاسم، قال: حَدَّثَنَا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن أبي معشر، عن
محمد بن قيس، قال: ما كان زمان نوح شبر من الأرض إلا إنسان يدعيه
(1/190)
ثم عاش نوح بعد الطوفان فيما
حَدَّثَنِي نصر بن علي الجهضمي، قال:
أخبرنا نوح بن قيس، قال: حَدَّثَنَا عون بن أبي شداد، قال: عاش- يعني نوحا- بعد
ذلك- يعني بعد الألف سنة إلا خمسين عاما التي لبثها في قومه- ثلاثمائة وخمسين سنة.
وأما ابن إسحاق، فإن ابن حميد حَدَّثَنَا، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عنه، قال: وعمر
نوح- فيما يزعم أهل التوراة- بعد ان اهبط من الفلك ثلاثمائة سنة وثمانيا وأربعين
سنة، قال: فكان جميع عمر نوح ألف سنة إلا خمسين عاما، ثم قبضه الله عز وجل إليه.
وقيل: إن ساما ولد لنوح قبل الطوفان بثمان وتسعين سنة وقال بعض أهل التوراة: لم
يكن التناسل، ولا ولد لنوح ولد إلا بعد الطوفان، وبعد خروج نوح من الفلك.
قالوا: إنما الذين كانوا معه في الفلك قوم كانوا آمنوا به واتبعوه، غير أنهم بادوا
وهلكوا، فلم يبق لهم عقب، وإنما الذين هم اليوم في الدنيا من بني آدم ولد نوح
وذريته دون سائر ولد آدم، كما قال الله عز وجل:
«وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ» .
وقيل: إنه كان لنوح قبل الطوفان ابنان هلكا جميعا، كان أحدهما يقال له كنعان،
قالوا: وهو الذي غرق في الطوفان، والآخر منهما يقال له عابر، مات قبل الطوفان.
حَدَّثَنَا الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ: أخبرني هشام، قال:
أخبرني أبي، عن أبي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: وُلِدَ لِنُوحٍ سَامُ،
وَفِي وَلَدِهِ بَيَاضٌ وَأُدْمَةٌ، وَحَامُ وَفِي وَلَدِهِ سَوَادٌ وَبَيَاضٌ
قَلِيلٌ، وَيَافثُ وَفِيهِمُ الشُّقْرَةُ وَالْحُمْرَةُ، وَكَنْعَانُ وَهُوَ
الَّذِي غَرِقَ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّيهِ يَامَ، وَذَلِكَ قَوْلُ الْعَرَبِ:
إِنَّمَا هام عَمُّنَا يَامُ، وَأُمُّ هَؤُلاءِ وَاحِدَةٌ
(1/191)
فَأَمَّا الْمَجُوسُ
فَإِنَّهُمْ لا يَعْرِفُونَ الطُّوفَانَ، وَيَقُولُونَ: لَمْ يَزَلِ الْمُلْكُ
فِينَا مِنْ عَهْدِ جُيومَرْتَ، وَقَالُوا: جُيومَرْتَ هُوَ آدَمُ يَتَوَارَثُهُ
آخِرُ عَنْ أَوَّلَ إِلَى عَهْدِ فَيْرُوزَ بْنِ يَزْدجردَ بْنِ شَهْرَيَارَ،
قَالُوا: وَلَوْ كَانَ لِذَلِكَ صِحَّةٌ كَانَ نَسَبُ الْقَوْمِ قَدِ انْقَطَعَ،
وَمُلْكُ الْقَوْمِ قَدِ اضْمَحَلَّ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يُقِرُّ بِالطُّوفَانِ
وَيَزْعُمُ أَنَّهُ كَانَ فِي إِقْلِيمِ بَابِلَ وَمَا قَرُبَ مِنْهُ، وَأَنَّ
مَسَاكِنَ وَلَدِ جيومرتَ كَانَتْ بِالْمَشْرِقِ، فَلَمْ يَصِلْ ذَلِكَ
إِلَيْهِمْ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مِنَ الْخَبَرِ
عَنِ الطُّوفَانِ بِخِلافِ مَا قَالُوا، فَقَالَ وَقَوْلُهُ الْحَقُّ: «وَلَقَدْ
نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ. وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ
الْكَرْبِ الْعَظِيمِ. وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ» ، فَأَخْبَرَ
عَزَّ ذِكْرُهُ أَنَّ ذُرِّيَّةَ نُوحٍ هُمُ الْبَاقُونَ دُونَ غَيْرِهِمْ.
وَقَدْ ذَكَرْتُ اخْتِلافَ النَّاسَ فِي جُيومَرْتَ وَمَنْ يُخَالِفُ الْفُرْسَ
فِي عَيْنِهِ، ومن هو، ومن نسبه الى نوح ع.
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَثْمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا
سَعِيدُ بْنُ بَشِيرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ
جُنْدُبٍ، [عَنِ النبي ص في قوله: «وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ»
قَالَ: سَامُ وَحَامُ وَيَافِثُ] .
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد عن قتادة، في قوله:
«وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ» ، قَالَ: فَالنَّاسُ كُلُّهُمْ مِنْ
ذُرِّيَّةِ نُوحٍ.
حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ:
حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ
تَعَالَى: «وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ» .
يَقُولُ: لَمْ يَبْقَ إِلا ذُرِّيَّةَ نُوحٍ.
وروي عن علي بن مجاهد، عن ابن إسحاق، عن الزهري. وعن محمد بن
(1/192)
صالح، عن الشعبي قالا: لما هبط
آدم من الجنة، وانتشر ولده أرخ بنوه من هبوط آدم، فكان ذلك التاريخ حتى بعث الله
نوحا فارخوا ببعث نوح، حتى كان الغرق، فهلك من هلك ممن كان على وجه الأرض. فلما
هبط نوح وذريته وكل من كان في السفينة إلى الأرض قسم الأرض بين ولده أثلاثا: فجعل
لسام وسطا من الأرض، ففيها بيت المقدس، والنيل، والفرات، ودجلة، وسيحان، وجيحان،
وفيشون، وذلك ما بين فيشون إلى شرقي النيل، وما بين منخر ريح الجنوب إلى منخر
الشمال. وجعل لجام قسمه غربي النيل، فما وراءه إلى منخر ريح الدبور. وجعل قسم يافث
في فيشون فما وراءه إلى منخر ريح الصبا، فكان التاريخ من الطوفان إلى نار إبراهيم،
ومن نار إبراهيم إلى مبعث يوسف، ومن مبعث يوسف إلى مبعث موسى، ومن مبعث موسى إلى
ملك سليمان، ومن ملك سليمان إلى مبعث عيسى بن مريم، ومن مبعث عيسى بن مريم الى ان
بعث رسول ص.
وهذا الذي ذكر عن الشعبي من التاريخ ينبغي أن يكون على تاريخ اليهود، فأما أهل
الإسلام فإنهم لم يؤرخوا إلا من الهجرة، ولم يكونوا يؤرخون بشيء من قبل ذلك، غير
أن قريشا كانوا- فيما ذكر- يؤرخون قبل الإسلام بعام الفيل، وكان سائر العرب يؤرخون
بأيامهم المذكورة، كتاريخهم بيوم جبلة، وبالكلاب الاول، والكلاب الثانى.
وكانت النصارى تؤرخ بعهد الإسكندر ذي القرنين، وأحسبهم على ذلك من التاريخ إلى
اليوم.
وأما الفرس فإنهم كانوا يؤرخون بملوكهم، وهم اليوم فيما أعلم يؤرخون بعهد يزدجرد
بن شهريار، لأنه كان آخر من كان من ملوكهم له ملك بابل والمشرق
(1/193)
ذكر بيوراسب، وهو الازدهاق
والعرب تسميه الضحاك، فتجعل الحرف الذي بين السين والزاي في الفارسية ضادا، والهاء
حاء، والقاف كافا، وإياه عنى حبيب بن أوس بقوله:
ما نال ما قد نال فرعون ولا ... هامان في الدنيا ولا قارون
بل كان كالضحاك في سطواته ... بالعالمين، وأنت أفريدون
وهو الذي افتخر بادعائه أنه منهم الحسن بن هانئ في قوله:
وكان منا الضحاك يعبده ... الخابل والجن في مساربها
قال: واليمن تدعيه.
حُدِّثْتُ عَنْ هِشَامِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ- فيما ذكر من أمر الضحاك
هذا- قال: والعجم تدعي الضحاك وتزعم أن جما كان زوج أخته من بعض أشراف أهل بيته،
وملكه على اليمن، فولدت له الضحاك.
قال: واليمن تدعيه، وتزعم أنه من أنفسها، وأنه الضحاك بن علوان بن عبيد بن عويج،
وأنه ملك على مصر أخاه سنان بن علوان بن عبيد بن عويج، وهو أول الفراعنة، وأنه كان
ملك مصر حين قدمها إبراهيم خليل الرحمن ع.
وأما الفرس فإنها تنسب الازدهاق هذا غير النسبة التي ذكر هشام عن أهل اليمن، وتذكر
أنه بيوراسب بن ارونداسب بن زينكاو بن ويروشك
(1/194)
ابن تاز بن فرواك بن سيامك بن
مشا بن جيومرت.
ومنهم من ينسبه هذه النسبة، غير أنه يخالف النطق بأسماء آبائه فيقول:
هو الضحاك بن اندرماسب بن زنجدار بن وندريسج بن تاج بن فرياك بن ساهمك بن تاذي بن
جيومرت.
والمجوس تزعم ان تاج هذا هو أبو العرب، ويزعمون أن أم الضحاك كانت ودك بنت
ويونجهان، وأنه قتل أباه تقربا بقتله إلى الشياطين، وأنه كان كثير المقام ببابل،
وكان له ابنان يقال لأحدهما: سرهوار، وللآخر نفوار.
وقد ذكر عن الشعبي أنه كان يقول: هو قرشت مسخه الله ازدهاق.
ذكر الرواية عنه بِذَلِكَ:
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بن الفضل، عن يحيى بن
العلاء، عن القاسم بن سلمان، عن الشعبي، قال: أبجد، وهوز، وحطي، وكلمن، وسعفص،
وقرشت، كانوا ملوكا جبابرة، فتفكر قرشت يوما، فقال:
تبارك الله أحسن الخالقين! فمسخه الله فجعله أجدهاق، وله سبعة
(1/195)
أرؤس، فهو الذي بدنباوند،
وجميع أهل الأخبار من العرب والعجم تزعم أنه ملك الأقاليم كلها، وأنه كان ساحرا
فاجرا.
وحدثت عن هشام بن محمد، قال: ملك الضحاك بعد جم- فيما يزعمون، والله أعلم- ألف
سنة، ونزل السواد في قرية يقال لها نرس في ناحية طريق الكوفة، وملك الأرض كلها،
وسار بالجور والعسف، وبسط يده في القتل، وكان أول من سن الصلب والقطع، وأول من وضع
العشور، وضرب الدراهم، وأول من تغنى وغني له، قال: ويقال إنه خرج في منكبه سلعتان
فكانتا تضربان عليه، فيشتد عليه الوجع حتى يطليهما بدماغ إنسان، فكان يقتل لذلك في
كل يوم رجلين ويطلي سلعتيه بدماغيهما، فإذا فعل ذلك سكن ما يجد، فخرج عليه رجل من
أهل بابل فاعتقد لواء، واجتمع إليه بشر كثير، فلما بلغ الضحاك خبره راعه، فبعث
إليه: ما أمرك؟
وما تريد؟ قال: ألست تزعم أنك ملك الدنيا، وأن الدنيا لك! قال: بلى، قال: فليكن
كلبك على الدنيا، ولا يكونن علينا خاصة، فإنك إنما تقتلنا دون الناس فأجابه الضحاك
إلى ذلك، وأمر بالرجلين اللذين كان يقتلهما في كل يوم أن يقسما على الناس جميعا،
ولا يخص بهما مكان دون مكان قال: فبلغنا أن أهل أصبهان من ولد ذلك الرجل الذي رفع
اللواء، وأن ذلك اللواء لم يزل محفوظا عند ملوك فارس في خزائنهم، وكان فيما بلغنا
جلد أسد، فألبسه ملوك فارس الذهب والديباج تيمنا به.
قال: وبلغنا أن الضحاك هو نمرود، وان ابراهيم خليل الرحمن ص
(1/196)
ولد في زمانه، وأنه صاحبه الذي
أراد إحراقه.
قال: وبلغنا أن أفريدون- هو من نسل جم الملك الذي كان من قبل الضحاك، ويزعمون أنه
التاسع من ولده، وكان مولده بدنباوند، خرج حتى ورد منزل الضحاك وهو عنه غائب
بالهند، فحوى على منزله وما فيه، فبلغ الضحاك ذلك، فأقبل وقد سلبه الله قوته،
وذهبت دولته، فوثب به أفريدون فأوثقه وصيره بجبال دنباوند، فالعجم تزعم أنه إلى
اليوم موثق في الحديد يعذب هناك.
وذكر غير هشام أن الضحاك لم يكن غائبا عن مسكنه، ولكن افريدون ابن أثفيان جاء إلى
مسكن له في حصن يدعى زرنج ماه. مهروز مهر، فنكح امرأتين له: تسمى إحداهما: أروناز
والأخرى سنوار. فوهل بيوراسب لما عاين ذلك، وخر مدلها لا يعقل، فضرب أفريدون هامته
بجرز له ملتوي الرأس، فزاده ذلك وهلا وعزوب عقل، ثم توجه به أفريدون إلى جبل
دنباوند، وشده هنالك وثاقا، وامر الناس باتخاذ. مهر ماه مهر روز. - وهو المهرجان
اليوم الذي أوثق فيه بيوراسب- عيدا، وعلا أفريدون سرير الملك.
وذكر عن الضحاك أنه قال يوم ملك وعقد عليه التاج: نحن ملوك الدنيا، المالكون لما
فيها.
والفرس تزعم أن الملك لم يكن إلا للبطن الذى منه اوشهنج وجم وطهمورث، وان الضحاك
كان غاصبا وأنه غصب أهل الأرض بسحره وخبثه، وهول عليهم بالحيتين اللتين كانتا على
منكبيه، وأنه بنى بأرض بابل مدينة
(1/197)
سماها حوب، وجعل النبط أصحابه
وبطانته، فلقي الناس منه كل جهد، وذبح الصبيان.
ويقول كثير من أهل الكتب: إن الذي كان على منكبيه كان لحمتين طويلتين ناتئتين على
منكبيه، كل واحدة منهما كرأس الثعبان، وأنه كان بخبثه ومكره يسترهما بالثياب ويذكر
على طريق التهويل أنهما حيتان يقتضيانه الطعام، وكانتا تتحركان تحت ثوبه إذا جاع
كما يتحرك العضو من الإنسان عند التهابه بالجوع والغضب ومن الناس من يقول: كان ذلك
حيتين، وقد ذكرت ما روي عن الشعبي في ذلك، والله أعلم بحقيقته وصحته.
وذكر بعض أهل العلم بأنساب الفرس وأمورهم أن الناس لم يزالوا من بيوراسب هذا في
جهد شديد، حتى إذا أراد الله إهلاكه وثب به رجل من العامة من أهل أصبهان يقال له
كابي، بسبب ابنين كانا له أخذهما رسل بيوراسب بسبب الحيتين اللتين كانتا على
منكبيه. وقيل: إنه لما بلغ الجزع من كابي هذا على ولده أخذ عصا كانت بيده، فعلق
بأطرافها جرابا كان معه، ثم نصب ذلك العلم، ودعا الناس إلى مجاهدة بيوراسب
ومحاربته، فأسرع إلى إجابته خلق كثير، لما كانوا فيه معه من البلاء وفنون الجور،
فلما غلب كابي تفاءل الناس بذلك العلم، فعظموا أمره، وزادوا فيه حتى صار عند ملوك
العجم علمهم الأكبر الذي يتبركون به، وسموه درفش كابيان، فكانوا لا يسيرونه إلا في
الأمور العظام، ولا يرفع إلا لأولاد الملوك إذا وجهوا في الأمور العظام.
وكان من خبر كابي أنه شخص عن أصبهان بمن تبعه والتف إليه في طريقه، فلما قرب من
الضحاك وأشرف عليه، قذف في قلب الضحاك
(1/198)
منه الرعب، فهرب عن منازله،
وخلى مكانه، وانفتح للأعاجم فيه ما أرادوا، فاجتمعوا إلى كابي وتناظروا، فأعلمهم
كابي أنه لا يتعرض للملك، لأنه ليس من أهله، وأمرهم أن يملكوا بعض ولد جم، لأنه
ابن الملك الاكبر او شهنق بن فرواك الذي رسم الملك، وسبق إلى القيام به، وكان
أفريدون بن أثفيان مستخفيا في بعض النواحي من الضحاك، فوافى كابي ومن كان معه،
فاستبشر القوم بموافاته، وذلك أنه كان مرشحا للملك برواية كانت لهم في ذلك،
فملكوه، وصار كابي والوجوه لأفريدون أعوانا على أمره، فلما ملك وأحكم ما احتاج
إليه من أمر الملك، واحتوى على منازل الضحاك، أتبعه فأسره بدنباوند في جبالها.
وبعض المجوس تزعم أنه جعله أسيرا حبيسا في تلك الجبال، موكلا به قوم من الجن.
ومنهم من يقول: إنه قتله، وزعموا أنه لم يسمع من أمور الضحاك شيء يستحسن غير شيء
واحد، وهو أن بليته لما اشتدت ودام جوره وطالت أيامه، عظم على الناس ما لقوا منه،
فتراسل الوجوه في أمره، فأجمعوا على المصير إلى بابه، فوافى بابه الوجوه والعظماء
من الكور والنواحي، فتناظروا في الدخول عليه والتظلم اليه، والتاتى لاستعطافه،
فاتفقوا على أن يقدموا للخطاب عنهم كابي الأصبهاني، فلما صاروا إلى بابه أعلم
بمكانهم، فأذن لهم، فدخلوا وكابي متقدم لهم، فمثل بين يديه، وأمسك عن السلام، ثم
قال: أيها الملك، أي السلام أسلم عليك؟ أسلام من يملك هذه الأقاليم كلها، أم سلام
من يملك هذا الإقليم الواحد؟ يعني بابل، فقال له الضحاك: بل سلام من يملك هذه
الأقاليم كلها، لأني ملك الأرض. فقال له الأصبهاني: فإذا كنت تملك الأقاليم كلها،
وكانت يدك تنالها أجمع، فما بالنا قد خصصنا بمؤنتك
(1/199)
وتحاملك وإساءتك من بين أهل
الأقاليم! وكيف لم تقسم أمر كذا وكذا بيننا وبين الأقاليم؟ وعدد عليه أشياء كان
يمكنه تخفيفها عنهم، وجرد له الصدق والقول في ذلك، فقدح في قلب الضحاك قوله، وعمل
فيه حتى انخزل وأقر بالإساءة، وتألف القوم ووعدهم ما يحبون، وأمرهم بالانصراف
لينزلوا ويتدعوا، ثم يعودوا ليقضي حوائجهم، ثم ينصرفوا إلى بلادهم.
وزعموا أن أمه ودك كانت شرا منه وأردى، وأنها كانت في وقت معاتبة القوم إياه
بالقرب منه تتعرف ما يقولونه، فتغتاظ وتنكره، فلما خرج القوم دخلت مستشيطة منكرة
على الضحاك احتماله القوم، وقالت له: قد بلغني كل ما كان وجرأة هؤلاء القوم عليك
حتى قرعوك بكذا، وأسمعوك كذا، أفلا دمرت عليهم ودمدمتهم، أو قطعت أيديهم! فلما
أكثرت على الضحاك قال لها مع عتوه: يا هذه، إنك لم تفكري في شيء إلا وقد سبقت
اليه، الا ان القوم بدهونى بالحق، وقرعونى به، فلما هممت بالسطوة بهم والوثوب
عليهم تخيل الحق فمثل بيني وبينهم بمنزلة الجبل، فما أمكنني فيهم شيء ثم سكتها
وأخرجها، ثم جلس لأهل النواحي بعد أيام، فوفى لهم بما وعدهم، وردهم وقد لان لهم، وقضى
أكثر حوائجهم، ولا يعرف للضحاك- فيما ذكر- فعلة استحسنت منه غير هذه.
وقد ذكر أن عمر الأجدهاق هذا كان ألف سنه، وان ملكه منها كان ستمائه سنة، وأنه كان
في باقي عمره شبيها بالملك لقدرته ونفوذ أمره وقال
(1/200)
بعضهم: إنه ملك ألف سنة وكان
عمره ألف سنة ومائة سنة، إلى أن خرج عليه أفريدون فقهره وقتله.
وقال بعض علماء الفرس: لا نعلم أحدا كان أطول عمرا- ممن لم يذكر عمره في التوراة-
من الضحاك هذا، ومن جامر بن يافث بن نوح أبي الفرس، فإنه ذكر أن عمره كان ألف سنة.
وإنما ذكرنا خبر بيوراسب في هذا الموضع، لأن بعضهم زعم أن نوحا ع كان في زمانه،
وأنه إنما كان أرسل إليه وإلى من كان في مملكته، ممن دان بطاعته واتبعه على ما كان
عليه من العتو والتمرد على الله، فذكرنا إحسان الله وأياديه عند نوح ع بطاعته ربه
وصبره على ما لقي منه من الأذى والمكروه في عاجل الدنيا، بأن نجاه ومن آمن معه
واتبعه من قومه، وجعل ذريته هم الباقين في الدنيا، وأبقى له ذكره بالثناء الجميل،
مع ما ذخر له عنده في الآجل من النعيم المقيم والعيش الهنيء، وإهلاكه الآخرين
بمعصيتهم إياه وتمردهم عليه، وخلافهم أمره، فسلبهم ما كانوا فيه من النعيم، وجعلهم
عبرة وعظة للغابرين، مع ما ذخر لهم عنده في الآجل من العذاب الأليم.
ونرجع الآن إلى ذكر نوح ع والخبر عنه وعن ذريته، إذ كانوا هم الباقين اليوم كما
أخبر الله عنهم، وكان الآخرون الذين بعث نوح إليهم خلا ولده ونسله قد بادوا
وذريتهم، فلم يبق منهم ولا من أعقابهم أحد.
[قد ذكرنا قبل عن رسول الله ص أنه قال في قول الله عز وجل: «وَجَعَلْنا
ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ» : إنهم سام، وحام، ويافث] .
حَدَّثَنِي محمد بن سهل بن عسكر، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال:
حَدَّثَنَا عبد الصمد بن معقل، قال: سمعت وهب بن منبه، يقول: إن سام بن نوح أبو العرب
وفارس والروم، وإن حام أبو السودان، وأن يافث ابو الترك وابو يأجوج وماجوج، وهو
بنو عم الترك
(1/201)
وقيل: كانت زوجة يافث أربسيسة
بنت مرازيل بن الدرمسيل بن محويل بن خنوخ بن قين بن آدم ع، فولدت له سبعة نفر
وامرأة.
فممن ولدت له من الذكور جومر بن يافث وهو- فيما حَدَّثَنَا ابن حميد، قال:
حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق- أبو يأجوج ومأجوج، ومارح بن يافث ووائل بن يافث،
وحوان بن يافث، وتوبيل بن يافث، وهوشل بن يافث، وترس بن يافث، وشبكة بنت يافث قال:
فمن بني يافث كانت يأجوج ومأجوج والصقالبة والترك فيما يزعمون وكانت امرأة حام بن
نوح نحلب بنت مارب بن الدرمسيل بن محويل بن خنوخ بن قين بن آدم فولدت له ثلاثة
نفر: كوش بن حام بن نوح، وقوط بن حام بن نوح، وكنعان بن حام فنكح كوش بن حام بن
نوح قرنبيل ابنة بتاويل بن ترس بن يافث، فولدت له الحبشة والسند والهند فيما
يزعمون ونكح قوط بن حام بن نوح بخت ابنه بتاويل ابن ترس بن يافث بن نوح، فولدت له
القبط- قبط مصر- فيما يزعمون ونكح كنعان بن حام بن نوح ارتيل ابنة بتاويل بن ترس
بن يافث بن نوح، فولدت له الأساود: نوبة، وفزان، والزنج، والزغاوة، وأجناس السودان
كلها.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، في الحديث قال: ويزعم
أهل التوراة أن ذلك لم يكن الا عن دعوة دعاها نوح على ابنه حام، وذلك أن نوحا نام
فانكشف عن عورته، فرآها حام فلم يغطها، ورآها سام ويافث فألقيا عليها ثوبا فواريا
عورته، فلما هب من نومته علم ما صنع حام وسام ويافث، فقال: ملعون كنعان بن حام،
عبيدا يكونون لأخوته، وقال: يبارك الله ربي في سام، ويكون حام عبد أخويه، ويقرض
الله يافث، ويحل في مساكن حام، ويكون كنعان عبدا لهم قال: وكانت امراه سام
(1/202)
ابن نوح صليب ابنه بتاويل بن
محويل بن خنوخ بن قين بن آدم، فولدت له نفرا: أرفخشد بن سام، وأشوذ بن سام، ولاوذ
بن سام، وعويلم بن سام، وكان لسام إرم بن سام، قال: ولا أدري إرم لأم أرفخشد
وإخوته أم لا؟
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي
هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قال: أخبرني أبي، عن أبي صالح، عن ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:
لَمَّا ضَاقَتْ بِوَلَدِ نُوحٍ سُوقُ ثَمَانِينَ تَحَوَّلُوا إِلَى بَابِلَ
فَبَنُوهَا، وَهِيَ بَيْنَ الْفُرَاتِ وَالصَّرَاةِ، وَكَانَتِ اثْنَيْ عَشْرَ
فَرْسَخًا فِي اثْنَيْ عَشْرَ فَرْسَخًا، وَكَانَ بَابُهَا مَوْضِعَ دَوَرَانِ
الْيَوْمِ، فَوْقَ جِسْرِ الْكُوفَةِ يُسْرَةً إِذَا عَبَرْتَ، فَكَثُرُوا بِهَا
حَتَّى بَلَغُوا مِائَةَ أَلْفٍ، وَهُمْ عَلَى الإِسْلامِ.
وَرَجَعَ الْحَدِيثُ إِلَى حَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ فَنَكَحَ لاوذُ بْنُ سَامَ
بْنِ نُوحٍ شبكةَ ابْنَةَ يَافِثَ بْنِ نُوحٍ، فَوَلَدَتْ لَهُ فَارِسَ
وَجُرْجَانَ وَأَجْنَاسَ فَارِسَ، وَوُلِدَ لِلاوِذَ مَعَ الْفُرْسِ طسمُ
وَعِمْلِيقُ، وَلا أَدْرِي أَهُوَ لأُمِّ الْفُرْسِ أَمْ لا؟ فَعِمْلِيقُ أَبُو
الْعَمَالِيقِ كُلِّهِمْ أُمَمٍ تَفَرَّقَتْ فِي الْبِلادِ، وَكَانَ أَهْلُ
الْمَشْرِقِ وَأَهْلُ عُمَانَ وَأَهْلُ الْحِجَازِ وَأَهْلُ الشَّامِ وَأَهْلُ
مِصْرَ مِنْهُمْ، وَمِنْهُمْ كَانَتِ الْجَبَابِرَةُ بِالشَّامِ الَّذِينَ يُقَالُ
لَهُمُ الْكَنْعَانِيُّونَ، وَمِنْهُمْ كَانَتِ الْفَرَاعِنَةُ بِمِصْرَ، وَكَانَ
أَهْلُ الْبَحْرَيْنِ وَأَهْلُ عُمَانَ مِنْهُمْ أمه يسمون جاسم، وكان ساكنى
الْمَدِينَةَ مِنْهُمْ، بَنُو هفٍّ وَسَعْدِ بْنِ هَزَّانَ، وَبَنُو مَطَرٍ،
وَبَنُو الأَزْرَقِ وَأَهْلُ نَجْدٍ مِنْهُمْ بُدَيْلٌ وَرَاحِلٌ وَغِفَارٌ،
وَأَهْلُ تَيْمَاءَ مِنْهُمْ وَكَانَ مَلِكُ الْحِجَازِ مِنْهُمْ بِتَيْمَاءَ
اسْمُهُ الأَرْقَمُ، وَكَانُوا سَاكِنِي نَجْدٍ مَعَ ذَلِكَ وَكَانَ سَاكِنِي
الطَّائِفِ بَنُو عَبْدِ بْنِ ضَخْمٍ، حَيٌّ مِنْ عَبْسٍ الأَوَّلُ.
قَالَ: وَكَانَ بَنُو أُمَيْمِ بْنِ لاوِذَ بْنِ سَامَ بْنِ نُوحٍ أَهْلَ وبار
بِأَرْضِ الرمل،
(1/203)
رَمْلِ عَالِجٍ، وَكَانُوا
قَدْ كَثُرُوا بِهَا وَرَبَلُوا، فَأَصَابَتْهُمْ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
نَقْمَةٌ مِنْ مَعْصِيَةٍ أَصَابُوهَا، فَهَلَكُوا وَبَقِيَتْ مِنْهُمْ بَقِيَّةٌ،
وَهُمُ الَّذِينَ يُقَالُ لَهُمُ النَّسْنَاسُ.
قَالَ: وَكَانَ طسمُ بْنُ لاوِذَ سَاكِنَ الْيَمَامَةِ وَمَا حَوْلَهَا، قَدْ
كَثُرُوا بِهَا وَرَبَلُوا إِلَى الْبَحْرَيْنِ، فَكَانَتْ طسمُ وَالْعَمَالِيقُ
وَأُمَيْمُ وَجَاسِمُ قَوْمًا عَرَبًا، لِسَانُهُمُ الَّذِي جُبِلُوا عَلَيْهِ
لِسَانٌ عَرَبِيٌّ وَكَانَتْ فَارِسُ مِنْ أَهْلِ الْمَشْرِقِ بِبِلادِ فَارِسَ،
يَتَكَلَّمُونَ بِهَذَا اللِّسَانِ الْفَارِسِيِّ.
قَالَ: وَوَلَدُ إرَمَ بْنِ سَامَ بْنِ نُوحٍ عوصُ بْنُ إِرمَ، وَغَاثِرُ بْنُ
إِرمَ، وَحويلُ بْنُ إرمَ فَوَلَدُ عوصِ بْنِ إرمَ غَاثِرُ بْنُ عوصٍ، وَعَادُ
بْنُ عوصٍ، وَعُبَيْلُ ابن عوصٍ وَوَلَدُ غَاثِرِ بْنِ إرمَ ثَمُودُ بْنُ غَاثِرٍ،
وَجُدَيْسُ بْنُ غَاثِرٍ وَكَانُوا قَوْمًا عَرَبًا يَتَكَلَّمُونَ بِهَذَا
اللِّسَانِ الْمُضَرِيِّ، فَكَانَتِ الْعَرَبُ تَقُولُ لِهَذِهِ الأُمَمِ:
الْعَرَبُ الْعَارِبَةُ، لأَنَّهُ لِسَانُهُمُ الَّذِي جُبِلُوا عَلَيْهِ، وَيَقُولُونَ
لِبَنِي إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ:
الْعَرَبُ الْمُتَعَرِّبَةُ، لأَنَّهُمْ إِنَّمَا تَكَلَّمُوا بِلِسَانِ هَذِهِ
الأُمَمِ حِينَ سَكَنُوا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ.
فَعَادٌ وَثَمُودُ وَالْعَمَالِيقُ وَأُمَيْمٌ وَجَاسِمٌ وَجُدَيْسٌ وَطَسمٌ هُمُ
الْعَرَبُ، فكانت عاد بهذه الرمل الى حضر موت وَالْيَمَنِ كُلِّهِ، وَكَانَتْ
ثَمُودُ بِالْحَجَرِ بَيْنَ الْحِجَازِ وَالشَّامِ إِلَى وَادِي الْقُرَى وَمَا
حَوْلَهُ، وَلَحِقَتْ جُدَيْسٌ بِطسمٍ، فَكَانُوا مَعَهُمْ بِالْيَمَامَةِ وَمَا
حَوْلَهَا إِلَى الْبَحْرَيْنِ، وَاسْمُ الْيَمَامَةِ إِذْ ذَاكَ جَوٌّ،
وَسَكَنَتْ جَاسِمٌ عُمَانَ فَكَانُوا بِهَا.
وَقَالَ غَيْرُ ابْنِ إِسْحَاقَ: إِنَّ نُوحًا دَعَا لِسَامَ بِأَنْ يَكُونَ
الأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ مِنْ وَلَدِهِ، وَدَعَا لِيَافِثَ بِأَنْ يَكُونَ
الْمُلُوكُ مِنْ وَلَدِهِ، وَبَدَأَ بِالدُّعَاءِ لِيَافِثَ وَقَدَّمَهُ فِي
ذَلِكَ عَلَى سَامَ، وَدَعَا عَلَى حَامَ بِأَنْ يَتَغَيَّرَ لَوْنُهُ، وَيَكُونُ
وَلَدُهُ عَبِيدًا لِوَلَدِ سَامَ وَيَافِثَ.
قَالَ: وَذُكِرَ فِي الْكُتُبِ أَنَّهُ رَقَّ عَلَى حَامَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَدَعَا
لَهُ بِأَنْ يُرْزَقَ الرَّأْفَةَ مِنْ إِخْوَتِهِ، ودعا من ولد وَلَدِهِ لِكوشَ
بْنِ حَامَ وَلِجَامِرِ بْنِ يَافِثَ بن نوح،
(1/204)
وَذَلِكَ أَنَّ عِدَّةً مِنْ
وَلَدِ الْوَلَدِ لَحِقُوا نُوحًا فَخَدَمُوهُ، كَمَا خَدَمَهُ وَلَدُهُ
لِصُلْبِهِ، فَدَعَا لِعِدَّةٍ مِنْهُمْ.
قَالَ: فَوُلِدَ لِسَامَ عَابِرٌ وَعُلَيْمٌ وَأَشُوذُ وَأَرْفَخْشَدُ وَلاوِذُ
وَإِرَمُ، وَكَانَ مَقَامُهُ بِمَكَّةَ.
قَالَ: فَمِنْ وَلَدِ أَرْفَخْشَدَ الأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ وَخِيَارُ النَّاسِ،
وَالْعَرَبُ كُلُّهَا، وَالْفَرَاعِنَةُ بِمِصْرَ وَمِنْ وَلَدِ يَافِثَ بْنِ
نُوحٍ مُلُوكُ الأَعَاجِمِ كُلُّهَا مِنَ التُّرْكِ وَالْخُزْرِ وَغَيْرِهِمْ،
وَالْفُرْسِ الَّذِينَ آخِرُ مَنْ ملك منهم يزدجرد بن شهريار ابن أبرويزَ،
وَنَسَبُهُ يَنْتَهِي إِلَى جيومرتَ بْنِ يَافِثَ بْنِ نُوحٍ.
قَالَ: وَيُقَالُ إِنَّ قَوْمًا مِنْ وَلَدِ لاوِذَ بْنِ سَامَ بْنِ نُوحٍ
وَغَيْرِهِ مِنْ إِخْوَتِهِ نَزَعُوا إِلَى جَامِرٍ هَذَا، فَأَدْخَلَهُمْ جَامِرٌ
فِي نِعْمَتِهِ وَمُلْكِهِ، وَأَنَّ مِنْهُمْ مَاذِيَّ بْنَ يَافِثَ، وَهُوَ
الَّذِي تُنْسَبُ السُّيُوفُ الْمَاذِيَّةُ إِلَيْهِ قَالَ: وَهُوَ الَّذِي
يُقَالُ إِنَّ كيرشَ الْمَاذَوِيَّ قَاتَلَ بلشصرَ بْنَ أولمرودخَ بْنِ بختنصرَ
مِنْ وَلَدِهِ.
قَالَ: وَمِنْ وَلَدِ حَامَ بْنِ نُوحٍ، النُّوبَةُ، وَالْحَبَشَةُ، وَفَزَّانُ،
وَالْهِنْدُ، وَالسِّنْدُ، وَأَهْلُ السَّوَاحِلِ فِي الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ.
قَالَ: وَمِنْهُمْ نُمْرُودٌ، وَهُوَ نُمْرُودُ بْنُ كُوشَ بْنِ حَامَ.
قَالَ: وَوُلِدَ لأَرْفَخْشَدَ بْنِ سَامَ ابْنُهُ قينَانُ، وَلا ذِكْرَ لَهُ فِي
التَّوْرَاةِ، وَهُوَ الَّذِي قِيلَ إِنَّهُ لَمْ يَسْتَحِقَّ أَنْ يُذْكَرَ فِي
الْكُتُبِ الْمُنْزَلَةِ، لأَنَّهُ كَانَ سَاحِرًا، وَسَمَّى نَفْسَهُ إِلَهًا،
فَسِيقَتِ الْمَوَالِيدُ فِي التَّوْرَاةِ عَلَى أَرْفَخْشَدَ بْنِ سَامَ ثُمَّ
عَلَى شَالِخِ بْنِ قينانَ بْنِ أَرْفَخْشَدَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُذْكَرَ قينانُ
فِي النَّسَبِ، لِمَا ذُكِرَ مِنْ ذَلِكَ.
قَالَ: وَقِيلَ فِي شَالِخٍ: إِنَّهُ شَالِخُ بْنُ أَرْفَخْشَدَ مِنْ وَلَدٍ
لِقينانَ وَوُلِدَ لِشَالِخٍ عَابِرٌ وَوُلِدَ لِعَابِرٍ ابْنَانِ: أَحَدُهُمَا
فَالِغٌ، وَمَعْنَاهُ بِالْعَرَبِيَّةِ قَاسِمٌ- وَإِنَّمَا سُمِّيَ بِذَلِكَ
لأَنَّ الأَرْضَ قُسِمَتْ وَالأَلْسُنَ تَبَلْبَلَتْ فِي أَيَّامِهِ- وَسُمِّيَ
الآخَرُ قَحْطَانُ.
فَوُلِدَ لِقَحْطَانَ يَعْرُبُ وَيَقْطَانُ ابْنَا قَحْطَانَ بْنِ عَابِرِ بْنِ
شَالِخٍ، فَنَزَلا أَرْضَ الْيَمَنِ، وَكَانَ قَحْطَانُ أَوَّلَ مَنْ مَلَكَ
الْيَمَنَ، وَأَوَّلَ مَنْ سُلِّمَ عَلَيْهِ ب أَبَيْتَ اللَّعْنَ، كَمَا كَانَ
يُقَالُ لِلْمُلُوكِ وَوُلِدَ لِفَالِغِ بْنِ عَابِرٍ أَرْغُوا- وَوُلِدَ
لأَرْغُوا سَارُوغُ، وَوُلِدَ لِسَارُوغَ نَاحُورَا، وَوُلِدَ لِنَاحُورَا
تَارِخُ- وَاسْمُهُ بالعربية آزر- وولد لتارخ
(1/205)
ابراهيم ص وَوُلِدَ لأَرْفَخْشَدَ
أَيْضًا نُمْرُودُ بْنُ أَرْفَخْشَدَ، وَكَانَ مَنْزِلُهُ بِنَاحِيَةِ الْحَجرِ
وَوُلِدَ لِلاوِذَ بْنِ سَامَ طسمُ وَجُدَيْسٌ، وَكَانَ مَنْزِلُهُمَا
الْيَمَامَةَ.
وَوُلِدَ لِلاوِذَ أَيْضًا عِمْلِيقُ بْنُ لاوِذَ، وَكَانَ مَنْزِلُهُ الْحَرَمَ
وَأَكْنَافَ مَكَّةَ، وَلَحِقَ بَعْضُ وَلَدِهِ بِالشَّامِ، فَمُنْهُمْ كَانَتِ
الْعَمَالِيقُ، وَمِنَ الْعَمَالِيقِ الْفَرَاعِنَةُ بِمِصْرَ.
وَوُلِدَ لِلاوِذَ أَيْضًا أُمَيْمُ بْنُ لاوِذَ بْنِ سَامَ، وَكَانَ كَثِيرَ
الْوَلَدِ، فَنَزَعَ بَعْضُهُمْ إِلَى جَامِرِ بْنِ يَافِثَ بِالْمَشْرِقِ
وَوُلِدَ لإرَمَ بْنِ سَامَ عوصُ بْنُ إِرَمَ، وَكَانَ مَنْزِلُهُ الأَحْقَافَ
وَوُلِدَ لِعُوصٍ عَادُ بْنُ عُوصٍ.
وَأَمَّا حَامُ بْنُ نُوحٍ، فَوُلِدَ لَهُ كوشُ وَمصرايمُ وَقُوطُ وَكَنْعَانُ،
فَمِنْ وَلَدِ كوشَ نُمْرُودٌ الْمُتَجَبِّرُ الَّذِي كَانَ بِبَابِلَ، وَهُوَ
نُمْرُودُ بْنُ كوشَ بْنِ حَامَ، وَصَارَتْ بَقِيَّةُ وَلَدِ حَامَ بِالسَّوَاحِلِ
مِنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَالنُّوبَةِ وَالْحَبَشَةِ وَفَزَّانَ.
قَالَ: وَيُقَالُ: إِنَّ مصرايمَ وَلَدُ الْقِبْطِ وَالْبَرْبَرِ، وَإِنَّ قُوطًا
صَارَ الى ارض السند والهند فنزلها، وَإِنَّ أَهْلَهَا مِنْ وَلَدِهِ.
وَأَمَّا يَافِثُ بْنُ نُوحٍ فَوُلِدَ لَهُ جَامِرٌ وَموعجٌ وَموادِي وَبَوانُ
وثوبال وماشج وَتيرشُ وَمِنْ وَلَدِ جَامِرٍ مُلُوكُ فَارِسَ وَمِنْ وَلَدِ تيرشَ
التُّرْكُ وَالْخُزرُ وَمِنْ وَلَدِ مَاشِجٍ الأَشْبَانُ وَمِنْ وَلَدِ موعجٍ
يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ، وَهُمْ فِي شَرْقِيِّ أَرْضِ التُّرْكِ وَالْخُزْرِ وَمِنْ
وَلَدِ بوان الصَّقَالِبَةُ وَبرْجَانُ وَالأَشْبَانُ، كَانُوا فِي الْقَدِيمِ
بِأَرْضِ الرُّومِ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ بِهَا مَنْ وَقَعَ مِنْ وَلَدِ الْعيصِ
وَغَيْرِهِمْ، وَقَصَدَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْ هَؤُلاءِ الثَّلاثَةِ: سَامَ وَحَامَ
وَيَافِثَ أَرْضًا، فَسَكَنُوهَا وَدَفَعُوا غَيْرَهُمْ عَنْهَا.
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ بْنُ محمد، قَالَ: حدثنا محمد بن سعد، قال:
أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي
صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قال:
اوحى الله الى موسى ع: إِنَّكَ يَا مُوسَى وَقَوْمَكَ وَأَهْلَ الْجَزِيرَةِ
وَأَهْلَ الْعَالِ مِنْ وَلَدِ سَامِ بْنِ نُوحٍ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
وَالْعَرَبُ وَالْفُرْسُ وَالنَّبْطُ وَالْهِنْدُ وَالسِّنْدُ مِنْ وَلَدِ سَامِ
بْنِ نُوحٍ.
حَدَّثَنِي الحارث، قال: حدثنا مُحَمَّد بن سعد، قال: أخبرنا هشام بن
(1/206)
محمد، عن أبيه: قال: الهند
والسند بنو توقير بن يقطن بن عابر بن شالخ ابن أرفخشد بن سام بن نوح ومكران بن
البند، وجرهم، اسمه هذرم بن عابر بن سبأ بن يقطن بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام
بن نوح.
وحضرموت بن يقطن بن عابر بن شالخ ويقطن هو قحطان بن عابر بن شالخ ابن أرفخشد بن
سام بن نوح، في قول من نسبه إلى غير إسماعيل والفرس بنو فارس بن تيرش بن ناسور بن
نوح والنبط بنو نبيط بن ماش ابن ارم بن سام بن نوح وأهل الجزيرة والعال من ولد ماش
بن إرم بن سام ابن نوح وعمليق- وهو عريب- وطسم وأميم بنو لوذ بن سام بن نوح.
وعمليق هو أبو العمالقة، ومنهم البربر وهم بنو ثميلا بن مارب بن فاران بن عمرو بن
عمليق بن لوذ بن سام بن نوح، ما خلا صنهاجة وكتامة، فإنهما بنو فريقيش بن قيس بن
صيفي بن سبأ.
ويقال: إن عمليق أول من تكلم بالعربية حين ظعنوا من بابل، فكان يقال لهم ولجرهم:
العرب العاربة وثمود وجديس ابنا عابر بن ارم بن سام ابن نوح، وعاد وعبيل ابنا عوص
بن إرم بن سام بن نوح، والروم بنو لنطى ابن يونان بن يافث بن نوح ونمرود بن كوش بن
كنعان بن حام بن نوح.
وهو صاحب بابل، وهو صاحب إبراهيم خليل الرحمن ص.
قال: وكان يقال لعاد في دهرهم عاد إرم، فلما هلكت عاد قيل لثمود إرم، فلما هلكت
ثمود قيل لسائر بني إرم: إرمان، فهم النبط، فكل هؤلاء كان على الإسلام وهم ببابل،
حتى ملكهم نمرود بن كوش بن كنعان بن حام ابن نوح، فدعاهم إلى عبادة الأوثان
ففعلوا، فأمسوا وكلامهم السريانية، ثم أصبحوا وقد بلبل الله ألسنتهم، فجعل لا يعرف
بعضهم كلام بعض، فصار لبني سام ثمانية عشر لسانا، ولبني حام ثمانية عشر لسانا،
ولبني يافث
(1/207)
ستة وثلاثون لسانا، ففهم الله
العربية عادا وعبيل وثمود وجديس وعمليق وطسم وأميم وبني يقطن بن عابر بن شالخ بن
أرفخشد بن سام بن نوح.
وكان الذي عقد لهم الألوية ببابل بوناظر بن نوح، وكان نوح فِيمَا حَدَّثَنِي
الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي هِشَامٌ، قَالَ:
أَخْبَرَنِي أَبِي عَنِ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: تَزَوَّجَ امْرَأَةً
مِنْ بَنِي قَابِيلَ، فَوَلَدَتْ لَهُ غُلامًا، فَسَمَّاهُ بوناظرَ، فَوَلَدَهُ
بِمَدِينَةٍ بِالْمَشْرِقِ يُقَالُ لَهَا معلونُ شَمْسًا، فَنَزَلَ بَنُو سَامَ
الْمُجَدَّلُ سرةَ الأَرْضِ، وَهُوَ مَا بَيْنَ سَاتِيدْمَا إِلَى الْبَحْرِ،
وَمَا بَيْنَ الْيَمَنِ إِلَى الشَّامِ، وَجَعَلَ اللَّهُ النُّبُوَّةَ
وَالْكِتَابَ وَالْجَمَالَ وَالأَدمَةَ وَالْبَيَاضَ فِيهِمْ.
وَنَزَلَ بَنُو حَامَ مَجْرَى الْجَنُوبِ وَالدَّبُورِ، وَيُقَالُ لِتِلْكَ
النَّاحِيَةِ الدَّارُومُ، وَجَعَلَ اللَّهُ فِيهِمْ أُدْمَةً وَبَيَاضًا قَلِيلا،
وَأَعْمَرَ بِلادَهُمْ وَسَمَاءَهُمْ، وَرَفَعَ عَنْهُمُ الطَّاعُونَ، وَجَعَلَ
فِي أَرْضِهِمُ الأَثْلَ وَالأَرَاكَ وَالْعشرَ وَالْغَارَ وَالنَّخْلَ، وَجَرَتِ
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ فِي سَمَائِهِمْ وَنَزَلَ بَنُو يَافِثَ الصِّفُونَ مَجْرَى
الشَّمَالِ وَالصَّبَا، وَفِيهِمُ الْحُمْرَةُ وَالشُّقْرَةُ، وَأَخْلَى اللَّهُ
أَرْضَهُمْ فَاشْتَدَّ بَرْدُهَا، وَأَخْلَى سَمَاءَهُمْ، فَلَيْسَ يَجْرِي
فَوقَهُمْ شَيْءٌ مِنَ النُّجُومِ السَّبْعَةِ الْجَارِيَةِ، لأَنَّهُمْ صَارُوا
تَحْتَ بَنَاتِ نَعْشٍ وَالْجَدي وَالْفَرْقَديْنِ، فَابْتُلُوا بِالطَّاعُونِ
ثُمَّ لَحِقَتْ عَادٌ بِالشَّحرِ فَعَلَيْهِ هَلَكُوا بِوَادٍ يُقَالُ لَهُ
مُغِيثُ، فَلَحِقَتْهُمْ بَعْدَ مهْرَةَ بِالشَّحْرِ وَلَحِقَتْ عُبَيْلَ
بِمَوْضِعِ يَثْرِبَ وَلَحِقَتِ الْعَمَالِيقُ بِصَنْعَاءَ قَبْلَ أَنْ تُسَمَّى
صَنْعَاءَ، ثُمَّ انْحَدَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى يَثْرِبَ، فاخرجوا منها عبيل،
فَنَزَلُوا مَوْضِعَ الْجُحْفَةِ، فَأَقْبَلَ السَّيْلُ فَاجْتَحَفَهُمْ فَذَهَبَ
بِهِمْ فَسُمِّيَتِ الْجُحْفَةُ وَلَحِقَتْ ثَمُودُ بِالْحجْرِ وَمَا يَلِيهِ
فَهَلَكُوا ثَمَّ، وَلَحِقَتْ طسمُ وَجُدَيْسٌ بِالْيَمَامَةِ فَهَلَكُوا
وَلَحِقَتْ أُمَيْمٌ بِأَرْضِ أَبارٍ فَهَلَكُوا بِهَا، وَهِيَ بَيْنَ
الْيَمَامَةِ وَالشَّحْرِ، وَلا يَصِلُ إِلَيْهَا الْيَوْمَ أَحَدٌ، غَلَبَتْ
عَلَيْهَا الْجِنُّ وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ أَبَّارُ بِأَبَّارِ بْنِ أُمَيْمٍ
(1/208)
وَلَحِقَتْ بَنُو يَقْطُنَ
بْنِ عَابِرٍ بِالْيَمَنِ، فَسُمِّيَتِ الْيَمَنُ حَيْثُ تَيَامَنُوا إِلَيْهَا،
وَلَحِقَ قَوْمٌ مِنْ بَنِي كَنْعَانَ بِالشَّامِ فَسُمِّيَتِ الشَّامُ حَيْثُ
تَشَاءَمُوا إِلَيْهَا، وَكَانَتِ الشَّامُ يُقَالُ لَهَا أَرْضُ بَنِي كَنْعَانَ،
ثُمَّ جَاءَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ فَقَتَلُوهُمْ بِهَا، وَنَفَوْهُمْ عَنْهَا،
فَكَانَتِ الشَّامُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ثُمَّ وَثَبَتِ الرُّومُ عَلَى بَنِي
إِسْرَائِيلَ فَقَتَلُوهُمْ، وَأَجْلَوْهُمْ إِلَى الْعِرَاقِ إِلا قَلِيلا
مِنْهُمْ، ثُمَّ جَاءَتِ الْعَرَبُ فَغَلَبُوا عَلَى الشَّامِ، وَكَانَ فَالِغُ-
وَهُوَ فَالِغُ بْنُ عَابِرِ بْنِ أَرْفَخْشَدَ بْنِ سَامَ بْنِ نُوحٍ- هُوَ
الَّذِي قَسَّمَ الأَرْضَ بَيْنَ بَنِي نُوحٍ كَمَا سَمَّيْنَا وَأَمَّا
الأَخْبَارُ عَنْ رسول الله ص وَعَنْ عُلَمَاءِ سَلَفِنَا فِي أَنْسَابِ الأُمَمِ
الَّتِي هِيَ فِي الأَرْضِ الْيَوْمَ، فَعَلَى مَا حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ
بَشِيرِ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْوَرَّاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ
زُرَيْعٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ، قال:
[قال رسول الله ص: سَامُ أَبُو الْعَرَبِ، وَيَافِثُ أَبُو الرُّومِ، وَحَامُ
أَبُو الْحَبَشِ] .
حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ بِشْرِ بْنِ مَعْرُوفٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا رَوْحٌ،
قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ،
عن سمره بن جندب، عن [النبي ص، قَالَ: وَلَدُ نُوحٍ ثَلاثَةٌ: سَامُ وَحَامُ
وَيَافِثُ، فَسَامُ أَبُو الْعَرَبِ، وَحَامُ أَبُو الزِّنْجِ، وَيَافِثُ أَبُو
الرُّومِ] .
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ
الْحَسَنِ، عن سمره، قال: [قال رسول الله ص: سَامُ أَبُو الْعَرَبِ، وَيَافِثُ
أَبُو الرُّومِ، وَحَامُ أَبُو الْحَبَشِ] .
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي زِيَادٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي رَوْحٌ، قَالَ:
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عن
سمره، [عن النبي ص، قَالَ:
وَلَدُ نُوحٍ سَامُ وَحَامُ وَيَافِثُ] قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: قَالَ رَوْحٌ:
أَحْفَظُ يَافِثُ، وَسَمِعْتُ مره يافث.
وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ عَبْدِ الأَعْلَى بْنِ عَبْدِ الأَعْلَى،
عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ وَعِمْرَانَ بْنِ
حُصَيْنٍ، عن النبي ص
(1/209)
حَدَّثَنِي عِمْرَانُ بْنُ
بَكَّارٍ الْكَلاعِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، قَالَ: حَدَّثَنَا
إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ
بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ: وَلَدُ نُوحٍ ثَلاثَةُ، وَوَلَدٍ كُلُّ وَاحِدٍ
ثَلاثَةٌ: سَامُ، وَحَامُ، وَيَافِثُ.
فَوَلَدُ سَامَ الْعَرَبُ وَفَارِسُ وَالرُّومُ، وَفِي كُلِّ هَؤُلاءِ خَيْرٌ
وَوَلَدُ يَافِثَ التُّرْكُ وَالصَّقَالِبَةُ وَيَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ، وَلَيْسَ
فِي وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلاءِ خَيْرٌ، وَوَلَدُ حَامَ الْقِبْطُ وَالسُّودَانُ
وَالْبَرْبَرُ.
وروي عن ضمرة بن ربيعة، عن ابن عطاء، عن أبيه، قال: ولد حام كل أسود جعد الشعر،
وولد يافث كل عظيم الوجه صغير العينين، وولد سام كل حسن الوجه حسن الشعر قال: ودعا
نوح على حام ألا يعدو شعر ولده آذانهم، وحيثما لقي ولده ولد سام استعبدوهم.
وزعم أهل التوراة أن سام ولد لنوح بعد أن مضى من عمره خمسمائة سنة، ثم ولد لسام
أرفخشد بعد أن مضى من عمر سام مائة سنة وسنتان، فكان جميع عمر سام- فيما زعموا-
ستمائه سنة ثم ولد لأرفخشد قينان، وكان عمر ارفخشد أربعمائة سنة وثمانيا وثلاثين
سنة وولد قينان لأرفخشد بعد أن مضى من عمره خمس وثلاثون سنة، ثم ولد لقينان شالخ
بعد أن مضى من عمره تسع وثلاثون سنة، ولم يذكر مدة عمر قينان في الكتب فيما ذكر
لما ذكرنا من أمره قبل.
ثم ولد لشالخ عابر بعد أن مضى من عمره ثلاثون سنة، وكان عمر شالخ كله أربعمائة سنة
وثلاثا وثلاثين سنة.
ثم ولد لعابر فالغ وأخوه قحطان، وكان مولد فالغ بعد الطوفان بمائة وأربعين سنة،
فلما كثر الناس بعد ذلك مع قرب عهدهم بالطوفان هموا ببناء مدينة تجمعهم فلا
يتفرقون، أو صرح عال يحرزهم من الطوفان إن كان مرة أخرى فلا يغرقون، فأراد الله عز
وجل أن يوهن أمرهم، ويخلف ظنهم ويعلمهم أن الحول والقوه له، فبدد شملهم، وشتت
جمعهم، وفرق ألسنتهم وكان عمر عابر أربعمائة سنة وأربعا وسبعين سنة
(1/210)
ثم ولد لفالغ أرغوا، وكان عمر
فالغ مائتين وتسعا وثلاثين سنة، وولد أرغوا لفالغ وقد مضى من عمره ثلاثون سنة، ثم
ولد لأرغوا ساروغ، وكان عمر أرغوا مائتين وتسعا وثلاثين سنة، وولد له ساروغ بعد ما
مضى من عمره اثنتان وثلاثون سنة ثم ولد لساروغ ناحور، وكان عمر ساروغ مائتين
وثلاثين سنة وولد له ناحور، وقد مضى من عمره ثلاثون سنة.
ثم ولد لناحور تارخ أبو إبراهيم، صلوات الله عليه، وكان هذا الاسم اسمه الذي سماه
أبوه، فلما صار مع نمرود قيما على خزانة آلهته سماه آزر.
وقد قيل: إن آزر ليس باسم أبيه، وإنما هو اسم صنم، فهذا قول يروى عن مجاهد وقد قيل
إنه عيب عابه به بمعنى معوج، بعد ما مضى من عمر ناحور سبع وعشرون سنة، وكان عمر
ناحور كله مائتين وثمانيا وأربعين سنة.
وولد لتارخ إبراهيم، وكان بين الطوفان ومولد إبراهيم ألف سنة وتسع وسبعون سنة،
وكان بعض أهل الكتاب يقول: كان بين الطوفان ومولد إبراهيم ألف سنة ومائتا سنة
وثلاث وستون سنة، وذلك بعد خلق آدم بثلاثة آلاف وثلاثمائة سنة وسبع وثلاثين سنة.
وولد لقحطان بن عابر يعرب، فولد يعرب يشجب بن يعرب، فولد يشجب سبأ بن يشجب، فولد
سبأ حمير بن سبأ وكهلان بن سبأ وعمرو ابن سبأ، والأشعر بن سبأ وأنمار بن سبأ ومر
بن سبأ وعاملة بن سبأ فولد عمرو ابن سبأ عدي بن عمرو، فولد عدي لخم بن عدي وجذام
بن عدي.
وقد زعم بعض نسابي الفرس أن نوحا هو أفريدون الذي قهر الازدهاق، وسلبه ملكه وزعم
بعضهم أن أفريدون هو ذو القرنين صاحب إبراهيم ع الذي قضى له ببئر السبع، الذي ذكر
الله في كتابه وقال بعضهم: هو سليمان بن داود.
وإنما ذكرته في هذا الموضع لما ذكرت فيه من قول من قال: انه نوح،
(1/211)
وإن قصته شبيهة بقصة نوح في
أولاد له ثلاثة، وعدله وحسن سيرته، وهلاك الضحاك على يده وأنه قيل إن هلاك الضحاك
كان على يد نوح وأن نوحا إنما كان أرسل- في قول من ذكرت عنه أنه قال: كان هلاك
الضحاك على يدي نوح- حين أرسل إلى قومه، وهم كانوا قوم الضحاك.
فأما الفرس فإنهم ينسبونه النسبة التي أنا ذاكرها، وذلك أنهم يزعمون أن أفريدون من
ولد جم شاذ الملك الذي قتله الازدهاق، على ما قد بينا من أمره قبل، وأن بينه وبين
جم عشرة آباء.
وقد حُدِّثْتُ عَنْ هِشَامِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ، قال: بلغنا أن
أفريدون- وهو من نسل جم الملك الذي كان من قبل الضحاك، قال: ويزعمون أنه التاسع من
ولده، وكان مولده بدنباوند- خرج حتى ورد منزل الضحاك، فأخذه وأوثقه، وملك مائتي
سنة، ورد المظالم، وأمر الناس بعبادة الله والإنصاف والإحسان، ونظر إلى ما كان
الضحاك غصب الناس من الأرضين وغيرها، فرد ذلك كله على أهله، إلا ما لم يجد له
أهلا، فإنه وقفه على المساكين والعامة قال: ويقال إنه أول من سمى الصوافي، وأول من
نظر في الطب والنجوم، وإنه كان له ثلاثة بنين: اسم الأكبر سلم، والثاني طوج،
والثالث إيرج، وأن أفريدون تخوف ألا يتفق بنوه، وأن يبغي بعضهم على بعض، فقسم ملكه
بينهم ثلاثا، وجعل ذلك في سهام كتب أسماءهم عليها، وأمر كل واحد منهم فأخذ سهما،
فصارت الروم وناحية المغرب لسلم، وصارت الترك والصين لطوج، وصارت للثالث- وهو
إيرج- العراق والهند، فدفع التاج والسرير إليه، ومات افريدون، فوثب بايرج اخواه
فقتلاه، وملكا الارض بينهما ثلاثمائة سنة.
قال: والفرس تزعم أن لأفريدون عشرة آباء، كلهم يسمى أثفيان باسم واحد قالوا: وإنما
فعلوا ذلك خوفا من الضحاك على أولادهم، لرواية كانت عندهم، بأن بعضهم يغلب الضحاك
على ملكه، ويدرك منه ثأر جم،
(1/212)
وكانوا يعرفون ويميزون بألقاب
لقبوها، فكان يقال للواحد منهم: أثفيان صاحب البقر الحمر، وأثفيان صاحب البقر البلق،
وأثفيان صاحب البقر الكدر وهو أفريدون بن أثفيان بوكاو- وتفسيره صاحب البقر
الكثير- بن أثفيان نيككاو- وتفسيره صاحب البقر الجياد، بن أثفيان سيركاو- وتفسيره
صاحب البقر السمان العظام- بن أثفيان بوركاو- وتفسيره صاحب البقر التي بلون حمير
الوحش- بن أثفيان أخشين كاو- وتفسيره صاحب البقر الصفر- بن أثفيان سياه كاو-
وتفسيره صاحب البقر السود- بن أثفيان اسبيذكاو- وتفسيره صاحب البقر البيض- بن
أثفيان كيركاو- وتفسيره صاحب البقر الرمادية- بن أثفيان رمين- وتفسيره كل ضرب من
الألوان والقطعان- بن أثفيان بنفروسن، بن جم الشاذ.
وقيل: إن أفريدون أول من سمى بالكيية فقيل له: كي افريدون، وتفسير الكيية أنها
بمعنى التنزيه، كما يقال: روحاني، يعنون به أن أمره أمر مخلص منزه يتصل بالروحانية
وقيل إن معنى كي أي طالب الدخل، ويزعم بعضهم أن كي من البهاء، وأن البهاء تغشى
أفريدون حين قتل الضحاك، وتذكر العجم من الفرس أنه كان رجلا جسيما وسيما بهيا
مجربا، وأن أكثر قتاله كان بالجرز، وأن جرزه كان رأسه كرأس الثور، وأن ملك ابنه
إيرج العراق ونواحيها كان في حياته، وأن أيام إيرج داخلة في ملك أفريدون، وأنه ملك
الأقاليم كلها، وتنقل في البلدان، وأنه لما جلس على سريره يوم الملك قال:
نحن القاهرون بعون الله وتأييده للضحاك، القامعون للشيطان وأحزابه، ثم وعظ الناس،
فأمرهم بالتناصف وتعاطي الحق وبذل الخير بينهم، وحثهم على الشكر والتمسك به، ورتب
سبعة من القوهياريين- وتفسير ذلك محولو الجبال سبع مراتب- وصير إلى كل واحد منهم
ناحية من دنباوند وغيرها على شبيه بالتمليك قالوا: فلما ظفر بالضحاك قال له
الضحاك: لا تقتلني بجدك
(1/213)
جم، فقال له أفريدون منكرا
لقوله: لقد سمت بك همتك، وعظمت في نفسك حين قدرتها لهذا، وطمعت لها فيه! وأعلمه أن
جده كان أعظم قدرا من أن يكون مثله كفئا له في القود، وأعلمه أنه يقتله بثور كان
في دار جده.
وقيل إن أفريدون أول من ذلل الفيلة وامتطاها، ونتج البغال، واتخذ الإوز والحمام،
وعالج الدرياق، وقاتل الأعداء فقتلهم ونفاهم، وأنه قسم الأرض بين أولاده الثلاثة:
طوج وسلم وإيرج، فملك طوجا ناحية الترك والخزر والصين، فكانوا يسمونها صين بغا،
وجمع إليها النواحي التي اتصلت بها، وملك سلما ابنه الثاني الروم والصقالبة
والبرجان وما في حدود ذلك، وجعل وسط الأرض وعامرها- وهو إقليم بابل، وكانوا
يسمونها خنارث بعد أن جمع إلى ذلك ما اتصل به من السند والهند والحجاز وغيرها- لايرج
وهو الاصغر من بينه الثلاثة، وكان أحبهم إليه وبهذا السبب سمي إقليم بابل
إيرانشهر، وبه أيضا نشبت العداوة بين ولد أفريدون وأولادهم بعد، وصار ملوك خنارث
والترك والروم إلى المحاربة ومطالبة بعضهم بعضا بالدماء والتراث.
وقيل: إن طوجا وسلما لما علما أن أباهما قد خص إيرج وقدمه عليهما أظهرا له
البغضاء، ولم يزل التحاسد ينمي بينهم إلى أن وثب طوج وسلم على أخيهما إيرج، فقتلاه
متعاونين عليه، وأن طوجا رماه بوهق فخنقه، فمن أجل ذلك استعملت الترك الوهق، وكان
لإيرج ابنان، يقال لهما وندان وأسطوبة، وابنة يقال لها خوزك، ويقال خوشك، فقتل سلم
وطوج الابنين مع أبيهما، وبقيت الابنة.
وقيل: إن اليوم الذي غلب فيه افريدون الضحاك كان روز مهر من مهر ماه، فاتخذ الناس
ذلك اليوم عيدا لارتفاع بلية الضحاك عن الناس، وسماه المهرجان،
(1/214)
فقيل: إن أفريدون كان جبارا عادلا في ملكه، وكان طوله تسعة أرماح، كل رمح ثلاثة أبواع، وعرض حجرته ثلاثة أرماح، وعرض صدره أربعة أرماح، وأنه كان يتبع من كان بقي بالسودان من آل نمرود والنبط، وقصدهم حتى أتى على وجوههم، ومحا أعلامهم وآثارهم، وكان ملكه خمسمائة سنه
(1/215)
ذكر الأحداث التي كانت بين نوح
وإبراهيم خليل الرحمن ع
قد ذكرنا قبل ما كان من أمر نوح ع وأمر ولده واقتسامهم الأرض بعده، ومساكن كل فريق
منهم، وأي ناحية سكن من البلاد وكان ممن طغا وعتا على الله عز وجل بعد نوح، فأرسل
الله إليهم رسولا فكذبوه وتمادوا في غيهم، فأهلكهم الله هذان الحيان من إرم بن سام
بن نوح: أحدهما عاد ابن عوص بن ارم ابن سام بن نوح، وهي عاد الأولى، والثاني ثمود
بن جاثر بن إرم بن سام بن نوح، وهم كانوا العرب العاربة.
فأما عاد فإن الله عز وجل أرسل إليهم هود بن عبد الله بن رباح بن الخلود ابن عاد
بن عوص بن إرم بن سام بن نوح ومن أهل الأنساب من يزعم أن هودا هو عابر بن شالخ بن
أرفخشد بن سام بن نوح، وكانوا أهل أوثان ثلاثة يعبدونها، يقال لإحداها: صداء،
وللآخر صمود، وللثالث الهباء فدعاهم إلى توحيد الله وإفراده بالعبادة دون غيره،
وترك ظلم الناس، فكذبوه وقالوا: من أشد منا قوة! فلم يؤمن بهود منهم إلا قليل، فوعظهم
هود إذ تمادوا في طغيانهم، فقال لهم: «أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً
تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذا بَطَشْتُمْ
بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ.
وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ
وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ»
فكان جوابهم له أن قالُوا:
(1/216)
«سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ
أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ» وقالوا له: «يَا هُودُ مَا جِئْتَنا
بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ
بِمُؤْمِنِينَ.
إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ» ، فحبس الله عنهم- فيما
ذكر- القطر سنين ثلاثا، حتى جهدوا، فأوفدوا وفدا ليستسقوا لهم.
فكان من قصتهم مَا حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ
بْنُ عَيَّاشٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَاصِمٌ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنِ الْحَارِثِ
بْنِ حَسَّانٍ الْبَكْرِيِّ، قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ الله ص: فَمَرَرْتُ
بِامْرَأَةٍ بِالرَّبَذَةِ، فَقَالَتْ: هَلْ أَنْتَ حَامِلِي الى رسول الله ص؟
قُلْتُ: نَعَمْ، فَحَمَلْتُهَا حَتَّى قَدِمَتِ الْمَدِينَةَ، فَدَخَلَتِ المسجد،
فإذا رسول الله ص عَلَى الْمِنْبَرِ، وَإِذَا بِلالٌ مُتَقَلِّدٌ السَّيْفَ،
وَإِذَا رَايَاتٌ سُودٌ، قَالَ:
قُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ قَدِمَ مِنْ غَزْوَتِهِ،
فَلَمَّا نزل رسول الله ص عَنْ مِنْبَرِهِ أَتَيْتُهُ فَاسْتَأْذَنْتُهُ، فَأَذِنَ
لِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ بِالْبَابِ امْرَأَةً مِنْ بَنِي
تَمِيمٍ، قَدْ سَأَلَتْنِي أَنْ أَحْمِلَهَا إِلَيْكَ، قَالَ:
يَا بِلالُ، ائْذَنْ لَهَا، قَالَ: فَدَخَلَتْ، فلما جلست قال لي رسول الله ص:
هَلْ كَانَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ تَمِيمٍ شَيْءٌ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، وَكَانَتِ
الدَّبْرَةُ عَلَيْهِمْ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَجْعَلَ الدَّهْنَاءَ بَيْنَنَا
وَبَيْنَهُمْ فَعَلْتُ، قَالَ: تَقُولُ الْمَرْأَةُ فَأَيْنَ تَضْطَرُّ مُضَرَكَ
يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قال: قلت: مثلي مثل معزى حملت حتفا، قال: قلت: او حملتك
تَكُونِينَ عَلَيَّ خَصْمًا! أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ كوفد عاد قال رسول
الله ص: وَمَا وَفْدُ عَادٍ؟ قَالَ: قُلْتُ: عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتَ، إِنَّ
عَادًا قَحَطَتْ، فَبَعَثَتْ مَنْ يَسْتَسْقِي لَهَا، فَمَرُّوا عَلَى بَكْرِ بْنِ
مُعَاوِيَةَ بِمَكَّةَ يَسْقِيهِمُ الْخَمْرَ، وَتُغَنِّيهِمِ الْجَرَادَتَانِ
شَهْرًا، ثُمَّ بَعَثُوا رَجُلا مِنْ عِنْدِهِ، حَتَّى أَتَى جِبَالَ مَهَرَةَ،
فَدَعَا، فَجَاءَتْ سَحَابَاتٌ، قَالَ: وَكُلَّمَا جَاءَتْ قَالَ:
(1/217)
اذْهَبِي إِلَى كَذَا، حَتَّى
جَاءَتْ سَحَابَةٌ، فَنُودِيَ منها: خذها رمادا رمددا، لا تَدَعْ مَنْ عَادٍ
أَحَدًا قَالَ: فَسَمِعَهُ وَكَتَمَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْعَذَابُ قَالَ أَبُو
كُرَيْبٍ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَ ذَاكَ فِي حَدِيثِ عَادٍ، قَالَ: فَأَقْبَلَ
الَّذِي أَتَاهُمْ، فَأَتَى جِبَالَ مَهَرَةَ فَصَعِدَ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي
لَمْ أَجِئْكَ لأَسِيرٍ فَأُفَادِيهِ، وَلا لِمَرِيضٍ أَشْفِيهِ، فَاسْقِ عَادًا
مَا كنت مسقيه! قال: فرفعت له سحابات.
قَالَ: فَنُودِيَ مِنْهَا: اخْتَرْ، فَجَعَلَ يَقُولُ: اذْهَبِي إِلَى بَنِي
فُلانٍ اذْهَبِي إِلَى بَنِي فُلانٍ قَالَ: فَمَرَّتْ آخِرَهَا سَحَابَةٌ
سَوْدَاءُ، فَقَالَ: اذْهَبِي إِلَى عَادٍ.
قَالَ: فَنُودِيَ مِنْهَا: خُذْهَا رَمَادًا رمددا، لا تَدَعْ مِنْ عَادٍ أَحَدًا
قَالَ:
وَكَتَمَهُمْ وَالْقَوْمُ عِنْدَ بَكْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ يَشْرَبُونَ قَالَ:
وَكَرِهَ بَكْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ
عِنْدَهُ، وَأَنَّهُمْ فِي طَعَامِهِ قَالَ: فَأَخَذَ فِي الْغِنَاءِ
وَذَكَّرَهُمْ.
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ حُبَابٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا سَلامٌ أَبُو الْمُنْذِرِ النَّحْوِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَاصِمٌ،
عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ يَزِيدَ الْبَكْرِيِّ، قَالَ: خَرَجْتُ
لأَشْكُوَ الْعَلاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ الى رسول الله ص، فَمَرَرْتُ
بِالرَّبَذَةِ، فَإِذَا عَجُوزٌ مُنْقَطِعٌ بِهَا مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، فَقَالَتْ:
يَا عَبْدَ اللَّهِ، إِنَّ لِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ حَاجَةً، فَهَلْ أَنْتَ
مُبَلِّغِي إِلَيْهِ؟ قَالَ:
فَحَمَلْتُهَا، فَقَدِمْتُ الْمَدِينَةَ- قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: أَظُنُّهُ أَنَا
قَالَ: فَإِذَا رَايَاتٌ سُودٌ- قَالَ: قُلْتُ: مَا شَأْنُ النَّاسِ؟ قَالُوا:
يُرِيدُ أَنْ يَبْعَثَ بِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَجْهًا قَالَ: فَجَلَسْتُ حَتَّى
فَرَغَ، قَالَ: فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ- أَوْ قَالَ رَحْلَهُ- فَاسْتَأْذَنْتُ
عَلَيْهِ، فَأَذِنَ لِي قَالَ: فَدَخَلْتُ فَقَعَدْتُ، فَقَالَ لِي رَسُولُ
اللَّهِ ص: هَلْ كَانَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ تَمِيمٍ شَيْءٌ؟ قَالَ: قُلْتُ:
نَعَمْ، وَكَانَتِ الدَّبْرَةُ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ مَرَرْتُ بِالرَّبَذَةِ،
فَإِذَا عَجُوزٌ مِنْهُمْ مُنْقَطِعٌ بِهَا، فَسَأَلَتْنِي ان احملها إليك، وها هي
بالباب، فاذن لها رسول الله ص فَدَخَلَتْ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اجْعَلْ
بَيْنَنَا وَبَيْنَ تَمِيمٍ الدَّهْنَاءَ حَاجِزًا، فَحَمِيَتِ الْعَجُوزُ
وَاسْتَوْفَزَتْ، وَقَالَتْ: فَأَيْنَ تَضْطَرُّ مُضَرَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟
قال:
(1/218)
قلت: انا كما قالوا: معزى حملت
حتفا، حَمَلْتُ هَذِهِ وَلا أَشْعَرُ أَنَّهَا كَائِنَةٌ لِي خَصْمًا، أَعُوذُ
بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ أَنْ أَكُونَ كَوَافِدِ عَادٍ! قَالَ: وَمَا وَافِدُ عَادٍ؟
قُلْتُ:
عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتُ، قَالَ: وَهُوَ يَسْتَطْعِمُنِي الْحَدِيثَ قُلْتُ: ان
عادا قحطوا فَبَعَثُوا قَيْلا وَافِدًا، فَنَزَلَ عَلَى بْكَرٍ، فَسَقَاهُ
الْخَمْرَ شَهْرًا، وَتُغَنِّيهِ جَارِيَتَانِ يُقَالُ لَهُمَا الْجَرَادَتَانِ،
فَخَرَجَ إِلَى جِبَالِ مَهَرَةَ، فَنَادَى: إِنِّي لَمْ أجيء لِمَرِيضٍ
فَأُدَاوِيهِ، وَلا لأَسِيرٍ فَأُفَادِيهِ، اللَّهُمَّ اسْقِ عَادًا مَا كُنْتَ
تَسْقِيهِ! فَمَرَّتْ بِهِ سَحَابَاتٌ سُودٌ، فَنُودِيَ مِنْهَا: خُذْهَا رَمَادًا
رِمْدَدًا، لا تُبْقِي مِنْ عَادٍ أَحَدًا.
قَالَ: فَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تَقُولُ: لا تَكُنْ كَوَافِدِ عَادٍ، فَمَا
بَلَغَنِي أَنَّهُ أُرْسِلَ عَلَيْهِمْ مِنَ الرِّيحِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلا
قَدْرَ مَا يَجْرِي فِي خَاتَمِي قَالَ أَبُو وَائِلٍ: وَكَذَلِكَ بَلَغَنِي.
وَأَمَّا ابْنُ اسحق فَإِنَّهُ قَالَ كَمَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا سلمة عنه:
أن عادا لما أصابهم من القحط ما أصابهم قالوا: جهزوا منكم وفدا إلى مكة فيستسقوا
لكم، فبعثوا قيل بن عتر ولقيم بن هزال بن هزيل بن عتيل ابن صد بن عاد الأكبر،
ومرثد بن سعد بن عفير- وكان مسلما يكتم إسلامه- وجلهمة بن الخبيري، خال معاوية بن
بكر أخا أمه، ثم بعثوا لقمان بن عاد بن فلان بن فلان بن صد بن عاد الأكبر، فانطلق
كل رجل من هؤلاء القوم معه رهط من قومه، حتى بلغ عدة وفدهم سبعين رجلا، فلما قدموا
مكة نزلوا على معاوية بن بكر وهو بظاهر مكة خارجا من الحرم، فأنزلهم وأكرمهم،
وكانوا أخواله وصهره وكانت هزيلة ابنة بكر أخت معاوية بن بكر لأبيه وأمه كلهدة
ابنة الخيبري عند لقيم بن هزال بن عتيل بن صد ابن عاد الأكبر، فولدت له عبيد بن
لقيم بن هزال وعمرو بن لقيم بن هزال وعامر بن لقيم بن هزال وعمير بن لقيم بن هزال،
فكانوا في أخوالهم بمكة عند آل معاوية بن بكر، وهم عاد الأخيرة التي بقيت من عاد
الأولى فلما نزل
(1/219)
وفد عاد على معاوية بن بكر
أقاموا عنده شهرا يشربون الخمر، وتغنيهم الجرادتان- قينتان لمعاوية بن بكر- وكان
مسيرهم شهرا، ومقامهم شهرا، فلما رأى معاوية بن بكر طول مقامهم، وقد بعثهم قومهم
يتغوثون بهم من البلاء الذي أصابهم، شق ذلك عليه فقال: هلك أخوالي وأصهاري وهؤلاء
مقيمون عندي، وهم ضيفي نازلون علي، والله ما أدري: كيف أصنع بهم! أستحي أن آمرهم
بالخروج إلى ما بعثوا إليه، فيظنوا أنه ضيق مني بمقامهم عندي، وقد هلك من وراءهم
من قومهم جهدا وعطشا، أو كما قال.
فشكا ذلك من أمرهم إلى قينتيه الجرادتين، فقالتا: قل شعرا نغنيهم به لا يدرون من
قاله، لعل ذلك أن يحركهم! فقال معاوية بن بكر حين أشارتا عليه بذلك:
ألا يا قيل، ويحك قم فهينم ... لعل الله يسقينا غماما
فيسقي أرض عاد، إن عادا ... قد امسوا لا يبينون الكلاما
من العطش الشديد، فليس نرجو ... به الشيخ الكبير ولا الغلاما
وقد كانت نساؤهم بخير ... فقد أمست نساؤهم عيامى
وإن الوحش تأتيهم جهارا ... ولا تخشى لعادي سهاما
وأنتم هاهنا فيما اشتهيتم ... نهاركم وليلكم التماما
فقبح وفدكم من وفد قوم ... ولا لقوا التحية والسلاما!
فلما قال معاوية ذلك الشعر، غنتهم به الجرادتان. فلما سمع القوم ما غنتا به، قال
بعضهم لبعض: يا قوم إنما بعثكم قومكم يتغوثون بكم من هذا البلاء الذي نزل بهم، وقد
أبطأتم عليهم، فادخلوا هذا الحرم فاستسقوا لقومكم، فقال مرثد بن سعد بن عفير: إنكم
والله لا تسقون بدعائكم، ولكن إن أطعتم
(1/220)
نبيكم، وأنبتم إليه سقيتم
فأظهر إسلامه عند ذلك، فقال لهم لجلهمة بن الخيبري، خال معاوية بن بكر حين سمع
قوله، وعرف أنه قد تبع دين هود وآمن به:
أبا سعد فإنك من قبيل ... ذوي كرم وأمك من ثمود
فإنا لن نطيعك ما بقينا ... ولسنا فاعلين لما تريد
اتأمرنا لنترك آل رفد ... وزمل وآل صد والعبود
ونترك دين آباء كرام ... ذوى راى ونتبع دين هود
ورفد وزمل وصد قبائل من عاد، والعبود منهم ثم قال لمعاوية بن بكر وابيه بكر: احبسا
عنا مرثد بن سعد فلا يقدمن معنا مكة، فإنه قد اتبع دين هود، وترك ديننا ثم خرجوا
إلى مكة يستسقون بها لعاد، فلما ولو إلى مكة خرج مرثد بن سعد من منزل معاوية، حتى
أدركهم بها قبل أن يدعوا الله بشيء مما خرجوا له فلما انتهى إليهم قام يدعو الله،
وبها وفد عاد قد اجتمعوا يدعون.
فقال: اللهم أعطني سؤلي وحدي، ولا تدخلني في شيء مما يدعوك به وفد عاد وكان قيل بن
عتر رأس وفد عاد وقال وفد عاد: اللهم أعط قيلا ما سألك، واجعل سؤلنا مع سؤله وقد
كان تخلف عن وفد عاد لقمان ابن عاد، وكان سيد عاد، حتى إذا فرغوا من دعوتهم قال:
اللهم إني جئتك وحدي في حاجتي فأعطني سؤلي وقال قيل بن عتر حين دعا: يا إلهنا، إن
كان هود صادقا فاسقنا فإنا قد هلكنا فأنشأ الله سحائب ثلاثا: بيضاء وحمراء،
وسوداء، ثم ناداه مناد من السحاب: يا قيل، اختر لنفسك وقومك من هذا السحاب فقال:
قد اخترت السحابة السوداء، فإنها أكثر السحاب ماء، فناداه مناد: اخترت رمادا
رمددا، لا تبقي من عاد أحدا، لا والدا تترك ولا ولدا، إلا جعلته همدا، إلا بني
اللوذية المهدى- وبنو اللوذية
(1/221)
بنو لقيم بن هزال بن هزيل بن
هزيلة ابنة بكر، كانوا سكانا بمكة مع أخوالهم، لم يكونوا مع عاد بأرضهم، فهم عاد
الآخرة، ومن كان من نسلهم الذين بقوا من عاد- وساق الله السحابة السوداء فيما
يذكرون التي اختار قيل بن عتر بما فيها من النقمة إلى عاد، حتى خرجت عليهم من واد
لهم يقال له المغيث ولما رأوها استبشروا بها، وقالوا: «هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا» ،
يقول الله عز وجل: «بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ
أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها» ، أي كل شيء أمرت به فكان أول
من أبصر ما فيها أنها ريح- فيما يذكرون- امرأة من عاد يقال لها مهدد، لما تبينت ما
فيها صاحت ثم صعقت، فلما أفاقت قالوا: ماذا رأيت يا مهدد؟ قالت: رأيت ريحا فيها
كشهب النار، أمامها رجال يقودونها فسخرها الله عليهم «سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ
أَيَّامٍ حُسُوماً» ، كما قال الله: والحسوم: الدائمة، فلم تدع من عاد أحدا إلا
هلك.
فاعتزل هود- فيما ذكر- ومن معه من المؤمنين في حظيرة، ما يصيبه ومن معه منها إلا
ما تلين عليه الجلود، وتلتذ الأنفس، وانها لتمر من عاد بالظعن ما بين السماء
والأرض، وتدمغهم بالحجارة وخرج وفد عاد من مكة حتى مروا بمعاوية بن بكر وابيه،
فنزلوا عليه، فبيناهم عنده، إذ أقبل رجل على ناقة له في ليله مقمره مسى ثالثة من
مصاب عاد، فأخبرهم الخبر، فقالوا: فأين فارقت هودا وأصحابه؟ قال: فارقتهم بساحل
البحر، فكأنهم شكوا فيما حدثهم، فقالت هزيلة ابنة بكر: صدق ورب مكة ومثوب بن يعفر
بن أخي معاوية بن بكر معهم وقد كان قيل- فيما يزعمون والله أعلم- لمرثد بن سعد
ولقمان بن عاد، وقيل بن عتر حين دعوا بمكة: قد أعطيتم مناكم فاختاروا لأنفسكم، إلا
أنه لا سبيل إلى الخلد، فإنه لا بد من الموت، فقال مرثد بن سعد: يا رب، أعطني برا
وصدقا، فأعطي ذلك، وقال
(1/222)
لقمان بن عاد: أعطني عمرا،
فقيل له: اختر لنفسك، إلا إنه لا سبيل إلى الخلد: بقاء ايعار ضأن عفر، في جبل وعر،
لا يلقي به إلا القطر، أم سبعة أنسر إذا مضى نسر حلوت إلى نسر؟ فاختار لقمان لنفسه
النسور، فعمر- فيما يزعمون- عمر سبعة أنسر، يأخذ الفرخ حين يخرج من بيضته، فيأخذ
الذكر منها لقوته، حتى إذا مات أخذ غيره، فلم يزل يفعل ذلك، حتى أتى على السابع
وكان كل نسر فيما زعموا يعيش ثمانين سنة، فلما لم يبق غير السابع قال ابن أخ
للقمان: أي عم، ما بقي من عمرك إلا عمر هذا النسر، فقال له لقمان: أي ابن أخي: هذا
لبد- ولبد بلسانهم الدهر- فلما أدرك نسر لقمان، وانقضى عمره، طارت النسور غداة من
رأس الجبل، ولم ينهض فيها لبد، وكانت نسور لقمان تلك لا تغيب عنه، إنما هي بعينه
فلما لم ير لقمان لبدا نهض مع النسور، نهض إلى الجبل لينظر ما فعل لبد، فوجد لقمان
في نفسه وهنا لم يكن يجده قبل ذلك، فلما انتهى إلى الجبل رأى نسره لبدا واقعا من
بين النسور، فناداه: انهض لبد، فذهب لبد لينهض فلم يستطع، عريت قوادمه وقد سقطت،
فماتا جميعا.
وقيل لقيل بن عتر حين سمع ما قيل له في السحاب: اختر لنفسك كما اختار صاحباك،
فقال: أختار أن يصيبني ما أصاب قومي، فقيل: إنه الهلاك، قال: لا أبالي، لا حاجة لي
في البقاء بعدهم فأصابه ما أصاب عادا من العذاب فهلك، فقال مرثد بن سعد بن عفير
حين سمع من قول الراكب الذي أخبر عن عاد بما أخبر من الهلاك:
عصت عاد رسولهم فأمسوا ... عطاشا ما تبلهم السماء
وسير وفدهم شهرا ليسقوا ... فأردفهم مع العطش العماء
بكفرهم بربهم جهارا ... على آثار عادهم العفاء
ألا نزع الإله حلوم عاد ... فإن قلوبهم قفر هواء
(1/223)
من الخبر المبين أن يعوه ...
وما تغني النصيحة والشفاء
فنفسي وابنتاي وأم ولدي ... لنفس نبينا هود فداء
أتانا والقلوب مصمدات ... على ظلم، وقد ذهب الضياء
لنا صنم يقال له صمود ... يقابله صداء والهباء
فأبصره الذين له أنابوا ... وأدرك من يكذبه الشقاء
فإني سوف ألحق آل هود ... وإخوته إذا جن المساء
وقيل: إن رئيسهم وكبيرهم في ذلك الزمان الخلجان.
حَدَّثَنِي العباس بن الوليد، قال: حَدَّثَنَا أبي، عن إسماعيل بن عياش، عن محمد
بن إسحاق، قال: لما خرجت الريح على عاد من الوادي، قال سبعة رهط منهم، أحدهم
الخلجان: تعالوا حتى نقوم على شفير الوادي فنردها، فجعلت الريح تدخل تحت الواحد
منهم فتحمله، ثم ترمي به فتندق عنقه، فتتركهم كما قال الله عز وجل: «صَرْعى
كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ» حتى لم يبق منهم إلا الخلجان، فمال إلى
الجبل، فأخذ بجانب منه، فهزه فاهتز في يده، ثم أنشأ يقول:
لم يبق الا الخلجان نفسه ... نالك من يوم دهاني أمسه
بثابت الوطء شديد وطسه ... لو لم يجئني جئته أجسه
فقال له هود: ويحك يا خلجان! أسلم تسلم، فقال له: وما لي عند ربك إن أسلمت؟ قال:
الجنة، قال: فما هؤلاء الذين أراهم في هذا السحاب كأنهم البخت، قال هود: تلك
ملائكة ربي، قال: فإن أسلمت أيعيذني ربك منهم؟ قال: ويلك! هل رأيت ملكا يعيذ من
جنده! قال: لو فعل ما رضيت، قال: ثم جاءت الريح فألحقته بأصحابه، أو كلاما هذا
معناه قال أبو جعفر: فأهلك الله الخلجان، وأفنى عادا خلا من بقي
(1/224)
منهم، ثم بادوا بعد، ونجى الله
هودا ومن آمن به وقيل: كان عمر هود مائة سنة وخمسين سنة.
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ
الْمُفَضَّلِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قال: «وَإِلى عادٍ
أَخاهُمْ هُوداً. قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ
غَيْرُهُ» ، إن عادا أتاهم هود، فوعظهم وذكرهم بما قص الله في القرآن، فكذبوه
وكفروا، وسألوه أن يأتيهم العذاب فقال لهم:
«إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ» ، وإن
عادا أصابهم حين كفروا قحط من المطر، حتى جهدوا لذلك جهدا شديدا، وذلك أن هودا دعا
عليهم، فبعث الله عليهم الريح العقيم، وهي الريح التي لا تلقح الشجر، فلما نظروا
إليها قالوا: هذا عارض ممطرنا، فلما دنت منهم نظروا إلى الإبل والرجال، تطير بهم
الريح بين السماء والأرض، فلما راوها تبادروا الى البيوت، حتى دخلوا البيوت دخلت
عليهم فأهلكتهم فيها، ثم أخرجتهم من البيوت، فأصابتهم «فِي يَوْمِ نَحْسٍ» ، والنحس
هو الشؤم «مُسْتَمِرٍّ» استمر عليهم بالعذاب «سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ
حُسُوماً» ، حسمت كل شيء مرت به، حتى أخرجتهم من البيوت، قال الله تبارك وتعالى:
«تَنْزِعُ النَّاسَ» عن البيوت، «كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ» ، انقعر
من أصوله «خاوِيَةٍ» خوت فسقطت، فلما أهلكهم الله أرسل عليهم طيرا سودا، فنقلتهم
الى البحر،
(1/225)
فألقتهم فيه، فذلك قوله عز
وجل: «فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ» .
ولم تخرج الريح قط إلا بمكيال إلا يومئذ، فإنها عتت على الخزنة فغلبتهم، فلم
يعلموا كم كان مكيالها؟ فذلك قوله: «فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ» .
والصرصر: ذات الصوت الشديد.
حَدَّثَنِي محمد بن سهل بن عسكر، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: حدثني
عبد الصمد، أنه سمع وهبا يقول: إن عادا لما عذبهم الله بالريح التي عذبوا بها،
كانت تقلع الشجرة العظيمة بعروقها وتهدم عليهم بيوتهم، فمن لم يكن في بيت هبت به
الريح حتى تقطعه بالجبال، فهلكوا بذلك كلهم وأما ثمود فإنهم عتوا على ربهم، وكفروا
به، وأفسدوا في الأرض، فبعث الله إليهم صالح بن عبيد بن أسف بن ماسخ بن عبيد بن
خادر بن ثمود ابن جاثر بن إرم بن سام بن نوح، رسولا يدعوهم إلى توحيد الله وإفراده
بالعبادة.
وقيل: صالح، هو صالح بن أسف بن كماشج بن إرم بن ثمود بن جاثر ابن إرم بن سام بن
نوح.
فكان من جوابهم له ان قالوا له: «يَا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ
هَذَا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ
مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ» وكان الله عز وجل قد مدلهم في الأعمار، وكانوا
يسكنون الحجر
(1/226)
إلى وادي القرى، بين الحجاز
والشام، ولم يزل صالح يدعوهم إلى الله على تمردهم وطغيانهم، فلا يزيدهم دعاؤه
إياهم إلى الله إلا مباعدة من الإجابة، فلما طال ذلك من أمرهم وأمر صالح قالوا له:
إن كنت صادقا فأتنا بآية.
فكان من أمرهم وأمره مَا حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا
عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ
بْنِ رُفَيْعٍ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، قَالَ:
قَالَتْ ثَمُودُ لِصَالِحٍ: ائْتِنَا بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ
قَالَ: فَقَالَ لَهُمْ صَالِحٌ:
اخْرُجُوا إِلَى هَضَبَةٍ مِنَ الأَرْضِ، فَإِذَا هِيَ تَتَمَخَّضُ كَمَا
تَتَمَخَّضُ الْحَامِلُ، ثُمَّ تَفَرَّجَتْ فَخَرَجَتْ من وسطها الناقه، فقال صالح
ع:
«هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا
تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» «لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ
يَوْمٍ مَعْلُومٍ» فَلَمَّا مَلُّوهَا عَقَرُوهَا، فَقَالَ لَهُمْ: «تَمَتَّعُوا
فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ» قَالَ عَبْدُ
الْعَزِيزِ: وَحَدَّثَنِي رَجُلٌ آخَرُ أَنَّ صَالِحًا قَالَ لَهُمْ:
إِنَّ آيَةَ الْعَذَابِ أَنْ تُصْبِحُوا غَدًا حُمْرًا، وَالْيَوْمَ الثَّانِي
صُفْرًا، وَالْيَوْمَ الثَّالِثَ سُودًا، فَصَبَّحَهُمُ الْعَذَابُ، فَلَمَّا
رَأَوْا ذَلِكَ تَحَنَّطُوا وَاسْتَعَدُّوا.
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قال: حدثني حجاج، عن أبي
بكر بن عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ خَارِجَةَ،
قَالَ: قُلْنَا لَهُ:
حَدِّثْنَا حَدِيثَ ثَمُودَ، قَالَ: أُحَدِّثُكُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ص عَنْ
ثَمُودَ.
كَانَتْ ثَمُودُ قَوْمَ صَالِحٍ عَمَّرَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي
الدُّنْيَا، فَأَطَالَ أَعْمَارَهُمْ حَتَّى جَعَلَ أَحَدُهُمْ يَبْنِي
الْمَسْكَنَ مِنَ الْمَدَرِ فَيَتَهَدَّمَ وَالرَّجُلُ مِنْهُمْ حَيٌّ، فَلَمَّا
رَأَوْا ذَلِكَ اتَّخَذُوا مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَرِهِينَ، فَنَحَتُوهَا
وَجَابُّوهَا وجوفوها،
(1/227)
وَكَانُوا فِي سَعَةٍ مِنْ
مَعَايِشِهِمْ، فَقَالُوا: يَا صَالِحُ، ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا آيَةً
نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ فَدَعَا صَالِحٌ رَبَّهُ، فَأَخْرَجَ لَهُمُ
النَّاقَةَ فَكَانَ شِرْبُهَا يَوْمًا وَشِرْبُهُمْ يَوْمًا مَعْلُومًا، فَإِذَا
كَانَ يَوْمُ شِرْبِهَا خَلَّوْا عنها وعن الماء، وحلبوها لبنا، ملئوا كُلَّ
إِنَاءٍ وَوِعَاءٍ وَسِقَاءٍ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ شِرْبِهِمْ صَرَفُوهَا عَنِ
الْمَاءِ وَلَمْ تَشْرَبْ مِنْهُ شَيْئًا، فَمَلَئُوا كُلَّ إِنَاءٍ وَوِعَاءٍ
وَسِقَاءٍ، فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى صَالِحٍ إِنَّ قَوْمَكَ
سَيَعْقِرُونَ نَاقَتَكَ، فَقَالَ لَهُمْ، فَقَالُوا: مَا كُنَّا لِنَفْعَلَ،
قَالَ: إِلا تَعْقِرُوهَا أَنْتُمْ أَوْشَكَ أَنْ يُولَدَ فِيكُمْ مَوْلُودٌ
يَعْقِرُهَا، قَالُوا: مَا عَلامَةُ ذلك المولود؟ فو الله لا نَجِدُهُ إِلا
قَتَلْنَاهُ، قَالَ: فَإِنَّهُ غُلامٌ أَشْقَرُ أَزْرَقُ أَصْهَبُ أَحْمَرُ، قَالَ:
فَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ شَيْخَانِ عَزِيزَانِ مَنِيعَانِ، لأَحَدِهِمَا ابْنٌ
يَرْغَبُ لَهُ عَنِ الْمَنَاكِحِ، وَلِلآخَرِ ابْنَةٌ لا يَجِدُ لها كفئا،
فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا مَجْلِسٌ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: مَا يَمْنَعُكَ
أَنْ تُزَوِّجَ ابْنَكَ؟ قَالَ: لا أَجِدُ لَهُ كُفْئًا، قَالَ: فَإِنَّ ابْنَتِي
كُفْءٌ لَهُ، وانا ازوجك، فزوجه فَوُلِدَ مِنْهُمَا ذَلِكَ الْمَوْلُودُ.
وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ ثَمَانِيَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا
يُصْلِحُونَ، فَلَمَّا قَالَ لَهُمْ صَالِحٌ: إِنَّمَا يَعْقِرُهَا مَوْلُودٌ
فِيكُمْ، اخْتَارُوا ثَمَانِيَ نِسْوَةً قَوَابِلَ مِنَ الْقَرْيَةِ، وَجَعَلُوا
مَعَهُنَّ شُرَطًا كَانُوا يَطُوفُونَ فِي الْقَرْيَةِ، فَإِذَا وَجَدُوا
الْمَرْأَةَ تَمْخِضُ نَظَرُوا مَا وَلَدُهَا؟
فَإِنْ كَانَ غُلامًا قَتَلْنَهُ، وَإِنْ كَانَتْ جَارِيَةً اعرضن عنها، فلما
وجدوا ذلك المولود صرخ النِّسْوَةُ، وَقُلْنَ: هَذَا الَّذِي يُرِيدُ رَسُولُ
اللَّهِ صالح، فاراد الشرط ان يأخذوها، فَحَالَ جَدَّاهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ
وَقَالُوا: إِنْ أَرَادَ صَالِحٌ هَذَا قَتَلْنَاهُ، وَكَانَ شَرَّ مَوْلُودٍ،
وَكَانَ يَشِبُّ فِي الْيَوْمِ شَبَابَ غَيْرِهِ فِي الْجُمُعَةِ، ويشب
(1/228)
فِي الْجُمُعَةِ شَبَابَ
غَيْرِهِ فِي الشَّهْرِ، وَيَشِبُّ فِي الشَّهْرِ شَبَابَ غَيْرِهِ فِي السَّنَةِ،
فَاجْتَمَعَ الثَّمَانِيَةُ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ،
وَفِيهِمُ الشَّيْخَانِ، فَقَالُوا:
اسْتَعْمِلْ عَلَيْنَا هَذَا الْغُلامَ لِمَنْزِلَتِهِ وَشَرَفِ جَدَّيْهِ،
فَصَارُوا تِسْعَةً، وَكَانَ صَالِحٌ ع لا يَنَامُ مَعَهُمْ فِي الْقَرْيَةِ، بَلْ
كَانَ فِي مَسْجِدٍ يُقَالُ لَهُ مَسْجِدُ صَالِحٍ، فِيهِ يَبِيتُ بِاللَّيْلِ،
فَإِذَا أَصْبَحَ أَتَاهُمْ فَوَعَظَهُمْ وَذَكَّرَهُمْ، فَإِذَا أَمْسَى خَرَجَ
إِلَى مَسْجِدِهِ فَبَاتَ فِيهِ.
قَالَ حَجَّاجٌ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: لَمَّا قَالَ لهم صالح ع: إِنَّهُ
سَيُولَدُ غُلامٌ يَكُونُ هَلاكُهُمْ عَلَى يَدَيْهِ، قَالُوا: فَكَيْفَ
تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: آمُرُكُمْ بِقَتْلِهِمْ، فَقَتَلُوهُمْ إِلا وَاحِدًا، قَالَ:
فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الْمَوْلُودَ قَالُوا: لَوْ كُنَّا لَمْ نَقْتُلْ
أَوْلادَنَا لَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا مِثْلُ هَذَا، هَذَا عَمَلُ صالح!
فائتمروا بَيْنَهُمْ بِقَتْلِهِ، وَقَالُوا: نَخْرُجُ مُسَافِرِينَ وَالنَّاسُ
يَرَوْنَنَا عَلانِيَةً، ثُمَّ نَرْجِعُ مِنْ لَيْلَةِ كَذَا وَكَذَا فَنَرْصُدُهُ
عِنْدَ مُصَلاهُ فَنَقْتُلُهُ، فَلا يَحْسَبُ النَّاسُ إِلا أَنَّا مُسَافِرُونَ
كَمَا نَحْنُ.
فَأَقْبَلُوا حَتَّى دَخَلُوا تَحْتَ صَخْرَةٍ يَرْصُدُونَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِمُ الصَّخْرَةَ فَرَضَخَتْهُمْ فَأَصْبَحُوا رَضْخًا،
فَانْطَلَقَ رِجَالٌ مِمَّنْ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى ذَلِكَ مِنْهُمْ، فَإِذَا هُمْ
رَضْخٌ، فَرَجَعُوا يَصِيحُونَ فِي الْقَرْيَةِ: أَيْ عِبَادَ اللَّهِ، أَمَا
رَضِيَ صَالِحٌ أَنْ أَمَرَهُمْ أَنْ يَقْتُلُوا أَوْلادَهُمْ حَتَّى قَتَلَهُمْ!
فَاجْتَمَعَ أَهْلُ الْقَرْيَةِ عَلَى عَقْرِ النَّاقَةِ أَجْمَعُونَ،
فَأَحْجَمُوا عَنْهَا إِلا ذَلِكَ ابْنُ الْعَاشِرِ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: ثُمَّ رَجَعَ الْحَدِيثُ إِلَى حَدِيثِ رَسُولِ الله ص،
قَالَ: فَأَرَادُوا أَنْ يَمْكُرُوا بِصَالِحٍ، فَمَشَوْا حَتَّى أَتَوْا عَلَى
سَرَبٍ عَلَى طَرِيقِ صَالِحٍ، فَاخْتَبَأَ فيه ثمانية وقالوا: إِذَا خَرَجَ
عَلَيْنَا قَتَلْنَاهُ وَأَتَيْنَا أَهْلَهُ فَبَيَّتْنَاهُمْ، فَأَمَرَ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ الأَرْضَ فَاسْتَوَتْ عَلَيْهِمْ، قَالَ: فَاجْتَمَعُوا وَمَشَوْا
إِلَى النَّاقَةِ، وَهِيَ عَلَى حَوْضِهَا قَائِمَةٌ، فَقَالَ الشَّقِيُّ
لأَحَدِهِمُ: ائْتِهَا فَاعْقِرْهَا، فَأَتَاهَا، فَتَعَاظَمَهُ ذَلِكَ،
فَأَضْرَبَ عَنْ ذَلِكَ، فَبَعَثَ آخَرَ فَأَعْظَمَ ذَلِكَ، فَجَعَلَ لا يَبْعَثُ
أَحَدًا إِلا تَعَاظَمَهُ أَمْرُهَا، حَتَّى مَشَى إِلَيْهَا وَتَطَاوَلَ
(1/229)
فَضَرَبَ عُرْقُوبَيْهَا، فَوَقَعَتْ تَرْكُضُ فَأَتَى رَجُلٌ مِنْهُمْ صَالِحًا فَقَالَ: أَدْرِكِ النَّاقَةَ فَقَدْ عُقِرَتْ فَأَقْبَلَ، فَخَرَجُوا يَتَلَقَّوْنَهُ وَيَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنَّمَا عَقَرَهَا فُلانٌ، إِنَّهُ لا ذَنْبَ لَنَا، قَالَ: انْظُرُوا هَلْ تُدْرِكُونَ فَصِيلَهَا! فَإِنْ أَدْرَكْتُمُوهُ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَرْفَعَ عَنْكُمُ الْعَذَابَ! فَخَرَجُوا يَطْلُبُونَهُ فَلَمَّا رَأَى الْفَصِيلُ أُمَّهُ تَضْطَرِبُ أَتَى جَبَلا- يُقَالُ لَهُ: الْقَارَةُ- قَصِيرًا فَصَعِدَهُ وَذَهَبُوا لِيَأْخُذُوهُ، فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى الْجَبَلِ، فَطَالَ فِي السَّمَاءِ حَتَّى مَا تَنَالُهُ الطَّيْرُ، قَالَ: وَدَخَلَ صَالِحٌ الْقَرْيَةَ، فَلَمَّا رَآهُ الْفَصِيلُ بَكَى حَتَّى سَالَتْ دُمُوعُهُ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ صَالِحًا، فَرَغَا رَغْوَةً، ثُمَّ رَغَا أُخْرَى، ثُمَّ رَغَا أُخْرَى فَقَالَ صَالِحٌ: لِكُلِّ رَغْوَةٍ أَجَلُ يَوْمٍ، تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ، إِلا أَنَّ آيَةَ الْعَذَابِ أَنَّ الْيَوْمَ الأَوَّلَ تُصْبِحُ وُجُوهُكُمْ مُصْفَرَّةً، وَالْيَوْمَ الثَّانِيَ مُحْمَرَّةً، وَالْيَوْمَ الثَّالِثَ مُسْوَدَّةً، فَلَمَّا أَصْبَحُوا إِذَا وُجُوهُهُمْ كَأَنَّمَا طُلِيَتْ بِالْخَلُوقِ، صَغِيرُهُمْ وَكَبِيرُهُمْ، ذَكَرُهُمْ وَأُنْثَاهُمْ، فَلَمَّا أَمْسَوْا صَاحُوا بِأَجْمَعِهِمْ: أَلا قَدْ مَضَى يَوْمٌ مِنَ الأَجَلِ وَحَضَرَكُمُ الْعَذَابُ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا الْيَوْمَ الثَّانِي إِذَا وُجُوهُهُمْ مُحْمَرَّةٌ، كَأَنَّمَا خُضِبَتْ بِالدِّمَاءِ، فَصَاحُوا وَضَجُّوا وَبَكَوْا وَعَرَفُوا أَنَّهُ الْعَذَابُ فَلَمَّا أَمْسَوْا صَاحُوا بِأَجْمَعِهِمْ: أَلا قَدْ مَضَى يَوْمَانِ مِنَ الأَجَلِ، وَحَضَرَكُمُ الْعَذَابُ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا الْيَوْمَ الثَّالِثَ فَإِذَا وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ كَأَنَّمَا طُلِيَتْ بِالْقَارِ، فَصَاحُوا جَمِيعًا: أَلا قَدْ حَضَرَكُمُ الْعَذَابُ، فَتَكَفَّنُوا وَتَحَنَّطُوا، وَكَانَ حُنُوطُهُمُ الصَّبْرَ وَالْمَقِرَ، وَكَانَتْ أَكْفَانُهُمُ الأَنْطَاعَ، ثُمَّ أَلْقَوْا أَنْفُسَهُمْ إِلَى الأَرْضِ، فَجَعَلُوا يُقَلِّبُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ مَرَّةً، وَإِلَى الأَرْضِ مَرَّةً، لا يَدْرُونَ مِنْ حَيْثُ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ، مِنْ فَوْقِهِمْ مِنَ السَّمَاءِ، أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنَ الأَرْضِ خُشُعًا وَفُرُقًا، فَلَمَّا أَصْبَحُوا الْيَوْمَ الرَّابِعَ أَتَتْهُمْ صَيْحَةٌ مِنَ السَّمَاءِ فِيهَا صَوْتُ كُلِّ صَاعِقَةٍ وَصَوْتُ كُلِّ شَيْءٍ لَهُ صَوْتٌ فِي الأَرْضِ، فَتَقَطَّعَتْ قُلُوبُهُمْ فِي صُدُورِهِمْ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ
(1/230)
حدثنا القاسم، قال: حدثنا
الحسين، قال: حدثنا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: حُدِّثْتُ أَنَّهُ
لَمَّا أَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ أَهْلَكَ اللَّهُ مَنْ بَيْنَ الْمَشَارِقِ
وَالْمَغَارِبِ مِنْهُمْ، إِلا رَجُلا وَاحِدًا كَانَ فِي حَرَمِ اللَّهِ،
مَنَعَهُ حَرَمُ اللَّهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ قِيلَ: وَمَنْ هُوَ يَا رَسُولَ
اللَّهِ:؟ قَالَ: أَبُو رِغَالٍ، [وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص حِينَ أَتَى عَلَى
قَرْيَةِ ثَمُودَ لأَصْحَابِهِ: لا يَدْخُلَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمُ الْقَرْيَةَ، وَلا
تَشْرَبُوا مِنْ مَائِهِمْ،] وَأَرَاهُمْ مُرْتَقَى الْفَصِيلِ، حِينَ ارْتَقَى
فِي الْقَارَةِ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَأَخْبَرَنِي موسى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابن عمران، [ان النبي ص حِينَ أَتَى عَلَى
قَرْيَةِ ثَمُودَ قَالَ: لا تَدْخُلَنَّ عَلَى هَؤُلاءِ الْمُعَذَّبِينَ إِلا أَنْ
تَكُونُوا بَاكِينَ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَلا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ،
أَنْ يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَهُمْ] .
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: [إِنَّ النبي ص لَمَّا
أَتَى عَلَى الْحِجْرِ، حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا
بَعْدُ، فَلا تَسْأَلُوا رَسُولَكُمُ الآيَاتِ، هَؤُلاءُ قَوْمُ صَالِحٍ سَأَلُوا
رَسُولَهُمُ الآيَةَ، فَبَعَثَ اللَّهُ لَهُمُ النَّاقَةَ، فَكَانَتْ تَرِدُ مِنْ
هَذَا الْفَجِّ وَتَصْدُرُ مِنْ هَذَا الْفَجِّ، فَتَشْرَبُ مَاءَهُمْ يَوْمَ وِرْدِهَا]
.
حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْمُتَوَكِّلِ الأَشْجَعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَاقِدٍ، عَنْ عبد
الله بن عثمان بن خثيم، قال: حدثنا ابو الطفيل قال: [لما غزا رسول الله ص غَزَاةَ
تَبُوكَ، نَزَلَ الْحِجْرَ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ لا تَسْأَلُوا نَبِيَّكُمُ
الآيَاتِ، هَؤُلاءِ قَوْمُ صَالِحٍ سَأَلُوا نَبِيَّهُمْ أَنْ يَبْعَثَ لَهُمْ
آيَةً، فَبَعَثَ اللَّهُ تعالى ذِكْرُهُ لَهُمُ النَّاقَةَ آيَةً، فَكَانَتْ
تَلِجُ عَلَيْهِمْ يَوْمَ وِرْدِهَا مِنْ هَذَا الْفَجِّ فَتَشْرَبُ مَاءَهُمْ،
وَيَوْمَ وِرْدِهِمْ كَانُوا يَتَزَوَّدُونَ مِنْهُ، ثُمَّ يَحْلِبُونَهَا مِثْلَ
مَا كَانُوا يَتَزَوَّدُونَ مِنْ مَائِهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ لَبَنًا، ثُمَّ تَخْرُجُ
مِنْ ذَلِكَ الْفَجِّ فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَعَقَرُوهَا، فَوَعَدَهُمُ
اللَّهُ الْعَذَابَ بَعْدَ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ،
(1/231)
وَكَانَ وَعْدًا مِنَ اللَّهِ
غَيْرَ مَكْذُوبٍ، فَأَهْلَكَ اللَّهُ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ فِي مَشَارِقِ الأَرْضِ
وَمَغَارِبِهَا إِلا رَجُلا وَاحِدًا كَانَ فِي حَرَمِ اللَّهِ، فَمَنَعَهُ حَرَمُ
اللَّهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، قَالُوا: وَمَنْ ذَلِكَ الرَّجُلُ يَا رَسُولَ
اللَّهِ؟ قَالَ: أَبُو رِغَالٍ] .
فَأَمَّا أَهْلُ التَّوْرَاةِ فَإِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنْ لا ذِكْرَ لِعَادٍ
وَلا ثَمُودَ وَلا لِهُودٍ وَصَالِحٍ فِي التَّوْرَاةِ، وَأَمْرُهُمْ عِنْدَ
الْعَرَبِ فِي الشُّهْرَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالإِسْلامِ كَشُهْرَةِ
إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمِهِ.
قَالَ: وَلَوْلا كَرَاهَةُ إِطَالَةِ الْكِتَابِ بِمَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ،
لَذَكَرْتُ مِنْ شِعْرِ شُعَرَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّذِي قِيلَ فِي عَادٍ
وَثَمُودَ وَأُمُورِهِمْ بَعْضَ مَا قِيلَ مَا يَعْلَمُ بِهِ مَنْ ظَنَّ خِلافَ
مَا قُلْنَا فِي شُهْرَةِ أَمْرِهِمْ فِي الْعَرَبِ صِحَّةَ ذَلِكَ وَمِنْ أَهْلِ
العلم من يزعم ان صالحا ع تُوُفِّيَ بِمَكَّةَ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ
سَنَةً، وَأَنَّهُ أَقَامَ فِي قَوْمِهِ عِشْرِينَ سَنَةً.
قال أبو جعفر: نرجع الآن إلى:
(1/232)
ذكر ابراهيم خليل الرحمن ع
وذكر من كان في عصره من ملوك العجم
إذ كنا قد ذكرنا من بينه وبين نوح من الآباء وتأريخ السنين التي مضت قبل ذلك وهو
ابراهيم بن تارخ بن ناحور بن ساروغ بن أرغوا بن فالغ بن عابر بن شالخ بن قينان بن
ارفخشد بن سام بن نوح.
واختلفوا في الموضع الذي كان منه، والموضع الذي ولد فيه، فقال بعضهم:
كان مولده بالسوس من أرض الأهواز، وقال بعضهم: كان مولده ببابل من أرض السواد وقال
بعضهم: كان بالسواد بناحية كوثى وقال بعضهم:
كان مولده بالوركاء بناحية الزوابي وحدود كسكر، ثم نقله أبوه إلى الموضع الذي كان
به نمرود من ناحية كوثى وقال بعضهم: كان مولده بحران، ولكن أباه تارخ نقله إلى أرض
بابل وقال عامة السلف من أهل العلم: كان مولد ابراهيم ع في عهد نمرود بن كوش ويقول
عامة أهل الأخبار:
كان نمرود عاملا للإزدهاق الذي زعم بعض من زعم ان نوحا ع كان مبعوثا إليه على أرض
بابل وما حولها وأما جماعة من سلف العلماء فإنهم يقولون: كان ملكا برأسه، واسمه
الذي هو اسمه فيما قيل: زرهى بن طهماسلفان.
وقد حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حَدَّثَنَا سلمة، قال: حَدَّثَنَا محمد بن
إسحاق- فيما ذكر لنا والله أعلم- أن آزر كان رجلا من أهل كوثى، من قرية بالسواد
سواد الكوفة، وكان إذ ذاك ملك المشرق لنمرود الخاطئ، وكان يقال له الهاصر، وكان
ملكه- فيما يزعمون- قد أحاط بمشارق الأرض ومغاربها، وكان ببابل، قال: وكان ملكه
وملك قومه بالمشرق قبل ملك فارس.
قال: ويقال لم يجتمع ملك الأرض ولم يجتمع الناس على ملك واحد إلا
(1/233)
على ثلاثة ملوك: نمرود بن
أرغوا، وذي القرنين، وسليمان بن داود.
وقال بعضهم: نمرود هو الضحاك نفسه.
حدثت عن هشام بن محمد، قال: بلغنا والله أعلم أن الضحاك هو نمرود، وأن إبراهيم
خليل الرحمن ولد في زمانه، وأنه صاحبه الذي أراد إحراقه.
حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي فِي
خَبَرٍ ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ وَعَنْ أَبِي مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ-
وَعَنْ مُرَّةَ الهمداني عن ابن مسعود- وعن ناس من اصحاب النبي ص إِنَّ أَوَّلَ
مَلِكٍ مَلَكَ فِي الأَرْضِ شَرْقَهَا وغربها نمرود بن كنعان ابن كُوشَ بْنِ سَامَ
بْنِ نُوحٍ، وَكَانَتِ الْمُلُوكُ الَّذِينَ مَلَكُوا الأَرْضَ كُلَّهَا
أَرْبَعَةً:
نَمْرُودُ، وَسُلَيْمَانُ بن داود، وذو القرنين، وبختنصر: مُؤْمِنَانِ
وَكَافِرَانِ.
وقال ابن إسحاق فيما حَدَّثَنِي ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ
ابن إسحاق: فلما أراد الله عز وجل أن يبعث ابراهيم ع خليل الرحمن حجة على قومه
ورسولا إلى عباده، ولم يكن فيما بين نوح وإبراهيم ع من نبي قبله إلا هود وصالح،
فلما تقارب زمان إبراهيم الذي أراد الله تعالى ذكره ما أراد، أتى أصحاب النجوم
نمرود، فقالوا له: تعلم أنا نجد في علمنا أن غلاما يولد في قريتك هذه يقال له
إبراهيم، يفارق دينكم، ويكسر أوثانكم، في شهر كذا وكذا من سنة كذا وكذا فلما دخلت
السنة التي وصف أصحاب النجوم لنمرود، بعث نمرود إلى كل امرأة حبلى بقريته، فحبسها
عنده، إلا ما كان من أم إبراهيم امرأة آزر فإنه لم يعلم بحبلها، وذلك أنها كانت
جارية- حدثه فيما يذكر- لم يعرف الحبل في بطنها، فجعل لا تلد امرأة غلاما في ذلك
الشهر من تلك السنة إلا أمر به فذبح، فلما وجدت أم إبراهيم الطلق خرجت ليلا إلى
مغارة كانت قريبا منها، فولدت فيها ابراهيم ع، وأصلحت من شأنه ما يصنع بالمولود،
ثم سدت عليه المغارة، ثم رجعت إلى بيتها، ثم كانت تطالعه في المغارة لتنظر ما فعل،
فتجده حيا
(1/234)
يمص إبهامه يزعمون- والله
أعلم- أن الله جعل رزق ابراهيم ع فيها ما يجيئه من مصه، وكان آزر فيما يزعمون قد
سأل أم إبراهيم عن حملها ما فعل، فقالت: ولدت غلاما فمات فصدقها فسكت عنها، وكان
اليوم- فيما يذكرون- على إبراهيم في الشباب كالشهر، والشهر كالسنة، ولم يمكث
ابراهيم ع في المغارة إلا خمسة عشر شهرا، حتى قال لأمه: أخرجيني أنظر، فأخرجته
عشاء، فنظر وتفكر في خلق السموات والأرض، وقال: إن الذي خلقني ورزقني وأطعمني
وسقاني لربي، ما لي إله غيره ثم نظر في السماء ورأى كوكبا، فقال: «هذا رَبِّي» ،
ثم اتبعه ينظر إليه ببصره حتى غاب «فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ»
، ثم اطلع للقمر فرآه بازغا فقال: «هذا رَبِّي» ثم أتبعه ببصره حتى غاب «فَلَمَّا
أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ
الضَّالِّينَ» فلما دخل عليه النهار وطلعت الشمس رأى عظم الشمس ورأى شيئا هو أعظم
نورا من كل شيء رآه قبل ذلك، فقال: «هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ، فَلَمَّا أَفَلَتْ
قالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ
لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ
الْمُشْرِكِينَ» .
ثم رجع إبراهيم إلى أبيه آزر وقد استقامت وجهته، وعرف ربه وبريء من دين قومه إلا
أنه لم يبادهم بذلك، فأخبره أنه ابنه، فأخبرته أم إبراهيم ع أنه ابنه، فأخبرته بما
كانت صنعت في شأنه، فسر بذلك آزر وفرح فرحا شديدا، وكان آزر يصنع أصنام قومه التي
يعبدون، ثم يعطيها إبراهيم يبيعها، فيذهب بها إبراهيم ع فيما يذكرون فيقول: من
يشتري ما يضره ولا ينفعه! فلا يشتريها منه أحد، فإذا بارت عليه ذهب بها إلى نهر
فصوب فيه رءوسها، وقال: اشربي- استهزاء بقومه، وبما هم عليه من الضلالة- حتى فشا
عيبه إياها، واستهزاؤه بها في قومه وأهل قريته،
(1/235)
من غير أن يكون ذلك بلغ نمرود
الملك ثم إنه لما بدا لإبراهيم أن يبادي قومه بخلاف ما هم عليه وبأمر الله والدعاء
إليه «نظر نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ» ، يقول الله عز وجل:
«فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ» ، وقوله:
«إِنِّي سَقِيمٌ» اى طعين، او لسقم كانوا يهربون منه إذا سمعوا به، وإنما يريد
إبراهيم أن يخرجوا عنه ليبلغ من أصنامهم الذي يريد فلما خرجوا عنه خالف إلى
أصنامهم التي كانوا يعبدون من دون الله، فقرب لها طعاما، ثم قال: ألا تأكلون! ما
لكم لا تنطقون! تعييرا في شأنها واستهزاء بها.
وقال في ذلك غير ابن إسحاق، مَا حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قال:
حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، في خبر ذكره عن أَبِي صَالِحٍ،
وَعَنْ أَبِي مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ عباس- وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود- وعن اناس
من اصحاب النبي ص: كان من شان ابراهيم ع أَنَّهُ طَلَعَ كَوْكَبٌ عَلَى نُمْرُودَ،
فَذَهَبَ بِضَوْءِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، فَفَزِعَ مِنْ ذَلِكَ فَزَعًا شَدِيدًا،
فَدَعَا السَّحَرَةَ وَالْكَهَنَةَ وَالْقَافَّةَ وَالْحَازَّةَ، فَسَأَلَهُمْ
عَنْهُ، فَقَالُوا: يَخْرُجُ مِنْ مُلْكِكَ رَجُلٌ يَكُونُ عَلَى وَجْهِهِ
هَلاكُكَ وَهَلاكُ مُلْكِكَ- وَكَانَ مَسْكَنُهُ بِبَابِلَ الْكُوفَةَ- فَخَرَجَ
مِنْ قَرْيَتِهِ إِلَى قَرْيَةٍ أُخْرَى، فاخرج الرجال وترك النساء، وامر الا
يُولَدَ مَوْلُودٌ ذَكَرٌ إِلا ذَبَحَهُ، فَذَبَحَ أَوْلادَهُمْ ثُمَّ إِنَّهُ
بَدَتْ لَهُ حَاجَةٌ فِي الْمَدِينَةِ لَمْ يَأْمَنْ عَلَيْهَا إِلا آزَرَ أَبَا
إِبْرَاهِيمَ، فَدَعَاهُ فَأَرْسَلَهُ.
فَقَالَ لَهُ انْظُرْ لا تُوَاقِعْ أَهْلَكَ، فَقَالَ لَهُ آزَرُ: أَنَا أَضِنُّ
بِدِينِي مِنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا دَخَلَ الْقَرْيَةَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِهِ فَلَمْ
يَمْلِكْ نَفْسَهُ أَنْ وَقَعَ عَلَيْهَا، فَقَرَّبَهَا إِلَى قَرْيَةٍ بَيْنَ
الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ، يُقَالُ لَهَا أُورُ، فَجَعَلَهَا فِي سَرَبٍ، فَكَانَ
يَتَعَاهَدَهَا بالطعام
(1/236)
وَالشَّرَابِ وَمَا
يُصْلِحُهَا وَإِنَّ الْمَلِكَ لَمَّا طَالَ عَلَيْهِ الأَمْرُ قَالَ: قَوْلُ سَحَرَةٍ
كَذَّابِينَ.
ارْجِعُوا إِلَى بَلَدِكُمْ، فَرَجَعَوا وَوُلِدَ إِبْرَاهِيمُ فَكَانَ فِي كُلِّ
يَوْمٍ يَمُرُّ كَأَنَّهُ جُمُعَةٌ، وَالْجُمُعَةُ كَالشَّهْرِ، وَالشَّهْرُ
كَالسَّنَةِ مِنْ سُرْعَةِ شَبَابِهِ، وَنَسِيَ الْمَلِكُ ذلك، وكبر ابراهيم ولا
يَرَى أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْخَلْقِ غَيْرَهُ وَغَيْرَ أَبِيهِ وَأُمِّهِ، فَقَالَ
أَبُو إِبْرَاهِيمَ لأَصْحَابِهِ: إِنَّ لِي ابْنًا قَدْ خَبَّأْتُهُ،
أَفَتَخَافُونَ عَلَيْهِ الْمَلِكَ إِنْ أَنَا جِئْتُ بِهِ؟ قَالُوا:
لا، فَأْتِ بِهِ فَانْطَلَقَ فَأَخْرَجَهُ، فَلَمَّا خَرَجَ الْغُلامُ مِنَ
السَّرَبِ نَظَرَ إِلَى الدَّوَابِّ وَالْبَهَائِمِ وَالْخَلْقِ، فَجَعَلَ
يَسْأَلُ أَبَاهُ: مَا هَذَا؟ فَيُخْبِرُهُ عَنِ الْبَعِيرِ أَنَّهُ بَعِيرٌ،
وَعَنِ الْبَقَرَةِ أَنَّهَا بَقَرَةٌ، وَعَنِ الْفَرَسِ أَنَّهُ فَرَسٌ، وَعَنِ الشَّاةِ
أَنَّهَا شَاةٌ، فَقَالَ:
مَا لِهَؤُلاءِ الْخَلْقِ بُدٌّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ رَبٌّ، وَكَانَ
خُرُوجُهُ حِينَ خَرَجَ مِنَ السَّرَبِ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَرَفَعَ
رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَإِذَا هُوَ بِالْكَوْكَبِ وَهُوَ الْمُشْتَرى،
فَقَالَ: «هَذَا رَبِّي» ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ غَابَ، فَقَالَ «لا أُحِبُّ
الْآفِلِينَ» ، أَيْ لا أُحِبُّ رَبًّا يَغِيبُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَخَرَجَ
فِي آخِرِ الشَّهْرِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَرَ الْقَمَرَ قَبْلَ الْكَوَاكِبِ،
فَلَمَّا كَانَ آخِرُ اللَّيْلِ رَأَى الْقَمَرَ بِازِغًا قَدْ طَلَعَ، فَقَالَ:
«هَذَا رَبِّي، فَلَمَّا أَفَلَ» يَقُولُ: غَابَ، «قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي
رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ» ، فَلَمَّا أَصْبَحَ وَرَأَى
الشَّمْسَ بَازِغَةً، قالَ: «هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ» ، فَلَمَّا غَابَتْ
قَالَ اللَّهُ لَهُ: أَسْلِمْ، قال: قد أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ ثم اتى
قَوْمَهُ فَدَعَاهُمْ فَقَالَ: «يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ
إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً»
يَقُولُ مُخْلِصًا: فَجَعَلَ يَدْعُو قَوْمَهُ وَيُنْذِرُهُمْ.
وَكَانَ أَبُوهُ يَصْنَعُ الأَصْنَامَ فَيُعْطِيهَا وَلَدَهُ فَيَبِيعُونَهَا،
وَكَانَ يُعْطِيهِ فَيُنَادِي:
مَنْ يَشْتَرِي مَا يَضُرُّهُ وَلا يَنْفَعُهُ؟ فَيَرْجِعُ إِخْوَتُهُ وَقَدْ
بَاعُوا أَصْنَامَهُمْ، وَيَرْجِعُ إِبْرَاهِيمُ بِأَصْنَامِهِ كَمَا هِيَ، ثُمَّ
دَعَا أَبَاهُ فَقَالَ: «يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ
وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً
» قَالَ: «أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ
لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا» قال: ابدا ثم قَالَ لَهُ أَبُوهُ:
(1/237)
يَا إِبْرَاهِيمُ، إِنَّ لَنَا
عِيدًا لَوْ قَدْ خَرَجْتَ مَعَنَا لأَعْجَبَكَ دِينُنَا، فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ
الْعِيدِ، فَخَرَجُوا إِلَيْهِ خَرَجَ مَعَهُمْ إِبْرَاهِيمُ، فَلَمَّا كَانَ
بِبَعْضِ الطَّرِيقِ أَلْقَى نَفْسَهُ وَقَالَ:
«إِنِّي سَقِيمٌ» ، يَقُولُ: أَشْتَكِي رِجْلِي، فَتَوَطَّئُوا رِجْلَيْهِ، وَهُوَ
صَرِيعٌ، فَلَمَّا مَضَوْا نَادَى فِي آخِرِهِمْ وَقَدْ بقي ضعفى الناس:
«تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ» فَسَمِعُوهَا
مِنْهُ، ثُمَّ رَجَعَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى بَيْتِ الآلِهَةِ، فَإِذَا هُوَ فِي
بَهْوٍ عَظِيمٍ، مُسْتَقْبِلٌ بَابَ الْبَهْوِ صَنَمٌ عَظِيمٌ إِلَى جَنْبِهِ
أَصْغَرُ مِنْهُ، بَعْضُهَا إِلَى جَنْبِ بَعْضٍ، كُلُّ صَنَمٍ يَلِيهِ أَصْغَرُ
مِنْهُ، حَتَّى بَلَغُوا بَابَ الْبَهْوِ وَإِذَا هُمْ قَدْ صَنَعُوا طَعَامًا،
فَوَضَعُوهُ بَيْنَ يَدَيِ الآلِهَةِ، قَالُوا: إِذَا كَانَ حِينَ نَرْجِعُ
رَجَعْنَا، وَقَدْ بَارَكَتِ الآلِهَةُ فِي طَعَامِنَا فَأَكَلْنَا فلما نظر اليهم
ابراهيم ع، وَإِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مِنَ الطَّعَامِ قَالَ: أَلا
تَأْكُلُونَ؟ فَلَمَّا لَمْ تُجِبْهُ قَالَ:
مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ! فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ، فَأَخَذَ
حَدِيدَةً فَبَقَرَ كُلَّ صَنَمٍ فِي حَافَّتَيْهِ، ثُمَّ عَلَّقَ الْفَأْسَ فِي
عُنُقِ الصَّنَمِ الأَكْبَرِ، ثُمَّ خَرَجَ فَلَمَّا جَاءَ الْقَوْمُ إِلَى
طَعَامِهِمْ، وَنَظَرُوا إِلَى آلِهَتِهِمْ، قَالُوا: «مَنْ فَعَلَ هَذَا
بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ
يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ» .
قال أبو جعفر: رجع الحديث إلى حديث ابْنِ إِسْحَاقَ.
ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ كَمَا قَالَ الله عز وجل: «ضَرْباً بِالْيَمِينِ» ثُمَّ
جَعَلَ يَكْسِرُهُنَّ بِفَأْسٍ فِي يَدِهِ، حَتَّى إِذَا بَقِيَ أَعْظَمُ صَنَمٍ
مِنْهَا رَبَطَ الْفَأْسَ بِيَدِهِ، ثُمَّ تَرَكَهُنَّ، فَلَمَّا رَجَعَ قَوْمُهُ
رَأَوْا ما صنع بأصنامهم، فراغهم ذَلِكَ، فَأَعْظَمُوهُ وَقَالُوا: مَنْ فَعَلَ
بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لمن الظالمين ثم ذكروا فقالوا: «قد سَمِعْنا فَتًى
(1/238)
يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ
إِبْراهِيمُ» - يَعْنُونَ فَتًى يَسُبُّهَا وَيُعِيبُهَا وَيَسْتَهْزِئُ بِهَا،
لَمْ نَسْمَعْ أَحَدًا يَقُولُ ذَلِكَ غَيْرَهُ، وَهُوَ الَّذِي نَظُنُّ صَنَعَ
هَذَا بِهَا وَبَلَغَ ذَلِكَ نُمْرُودَ وَأَشْرَافَ قَوْمِهِ، فَقَالُوا:
«فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ» ، اى ما يصنع
بِهِ.
فَكَانَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ، مِنْهُمْ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ
يَقُولُونَ فِي ذَلِكَ:
لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ عَلَيْهِ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ، وَقَالُوا:
كَرِهُوا أَنْ يَأْخُذُوهُ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ رَجَعَ الْحَدِيثُ إِلَى حَدِيثِ
ابْنِ إِسْحَاقَ:
قَالَ: فَلَمَّا أُتِي بِهِ فَاجْتَمَعَ لَهُ قَوْمُهُ عِنْدَ مَلِكِهِمْ
نُمْرُودَ، قَالُوا: «أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنا يَا إِبْراهِيمُ قالَ
بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ» ، غَضِبَ
مِنْ أَنْ يَعْبُدُوا مَعَهُ هَذِهِ الصِّغَارُ وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهَا،
فَكَسَرَهُنَّ، فَارْعَوَوْا وَرَجَعُوا عَنْهُ فِيمَا ادَّعَوْا عَلَيْهِ مِنْ
كَسْرِهِنَّ إِلَى أَنْفُسِهِمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَقَالُوا: لَقَدْ ظَلَمْنَاهُ
وَمَا نَرَاهُ إِلا كَمَا قَالَ ثُمَّ قَالُوا وَعَرَفُوا أَنَّهَا لا تَضُرُّ
وَلا تَنْفَعُ وَلا تَبْطُشُ: «لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ» ، أَيْ لا
يَتَكَلَّمُونَ فَيُخْبِرُونَا:
مَنْ صَنَعَ هَذَا بِهَا، وَمَا تَبْطُشُ بِالأَيْدِي فَنُصَدِّقُكَ، يَقُولُ
اللَّهُ عز وجل:
«ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ» ، أَيْ
نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ فِي الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ لإِبْرَاهِيمَ حِينَ
جَادَلَهُمْ، فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ حِينَ ظَهَرَتِ الْحُجَّةُ
عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِمْ: «لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ قالَ أَفَتَعْبُدُونَ
مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ
وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ» .
قَالَ: وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ عِنْدَ ذَلِكَ فِي اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ
يَسْتَوْصِفُونَهُ إِيَّاهُ وَيُخْبِرُونَهُ
(1/239)
أَنَّ آلِهَتَهُمْ خَيْرٌ
مِمَّا يَعْبُدُ، فَقَالَ: «أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ» ، إِلَى
قَوْلِهِ: «فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ» ، يَضْرِبُ لَهُمُ الأَمْثَالَ، وَيُصَرِّفُ لَهُمُ الْعِبَرَ، لِيَعْلَمُوا
أَنَّ اللَّهَ هُوَ أَحَقُّ أَنْ يُخَافَ وَيُعْبَدَ مِمَّا يَعْبُدُونَ مِنْ
دُونِهِ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: ثُمَّ إِنَّ نُمْرُودَ- فِيمَا يَذْكُرُونَ- قَالَ
لإِبْرَاهِيمَ: أَرَأَيْتَ إِلَهَكَ هَذَا الَّذِي تَعْبُدَ وَتَدْعُو إِلَى
عبادته، وتذكره مِنْ قُدْرَتِهِ الَّتِي تُعَظِّمُهُ بِهَا عَلَى غَيْرِهِ مَا
هُوَ؟ «قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ» ، فَقَالَ نُمْرُودُ:
فَأَنَا «أُحْيِي وَأُمِيتُ» ، فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: كَيْفَ تُحْيِي
وَتُمِيتُ؟ قَالَ: آخُذُ الرَّجُلَيْنِ قَدِ اسْتَوْجَبَا الْقَتْلَ فِي حُكْمِي،
فَأَقْتُلُ أَحَدَهُمَا فَأَكُونُ قَدْ أَمَتُّهُ، وَأَعْفُو عَنِ الآخَرِ
فَأَتْرُكُهُ فَأَكُونُ قَدْ أَحْيَيْتُهُ، فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ عِنْدَ
ذَلِكَ: «فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ
الْمَغْرِبِ» ، فَعَرَفَ أَنَّهُ كَمَا يَقُولُ، فَبُهِتَ عِنْدَ ذَلِكَ نُمْرُودُ
وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِ شَيْئًا، وَعَرَفَ أَنَّهُ لا يُطِيقُ ذَلِكَ يَقُولُ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ» ، يَعْنِي وَقَعَتْ عَلَيْهِ
الْحُجَّةُ.
قَالَ: ثُمَّ إِنَّ نُمْرُودَ وَقَوْمَهُ أَجْمَعُوا فِي إِبْرَاهِيمَ فَقَالُوا:
«حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ» .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن الحسن بن
دِينَارٍ، عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: تَلَوْتُ
هَذِهِ الآيَةَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، فَقَالَ: أَتَدْرِي يَا
مُجَاهِدُ، من الذى اشار بتحريق ابراهيم ع بِالنَّارِ؟ قَالَ: قُلْتُ: لا، قَالَ:
رَجُلٌ مِنْ أَعْرَابِ فَارِسٍ، قَالَ: قُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَهَلْ
لِلْفُرْسِ أَعْرَابٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، الْكُرْدُ هُمْ أَعْرَابُ فَارِسَ، فَرَجُلٌ
مِنْهُمْ هُوَ الَّذِي أَشَارَ بِتَحْرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بِالنَّارِ حَدَّثَنِي
يعقوب، قال: حَدَّثَنَا ابن علية، عن ليث، عن مجاهد في
(1/240)
قوله: «حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا
آلِهَتَكُمْ» قال: قالها رجل من أعراب فارس- يعني الأكراد.
وحدثنا القاسم، قال: حَدَّثَنَا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال:
أخبرني وهب بن سليمان، عن شعيب الجبائي، قال:
ان اسم الذى قال حرقوه هينون، فخسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم
القيامة ثم رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق.
قال: فامر نمرود، بجمع الحطب، فجمعوا له صلاب الحطب من أصناف الخشب، حتى إن كانت
المرأة من قرية إبراهيم- فيما يذكر- لتنذر في بعض ما تطلب مما تحب ان تدرك: لئن
أصابته لتحطبن في نار إبراهيم التي يحرق بها احتسابا في دينها، حتى إذا أرادوا أن
يلقوه فيها قدموه وأشعلوا في كل ناحية من الحطب الذي جمعوا له، حتى إذا اشتعلت
النار، واجتمعوا لقذفه فيها، صاحت السماء والأرض وما فيها من الخلق إلا الثقلين-
فيما يذكرون- إلى الله عز وجل صيحة واحدة: أي ربنا! إبراهيم ليس في أرضك أحد يعبدك
غيره، يحرق بالنار فيك! فأذن لنا في نصرته، فيذكرون- والله أعلم- أن الله عز وجل
حين قالوا ذلك قال: إن استغاث بشيء منكم أو دعاه فلينصره، فقد أذنت له في ذلك، فإن
لم يدع غيري فأنا وليه، فخلوا بيني وبينه، فأنا أمنعه، فلما ألقوه فيها قال: «يَا
نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ» ، فكانت كما قال الله عز وجل.
وحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي قال
«قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ» ،
(1/241)
قَالَ: فَحَبَسُوهُ فِي
بَيْتٍ، وَجَمَعُوا لَهُ حَطَبًا حَتَّى أَنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ لَتَمْرَضُ
فَتَقُولُ:
لَئِنْ عَافَانِي اللَّهُ لأَجْمَعَنَّ حَطَبًا لإِبْرَاهِيمَ، فَلَمَّا جَمَعُوا
لَهُ وَأَكْثَرُوا مِنَ الْحَطَبِ حَتَّى إِنْ كَانَ الطَّيْرُ لَيَمُرُّ بِهَا
فَيَحْتَرِقُ مِنْ شِدَّةِ وَهَجِهَا وحرها، فعمدوا إِلَيْهِ فَرَفَعُوهُ عَلَى
رَأْسِ الْبُنْيَانِ، فَرَفَعَ إِبْرَاهِيمُ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَتِ
السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَالْمَلائِكَةُ: رَبَّنَا! إِبْرَاهِيمُ
يُحْرَقُ فِيكَ فَقَالَ: أَنَا أَعْلَمُ بِهِ، فَإِنْ دَعَاكُمْ فَأَغِيثُوهُ
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ حِينَ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ
الْوَاحِدُ فِي السَّمَاءِ وَأَنَا الْوَاحِدُ فِي الأَرْضِ، لَيْسَ فِي الأَرْضِ
أَحَدٌ يَعْبُدُكَ غَيْرِي، حَسْبِي اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ! فَقَذَفُوهُ فِي
النَّارِ، فَنَادَاهَا فَقَالَ: «يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى
ابراهيم» وكان جبرئيل هُوَ الَّذِي نَادَاهَا وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ لَمْ
يُتْبِعْ بَرْدَهَا سَلامًا لَمَاتَ إِبْرَاهِيمُ مِنْ بَرْدِهَا، فَلَمْ تَبْقَ
يَوْمَئِذٍ نَارٌ فِي الأَرْضِ الا طفئت وظنت أَنَّهَا تُعْنَى فَلَمَّا طُفِئَتِ
النَّارُ نَظَرُوا إِلَى ابراهيم فإذا هو ورجل آخَرُ مَعَهُ، وَإِذَا رَأْسُ
إِبْرَاهِيمَ فِي حِجْرِهِ يَمْسَحُ عَنْ وَجْهِهِ الْعَرَقَ، وَذَكَرَ أَنَّ
ذَلِكَ الرجل مَلَكُ الظِّلِّ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ نَارًا وَانْتَفَعَ بِهَا بَنُو
آدَمَ، فَأَخْرَجُوا إِبْرَاهِيمَ، فَأَدْخَلُوهُ عَلَى الْمَلِكِ، وَلَمْ يَكُنْ
قَبْلَ ذَلِكَ دَخَلَ عَلَيْهِ ثُمَّ رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق.
قال: وَبَعَثَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَلَكَ الظِّلِّ فِي صُورَةِ إِبْرَاهِيمَ،
فَقَعَدَ فِيهَا إِلَى جَنْبِهِ يُؤْنِسُهُ، فَمَكَثَ نُمْرُودُ أَيَّامًا لا
يَشُكُّ إِلا أَنَّ النَّارَ قَدْ أَكَلَتْ إِبْرَاهِيمَ وَفَرَغَتْ مِنْهُ، ثُمَّ
رَكِبَ فَمَرَّ بِهَا وَهِيَ تَحْرِقُ مَا جَمَعُوا لَهَا مِنَ الْحَطَبِ،
فَنَظَرَ إِلَيْهَا، فَرَأَى إِبْرَاهِيمَ جَالِسًا فِيهَا إِلَى جَنْبِهِ رَجُلٌ
مِثْلُهُ، فَرَجَعَ مِنْ مَرْكَبِهِ ذَلِكَ، فَقَالَ لِقَوْمِهِ: لَقَدْ رَأَيْتُ
إِبْرَاهِيمَ حَيًّا فِي النَّارِ، وَلَقَدْ شُبِّهَ عَلَيَّ، ابْنُوا لِي صَرْحًا
يُشْرِفُ بِي عَلَى النَّارِ حَتَّى أَسْتَثْبِتُ، فَبَنَوْا لَهْ صَرْحًا،
فَأَشْرَفَ عَلَيْهِ فَاطَّلَعَ مِنْهُ إِلَى النَّارِ، فَرَأَى إِبْرَاهِيمَ
جَالِسًا فِيهَا، وَرَأَى الْمَلَكَ قَاعِدًا إِلَى جَنْبِهِ فِي مِثْلِ
صُورَتِهِ، فَنَادَاهُ نُمْرُودُ: يَا إِبْرَاهِيمُ، كَبِيرٌ إِلَهُكَ الَّذِي
بَلَغَتْ قُدْرَتُهُ وَعِزَّتُهُ أَنْ حَالَ بَيْنَ مَا أَرَى وَبَيْنَكَ، حَتَّى
لَمْ تَضُرَّكَ يَا إِبْرَاهِيمُ، هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَخْرُجَ مِنْهَا؟
(1/242)
قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: هَلْ
تَخْشَى إِنْ أَقَمْتَ فِيهَا أَنْ تَضُرَّكَ؟ قَالَ: لا، قَالَ:
فَقُمْ وَاخْرُجْ مِنْهَا، فَقَامَ إِبْرَاهِيمُ يَمْشِي فِيهَا حَتَّى خَرَجَ
مِنْهَا، فَلَمَّا خَرَجَ إِلَيْهِ قَالَ: يَا إِبْرَاهِيمُ، مَنِ الرَّجُلُ
الَّذِي رَأَيْتُ مَعَكَ فِي مِثْلِ صُورَتِكَ قَاعِدًا إِلَى جَنْبِكَ؟ قَالَ:
ذَلِكَ مَلَكُ الظِّلِّ، أَرْسَلَهُ إِلَيَّ رَبِّي لِيَكُونَ مَعِي فِيهَا
لِيُؤْنِسَنِي، وَجَعَلَهَا عَلَيَّ بَرْدًا وَسَلامًا فَقَالَ نُمْرُودُ- فِيمَا
حُدِّثْتُ-: يَا إِبْرَاهِيمُ، إِنِّي مُقَرِّبٌ إِلَى إِلَهِكَ قُرْبَانًا لِمَا
رَأَيْتُ مِنْ عِزَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَلِمَا صَنَعَ بِكَ حِينَ أَبَيْتَ إِلا
عِبَادَتَهُ وَتَوْحِيدِهِ، إِنِّي ذَابِحٌ لَهُ أَرْبَعَةَ آلافِ بَقَرَةٍ
فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ:
إِذًا لا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْكَ مَا كُنْتَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ دِينِكَ هَذَا
حَتَّى تُفَارِقَهُ إِلَى دِينِي! فَقَالَ: يَا إِبْرَاهِيمُ، لا أَسْتَطِيعُ
تَرْكَ مُلْكِي، وَلَكِنِّي سَوْفَ أَذْبَحُهَا لَهُ، فَذَبَحَهَا نُمْرُودُ،
ثُمَّ كَفَّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، وَمَنَعَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْهُ.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا جرير، عن مُغِيرَةَ، عَنِ الْحَارِثِ،
عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: إِنَّ أَحْسَنَ شَيْءٍ
قَالَهُ أَبُو إِبْرَاهِيمَ لَمَّا رُفِعَ عَنْهُ الطَّبَقُ وَهُوَ فِي النَّارِ
وَحْدَهُ يَرْشَحُ جَبِينُهُ، فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ: نِعْمَ الرَّبُّ رَبُّكَ يَا
إِبْرَاهِيمُ.
حَدَّثَنَا القاسم، قال: حَدَّثَنَا الحسين، قال: حَدَّثَنَا معتمر بن سليمان
التيمي، عن بعض أصحابه قال: جاء جبرئيل الى ابراهيم ع وهو يوثق ويقمط ليلقى في
النار، قال: يا إبراهيم، ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا.
حَدَّثَنِي أحمد بن المقدام، قال: حَدَّثَنِي المعتمر، قال: سمعت أبي قال:
حَدَّثَنَا قتادة، عن أبي سليمان، قال: ما أحرقت النار من إبراهيم إلا وثاقه.
قال أبو جعفر: رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق، قال: واستجاب لإبراهيم ع رجال من
قومه حين رأوا ما صنع الله به على خوف من نمرود
(1/243)
وملئهم، فآمن له لوط- وكان ابن
أخيه- وهو لوط بن هاران بن تارخ، وهاران هو أخو إبراهيم، وكان لهما أخ ثالث يقال
له ناحور بن تارخ، فهاران أبو لوط، وناحور أبو بتويل، وبتويل أبو لابان، وربقا
ابنة بتويل امرأة إسحاق بن إبراهيم أم يعقوب، وليا وراحيل زوجتا يعقوب ابنتا لابان
وآمنت به سارة وهي ابنة عمه، وهي سارة بنت هاران الأكبر عم إبراهيم، وكانت لها أخت
يقال لها ملكا امرأة ناحور.
وقد قيل: إن سارة كانت ابنة ملك حران.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ:
حَدَّثَنِي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي،
قال: انطلق إبراهيم ولوط قبل الشام، فلقي إبراهيم سارة، وهي ابنة ملك حران، وقد
طعنت على قومها في دينهم، فتزوجها على ألا يغيرها، ودعا إبراهيم أباه آزر إلى
دينه، فقال له: يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا! فأبى أبوه
الإجابة إلى ما دعاه إليه.
ثم إن إبراهيم ومن كان معه من أصحابه الذين اتبعوا أمره أجمعوا لفراق قومهم،
فقالوا: «إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ
كَفَرْنا بِكُمْ» ، أيها المعبودون من دون الله «وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ
الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً» ايها العابدون «حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ
وَحْدَهُ» ثم خرج إبراهيم مهاجرا إلى ربه وخرج معه لوط مهاجرا، وتزوج سارة ابنة
عمه، فخرج بها معه يلتمس الفرار بدينه، والأمان على عبادة ربه حتى نزل حران، فمكث
بها ما شاء الله أن يمكث، ثم خرج منها مهاجرا حتى قدم مصر، وبها فرعون من الفراعنة
الأولى وكانت سارة من أحسن الناس فيما يقال، وكانت لا تعصي ابراهيم
(1/244)
شيئا، وبذلك أكرمها الله عز
وجل، فلما وصفت لفرعون ووصف له حسنها وجمالها أرسل إلى إبراهيم، فقال: ما هذه
المرأة التي معك؟ قال: هي أختي، وتخوف إبراهيم إن قال هي امرأتي أن يقتله عنها
فقال لإبراهيم: زينها، ثم أرسلها إلي حتى أنظر إليها، فرجع إبراهيم إلى سارة
وأمرها فتهيأت، ثم أرسلها إليه، فأقبلت حتى دخلت عليه، فلما قعدت إليه تناولها
بيده، فيبست إلى صدره، فلما رأى ذلك فرعون أعظم أمرها، وقال: ادعى الله ان يطلق
عنى، فو الله لا اريبك ولاحسنن إليك، فقالت: اللهم إن كان صادقا فأطلق يده، فأطلق
الله يده، فردها إلى إبراهيم، ووهب لها هاجر، جارية كانت له قبطية.
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي
هِشَامٌ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، [أَنَّ رسول الله ص: قال:
لم يكذب ابراهيم ع غَيْرَ ثَلاثٍ: ثِنْتَيْنِ فِي ذَاتِ اللَّهِ، قَوْلُهُ:
«إِنِّي سَقِيمٌ» ، وقوله: «بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا» وَبَيْنَا هُوَ
يَسِيرُ فِي أَرْضِ جَبَّارٍ مِنَ الْجَبَابِرَةِ، إِذْ نَزَلَ مَنْزِلا، فَأَتَى
الْجَبَّارَ رَجُلٌ فقال: ان في أرضك- او قال:
هاهنا- رَجُلا مَعَهُ امْرَأَةٌ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ،
فَجَاءَ فَقَالَ: مَا هَذِهِ الْمَرْأَةُ مِنْكَ؟ قَالَ: هِيَ أُخْتِي،] قَالَ:
اذْهَبْ فَأَرْسِلْ بِهَا إِلَيَّ، فَانْطَلَقَ إِلَى سَارَّةَ، فَقَالَ: إِنَّ
هَذَا الْجَبَّارَ قَدْ سَأَلَنِي عَنْكِ فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّكِ أُخْتِي فلا
تكذبيني عنده، فإنك أختي في كتاب اللَّهِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الأَرْضِ مُسْلِمٌ
غَيْرِي وغيرك، قال: فانطلق بها وقام ابراهيم ع يُصَلِّي قَالَ: فَلَمَّا دَخَلَتْ
عَلَيْهِ فَرَآهَا أَهْوَى إليها وذهب يَتَنَاوَلُهَا، فَأُخِذَ أَخْذًا شَدِيدًا،
فَقَالَ:
ادْعِي اللَّهَ ولا أَضُرُّكِ، فَدَعَتْ لَهُ فَأُرْسِلَ فَأَهْوَى إِلَيْهَا
فَذَهَبَ يتناولها، فاخذ أخذ شديدا، فقال: ادعى الله ولا أَضُرُّكِ، فَدَعَتْ لَهُ
فَأُرْسِلَ، ثُمَّ
(1/245)
فَعَلَ ذَلِكَ الثَّالِثَةَ،
فَأُخِذَ، فَذَكَرَ مِثْلَ الْمَرَّتَيْنِ فأرسل قال: فَدَعَا أَدْنَى حُجَّابِهِ
فَقَالَ: إِنَّكَ لَمْ تَأْتِنِي بِإِنْسَانٍ، وَلَكِنَّكَ أَتَيْتَنِي
بِشَيْطَانٍ، أَخْرِجْهَا وَأَعْطِهَا هَاجَرَ، فَأُخْرِجَتْ وَأُعْطِيَتْ
هَاجَرَ، فَأَقْبَلَتْ بِهَا، فَلَمَّا أَحَسَّ إِبْرَاهِيمُ بِمَجِيئِهَا انْفَتَلَ
مِنْ صَلاتِهِ، فَقَالَ: مَهْيَمْ! فَقَالَتْ: كَفَى اللَّهُ كَيْدَ الْفَاجِرِ
الْكَافِرِ! وَأَخْدَمَ هَاجَرَ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: فَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ إِذَا حَدَّثَ هَذَا
الْحَدِيثَ يَقُولُ:
فَتِلْكَ أُمُّكُمْ يَا بَنِي مَاءِ السَّمَاءِ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: [سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ص يَقُولُ:
لَمْ يَقُلْ إِبْرَاهِيمُ شَيْئًا قَطُّ لَمْ يكن الا ثلاثا: قوله «إِنِّي
سَقِيمٌ» لم يَكُنْ بِهِ سَقَمٌ، وَقَوْلُهُ:
«بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ» ،
وَقَوْلُهُ لِفِرْعَوْنَ حِينَ سَأَلَهُ عَنْ سَارَّةَ فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ
الْمَرْأَةُ مَعَكَ؟ قَالَ: أُخْتِي، قَالَ: فما قال ابراهيم ع شَيْئًا قَطُّ لَمْ
يَكُنْ إِلا ذَلِكَ] .
حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى الأُمَوِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ ابن إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنْ
عَبْدِ الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: [قال رسول الله ص: لَمْ يَكْذِبْ
إِبْرَاهِيمُ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلا فِي ثَلاثٍ،] ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَهُ.
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي
هِشَامٌ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، [أَنَّ رسول الله ص قَالَ: لَمْ
يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ غَيْرَ ثَلاثٍ: ثِنْتَيْنِ في ذات الله قوله: «إِنِّي
سَقِيمٌ» ، وقوله: «بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا» ، وَقَوْلُهُ فِي سَارَّةَ:
هِيَ أُخْتِي]
(1/246)
حَدَّثَنِي ابْنُ حُمَيْدٍ،
قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنِ الْمُسَيَّبِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ
أَبِي هريرة قال: ما كذب ابراهيم ع غير ثلاث كذبات:
قوله: «إِنِّي سَقِيمٌ» ، وقوله: «بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا» ، وَإِنَّمَا
قَالَهُ مَوْعِظَةً، وَقَوْلُهُ حِينَ سَأَلَهُ الْمَلِكُ فقال: أختي- لساره-
وكانت امراته حدثنى يَعْقُوبُ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أَيُّوبَ،
عَنْ مُحَمَّدٍ، قَالَ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَكْذِبْ إِلا ثَلاثَ كَذِبَاتٍ:
ثِنْتَانِ فِي اللَّهِ، وَوَاحِدَةٌ فِي ذَاتِ نَفْسِهِ، وَأَمَّا الثِّنْتَانِ
فَقَوْلُهُ: «إِنِّي سَقِيمٌ» ، وقوله: «بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا»
وَقِصَّتُهُ فِي سَارَّةَ وَذَكَرَ قِصَّتَهَا وَقِصَّةَ الْمَلِكِ قال أبو جعفر:
رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق.
قال: وَكَانَتْ هَاجَرُ جَارِيَةً ذَاتَ هَيْئَةٍ، فَوَهَبَتْهَا سَارَّةُ
لإِبْرَاهِيمَ، وَقَالَتْ:
إِنِّي أَرَاهَا امْرَأَةً وَضِيئَةً فَخُذْهَا، لَعَلَّ اللَّهَ يَرْزُقُكَ
مِنْهَا وَلَدًا، وَكَانَتْ سَارَّةُ قَدْ مُنِعَتِ الْوَلَدَ فَلا تَلِدُ
لإِبْرَاهِيمَ حَتَّى أَسَنَّتْ، وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ قَدْ دَعَا اللَّهَ أَنْ
يَهَبَ لَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ، وَأُخِّرَتِ الدَّعْوَةُ حَتَّى كَبُرَ
إِبْرَاهِيمُ وَعَقِمَتْ سَارَّةُ، ثُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وقع على هاجر، فولدت
له اسماعيل ع.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حَدَّثَنِي ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مالك
الأنصاري، قال: [قال رسول الله ص: إِذَا فَتَحْتُمْ مِصْرَ فَاسْتَوْصُوا
بِأَهْلِهَا خَيْرًا، فَإِنَّ لَهُمْ ذِمَّةً وَرَحِمًا] .
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق، قال:
سألت الزهري: ما الرحم التي ذكر رسول الله ص لهم؟ قال:
كانت هاجر أم إسماعيل منهم فيزعمون- والله أعلم- أن سارة حزنت عند ذلك على ما
فاتها من الولد حزنا شديدا، وقد كان إبراهيم خرج من مصر إلى الشام، وهاب ذلك الملك
الذي كان بها، وأشفق من شره حتى قدمها، فنزل السبع من أرض فلسطين، وهي برية الشام،
ونزل لوط بالمؤتفكة، وهي من
(1/247)
السبع على مسيرة يوم وليلة
وأقرب من ذلك، فبعثه الله عز وجل نبيا، وأقام إبراهيم فيما ذكر لي بالسبع، فاحتفر
به بئرا واتخذ به مسجدا، فكان ماء تلك البئر معينا طاهرا، فكانت غنمه تردها ثم إن
أهلها آذوه فيها ببعض الأذى، فخرج منها حتى نزل بناحية من أرض فلسطين بين الرملة
وإيليا، ببلد يقال له قَط- أو قِط- فلما خرج من بين أظهرهم نضب الماء فذهب.
واتبعه أهل السبع، حتى أدركوه وندموا على ما صنعوا، وقالوا: أخرجنا من بين أظهرنا
رجلا صالحا، فسألوه أن يرجع إليهم، فقال: ما أنا براجع إلى بلد أخرجت منه، قالوا
له: فإن الماء الذي كنت تشرب منه ونشرب معك منه قد نضب فذهب، فأعطاهم سبع أعنز من
غنمه، فقال: اذهبوا بها معكم، فإنكم لو قد أوردتموها البئر، قد ظهر الماء، حتى
يكون معينا طاهرا كما كان، فاشربوا منها، فلا تغترفن منها امرأة حائض، فخرجوا
بالأعنز، فلما وقفت على البئر ظهر إليها الماء، فكانوا يشربون منها وهي على ذلك،
حتى أتت امرأة طامث، فاغترفت منها، فنكص ماؤها إلى الذي هو عليه اليوم، ثم ثبت.
قال: وكان إبراهيم يضيف من نزل به، وكان الله عز وجل قد أوسع عليه، وبسط له في
الرزق والمال والخدم، فلما أراد الله عز وجل هلاك قوم لوط، بعث إليه رسله يأمرونه
بالخروج من بين أظهرهم، وكانوا قد عملوا من الفاحشة ما لم يسبقهم به أحد من
العالمين، مع تكذيبهم نبيهم، وردهم عليه ما جاءهم به من النصيحة من ربهم، وأمرت
الرسل أن ينزلوا على إبراهيم، وأن يبشروه وسارة بإسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب،
فلما نزلوا على إبراهيم وكان الضيف قد حبس عنه خمس عشرة ليلة حتى شق ذلك عليه-
فيما يذكرون- لا يضيفه أحد، ولا يأتيه، فلما رآهم سر بهم رأى ضيفا لم يضفه مثلهم
حسنا وجمالا، فقال: لا يخدم هؤلاء القوم أحد إلا أنا بيدي، فخرج إلى أهله، فجاء
كما قال الله عز وجل: «بِعِجْلٍ سَمِينٍ» قد حنذه- والحناذ: الإنضاج يقول الله جل
ثناؤه: «جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ» فقربه إليهم، فأمسكوا أيديهم
(1/248)
عنه، «فَلَمَّا رَأى
أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً» حين لم
يأكلوا من طعامه، «قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ
وَامْرَأَتُهُ» ساره «قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ» لما عرفت من أمر الله عز وجل، ولما
تعلم من قوم لوط، فبشروها «بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ» بابن،
وبابن ابن، فقالت- وصكت وجهها، يقال: ضربت على جبينها: «يا وَيْلَتى أَأَلِدُ
وَأَنَا عَجُوزٌ» إلى قوله: «إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ» وكانت سارة يومئذ- فيما ذكر
لي بعض أهل العلم- ابنة تسعين سنة، وإبراهيم ابن عشرين ومائة سنة، فلما ذهب عن
إبراهيم الروع وجاءته البشرى بإسحاق ويعقوب ولد من صلب إسحاق وأمن ما كان يخاف،
قال: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ
وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ» .
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني وهب
بن سليمان، عن شعيب الجبائي، قال: ألقي إبراهيم في النار وهو ابن ست عشرة سنة،
وذبح إسحاق وهو ابن سبع سنين، وولدته سارة وهي ابنة تسعين سنة، وكان مذبحه من بيت
إيليا على ميلين، فلما علمت سارة بما أراد بإسحاق مرضت يومين، وماتت اليوم الثالث،
وقيل:
ماتت سارة وهي ابنة مائة وسبع وعشرين سنة.
حَدَّثَنِي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا
(1/249)
أسباط، عن السدي، قال: بعث الله الملائكة لتهلك قوم لوط، فأقبلت تمشي في صورة رجال شباب، حتى نزلوا على إبراهيم، فتضيفوه، فلما رآهم إبراهيم أجلهم، فراغ إلى أهله، فجاء بعجل سمين فذبحه، ثم شواه في الرضف وهو الحنيذ حين شواه، وأتاهم فقعد معهم، وقامت سارة تخدمهم، فذلك حين يقول جل ثناؤه: «وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ وَهُوَ جَالِسٌ» في قراءة ابن مسعود، فلما قربه إليهم قال: ألا تأكلون! قالوا: يا إبراهيم، إنا لا نأكل طعاما إلا بثمن، قال: فإن لهذا ثمنا، قالوا: وما ثمنه؟ قال: تذكرون اسم الله على أوله وتحمدونه على آخره، فنظر جبرئيل إلى ميكائيل، فقال: حق لهذا أن يتخذه ربه خليلا، «فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ» يقول: لا يأكلون، «نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً» ، فلما نظرت إليه سارة أنه قد أكرمهم وقامت هي تخدمهم ضحكت وقالت: عجبا لأضيافنا! هؤلاء إنا نخدمهم بأنفسنا تكرمة لهم، وهم لا يأكلون طعامنا!
(1/250)
ذكر أمر بناء البيت
. قال: ثم إن الله عز وجل أمر إبراهيم بعد ما ولد له إسماعيل وإسحاق- فيما ذكر-
ببناء بيت له يعبد فيه، ويذكر فلم يدر إبراهيم في أي موضع يبني، إذ لم يكن بين له
ذلك، فضاق بذلك ذرعا، فقال بعض أهل العلم: بعث الله إليه السكينة لتدله على موضع
البيت، فمضت به السكينة، ومع إبراهيم هاجر زوجته وابنه إسماعيل، وهو طفل صغير.
وقال بعضهم: بل بعث الله اليه جبرئيل ع، حتى دله على موضعه، وبين له ما ينبغي أن
يعمل.
ذكر من قال: الذي بعثه الله إليه لذلك السكينة:
حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ
سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ عَرْعَرَةَ: [أَنَّ رَجُلا قَامَ إِلَى
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ: أَلا تُخْبِرُنِي عَنِ الْبَيْتِ، أَهُوَ
أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ فِي الأَرْضِ؟ فَقَالَ: لا، وَلَكِنَّهُ أَوَّلُ بَيْتٍ
وُضِعَ فِي الْبركَةِ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ، وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا، وَإِنْ
شِئْتَ أَنْبَأْتُكَ كَيْفَ بُنِيَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَوْحَى إِلَى
إِبْرَاهِيمَ أَنِ ابْنِ لِي بَيْتًا فِي الأَرْضِ، فَضَاقَ إِبْرَاهِيمُ بِذَلِكَ
ذَرْعًا، فَأَرْسَلَ عَزَّ وَجَلَّ السَّكِينَةَ، وَهِيَ رِيحٌ خَجُوجٌ وَلَهَا
رَأْسَانِ، فَاتَّبَعَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ حَتَّى انْتَهَتْ إِلَى مَكَّةَ
فَتَطَوَّتْ عَلَى مَوْضِعِ الْبَيْتِ كَتَطَوِّي الْحَيَّةِ، وَأَمَرَ
إِبْرَاهِيمَ أَنْ يَبْنِي حَيْثُ تَسْتَقِرُّ السَّكِينَةُ، فَبَنَى إِبْرَاهِيمُ
وَبَقِيَ حَجَرٌ، فَذَهَبَ الْغُلامُ يَبْنِي شيئا، فقال ابراهيم: أَبْغِنِي
حَجَرًا كَمَا آمُرُكَ، فَانْطَلَقَ الْغُلامُ يَلْتَمِسُ لَهُ حَجَرًا، فَأَتَاهُ
بِهِ، فَوَجَدَهُ قَدْ رَكَّبَ الْحَجَرَ الأَسْوَدَ فِي مَكَانِهِ، فَقَالَ: يَا
أَبَتِ، مَنْ أَتَاكَ بِهَذَا الْحَجَرِ؟ فَقَالَ: أَتَانِي بِهِ مَنْ لَمْ
يَتَّكِلْ عَلَى بِنَائِكَ، أَتَانِي بِهِ جبرئيل مِنَ السَّمَاءِ فَأَتَمَّاهُ]
(1/251)
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ
وَابْنُ الْمُثَنَّى، قَالا: حَدَّثَنَا مؤمل، قال: حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن
حارثة بن مضرب، [عن على ع قَالَ: لَمَّا أُمِرَ إِبْرَاهِيمُ بِبِنَاءِ الْبَيْتِ
خَرَجَ مَعَهُ إِسْمَاعِيلُ وَهَاجَرُ، فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ رَأَى عَلَى رَأْسِهِ
فِي مَوْضِعِ الْبَيْتِ مِثْلَ الْغَمَامَةِ فِيهِ مِثْلُ الرَّأْسِ، فَكَلَّمَهُ،
وَقَالَ: يَا إِبْرَاهِيمُ، ابْنِ عَلَى ظِلِّي- أَوْ عَلَى قَدْرِي- وَلا تَزِدْ
وَلا تَنْقُصْ، فَلَمَّا بَنَى خَرَجَ وَخَلَفَ إِسْمَاعِيلَ وَهَاجَرَ، فَقَالَتْ
هَاجَرُ: يَا إِبْرَاهِيمُ، إِلَى مَنْ تَكِلُنَا؟ قَالَ:
إِلَى اللَّهِ، قَالَتِ: انْطَلِقْ فَإِنَّهُ لا يُضَيِّعُنَا، قَالَ: فَعَطِشَ
إِسْمَاعِيلُ عَطَشًا شديدا، فصعدت هاجر الصَّفَا، فَنَظَرَتْ فَلَمْ تَرَ
شَيْئًا، ثُمَّ أَتَتِ الْمَرْوَةَ فَنَظَرَتْ فَلَمْ تَرَ شَيْئًا، ثُمَّ
رَجَعَتْ إِلَى الصَّفَا، فَنَظَرَتْ فَلَمْ تَرَ شَيْئًا، حَتَّى فَعَلَتْ ذَلِكَ
سَبْعَ مَرَّاتٍ، فَقَالَتْ: يَا إِسْمَاعِيلُ، مُتْ حَيْثُ لا أَرَاكَ فَأَتَتْهُ
وَهُوَ يَفْحَصُ بِرِجْلِهِ مِنَ الْعَطَشِ، فَنَادَاهَا جَبْرَائِيلُ، فَقَالَ:
مَنْ أَنْتِ؟ قَالَتْ: أَنَا هَاجَرُ، أُمُّ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: إِلَى
مَنْ وَكَلَكُمَا؟ قَالَتْ: وَكَلَنَا إِلَى اللَّهِ، قَالَ: وَكَلَكُمَا إِلَى
كَافٍ، قَالَ: فَفَحَصَ الْغُلامُ الأَرْضَ بِإِصْبَعِهِ، فَنَبَعَتْ زَمْزَمُ،
فَجَعَلَتْ تَحْبِسُ الْمَاءَ، فَقَالَ: دَعِيهِ، فَإِنَّهَا رِوَاءٌ] .
حَدَّثَنِي مُوسَى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قَالَ: حَدَّثَنَا
أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: لَمَّا عهد الله إلى إبراهيم وإسماعيل: أن
طهرا بيتي للطائفين، انطلق إبراهيم حتى أتى مكة، فقام هو واسماعيل، وأخذ المعاول
لا يدريان أين البيت، فبعث الله عز وجل ريحا يقال لها ريح الخجوج لها جناحان ورأس
في صورة حية، فكنست لهما ما حول الكعبة عن أساس البيت الأول، واتبعاها بالمعاول
يحفران حتى وضعا الأساس، فذلك حين يقول عز وجل: «وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ
مَكانَ الْبَيْتِ»
(1/252)
وَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ،
قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: حدثني محمد بن إسحاق، عن الحسن بن عُمَارَةَ،
عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ خَالِدِ بن عرعرة، [عن على ابن ابى طالب ع أَنَّهُ
كَانَ يَقُولُ: لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ بِعِمَارَةِ الْبَيْتِ
وَالأَذَانِ بِالْحَجِّ فِي النَّاسِ خَرَجَ مِنَ الشَّامِ وَمَعَهُ ابْنُهُ
إِسْمَاعِيلُ، وَأُمُّ إِسْمَاعِيلَ هاجر، وبعث الله معه السكينة، وهي رِيحٌ لَهَا
لِسَانٌ تَكَلَّمُ بِهِ، يَغْدُو مَعَهَا إِبْرَاهِيمُ إِذَا غَدَتْ، وَيَرُوحُ
مَعَهَا إِذَا رَاحَتْ، حَتَّى انْتَهَتْ بِهِ إِلَى مَكَّةَ، فَلَمَّا أَتَتْ
مَوْضِعَ الْبَيْتِ اسْتَدَارَتْ بِهِ، ثُمَّ قَالَتْ لإِبْرَاهِيمَ: ابْنِ
عَلَيَّ، ابْنِ عَلَيَّ، ابْنِ عَلَيَّ، فَوَضَعَ إِبْرَاهِيمُ الأَسَاسَ وَرَفَعَ
الْبَيْتَ هُوَ وَإِسْمَاعِيلُ، حَتَّى انْتَهَيَا إِلَى مَوْضِعِ الرُّكْنِ،
قَالَ إِبْرَاهِيمُ لإِسْمَاعِيلَ: يَا بُنَيَّ، ابْغِ لِي حَجَرًا أَجْعَلُهُ
عَلَمًا لِلنَّاسِ، فَجَاءَهُ بِحَجَرٍ، فَلَمْ يَرْضَهُ وَقَالَ: ابْغِنِي غَيْرَ
هَذَا، فَذَهَبَ إِسْمَاعِيلُ لِيَلْتَمِسَ لَهُ حَجَرًا، فَجَاءَهُ وَقَدْ أُتِيَ
بِالرُّكْنِ، فَوَضَعَهُ فِي مَوْضِعِهِ، فَقَالَ: يَا أَبَتِ، مَنْ جَاءَكَ
بِهَذَا الْحَجَرِ؟ قَالَ: مَنْ لَمْ يَكِلْنِي إِلَيْكَ يَا بُنَيَّ] .
وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّ الَّذِي خَرَجَ مَعَ إِبْرَاهِيمَ من الشام لدلالته على
موضع البيت جبرئيل ع، وَقَالُوا: كَانَ إِخْرَاجُهُ هَاجَرَ وَإِسْمَاعِيلَ إِلَى
مَكَّةَ لِمَا كَانَ مِنْ غَيْرَةِ سَارَّةَ بِسَبَبِ وِلادَةِ هَاجَرَ مِنْهُ
إِسْمَاعِيلَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ:
حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي بالإسناد
الذي قد ذكرناه أن سارة قالت لإبراهيم: تسر هاجر، فقد أذنت لك فوطئها، فحملت
بإسماعيل، ثم إنه وقع على سارة فحملت بإسحاق، فلما ولدته وكبر اقتتل هو وإسماعيل،
فغضبت سارة
(1/253)
على أم إسماعيل، وغارت عليها،
فأخرجتها، ثم إنها دعتها فأدخلتها ثم غضبت أيضا فأخرجتها ثم أدخلتها، وحلفت لتقطعن
منها بضعة، فقالت:
أقطع أنفها، أقطع أذنها، فيشينها ذلك، ثم قالت: لا بل أخفضها، فقطعت ذلك منها،
فاتخذت هاجر عند ذلك ذيلا تعفي به عن الدم، فلذلك خفضت النساء، واتخذت ذيولا، ثم
قالت: لا تساكني في بلد وأوحى الله إلى إبراهيم أن يأتي مكة، وليس يومئذ بمكة بيت،
فذهب بها إلى مكة وابنها فوضعهما، وقالت له هاجر: إلى من تركتنا هاهنا؟ ثم ذكر
خبرها، وخبر ابنها.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، قال:
حَدَّثَنَا عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد وغيره من أهل العلم أن الله عز وجل لما
بوأ لإبراهيم مكان البيت ومعالم الحرم، فخرج وخرج معه جبرئيل، يقال: كان لا يمر
بقرية إلا قال: بهذه امرت يا جبرئيل: فيقول: جبرئيل:
امضه، حتى قدم به مكة، وهي إذ ذاك عصاه سلم وسمر، وبها أناس يقال لهم العماليق،
خارج مكة وما حولها، والبيت يومئذ ربوة حمراء مدره، فقال ابراهيم لجبرئيل: اهاهنا
أمرت أن أضعهما؟ قال: نعم، فعمد بهما إلى موضع الحجر، فأنزلهما فيه، وأمر هاجر أم
إسماعيل أن تتخذ فيه عريشا فقال: «رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي
بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ» إلى- «لَعَلَّهُمْ
يَشْكُرُونَ» ثم انصرف إلى أهله بالشام وتركهما عند البيت، قال: فظمئ إسماعيل ظمأ
شديدا، فالتمست له أمه ماء فلم تجده، فاستسمعت: هل تسمع صوتا؟ لتلتمس له شرابا،
فسمعت كالصوت عند الصفا، فأقبلت حتى قامت عليه فلم تر شيئا، ثم سمعت صوتا نحو
المروة،
(1/254)
فأقبلت حتى قامت عليه فلم تر
شيئا، ويقال: بل قامت على الصفا تدعو الله وتستغيثه لإسماعيل، ثم عمدت إلى المروة
ففعلت ذلك ثم إنها سمعت أصوات سباع الوادي نحو إسماعيل حيث تركته، فأقبلت إليه
تشتد، فوجدته يفحص الماء بيده من عين قد انفجرت من تحت يده، فشرب منها، وجاءتها أم
إسماعيل فجعلتها حسيا، ثم استقت منها في قربتها تذخره لإسماعيل، فلولا الذي فعلت
ما زالت زمزم معينا طاهرا ماؤها أبدا قال مجاهد: ولم نزل نسمع أن زمزم هزمه جبرئيل
بعقبه لإسماعيل حين ظمئ حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَالْحَسَنُ بْنُ
مُحَمَّدٍ، قَالا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَيُّوبَ،
قَالَ: نُبِّئْتُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ حَدَّثَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
أَنَّ أَوَّلَ مَنْ سَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لَأُمُّ إِسْمَاعِيلَ،
وَأَنَّ أَوَّلَ مَنْ أَحْدَثَ مِنْ نِسَاءِ الْعَرَبِ جَرَّ الذُّيُولِ لَأُمُّ
إِسْمَاعِيلَ قَالَ: لَمَّا فَرَّتْ مِنْ سَارَةَ أَرْخَتْ ذَيْلَهَا لِتُعْفِيَ
أَثَرَهَا، فَجَاءَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ وَمَعَهَا إِسْمَاعِيلُ حَتَّى انْتَهَى
بِهِمَا إِلَى مَوْضِعِ الْبَيْتِ، فَوَضَعَهُمَا ثُمَّ رَجَعَ، فَاتَّبَعَتْهُ
فَقَالَتْ: إِلَى أَيِّ شَيْءٍ تَكِلُنَا؟ إِلَى طَعَامٍ تَكِلُنَا؟ إِلَى شَرَابٍ
تَكِلُنَا؟ لا يَرُدُّ عَلَيْهَا شَيْئًا، فَقَالَتْ:
آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَتْ: إِذًا لا يُضَيِّعُنَا، قَالَ:
فَرَجَعَتْ وَمَضَى حَتَّى إِذَا اسْتَوَى عَلَى ثَنِيَّةِ كُدَاءٍ، أَقْبَلَ
عَلَى الْوَادِي فَقَالَ: «رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ
غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ» الآيَةَ قَالَ: وَمَعَ
الإِنْسَانَةِ شَنَّةٌ فِيهَا مَاءٌ، فَنَفِذَ الْمَاءُ، فَعَطِشَتْ فَانْقَطَعَ
لَبَنُهَا، فَعَطِشَ الصَّبِيُّ فَنَظَرَتْ: أَيُّ الْجِبَالِ أَدْنَى إِلَى
الأَرْضِ، فَصَعِدَتِ الصَّفَا فَتَسَمَّعَتْ:
هَلْ تَسْمَعُ صَوْتًا، أَوْ تَرَى أَنِيسًا؟ فَلَمْ تَسْمَعْ شَيْئًا
فَانْحَدَرَتْ، فَلَمَّا
(1/255)
أَتَتْ عَلَى الْوَادِي
سَعَتْ- وَمَا تُرِيدُ السَّعْيَ- كَالإِنْسَانِ الْمَجْهُودِ الَّذِي يَسْعَى
وَمَا يُرِيدُ السَّعْيَ، فَنَظَرَتْ أَيُّ الْجِبَالِ أَدْنَى إِلَى الأَرْضِ،
فَصَعِدَتِ الْمَرْوَةَ، فَتَسَمَّعَتْ: هَلْ تَسْمَعُ صَوْتًا أَوْ تَرَى
أَنِيسًا؟ فَسَمِعَتْ صَوْتًا، فَقَالَتْ كَالإِنْسَانِ الَّذِي يُكَذِّبُ
سَمِعَهُ: صَهٍ! حَتَّى اسْتَيْقَنَتْ، فَقَالَتْ: قَدْ أَسْمَعْتَنِي صَوْتَكَ
فَأَغِثْنِي، فَقَدْ هَلَكْتُ وَهَلَكَ مَنْ مَعِي، فَجَاءَ الْمَلَكُ بِهَا
حَتَّى انْتَهَى بِهَا إِلَى مَوْضِعِ زَمْزَمَ، فَضَرَبَ بِقَدَمِهِ فَفَارَتْ
عَيْنًا، فَعَجِلَتِ الإِنْسَانَةُ تُفْرِغُ فِي شَنَّتِهَا، [فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ ص: رَحِمَ اللَّهُ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ، لَوْلا أَنَّهَا عَجَّلَتْ
لَكَانَتْ زَمْزَمَ عَيْنًا مَعِينًا] .
وَقَالَ لَهَا الْمَلَكُ: لا تَخَافِي الظَّمَأَ عَلَى أَهْلِ هَذَا الْبَلَدِ،
فإنها عين يشرب ضيفان الله منها، وَقَالَ: إِنَّ أَبَا هَذَا الْغُلامِ سَيَجِيءُ
فَيَبْنِيَانِ لِلَّهِ بَيْتًا هَذَا مَوْضِعُهُ.
قَالَ: وَمَرَّتْ رُفْقَةٌ مِنْ جُرْهُمَ تُرِيدُ الشَّامَ، فَرَأَوُا الطَّيْرَ
عَلَى الْجَبَلِ، فَقَالُوا:
إِنَّ هَذَا الطَّيْرَ لَعَائِفٌ عَلَى مَاءٍ، فَهَلْ عَلِمْتُمْ بِهَذَا
الْوَادِي مِنْ مَاءٍ؟ فَقَالُوا: لا، فَأَشْرَفُوا فَإِذَا هُمْ بِالإِنْسَانَةِ،
فَأَتَوْهَا فَطَلَبُوا إِلَيْهَا أَنْ يَنْزِلُوا مَعَهَا، فَأَذِنَتْ لَهُمْ،
قَالَ: وَأَتَى عَلَيْهَا مَا يَأْتِي عَلَى هَؤُلاءِ النَّاسِ مِنَ الْمَوْتِ،
فَمَاتَتْ وَتَزَوَّجَ إِسْمَاعِيلُ امْرَأَةً مِنْهُمْ، فَجَاءَ إِبْرَاهِيمُ
فَسَأَلَ عَنْ مَنْزِلِ إِسْمَاعِيلَ حَتَّى دُلَّ عَلَيْهِ فَلَمْ يَجِدْهُ،
وَوَجَدَ امْرَأَةً لَهُ فَظَّةً غَلِيظَةً، فَقَالَ لَهَا: إِذَا جَاءَ زوجك
فقولي له: جاء هاهنا شَيْخٌ مِنْ صِفَتِهِ كَذَا وَكَذَا، وَإِنَّهُ يَقُولُ لَكَ:
إِنِّي لا أَرْضَى لَكَ عَتَبَةَ بَابِكَ فحولها، وانطلق فَلَمَّا جَاءَ
إِسْمَاعِيلُ أَخْبَرَتْهُ فَقَالَ: ذَلِكَ أَبِي، وَأَنْتِ عَتَبَةُ بَابِي فَطَلَّقَهَا،
وَتَزَوَّجَ امْرَأَةً أُخْرَى منهم، وجاء ابراهيم حتى
(1/256)
انْتَهَى إِلَى مَنْزِلِ
إِسْمَاعِيلَ فَلَمْ يَجِدْهُ وَوَجَدَ امْرَأَةً لَهُ سَهْلَةً طَلِيقَةً فَقَالَ
لَهَا:
أَيْنَ انْطَلَقَ زَوْجُكِ؟ فَقَالَتِ: انْطَلَقَ إِلَى الصَّيْدِ، قَالَ: فَمَا
طَعَامُكُمْ؟ قَالَتِ:
اللَّحْمُ وَالْمَاءُ، قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي لَحْمِهِمْ
وَمَائِهِمْ، ثَلاثًا وَقَالَ لها: إذا جاء زوجك فاخبريه، قولي له جاء هاهنا
شَيْخٌ مِنْ صِفَتِهِ كَذَا وَكَذَا، وَإِنَّهُ يَقُولُ لَكَ: قَدْ رَضِيتُ لَكَ
عَتَبَةَ بَابِكَ، فَأَثْبِتْهَا، فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيلُ أَخْبَرَتْهُ،
قَالَ: ثُمَّ جَاءَ الثَّالِثَةَ، فَرَفَعَا الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ.
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبَّادٍ،
قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَطَاءِ بن السائب، عَنْ سَعِيدِ
بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَ إِبْرَاهِيمُ نَبِيُّ اللَّهِ
بِإِسْمَاعِيلَ وَهَاجَرَ فَوَضَعَهُمَا بِمَكَّةَ فِي مَوْضِعِ زَمْزَمَ، فلما
مضى نادته هاجر: يا ابراهيم، انما أَسْأَلُكَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ: مَنْ أَمَرَكَ أَنْ
تَضَعَنِي بِأَرْضٍ لَيْسَ فِيهَا زَرْعٌ وَلا ضَرْعٌ وَلا أَنِيسٌ وَلا مَاءٌ
وَلا زَادٌ؟ قَالَ: رَبِّي أَمَرَنِي، قَالَتْ: فَإِنَّهُ لَنْ يُضَيِّعَنَا،
قَالَ: فَلَمَّا قَفَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ: «رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي
وَما نُعْلِنُ» يَعْنِي مِنَ الْحُزْنِ «وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ
فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ» فَلَمَّا ظَمِئَ إِسْمَاعِيلُ جَعَلَ يَدْحَصُ
الأَرْضَ بِعَقِبِهِ فَذَهَبَتْ هَاجَرُ حَتَّى عَلَتِ الصَّفَا، وَالْوَادِي
يَوْمَئِذٍ لأخ- يعنى عمبق- فَصَعِدَتِ الصَّفَا، فَأَشْرَفَتْ لِتَنْظُرَ: هَلْ
تَرَى شَيْئًا؟ فَلَمْ تَرَ شَيْئًا، فَانْحَدَرَتْ فَبَلَغَتِ الْوَادِي،
فَسَعَتْ فِيهِ حَتَّى خَرَجَتْ مِنْهُ، فَأَتَتِ الْمَرْوَةَ فَصَعِدَتْ
فَاسْتَشْرَفَتْ: هَلْ تَرَى شَيْئًا؟ فَلَمْ تَرَ شَيْئًا، فَفَعَلَتْ ذَلِكَ
سَبْعَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ جَاءَتْ مِنَ الْمَرْوَةِ إِلَى إِسْمَاعِيلَ، وَهُوَ
يَدْحَصُ الأَرْضَ بِعَقِبِهِ، وَقَدْ نَبَعَتِ الْعَيْنُ
(1/257)
وَهِيَ زَمْزَمُ، فَجَعَلَتْ
تَفْحَصُ الأَرْضَ بِيَدِهَا عَنِ الْمَاءِ، وَكُلَّمَا اجْتَمَعَ مَاءٌ أَخَذَتْهُ
بِقَدَحِهَا، فَأَفْرَغَتْهُ في سقائها، قال: [فقال النبي ص:
يَرْحَمُهَا اللَّهُ! لَوْ تَرَكَتْهَا لَكَانَتْ عَيْنًا سَائِحَةً تَجْرِي إِلَى
يَوْمِ الْقِيَامَةِ] .
قَالَ: وَكَانَتْ جُرْهُمُ يَوْمَئِذٍ بِوَادٍ قَرِيبٍ مِنْ مَكَّةَ، قَالَ:
وَلَزِمَتِ الطَّيْرُ الْوَادِي حِينَ رَأَتِ الْمَاءَ، فَلَمَّا رَأَتْ جُرْهُمُ
الطَّيْرَ لَزِمَتِ الْوَادِي، قَالُوا مَا لَزِمَتْهُ إِلا وَفِيهِ مَاءٌ،
فَجَاءُوا إِلَى هَاجَرَ، فَقَالُوا: لو شئت كنا معك وآنسناك والماء ماؤك،
قَالَتْ: نَعَمْ! فَكَانُوا مَعَهَا حَتَّى شَبَّ إِسْمَاعِيلُ وَمَاتَتْ هَاجَرُ،
فَتَزَوَّجَ إِسْمَاعِيلُ امْرَأَةً مِنْ جُرْهُمَ، قَالَ: فَاسْتَأْذَنَ
إِبْرَاهِيمُ سَارَّةَ أَنْ يَأْتِيَ هَاجَرَ، فأذنت له، وشرطت عليه الا يَنْزِلَ،
وَقَدِمَ إِبْرَاهِيمُ- وَقَدْ مَاتَتْ هَاجَرُ- إِلَى بَيْتِ إِسْمَاعِيلَ،
فَقَالَ لامْرَأَتِهِ: أَيْنَ صَاحِبُكِ؟ قَالَتْ: ليس هاهنا، ذَهَبَ يَتَصَيَّدُ،
وَكَانَ إِسْمَاعِيلُ يَخْرُجُ مِنَ الْحَرَمِ فَيَتَصَيَّدُ ثُمَّ يَرْجِعُ،
فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ:
هَلْ عِنْدَكِ ضِيَافَةٌ؟ هَلْ عِنْدَكِ طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ؟ قَالَتْ: لَيْسَ عِنْدِي
وَمَا عِنْدِي أَحَدٌ، قَالَ إِبْرَاهِيمُ: إِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَأَقْرِئِيهِ
السَّلامَ، وَقُولِي لَهُ: فَلْيُغَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِهِ، وَذَهَبَ إِبْرَاهِيمُ
وَجَاءَ إِسْمَاعِيلُ، فَوَجَدَ رِيحَ أَبِيهِ فَقَالَ لامْرَأَتِهِ: هَلْ جَاءَكِ
أَحَدٌ؟ قَالَتْ: جَاءَنِي شَيْخٌ صِفَتُهُ كَذَا- وَكَذَا كَالْمُسْتَخِفَّةِ
بِشَأْنِهِ- قَالَ: فَمَا قَالَ لَكِ؟ قَالَتْ: قَالَ لِي: أَقْرِئِي زَوْجَكِ
السَّلامَ، وَقُولِي لَهُ: فَلْيُغَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِهِ، فَطَلَّقَهَا
وَتَزَوَّجَ أُخْرَى، فَلَبِثَ إِبْرَاهِيمُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَلْبَثَ،
ثُمَّ اسْتَأْذَنَ سَارَّةَ أَنْ يَزُورَ إِسْمَاعِيلَ، فَأَذِنَتْ لَهُ
وَاشْتَرَطَتْ عَلَيْهِ أَلا يَنْزِلَ، فَجَاءَ إِبْرَاهِيمُ حَتَّى انْتَهَى
إِلَى بَابِ إِسْمَاعِيلَ، فَقَالَ لامْرَأَتِهِ: أَيْنَ صَاحِبُكِ؟ قَالَتْ:
ذَهَبَ يَتَصَيَّدُ وَهُوَ يَجِيءُ الآنَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَانْزِلْ
يَرْحَمُكَ اللَّهُ! قَالَ لَهَا: هَلْ عِنْدَكِ ضِيَافَةٌ؟ قَالَتْ: نَعَمْ،
قَالَ: هَلْ عِنْدَكِ خُبْزٌ أَوْ بُرٌّ أَوْ شَعِيرٌ أَوْ تَمْرٌ؟
قَالَ: فَجَاءَتْ بِاللَّبَنِ وَاللَّحْمِ، فَدَعَا لَهُمَا بِالْبَرَكَةِ، فَلَوْ
جَاءَتْ يَوْمَئِذٍ بِخُبْزٍ
(1/258)
او بر او شعير او تمر لكانت
اكثر ارض الله برا وشعيرا وتمرا، فَقَالَتِ:
انْزِلْ حَتَّى أَغْسِلَ رَأْسَكَ، فَلَمْ يَنْزِلْ، فَجَاءَتْهُ بِالْمَقَامِ
فَوَضَعَتْهُ عَنْ شِقِّهِ الأَيْمَنِ، فَوَضَعَ قَدَمَهُ عَلَيْهِ فَبَقِيَ
أَثَرُ قَدَمِهِ عَلَيْهِ، فَغَسَلَتْ شِقَّ رَأْسِهِ الأَيْمَنَ، ثُمَّ حَوَّلَتِ
الْمَقَامَ إِلَى شقه الأيسر، فغسلت شِقِّهِ الأَيْسَرِ، فَقَالَ لَهَا: إِذَا
جَاءَ زَوْجُكِ فَأَقْرِئِيهِ السَّلامَ، وَقُولِي لَهُ: قَدِ اسْتَقَامَتْ
عَتَبَةُ بَابِكَ فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيلُ وَجَدَ رِيحَ أَبِيهِ، فَقَالَ
لامْرَأَتِهِ: هَلْ جَاءَكِ أَحَدٌ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، شَيْخٌ أَحْسَنُ النَّاسِ
وَجْهًا وَأَطْيَبَهُمْ رِيحًا، فَقَالَ لِي: كَذَا وَكَذَا، وَقُلْتُ لَهُ: كَذَا
وَكَذَا، وَغَسَلْتُ رَأْسَهُ، وَهَذَا مَوْضِعُ قَدَمَيْهِ عَلَى الْمَقَامِ،
قَالَ: وَمَا قَالَ لَكِ؟ قَالَتْ: قَالَ لِي: إِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَأَقْرِئِيهِ
السَّلامَ، وَقُولِي لَهُ: قَدِ اسْتَقَامَتْ عَتَبَةُ بَابِكَ، قَالَ ذَلِكَ
إِبْرَاهِيمُ، فَلَبِثَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَلْبَثَ وَأَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ بِبِنَاءِ الْبَيْتِ، فَبَنَاهُ هُوَ واسماعيل، فلما بنياه قيل: «أَذِّنْ
فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ» ، فجعل لا يمر بقوم الا قال: يا ايها النَّاسُ، إِنَّهُ
قَدْ بُنِيَ لَكُمْ بَيْتٌ فَحُجُّوهُ، فَجَعَلَ لا يَسْمَعُهُ أَحَدٌ، لا
صَخْرَةٌ وَلا شَجَرَةٌ وَلا شَيْءٌ إِلا قَالَ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لبيك قال:
وَكَانَ بَيْنَ قَوْلِهِ: «رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ
غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ» ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ:
«الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ»
كَذَا وَكَذَا عَامًا، لَمْ يَحْفَظْ عَطَاءٌ.
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ
عَبْدِ الْمَجِيدِ أَبُو عَلِيٍّ الْحَنَفِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ
بْنُ نَافِعٍ، قَالَ: سَمِعْتُ كَثِيرَ بْنَ كَثِيرٍ يُحَدِّثُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ
جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَ- يَعْنِي إِبْرَاهِيمَ- فَوَجَدَ
إِسْمَاعِيلَ يُصْلِحُ نَبْلا لَهُ مِنْ وَرَاءِ زَمْزَمَ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ:
يَا إِسْمَاعِيلُ، إِنَّ رَبَّكَ قَدْ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ لَهُ بَيْتًا،
فَقَالَ لَهُ إِسْمَاعِيلُ: فَأَطِعْ رَبَّكَ فِيمَا أَمَرَكَ، فَقَالَ ابراهيم:
(1/259)
قَدْ أَمَرَكَ أَنْ تُعِينَنِي
عَلَيْهِ قَالَ: إِذًا أَفْعَلُ، قَالَ: فَقَامَ مَعَهُ، فَجَعَلَ إِبْرَاهِيمُ
يَبْنِيهِ وَإِسمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ وَيَقُولانِ: «رَبَّنا
تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» ، فَلَمَّا ارْتَفَعَ
الْبُنْيَانُ وَضَعُفَ الشَّيْخُ عَنْ رَفْعِ الْحِجَارَةِ قَامَ عَلَى حَجَرٍ،
وَهُوَ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ، فَجَعَلَ يُنَاوِلُهُ وَيَقُولانِ: «تَقَبَّلْ
مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» .
فَلَمَّا فَرَغَ إِبْرَاهِيمُ مِنْ بِنَاءِ الْبَيْتِ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ بِبِنَائِهِ، أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُؤَذِّنَ فِي النَّاسِ
بِالْحَجِّ، فَقَالَ لَهُ: «وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا
وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ» فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ-
فِيمَا ذَكَرَ لَنَا- مَا حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا
جَرِيرٌ، عَنْ قَابُوسَ بْنِ أَبِي ظَبْيَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،
قَالَ: لَمَّا فَرَغَ إِبْرَاهِيمُ مِنْ بِنَاءِ الْبَيْتِ، قِيلَ لَهُ: أَذِّنْ
فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ، قَالَ: يَا رَبِّ، وَمَا يَبْلُغُ صَوْتِي؟ قال: اذن
وعلى البلاغ، فنادى ابراهيم: يا ايها النَّاسُ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ إِلَى الْبَيْتِ
الْعَتِيقِ، قَالَ: فَسَمِعَهُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ: أَفَلا تَرَى
النَّاسَ يَجِيئُونَ مِنْ أَقْصَى الأَرْضِ يُلَبُّونَ! حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ
عَرَفَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلِ بْنِ غَزْوَانَ الضَّبِّيُّ،
عَنْ عَطَاءِ بن السائب، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:
لَمَّا بَنَى إِبْرَاهِيمُ الْبَيْتَ أَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ:
أَنْ أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ، قَالَ:
فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: أَلا إِنَّ رَبَّكُمْ قَدِ اتَّخَذَ بَيْتًا، وَأَمَرَكُمْ
أَنْ تَحُجُّوهُ، فَاسْتَجَابَ لَهُ مَا سَمِعَهُ مِنْ شَيْءٍ، مِنْ حَجَرٍ أَوْ
شَجَرٍ أَوْ أَكَمَةٍ أَوْ تُرَابٍ أَوْ شَيْءٍ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ!
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ واضح، قال: حدثنا
الحسين ابن وَاقِدٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ: «وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ» ، قال: قام ابراهيم ع
خليل الله على الحجر فنادى:
(1/260)
يا ايها النَّاسُ، كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الْحَجَّ، فَأَسْمَعَ مَنْ فِي أَصْلابِ الرِّجَالِ وَأَرْحَامِ
النِّسَاءِ، فَأَجَابَهُ مَنْ آمَنَ مِمَّنْ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنْ
يَحُجَّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ! حَدَّثَنَا
ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سفيان،
عن سلمة، عن مجاهد، قال: قيل لإبراهيم: أذن في الناس بالحج، فقال:
يا رب، كيف أقول؟ قال: قل: لبيك اللهم لبيك، قال: فكانت أول التلبية.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عمر ابن عبد
الله بن عروة، أن عبد الله بن الزبير قال لعبيد بن عمير الليثي: كيف بلغك أن
إبراهيم دعا إلى الحج؟ قال: بلغني أنه لما رفع هو وإسماعيل قواعد البيت، وانتهى
إلى ما أراد الله من ذلك، وحضر الحج استقبل اليمن، فدعا إلى الله وإلى حج بيته
فأجيب: أن لبيك اللهم لبيك! ثم استقبل المشرق فدعا إلى الله وإلى حج بيته فأجيب:
أن لبيك اللهم! ثم إلى المغرب فدعا إلى الله وإلى حج بيته، فأجيب: أن لبيك اللهم
لبيك! ثم إلى الشام فدعا إلى الله عز وجل وإلى حج بيته فأجيب أن لبيك اللهم لبيك،
ثم خرج بإسماعيل وهو معه يوم التروية، فنزل به منى ومن معه من المسلمين، فصلى بهم
الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة، ثم بات بهم حتى أصبح، فصلى بهم صلاة الفجر،
ثم غدا بهم إلى عرفة، فقال بهم هنالك، حتى إذا مالت الشمس جمع بين الصلاتين: الظهر
والعصر، ثم راح بهم إلى الموقف من عرفة، فوقف بهم على الأراك، وهو الموقف من عرفة
الذي يقف عليه الإمام يريه ويعلمه، فلما غربت الشمس دفع به وبمن معه حتى أتى
المزدلفة، فجمع فيها بين الصلاتين:
المغرب والعشاء الآخرة، ثم بات بها وبمن معه، حتى إذا طلع الفجر صلى بهم صلاة
الغداة، ثم وقف به على قزح من المزدلفة فيمن معه، وهو الموقف
(1/261)
الذي يقف به الإمام حتى إذا
أسفر دفع به وبمن معه يريه ويعلمه كيف يصنع، حتى رمى الجمرة الكبرى، وأراه المنحر
من منى، ثم نحر وحلق، ثم أفاض به من منى ليريه كيف يطوف، ثم عاد به إلى منى ليريه
كيف يرمي الجمار، حتى فرغ له من الحج وأذن به في الناس.
قال أبو جعفر: وقد روى عن رسول الله ص وعن بعض اصحابه ان جبرئيل هو الذي كان يري
إبراهيم المناسك إذا حج ذكر الرواية بذلك عن رسول الله:
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ موسى-
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الأَحْمَسِيُّ، قال: حَدَّثَنَا
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى- قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي لَيْلَى، عَنِ
ابْنِ أَبِي مليكة، عن عبد الله بن عمرو، [عن النبي ص قال:
اتى جبرئيل إِبْرَاهِيمَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ فَرَاحَ بِهِ إِلَى مِنًى، فَصَلَّى
بِهِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ الآخِرَةَ وَالْفَجْرَ
بِمِنًى، ثُمَّ غَدَا بِهِ إِلَى عَرَفَاتٍ، فَأَنْزَلَهُ الأَرَاكَ- أَوْ حَيْثُ
يَنْزِلُ النَّاسُ- فَصَلَّى بِهِ الصَّلاتَيْنِ جَمِيعًا: الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ،
ثُمَّ وَقَفَ بِهِ حَتَّى إِذَا كَانَ كَأَعْجَلِ مَا يُصَلِّي أَحَدٌ مِنَ
النَّاسِ الْمَغْرِبَ، أَفَاضَ حَتَّى أَتَى بِهِ جَمْعًا، فَصَلَّى بِهِ
الصَّلاتَيْنِ جَمِيعًا: الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، ثُمَّ أَقَامَ حَتَّى إِذَا
كَانَ كَأَعْجَلِ مَا يُصَلِّي أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ الْفَجْرَ صَلَّى بِهِ، ثُمَّ
وَقَفَ حَتَّى إِذَا كَانَ كَأَبْطَأ مَا يُصَلِّي أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
الْفَجْرَ أَفَاضَ بِهِ إِلَى مِنًى، فَرَمَى الْجَمْرَةَ، ثُمَّ ذَبَحَ وَحَلَقَ،
ثُمَّ أَفَاضَ إِلَى الْبَيْتِ، ثُمَّ أَوْحَى الله عز وجل الى محمد ص: «أَنِ
اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ] » .
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
أَبِي لَيْلَى، قَالَ:
حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ص نحوه
(1/262)
ثم إن الله تعالى ذكره ابتلى
خليله ابراهيم ع بذبح ابنه.
واختلف السلف من علماء أمة نبينا ص في الذي أمر إبراهيم بذبحه من ابنيه، فقال
بعضهم: هو إسحاق بن إبراهيم، وقال بعضهم: هو إسماعيل بن إبراهيم، وقد روي عن رسول
الله ص كلا القولين، لو كان فيهما صحيح لم نعده إلى غيره، غير أن الدليل من القرآن
على صحة الرواية التي رويت عنه ص أنه قال: هو إسحاق أوضح وأبين منه على صحة
الأخرى.
والرواية التي رويت عنه أنه قال: هو إسحاق حَدَّثَنَا بِهَا أَبُو كُرَيْبٍ،
قَالَ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، عَنِ الحسن بن دينار، عن علي بن زيد
بْنِ جُدْعَانَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنِ الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ، عَنِ الْعَبَّاسِ
بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، عَنِ [النبي ص فِي حَدِيثٍ ذُكِرَ فِيهِ: «وَفَدَيْناهُ
بِذِبْحٍ عَظِيمٍ» قَالَ: هُوَ إِسْحَاقُ] .
وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْخَبَرُ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ وَجْهٍ أَصْلَحَ مِنْ هَذَا
الْوَجْهِ، غَيْرَ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى الْعَبَّاسِ غَيْرُ مرفوع الى رسول
الله ص.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ يَمَانٍ، عَنْ مُبَارَكٍ، عَنِ الْحَسَنِ،
عَنِ الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ، عَنِ الْعَبَّاسِ بن عبد المطلب: «وَفَدَيْناهُ
بِذِبْحٍ عَظِيمٍ» قَالَ: هُوَ إِسْحَاقُ وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الَّتِي رُوِيَتْ
عَنْهُ أَنَّهُ هُوَ إِسْمَاعِيلُ، فَمَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمَّارٍ
الرَّازِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ أَبِي كَرِيمَةَ،
قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْخَطَّابِيُّ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْعُتْبِيِّ مِنْ وَلَدِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ،
عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، عَنِ
الصُّنَابِحِيِّ، قَالَ: كُنَّا عند معاويه
(1/263)
ابن أَبِي سُفْيَانَ،
فَذَكَرُوا الذَّبِيحَ: إِسْمَاعِيلَ أَوْ إِسْحَاقَ؟ فَقَالَ: عَلَى الْخَبِيرِ
سَقَطْتُمْ، كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ الله ص، فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، عُدَّ على مما أفاء الله عليك يا بن الذبيحين، فضحك رسول الله ص، فَقِيلَ
لَهُ: [وَمَا الذَّبِيحَانِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: إِنَّ عَبْدَ
الْمُطَّلِبِ لَمَّا أَمَرَ بِحَفْرِ زَمْزَمَ نَذَرَ لِلَّهِ: لِئَنْ سَهَّلَ
اللَّهُ لَهُ أَمْرَهَا لَيَذْبَحَنَّ أَحَدَ وَلَدِهِ، قَالَ: فَخَرَجَ السَّهْمُ
عَلَى عَبْدِ اللَّهِ، فَمَنَعَهُ أَخْوَالُهُ وَقَالُوا: افْدِ ابْنَكَ بِمِائَةٍ
مِنَ الإِبِلِ، فَفَدَاهُ بِمِائَةٍ مِنَ الإِبِلِ وَإِسْمَاعِيلُ الثَّانِي] .
وَنَذْكُرُ الآنَ مَنْ قَالَ مِنَ السَّلَفِ إِنَّهُ إِسْحَاقُ، وَمَنْ قَالَ
إِنَّهُ إِسْمَاعِيلُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ هُوَ إِسْحَاقُ:
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ يَمَانٍ، عَنْ مُبَارَكٍ،
عَنِ الْحَسَنِ، عَنِ الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ
الْمُطَّلِبِ: «وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عظيم» قَالَ: هُوَ إِسْحَاقُ.
حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ يَزِيدَ الطَّحَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ
إِدْرِيسَ، عَنْ دَاوُدَ ابن أَبِي هِنْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،
قَالَ: الَّذِي أُمِرَ بِذَبْحِهِ إِبْرَاهِيمُ هُوَ إِسْحَاقُ.
حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، عن دَاوُدَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ:
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الذَّبِيحُ هُوَ إِسْحَاقُ.
حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ
دَاوُدَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ»
قَالَ: هُوَ إِسْحَاقُ.
حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جعفر، قال: حدثنا
شعبة، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ، قَالَ: افْتَخَرَ رَجُلٌ
عِنْدَ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَقَالَ: أَنَا فُلانُ ابْنُ فُلانِ ابْنِ الأَشْيَاخِ
الْكِرَامِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: ذَاكَ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إسحاق، ذبيح
الله بن إبراهيم خليل الله
(1/264)
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا
إبراهيم بن المختار، قال: حدثنا محمد ابن إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
أَبِي بَكْرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ الْعَلاءِ بْنِ جَارِيَةَ الثَّقَفِيِّ،
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ كَعْبٍ، فِي قَوْلِهِ: «وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ
عَظِيمٍ» قَالَ:
مِنَ ابْنِهِ إِسْحَاقَ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حَدَّثَنَا سلمة، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ
بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ الله بن أبي بكر، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ
الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْعَلاءِ بْنِ جَارِيَةَ الثَّقَفِيِّ،
حَلِيفِ بَنِي زُهْرَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ كَعْبِ الأَحْبَارِ، أَنَّ
الَّذِي أُمِرَ بِذَبْحِهِ إِبْرَاهِيمُ مِنَ ابْنَيْهِ إِسْحَاقَ.
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي
يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ عَمْرَو بْنَ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ أُسَيْدِ
بْنِ جَارِيَةَ الثَّقَفِيَّ، أَخْبَرَهُ أَنَّ كَعْبًا قَالَ لأَبِي هُرَيْرَةَ:
أَلا أُخْبِرُكَ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ النَّبِيِّ؟ قَالَ أَبُو
هُرَيْرَةَ:
بَلَى، قَالَ كَعْبٌ: لَمَّا أُرِيَ إِبْرَاهِيمُ ذَبْحَ إِسْحَاقَ، قَالَ
الشَّيْطَانُ: وَاللَّهِ لَئِنْ لَمْ أَفْتِنْ عِنْدَ هَذَا آلَ إِبْرَاهِيمَ لا
أَفْتِنْ أَحَدًا مِنْهُمْ أَبَدًا، فَتَمَثَّلَ الشَّيْطَانُ لَهُمْ رَجُلا
يَعْرِفُونَهُ، فَأَقْبَلَ حَتَّى إِذَا خَرَجَ إِبْرَاهِيمُ بِإِسْحَاقَ
لِيَذْبَحَهُ دَخَلَ عَلَى سَارَّةَ امْرَأَةِ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ لَهَا:
أَيْنَ أَصْبَحَ إِبْرَاهِيمُ غَادِيًا بِإِسْحَاقَ؟ قَالَتْ: غَدَا لِبَعْضِ
حَاجَتِهِ، قَالَ الشَّيْطَانُ: لا وَاللَّهِ مَا لِذَلِكَ غَدَا بِهِ، قَالَتْ
سَارَّةُ: فَلِمَ غَدَا بِهِ؟
قَالَ: غَدَا بِهِ لِيَذْبَحَهُ، قَالَتْ سَارَّةُ: لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ،
لَمْ يَكُنْ لِيَذْبَحَ ابْنَهُ، قَالَ الشَّيْطَانُ: بَلَى وَاللَّهِ، قَالَتْ
سَارَّةُ: فَلِمَ يَذْبَحُهُ؟ قَالَ: زَعَمَ أَنَّ رَبَّهُ أَمَرَهُ بِذَلِكَ،
قَالَتْ ساره: فهذا حسن بِأَنْ يُطِيعَ رَبَّهُ إِنْ كَانَ أَمَرَهُ بِذَلِكَ.
فَخَرَجَ الشَّيْطَانُ مِنْ عِنْدِ سَارَّةَ حَتَّى أَدْرَكَ إِسْحَاقَ وَهُوَ
يَمْشِي عَلَى أَثَرِ أَبِيهِ، فَقَالَ لَهُ: أَيْنَ أَصْبَحَ أَبُوكَ غَادِيًا
بِكَ؟ قَالَ: غَدَا بِي لِبَعْضِ حَاجَتِهِ، قَالَ الشَّيْطَانُ: لا وَاللَّهِ،
مَا غَدَا بِكَ لِبَعْضِ حَاجَتِهِ، وَلَكِنَّهُ غَدَا بِكَ لِيَذْبَحَكَ
(1/265)
قَالَ إِسْحَاقُ: مَا كَانَ
أَبِي لِيَذْبَحَنِي، قَالَ: بَلَى، قَالَ: لِمَ؟ قَالَ: زَعَمَ أَنَّ رَبَّهُ
امره بذلك، قال إسحاق: فو الله لِئَنْ أَمَرَهُ بِذَلِكَ لَيُطِيعَنَّهُ،
فَتَرَكَهُ الشَّيْطَانُ وَأَسْرَعَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ: أَيْنَ
أَصْبَحْتَ غَادِيًا بِابْنِكَ؟ قَالَ: غَدَوْتُ بِهِ لِبَعْضِ حَاجَتِي، قَالَ:
أَمَا وَاللَّهِ مَا غَدَوْتَ بِهِ إِلا لِتَذْبَحَهُ، قَالَ: لِمَ أَذْبَحُهُ؟
قَالَ: زَعَمْتَ أَنَّ رَبَّكَ أَمَرَكَ بذلك، قال: فو الله لِئَنْ كَانَ
أَمَرَنِي رَبِّي لأَفْعَلَنَّ، قَالَ: فَلَمَّا أَخَذَ إِبْرَاهِيمُ إِسْحَاقَ
لِيَذْبَحَهُ وَسَلَّمَ إِسْحَاقُ أَعْفَاهُ اللَّهُ، وَفَدَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ
قَالَ إِبْرَاهِيمُ لإِسْحَاقَ: قُمْ أَيْ بُنَيَّ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ
أَعْفَاكَ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى إِسْحَاقَ: إِنِّي أُعْطِيكَ دَعْوَةً
أَسْتَجِيبُ لَكَ فِيهَا، قَالَ إِسْحَاقُ: اللَّهُمَّ فَإِنِّي أَدْعُوكَ أَنْ
تَسْتَجِيبَ لِي: أَيُّمَا عَبْدٍ لَقِيَكَ من الأولين والآخرين لا يشرك بك
شَيْئًا فَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ.
حَدَّثَنِي عمرو بن علي، قال، حَدَّثَنَا أبو عاصم، قال: حَدَّثَنَا سفيان، عن زيد
بن أسلم، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، عن أبيه، قال: [قال موسى: يا رب، يقولون يا
إله ابراهيم وإسحاق ويعقوب، فيم قالوا ذلك؟ قال:
إن إبراهيم لم يعدل بي شيئا قط إلا اختارني عليه، وإن إسحاق جاد لي بالذبح وهو
بغير ذلك أجود، وإن يعقوب كلما زدته بلاء زادني حسن ظن] .
حَدَّثَنَا ابن بشار، قال: حَدَّثَنَا مؤمل، قال: حدثنا سفيان، عن زيد ابن أسلم،
عن عبد الله بن عبيد بن عمير، عن أبيه قال: [قال موسى: أي رب بم أعطيت إبراهيم
وإسحاق ويعقوب ما أعطيتهم؟ فذكر نحوه] .
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ يَمَانٍ، عَنْ إِسْرَائِيلَ،
عَنْ جَابِرٍ، عَنِ ابْنِ سَابِطٍ، قَالَ: هُوَ إِسْحَاقُ.
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ يَمَانٍ عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ
أَبِي سِنَانٍ الشَّيْبَانِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي الْهُذَيْلِ، قَالَ: الذَّبِيحُ
هُوَ إِسْحَاقُ.
حَدَّثَنَا أبو كريب، قال: حَدَّثَنَا سفيان بن عقبة، عن حمزة الزيات، عن أبي
إسحاق، عن أبي ميسرة، قال: قال يوسف للملك في وجهه ترغب
(1/266)
أن تأكل معي، وأنا والله يوسف
بن يعقوب نبي الله بن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله! حَدَّثَنَا أبو
كريب، قال: حَدَّثَنَا وكيع، عن سفيان، عن أبي سنان، عن ابن أبي الهذيل، قال: قال
يوسف للملك، فذكر نحوه.
حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن
السدي، في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس- وعن مرة الهمداني، عن
ابن مسعود- وعن ناس من اصحاب النبي ص، ان ابراهيم ع أُرِيَ فِي الْمَنَامِ فَقِيلَ
لَهُ: أَوْفِ نَذْرَكَ الَّذِي نَذَرْتَ: إِنْ رَزَقَكَ اللَّهُ غُلامًا مِنْ
سَارَّةَ أَنْ تَذْبَحَهُ.
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا
زَكَرِيَّاءُ وَشُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ مَسْرُوقٍ فِي قَوْلِهِ:
«وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ» قَالَ:
هُوَ إِسْحَاقُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ هُوَ إِسْمَاعِيلُ:
حَدَّثَنَا أبو كريب وإسحاق بن إِبْرَاهِيمَ بن حبيب بن الشهيد، قَالَ: حَدَّثَنَا
يَحْيَى بْنُ يَمَانٍ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ ثُوَيْرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ
ابْنِ عُمَرَ،، قَالَ:
الذَّبِيحُ إِسْمَاعِيلُ.
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ، قَالَ:
حَدَّثَنَا بَيَانٌ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «وَفَدَيْناهُ
بِذِبْحٍ عَظِيمٍ» ، قَالَ: إِسْمَاعِيلُ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَبُو حَمْزَةَ مُحَمَّدُ بْنُ مَيْمُونٍ السُّكَّرِيُّ عَنْ عَطَاءِ
بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
(1/267)
قَالَ: إِنَّ الَّذِي أُمِرَ
بِذَبْحِهِ إِبْرَاهِيمُ إِسْمَاعِيلُ.
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ،
عَنْ عَمَّارٍ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ، وَعَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ قَالَ: هُوَ إِسْمَاعِيلُ، يَعْنِي:
«وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ» .
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا
دَاوُدُ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ إِسْمَاعِيلُ.
وحدثني بِهِ يَعْقُوبُ مَرَّةً أُخْرَى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ،
قَالَ: سُئِلَ دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ: أَيُّ ابْنَيْ إِبْرَاهِيمَ أُمِرَ بِذَبْحِهِ؟
فَزَعَمَ أَنَّ الشَّعْبِيَّ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ إِسْمَاعِيلُ.
حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جعفر، قال: حدثنا
شُعْبَةُ، عَنْ بَيَانٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ
فِي الَّذِي، فَدَاهُ اللَّهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ، قَالَ: هُوَ إِسْمَاعِيلُ.
حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا
لَيْثٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: «وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ
عَظِيمٍ» ، قَالَ: هُوَ إِسْمَاعِيلُ.
وحدثني يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ:، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ:
أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ قَيْسٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: الْمُفَدَّى إِسْمَاعِيلُ، وَزَعَمَتِ
الْيَهُودُ أَنَّهُ إِسْحَاقُ، وَكَذَبَتِ الْيَهُودُ.
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ الْقَزَّازُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو
عَاصِمٍ، عَنْ مُبَارَكٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الَّذِي فَدَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: هُوَ
إِسْمَاعِيلُ.
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنْ حَمَّادٍ،
عَنْ أَبِي عَاصِمٍ الْغَنَوِيِّ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
مِثْلَهُ
(1/268)
حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ
شَاهِينَ، قَالَ: حَدَّثَنِي خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ دَاوُدَ، عَنْ
عَامِرٍ، قَالَ: الَّذِي أَرَادَ إِبْرَاهِيمُ ذَبْحَهُ إِسْمَاعِيلُ.
حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الأَعْلَى، قَالَ:
حَدَّثَنَا دَاوُدُ، عَنْ عَامِرٍ أَنَّهُ قَالَ فِي هذه الآية «وَفَدَيْناهُ
بِذِبْحٍ عَظِيمٍ» ، قَالَ: هُوَ إِسْمَاعِيلُ، قَالَ:
وَكَانَ قَرْنَا الْكَبْشِ مَنُوطَيْنِ بِالْكَعْبَةِ.
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ يَمَانٍ، عَنْ إِسْرَائِيلَ
عَنْ جَابِرٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: الذَّبِيحُ إِسْمَاعِيلُ.
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ يَمَانٍ، عَنْ إِسْرَائِيلَ،
عَنْ جَابِرٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: رَأَيْتُ قَرْنَيِ الْكَبْشِ فِي
الْكَعْبَةِ.
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ يَمَانٍ، عَنْ مُبَارَكِ بْنِ
فَضَالَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ
مِهْرَانَ، قَالَ: هُوَ إِسْمَاعِيلُ.
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ يَمَانٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا
سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قَالَ: هُوَ إِسْمَاعِيلُ.
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: حَدَّثَنَا هشم، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَوْفٌ، عَنِ
الْحَسَنِ:
«وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ» ، قَالَ: هُوَ إِسْمَاعِيلُ.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: سمعت محمد بن كعب
القرظي وهو يقول: إن الذي أمر الله عز وجل إبراهيم بذبحه من ابنيه إسماعيل، وإنا
لنجد ذلك في كتاب الله عز وجل في قصة الخبر عن إبراهيم وما أمر به من ذبح ابنه،
أنه إسماعيل، وذلك أن الله عز وجل يقول حين فرغ من قصة المذبوح من ابني إبراهيم
قال: «وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ» ويقول:
«فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ
(1/269)
يَعْقُوبَ» ، يقول: بابن وابن
ابن، فلم يكن يأمره بذبح إسحاق، وله فيه من الله من الموعود ما وعده، وما الذي أمر
بذبحه إلا إسماعيل حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، قال: حدثنا
مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ بُرَيْدَةَ بْنِ سُفْيَانَ بن فروة الأسلمي، عن
محمد بن كعب القرظي، أنه حدثهم أنه ذكر ذلك لعمر بن عبد العزيز، وهو خليفة إذ كان
معه بالشام، فقال له عمر: ان هذا لشيء ما كنت أنظر فيه، وإني لأراه كما قلت، ثم
أرسل إلى رجل كان عنده بالشام كان يهوديا فأسلم، فحسن إسلامه، وكان يرى أنه من
علماء اليهود فسأله عمر بن عبد العزيز عن ذلك قال محمد بن كعب القرظي: وأنا عند
عمر بن عبد العزيز، فقال له عمر: أي ابني إبراهيم أمر بذبحه؟
فقال: إسماعيل، والله يا أمير المؤمنين، إن يهود لتعلم بذلك، ولكنهم يحسدونكم معشر
العرب على أن يكون أباكم الذي كان من أمر الله فيه، والفضل الذي ذكره الله منه
لصبره على ما أمر به، فهم يجحدون ذلك، ويزعمون أنه إسحاق، لأن إسحاق أبوهم.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الحسن بن دينار
وعمرو بن عبيد، عن الحسن بن أبي الحسن البصري، أنه كان لا يشك في ذلك أن الذي أمر
بذبحه من ابني إبراهيم إسماعيل.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق: سمعت محمد بن كعب
القرظي يقول ذلك كثيرا.
وأما الدلالة من القرآن التي قلنا إنها على أن ذلك إسحاق أصح، فقوله تعالى مخبرا
عن دعاء خليله إبراهيم حين فارق قومه مهاجرا إلى ربه الى الشام مع زوجته
(1/270)
ساره، فقال: «إِنِّي ذاهِبٌ
إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ. رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ» ، وذلك قبل أن يعرف
هاجر، وقبل أن تصير له أم إسماعيل، ثم أتبع ذلك ربنا عز وجل الخبر عن إجابته
دعاءه، وتبشيره إياه بغلام حليم، ثم عن رؤيا إبراهيم أنه يذبح ذلك الغلام حين بلغ
معه السعى، ولا يعلم في كتاب ذكر لتبشير ابراهيم بولد ذكر إلا بإسحاق، وذلك قوله:
«وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ
إِسْحاقَ يَعْقُوبَ» وقوله: «فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ
وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ. فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ
وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ» ثم ذلك كذلك في كل موضع ذكر فيه تبشير إبراهيم
بغلام، فإنما ذكر تبشير الله إياه به من زوجته سارة، فالواجب أن يكون ذلك في قوله:
«فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ» نظير ما في سائر سور القرآن من تبشيره اياه به
من زوجته سارة.
وأما اعتلال من اعتل بأن الله لم يكن يأمر إبراهيم بذبح إسحاق، وقد أتته البشارة
من الله قبل ولادته بولادته وولادة يعقوب منه من بعده، فإنها علة غير موجبة صحة ما
قال، وذلك أن الله إنما أمر إبراهيم بذبح إسحاق بعد إدراك إسحاق السعي وجائز أن
يكون يعقوب ولد له قبل أن يؤمر أبوه بذبحه، وكذلك لا وجه لاعتلال من اعتل في ذلك
بقرن الكبش أنه رآه معلقا في الكعبة، وذلك أنه غير مستحيل أن يكون حمل من الشام
إلى الكعبة فعلق هنالك
ذكر الخبر عن صفه فعل ابراهيم وابنه الذي أمر بذبحه فيما كان أمر به من ذلك والسبب
الذي من أجله أمر إبراهيم بذبحه
والسبب في أمر الله عز وجل ابراهيم بذبح ابنه الذي أمره بذبحه فيما ذكر أنه إذ
فارق قومه هاربا بدينه مهاجرا إلى ربه متوجها إلى الشام من أرض العراق دعا الله أن
يهب له ولدا ذكرا صالحا من سارة فقال:
«رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ» يعنى بذلك ولدا صالحا من الصالحين كما أخبر
الله تعالى عنه فقال: «وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ. رَبِّ هَبْ
لِي مِنَ الصَّالِحِينَ» فلما نزل به أضيافه من الملائكة الذين كانوا أرسلوا إلى
المؤتفكة قوم لوط بشروه بغلام حليم عن أمر الله تعالى إياهم بتبشيره، فقال إبراهيم
إذ بشر به: هو إذا لله ذبيح فلما ولد الغلام وبلغ السعي قيل له:
أوف بنذرك الذي نذرت لله.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ:
حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قال:
حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس- وعن
مرة الهمداني، عن عَبْدِ اللَّهِ- وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قَالَ جبرئيل ع لِسَارَّةَ: أَبْشِرِي
بِوَلَدٍ اسْمُهُ إِسْحَاقَ، وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبُ، فَضَرَبَتْ
جَبِينَهَا عَجَبًا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: «فَصَكَّتْ وَجْهَها» وَقَالَتْ:
«أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ.
قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ
عَلَيْكُمْ أَهْلَ
(1/271)
الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ
مَجِيدٌ» قَالَتْ سَارَّةُ لِجَبْرَائِيلَ: مَا آيَةُ ذَلِكَ؟
فَأَخَذَ بِيَدِهِ عُودًا يَابِسًا فَلَوَاهُ بَيْنَ أَصَابِعِهِ فَاهْتَزَّ
أَخْضَرَ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: هُوَ إِذًا لِلَّهِ ذَبِيحٌ، فَلَمَّا كَبَرَ
إِسْحَاقُ أُتِيَ إِبْرَاهِيمُ فِي النَّوْمِ فَقِيلَ لَهُ: أَوْفِ بِنَذْرِكَ
الَّذِي نَذَرْتَ، إِنْ رَزَقَكَ اللَّهُ غُلامًا مِنْ سَارَّةَ أَنْ تَذْبَحَهُ
فَقَالَ لإِسْحَاقَ: انْطَلِقْ فَقَرَّبَ قُرْبَانًا إِلَى اللَّهِ وَأَخَذَ
سِكِّينًا وَحَبْلا، ثُمَّ انْطَلَقَ مَعَهُ حَتَّى إِذَا ذَهَبَ بِهِ بَيْنَ
الْجِبَالِ قَالَ لَهُ الْغُلامُ: يَا أَبَتِ، أَيْنَ قُرْبَانُكَ؟ قَالَ: يَا بني
إني أرى في المنام أني أذبحك فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ: يَا أَبَتِ افْعَلْ ما
تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصَّابِرِينَ، قَالَ لَهُ إِسْحَاقُ: اشْدُدْ ربَاطِي
حَتَّى لا أَضْطَرِبَ وَاكْفِفْ عَنْ ثِيَابِكَ حَتَّى لا يَنْتَضِحَ عَلَيْهَا
مِنْ دَمِي شَيْءٌ فَتَرَاهُ سَارَّةُ فَتَحْزَنَ، وَأَسْرِعْ مَرَّ السِّكِّينِ
عَلَى حَلْقِي لِيَكُونَ أَهْوَنَ لِلْمَوْتِ عَلَيَّ، وَإِذَا أَتَيْتَ سَارَّةَ
فَاقْرَأْ عليها السلام فاقبل عليه ابراهيم ع يُقَبِّلُهُ وَقَدْ رَبَطَهُ وَهُوَ
يَبْكِي، وَإِسْحَاقُ يَبْكِي، حَتَّى اسْتَنْقَعَ الدُّمُوعَ تَحْتَ خَدِّ
إِسْحَاقَ، ثُمَّ إِنَّهُ جَرَّ السِّكِّينَ عَلَى حَلْقِهِ فَلَمْ يَحُكَّ
السِّكِّينُ، وَضَرَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ صَفِيحَةً مِنْ نَحَاسٍ عَلَى حَلْقِ
إِسْحَاقَ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ ضَرَبَ بِهِ عَلَى جَبِينِهِ، وَحَزَّ فِي
قَفَاهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ:
«فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ» يَقُولُ: سَلِّمَا لِلَّهِ الأَمْرَ،
فَنُودِيَ: يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ الْتَفَتَ،
فَإِذَا بِكَبْشٍ، فَأَخَذَهُ وَخَلَّى عَنِ ابْنِهِ، فَأَكَبَّ عَلَى ابْنِهِ
يُقَبِّلُهُ وَهُوَ يَقُولُ: يَا بُنَيَّ الْيَوْمَ وُهِبْتَ لِي، فَذَلِكَ
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: «وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ» فَرَجَعَ إِلَى سَارَّةَ
فَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ، فَجَزِعَتْ سَارَّةُ وَقَالَتْ: يَا إِبْرَاهِيمُ،
أَرَدْتَ أَنْ تَذْبَحَ ابْنِي وَلا تُعْلِمْنِي! حَدَّثَنَا ابن حميد، قال:
حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال:
كان إبراهيم فيما يقال إذا زارها- يعني هاجر- حمل على البراق يغدو من
(1/273)
الشام، فيقبل بمكة، ويروح من
مكة، فيبيت عند أهله بالشام، حتى إذا بلغ معه السعي، وأخذ بنفسه ورجاه لما كان
يأمل فيه من عبادة ربه وتعظيم حرماته أري في المنام أن يذبحه.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق عن بعض أهل العلم أن
إبراهيم حين أمر بذبح ابنه قال له: يا بني خذ الحبل والمدية، ثم انطلق بنا إلى هذا
الشعب ليحطب أهلك منه، قبل أن يذكر له شيئا مما أمر به.
فلما وجه إلى الشعب اعترضه عدو الله إبليس ليصده عن أمر الله في صورة رجل، فقال:
أين تريد أيها الشيخ؟ قال: أريد هذا الشعب لحاجة لي فيه، فقال: والله إني لأرى
الشيطان قد جاءك في منامك، فأمرك بذبح بنيك هذا، فأنت تريد ذبحه، فعرفه إبراهيم،
فقال: إليك عني، أي عدو الله، فو الله لأمضين لأمر ربي فيه، فلما يئس عدو الله
إبليس من إبراهيم اعترض إسماعيل وهو وراء إبراهيم يحمل الحبل والشفرة، فقال له: يا
غلام هل تدري أين يذهب بك أبوك؟ قال: يحطب أهلنا من هذا الشعب، قال: والله ما يريد
إلا أن يذبحك، قال: لم؟ قال: زعم أن ربه أمره بذلك، قال:
فليفعل ما أمره به ربه، فسمعا وطاعة فلما امتنع منه الغلام ذهب إلى هاجر أم
إسماعيل وهي في منزلها، فقال لها: يا أم إسماعيل، هل تدرين أين ذهب إبراهيم
بإسماعيل؟ قالت: ذهب به يحطبنا من هذا الشعب، قال: ما ذهب به إلا ليذبحه، قالت:
كلا هو أرحم به وأشد حبا له من ذلك، قال:
إنه يزعم أن الله أمره بذلك، قالت: إن كان ربه أمره بذلك فتسليما لأمر الله فرجع
عدو الله بغيظه لم يصب من آل ابراهيم شيئا مما اراد، وقد امتنع منه إبراهيم وآل
إبراهيم بعون الله، وأجمعوا لأمر الله بالسمع والطاعة،
(1/274)
فلما خلا إبراهيم بابنه في-
الشعب وهو فيما يزعمون شعب ثبير- قال له: «يا بُنَيَّ، إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ
أَنِّي أَذْبَحُكَ قالَ: يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ، سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ
اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ» .
قال ابن حميد: قال سلمة: قال محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم: إن إسماعيل قال له
عند ذلك: يا أبت إن أردت ذبحي فاشدد رباطي لا يصبك مني شيء فينقص أجري، فإن الموت
شديد، وإني لا آمن أن اضطرب عنده إذا وجدت مسه، واشحذ شفرتك حتى تجهز علي فتريحني،
وإذا أنت أضجعتني لتذبحني فكبني لوجهي على جبيني ولا تضجعني لشقي، فإني أخشى إن
أنت نظرت في وجهي أن تدركك رقة تحول بينك وبين أمر الله في، وإن رأيت أن ترد قميصي
على أمي فإنه عسى أن يكون هذا أسلى لها عني، فافعل قال: يقول له إبراهيم: نعم
العون أنت يا بني على أمر الله قال: فربطه كما أمره إسماعيل فأوثقه، ثم شحذ شفرته
ثم تله للجبين واتقى النظر في وجهه، ثم أدخل الشفرة لحلقه فقلبها الله لقفاها في
يده، ثم اجتذبها إليه ليفرغ منه، فنودي: أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا، هذه ذبيحتك
فداء لابنك فاذبحها دونه، يقول الله عز وجل، «فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ
لِلْجَبِينِ» ، وإنما تتل الذبائح على خدودها، فكان مما صدق عندنا هذا الحديث عن
إسماعيل في إشارته على أبيه بما أشار إذ قال: كبني على وجهي قوله: «وَتَلَّهُ
لِلْجَبِينِ.
وَنادَيْناهُ أَنْ يَا إِبْراهِيمُ. قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ
نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ.
إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ. وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ» .
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الْحَسَنِ
بْنِ دِينَارٍ، عَنْ قَتَادَةَ بْنِ دِعَامَةَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ إِيَاسٍ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: خَرَجَ عَلَيْهِ كَبْشٌ مِنَ الْجَنَّةِ
قَدْ رَعَاهَا قَبْلَ ذَلِكَ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا، فَأَرْسَلَ إِبْرَاهِيمُ
ابْنَهُ فَاتَّبَعَ الْكَبْشَ، فَأَخْرَجَهُ إِلَى الْجَمْرَةِ الأُولَى فَرَمَاهُ
بِسَبْعِ حصيات،
(1/275)
فَأَفْلَتَهُ عِنْدَهُ،
فَجَاءَ الْجَمْرَةَ الْوُسْطَى، فَأَخْرَجَهُ عِنْدَهَا، فَرَمَاهُ بِسَبْعِ
حَصَيَاتٍ، ثُمَّ أَفْلَتَهُ فَأَدْرَكَهُ عِنْدَ الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى،
فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، فَأَخْرَجَهُ عِنْدَهَا، ثُمَّ أَخَذَهُ فَأَتَى
بِهِ الْمَنْحَرَ مِنْ مِنًى فذبحه، فو الذى نَفْسُ ابْنِ عَبَّاسٍ بِيَدِهِ،
لَقَدْ كَانَ أَوَّلَ الإِسْلامِ، وَإِنَّ رَأْسَ الْكَبْشِ لَمُعَلَّقٌ
بِقَرْنَيْهِ فِي مِيزَابِ الْكَعْبَةِ، وَقَدْ وَخُشَ- يَعْنِي قَدْ يَبُسَ.
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ الْقَزَّازُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنْ
حَمَّادٍ، عَنْ أَبِي عَاصِمٍ الْغَنَوِيِّ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، قَالَ: قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا أُمِرَ بِالْمَنَاسِكِ عَرَضَ لَهُ
الشَّيْطَانُ عِنْدَ الْمَسْعَى فَسَابَقَهُ، فَسَبَقَهُ إِبْرَاهِيمُ، ثُمَّ ذهب
به جبرئيل ع إِلَى جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، فَعَرَضَ لَهُ الشَّيْطَانُ، فَرَمَاهُ
بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، حَتَّى ذَهَبَ، ثُمَّ عَرَضَ لَهُ عِنْدَ الْجَمْرَةِ
الْوُسْطَى، فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ حَتَّى ذَهَبَ، ثُمَّ تَلَّهُ
لِلْجَبِينِ، وَعَلَى إِسْمَاعِيلَ قَمِيصٌ أَبْيَضُ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَتِ
إِنَّهُ لَيْسَ لِي ثَوْبٌ تُكَفِّنَنِي فِيهِ غَيْرَ هَذَا فَاخْلَعْهُ عنى،
فاكفني فيه، فالتفت ابراهيم ع فَإِذَا هُوَ بِكَبْشٍ أَعْيَنَ أَبْيَضَ أَقْرَنَ
فَذَبَحَهُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَقَدْ رَأَيْتُنَا نَتْبَعُ هَذَا الضَّرْبَ
مِنَ الْكِبَاشِ.
حَدَّثَنِي محمد بن عمرو، قال: حَدَّثَنِي أبو عاصم، قال: حَدَّثَنَا عيسى وحدثني
الحارث، قال: حدثنا الحسن، قال، حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد،
قوله: «وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ» ، قال: وضع وجهه للأرض قال: لا تذبحني وأنت تنظر
إلى وجهي عسى أن ترحمني، فلا تجهز علي، اربط يدي إلى رقبتي، ثم ضع وجهي للأرض.
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ يَمَانٍ، عَنْ سُفْيَانَ،
عَنْ جَابِرٍ، عَنْ أَبِي الطفيل، [عن على ع: «وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ» ،
قَالَ:
كَبْشٌ أَبْيَضُ أَقْرَنُ أَعْيَنُ مَرْبُوطٌ بِسَمَرٍ في ثبير]
(1/276)
حدثني يونس، قَالَ: أَخْبَرَنَا
ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي
رَبَاحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ» ، قَالَ: كَبْشٌ.
قَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: ذُبِحَ بِالْمَقَامِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ذُبِحَ
بِمِنًى فِي الْمَنْحَرِ.
حدثنا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ، قال: الكبش الذى ذبحه ابراهيم ع هُوَ الْكَبْشُ الَّذِي قَرَّبَهُ ابْنُ
آدَمَ فَتُقُبِّلَ مِنْهُ.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ سَعِيدِ
بْنِ جُبَيْرٍ:
«وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ» ، قَالَ: كَانَ الْكَبْشُ الَّذِي ذَبَحَهُ
إِبْرَاهِيمُ رُعِيَ فِي الْجَنَّةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَكَانَ كَبْشًا
أَمْلَحَ، صُوفُهُ مِثْلُ الْعِهْنِ الأَحْمَرِ.
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ، عَنْ
سُفْيَانَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عباس: «وَفَدَيْناهُ
بِذِبْحٍ عَظِيمٍ» ، قَالَ:
كَانَ وَعْلا.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عمرو ابن عبيد، عن
الحسن أنه كان يقول: ما فدي إسماعيل إلا بتيس كان من الأروى، أهبط عليه من ثبير،
وما يقول الله: «وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ» لذبيحته فقط، ولكنه الذبح على
دينه، فتلك السنة إلى يوم القيامة، فاعلموا أن الذبيحة تدفع ميتة السوء، فضحوا
عباد الله.
وقد قال أمية بن أبي الصلت في السبب الذي من أجله أمر إبراهيم بذبح ابنه شعرا،
ويحقق بقيله ما قال في ذلك الرواية التي رويناها عن السدي، وأن ذلك كان من إبراهيم
عن نذر كان منه، فأمره الله بالوفاء به، فقال:
ولإبراهيم الموفي بالنذر ... احتسابا وحامل الاجزال
(1/277)
بكره لم يكن ليصبر عنه ... أو
يراه في معشر اقيال
أي بني إني نذرتك ... لله شحيطا فاصبر فدى لك خالي
واشدد الصفد لا أحيد عن السكين ... حيد الأسير ذي الأغلال
وله مدية تخايل في اللحم ... جذام حنية كالهلال
بينما يخلع السرابيل عنه ... فكه ربه بكبش جلال
فخذن ذا فأرسل ابنك إني ... للذي قد فعلتما غير قال
والد يتقي وآخر مولود ... فطارا منه بسمع فعال
ربما تجزع النفوس من الأمر ... له فرجة كحل العقال
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ واضح، قال: حدثنا
الحسين- يعني ابن واقد- عن زيد، عن عكرمه: قوله عز وجل: «فَلَمَّا أَسْلَما» :
قال: أسلما جميعا لأمر الله، رضي الغلام بالذبح ورضي الأب بأن يذبحه.
قال: يا أبت اقذفني للوجه كيلا تنظر إلي فترحمني، وأنظر أنا إلى الشفرة فأجزع،
ولكن أدخل الشفرة من تحتي، وامض لأمر الله، فذلك قوله تعالى:
«فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ» ، فلما فعل ذلك ناديناه «أَنْ يَا
إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ»
ذكر ابتلاء الله ابراهيم بكلمات
وكان ممن امتحن الله به ابراهيم ع وابتلاه به- بعد ابتلائه إياه بما كان من أمره
وأمر نمرود بن كوش، ومحاولته إحراقه بالنار وابتلائه بما كان من أمره إياه بذبح
ابنه، بعد أن بلغ معه السعي ورجا نفعه ومعونته على ما يقربه من ربه عز وجل ورفعه
القواعد من البيت، ونسكه المناسك- ابتلاؤه جل جلاله بالكلمات التي أخبر الله عنه
أنه ابتلاه بهن فقال: «وَإِذِ ابْتَلى
(1/278)
إِبْراهِيمَ رَبُّهُ
بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ» وقد اختلف السلف من علماء الأمة في هذه الكلمات التي
ابتلاه الله بهن فأتمهن، فقال بعضهم: ذلك ثلاثون سهما، وهي شرائع الإسلام ذِكْرُ
مَنْ قَالَ ذَلِكَ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى،
قَالَ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ في قوله تعالى:
«وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ» ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
لَمْ يُبْتَلَ أَحَدٌ بهذا الدين فأقامه الا ابراهيم ع، ابْتَلاهُ اللَّهُ
تَعَالَى بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ، قَالَ: فَكَتَبَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ
الْبَرَاءَةَ فَقَالَ: «وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى» : عَشْرٌ مِنْهَا فِي
الأَحْزَابِ، وَعَشْرٌ مِنْهَا فِي بَرَاءَةَ، وَعَشْرٌ مِنْهَا فِي
الْمُؤْمِنِينَ، وَسَأَلَ سَائِلٌ، وَقَالَ: إِنَّ هَذَا الإِسْلامَ ثَلاثُونَ
سَهْمًا.
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ شَاهِينَ الْوَاسِطِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ
الطَّحَّانُ، عَنْ دَاوُدَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: مَا
ابْتُلِيَ أَحَدٌ بِهَذَا الدِّينِ فقام به كله غير ابراهيم ع، ابْتُلِيَ
بِالإِسْلامِ فَأَتَمَّهُ، فَكَتَبَ اللَّهُ لَهُ الْبَرَاءَةَ فقال:
«وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى» ، فَذَكَرَ عَشْرًا فِي بَرَاءَةَ «التَّائِبُونَ
الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ» وعشرا في الأحزاب: «إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ»
وعشرا في سوره المؤمنين إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: «وَالَّذِينَ هُمْ عَلى
صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ» ، وَعَشْرًا فِي سَأَلَ سائِلٌ: «وَالَّذِينَ هُمْ عَلى
صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ»
(1/279)
وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ أَحْمَدَ الْمَرْوَزِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ:
حَدَّثَنَا خَارِجَةُ بْنُ مُصْعَبٍ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ
عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: الإِسْلامُ ثَلاثُونَ سَهْمًا، وَمَا
ابْتُلِيَ أَحَدٌ بِهَذَا الدِّينِ فَأَقَامَهُ إِلا إِبْرَاهِيمُ، قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: «وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى» ، فَكَتَبَ اللَّهُ لَهُ بَرَاءَةً مِنَ
النَّارِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: ذَلِكَ عَشْرُ خِصَالٍ مِنْ سُنَنِ الإِسْلامِ، خَمْسٌ
مِنْهُنَّ فِي الرَّأْسِ، وَخَمْسٌ فِي الْجَسَدِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ:
حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا مَعْمَرٌ،
عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «وَإِذِ ابْتَلى
إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ» ، قَالَ: ابْتَلاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
بِالطَّهَارَةِ: خَمْسٍ فِي الرَّأْسِ وَخَمْسٍ فِي الْجَسَدِ، فِي الرَّأْسِ
قَصُّ الشَّارِبِ، وَالْمَضْمَضَةُ، وَالاسْتِنْشَاقُ، وَالسِّوَاكُ، وَفَرْقُ
الرَّأْسِ وَفِي الْجَسَدِ تَقْلِيمُ الأَظْفَارِ، وَحَلْقُ الْعَانَةِ،
وَالْخِتَانُ، وَنَتْفُ الإِبِطِ، وَغَسْلُ أَثَرِ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ
بِالْمَاءِ.
حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ،
عَنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ بِمِثْلِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ أَثَرَ الْبَوْلِ.
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا أبو هلال، قَالَ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ في قوله تعالى: «وَإِذِ ابْتَلى
إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ» ، قال: ابتلاه بالختان، وحلق العانة، وغسل القبل
والدبر، والسواك، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط قال أبو هلال: ونسيت
خصلة.
حَدَّثَنِي عبدان المروزي، قال: حَدَّثَنَا عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن
أبي جعفر، عن أبيه، عن مطر، عن أبي الجلد، قال: ابتلى
(1/280)
ابراهيم ع بعشره أشياء هن في
الإنسان سنة: المضمضة، والاستنشاق، وقص الشارب، والسواك، ونتف الإبط، وتقليم
الأظفار، وغسل البراجم، والختان، وحلق العانة، وغسل الدبر والفرج.
وقال آخرون نحو قول هؤلاء، غير أنهم قالوا: ست من العشر في جسد الإنسان، وأربع
منهن في المشاعر ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ:
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنِ ابْنِ
هُبَيْرَةَ، عَنْ حَنَشٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ:
«وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ» ، قَالَ: سِتٌّ
فِي الإِنْسَانِ وَأَرْبَعٌ فِي الْمَشَاعِرِ، فَالَّتِي فِي الإِنْسَانِ: حَلْقُ
الْعَانَةِ، وَالْخِتَانُ، وَنَتْفُ الإِبِطِ، وَتَقْلِيمُ الأَظْفَارِ، وَقَصُّ
الشَّارِبِ، وَالْغُسْلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَأَرْبَعٌ فِي الْمَشَاعِرِ:
الطَّوَافُ، وَالسَّعْيُ بَيْنَ الصفاء والمروة، ورمى الجمار، والإفاضة.
وقال آخرون: بل ذلك قوله: «إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً» ، وَمَنَاسِكُ
الْحَجِّ.
ذكر من قال ذلك:
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، قال: سمعت اسماعيل
ابن أَبِي خَالِدٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ: قَوْلُهُ: «وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ
رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ» ، مِنْهُنَّ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ
إِماماً وَآيَاتُ النُّسُكِ حَدَّثَنِي أبو السائب، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ
إِدْرِيسَ قَالَ: سَمِعْتُ إِسْمَاعِيلَ بن أبي خالد، عن أبي صالح، مولى أم هانئ
في قوله: «وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ» ، قال: منهن «إِنِّي
جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً» ، ومنهن آيات النسك
(1/281)
«وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ
الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ» .
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عاصم، قال: حدثنى
عيسى ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: «وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ
بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ» قال: قال الله لإبراهيم: إني مبتليك بأمر فما هو؟ قال:
تجعلني للناس إماما، قال: نعم، «قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي
الظَّالِمِينَ» ، قال:
تجعل البيت مثابة للناس، قال: نعم، قال: وتجعل هذا البلد أمنا، قال:
نعم، قال: وتجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك، قال:
نعم، قال: وترينا مناسكنا وتتوب علينا، قال: نعم، قال: وترزق أهله من الثمرات من
آمن منهم؟ قال: نعم.
حَدَّثَنِي القاسم، قال: حَدَّثَنَا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن
مجاهد بنحوه قال ابن جريج: فاجتمع على هذا القول مجاهد وعكرمة.
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ
أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ
فَأَتَمَّهُنَّ» ، قَالَ: ابْتُلِيَ بِالآيَاتِ الَّتِي بَعْدَهَا: «إِنِّي
جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي
الظَّالِمِينَ» .
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حذيفة، قال:
حدثنا شبل، عن ابن أبي نَجِيحٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي بِهِ عِكْرِمَةُ، قَالَ:
فَعَرَضْتُهُ عَلَى مُجَاهِدٍ فَلَمْ يُنْكِرْهُ.
حَدَّثَنِي موسى بْنُ هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ،
عَنِ السُّدِّيِّ: الْكَلِمَاتُ الَّتِي ابْتُلِيَ بِهِنَّ إِبْرَاهِيمُ: «رَبَّنا
تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ
(1/282)
أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً
لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ
رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ» .
حدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عَنِ
الرَّبِيعِ، فِي قَوْلِهِ: «وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ» قال:
الكلمات: «إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً» ، وَقَوْلِهِ: «وَإِذْ جَعَلْنَا
الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً» ، وقوله: «وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ
إِبْراهِيمَ مُصَلًّى» وقوله: «وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ»
الآيَةَ، وَقَوْلِهِ: «وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ»
الآيَةَ قَالَ فَذَلِكَ كُلُّهُ مِنَ الْكَلِمَاتِ الَّتِي ابْتُلِيَ بِهِنَّ
إِبْرَاهِيمُ.
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي
عَمِّي، قَالَ:
حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ في قوله تعالى: «وَإِذِ
ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ» ، قال: منهن «إِنِّي
جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً» ، وَمِنْهُنَّ:
«وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ» ، وَمِنْهُنَّ الآيَاتُ
فِي شَأْنِ الْمَنْسَكِ وَالْمَقَامِ الَّذِي جُعِلَ لإِبْرَاهِيمَ، وَالرِّزْقُ
الَّذِي رَزَقَ سَاكِنَ الْبَيْتِ، ومحمد ص بُعِثَ فِي ذُرِّيَّتِهِمَا.
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ ذَلِكَ مَنَاسِكُ الْحَجِّ خَاصَّةً.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ:
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلْمُ بْنُ قُتَيْبَةَ، قَالَ:
حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ نَبْهَانَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي
قَوْلِهِ: «وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ» قَالَ: مَنَاسِكُ
الْحَجِّ
(1/283)
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ
مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: كان ابْنِ
عَبَّاسٍ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: «وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ»
قَالَ: هِيَ الْمَنَاسِكُ.
حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ،
عَنْ أَبِيهِ قَالَ: بَلَغَنَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ
الْكَلِمَاتِ الَّتِي ابْتُلِيَ بِهِنَّ إِبْرَاهِيمُ هي المناسك.
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ الأَهْوَازِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو
أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ،
عَنِ التَّمِيمِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قوله: «وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ
رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ» ، قَالَ: مَنَاسِكُ الْحَجِّ.
حَدَّثَنِي ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنِي الْحِمَّانِيُّ، قَالَ:
حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ التَّمِيمِيِّ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ مِثْلَهُ.
حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال:
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ابْتَلاهُ بِالْمَنَاسِكِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ ابْتَلاهُ بِأُمُورٍ مِنْهُنَّ الْخِتَانُ.
ذِكْرُ مَنْ قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا سَلْمُ بْنُ قُتَيْبَةَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ أَبِي
إِسْحَاقَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ: «وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ» ،
قَالَ: مِنْهُنَّ الْخِتَانُ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا يُونُسُ ابن أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ يَقُولُ
فَذَكَرَ مِثْلَهُ.
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابو احمد، قَالَ:
حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ-
وَسَأَلَهُ أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ قَوْلِهِ
(1/284)
عَزَّ وَجَلَّ: «وَإِذِ
ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ» - قَالَ: مِنْهُنَّ الْخِتَانُ يَا أَبَا
إِسْحَاقَ.
وَقَالَ آخَرُونَ: ذَلِكَ الْخِلالُ السِّتُّ: الْكَوْكَبُ، وَالْقَمَرُ،
وَالشَّمْسُ، وَالنَّارُ، وَالْهَجْرَةُ، وَالْخِتَانُ، الَّتِي ابْتُلِيَ بِهِنَّ
أَجْمَعُ فَصَبَرَ عَلَيْهِنَّ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ:
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ علية، عَنْ
أَبِي رَجَاءٍ، قَالَ:
قُلْتُ لِلْحَسَنِ: «وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ
فَأَتَمَّهُنَّ» ، قَالَ: ابْتَلاهُ بِالْكَوْكَبِ فَرَضِيَ عَنْهُ، وَابْتَلاهُ
بِالْقَمَرِ فَرَضِيَ عَنْهُ، وَابْتَلاهُ بِالشَّمْسِ فَرَضِيَ عَنْهُ،
وَابْتَلاهُ بِالنَّارِ فَرَضِيَ عَنْهُ، وَابْتَلاهُ بِالْهِجْرَةِ، وَابْتَلاهُ
بِالْخِتَانِ.
حدثنا بشر، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سعيد، عن
قتادة، قال: كان الحسن يقول: إن الله ابتلاه بأمر فصبر عليه، ابتلاه بالكوكب
والشمس والقمر، فأحسن في ذلك، وعرف أن ربه دائم لا يزول، فوجه وجهه للذي فطر
السموات والأرض حنيفا وما كان من المشركين، وابتلاه بالهجرة فخرج من بلاده وقومه
حتى لحق بالشام مهاجرا إلى الله تعالى، ثم ابتلاه بالنار قبل الهجرة فصبر على ذلك،
وابتلاه بذبح ابنه وبالختان، فصبر على ذلك.
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا مَعْمَرٌ،
عَمَّنْ سَمِعَ الْحَسَنَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: «وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ
رَبُّهُ بِكَلِماتٍ» ، قال: ابتلاه بذبح ولده، وبالنار وبالكوكب، وَبِالشَّمْسِ،
وَبِالْقَمَرِ.
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلْمُ بْنُ قُتَيْبَةَ، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَبُو هِلالٍ عَنِ الْحَسَنِ: «وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ»
، قَالَ: ابْتَلاهُ بِالْكَوْكَبِ، وَبِالشَّمْسِ وَبِالْقَمَرِ، فَوَجَدَهُ
صَابِرًا
(1/285)
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ
إِسْحَاقَ بْنِ الْمُخْتَارِ، قَالَ: حَدَّثَنِي غَسَّانُ بْنُ الرَّبِيعِ، قَالَ:
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ- وَهُوَ ابْنُ ثَوْبَانَ- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الْفَضْلِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ:
[قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اخْتَتَنَ
إِبْرَاهِيمُ بَعْدَ ثَمَانِينَ سنه بالقدوم] .
وقد روى عن النبي ص في الكلمات التي ابتلي بهن إبراهيم خبران:
أحدهما: ما حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ
عَطِيَّةَ، قَالَ:
حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ
أَبِي امامه، قال:
[قال رسول الله ص: «وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى» قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا وَفَّى؟
قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: وَفَّى عَمَلَ يَوْمِهِ أَرْبَعَ
رَكَعَاتٍ فِي النَّهَارِ] .
والآخر منهما ما حَدَّثَنَا بِهِ أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا رِشْدِينُ
بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا زَبَّانُ بْنُ فَائِدٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ
بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ:
[كان النبي ص يَقُولُ: أَلا أُخْبِرُكُمْ لِمَ سَمَّى اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ
خَلِيلَهُ «الَّذِي وَفَّى» ؟ لأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ كُلَّمَا أَصْبَحَ
وَكُلَّمَا أَمْسَى: «فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ»
حَتَّى خَتَمَ الآيَةَ] .
فَلَمَّا عَرَفَ اللَّهُ تعالى مِنْ إِبْرَاهِيمَ الصَّبْرَ عَلَى كُلِّ مَا
ابْتَلاهُ بِهِ، وَالْقِيَامَ بِكُلِّ مَا أَلْزَمَهُ مِنْ فَرَائِضِهِ،
وَإِيثَارَهُ طَاعَتَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ سِوَاهَا، اتَّخَذَهُ خَلِيلا،
وَجَعَلَهُ لِمَنْ بَعْدَهُ مِنْ خَلْقِهِ إِمَامًا، وَاصْطَفَاهُ إِلَى خَلْقِهِ
رَسُولا، وَجَعَلَ فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَالرِّسَالَةَ،
وَخَصَّهُمْ بِالْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ، وَالْحِكَمِ الْبَالِغَةِ، وَجَعَلَ
مِنْهُمُ الأَعْلامَ وَالْقَادَةَ وَالرُّؤَسَاءَ وَالسَّادَةَ، كُلَّمَا مَضَى
مِنْهُمْ نَجِيبٌ خَلَفَهُ سَيِّدٌ رَفِيعٌ، وَأَبْقَى لَهُمْ ذِكْرًا فِي
الآخَرِينَ، فَالأُمَمُ كُلُّهَا تَتَوَلاهُ وَتُثْنِي عَلَيْهِ، وَتَقُولُ
بِفَضْلِهِ إِكْرَامًا مِنَ اللَّهِ لَهُ بِذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، وَمَا ادخر له
في الآخرة من الكرامة
(1/286)
أجل وأعظم من أن يحيط به وصف
واصف
امر نمرود بن كوش بن كنعان
ونرجع الآن إلى الخبر عن عدو الله وعدو إبراهيم الذي كذب بما جاء به من عند الله،
ورد عليه النصيحة التي نصحها له جهلا منه، واغترارا بحلم الله تعالى عنه، نمرود بن
كوش بن كنعان بن حام بن نوح، وما آل إليه أمره في عاجل دنياه حين تمرد على ربه، مع
إملاء الله إياه، وتركه تعجيل العذاب له على كفره به، ومحاولته إحراق خليله بالنار
حين دعاه إلى توحيد الله والبراءة من الآلهة والأوثان، وأن نمرود لما تطاول عتوه
وتمرده على ربه مع إملاء الله تعالى له- فيما ذكر- أربعمائة عام، لا تزيده حجج
الله التي يحتج بها عليه، وعبره التي يريها إياه إلا تماديا في غيه، عذبه الله-
فيما ذكر- في عاجل دنياه قدر إملائه إياه من المدة بأضعف خلقه، وذلك بعوضة سلطها عليه
توغلت في خياشيمه فمكث أربعمائة سنه يعذب بها في حياته الدنيا.
ذكر الأخبار الواردة عنه بما ذكرت من جهله وما أحل الله به من نقمته:
حَدَّثَنِي الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن زيد بن
أسلم، أن أول جبار كان في الأرض نمرود، وكان الناس يخرجون فيمتارون من عنده
الطعام، فخرج إبراهيم يمتار مع من يمتار، فإذا مر به ناس قال: من ربكم؟ قالوا:
أنت، حتى مر به إبراهيم، قال:
من ربك؟ قال: «رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ
قالَ إِبْراهِيمُ
(1/287)
فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي
بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي
كَفَرَ» قال: فرده بغير طعام، قال: فرجع إبراهيم إلى أهله فمر على كثيب أعفر،
فقال: هلا آخذ من هذا فآتي به أهلي فتطيب أنفسهم حين أدخل عليهم! فأخذ منه، فأتى
أهله قال: فوضع متاعه ثم نام، فقامت امرأته إلى متاعه ففتحته فإذا هي بأجود طعام
رآه أحد، فصنعت له منه، فقربته إليه- وكان عهد أهله ليس عندهم طعام- فقال: من أين
هذا؟ قالت: من الطعام الذي جئت به، فعلم أن الله قد رزقه، فحمد الله.
ثم بعث الله إلى الجبار ملكا: أن آمن بي وأتركك على ملكك، قال:
فهل رب غيري؟ فجاءه الثانية فقال له ذلك، فأبى عليه، ثم أتاه الثالثة فأبى عليه،
فقال له الملك: اجمع جموعك إلى ثلاثة أيام، فجمع الجبار جموعه.
فأمر الله الملك، ففتح عليهم بابا من البعوض، فطلعت الشمس فلم يروها من كثرتها،
فبعثها الله عليهم، فأكلت لحومهم وشربت دماءهم، فلم يبق إلا العظام، والملك كما هو
لم يصبه من ذلك شيء، فبعث الله عليه بعوضة فدخلت في منخره، فمكث أربعمائة سنة يضرب
رأسه بالمطارق، وأرحم الناس به من جمع يديه ثم ضرب بهما رأسه وكان جبارا أربعمائة
عام، فعذبه الله أربعمائة سنة كملكه وأماته الله، وهو الذي بنى صرحا إلى السماء،
فأتى الله بنيانه من القواعد، وهو الذي قال الله: «فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ
مِنَ الْقَواعِدِ» حدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا
أسباط، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس- وعن مرة عن ابن
مسعود، وعن ناس من أصحاب النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
(1/288)
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:
أَمَرَ الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ بِإِبْرَاهِيمَ، فَأُخْرِجَ-
يَعْنِي مِنْ مَدِينَتِهِ- قَالَ: فَأُخْرِجَ فَلَقِيَ لُوطًا عَلَى بَابِ
الْمَدِينَةِ- وَهُوَ ابْنُ أَخِيهِ- فَدَعَاهُ فَآمَنَ بِهِ، وَقَالَ: «إِنِّي
مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي» ، وَحَلَفَ نُمْرُودُ أَنْ يَطْلُبَ إِلَهَ إِبْرَاهِيمَ،
فَأَخَذَ أَرْبَعَةَ أَفْرُخٍ مِنْ فرَاخِ النُّسُورِ، فَرَبَّاهُنَّ بِاللَّحْمِ
وَالْخَمْرِ، حَتَّى إِذَا كَبُرْنَ وَغَلُظْنَ وَاسْتَعْلَجْنَ، قَرَنَهُنَّ
بِتَابُوتٍ، وَقَعَدَ فِي ذَلِكَ التَّابُوتِ، ثُمَّ رَفَعَ رِجْلا مِنْ لَحْمٍ
لَهُنَّ، فَطِرْنَ بِهِ، حَتَّى إِذَا ذَهَبْنَ فِي السَّمَاءِ أَشْرَفَ يَنْظُرُ
إِلَى الأَرْضِ، فَرَأَى الْجِبَالَ تَدُبُّ كَدَبِيبِ النَّمْلِ، ثُمَّ رَفَعَ
لَهُنَّ اللَّحْمَ، ثُمَّ نَظَرَ فَرَأَى الأَرْضَ مُحِيطًا بِهَا بَحْرٌ
كَأَنَّهَا فَلْكَةٌ فِي مَاءٍ، ثُمَّ رَفَعَ طَوِيلا فَوَقَعَ فِي ظُلْمَةٍ،
فَلَمْ يَرَ مَا فَوْقَهُ وَلَمْ يَرَ مَا تَحْتَهُ، فَفَزِعَ فَأَلْقَى اللَّحْمَ
فَاتَّبَعَتْهُ مُنْقَضَّاتٍ، فَلَمَّا نَظَرَتِ الْجِبَالُ إِلَيْهِنَّ وَقَدْ
أَقْبَلْنَ مُنْقَضَّاتٍ وَسَمِعْنَ حَفِيفَهُنَّ فَزِعَتِ الْجِبَالُ، وَكَادَتْ
أَنْ تَزُولَ مِنْ أَمْكِنَتِهَا وَلَمْ يَفْعَلْنَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ
وَجَلَّ: «وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ
مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ» ، وَهِيَ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ:
«وَإِنْ كَادَ مَكْرُهُمْ» فَكَانَ طَيَرَانُهُنَّ بِهِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ،
وَوُقُوعُهُنَّ فِي جَبَلِ الدُّخَانِ، فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ لا يُطِيقُ شَيْئًا
أَخَذَ فِي بِنَاءِ الصَّرْحِ، فَبَنَى حَتَّى إِذَا أَسْنَدَهُ إِلَى السَّمَاءِ
ارْتَقَى فَوْقَهُ يَنْظُرَ- بِزَعْمِهِ- إِلَى إِلَهِ إِبْرَاهِيمَ، فَأَحْدَثَ
وَلَمْ يَكُنْ يُحْدِثُ، وَأَخَذَ اللَّهُ بُنْيَانَهُ مِنَ الْقَوَاعِدِ:
«فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ
لا يَشْعُرُونَ» ، يقول: مِنْ مَأْمَنِهِمْ، وَأَخَذَهُمْ مِنْ أَسَاسِ الصَّرْحِ،
فَتَنَقَّضَ بهم ثم سقط فَتَبَلْبَلَتْ أَلْسُنُ النَّاسِ مِنْ يَوْمِئِذٍ مِنَ
الْفَزَعِ، فَتَكَلَّمُوا بِثَلاثَةٍ وَسَبْعِينَ لِسَانًا، فَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ
بَابِلَ، وَإِنَّمَا كَانَ لِسَانُ النَّاسِ قَبْلَ ذَلِكَ السِّرْيَانِيَّةَ
(1/289)
حَدَّثَنَا ابن وكيع، قال:
حَدَّثَنَا أبو داود الحفري، عن يعقوب، عن حفص بن حميد- أو جعفر- عن سعيد بن جبير:
«وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ» ، قال: نمرود صاحب النسور،
أمر بتابوت فجعل وجعل معه رجلا ثم أمر بالنسور فاحتملته، فلما صعد قال لصاحبه: أي
شيء ترى؟ قال: أرى الماء والجزيرة- يعني الدنيا- ثم صعد وقال لصاحبه: أي شيء ترى؟
قال: ما نزداد من السماء إلا بعدا، قال: اهبط، وقال غيره:
نودي: أيها الطاغية، أين تريد؟ فسمعت الجبال حفيف النسور، وكانت ترى أنه أمر من
السماء فكادت تزول، فهو قوله تعالى: «وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ
الْجِبالُ» .
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي
عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ دَانِيلٍ، [ان عليا ع قَالَ فِي هَذِهِ الآيَةِ: «وَإِنْ كانَ
مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ» ، قَالَ: أَخَذَ ذَلِكَ الَّذِي حَاجَّ
إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ نِسْرَيْنِ صَغِيرَيْنِ، فَرَبَّاهُمَا حَتَّى
اسْتَغْلَظَا وَاسْتَعْلَجَا فَشَبَّا، قَالَ: فَأَوْثَقَ رِجْلَ كُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا بِوَتَرٍ إِلَى تَابُوتٍ، وَجَوَّعَهُمَا وَقَعَدَ هُوَ وَرَجُلٌ آخَرَ
فِي التَّابُوتِ، قَالَ: وَرَفَعَ فِي التَّابُوتِ عَصًا عَلَى رَأْسِهِ
اللَّحْمُ، فَطَارَا، وَجَعَلَ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ: انْظُرْ مَاذَا تَرَى؟ قَالَ:
أَرَى كَذَا وَكَذَا، حَتَّى قَالَ: أَرَى الدُّنْيَا كَأَنَّهَا ذُبَابٌ،
فَقَالَ: صَوِّبْ، فَصَوَّبَهَا، فَهَبِطَا قَالَ:
فَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: «وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ
الْجِبالُ» قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ:
وَلِذَلِكَ هِيَ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: «وَإِنْ كَادَ مَكْرُهُمْ] » .
فَهَذَا مَا ذُكِرَ مِنْ خَبَرِ نَمْرُودَ بْنِ كُوشِ بْنِ كَنْعَانَ وَقَدْ قَالَ
جَمَاعَةٌ: إِنَّ نَمْرُودَ بْنَ كُوشِ بْنِ كَنْعَانَ هَذَا مَلَكَ مَشْرِقَ
الأَرْضِ وَمَغْرِبِهَا، وَهَذَا قَوْلٌ يَدْفَعُهُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِسِيَرِ
الْمُلُوكِ وَأَخْبَارِ الْمَاضِينَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ
(1/290)
لا يَدْفَعُونَ وَلا يُنْكِرُونَ أَنَ مَوْلِدَ إِبْرَاهِيمَ كان في عهد الضحاك بن اندرماسب الذي قد ذكرنا بعض أخباره فيما مضى، وأن ملك شرق الأرض وغربها يومئذ كان الضحاك وقد قال بعض من أشكل عليه أمر نمرود ممن عرف زمان الضحاك وأسبابه فلم يدر كيف الأمر في ذلك مع سماعه ما انتهى إليه من الأخبار عمن روي عنه أنه قال: ملك الأرض كافران ومؤمنان، فأما الكافران فنمرود وبختنصر، وأما المؤمنان فسليمان بن داود وذو القرنين وقول القائلين من أهل الأخبار إن الضحاك كان هو ملك شرق الأرض وغربها في عهد إبراهيم نمرود: هو الضحاك وليس الأمر في ذلك عند أهل العلم بأخبار الأوائل، والمعرفة بالأمور السوالف، كالذي ظن، لأن نسب نمرود في النبط معروف، ونسب الضحاك في عجم الفرس مشهور، ولكن ذوي العلم بأخبار الماضين وأهل المعرفة بامور السافلين من الأمم ذكروا أن الضحاك كان ضم إلى نمرود السواد وما اتصل به يمنة ويسرة، وجعله وولده عماله على ذلك، وكان هو يتنقل في البلاد، وكان وطنه الذي هو وطنه ووطن أجداده دنباوند، من جبال طبرستان، وهنالك رمى به أفريدون حين ظفر به وقهره موثقا بالحديد وكذلك بختنصر كان أصبهبذ ما بين الأهواز إلى أرض الروم من غربي دجلة من قبل لهراسب، وذلك أن لهراسب كان مشتغلا بقتال الترك، مقيما بإزائهم ببلخ، وهو بناها- فيما قيل- لما تطاول مكثه هنالك لحرب الترك، فظن من لم يكن عالما بأمور القوم بتطاول مدة ولايتهم أمر الناحية لمن ولوا له أنهم كانوا هم الملوك ولم يدع أحد من أهل العلم بأمور الأوائل وأخبار الملوك الماضية وأيام الناس فيما نعلمه أن أحدا من النبط كان ملكا برأسه على شبر من الارض، فكيف يملك شرق الأرض وغربها! ولكن العلماء من أهل الكتاب وأهل المعرفة بأخبار الماضين ومن قد عانى النظر في كتب التأريخات، يزعمون أن ولاية نمرود إقليم بابل من قبل الازدهاق بيوراسب دامت أربعمائة سنة، ثم لرجل من نسله من بعد هلاك نمرود، يقال
(1/291)
له نبط بن قعود مائة سنة، ثم
لداوص بن نبط من بعد نبط ثمانين سنة، ثم من بعد داوص بن نبط لبالش بن داوص مائة
وعشرين سنة، ثم لنمرود بن بالش من بعد بالش سنة وأشهرا فذلك سبعمائة سنة وسنة
وأشهر، وذلك كله في أيام الضحاك، فلما ملك أفريدون وقهر الازدهاق قتل نمرود بن
بالش وشرد النبط وطردهم، وقتل منهم مقتلة عظيمة، لما كان منهم من معاونتهم بيوراسب
على أموره، وعمل نمرود وولده له.
وقد زعم بعض أهل العلم أن بيوراسب قد كان قبل هلاكه تنكر لهم.
وتغير عما كان لهم عليه
. ذكر لوط بن هاران وقومه
ونعود الآن إلى ذكر الخبر عن بقية الاحداث التي كانت في ايام ابراهيم ص.
وكان من الكائن أيام حياته من ذلك ما كان من أمر لوط بن هاران ابن تارخ، ابن أخي
ابراهيم ع وأمر قومه من سدوم وكان من أمره فيما ذكر أنه شخص من أرض بابل مع عمه
إبراهيم خليل الرحمن، مؤمنا به، متبعا له على دينه، مهاجرا إلى الشام، ومعهما سارة
بنت ناحور.
وبعضهم يقول: هي ساره بنت هيبال بن ناحور وشخص معهم- فيما قيل- تارخ أبو إبراهيم
مخالفا لإبراهيم في دينه، مقيما على كفره حتى صاروا إلى حران، فمات تارخ وهو آزر
أبو إبراهيم بحران على كفره وشخص إبراهيم ولوط وسارة إلى الشام، ثم مضوا إلى مصر،
فوجدوا بها فرعونا من فراعنتها، ذكر أنه كان سنان بن علوان بن عبيد بن عويج بن
عملاق بن لاوذ ابن سام بن نوح وقد قيل إن فرعون مصر يومئذ كان أخا للضحاك، كان
(1/292)
الضحاك وجهه إليها عاملا عليها
من قبله- وقد ذكرت بعض قصته مع إبراهيم فيما مضى قبل- ثم رجعوا عودا على بدئهم إلى
الشام وذكر أن إبراهيم نزل فلسطين، وأنزل ابن أخيه لوطا الأردن، وأن الله تعالى
أرسل لوطا إلى أهل سدوم، وكانوا أهل كفر بالله وركوب فاحشة، كما أخبر الله عن قوم
لوط: «إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ
الْعالَمِينَ أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ
وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ» .
وكان قطعهم السبيل- فيما ذكر- إتيانهم الفاحشة إلى من ورد بلدهم.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ:
حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابن وهب، قال: قال
ابن زيد في قوله تعالى: «وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ» ، قال: السبيل طريق المسافر
إذا مر بهم، وهو ابن السبيل قطعوا به وعملوا به ذلك العمل الخبيث.
وأما إتيانهم ما كانوا يأتونه من المنكر في ناديهم، فإن أهل العلم اختلفوا فيه،
فقال بعضهم: كانوا يحذفون من مر بهم.
وقال بعضهم: كانوا يتضارطون في مجالسهم.
وقال بعضهم: كان بعضهم ينكح بعضا فيها.
ذكر من قال كانوا يحذفون من مر بهم:
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ واضح، قال: حدثنا عمر
ابن ابى زائده، قال: سمعت عكرمة يقول في قوله: «وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ
الْمُنْكَرَ» ، قال: كانوا يؤذون أهل الطريق، يحذفون من مر بهم
(1/293)
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ،
قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ عمر بن ابى زائده، قال: سمعت عكرمة، قال: الحذف.
حَدَّثَنَا مُوسَى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي
في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس- وعن مرة الهمداني عن ابْنِ
مَسْعُودٍ- وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ الله ص: «وَتَأْتُونَ فِي
نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ» ، قَالَ: كَانُوا كُلَّ مَنْ مَرَّ بِهِمْ حَذَفُوهُ، وَهُوَ
الْمُنْكَرُ.
ذَكَرَ مَنْ قَالَ: كَانُوا يَتَضَارَطُونَ فِي مَجَالِسِهِمْ:
حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الأَسْوَدِ الطُّفَاوِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ رَبِيعَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ غُطَيْفٍ الثَّقَفِيُّ،
عَنْ عَمْرِو بن مصعب، عن عروه ابن الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ فِي قَوْلِهِ
تَعَالَى: «وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ» ، قَالَتِ:
الضُّرَاطُ ذِكْرُ مَنْ قَالَ كَانَ يَأْتِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي
مَجَالِسِهِمْ:
حَدَّثَنَا ابن وكيع وابن حميد، قالا: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ
مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: «وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ» ، قَالَ: كَانَ
بَعْضُهُمْ يَأْتِي بَعْضًا فِي مَجَالِسِهِمْ.
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ثَابِتُ بْنُ
مُحَمَّدٍ اللَّيْثِيُّ، قَالَ:
حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ
مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:
«وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ» ، قَالَ: كَانَ يُجَامِعُ بَعْضُهُمْ
بَعْضًا فِي الْمَجَالِسِ.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عَمْرٍو، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ
مِثْلَهُ
(1/294)
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ،
قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ:
كَانُوا يُجَامِعُونَ الرِّجَالَ فِي مَجَالِسِهِمْ.
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى.
وحدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن
مجاهد: «وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ» ، قَالَ: الْمَجَالِسُ،
وَالْمُنْكَرُ إِتْيَانُهُمُ الرِّجَالَ.
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
«وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ» ، قَالَ: كَانُوا يَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ
فِي نَادِيهِمْ.
حَدَّثَنِي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:
«وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ» قال: ناديهم المجالس، والمنكر عملهم
الخبيث الذي كانوا يعملونه، كانوا يعترضون الراكب فيأخذونه فيركبونه، وقرأ:
«أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ» وقرأ: «مَا سَبَقَكُمْ بِها
مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ» .
وقد حَدَّثَنَا ابن وكيع، قال: حَدَّثَنَا إسماعيل بن علية، عن ابن أبي نجيح، عن
عمرو بن دينار: قوله: «مَا سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ» ، ما
نزا ذكر على ذكر حتى كان قوم لوط.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي قول من قال: عنى بالمنكر الذي كانوا
يأتونه في ناديهم في هذا الموضع حذفهم من مر بهم وسخريتهم منه، للخبر الوارد بذلك
عن رسول الله ص، الَّذِي حَدَّثَنَاهُ أَبُو كُرَيْبٍ وَابْنُ وَكِيعٍ، قَالا:
حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ حَاتِمِ بْنِ أَبِي صَغِيرَةَ، عَنْ سِمَاكِ
بْنِ حَرْبٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ مَوْلَى أُمِّ هَانِئٍ، عَنْ أُمِّ هَانِئٍ
(1/295)
[عن رسول الله ص فِي قَوْلِهِ
تَعَالَى: «وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ» ، قَالَ: كَانُوا يَحْذِفُونَ
أَهْلَ الطَّرِيقِ وَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ، وَهُوَ الْمُنْكَرُ الَّذِي كَانُوا
يَأْتُونَهُ] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ الضَّبِّيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا
سُلَيْمَانُ بْنُ حَيَّانَ، قَالَ:
أَخْبَرَنَا أَبُو يُونُسَ الْقُشَيْرِيُّ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ أَبِي
صَالِحٍ، [عَنْ أم هانئ، قالت: سالت النبي ص عن قوله: «وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ
الْمُنْكَرَ» ، قَالَ: كَانُوا يَحْذِفُونَ أَهْلَ الطَّرِيقِ وَيَسْخَرُونَ
مِنْهُمْ] حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسَدُ بْنُ
مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ
أَبِي صَغِيرَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ بَاذَامَ أَبِي
صَالِحٍ، مَوْلَى أُمِّ هَانِئٍ، عَنْ أُمِّ هَانِئٍ، قالت:
سالت النبي ص عَنْ هَذِهِ الآيَةِ: «وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ» ،
فَقَالَ: كَانُوا يَجْلِسُونَ بِالطَّرِيقِ فَيَحْذِفُونَ أَبْنَاءَ السَّبِيلِ
ويسخرون منهم، فكان لوط ع يَدْعُوهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ، وَيَنْهَاهُمْ
بِأَمْرِ اللَّهِ إِيَّاهُ عَنِ الأُمُورِ الَّتِي كَرِهَهَا اللَّهُ تَعَالَى
لَهُمْ مِنْ قَطْعِ السَّبِيلِ وَرُكُوبِ الْفَوَاحِشِ وَإِتْيَانِ الذُّكُورِ فِي
الأَدْبَارِ، وَيَتَوَعَّدُهُمْ- عَلَى إِصْرَارِهِمْ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ
مُقِيمِينَ مِنْ ذَلِكَ وَتَرَكِهِمُ التَّوْبَةَ مِنْهُ- الْعَذَابُ الأَلِيمُ
فَلا يَزْجُرُهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَعِيدُهُ وَلا يَزِيدُهُمْ وَعْظُهُ إِلا
تَمَادِيًا وعتوا واستعجالا لعذاب الله، إِنْكَارًا مِنْهُمْ وَعِيدَهُ،
وَيَقُولُونَ لَهُ: «ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» ،
حَتَّى سَأَلَ لُوطٌ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ النُّصْرَةَ عَلَيْهِمْ لَمَّا
تَطَاوَلَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ وَأَمْرُهُمْ وَتَمَادِيهِمْ فِي غَيِّهِمْ، فَبَعَثَ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَمَّا أَرَادَ خِزْيَهُمْ وَهَلاكَهُمْ وَنُصْرَةَ رَسُولِهِ
لُوطٍ عَلَيْهِمْ جبرئيل ع وَمَلَكَيْنِ آخَرَيْنِ مَعَهُ.
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْمَلَكَيْنِ الآخَرَيْنِ كَانَ أَحَدُهُمَا مِيكَائِيلَ
وَالآخَرُ إِسْرَافِيلَ
(1/296)
فَأَقْبَلُوا- فِيمَا ذُكِرَ-
مُشَاةً فِي صُورَةِ رِجَالٍ شَبَابٍ.
ذكر بعض من قال ذلك: حَدَّثَنَا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال:
حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس- وعن
مرة الهمداني عن ابن مسعود- وعن ناس من أصحاب النبي ص: بعث الله الملائكة لتهلك
قوم لوط، فأقبلت تمشي في صورة رجال شباب، حتى نزلوا عَلَى إِبْرَاهِيمَ
فَتَضَيَّفُوهُ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ وَأَمْرِ إِبْرَاهِيمَ مَا قَدْ مَضَى
ذِكْرُنَا إِيَّاهُ فِي خَبَرِ إِبْرَاهِيمَ وَسَارَّةَ فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ
إِبْرَاهِيمَ الروع جاءته البشرى، واطلعته الرُّسُلُ عَلَى مَا جَاءُوا لَهُ، وَأَنَّ
اللَّهَ أَرْسَلَهُمْ لِهَلاكِ قَوْمِ لُوطٍ نَاظَرَهُمْ إِبْرَاهِيمُ
وَحَاجَّهُمْ في ذلك كما اخبر الله عنه فقال:
«فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي
قَوْمِ لُوطٍ» .
وَكَانَ جِدَالُهُ إِيَّاهُمْ فِي ذَلِكَ- فِيمَا بَلَغَنا- مَا حَدَّثَنَا بِهِ
ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا يعقوب القمي، قال: حَدَّثَنَا جعفر، عن سعيد «يُجادِلُنا فِي قَوْمِ
لُوطٍ» قال: لما جاءه جبرئيل ومن معه، قالوا لإبراهيم: «إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ
هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ» قال لهم ابراهيم: اتهلكون
قريه فيها أربعمائة مؤمن؟ قالوا: لا، قال: أفتهلكون قرية فيها ثلاثمائة مؤمن؟
قالوا:
لا، قال: أفتهلكون قرية فيها مائتا مؤمن؟ قالوا: لا، قال: أفتهلكون قرية فيها مائة
مؤمن؟ قالوا: لا، قال: أفتهلكون قرية فيها أربعون مؤمنا؟
قالوا: لا، قال: أفتهلكون قرية فيها أربعة عشر مؤمنا؟ قالوا: لا، وكان ابراهيم
يعدهم أربعة عشر بامرأة لوط، فسكت عنهم، واطمأنت نفسه
(1/297)
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ،
قَالَ: حَدَّثَنَا الْحِمَّانِيُّ، عَنِ الأعمش، عن المنهال، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ الْمَلَكُ لإِبْرَاهِيمَ: إِنْ كَانَ
فِيهَا خَمْسَةٌ يُصَلُّونَ رُفِعَ عَنْهُمُ الْعَذَابُ.
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا محمد بن ثور، عن
معمر، عن قتادة: «يجادلنا في قوم لوط» قال: بلغنا أنه قال لهم يومئذ: أرأيتم إن
كان فيهم خمسون من المسلمين؟ قالوا: ان كان فيهم خمسون لن نعذبهم، قال: وأربعون؟
قالوا: وأربعون، قال: وثلاثون؟ قالوا: وثلاثون، حتى بلغ عشرة، قالوا: وإن كانوا
عشرة؟ قال: ما من قوم لا يكون فيهم عشرة فيهم خير، فلما علم إبراهيم حال قوم لوط
بخبر الرسل قال للرسل:
«إِنَّ فِيها لُوطاً» إشفاقا منه عليه، فقالت الرسل: «نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ
فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ»
.
ثم مضت رسل الله نحو أهل سدوم، قرية قوم لوط، فلما انتهوا إليها ذكر أنهم لقوا
لوطا في أرض له يعمل فيها، وقيل إنهم لقوا عند نهرها ابنة لوط تستقي الماء.
ذكر من قال لقوا لوطا:
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا
سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ لَمَّا جَاءَتِ الرُّسُلُ
لُوطًا أَتَوْهُ وَهُوَ فِي أَرْضٍ لَهُ يَعْمَلُ فِيهَا، وَقَدْ قِيلَ لَهُمْ-
وَاللَّهُ أَعْلَمُ: لا تُهْلِكُوهُمْ حَتَّى يشهد عليهم لوط، قال: فاتوه فقالوا:
انا مضيفوك اللَّيْلَةَ فَانْطَلَقَ بِهِمْ فَلَمَّا مَشَى سَاعَةً الْتَفَتَ
فَقَالَ: أَمَا تَعْلَمُونَ مَا يَعْمَلُ أَهْلُ هَذِهِ الْقَرْيَةِ؟ وَاللَّهِ
مَا أَعْلَمُ عَلَى ظَهْرِ
(1/298)
الأَرْضِ أُنَاسًا أَخْبَثَ
مِنْهُمْ قَالَ: فَمَضَى مَعَهُمْ ثُمَّ قَالَ الثَّانِيَةَ مِثْلَ مَا قَالَ،
فَانْطَلَقَ بِهِمْ، فَلَمَّا بَصُرَتْ بِهِمْ عَجُوزُ السُّوءِ امْرَأَتُهُ
انْطَلَقَتْ فَأَنْذَرَتْهُمْ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ بشير، قال: حدثنا
عمرو ابن قيس الملائي، عن سعيد بن بشير، عن قتادة، قال: أتت الملائكة لوطا وهو في
مزرعة له، وقال الله تعالى للملائكة: إن شهد لوط عليهم أربع شهادات، فقد أذنت لكم
في هلكتهم، فقالوا: يا لوط، إنا نريد أن نضيفك الليلة، قال: وما بلغكم أمرهم؟
قالوا: وما أمرهم؟ فقال: أشهد بالله إنها لشر قرية في الأرض عملا، يقول ذلك أربع
مرات، فشهد عليهم لوط أربع شهادات، فدخلوا معه منزله
. ذكر من قال إنما لقيت الرسل أول ما لقيت حين دنت من سدوم ابنة لوط دون لوط:
حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن
السدي في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس- وعن مرة الهمداني عن
ابن مسعود- وعن ناس من اصحاب النبي ص، قَالَ: لَمَّا خَرَجَتِ الْمَلائِكَةُ مِنْ
عِنْدِ إِبْرَاهِيمَ نَحْوَ قَرْيَةِ لُوطٍ، فَأَتَوْهَا نِصْفَ النَّهَارِ،
فَلَمَّا بَلَغُوا نَهْرَ سَدُومَ لَقُوا ابْنَةَ لُوطٍ تَسْتَقِي مِنَ الْمَاءِ
لأَهْلِهَا- وَكَانَتْ لَهُ ابْنَتَانِ: اسْمُ الْكُبْرَى رِيثَا وَاسْمُ
الصُّغْرَى رعزِيَا- فَقَالُوا
(1/299)
لَهَا: يَا جَارِيَةُ، هَلْ
مِنْ مَنْزِلٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَمَكَانَكُمْ لا تَدْخُلُوا حَتَّى آتِيكُمْ،
فَرَقَّتْ عَلَيْهِمْ مِنْ قَوْمِهَا، فَأَتَتْ أَبَاهَا، فَقَالَتْ: يَا
أَبَتَاهُ، أَرَادَكَ فِتْيَانٌ عَلَى بَابِ الْمَدِينَةِ، مَا رَأَيْتُ وُجُوهَ
قَوْمٍ هِيَ أَحْسَنُ مِنْهُمْ، لا يَأْخُذُهُمْ قَوْمُكَ فَيَفْضَحُوهُمْ- وَقَدْ
كَانَ قَوْمُهُ نَهَوْهُ أَنْ يُضَيِّفَ رَجُلا- فَقَالُوا لَهُ: خَلِّ عَنَّا
فَلْنُضِفِ الرِّجَالَ، فَجَاءَ بِهِمْ فَلَمْ يَعْلَمْ أَحَدٌ إِلا أَهْلَ بَيْتِ
لُوطٍ، فَخَرَجَتِ امْرَأَتُهُ فَأَخْبَرَتْ قَوْمَهَا فَقَالَتْ: إِنَّ فِي
بَيْتِ لُوطٍ رِجَالا مَا رَأَيْتُ مِثْلَهُمْ وَمِثْلَ وُجُوهِهِمْ حُسْنًا
قَطُّ، فجاءه قومه يهرعون اليه.
قال ابو جعفر: فَلَمَّا أَتَوْهُ قَالَ لَهُمْ لُوطٌ: يَا قَوْمِ اتقوا الله «وَلا
تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ» ، هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ
أَطْهَرُ لَكُمْ مِمَّا تُرِيدُونَ.
فَقَالُوا لَهُ: أَوَلَمْ نَنْهَكَ أَنْ تُضَيِّفَ الرِّجَالَ! لَقَدْ عَلِمْتَ
مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ، وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ! فَلَمَّا
لَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ شَيْئًا مِمَّا عَرَضَهُ عَلَيْهِمْ قَالَ:
«لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ» يقول ع:
لَوْ أَنَّ لِي أَنْصَارًا يَنْصُرُونَنِي عَلَيْكُمْ أَوْ عَشِيرَةً تَمْنَعُنِي
مِنْكُمْ، لَحُلْتُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ مَا جِئْتُمْ تُرِيدُونَهُ مِنْ
أَضْيَافِي! حَدَّثَنِي المثنى، قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، قال: حدثنا إسماعيل
ابن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد بن معقل، أنه سمع وهبا يقول:
قال لوط لهم: «لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ» ،
فوجد عليه الرسل وقالوا: إن ركنك لشديد فلما يئس لوط من إجابتهم إياه إلى شيء مما
دعاهم إليه وضاق بهم ذرعا، قالت الرسل له حينئذ: «يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ
لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا
يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ
(1/300)
إِنَّهُ مُصِيبُها ما
أَصابَهُمْ» ، فذكر أن لوطا لما علم أن أضيافه رسل الله، وأنها أرسلت بهلاك قومه
قال لهم: أهلكوهم الساعة.
ذكر من روى ذلك عنه أنه قاله من أهل العلم:
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حدثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد، قال:
مضت الرسل من عند إبراهيم إلى لوط، فلما أتوا لوطا وكان من امرهم ما ذكر الله قال
جبرئيل للوط: يا لوط، إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ، إِنَّ أَهْلَها
كانُوا ظالِمِينَ فقال لهم لوط: اهلكوهم الساعة، فقال جبرئيل ع:
«إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ» فانزلت على لوط:
«أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ» .
قال: وأمره أن يسري بأهله بقطع من الليل ولا يلتفت منهم أحد إلا امرأته، قال: فسار
فلما كانت الساعة التي أهلكوا فيها ادخل جبرئيل جناحه في أرضهم فقلعها ورفعها حتى
سمع أهل السماء صياح الديكة، ونباح الكلاب، فجعل عاليها سافلها، وأمطر عليهم حجارة
من سجيل، قال: وسمعت امراه لوط الهده فقالت: وا قوماه! فأدركها حجر فقتلها.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا يعقوب، عن حفص بن حميد، عن شمر بن عطية،
قال: كان لوط أخذ على امرأته ألا تذيع شيئا من سر أضيافه، قال: فلما دخل عليه
جبرئيل ومن معه ورأتهم في صورة لم تر مثلها قط انطلقت تسعى إلى قومها، فأتت النادي
فقالت بيدها هكذا، فأقبلوا يهرعون مشيا بين الهرولة والجمز، فلما انتهوا إلى لوط
قال لهم لوط ما قال الله تعالى في كتابه قال جبرئيل: يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ
لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ، قال: فقال بيده، فطمس أعينهم، قال: فجعلوا يطلبونهم،
يلتمسون الحيطان وهم لا يبصرون
(1/301)
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ
مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ،
عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: لَمَّا بَصُرَتْ بِهِمْ- يَعْنِي بِالرُّسُلِ- عَجُوزُ
السُّوءِ، امْرَأَتُهُ، انْطَلَقَتْ فَأَنْذَرَتْهُمْ فَقَالَتْ: قَدْ تَضَيَّفَ
لُوطًا قَوْمٌ مَا رَأَيْتُ قَوْمًا أَحْسَنَ مِنْهُمْ وُجُوهًا- قَالَ: وَلا
أَعْلَمُهُ إِلا قَالَتْ: وَأَشَدَّ بَيَاضًا وَأَطْيَبَ رِيحًا مِنْهُمْ- قَالَ:
فَأَتَوْهُ «يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ» ، كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ،
فَأَصْفَقَ لُوطٌ الْبَابَ.
قَالَ: فَجَعَلُوا يُعَالِجُونَهُ، قَالَ: فَاسْتَأْذَنَ جبرئيل رَبَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ فِي عُقُوبَتِهِمْ، فَأَذِنَ لَهُ، فَصَفَقَهُمْ بِجَنَاحِهِ،
فَتَرَكَهُمْ عُمْيَانًا يَتَرَدَّدُونَ فِي أَخْبَثِ لَيْلَةٍ أَتَتْ عَلَيْهِمْ
قَطُّ، فَأَخْبَرُوهُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ، فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ
اللَّيْلِ، قَالَ:
وَلَقَدْ ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ كَانَتْ مَعَ لُوطٍ حِينَ خَرَجَ مِنَ الْقَرْيَةِ
امْرَأَتُهُ، ثُمَّ سَمِعَتِ الصَّوْتَ فَالْتَفَتَتْ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ
تَعَالَى عَلَيْهَا حَجَرًا فَأَهْلَكَهَا.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ بشير، قال: حدثنا
عمرو ابن قيس الملائي، عن سعيد بن بشير، عن قتادة، قال: انطلقت امرأته- يعني امرأة
لوط- حين رأتهم- يعني حين رأت الرسل- إلى قومها فقالت:
إنه قد ضافه الليلة قوم ما رأيت مثلهم قط أحسن وجوها، ولا أطيب ريحا.
فجاءوا يهرعون إليه فبادرهم لوط إلى أن يزحمهم على الباب فقال: «هؤُلاءِ بَناتِي
إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ» ، فقالوا: «أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ» ،
فدخلوا على الملائكة فتناولتهم الملائكة، فطمست أعينهم فقالوا: يا لوط جئتنا بقوم
سحرة، سحرونا كما أنت حتى نصبح قال: فاحتمل جبرئيل قريات لوط الأربع، في كل قرية
مائة ألف، فرفعهم على جناحه بين السماء والأرض حتى سمع أهل السماء الدنيا أصوات
ديكتهم ثم قلبهم، فجعل الله عاليها سافلها
(1/302)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ وَحَدَّثَنَا
الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، جَمِيعًا عَنْ
مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: قَالَ حُذَيْفَةَ: لَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ
ذَهَبَتْ عَجُوزُهُ، عَجُوزُ السُّوءِ، فَأَتَتْ قَوْمَهَا فَقَالَتْ: قَدْ
تَضَيَّفَ لُوطًا اللَّيْلَةَ قَوْمٌ مَا رايت قوما قط احسن وجوها منهم، قال:
فَجَاءُوا يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ، فَقَامَ مَلَكٌ فَلَزَّ الْبَابَ- يقول:
فسده- فاستأذن جبرئيل في عقوبتهم، فاذن له، فضربهم جبرئيل بِجَنَاحِهِ،
فَتَرَكَهُمْ عُمْيَانًا، فَبَاتُوا بِشَرِّ لَيْلَةٍ، ثُمَّ قَالُوا: إِنَّا
رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ، فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ
اللَّيْلِ، وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ، قَالَ:
فَبَلَغَنَا أَنَّهَا سَمِعَتْ صَوْتًا، فَالْتَفَتَتْ فَأَصَابَهَا حَجَرٌ وَهِيَ
شَاذَّةٌ مِنَ الْقَوْمِ مَعْلُومٌ مَكَانُهَا.
حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي
في خبر ذكره، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس- وعن مرة الهمداني عن ابن
مسعود- وعن ناس من اصحاب النبي ص: لَمَّا قَالَ لُوطٌ: «لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ
قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ» ، بَسَطَ حينئذ جبرئيل جَنَاحَهُ فَفَقَأَ
أَعْيُنَهُمْ، وَخَرَجُوا يَدُوسُ بَعْضُهُمْ فِي آثَارِ بَعْضٍ عُمْيَانًا،
يَقُولُونَ: النَّجَاءَ النَّجَاءَ! فَإِنَّ فِي بَيْتِ لُوطٍ أَسْحَرَ قَوْمٍ فِي
الأَرْضِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: «وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ
فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ» وَقَالُوا لِلُوطٍ: «إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ
يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ
مِنْكُمْ أَحَدٌ» ، يَقُولُ: سِرْ بِهِمْ فَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ،
فَأَخْرَجَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى الشَّامِ وَقَالَ لُوطٌ: أَهْلِكُوهُمُ
السَّاعَةَ، فَقَالُوا: إِنَّا لَمْ نُؤْمَرْ إِلا بِالصُّبْحِ، أَلَيْسَ
الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ! فَلَمَّا أَنْ كَانَ السَّحَرُ خَرَجَ لُوطٌ وَأَهْلُهُ
مَعَهُ إِلا امْرَأَتَهُ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: «إِلَّا آلَ لُوطٍ
نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ»
(1/303)
حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى،
قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا إسماعيل بن عبد الكريم، قال:
حدثني عبد الصَّمَدِ أَنَّهُ سَمِعَ وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ يَقُولُ: كَانَ أَهْلُ
سَدُومَ الَّذِينَ فِيهِمْ لُوطٌ قَوْمَ سُوءٍ قَدِ اسْتَغْنَوْا عَنِ النِّسَاءِ
بِالرِّجَالِ، فَلَمَّا رَأَى اللَّهُ ذَلِكَ مِنْهُمْ بَعَثَ الْمَلائِكَةَ
لِيُعَذِّبُوهُمْ، فَأَتَوْا إِبْرَاهِيمَ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ وَأَمْرِهِمْ
مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ، فَلَمَّا بَشَّرُوا سَارَّةَ
بِالْوَلَدِ قَامُوا، وَقَامَ مَعَهُمْ إِبْرَاهِيمُ يَمْشِي، فَقَالَ:
أَخْبِرُونِي لِمَ بُعِثْتُمْ؟ وَمَا خَطْبُكُمْ؟ قَالُوا: إِنَّا أُرْسِلْنَا
إِلَى قَوْمِ سَدُومَ لِنُدَمِّرَهَا فَإِنَّهُمْ قَوْمُ سُوءٍ، قَدِ اسْتَغْنَوْا
بِالرِّجَالِ عَنِ النِّسَاءِ قَالَ إِبْرَاهِيمُ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ فِيهِمْ
خَمْسُونَ رَجُلا صَالِحًا؟ قَالُوا: إِذًا لا نُعَذِّبُهُمْ، فَلَمْ يَزَلْ
يَنْقُصُ حَتَّى قَالَ أَهْلُ الْبَيْتِ، قَالُوا: فَإِنْ كَانَ فِيهِمْ بَيْتٌ
صَالِحٌ، قَالَ: فَلُوطٌ وَأَهْلُ بَيْتِهِ، قَالُوا: إِنَّ امْرَأَتَهُ هَوَاهَا
مَعَهُمْ، فَلَمَّا يَئِسَ إِبْرَاهِيمُ انْصَرَفَ وَمَضَوْا إِلَى أَهْلِ سَدُومَ
فَدَخَلُوا عَلَى لُوطٍ، فَلَمَّا رَأَتْهُمُ امْرَأَتُهُ أَعْجَبَهَا حُسْنُهُمْ
وَجَمَالُهُمْ، فَأَرْسَلَتْ إِلَى أَهْلِ الْقَرْيَةِ أَنَّهُ قَدْ نَزَلَ بِنَا
قَوْمٌ لَمْ نَرَ قَوْمًا قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهُمْ وَلا أَجْمَلَ، فَتَسَامَعُوا
بِذَلِكَ، فَغَشَوْا دَارَ لُوطٍ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، وَتَسَوَّرُوا عَلَيْهِمُ
الْجُدْرَانَ، فَلَقِيَهُمْ لُوطٌ فَقَالَ: يَا قوم لا تفضحون فِي ضَيْفِي وَأَنَا
أُزَوِّجْكُمْ بَنَاتِي فَهُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ، فَقَالُوا: لَوْ كُنَّا نُرِيدُ
بَنَاتِكَ لَقَدْ عَرَفْنَا مَكَانَهُنَّ، فَقَالَ:
لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قوة أو آوي إلى ركن شديد فوجد عَلَيْهِ الرُّسُلُ
فَقَالُوا: إِنَّ رُكْنَكَ لَشَدِيدٌ، وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ
مَرْدُودٍ، فَمَسَحَ أَحَدُهُمْ أَعْيُنَهُمْ بجناحه، فَطَمَسَ أَبْصَارَهُمْ،
فَقَالُوا: سُحِرْنَا، انْصَرِفُوا بِنَا حَتَّى نَرْجِعْ إِلَيْهِ، فَكَانَ مِنْ
أَمْرِهِمْ مَا قَدْ قَصَّ اللَّهُ تعالى فِي الْقُرْآنِ، فَأَدْخَلَ مِيكَائِيلُ
وهو صاحب العذاب جناحيه حَتَّى بَلَغَ أَسْفَلَ الأَرْضِينَ، فَقَلَبَهَا
فَنَزَلَتْ حِجَارَةٌ من السماء، فتتبعت مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ فِي
الْقَرْيَةِ حَيْثُ كَانُوا فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ، وَنَجَّى لُوطًا وَأَهْلَهُ
إِلا امْرَأَتَهُ.
حَدَّثَنَا أبو كريب، قال: حَدَّثَنَا جابر بن نوح، قال: حَدَّثَنَا الأعمش، عن
مجاهد، قال: أخذ جبرئيل قوم لوط من سرحهم ودورهم، حملهم بمواشيهم وأمتعتهم، حتى
سمع أهل السماء نباح كلابهم ثم كفاها
(1/304)
وحدثنا أبو كريب مرة أخرى، عن
مجاهد، فقال: ادخل جبرئيل جناحيه تحت الأرض السفلى من قوم لوط، ثم أخذهم بالجناح
الأيمن، وأخذهم من سرحهم ومواشيهم ثم رفعها.
حَدَّثَنِي المثنى، قال: حَدَّثَنَا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح،
عن مجاهد، قال: كان يقول: «فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها» ،
قال: لما أصبحوا غدا جبرئيل على قريتهم ففتقها من أركانها ثم أدخل جناحيه، ثم
حملها على خوافي جناحيه.
حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حَدَّثَنَا شبل، قال:
وحدثني هذا ابن أبي نجيح، عن إبراهيم بن أبي بكر، قال: ولم يسمعه ابن أبي نجيح من
مجاهد قال: فحملها على خوافي جناحيه بما فيها، ثم صعد بها إلى السماء حتى سمع أهل
السماء نباح كلابهم، ثم قلبها، فكان أول ما سقط منها شرافها، فذلك قوله تعالى:
«فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ»
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا محمد بن ثور، عن
معمر، عن قتادة، قال: بلغنا ان جبرئيل ع أخذ بعروة القرية الوسطى ثم ألوى بها إلى
السماء، حتى سمع أهل السماء ضواغي كلابهم، ثم دمر بعضها على بعض، فجعل عاليها
سافلها، ثم أتبعتهم الحجارة قال قتادة: وبلغنا أنهم كانوا أربعة آلاف ألف.
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قال: حَدَّثَنَا سعيد،
عن
(1/305)
قتادة، قال: وذكر لنا ان
جبرئيل أخذ بعروتها الوسطى، ثم ألوى بها إلى جو السماء حتى سمعت الملائكة ضواغي
كلابهم ثم دمر بعضها على بعض، ثم أتبع شذان القوم صخرا، قال: وهي ثلاث قرى يقال
لها سدوم، وهي بين المدينة والشام، قال: وذكر لنا أنه كان فيها أربعة آلاف ألف،
قال:
وذكر لنا إن إبراهيم كان يشرف ثم يقول: سدوم يوما هالك حدثني موسى بن هارون، قال:
حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي بالإسناد الذي قد ذكرناه: لما
أصبحوا- يعني قوم لوط- نزل جبرئيل ع واقتلع الأرض من سبع أرضين، فحملها حتى بلغ
بها السماء الدنيا، حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم وأصوات ديوكهم، ثم قلبها
فقتلهم، فذلك حين يقول: «والمؤتفكه اهوى» ، المنقلبه حين اهوى بها جبرئيل ع الارض
فاقتلعها بجناحيه، فمن لم يمت حين اسقط الأرض أمطر الله تعالى عليه وهو تحت الأرض
الحجارة، ومن كان منهم شاذا في الأرض، وهو قول الله تعالى: «فَجَعَلْنا عالِيَها
سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ» ، ثم تتبعهم في القرى،
فكان الرجل يتحدث فيأتيه الحجر فيقتله، فذلك قوله تعالى: «وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ
حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ» .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حَدَّثَنِي ابن إسحاق، قال: حَدَّثَنِي
محمد بن كعب القرظي، قال: حدثت أن الله تعالى بعث جبرئيل إلى المؤتفكة قرية قوم
لوط التي كان لوط فيهم، فاحتملها بجناحيه ثم اصعد بها حتى إن أهل السماء الدنيا
ليسمعون نابحة كلابها وأصوات دجاجها، ثم كفأها على وجهها ثم أتبعها الله عز وجل
بالحجارة، يقول الله تعالى:
(1/306)
«فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ» ، فأهلكها الله تعالى وما حولها من المؤتفكات، وكن خمس قريات: صبعة، وصعرة، وعمرة، ودوما، وسدوم هي القرية العظمى، ونجى الله تعالى لوطا ومن معه من أهله، إلا امرأته كانت فيمن هلك
(1/307)
ذكر وفاة سارة بنت هاران،
وهاجر أم اسماعيل وذكر ازواج ابراهيم ع وولده
قد ذكرنا فيما مضى قبل ما قيل في مقدار عمر سارة أم إسحاق، فأما موضع وفاتها فإنه
لا يدفع أهل العلم من العرب والعجم أنها كانت بالشام.
وقيل: إنها ماتت بقرية الجبابرة من أرض كنعان في حبرون، فدفنت في مزرعة اشتراها
إبراهيم وقيل إن هاجر عاشت بعد سارة مدة فأما الخبر فبغير ذلك ورد حَدَّثَنِي موسى
بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حَدَّثَنَا أسباط، عن السدي، بالإسناد
الذي قد ذكرناه قبل.
ثم إن إبراهيم اشتاق إلى إسماعيل، فقال لسارة: ائذني لي أنطلق إلى ابني فأنظر
إليه، فأخذت عليه عهدا ألا ينزل حتى يأتيها، فركب البراق، ثم أقبل وقد ماتت أم
إسماعيل، وتزوج اسماعيل امراه من جرهم.
وان ابراهيم ع كثر ماله ومواشيه وكان سبب ذلك فيما حَدَّثَنَا به موسى بن هارون،
قال: حَدَّثَنَا عمرو بن حماد، قال:
حدثنا أسباط، عن السدي بالإسناد الذي قد ذكرناه قبل، أن ابراهيم ع احتاج- وقد كان
له صديق يعطيه ويأتيه- فقالت له ساره:
لو اتيت خلتك فأصبت لنا منه طعاما! فركب حمارا له، ثم أتاه، فلما أتاه تغيب منه، واستحيا
إبراهيم أن يرجع إلى أهله خائبا، فمر على بطحاء، فملأ منها خرجه، ثم أرسل الحمار
إلى أهله، فأقبل الحمار وعليه حنطة جيده، ونام ابراهيم ع فاستيقظ، وجاء إلى أهله،
فوجد سارة قد جعلت له طعاما، فقالت: ألا تأكل؟ فقال: وهل من شيء؟
فقالت: نعم من الحنطة التي جئت بها من عند خليلك، فقال: صدقت
(1/308)
من عند خليلي جئت بها، فزرعها
فنبتت له، وزكا زرعه وهلكت زروع الناس، فكان أصل ماله منها، فكان الناس يأتونه
فيسألونه فيقول: من قال: لا إله إلا الله فليدخل فليأخذ، فمنهم من قال فاخذ، ومنهم
من أبى فرجع، وذلك قوله تعالى: «فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ
عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً» فلما كثر مال إبراهيم ومواشيه احتاج إلى
السعة في المسكن والمرعى، وكان مسكنه ما بين قرية مدين- فيما قيل- والحجاز إلى أرض
الشام، وكان ابن أخيه لوط نازلا معه، فقاسم ماله لوطا، فأعطى لوطا شطره فيما قيل،
وخيره مسكنا يسكنه ومنزلا ينزله غير المنزل الذي هو به نازل، فاختار لوط ناحية
الأردن فصار إليها، وأقام إبراهيم ع بمكانه، فصار ذلك فيما قيل سببا لآثاره بمكة
وإسكانه إياها إسماعيل، وكان ربما دخل أمصار الشام.
ولما ماتت سارة بنت هاران زوجة إبراهيم تزوج إبراهيم بعدها- فيما حَدَّثَنَا ابن
حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق- قطورا بنت يقطن، امرأة من الكنعانيين،
فولدت له ستة نفر: يقسان بن إبراهيم، وزمران بن إبراهيم، ومديان بن إبراهيم، ويسبق
بن إبراهيم، وسوح بن إبراهيم، وبسر بن إبراهيم، فكان جميع بني إبراهيم ثمانية
بإسماعيل وإسحاق، وكان اسماعيل يكره أكبر ولده قال: فنكح يقسان بن إبراهيم رعوة
بنت زمر بن يقطن بن لوذان بن جرهم بن يقطن بن عابر، فولدت له البربر ولفها وولد
زمران بن إبراهيم المزامير الذين لا يعقلون وولد لمديان أهل مدين قوم شعيب بن
ميكائيل النبي، فهو وقومه من ولده بعثه الله عز وجل اليهم نبيا.
حدثني الحارث بْن محمد، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا
(1/309)
هشام بن محمد بن السائب، عن
أبيه، قال: كان أبو إبراهيم من أهل حران، فأصابته سنة من السنين، فأتى هرمز جرد
بالاهواز، ومعه امراته أم ابراهيم، واسمها توتا بنت كرينا بن كوثى، من بني أرفخشد
بن سام بن نوح.
وحدثني الحارث، قال: حدثنا مُحَمَّد بن سعد، قال: حدثنا محمد بن عمر الأسلمي عن
غير واحد من أهل العلم قال: اسمها أنموتا من ولد أفراهم بن أرغوا بن فالغ بن عابر
بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح وكان بعضهم يقول: اسمها انمتلي بنت يكفور.
حَدَّثَنِي الحارث، قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن سعد، قال: أخبرنا هشام بن محمد،
عن أبيه، قال: نهر كوثى كراه كرينا جد إبراهيم من قبل أمه، وكان أبوه على أصنام
الملك نمرود فولد إبراهيم بهرمزجرد، ثم انتفل إلى كوثى من أرض بابل، فلما بلغ
إبراهيم وخالف قومه، دعاهم إلى عبادة الله، وبلغ ذلك الملك نمرود فحبسه في السجن
سبع سنين، ثم بنى له الحير بجص، وأوقد له الحطب الجزل، وألقى إبراهيم فيه، فقال:
حسبي الله ونعم الوكيل! فخرج منها سليما لم يكلم.
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حدثنا مُحَمَّد بن سعد، قال: حدثنا هشام بن محمد،
عن أبيه، عن أبي صالح، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا هَرَبَ إِبْرَاهِيمُ
مِنْ كُوثَى، وَخَرَجَ مِنَ النَّارِ وَلِسَانُهُ يَوْمَئِذٍ سِرْيَانِيٌّ،
فَلَمَّا عَبَرَ الْفُرَاتَ مِنْ حَرَّانَ غَيَّرَ اللَّهُ لِسَانَهُ فَقِيلَ:
عِبْرَانِيٌّ، أَيْ حَيْثُ عَبَرَ الْفُرَاتَ وَبَعَثَ نَمْرُودُ فِي أَثَرِهِ،
وَقَالَ: لا تَدَعُوا أَحَدًا يَتَكَلَّمُ بِالسِّرْيَانِيَّةِ إِلا جِئْتُمُونِي
بِهِ، فلقوا ابراهيم ع فَتَكَلَّمَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ، فَتَرَكُوهُ وَلَمْ
يَعْرِفُوا لُغَتَهُ.
حَدَّثَنِي الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا هشام، عن ابيه قال: فهاجر
إبراهيم من بابل إلى الشام فجاءته سارة، فوهبت له نفسها
(1/310)
فتزوجها، وخرجت معه وهو يومئذ
ابن سبع وثلاثين سنة، فأتى حران، فأقام بها زمانا، ثم أتى الأردن فأقام بها زمانا،
ثم خرج إلى مصر فأقام بها زمانا، ثم رجع إلى الشام فنزل السبع أرض بين إيليا
وفلسطين واحتفر بئرا، وبنى مسجدا ثم إن بعض أهل البلد آذاه فتحول من عندهم، فنزل
منزلا بين الرملة وإيليا، فاحتفر به بئرا اقام به، وكان قد وسع عليه في المال
والخدم، وهو أول من أضاف الضيف، وأول من ثرد الثريد، وأول من رأى الشيب.
قال: وولد لإبراهيم ع إسماعيل وهو أكبر ولده- وأمه هاجر وهي قبطية، وإسحاق، وكان
ضرير البصر، وأمه سارة ابنة بتويل بن ناخور بن ساروع بن أرغوا بن فالغ بن عابر بن
شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح- ومدن، ومدين، ويقسان، وزمران، واسبق، وسوح، وأمهم
قنطورا بنت مقطور من العرب العاربة فأما يقسان فلحق بنوه بمكة، وأقام مدن ومدين
بأرض مدين، فسميت به، ومضى سائرهم في البلاد وقالوا لإبراهيم: يا أبانا أنزلت
إسماعيل وإسحاق معك، وأمرتنا أن ننزل أرض الغربة والوحشة! فقال: بذلك أمرت، قال:
فعلمهم اسما من أسماء الله تبارك وتعالى، فكانوا يستسقون به ويستنصرون، فمنهم من
نزل خراسان، فجاءتهم الخزر فقالوا: ينبغي للذي علمكم هذا أن يكون خير أهل الأرض،
أو ملك الأرض، قال: فسموا ملوكهم خاقان.
قال أبو جعفر: ويقال في يسبق: يسباق، وفي سوح: ساح.
وقال بعضهم: تزوج إبراهيم بعد سارة امرأتين من العرب، إحداهما قنطورا بنت يقطان،
فولدت له ستة بنين، وهم الذين ذكرنا، والأخرى منهما حجور بنت أرهير، فولدت له خمسة
بنين: كيسان، وشورخ، واميم، ولوطان، ونافس
(1/311)
ذكر وفاه ابراهيم ع
فلما أراد الله تبارك وتعالى قبض روح ابراهيم ص، أرسل إليه ملك الموت في صورة شيخ
هرم.
فحدثني موسى بن هارون، قال: حَدَّثَنَا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي
بالإسناد الذي ذكرته قبل: كان إبراهيم كثير الطعام يطعم الناس، ويضيفهم، فبينا هو
يطعم الناس إذا هو بشيخ كبير يمشي في الحره، فبعث إليه بحمار، فركبه حتى إذا أتاه
أطعمه، فجعل الشيخ يأخذ اللقمة يريد أن يدخلها فاه، فيدخلها عينه وأذنه ثم يدخلها
فاه، فإذا دخلت جوفه خرجت من دبره وكان إبراهيم قد سأل ربه عز وجل ألا يقبض روحه
حتى يكون هو الذي يسأله الموت، فقال للشيخ حين رأى من حاله ما رأى:
ما بالك يا شيخ تصنع هذا؟ قال: يا إبراهيم، الكبر، قال: ابن كم أنت؟
فزاد على عمر إبراهيم سنتين، فقال إبراهيم: إنما بيني وبينك سنتان، فإذا بلغت ذلك
صرت مثلك! قال: نعم، قال إبراهيم: اللهم اقبضني إليك قبل ذلك، فقام الشيخ فقبض
روحه، وكان ملك الموت.
ولما مات ابراهيم ع- وكان موته وهو ابن مائتي سنة، وقيل ابن مائة وخمس وسبعين سنة-
دفن عند قبر ساره في مزرعه حبرون.
وكان مما أنزل الله تعالى على إبراهيم ع من الصحف فيما قيل عشر صحائف، كَذَلِكَ
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَهْبٍ، قَالَ:
أَخْبَرَنِي عَمِّي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْمَاضِي بْنُ
مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي
إِدْرِيسَ الْخَوْلانِيِّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ، قَالَ: قلت: [يا رسول
الله، كم كتاب أنزله اللَّهُ؟ قَالَ: مِائَةَ كِتَابٍ وَأَرْبَعَ
(1/312)
كُتُبٍ: أَنْزَلَ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ عَلَى آدَمَ ع عَشْرُ صَحَائِفَ، وَعَلَى شِيثٍ خَمْسِينَ
صَحِيفَةٍ، وَأَنْزَلَ عَلَى أَخْنُوخَ ثَلاثِينَ صَحِيفَةً، وَأَنْزَلَ عَلَى
إِبْرَاهِيمَ عَشْرَ صَحَائِفَ، وَأَنْزَلَ جَلَّ وَعَزَّ التَّوْرَاةَ
وَالإِنْجِيلَ وَالزَّبُورَ وَالْفُرْقَانَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَا
كَانَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ؟ قَالَ: كَانَتْ أَمْثَالا كُلُّهَا] .
أَيُّهَا الْمَلِكُ الْمُسَلَّطُ الْمُبْتَلَى الْمَغْرُورُ، إِنِّي لَمْ أَبْعَثُكَ
لِتَجْمَعَ الدُّنْيَا بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ، وَلَكِنْ بَعَثْتُكَ لِتَرُدَّ
عَنِّي دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، فَإِنِّي لا أَرُدُّهَا وَإِنْ كَانَتْ مِنْ
كَافِرٍ.
وَكَانَتْ فِيهَا أَمْثَالٌ: وَعَلَى الْعَاقِلِ مَا لَمْ يَكُنْ مَغْلُوبًا عَلَى
عَقْلِهِ أَنْ يَكُونَ لَهُ سَاعَاتٌ، سَاعَةٌ يُنَاجِي فِيهَا رَبَّهُ، وَسَاعَةٌ
يُفَكِّرُ فِيهَا فِي صُنْعِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَسَاعَةٌ يُحَاسِبُ فِيهَا
نَفْسَهُ فِيمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ، وَسَاعَةٌ يَخْلُو فِيهَا لِحَاجَتِهِ مِنَ
الْحَلالِ فِي الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ وَعَلَى الْعَاقِلِ أَلا يَكُونَ
ظَاعِنًا إِلا فِي ثَلاثٍ: تَزَوُّدٍ لِمَعَادِهِ، وَمَرَمَّةٍ لِمَعَاشِهِ،
وَلَذَّةٍ فِي غَيْرِ مُحَرَّمٍ وَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَكُونَ بَصِيرًا
بِزَمَانِهِ، مُقْبِلا عَلَى شَأْنِهِ، حَافِظًا لِلِسَانِهِ وَمَنْ حَسِبَ
كَلامَهُ مِنْ عَمَلِهِ قَلَّ كَلامُهُ إِلا فِيمَا يَعْنِيهِ.
وَكَانَ لإِبْرَاهِيمَ- فِيمَا ذُكِرَ- أَخَوَانِ يُقَالُ لأَحَدِهِمَا هَارَانَ-
وَهُوَ أَبُو لُوطٍ، وَقِيلَ إِنَّ هَارَانَ هُوَ الَّذِي بَنَى مَدِينَةِ
حَرَّانَ، وَإِلَيْهِ نسبت- وَالآخَرُ مِنْهُمَا نَاحورا وَهُوَ أَبُو بتويل
وَبتويل هو ابو لابان وَرفقا ابْنَةُ بتويل، وَرفقا امْرَأَةُ إِسْحَاقَ بْنِ
إِبْرَاهِيمَ أُمُّ يَعْقُوبَ ابْنَةُ بتويل، وَلِيَا وَرَاحِيلَ امرأتا يعقوب
ابنتا لابان
(1/313)
ذكر خبر ولد إسماعيل بن
إبراهيم خليل الرحمن ع
قد مضى ذكرنا سبب مصير إبراهيم بابنه إسماعيل، وأمه هاجر إلى مكة وإسكانه إياهما
بها ولما كبر إسماعيل تزوج امرأة من جرهم، فكان من أمرها ما قد تقدم ذكره، ثم
طلقها بأمر أبيه إبراهيم بذلك، ثم تزوج أخرى يقال لها السيدة بنت مضاض بن عمرو
الجرهمي، وهي التي قال لها إبراهيم إذ قدم مكة، وهي زوجة إسماعيل: قولي لزوجك إذا
جاء: قد رضيت لك عتبة بابك.
فحدثنا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ولد لإسماعيل ابن
إبراهيم اثنا عشر رجلا، وأمهم السيدة بنت مضاض بن عمرو الجرهمي:
نابت بن إسماعيل، وقيدر بن إسماعيل، وأدبيل بن إسماعيل، ومبشا بن إسماعيل، ومسمع
بن إسماعيل، ودما بن إسماعيل، وماس بن إسماعيل، وأدد بن إسماعيل، ووطور بن
إسماعيل، ونفيس بن إسماعيل، وطما بن إسماعيل، وقيدمان بن إسماعيل.
قال: وكان عمر إسماعيل فيما يزعمون ثلاثين ومائة سنة، ومن نابت وقيدر نشر الله
العرب، ونبأ الله عز وجل إسماعيل، فبعثه إلى العماليق- فيما قيل- وقبائل اليمن.
وقد ينطق أسماء أولاد إسماعيل بغير الألفاظ التي ذكرت عن ابن إسحاق، فيقول بعضهم
في قيدر:، قيدار، وفي ادبيل: ادبال، وفي مبشا: مبشام، وفي دما: ذوما ومسا، وحداد،
وتيم، ويطور، ونافس، وقادمن وقيل: إن إسماعيل لما حضرته الوفاة أوصى إلى أخيه
إسحاق وزوج ابنته من العيص بن إسحاق، وعاش إسماعيل فيما ذكر مائة وسبعا وثلاثين
سنة، ودفن في الحجر عند قبر أمه هاجر
(1/314)
حَدَّثَنِي عبدة بن عبد الله
الصفار، قال: حَدَّثَنَا خالد بن عبد الرحمن المخزومي، عن مبارك بن حسان صاحب
الأنماط، عن عمر بن عبد العزيز، قال: شكا إسماعيل إلى ربه تبارك وتعالى حر مكة
فأوحى الله تعالى إليه: إني فاتح لك بابا من الجنة يجري عليك روحها إلى يوم
القيامة، وفي ذلك المكان تدفن.
ونرجع الآن إلى:
(1/315)
ذكر إسحاق بن ابراهيم ع وذكر
نسائه وأولاده
إذ كان التأريخ غير متصل على سياق معروف لأمة بعد الفرس غيرهم، وذلك أن الفرس كان
ملكهم متصلا دائما من عهد جيومرت الذي قد وصفت شأنه وخبره، إلى أن زال عنهم بخير
أمه اخرجت للناس، أمه نبينا محمد ص وكانت النبوة والملك متصلين بالشام ونواحيها
لولد إسرائيل بن إسحاق إلى أن زال ذلك عنهم بالفرس والروم بعد يحيى بن زكرياء وبعد
عيسى بن مريم ع وسنذكر إذا نحن انتهينا إلى الخبر عن يحيى وعيسى ع سبب زوال ذلك
عنهم إن شاء الله.
فأما سائر الأمم غير الفرس، فإنه غير ممكن الوصول إلى علم التأريخ بهم، إذ لم يكن
لهم ملك متصل في قديم الأيام وحديثه إلا ما لا يمكن معه سياق التأريخ عليه وعلى
أعمار ملوكهم، إلا ما ذكرنا من ولد يعقوب إلى الوقت الذي ذكرت، فإن ذلك وإن كانت
مدته انقطعت بزواله عنهم، فإن قدر مدة زواله عنهم إلى غايتنا هذه معلوم مبلغه وقد
كان لليمن ملوك لهم ملك، غير أنه كان غير متصل، وإنما كان يكون منهم الواحد بعد
الواحد، وبين الأول والآخر فترات طويلة، لا يقف على مبلغها العلماء، لقلة عنايتهم
كانت بها، ومبلغ عمر الاول منهم والآخر، إذا لم يكن من الأمر الدائم، فإن دام منه
شيء فإنما يدوم لمن دام له منهم بأنه عامل لغيره في الموضع الذي هو به لا يملكه
بنفسه، وذلك كدوامه لآل نصر بن ربيعة بن الحارث بن مالك ابن عمرو بن نمارة بن لخم،
فإنهم كانوا على فرج ثغر العرب للفرس من الحيرة إلى حد اليمن طولا وإلى حدود الشام
وما اتصل بذلك عرضا، فلم يزل ذلك دائما لهم من عهد أردشير بابكان إلى أن قتل كسرى
ابرويز بن هرمز بن انوشروان النعمان بن المنذر، فنقل عنهم ما كان إليهم من العمل
على ثغر العرب إلى إياس بن قبيصة الطائي
(1/316)
فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا
سلمة، عن ابن إسحاق، قال: نكح إسحاق بن إبراهيم رفقا بنت بتويل بن إلياس، فولدت له
عيص بن إسحاق، ويعقوب ابن إسحاق، يزعمون أنهما كانا توءمين وأن عيصا كان أكبرهما
ثم نكح عيص بن إسحاق ابنه عمه بسمة ابنه إسماعيل بن إبراهيم، فولدت له الروم بن
عيص، فكل بني الأصفر من ولده قال: وبعض الناس يزعم أن الأشبان من ولده، ولا أدري
أمن ابنة إسماعيل أم لا.
ونكح يعقوب بن إسحاق- وهو إسرائيل- ابنة خاله ليا ابنة لبان بن بتويل بن إلياس،
فولدت له روبيل بن يعقوب، وكان اكبر ولده، وشمعون ابن يعقوب، ولاوى بن يعقوب،
ويهوذا بن يعقوب، وزبالون بن يعقوب، ويسحر بن يعقوب، ودينة ابنه يعقوب وقد قيل في
يسحر إن اسمه يشحر ثم توفيت ليا بنت لبان فخلف يعقوب على أختها راحيل بنت لبان بن
بتويل بن إلياس، فولدت له يوسف بن يعقوب، وبنيامين بن يعقوب- وهو بالعربية شداد-
وولد له من سريتين، اسم إحداهما زلفة، واسم الأخرى بلهة، أربعة نفر: دان بن يعقوب،
ونفثالى بن يعقوب، وجاد بن يعقوب، وأشر بن يعقوب، فكان بنو يعقوب اثني عشر رجلا.
وقد قال بعض أهل التوراة إن رفقا زوجة إسحاق هي ابنة ناهر بن آزر عم إسحاق، وإنها
ولدت له ابنيه عيصا ويعقوب في بطن واحد، وإن إسحاق أمر ابنه يعقوب ألا ينكح امرأة
من الكنعانيين، وأمره أن ينكح امرأة من بنات خاله لبان بن ناهر، وأن يعقوب لما
أراد النكاح مضى إلى خاله لبان ابن ناهر خاطبا، فأدركه الليل في بعض الطريق، فبات
متوسدا حجرا، فرأى فيما يرى النائم أن سلما منصوبا إلى باب من أبواب السماء عند
رأسه، والملائكة تنزل وتعرج فيه، وأن يعقوب صار إلى خاله فخطب إليه ابنته راحيل،
وكانت له ابنتان: ليا وهي الكبرى، وراحيل وهي الصغرى، فقال له: هل من مال أزوجك
عليه؟ فقال يعقوب: لا، إلا أني أخدمك أجيرا حتى تستوفي صداق
(1/317)
ابنتك، قال: فإن صداقها أن تخدمني سبع حجج قال يعقوب: فزوجني راحيل وهي شرطي، ولها أخدمك، فقال له خاله: ذلك بيني وبينك، فرعى له يعقوب سبع سنين، فلما وفى له شرطه دفع إليه ابنته الكبرى ليا، وأدخلها عليه ليلا، فلما أصبح وجد غير ما شرط، فجاءه يعقوب وهو في نادي قومه فقال له: غررتني وخدعتني واستحللت عملي سبع سنين، ودلست علي غير امرأتي، فقال له خاله: يا بن أختي، أردت أن تدخل على خالك العار والسبة، وهو خالك ووالدك، ومتى رأيت الناس يزوجون الصغرى قبل الكبرى! فهلم فاخدمني سبع حجج أخرى، فأزوجك أختها- وكان الناس يومئذ يجمعون بين الأختين إلى أن بعث موسى ع وأنزل عليه التوراة- فرعى له سبعا، فدفع إليه راحيل، فولدت له ليا أربعة أسباط: روبيل، ويهوذا، وشمعان، ولاوي وولدت له راحيل يوسف وأخاه بنيامين وأخوات لهما، وكان لابان دفع إلى ابنتيه حين جهزهما إلى يعقوب أمتين فوهبتا الأمتين ليعقوب، فولدت كل واحدة منهما له ثلاثة رهط من الأسباط، وفارق يعقوب خاله، وعاد حتى نازل أخاه عيصا وقال بعضهم: ولد ليعقوب دان ونفثالي من زلفة جارية راحيل، وذلك أنها وهبتها له وسألته أن يطلب منها الولد حين تأخر الولد عنها وان ليا وهبت جاريتها بلهه ليعقوب منافسة لراحيل في جاريتها، وسألته أن يطلب منها الولد، فولدت له جاد، وأشير، ثم ولد له من راحيل بعد اليأس يوسف وبنيامين، فانصرف يعقوب بولده هؤلاء وامرأتيه المذكورتين إلى منزل أبيه من فلسطين على خوف شديد من أخيه العيص، فلم ير منه إلا خيرا، وكان العيص فيما ذكر لحق بعمه إسماعيل، فتزوج إليه ابنته بسمة وحملها إلى الشام، فولدت له عدة أولاد فكثروا حتى غلبوا الكنعانيين بالشام، وصاروا إلى البحر وناحية الإسكندرية ثم إلى الروم وكان العيص فيما ذكر يسمى آدم لأدمته قال: ولذلك سمي ولده
(1/318)
ولد الأصفر، وكانت ولادة رفقا
بنت بتويل لإسحاق بن إبراهيم ابنيه العيص ويعقوب- بعد أن خلا من عمر إسحاق ستون
سنة- توءمين في بطن واحد، والعيص المتقدم منهما خروجا من بطن أمه، فكان إسحاق فيما
ذكر يختص العيص، وكانت رفقا أمهما تميل إلى يعقوب، فزعموا أن يعقوب ختل العيص في
قربان قرباه بأمر أبيهما إسحاق بعد ما كبرت سن إسحاق، وضعف بصره، فصار أكثر دعاء
إسحاق ليعقوب، وتوجهت البركة نحوه بدعاء أبيه إسحاق له، فغاظ ذلك العيص وتوعده
بالقتل، فخرج يعقوب هاربا منه إلى خاله لابان ببابل، فوصله لابان وزوجه ابنتيه ليا
وراحيل، وانصرف بهما وبجاريتيهما وأولاده الأسباط الاثني عشر وأختهم دينا إلى
الشام إلى منزل آبائه، وتألف أخاه العيص حتى نزل له البلاد وتنقل في الشام، حتى
صار إلى السواحل ثم عبر إلى الروم فأوطنها، وصار الملوك من ولده وهم اليونانية-
فيما زعم هذا القائل.
حَدَّثَنَا الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي، قال: حَدَّثَنَا أبي، قال: أخبرنا
أسباط، عن السدي، قال: تزوج إسحاق امرأة فحملت بغلامين في بطن، فلما أرادت أن
تضعهما اقتتل الغلامان في بطنها، فأراد يعقوب أن يخرج قبل عيص، فقال عيص: والله
لئن خرجت قبلي لأعترضن في بطن أمي ولأقتلنها، فتأخر يعقوب، وخرج عيص قبله، وأخذ
يعقوب بعقب عيص، فخرج فسمي عيصا لأنه عصى، فخرج قبل يعقوب، وسمي يعقوب لأنه خرج
آخذا بعقب عيص، وكان يعقوب أكبرهما في البطن، ولكن عيصا خرج قبله، وكبر الغلامان،
فكان عيص أحبهما إلى أبيه، وكان يعقوب أحبهما إلى أمه، وكان عيص صاحب صيد، فلما
كبر إسحاق
(1/319)
وعمي، قال لعيص: يا بني أطعمني
لحم صيد واقترب مني أدع لك بدعاء دعا لي به أبي، وكان عيص رجلا أشعر، وكان يعقوب
رجلا أجرد، فخرج عيص يطلب الصيد، وسمعت أمه الكلام فقالت ليعقوب: يا بني، اذهب إلى
الغنم فاذبح منها شاة ثم اشوه، والبس جلده وقدمه إلى أبيك، وقل له: أنا ابنك عيص،
ففعل ذلك يعقوب، فلما جاء قال: يا أبتاه كل، قال:
من أنت؟ قال: أنا ابنك عيص، قال: فمسه، فقال: المس مس عيص، والريح ريح يعقوب، قالت
أمه: هو ابنك عيص فادع له، قال: قدم طعامك، فقدمه فأكل منه، ثم قال: ادن مني، فدنا
منه، فدعا له أن يجعل في ذريته الأنبياء والملوك، وقام يعقوب، وجاء عيص فقال: قد
جئتك بالصيد الذي أمرتني به، فقال: يا بني قد سبقك أخوك يعقوب، فغضب عيص وقال:
والله لأقتلنه، قال: يا بني قد بقيت لك دعوة، فهلم أدع لك بها، فدعا له فقال: تكون
ذريتك عددا كثيرا كالتراب ولا يملكهم أحد غيرهم، وقالت أم يعقوب ليعقوب: الحق
بخالك فكن عنده خشية أن يقتلك عيص، فانطلق إلى خاله، فكان يسري بالليل ويكمن
بالنهار، ولذلك سمي إسرائيل، وهو سري الله، فأتى خاله وقال عيص: أما إذ غلبتني على
الدعوى فلا تغلبني على القبر، أن أدفن عند آبائي: إبراهيم وإسحاق، فقال: لئن فعلت
لتدفنن معه.
ثم ان يعقوب ع هوى ابنة خاله- وكانت له ابنتان- فخطب إلى أبيهما الصغرى منهما،
فأنكحها إياه على أن يرعى غنمه إلى أجل مسمى، فلما انقضى الأجل زف إليه أختها ليا،
قال يعقوب: إنما أردت راحيل، فقال له خاله: إنا لا ينكح فينا الصغير قبل الكبير،
ولكن ارع لنا أيضا وأنكحها، ففعل فلما انقضى الأجل زوجه راحيل أيضا، فجمع يعقوب
بينهما، فذلك قول الله: «وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ
سَلَفَ» .
يقول: جمع يعقوب بين ليا وراحيل، فحملت ليا فولدت يهوذا،
(1/320)
وروبيل، وشمعون وولدت راحيل
يوسف، وبنيامين، وماتت راحيل في نفاسها ببنيامين، يقول: من وجع النفاس الذى ماتت
فيه.
وقطع خال يعقوب ليعقوب قطيعا من الغنم، فأراد الرجوع إلى بيت المقدس، فلما ارتحلوا
لم يكن له نفقة، فقالت امرأة يعقوب ليوسف: خذ من أصنام أبي لعلنا نستنفق منه فأخذ،
وكان الغلامان في حجر يعقوب، فأحبهما وعطف عليهما ليتمهما من أمهما، وكان أحب
الخلق اليه يوسف ع، فلما قدموا أرض الشام، قال يعقوب لراع من الرعاة: إن أتاكم أحد
يسألكم:
من أنتم؟ فقولوا: نحن ليعقوب عبد عيص، فلقيهم عيص فقال: من أنتم؟
قالوا: نحن ليعقوب عبد عيص، فكف عيص عن يعقوب، ونزل يعقوب بالشام، فكان همه يوسف
وأخوه، فحسده إخوته لما رأوا من حب أبيه له، ورأى يوسف في المنام كأن أحد عشر
كوكبا والشمس والقمر رآهم ساجدين له، فحدث أباه بها فقال: «يَا بُنَيَّ لا
تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ
لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ»
(1/321)
ذكر أيوب ع
ومن ولده- فيما قيل- أيوب نبي الله، وهو فيما حَدَّثَنَا ابن حميد، قال:
حَدَّثَنَا سلمة، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَمَّنْ لا يَتَّهِمُ، عَنْ وهب بن منبه،
أن أيوب كان رجلا من الروم، وهو أيوب بن موص بن رازح بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم.
وأما غير ابن إسحاق فإنه يقول: هو أيوب بن موص بن رغويل بن العيص ابن إسحاق بن
ابراهيم.
وكان بعضهم يقول: هو أيوب بن موص بن رعويل ويقول: كان أبوه ممن آمن بابراهيم ع يوم
احرقه نمرود، وكانت زوجته التي أمر بضربها بالضغث ابنة ليعقوب بن إسحاق، يقال: لها
ليا، كان يعقوب زوجها منه.
وحدثني الحسين بن عمرو بن محمد، قال: حدثنا أبي، قال: أخبرنا غياث بن إبراهيم،
قال: ذكر- والله أعلم- أن عدو الله إبليس لقي امرأة أيوب- وذكر أنها كانت ليا بنت
يعقوب- فقال: يا ليا ابنة الصديق وأخت الصديق.
وكانت أم أيوب ابنة للوط بن هاران.
وقيل: إن زوجته التي أمر بضربها بالضغث هي رحمه بنت افراييم بن يوسف بن يعقوب،
وكانت لها البثنية من الشام كلها بما فيها، وكان- فيما ذكر- عن وهب بن منبه في
الخبر الذي حدثنيه محمد بن سهل بن عسكر البخاري، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم
ابو هشام، قال: حدثنى عبد الصمد ابن معقل، قال: سمعت وهب بن منبه يقول: إن إبليس
لعنه الله سمع تجاوب الملائكة بالصلاة على أيوب، وذلك حين ذكره الله تعالى وأثنى
عليه، فأدركه
(1/322)
البغي والحسد، فسأل الله أن
يسلطه عليه ليفتنه عن دينه، فسلطه الله على ماله دون جسده وعقله، وجمع إبليس
عفاريت الشياطين وعظماءهم، وكان لأيوب البثنية من الشام كلها بما فيها بين شرقها
وغربها، وكان بها الف شاه برعاتها، وخمسمائة فدان يتبعها خمسمائة عبد، لكل عبد
امرأة وولد ومال، ويحمل آلة كل فدان أتان، لكل أتان ولد، بين اثنين وثلاثة وأربعة
وخمسة وفوق ذلك فلما جمعهم إبليس، قال: ماذا عندكم من القوة والمعرفة؟ فإني قد
سلطت على مال أيوب، فهي المصيبة الفادحة والفتنة التي لا يصبر عليها الرجال فقال
كل من عنده قوه على اهلاك شيء ما عنده فأرسلهم فأهلكوا ماله كله، وأيوب في كل ذلك
يحمد الله ولا يثنيه شيء أصيب به من ماله عن الجد في عبادة الله تعالى والشكر له
على ما أعطاه، والصبر على ما ابتلاه به فلما رأى ذلك من أمره إبليس لعنه الله سال
الله تعالى ان يسلطه على ولده، فسلطه عليهم، ولم يجعل له سلطانا على جسده وقلبه
وعقله، فأهلك ولده كلهم، ثم جاء إليه متمثلا بمعلمهم الذي كان يعلمهم الحكمة جريحا
مشدوخا يرققه حتى رق أيوب فبكى، فقبض قبضة من تراب فوضعها على رأسه، فسر بذلك
إبليس، واغتنمه من أيوب ع.
ثم إن أيوب تاب واستغفر، فصعدت قرناؤه من الملائكة بتوبته فبدروا إبليس إلى الله
عز وجل فلما لم يثن أيوب ع ما حل به من المصيبة في ماله وولده عن عبادة ربه، والجد
في طاعته، والصبر على ما ناله، سأل الله عز وجل إبليس أن يسلطه على جسده، فسلطه
على جسده خلا لسانه وقلبه وعقله، فإنه لم يجعل له على ذلك منه سلطانا، فجاءه وهو
ساجد، فنفخ في منخره نفخة اشتعل منها جسده، فصار من جملة أمره إلى أن أنتن
(1/323)
جسده، فأخرجه أهل القرية من
القرية إلى كناسة خارج القرية لا يقربه أحد إلا زوجته وقد ذكرت اختلاف الناس في
اسمها ونسبها قبل ثم رجع الحديث إلى حديث وهب بن منبه:
وكانت زوجته تختلف إليه بما يصلحه وتلزمه، وكان قد اتبعه ثلاثة نفر على دينه، فلما
رأوا ما نزل به من البلاء رفضوه واتهموه من غير أن يتركوا دينه، يقال لأحدهم بلدد،
وللآخر اليفز وللثالث صافر فانطلقوا إليه وهو في بلائه فبكتوه، فلما سمع أيوب ع
كلامهم أقبل على ربه يستغيثه ويتضرع إليه، فرحمه ربه ورفع عنه البلاء، ورد عليه
أهله وماله ومثلهم معهم، وقال له: «ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ
وَشَرابٌ» ، فاغتسل به فعاد كهيئته قبل البلاء في الحسن والجمال.
فحدثني يحيى بن طلحة اليربوعي، قال: حَدَّثَنَا فضيل بن عياض، عن هشام، عن الحسن،
قال: لقد مكث أيوب ع مطروحا على كناسة لبني إسرائيل سبع سنين وأشهرا، ما يسأل الله
عز وجل أن يكشف ما به، قال: فما على وجه الأرض أكرم على الله من أيوب، فيزعمون أن
بعض الناس قال: لو كان لرب هذا فيه حاجة ما صنع به هذا! فعند ذلك دعا.
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ علية، عن يونس،
عن الحسن، قال: بقي أيوب ع على كناسة لبني إسرائيل سبع سنين وأشهرا اختلف فيها
الرواة.
فهذه جملة من خبر أيوب ص، وإنما قدمنا ذكر خبره وقصته قبل خبر يوسف وقصته لما ذكر
من أمره، وأنه كان نبيا في عهد يعقوب أبي يوسف ع.
وذكر أن عمر أيوب كان ثلاثا وتسعين سنة، وأنه أوصى عند موته إلى
(1/324)
ابنه حومل، وأن الله عز وجل
بعث بعده ابنه بشر بن أيوب نبيا، وسماه ذا الكفل وأمره بالدعاء إلى توحيده، وأنه
كان مقيما بالشام عمره حتى مات، وكان عمره خمسا وسبعين سنة، وأن بشرا أوصى إلى
ابنه عبدان، وأن الله عز وجل بعث بعده شعيب بن صيفون بن عيفا بن نابت بن مدين ابن
إبراهيم إلى أهل مدين.
وقد اختلف في نسب شعيب فنسبه أهل التوراة النسب الذي ذكرت.
وكان ابن إسحاق يقول: هو شعيب بن ميكائيل من ولد مدين، حَدَّثَنِي بذلك ابن حميد،
حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق.
وقال بعضهم: لم يكن شعيب من ولد إبراهيم، وإنما هو من ولد بعض من كان آمن بإبراهيم
واتبعه على دينه، وهاجر معه إلى الشام، ولكنه ابن بنت لوط فجدة شعيب ابنه لوط
. ذكر خبر شعيب ص
وقيل ان اسم شعيب يزون، وقد ذكرت نسبه واختلاف أهل الأنساب في نسبه، وكان- فيما
ذكر- ضرير البصر.
حَدَّثَنِي عبد الأعلى بن واصل الأسدي، قال: حَدَّثَنَا أسيد بن زيد الجصاص، قال:
أخبرنا شريك، عن سالم، عن سعيد بن جبير في قوله:
«وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً» ، قال: كان أعمى
(1/325)
حَدَّثَنَا أحمد بن الوليد الرملي،
قال: حَدَّثَنَا ابراهيم بن زياد وإسحاق ابن المنذر وعبد الملك بن يزيد، قالوا:
حَدَّثَنَا شريك، عن سالم، عن سعيد، مثله.
حَدَّثَنِي أحمد بن الوليد، قال: حَدَّثَنَا عمرو بن عون ومحمد بن الصباح، قالا:
سمعنا شريكا يقول في قوله: «وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً» ، قال: أعمى.
حَدَّثَنِي أحمد بن الوليد، قال: حَدَّثَنَا سعدويه، قال: حَدَّثَنَا عباد، عن
شريك، عن سالم، عن سعيد بن جبير، مثله.
حَدَّثَنِي المثنى، قال: حَدَّثَنَا الحماني، قال: حَدَّثَنَا عباد، عن شريك، عن
سالم، عن سعيد: «وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً» ، قال: كان ضرير البصر.
حَدَّثَنِي العباس بن أبي طالب، قال: حَدَّثَنَا إبراهيم بن مهدي المصيصي، قال:
حَدَّثَنَا خلف بن خليفة، عن سفيان، عن سالم، عن سعيد بن جبير:
«وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً» ، قال: كان ضعيف البصر حَدَّثَنِي المثنى،
قال: حَدَّثَنَا أبو نعيم، قال: حَدَّثَنَا سفيان، قوله تعالى:
«وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً» ، قال: كان ضعيف البصر قال سفيان: وكان يقال
له خطيب الأنبياء، وإن الله تبارك وتعالى بعثه نبيا إلى أهل مدين، وهم أصحاب
الأيكة- والأيكة الشجر الملتف- وكانوا أهل كفر بالله وبخس للناس في المكاييل
والموازين وإفساد لأموالهم، وكان الله عز وجل وسع عليهم في الرزق، وبسط لهم في
العيش استدراجا منه لهم، مع كفرهم به، فقال لهم شعيب ع: «يَا قَوْمِ اعْبُدُوا
اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ
إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ» .
فكان من قول شعيب لقومه وجواب قومه له ما ذكره الله عز وجل في كتابه=
2.
تاريخ الطبري = تاريخ الرسل والملوك، وصلة تاريخ الطبري
المؤلف: محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري (المتوفى:
310هـ)
(صلة تاريخ الطبري لعريب بن سعد القرطبي، المتوفى: 369هـ)
فَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ،
قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، قال: قال ابن إسحاق: فكان رسول الله ص- فِيمَا ذَكَرَ لِي
يَعْقُوبُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ- إِذَا ذَكَرَهُ قَالَ: ذَاكَ خَطِيبُ
الأَنْبِيَاءِ، لِحُسْنِ مُرَاجَعَتِهِ قَوْمَهُ فِيمَا يُرَادُّهُمْ بِهِ.
فَلَمَّا طَالَ تَمَادِيهِمْ فِي غَيِّهِمْ وَضَلالِهِمْ، وَلَمْ يَرُدَّهُمْ
تَذْكِيرُ شُعَيْبٍ إِيَّاهُمْ، وَتَحْذِيرُهُمْ عَذَابَ اللَّهِ لَهُمْ وَأَرَادَ
اللَّهُ تَبَارَكَ وَتعَالَى هَلاكَهُمْ، سَلَّطَ عَلَيْهِمْ- فِيمَا حَدَّثَنِي
الْحَارِثُ- قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى الأَشْيَبُ قَالَ:
حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ أَخُو حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا
حَاتِمُ بْنُ أَبِي صَغِيرَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ الْبَاهِلِيُّ، قَالَ:
سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ: «فَأَخَذَهُمْ عَذابُ
يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ» ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ عَبَّاسٍ: بَعَثَ اللَّهُ وبدة وَحَرًّا شَدِيدًا، فَأَخَذَ بِأَنْفَاسِهِمْ
فَدَخَلُوا أَجْوَافَ الْبُيُوتِ، فدخل عليهم أَجْوَافَ الْبُيُوتِ فَأَخَذَ
بِأَنْفَاسِهِمْ، فَخَرَجُوا مِنَ الْبُيُوتِ هِرَابًا إِلَى الْبَرِّيَّةِ
فَبَعَثَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ سَحَابَةً، فَأَظَلَّتْهُمْ مِنَ الشَّمْسِ،
فَوَجَدُوا لَهَا بَرْدًا وَلَذَّةً، فَنَادَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا، حَتَّى إِذَا
اجْتَمَعُوا تَحْتَهَا أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نَارًا، قَالَ عَبْدُ الله ابن
عَبَّاسٍ: فَذَاكَ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ، «إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ
عَظِيمٍ» .
حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابن وهب، قال:
حَدَّثَنِي جرير بن حازم أنه سمع قتادة يقول: بعث شعيب إلى أمتين: إلى قومه أهل
مدين، وإلى أصحاب الأيكة، وكانت الأيكة من شجر ملتف، فلما أراد الله عز وجل أن
يعذبهم بعث عليهم حرا شديدا، ورفع لهم العذاب كأنه سحابة، فلما دنت منهم خرجوا
إليها رجاء بردها، فلما كانوا تحتها امطرت
(1/327)
عليهم نارا، قال: فذلك قوله
تعالى: «فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ» .
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني أبو سفيان، عن معمر بن راشد، قال:
حَدَّثَنِي رجل من أصحابنا عن بعض العلماء، قال:
كانوا- يعني قوم شعيب- عطلوا حدا، فوسع الله عليهم في الرزق، ثم عطلوا حدا فوسع
الله عليهم في الرزق، فجعلوا كلما عطلوا حدا وسع الله عليهم في الرزق، حتى إذا
أراد الله هلاكهم سلط عليهم حرا لا يستطيعون أن يتقاروا، ولا ينفعهم ظل ولا ماء،
حتى ذهب ذاهب منهم فاستظل تحت ظله فوجد روحا، فنادى أصحابه: هلموا إلى الروح،
فذهبوا إليه سراعا، حتى إذا اجتمعوا ألهبها الله عليهم نارا، فذلك عذاب يوم الظلة.
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حدثنا
سفيان، عن أبي إسحاق، عن زيد بن معاوية في قوله تعالى: «فَأَخَذَهُمْ عَذابُ
يَوْمِ الظُّلَّةِ» ، قال: أصابهم حر قلقلهم في بيوتهم، فنشأت سحابة كهيئة الظلة
فابتدروها، فلما ناموا تحتها أخذتهم الرجفة حَدَّثَنِي محمد بن عمرو، قال: حدثنا
أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى.
وحدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن
مجاهد في قوله: «عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ» ، قال: ظلال العذاب.
حَدَّثَنِي القاسم، قال: حَدَّثَنَا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن
مجاهد في قوله: «فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ» ، قال: أظل العذاب قوم
شعيب قال ابن جريج: لما أنزل الله تعالى عليهم أول العذاب أخذهم منه حر شديد، فرفع
الله لهم غمامة، فخرج إليها طائفة منهم ليستظلوا بها، فأصابهم منها برد وروح وريح
طيبة، فصب الله عليهم من فوقهم من تلك الغمامة عذابا، فذلك قوله: «عَذابُ يَوْمِ
الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ»
(1/328)
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن
وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:
«فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ» ،
قال: بعث الله عز وجل إليهم ظلة من سحاب، وبعث الله إلى الشمس فأحرقت ما على وجه
الأرض، فخرجوا كلهم إلى تلك الظلة، حتى إذا اجتمعوا كلهم كشف الله عنهم الظلة،
وأحمى عليهم الشمس، فاحترقوا كما يحترق الجراد في المقلى.
حَدَّثَنَا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا ابو ثميله، عن أبي حمزة، عن
جابر، عن عامر، عن ابن عباس، قال: من حدثك من العلماء، ما عذاب يوم الظلة، فكذبه.
حدثنى محمود بن خداش، حَدَّثَنَا حماد بن خالد الخياط، قال، حَدَّثَنَا داود بن
قيس، عن زيد بن أسلم في قوله عز وجل: «أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا
يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا» ، قال: كان مما
ينهاهم عنه حذف الدراهم- أو قال: قطع الدراهم، الشك من حماد.
حدثنا سهل بن موسى الرازي، قال: حدثنا ابن أبي فديك، عن أبي مودود قال: سمعت محمد
بن كعب القرظي يقول: بلغني أن قوم شعيب عذبوا في قطع الدراهم، ثم وجدت ذلك في
القرآن: «أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ
نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا» .
حَدَّثَنَا ابن وكيع، قال: حَدَّثَنَا زيد بن حباب، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن
كعب القرظي، قال: عذب قوم شعيب في قطعهم الدراهم، فقالوا:
«يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ
ان نفعل في أموالنا ما نشاء» .
ونرجع الآن إلى:
(1/329)
ذكر يعقوب وأولاده
ذكروا والله أعلم أن إسحاق بن ابراهيم عاش بعد ما ولد له العيص ويعقوب مائة سنة،
ثم توفي وله مائة وستون سنة فقبره ابناه: العيص ويعقوب عند قبر ابيه ابراهيم في
مزرعه حبرون، وكان عمر يعقوب بن إسحاق كله مائة وسبعا وأربعين سنة، وكان ابنه يوسف
قد قسم له ولأمه من الحسن ما لم يقسم لكثير من احد من الناس.
وَقَدْ حَدَّثَنِي عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ وَأَحْمَدُ بْنُ ثَابِتٍ
الرَّازِيَّانِ، قَالا: حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا
حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: أخبرنا ثابت البناني عن انس [عن النبي ص، قَالَ:
أُعْطِيَ يُوسُفُ وَأُمُّهُ شَطْرَ الْحُسْنِ] .
وَإِنَّ أُمَّهُ رَاحِيلَ لَمَّا وَلَدَتْهُ دَفَعَهُ زَوْجُهَا يَعْقُوبُ إِلَى
أُخْتِهِ تَحْضُنُهُ، فَكَانَ مِنْ شَأْنِهِ وَشَأْنِ عَمَّتِهِ الَّتِي كَانَتْ
تَحْضُنُهُ ما حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد
الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: كان أول ما دخل على يوسف من البلاء فيما بلغني
أن عمته ابنة إسحاق، وكانت أكبر ولد إسحاق، وكانت إليها صارت منطقة إسحاق، وكانوا
يتوارثونها بالكبر، فكان من اختانها من وليها كان له سلما لا ينازع فيه، يصنع فيه
ما شاء، وكان يعقوب حين ولد له يوسف قد كان حضنته عمته، فكان معها واليها، فلم يحب
أحد شيئا من الأشياء حبها إياه، حتى إذا ترعرع
(1/330)
وبلغ سنوات، ووقعت نفس يعقوب
عليه، أتاها فقال: يا أخيه سلمى الى يوسف، فو الله ما أقدر على أن يغيب عني ساعة،
قالت: والله ما انا بتاركته، قال: فو الله ما أنا بتاركه قالت: فدعه عندي أياما
أنظر إليه وأسكن عنه، لعل ذلك يسليني عنه- أو كما قالت- فلما خرج من عندها يعقوب
عمدت إلى منطقة إسحاق فحزمتها على يوسف من تحت ثيابه، ثم قالت:
لقد فقدت منطقة إسحاق، فانظروا من أخذها ومن أصابها، فالتمست ثم قالت: كشفوا أهل
البيت، فكشفوهم فوجدوها مع يوسف، فقالت: والله إنه لي لسلم أصنع فيه ما شئت قال:
وأتاها يعقوب فأخبرته الخبر، فقال لها:
أنت وذاك، إن كان فعل ذلك فهو سلم لك، ما أستطيع غير ذلك فأمسكته، فما قدر عليه
يعقوب حتى ماتت قال: فهو الذي يقول إخوة يوسف حين صنع بأخيه ما صنع حين أخذه: «إِنْ
يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ» .
قال أبو جعفر: فلما رأت إخوة يوسف شدة حب والدهم يعقوب إياه في صباه وطفولته وقلة
صبره عنه حسدوه على مكانه منه وقال بعضهم لبعض: «لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى
أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ، يعنون بالعصبة الجماعة، وكانوا عشرة: إِنَّ
أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» .
ثم كان من أمره وأمر يعقوب ما قد قص الله تبارك وتعالى في كتابه من مسألتهم إياه
إرساله إلى الصحراء معهم، ليسعى وينشط ويلعب، وضمانهم له حفظه، وإعلام يعقوب إياهم
حزنه بمغيبه عنه، وخوفه عليه من الذئب، وخداعهم والدهم بالكذب من القول والزور عن
يوسف، ثم إرساله معهم
(1/331)
وخروجهم به وعزمهم حين برزوا
به إلى الصحراء على إلقائه في غيابة الجب، فكان من أمره حينئذ- فيما ذكر- ما
حَدَّثَنَا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو بن محمد العنقزى، عن اسباط، عن السدى قال: ارسله-
يعني يعقوب يوسف- معهم، فأخرجوه وبه عليهم كرامة، فلما برزوا إلى البرية أظهروا له
العداوة، وجعل أخوه يضربه فيستغيث بالآخر فيضربه، فجعل لا يرى منهم رحيما، فضربوه
حتى كادوا يقتلونه، فجعل يصيح ويقول: يا أبتاه يا يعقوب! لو تعلم ما يصنع بابنك
بنو الإماء! فلما كادوا يقتلونه، قال يهوذا: أليس قد أعطيتموني موثقا ألا تقتلوه!
فانطلقوا به إلى الجب ليطرحوه، فجعلوا يدلونه في البئر فيتعلق بشفيرها، فربطوا
يديه، ونزعوا قميصه، فقال: يا إخوتاه، ردوا علي قميصي أتوارى به في الجب! فقالوا:
ادع الشمس والقمر والأحد عشر كوكبا تؤنسك، قال: إني لم أر شيئا، فدلوه في البئر
حتى إذا بلغ نصفها ألقوه إرادة أن يموت فكان في البئر ماء، فسقط فيه، ثم أوى إلى
صخرة فيها، فقام عليها فلما ألقوه في الجب جعل يبكي، فنادوه، فظن أنها رحمة
أدركتهم، فأجابهم، فأرادوا أن يرضخوه بصخرة فيقتلوه، فقام يهوذا فمنعهم وقال: قد
أعطيتموني موثقا ألا تقتلوه، وكان يهوذا يأتيه بالطعام.
ثم خبره تبارك وتعالى عن وحيه الى يوسف ع وهو في الجب لينبئن إخوته الذين فعلوا به
ما فعلوا بفعلهم ذلك وهم لا يشعرون بالوحي الذي أوحى إلى يوسف كذلك روي ذلك عن
قتادة حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى الصَّنْعَانِيُّ قَالَ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ قتادة:
«وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا، قال: أوحى إلى يوسف
وهو في الجب أن ينبئهم بما صنعوا به وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» بذلك الوحي
(1/332)
حَدَّثَنِي المثنى، قال:
حَدَّثَنَا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن قتادة بنحوه، إلا أنه قال:
أن سينبئهم.
وقيل معنى ذلك: وهم لا يشعرون أنه يوسف، وذلك قول يروى عن ابْنِ عَبَّاسٍ،
حَدَّثَنِي بِذَلِكَ الحارث، قال: حدثنا عبد العزيز، قال: حدثنا صَدَقَةُ بْنُ
عُبَادَةَ الأَسَدِيُّ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ
ذَاكَ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنُ جُرَيْجٍ.
ثُمَّ خَبَّرَهُ تَعَالَى عَنْ إِخْوَةِ يُوسُفَ وَمَجِيئِهِمْ إِلَى أَبِيهِ
عَشَاءً يَبْكُونَ، يَذْكُرُونَ لَهُ أَنَّ يُوسُفَ أَكَلَهُ الذِّئْبُ، وَقَوْلُ
وَالِدِهِمْ: «بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ» .
ثُمَّ خَبَّرَهُ جَلَّ جَلالُهُ عَنْ مَجِيءِ السَّيَّارَةِ، وَإِرْسَالِهِمْ
وَارِدَهُمْ وَإِخْرَاجِ الْوَارِدِ يُوسُفَ وَإِعْلامِهِ أَصْحَابَهُ به بقوله:
«يا بُشْرى هذا غُلامٌ» يبشرهم.
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قال: حَدَّثَنَا
سعيد، عن قتادة، قال: «يا بُشْرى هذا غُلامٌ» ، تباشروا به حين أخرجوه- وهي بئر
بأرض بيت المقدس معلوم مكانها.
وقد قيل: إنما نادى الذي أخرج يوسف من البئر صاحبا له يسمى بشرى، فناداه باسمه
الذي هو اسمه كذلك ذكر عن السدي حَدَّثَنَا الحسن بن محمد، حَدَّثَنَا خلف بن
هشام، قال: حَدَّثَنَا يحيى بن آدم، عن قيس بن الربيع، عن السدي في قوله: «يا
بُشْرى» ، قال: كان اسم صاحبه بشرى
(1/333)
حَدَّثَنِي المثنى، قال:
حَدَّثَنَا عبد الرحمن بن أبي حماد، قال: حَدَّثَنَا الحكم بن ظهير، عن السدى في
قوله: «يا بُشْرى هذا غُلامٌ» ، قال: اسم الغلام بشرى، كما تقول: يا زيد.
ثم خبره عز وجل عن السيارة وواردهم الذي استخرج يوسف من الجب إذ اشتروه من إخوته
«بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ» ، على زهد فيه وإسرارهم إياه بضاعة، خيفة
ممن معهم من التجار مسألتهم الشركة فيه، إن هم علموا أنهم اشتروه.
كذلك قال في ذلك أهل التأويل:
حَدَّثَنِي محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى عن ابن أبي نجيح،
عن مجاهد: «وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً» ، قال: صاحب الدلو ومن معه قالوا لأصحابهم: إنا
استبضعناه خيفة أن يستشركوهم فيه إن علموا بثمنه، وتبعهم إخوته يقولون للمدلي
وأصحابه: استوثقوا منه لا يأبق، حتى وقفوه بمصر فقال: من يبتاعني ويبشر! فاشتراه
الملك، والملك مسلم.
حَدَّثَنَا الحسن بن مُحَمَّد، قَالَ: حَدَّثَنَا شبابة، قَالَ: حَدَّثَنَا ورقاء،
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بنحوه، غير أنه قَالَ: خيفة أن يستشركوهم إن علموا به،
واتبعهم إخوته، يقولون للمدلي وأصحابه: استوثقوا منه لا يأبق حتى وقفوه بمصر.
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قال، حدثنا عمرو بن حماد، عن أسباط، عَنِ السُّدِّيِّ:
«وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً» ، قَالَ: لما اشتراه الرجلان فرقوا من الرفقة أن يقولوا:
اشتريناه فيسالونهم الشركة فيه فقالوا: إن سألونا: ما هذا؟ قلنا: بضاعة، استبضعناه
أهل الماء، فذلك قوله: «وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً»
(1/334)
فكان بيعهم إياه ممن باعوه منه
بثمن بخس، وذلك الناقص القليل من الثمن الحرام.
وقيل إنهم باعوه بعشرين درهما، ثم اقتسموها- وهم عشرة- درهمين درهمين، وأخذوا
العشرين معدودة بغير وزن، لأن الدراهم حينئذ- فيما قيل- إذا كانت أقل من أوقية
وزنها أربعون درهما لم تكن توزن، لأن أقل أوزانهم يومئذ كانت أوقية.
وقد قيل: إنهم باعوه بأربعين درهما وقيل: باعوه باثنين وعشرين درهما.
وذكر أن بائعه الذي باعه بمصر كان مالك بن دعر بن يوبب ابن عفقان بن مديان بن
ابراهيم الخليل ع حدثنا بذلك ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ،
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَأَمَّا الَّذِي اشْتَرَاهُ بِهَا وَقَالَ: «لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ» ،
فَإِنَّ اسْمَهُ- فِيمَا ذُكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- قطفير حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ
بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ:
حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:
كَانَ اسْمُ الَّذِي اشْتَرَاهُ قِطْفِيرَ.
وَقِيلَ إِنَّ اسْمَهُ أَطْفِيرُ، بْنُ رُوحَيْبٍ، وَهُوَ الْعَزِيزُ، وَكَانَ
عَلَى خَزَائِنِ مِصْرَ، وَالْمَلِكُ يَوْمَئِذٍ الرَّيَّانُ بْنُ الْوَلِيدِ،
رَجُلٌ مِنَ الْعَمَالِيقِ، كَذَلِكَ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ.
فَأَمَّا غَيْرُهُ فَإِنَّهُ قَالَ: كَانَ يَوْمَئِذٍ الْمَلِكُ بِمِصْرَ
وَفِرْعُونُهَا الريان بن الوليد بن ثروان بن أراشة بن قاران بن عمرو بن عملاق بن
لاوِذَ بْنِ سَامَ بْنِ نُوحٍ
(1/335)
وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ:
إِنَّ هَذَا الْمَلِكَ لَمْ يَمُتْ حَتَّى آمَنَ وَاتَّبَعَ يُوسُفَ عَلَى
دِينِهِ، ثُمَّ مَاتَ وَيُوسُفُ بَعْدُ حَيٌّ، ثُمَّ مَلَكَ بعده قابوس بن مصعب بن
معاوية بن نمير بن السلواس بن قاران بن عمرو بن عملاق بن لاوذ بن سام بن نُوحٍ
عَلَيْهِ السَّلامُ، وَكَانَ كَافِرًا، فَدَعَاهُ يُوسُفَ إِلَى الإِسْلامِ
فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ.
وَذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ التَّوْرَاةِ أَنَّ فِي التَّوْرَاةِ: إِنَّ الَّذِي كَانَ
مِنْ أَمْرِ يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ وَالْمَصِيرِ بِهِ إِلَى مِصْرَ، وَهُوَ ابْنُ
سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً يَوْمَئِذٍ، وَإِنَّهُ أَقَامَ فِي مَنْزِلِ الْعَزِيزِ
الَّذِي اشْتَرَاهُ ثَلاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَإِنَّهُ لَمَّا تَمَّتْ لَهُ
ثَلاثُونَ سَنَةً اسْتَوْزَرَهُ فِرْعَوْنُ مِصْرَ، الْوَلِيدُ بْنُ الرَّيَّانِ،
وَإِنَّهُ مَاتَ يَوْمَ مَاتَ وَهُوَ ابْنُ مِائَةِ سَنَةٍ وَعَشْرِ سِنِينَ
وَأَوْصَى إِلَى أَخِيهِ يَهُوذَا، وَإِنَّهُ كَانَ بَيْنَ فِرَاقِهِ يَعْقُوبَ
وَاجْتِمَاعِهِ مَعَهُ بِمِصْرَ اثْنَتَانِ وَعِشْرُونَ سَنَةً، وَإِنَّ مَقَامَ
يَعْقُوبَ مَعَهُ بِمِصْرَ بَعْدَ مُوَافَاتِهِ بِأَهْلِهِ سبع عشره سنه، وان
يعقوب ص اوصى الى يوسف ع.
وكان دخول يعقوب مصر في سبعين إنسانا مِنْ أَهْلِهِ، فَلَمَّا اشْتَرَى أطفيرُ
يُوسُفَ، وَأَتَى بِهِ مَنْزِلَهُ، قَالَ لأَهْلِهِ وَاسْمُهَا- فيما حَدَّثَنَا ابن
حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إِسْحَاقَ- راعيل: «أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى
أَنْ يَنْفَعَنا» فيكفينا إذا هو بلغ وفهم الأمور بعض ما نحن بسبيله من أمورنا:
«أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً» ، وذلك أنه كان- فيما حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ،
قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ عن ابن إسحاق- رجلا لا يأتي النساء، وكانت امرأته
راعيل حسناء ناعمة في ملك ودنيا، فلما خلا من عمر يوسف ع ثلاث وثلاثون سنة أعطاه
الله عز وجل الحكم والعلم.
حَدَّثَنِي المثنى، قَالَ: حَدَّثَنَا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد: «آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً» : قَالَ: العقل والعلم قبل النبوة
(1/336)
«وَراوَدَتْهُ حين بلغ من السن
أشده الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ- وهي راعيل امرأة العزيز أطفير-
وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ» عليه وعليها للذي أرادت منه، وجعلت- فيما ذكر- تذكر
ليوسف محاسنه تشوقه بذلك إلى نفسها.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ.
حَدَّثَنَا ابْنُ وكيع، قال: حدثنا عمرو بن محمد، عن أسباط، عن السدي: «وَلَقَدْ
هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها» ، قَالَ: قالت له يا يوسف:
ما أحسن شعرك! قَالَ: هو أول ما ينتثر من جسدي، قالت: يا يوسف ما أحسن عينيك!
قَالَ: هي أول ما يسيل إلى الأرض من جسدي، قالت:
يا يوسف ما أحسن وجهك! قَالَ: هو للتراب يأكله، فلم تزل حتى أطمعته فهمت به وهم
بها، فدخلا البيت وغلقت الأبواب، وذهب ليحل سراويله فإذا هو بصورة يعقوب قائما في
البيت قد عض على إصبعه يقول: يا يوسف لا تواقعها، فإنما مثلك ما لم تواقعها مثل
الطير في جو السماء لا يطاق، ومثلك إن واقعتها مثله إذا مات وقع في الأرض لا
يستطيع أن يدفع عن نفسه.
ومثلك ما لم تواقعها مثل الثور الصعب الذي لا يعمل عليه، ومثلك إن واقعتها مثل
الثور حين يموت فيدخل النمل في أصل قرنيه لا يستطيع أن يدفع عن نفسه فربط سراويله،
وذهب ليخرج يشتد، فأدركته فأخذت بمؤخر قميصه من خلفه فخرقته حتى أخرجته منه، وسقط
وطرحه يوسف، واشتد نحو الباب.
وَقَدْ حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ وَابْنُ وَكِيعٍ وَسَهْلُ بْنُ مُوسَى، قَالُوا:
حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنِ ابْنِ
أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: سُئِلَ عَنْ هَمِّ يُوسُفَ مَا بَلَغَ؟
قَالَ: حَلَّ الْهِمْيَانَ، وَجَلَسَ مِنْهَا مَجْلِسَ الْحَائِزِ
(1/337)
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ
مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ،
قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، قَالَ: قُلْتُ لابْنِ
عَبَّاسٍ: مَا بَلَغَ مِنْ هَمِّ يُوسُفَ؟ قَالَ: اسْتَلْقَتْ لَهُ وَجَلَسَ
بَيْنَ رِجْلَيْهَا يَنْزِعُ ثِيَابَهُ، فَصَرَفَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مَا
كَانَ هَمَّ بِهِ مِنَ السُّوءِ بِمَا رَأَى مِنَ الْبُرْهَانِ الَّذِي أَرَاهُ
اللَّهُ، فَذَلِكَ- فِيمَا قَالَ بَعْضُهُمْ- صُورَةُ يَعْقُوبَ عَاضًّا عَلَى
إِصْبَعِهِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نُودِيَ مِنْ جَانِبِ الْبَيْتِ: أَتَزْنِي فَتَكُونُ
كَالطَّيْرِ وَقَعَ رِيشُهُ، فَذَهَبَ يَطِيرُ وَلا رِيشَ لَهُ! وَقَالَ
بَعْضُهُمْ: رَأَى فِي الْحَائِطِ مَكْتُوبًا: «وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ
كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا» فَقَامَ حِينَ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ هَارِبًا
يُرِيدُ باب البيت، فرارا مما ارادته، وَاتَّبَعَتْهُ رَاعِيلُ فَأَدْرَكَتْهُ
قَبْلَ خُرُوجِهِ مِنَ الْبَابِ، فَجَذَبَتْهُ بِقَمِيصِهِ مِنْ قِبَلِ ظَهْرِهِ،
فَقَدَّتْ قَمِيصَهُ وَأَلْفَى يُوسُفُ وَرَاعِيلُ سَيِّدَهَا- وَهُوَ زَوْجُهَا
أطفيرُ- جَالِسًا عِنْدَ الْبَابِ، مَعَ ابْنِ عَمٍّ لِرَاعِيلَ.
كذلك حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عمرو بن مُحَمَّد، عن أسباط، عن
السدي،: «وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ» قَالَ: كان جالسا عند الباب وابن
عمها معه، فلما رأته قالت: «مَا جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ
يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ، إنه راودني عن نفسي، فدفعته عن نفسي فأبيت فشققت
قميصه قال يوسف: بل هي راودتني عن نفسي، فأبيت وفررت منها، فأدركتني فشقت قميصي
فقال ابن عمها: تبيان هذا في القميص، فإن كان القميص «قُدَّ مِنْ قُبُلٍ
فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ» ، وإن كان القميص قُدَّ مِنْ دُبُرٍ
فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ» ، فأتي بالقميص، فوجده قد من دبر، قَالَ:
«إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَ
(1/338)
عَظِيمٌ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ
هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ» .
حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْنُ عُمَارَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ
مُوسَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا شيبان، عن أبي إسحاق، عن نوف الشامي، قَالَ: ما كان
يوسف يريد أن يذكره حتى قالت: «مَا جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا
أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ، قَالَ: فغضب وقالَ: هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ
نَفْسِي» .
وقد اختلف في الشاهد الذي شهد من أهلها «إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ
فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ» ، فقال بعضهم: ما ذكرت عن السدي.
وقال بعضهم: كان صبيا في المهد، وقد روي في ذلك عن رسول الله مَا حَدَّثَنَا
الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَطَاءُ بن السائب، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عن [النبي ص، قَالَ: تَكَلَّمَ أَرْبَعَةٌ وَهُمْ
صِغَارٌ، فَذَكَرَ فِيهِمْ شَاهِدَ يُوسُفَ] حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا الْعَلاءُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ
عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،
قَالَ:
تَكَلَّمَ أَرْبَعَةٌ وَهُمْ صِغَارٌ: ابْنُ مَاشِطَةِ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ، وشاهد
يوسف، وصاحب جريج، وعيسى بن مَرْيَمَ.
وَقَدْ قِيلَ إِنَّ الشَّاهِدَ كَانَ هُوَ الْقَمِيصُ وَقَدُّهُ مِنْ دُبُرِهِ.
ذكر بعض من قَالَ ذلك:
حَدَّثَنِي مُحَمَّد بن عمرو، قَالَ: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: «وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها»
(1/339)
قَالَ: قميصه مشقوق من دبره
فتلك الشهادة، فلما رأى زوج المرأة قميص يوسف قد من دبر قَالَ لراعيل زوجته:
«إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ» ، ثم قَالَ ليوسف: أَعْرِضْ
عَنْ ذكر ما كان منها من مراودتها إياك عن نفسها فلا تذكره لأحد، ثم قَالَ لزوجته:
«اسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ» .
وتحدث النساء بأمر يوسف وأمر امرأة العزيز بمصر ومراودتها إياه على نفسها فلم
ينكتم، وقلن: «امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها
حُبًّا» ، قد وصل حب يوسف إلى شغاف قلبها فدخل تحته حتى غلب على قلبها وشغاف
القلب: غلافه وحجابه.
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حدثنا عمرو بن محمد، عن أسباط، عن السدى: «قَدْ
شَغَفَها حُبًّا» قال: والشغاف جلدة على القلب يقال لها لسان القلب، يقول: دخل
الحب الجلد حتى أصاب القلب، فلما سمعت امرأة العزيز بمكرهن وتحدثهن بينهن بشأنها
وشأن يوسف، وبلغها ذلك أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكأ يتكئن عليه إذا حضرنها من
وسائد وحضرنها فقدمت إليهن طعاما وشرابا وأترجا، وأعطت كل واحدة منهن سكينا تقطع
به الأترج.
حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ الصَّلْتِ، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَبُو كُدَيْنَةَ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ: «وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ
سِكِّيناً» ، قَالَ: أَعْطَتْهُنَّ أُتْرُجًّا، وَأَعْطَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ
مِنْهُنَّ سِكِّينًا.
فَلَمَّا فَعَلَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ ذَلِكَ بِهِنَّ، وَقَدْ أَجْلَسَتْ
يُوسُفَ فِي بَيْتٍ وَمَجْلِسٍ غَيْرِ الْمَجْلِسِ الَّذِي هُنَّ فِيهِ جُلُوسٌ،
قَالَتْ لِيُوسُفَ: «اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ» ،
(1/340)
فَخَرَجَ يُوسُفُ عَلَيْهِنَّ،
فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَجْلَلْنَهُ وَأَكْبَرْنَهُ وَأَعْظَمْنَهُ، وَقَطَّعْنَ
أَيْدِيَهُنَّ بِالسَّكَاكِينِ الَّتِي فِي أَيْدِيهِنَّ، وَهُنَّ يَحْسَبْنَ
أَنَّهُنَّ يُقَطِّعْنَ بِهَا الأُتْرُجَّ، وَقُلْنَ:
مَعَاذَ اللَّهِ مَا هَذَا إِنْسٌ، «إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ» فَلَمَّا
حَلَّ بِهِنَّ مَا حَلَّ مِنْ قَطْعِ أَيْدِيهِنَّ مِنْ أَجْلِ نَظْرَةٍ
نَظَرْنَهَا إِلَى يُوسُفَ وذهاب عقولهن، وعرفتهن خطا قيلهن: «امْرَأَتُ
الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ» ، وَإِنْكَارِهِنَّ مَا أَنْكَرْنَ
مِنْ أَمْرِهَا أَقَرَّتْ عِنْدَ ذَلِكَ لَهُنَّ بِمَا كَانَ مِنْ مُرَاوَدَتِهَا
إِيَّاهُ عَلَى نَفْسِهَا، فَقَالَتْ: «فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ
وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ» ، بَعْدَ مَا حَلَّ
سَرَاوِيلَهُ.
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو بن مُحَمَّد، عَنْ أَسْبَاطٍ، عَنِ السُّدِّيِّ:
«قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ
فَاسْتَعْصَمَ» ، تقول: بعد ما حل السراويل استعصم، لا أدري ما بدا له! ثم قالت
لهن:
«وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ» من إتيانها «لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ
الصَّاغِرِينَ» ، فاختار السجن على الزنا ومعصية ربه، فقال: «رَبِّ السِّجْنُ
أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ» .
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو بن مُحَمَّد، عَنْ أَسْبَاطٍ، عَنِ السُّدِّيِّ:
«قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ» من الزنا،
واستغاث بربه عز وجل فقال: «وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ
إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ» فأخبر الله عز وجل أنه استجاب له دعاءه،
فصرف عنه كيدهن ونجاه من ركوب الفاحشة، ثم بدا للعزيز من بعد ما رأى من الآيات ما
رأى من قد القميص من الدبر، وخمش في الوجه، وقطع النسوة أيديهن وعلمه
(1/341)
ببراءة يوسف مما قرف به في ترك
يوسف مطلقا وقد قيل: إن السبب الذي من أجله بدا له في ذلك، ما حَدَّثَنَا به ابن
وكيع، قَالَ: حَدَّثَنَا عمرو بن مُحَمَّد، عن أسباط عن السدي: «ثُمَّ بَدا لَهُمْ
مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ» ، قَالَ: قالت
المرأة لزوجها:
إن هذا العبد العبراني قد فضحني في الناس يعتذر إليهم ويخبرهم أني راودته عن نفسه،
ولست أطيق أن أعتذر بعذري، فإما أن تأذن لي فأخرج فأعتذر، وإما أن تحبسه كما
حبستني، فذلك قول الله عز وجل: «ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا
الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ» ، فذكر أنهم حبسوه سبع سنين.
ذِكْرُ مَنْ قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا المحاربي، عن داود، عن عكرمة: «لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى
حِينٍ» ، قَالَ: سبع سنين، فلما حبس يوسف في السجن صاحبه العزيز، أدخل معه السجن
الذي حبس فيه فتيان من فتيان الملك صاحب مصر الأكبر، وهو الوليد بن الريان، أحدهما
كان صاحب طعامه، والآخر كان صاحب شرابه.
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو، عن أَسْبَاطٍ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ:
حبسه الملك، وغضب على خبازه، بلغه أنه يريد أن يسمه فحبسه، وحبس صاحب شرابه، ظن
أنه مالأه على ذلك، فحبسهما جميعا، فذلك قول الله عز وجل: «وَدَخَلَ مَعَهُ
السِّجْنَ فَتَيانِ» .
فلما دخل يوسف قَالَ فيما حَدَّثَنِي به ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو، عن أسباط،
عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: لما دخل يوسف السجن، قَالَ: إني أعبر الأحلام، فقال أحد
الفتيين لصاحبه: هلم فلنجرب هذا العبد العبراني، فتراءيا له، فسألاه من غير أن
يكونا رأيا شيئا، فقال الخباز: «إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ
(1/342)
فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً
تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ، وقال الآخر: إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً،
نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ» فقيل: كان إحسانه ما
حَدَّثَنَا به إسحاق بن أبي إسرائيل، قَالَ: حَدَّثَنَا خلف بن خليفة، عن سلمة بن
نبيط، عن الضحاك قَالَ: سأل رجل الضحاك عن قوله: «إِنَّا نَراكَ مِنَ
الْمُحْسِنِينَ» : ما كان إحسانه؟ قَالَ: كان إذا مرض إنسان في السجن قام عليه،
وإذا احتاج جمع له، وإذا ضاق عليه المكان وسع له، فقال لهما يوسف: «لا يَأْتِيكُما
طَعامٌ تُرْزَقانِهِ في يومكما هذا إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ» في اليقظة
فكره صلى الله عليه أن يعبر لهما ما سألاه عنه، وأخذ في غير الذي سألا عنه لما في
عبارة ما سألا عنه من المكروه على أحدهما فقال: «يَا صاحِبَيِ السِّجْنِ
أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ» .
وكان اسم أحد الفتيين اللذين أدخلا السجن محلب- وهو الذي ذكر أنه رأى فوق رأسه
خبرا- واسم الآخر نبو، وهو الذي ذكر أنه رأى كأنه يعصر خمرا، فلم يدعاه والعدول عن
الجواب عما سألاه عنه حتى أخبرهما بتأويل ما سألاه عنه فقال: «أَمَّا أَحَدُكُما
فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً» - وهو الذي ذكر أنه رأى كأنه يعصر خمرا، وَأَمَّا
الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ» .
فلما عبر لهما ما سألاه تعبيره، قالا: ما رأينا شيئا.
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابن فضيل، عن عمارة- يعني ابن
القعقاع- عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، في الفتيين اللذين أتيا يوسف
(1/343)
في الرؤيا إنما كانا تحالما
ليختبراه، فلما أول رؤياهما قالا: انما كنا نلعب، فقال: «قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي
فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ» ثم قَالَ لنبو- وهو الذي ظن يوسف أنه ناج منهما:
«اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ يعني عند الملك، واخبره أني محبوس ظلما، فَأَنْساهُ
الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ» ، غفلة عرضت ليوسف من قبل الشيطان.
فحَدَّثَنِي الحارث، قال: حدثنا عبد العزيز، قال: حدثنا جعفر بن سليمان الضبعي، عن
بسطام بن مسلم، عن مالك بن دينار، قَالَ: قَالَ يوسف للساقي: اذكرني عند ربك،
قَالَ: قيل: يا يوسف، اتخذت من دوني وكيلا! لأطيلن حبسك قَالَ: فبكى يوسف وقال: يا
رب أنسى قلبي كثرة البلوى فقلت كلمة، فويل لإخوتي! حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ،
قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ
عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عباس، قال: [قال النبي ص:
لَوْ لَمْ يَقُلْ يُوسُفُ- يَعْنِي الْكَلِمَةَ الَّتِي قَالَ- مَا لَبِثَ فِي
السِّجْنِ طُولَ مَا لَبِثَ حَيْثُ يَبْتَغِي الْفَرَجَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ] .
فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ، فيما حدثني الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق،
قَالَ: أخبرنا عمران أبو الهذيل الصنعاني، قَالَ: سمعت وهبا يقول: أصاب أيوب
البلاء سبع سنين وترك يوسف في السجن سبع سنين، وعذب بختنصر فحول في السباع سبع
سنين.
ثم إن ملك مصر رآى رؤيا هالته
(1/344)
فحَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ،
قَالَ: حَدَّثَنَا عمرو بن مُحَمَّد، عَنْ أَسْبَاطٍ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: إن
الله عز وجل أرى الملك في منامه رؤيا هالته، فرأى:
«سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ
وَأُخَرَ يابِساتٍ» ، فجمع السحرة، والكهنة والحازة والقافة، فقصها عليهم، فقالوا:
«أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ وَقالَ
الَّذِي نَجا مِنْهُما من الفتيين وهو نبو، وَادَّكَرَ حاجة يوسف بَعْدَ أُمَّةٍ،
يعني بعد نسيان:
أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ» ، يقول: فأطلقون فأرسلوه فأتى
يوسف فقال: «أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ
يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ» ، فإن
الملك رأى ذلك في نومه.
فَحَدَّثَنَا ابن وكيع، قال، حدثنا عمرو، عن أسباط، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ:
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ يَكُنِ السِّجْنُ فِي الْمَدِينَةِ، فَانْطَلَقَ
السَّاقِي إِلَى يُوسُفَ، فَقَالَ: «أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ»
الآيَاتِ.
فحَدَّثَنَا بشر بن معاذ، قَالَ: حَدَّثَنَا يزيد، قَالَ: حَدَّثَنَا سعيد، عن
قتادة، «أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ» فالسمان المخاصيب، والبقرات العجاف
هن السنون المحول الجدوب قوله: وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ» أما
الخضر فهن السنون المخاصيب، وأما اليابسات فهن الجدوب المحول.
فلما أخبر يوسف نبو بتأويل ذلك، أتى نبو الملك، فأخبره بما قَالَ له يوسف، فعلم
الملك أن الذي قَالَ يوسف من ذلك حق، قَالَ: ائتوني به.
فَحَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو، عَنْ أَسْبَاطٍ، عَنِ
السُّدِّيِّ، قَالَ: لَمَّا أَتَى الْمَلِكَ رَسُولُهُ فَأَخْبَرَهُ، قَالَ:
ائْتُونِي بِهِ، فَلَمَّا أَتَاهُ الرَّسُولُ وَدَعَاهُ إِلَى
(1/345)
الْمَلِكِ أَبَى يُوسُفُ
الْخُرُوجَ مَعَهُ، وَقَالَ: «ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ مَا بالُ
النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ
عَلِيمٌ» .
قَالَ السُّدِّيُّ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ خَرَجَ يُوسُفُ يَوْمَئِذٍ قَبْلَ
أَنْ يَعْلَمَ الْمَلِكُ بِشَأْنِهِ مَا زَالَتْ فِي نَفْسِ الْعَزِيزِ مِنْهُ
حَاجَةٌ، يَقُولُ: هَذَا الَّذِي رَاوَدَ امْرَأَتِي فَلَمَّا رَجَعَ الرَّسُولُ
إِلَى الْمَلِكِ مِنْ عِنْدِ يُوسُفَ جَمَعَ الْمَلِكُ أُولَئِكَ النِّسْوَةِ،
فَقَالَ لَهُنَّ:
مَا خَطْبُكُنَّ إذ راودتن يوسف عن نفسه! قلن- فيما حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ،
قَالَ:
حَدَّثَنَا عمرو، عن أسباط، عن السدي قال: لما قَالَ الْمَلِكُ لَهُنَّ: «مَا
خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ مَا
عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ» ، ولكن امراه العزيز أخبرتنا انها راودته عن نفسه،
ودخل معها البيت، ف قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ حينئذ: «الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ
أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ» فقال يوسف: ذلك
هذا الفعل الذي فعلت من ترديدي رسول الملك بالرسالات التي أرسلت في شأن النسوة،
ليعلم اطفير سيدي «أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ في زوجته راعيل، وَأَنَّ
اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ» .
فلما قال ذلك يوسف قال له جبرئيل: مَا حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:
لَمَّا جَمَعَ الْمَلِكُ النِّسْوَةَ، فَسَأَلَهُنَّ: هَلْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ
عَنْ نَفْسِهِ؟ «قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ
امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ
وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ يُوسُفُ: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ
أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ» قال: فقال
له جبرئيل:
(1/346)
وَلا يَوْمَ هَمَمْتَ بِهَا؟
فَقَالَ: وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ» .
فَلَمَّا تَبَيَّنَ لِلْمَلِكِ عُذْرُ يُوسُفَ وَأَمَانَتُهُ قَالَ: «ائْتُونِي
بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا اتى به كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ
لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ» فَقَالَ يُوسُفُ لِلْمَلِكِ:
«اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ» .
فحَدَّثَنِي يونس، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زيد في
قوله:
«اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ» قَالَ: كان لفرعون خزائن كثيرة غير الطعام،
فسلم سلطانه كله إليه، وجعل القضاء إليه أمره، وقضاؤه نافذ.
حَدَّثَنَا ابن حميد قَالَ: حَدَّثَنَا إبراهيم بن المختار، عن شيبة الضبي في قوله:
«اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ» ، قَالَ: على حفظ الطعام «إِنِّي حَفِيظٌ
عَلِيمٌ» يقول: إني حفيظ لما استودعتني، عليم بسني المجاعة، فولاه الملك ذلك.
وقد حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، قَالَ:
لما قَالَ يوسف للملك: «اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ
عَلِيمٌ» قَالَ الملك: قد فعلت، فولاه- فيما يذكرون- عمل إطفير، وعزل إطفير عما
كان عليه، يقول الله تبارك وتعالى: «وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ
يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ
أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ» قَالَ: فذكر لي- والله أعلم- أن إطفير هلك في تلك الليالي،
وأن الملك الريان بن الوليد زوج يوسف امرأة إطفير راعيل، وأنها حين دخلت عليه
قَالَ: أليس هذا خيرا مما كنت تريدين! قَالَ: فيزعمون أنها قالت:
أيها الصديق لا تلمني، فإني كنت امرأة- كما ترى- حسناء جميلة ناعمة، في ملك ودنيا،
وكان صاحبي لا يأتي النساء، وكنت كما جعلك الله في حسنك وهيئتك، فغلبتني نفسي على
ما رأيت فيزعمون أنه وجدها عذراء، وأصابها فولدت له رجلين: أفراييم بن يوسف ومنشا
بن يوسف.
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عمرو، عن أسباط، عن السدي:
(1/347)
«وَكَذلِكَ مَكَّنَّا
لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ» قَالَ:
استعمله الملك على مصر، وكان صاحب أمرها، وكان يلي البيع والتجارة وأمرها كله،
فذلك قوله: «وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها
حَيْثُ يَشاءُ» .
فلما ولي يوسف للملك خزائن أرضه واستقر به القرار في عمله، ومضت السنون السبع
المخصبة التي كان يوسف أمر بترك ما في سنبل ما حصدوا من الزرع فيها فيه، ودخلت
السنون المجدبة وقحط الناس، أجدبت بلاد فلسطين فيما أجدب من البلاد، ولحق مكروه
ذلك آل يعقوب في موضعهم الذي كانوا فيه، فوجه يعقوب بنيه.
فحَدَّثَنَا ابْنُ وكيع، قال: حدثنا عمرو، عن أسباط، عن السُّدِّيِّ، قَالَ:
أصاب الناس الجوع حتى أصاب بلاد يعقوب التي هو بها، فبعث بنيه إلى مصر، وأمسك أخا
يوسف بنيامين، فلما دخلوا على يوسف عرفهم وهم له منكرون، فلما نظر إليهم قَالَ:
أخبروني: ما أمركم؟ فإني أنكر شأنكم! قَالُوا: نحن قوم من أرض الشام، قَالَ: فما
جاء بكم؟ قَالُوا: جئنا نمتار طعاما، قَالَ: كذبتم، أنتم عيون! كم أنتم؟ قَالُوا:
عشرة، قَالَ: أنتم عشرة آلاف، كل رجل منكم امير ألف فأخبروني خبركم، قَالُوا: إنا
إخوة، بنو رجل صديق، وإنا كنا اثني عشر، وكان أبونا يحب أخا لنا، وإنه ذهب معنا
الى البرية فهلك فيها، وكان أحبنا إلى أبينا قَالَ: فإلى من سكن أبوكم بعده؟
قَالُوا: إلى أخ لنا أصغر منه قَالَ: فكيف تخبرونني أن أباكم صديق وهو يحب الصغير
منكم دون الكبير! ائتوني بأخيكم هذا حتى أنظر إليه: «فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ
فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ
وَإِنَّا لَفاعِلُونَ»
(1/348)
قَالَ: فضعوا بعضكم رهينة حتى
ترجعوا، فوضعوا شمعون وحَدَّثَنَا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عَنِ ابْنِ
إِسْحَاقَ، قَالَ: كان يوسف حين راى ما أصاب الناس من الجهد قد آسى بينهم، فكان لا
يحمل للرجل الا بعيرا واحدا، ولا يحمل الواحد بعيرين تقسيطا بين الناس، وتوسيعا
عليهم، فقدم عليه إخوته فيمن قدم عليه من الناس يلتمسون الميرة من مصر، فعرفهم وهم
له منكرون لما أراد الله تعالى أن يبلغ بيوسف فيما أراد ثم أمر يوسف بان يوقر لكل
رجل من إخوته بعيره، فقال لهم: ائتوني بأخيكم من أبيكم، لأحمل لكم بعيرا آخر،
فتزدادوا به حمل بعير: «أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ» فلا ابخسه أحدا،
«وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ» وأنا خير من أنزل ضيفا على نفسه من الناس بهذه
البلدة، فأنا أضيفكم «فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي» بأخيكم من أبيكم فلا طعام لكم عندي
أكيله، ولا تقربوا بلادي.
وقال لفتيانه الذين يكيلون الطعام لهم: «اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ- وهي ثمن الطعام
الذي اشتروه به- فِي رِحالِهِمْ» .
حَدَّثَنَا بشر، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا
سعيد، عن قتادة: «اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ» ، أي ورقهم، فجعلوا ذلك
في رحالهم وهم لا يعلمون.
فلما رجع بنو يعقوب إلى أبيهم، قَالُوا: ما حَدَّثَنَا به ابن وكيع، قال:
حدثنا عمرو، عن أسباط، عن السدي: فلما رجعوا إلى أبيهم قَالُوا: يا أبانا، إن ملك
مصر أكرمنا كرامة، لو كان رجلا من ولد يعقوب ما أكرمنا كرامته، وإنه ارتهن شمعون
وقال: ائتوني بأخيكم هذا الذي عطف عليه أبوكم بعد
(1/349)
أخيكم الذي هلك، فإن لم تأتوني
به فلا كيل لكم عندي ولا تقربوا بلادي أبدا.
قَالَ يعقوب: «هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ
مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» قَالَ: فقال
لهم يعقوب:
إذا أتيتم ملك مصر فأقرءوه مني السلام وقولوا له: إن أبانا يصلي عليك، ويدعو لك
بما أوليتنا.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: خرجوا حتى
إذا قدموا على أبيهم، وكان منزلهم- فيما ذكر لي بعض أهل العلم- بالعربات من أرض
فلسطين بغور الشام وبعضهم يقول: بالأولاج من ناحية الشعب أسفل من حسمي فلسطين،
وكان صاحب بادية، له إبل وشاء فلما رجع إخوة يوسف إلى والدهم يعقوب قَالُوا له: يا
أبانا منع منا الكيل فوق حمل أبا عرنا، ولم يكل لكل واحد منا إلا كيل بعير، فأرسل
معنا أخانا بنيامين يكتل لنفسه، وإنا له لحافظون، فقال لهم يعقوب: «هَلْ آمَنُكُمْ
عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ
حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» .
ولما فتح ولد يعقوب الذين كانوا خرجوا إلى مصر للميرة متاعهم الذي قدموا به من
مصر، وجدوا ثمن طعامهم الذي اشتروه به رد إليهم، فقالوا لوالدهم:
«يَا أَبانا مَا نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا
وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ» آخر على أحمال إبلنا.
وقد حَدَّثَنِي الحارث، قَالَ: حَدَّثَنَا القاسم، قَالَ: حَدَّثَنَا حجاج، عن
(1/350)
ابن جريج، «وَنَزْدادُ كَيْلَ
بَعِيرٍ» ، قَالَ: كان لكل رجل منهم حمل بعير، فقالوا: أرسل معنا أخانا نزدد حمل
بعير قَالَ ابن جريج: قَالَ مجاهد: كيل بعير حمل حمار قَالَ: وهي لغة، قَالَ
الحارث: قَالَ القاسم: يعني مجاهد أن الحمار يقال له في بعض اللغات بعير.
فقال يعقوب: «لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ
لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ» يقول: إلا أن تهلكوا جميعا، فيكون
حينئذ ذلك لكم عذرا عندي، فلما وثقوا له بالأيمان قَالَ يعقوب: «اللَّهُ عَلى مَا
نَقُولُ وَكِيلٌ» .
ثم أوصاهم بعد ما إذن لأخيهم من أبيهم بالرحيل معهم، ألا تدخلوا من باب واحد من
أبواب المدينة خوفا عليهم من العين، وكانوا ذوي صورة حسنة، وجمال وهيئة، وأمرهم أن
يدخلوا من أبواب متفرقة، كما حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ:
حَدَّثَنَا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة:
«وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ» ، قَالَ: كانوا قد أوتوا صورة وجمالا،
فخشي عليهم انفس الناس، فقال الله تبارك وتعالى: «وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ
أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا
حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها» ، وكانت الحاجة التي في نفس يعقوب فقضاها ما
تخوف على أولاده أعين الناس لهيئتهم وجمالهم.
ولما دخل إخوة يوسف على يوسف ضم إليه أخاه لأبيه وأمه، فحَدَّثَنَا ابْنُ وكيع،
قال: حدثنا عمرو، عن أسباط، عن السُّدِّيِّ: «وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوَى
إِلَيْهِ أَخاهُ» ، قَالَ: عرف أخاه، وأنزلهم منزلا، وأجرى عليهم الطعام والشراب،
فلما كان الليل جاءهم بمثل فقال: لينم كل أخوين
(1/351)
منكم على مثال، فلما بقي
الغلام وحده قَالَ يوسف: هذا ينام معي على فراشي، فبات معه، فجعل يوسف يشم ريحه،
ويضمه إليه حتى أصبح، وجعل روبيل يقول: ما رأينا مثل هذا إن نجونا منه.
وأما ابن إسحاق فإنه قَالَ مَا حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا
سلمة، عن ابن إِسْحَاقَ، قَالَ: لما دخلوا- يعني ولد يعقوب- على يوسف قَالُوا: هذا
أخونا الذي أمرتنا أن نأتيك به، قد جئناك به فذكر لي أنه قَالَ لهم: قد أحسنتم
وأصبتم، وستجدون جزاء ذلك عندي، أو كما قَالَ.
ثم قَالَ: إني أراكم رجالا، وقد أردت أن أكرمكم، فدعا صاحب ضيافته فقال: أنزل كل
رجلين على حدة، ثم أكرمهما وأحسن ضيافتهما.
ثم قَالَ: إني أرى هذا الرجل الذي جئتم به ليس معه ثان، فسأضمه إلي فيكون منزله
معي، فأنزلهم رجلين رجلين في منازل شتى، وأنزل أخاه معه فآواه إليه، فلما خلا به
قَالَ: إني أنا أخوك أنا يوسف فلا تبتئس بشيء فعلوه بنا فيما مضى، فإن الله قد
أحسن إلينا فلا تعلمهم مما أعلمتك، يقول الله عز وجل:
«وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ
فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» ، يقول له: «فَلا تَبْتَئِسْ» ، فلا
تحزن.
فلما حمل يوسف إبل إخوته ما حملها من الميرة وقضى حاجتهم ووفاهم كيلهم، جعل الإناء
الذي كان يكيل به الطعام- وهو الصواع- في رحل أخيه بنيامين.
- حدثنا الحسن بن محمد، قال: حدثنا عفان، قَالَ: حَدَّثَنَا عبد الواحد، عن يونس،
عن الحسن أنه كان يقول: الصواع والسقاية سواء، هما الإناء الذي يشرب فيه، وجعل ذلك
في رحل أخيه، والأخ لا يشعر فيما ذكر.
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عمرو، عن أسباط، عن السدي:
«فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ» ،
والأخ لا يشعر، فلما ارتحلوا أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ قبل ان ترتحل العير: «إِنَّكُمْ
لَسارِقُونَ»
(1/352)
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال:
حَدَّثَنَا سلمة، عن ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حمل لهم بعيرا بعيرا، وحمل لأخيه
بنيامين بعيرا باسمه كما حمل لهم، ثم أمر بسقاية الملك- وهو الصواع- وزعموا أنها
كانت من فضة، فجعلت في رحل أخيه بنيامين، ثم أمهلهم حتى إذا انطلقوا فأمعنوا من
القرية، أمر بهم فأدركوا واحتبسوا، ثم نادى مناد: «أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ
لَسارِقُونَ» ، قفوا وانتهى إليهم رسوله فقال لهم- فيما يذكرون-: ألم نكرم
ضيافتكم، ونوفكم كيلكم، ونحسن منزلكم، ونفعل بكم ما لم نفعل بغيركم، وأدخلناكم
علينا في بيوتنا، وصار لنا عليكم حرمة! أو كما قَالَ لهم قَالُوا: بلى، وما ذاك؟
قال: سقاية الملك فقدناها، ولا يتهموا عليها غيركم قَالُوا: «تَاللَّهِ لَقَدْ
عَلِمْتُمْ مَا جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ» وكان
مجاهد يقول كانت العير حميرا.
حَدَّثَنِي بذلك الحارث، قال: حدثنا عبد العزيز، قال: حَدَّثَنَا سفيان، قَالَ:
أخبرني رجل، عن مجاهد: وكان فيما نادى به منادي يوسف: من جاءَ بصواع الملك فله
حِمْلُ بَعِيرٍ من الطعام، وَأَنَا بإيفائه ذلك زَعِيمٌ- يعني كفيل- وإنما قَالَ
القوم: «لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا
سارِقِينَ» ، لأنهم ردوا ثمن الطعام الذي كان كيل لهم المرة الأولى في رحالهم
فردوه إلى يوسف، فقالوا: لو كنا سارقين لم نردد ذلك إليك- وقيل إنهم كانوا معروفين
بأنهم لا يتناولون ما ليس لهم، فلذلك قَالُوا ذلك- فقيل لهم: فما جزاء من كان سرق
ذلك؟ فقالوا: جزاؤه في حكمنا بأن يسلم لفعله ذلك إلى من سرقه حتى يسترقه.
حَدَّثَنَا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو، عن أسباط، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ:
«قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي
رَحْلِهِ
(1/353)
فَهُوَ جَزاؤُهُ» تأخذونه، فهو
لكم فبدأ يوسف بأوعية القوم قبل وعاء أخيه بنيامين، ففتشها ثم استخرجها من وعاء
أخيه لأنه أخر تفتيشه.
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قال: ذكر لنا أنه كان لا ينظر في وعاء إلا
استغفر الله تأثما مما قرفهم به، حتى بقي أخوه- وكان أصغر القوم- قَالَ: ما أرى
هذا أخذ شيئا قَالُوا: بلى فاستبرئه، ألا وقد علموا حيث وضعوا سقايتهم.
«ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ مَا كانَ
لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ» ، يعني في حكم الملك، ملك مصر، وقضائه
لأنه لم يكن من حكم ذلك الملك وقضائه أن يسترق السارق بما سرق، ولكنه أخذه بكيد
الله له حتى أسلمه رفقاؤه وإخوته بحكمهم عليه وطيب أنفسهم بالتسليم.
حَدَّثَنَا الحسن بن مُحَمَّد، قَالَ: حَدَّثَنَا شبابة، قَالَ: حَدَّثَنَا ورقاء،
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: قوله «مَا كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ
الْمَلِكِ» إلا بعلة كادها الله له، فاعتل بها يوسف، فقال اخوه يوسف حينئذ:
«إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ» - يعنون بذلك يوسف وقد قيل
إن يوسف كان سرق صنما لجده أبي أمه، فكسره، فعيروه بذلك.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ:
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عمرو البصري، قَالَ: حَدَّثَنَا الفيض بن الفضل، قَالَ:
حَدَّثَنَا مسعر، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير: «إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ
أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ» ، قَالَ: سرق يوسف صنما لجده أبي أمه فكسره وألقاه في
الطريق، فكان إخوته يعيبونه بذلك
(1/354)
وقد حَدَّثَنَا أَبُو
كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، قَالَ: سمعت أبي قَالَ: كان بنو
يعقوب على طعام، إذ نظر يوسف إلى عرق فخبأه فعيروه بذلك «إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ
سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ» ، فأسر في نفسه يوسف حين سمع ذلك منهم، فقال:
«أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ» به أخا بنيامين من
الكذب، ولم يبد ذلك لهم قولا.
فحَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حدثنا عمرو، عن أسباط، عن السدي، قال: لما
استخرجت السرقة من رحل الغلام انقطعت ظهورهم، وقالوا: يا بني راحيل، ما يزال لنا
منكم بلاء! متى أخذت هذا الصواع؟ فقال بنيامين: بل بنو راحيل الذين لا يزال لهم
منكم بلاء، ذهبتم بأخي فأهلكتموه في البرية، وضع هذا الصواع في رحلي الذي وضع
الدراهم في رحالكم فقالوا: لا تذكر الدراهم فتؤخذ بها فلما دخلوا على يوسف دعا
بالصواع، فنقر فيه ثم أدناه من أذنه، ثم قَالَ: إن صواعي هذا ليخبرني أنكم كنتم
اثني عشر رجلا، وأنكم انطلقتم بأخ لكم فبعتموه فلما سمعها بنيامين قام فسجد ليوسف
ثم قَالَ: أيها الملك، سل صواعك هذا عن أخي أين هو؟ فنقره، ثم قَالَ: هو حي، وسوف
تراه قَالَ: فاصنع بي ما شئت، فإنه إن علم بي فسوف يستنقذني قَالَ:
فدخل يوسف فبكى ثم توضأ، ثم خرج فقال بنيامين: ايها الملك، إني أريد أن تضرب صواعك
هذا فيخبرك بالحق من الذي سرقه فجعله في رحلي فنقره، فقال: إن صواعي هذا غضبان،
وهو يقول: كيف تسألني: من صاحبي؟
فقد رأيت مع من كنت! قَالُوا: وكان بنو يعقوب إذا غضبوا لم يطاقوا، فغضب روبيل
وقال: أيها الملك، والله لتتركنا أو لأصيحن صيحة لا تبقي بمصر حامل إلا ألقت ما في
بطنها، وقامت كل شعرة في جسد روبيل، فخرجت من ثيابه فقال يوسف لابنه: قم إلى جنب
روبيل فمسه- وكان بنو يعقوب إذا غضب أحدهم فمسه الآخر ذهب غضبه- فقال روبيل: من
(1/355)
هذا؟ إن في هذا البلد لبزرا من
بزر يعقوب، فقال يوسف: من يعقوب؟
فغضب روبيل وقال: أيها الملك، لا تذكر يعقوب فإنه إسرائيل الله بن ذبيح الله بن
خليل الله قال يوسف: أنت اذن كنت صادقا.
قَالَ: ولما احتبس يوسف أخاه بنيامين، فصار بحكم إخوته أولى به منهم، ورأوا أنه لا
سبيل لهم إلى تخليصه صاروا إلى مسألته تخليته ببذل منهم يعطونه اياه، فقالوا: «يا
أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ
إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ» في أفعالك فقال لهم يوسف: «مَعاذَ اللَّهِ
أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ»
أن نأخذ بريئا بسقيم! فلما يئس إخوة يوسف من إجابة يوسف إياهم إلى ما سألوا من
إطلاق أخيه بنيامين وأخذ بعضهم مكانه، خلصوا نجيا لا يفترق منهم أحد، ولا يختلط
بهم غيرهم فقال كبيرهم: - وهو روبيل، وقد قيل إنه شمعون-:
ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله أن نأتيه بأخينا بنيامين إلا أن
يحاط بنا أجمعين! ومن قبل هذه المرة ما فرطتم في يوسف «فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ»
التي أنا بها «حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي» في الخروج منها وترك أخي بنيامين بها
«أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ» - وقد قيل معنى ذلك: أو
يحكم الله لي بحرب من منعني من الانصراف بأخي- «ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ
فَقُولُوا يَا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ» ، فأسلمناه بجريرته، «وَما شَهِدْنا
إِلَّا بِما عَلِمْنا» ، لأن صواع الملك لم يوجد إلا في رحله، «وَما كُنَّا
لِلْغَيْبِ حافِظِينَ» ، يعنون بذلك أنا إنما ضمنا لك أن نحفظه مما لنا إلى حفظه
(1/356)
سبيل، ولم نكن نعلم أنه يسرق
فيسترق بسرقته واسأل أهل القرية التي كنا فيها فسرق ابنك فيها، والقافلة التي كنا
فيها مقبلة من مصر معنا عن خبر ابنك، فإنك تخبر بحقيقة ذلك.
فلما رجعوا إلى أبيهم فأخبروه خبر بنيامين، وتخلف روبيل قَالَ لهم:
بل سولت لكم انفسكم امرا أردتموه، فصبر جميل لا جزع فيه على ما نالني من فقد ولدي،
عسى الله أن يأتيني بهم جميعا بيوسف وأخيه وروبيل.
ثم أعرض عنهم يعقوب وقال: «يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ» يقول الله عز وجل:
«وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ» ، مملوء من الحزن والغيظ.
فقال له بنوه الذين انصرفوا إليه من مصر حين سمعوا قوله ذلك: تالله لا تزال تذكر
يوسف فلا تفتر من حبه وذكره حتى تكون دنف الجسم، مخبول العقل من حبه وذكره، هرما
باليا او تموت! فأجابهم يعقوب فقال: «َّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى
اللَّهِ
لا إليكم» ، أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ
من صدق رؤيا يوسف، أن تأويلها كائن، وأني وأنتم سنسجد له.
وَقَدْ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَكَّامٌ، عَنْ عِيسَى بْنُ
يَزِيدَ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: قِيلَ: مَا بَلَغَ وَجْدُ يَعْقُوبَ عَلَى
ابْنِهِ؟ قَالَ: وَجْدُ سَبْعِينَ ثَكْلَى، قَالَ: فَمَا كَانَ لَهُ مِنَ
الأَجْرِ؟ قَالَ: أَجْرُ مِائَةِ شَهِيدٍ، قَالَ:
وَمَا سَاءَ ظَنُّهُ بِاللَّهِ سَاعَةً قَطُّ مِنْ لَيْلٍ وَلا نَهَارٍ.
وَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ مَرَّةً أُخْرَى، قَالَ: حَدَّثَنَا حَكَّامٌ، عَنْ
أَبِي مُعَاذٍ، عَنْ يُونُسَ، عن الحسن، عن النبي ص مثله.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن المبارك بن مجاهد، عن رجل من
الأزد، عن طلحة بن مصرف اليامي، قَالَ: انبئت ان يعقوب ابن إسحاق دخل عليه جار له
فقال: يا يعقوب، ما لي أراك قد انهشمت
(1/357)
وفنيت ولم تبلغ من السن ما بلغ
أبوك؟ قَالَ: هشمني وأفناني ما ابتلاني الله به من هم يوسف وذكره فأوحى الله عز
وجل إليه: يا يعقوب أتشكوني إلى خلقي! قَالَ: يا رب خطيئة أخطأتها فاغفرها لي
قَالَ: فإني قد غفرت لك، فكان بعد ذلك إذا سئل قال: «َّما أَشْكُوا بَثِّي
وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ، وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ
» حَدَّثَنَا عمرو بن عبد الحميد الآملي، قَالَ: حَدَّثَنَا أبو أسامة، عن هشام عن
الحسن، قَالَ: كان منذ خرج يوسف من عند يعقوب إلى أن رجع ثمانون سنة لم يفارق
الحزن قلبه، ولم يزل يبكي حتى ذهب بصره قَالَ الحسن: والله ما على الأرض خليقة
أكرم على الله من يعقوب.
ثم أمر يعقوب بنيه الذين قدموا عليه من مصر بالرجوع إليها وتحسس الخبر عن يوسف
وأخيه، فقال لهم: اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيئسوا من روح الله يفرج به
عنا وعنكم الغم الذي نحن فيه فرجعوا إلى مصر فدخلوا على يوسف فقالوا له حين دخلوا
عليه: «أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ
مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي
الْمُتَصَدِّقِينَ
» وكانت بضاعتهم المزجاة التي جاءوا بها معهم- فيما ذكر- دراهم ردية زيوفا لا تؤخذ
إلا بوضيعة وكان بعضهم يقول: كانت حلق الغرارة والحبل ونحو ذلك وقال بعضهم: كانت
سمنا وصوفا وقال بعضهم: كانت صنوبرا وحبة الخضراء وقال بعضهم: كانت قليلة دون ما
كانوا يشترون به قبل، فسألوا يوسف أن يتجاوز لهم ويوفيهم بذلك من كيل الطعام مثل
الذي كان يعطيهم في المرتين قبل ذلك، ولا ينقصهم فقالوا له: «فَأَوْفِ لَنَا
الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ»
(1/358)
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا
عمرو، عن اسباط، عن السدى:
«وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا» ، قَالَ: بفضل ما بين الجياد والردية وقد قيل: إن معنى
ذلك: وتصدق علينا برد أخينا إلينا «إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ» .
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ:
ذكر أنهم لما كلموه بهذا الكلام، غلبته نفسه فارفض دمعه باكيا، ثم باح لهم بالذي
كان يكتم منهم، فقال: «هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ
أَنْتُمْ جاهِلُونَ» ولم يعن بذكر أخيه ما صنعه هو فيه حين أخذه، ولكن التفريق
بينه وبين أخيه إذ صنعوا بيوسف ما صنعوا فلما قَالَ لهم يوسف ذلك قَالُوا له: ها
أنت يوسف! قَالَ: «أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا بأن جمع
بيننا بعد تفريقكم بيننا، إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا
يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ» .
حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا عمرو، عن أَسْبَاطٍ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: لما
قَالَ لهم يوسف: «أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي اعتذروا وقالوا: تَاللَّهِ لَقَدْ
آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ» قَالَ لهم يوسف: «لا
تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ
الرَّاحِمِينَ» فلما عرفهم يوسف نفسه سألهم عَنْ أَبِيهِ.
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو، عن اسباط، عن السدى، قال:
قال يوسف: ما فعل أبي بعدي؟ قَالُوا: لما فاته بنيامين عمي من الحزن فقال:
«اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً
وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ» عير بني يعقوب،
قَالَ يعقوب:
(1/359)
«إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ
يُوسُفَ» .
فحَدَّثَنِي يونس، قَالَ: أخبرنا ابن وهب، قَالَ: حَدَّثَنِي ابن شريح، عن أبي
أيوب الهوزني، حدثه، قَالَ: استأذنت الريح بأن تأتي يعقوب بريح يوسف حين بعث
بالقميص إلى أبيه قبل أن يأتيه البشير، ففعلت، فقال يعقوب:
«إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ» .
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن إِسْرَائِيلَ، عَنِ ابْنِ سِنَانٍ، عَنِ
ابْنِ أَبِي الْهُذَيْلِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي «وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ
قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ قَالَ: هَاجَتْ رِيحٌ فَجَاءَتْ بِرِيحِ
يُوسُفَ مِنْ مَسِيرَةِ ثَمَانِ لَيَالٍ، فَقَالَ: إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ
لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ» .
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ،
حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ، عن الحسن، قَالَ: ذكر لنا أنه كان بينهما
يومئذ ثمانون فرسخا، يوسف بأرض مصر ويعقوب بأرض كنعان، وقد أتى لذلك زمان طويل.
حَدَّثَنَا القاسم، قَالَ: حَدَّثَنَا الحسين، قَالَ: حَدَّثَنَا حجاج، عن ابن
جريج قوله: «إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ» قال: بلغنا أنه كان بينهم يومئذ
ثمانون فرسخا، وقال: «إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ» وقد كان فارقه قبل ذلك سبعا
وسبعين سنة ويعني بقوله: «لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ» لولا أن تسفهوني فتنسبوني إلى
الهرم وذهاب العقل فقال له من حضره من ولده حينئذ: تَاللَّهِ إِنَّكَ من ذكر يوسف
وحبه «لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ» - يعنون في خطئك القديم.
«فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ» - يعني البريد الذي أبرده يوسف إلى يعقوب- يبشر
بحياة يوسف وخبره، وذكر أن البشير كان يهوذا بن يعقوب.
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حدثنا عمرو، عن أسباط، عن السدي، قال:
(1/360)
قَالَ يوسف: «اذْهَبُوا
بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي
بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ» قَالَ يهوذا: أنا ذهبت بالقميص ملطخا بالدم إلى يعقوب
فأخبرته أن يوسف أكله الذئب، وأنا أذهب اليوم بالقميص فأخبره بأنه حي، فأقر عينه
كما أحزنته، فهو كان البشير.
فلما أن جاء البشير يعقوب بقميص يوسف القاه على وجهه، فعاد بصيرا بعد العمى، فقال
لأولاده: «أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ»
.
وذلك أنه كان قد علم- من صدق تأويل رؤيا يوسف التي رآها أن الأحد عشر كوكبا والشمس
والقمر ساجدون- ما لم يكونوا يعلمون فقالوا ليعقوب:
«يَا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ فقال لهم يعقوب:
سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي» قيل: إنه أخر الدعاء لهم إلى السحر وقيل إنه
أخر ذلك إلى ليلة الجمعة.
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ التِّرْمِذِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا
سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدِّمَشْقِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا
الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ
وَعِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ ابن عباس، قال: [قال رسول الله ص: قال يعقوب:
«سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي» ، يَقُولُ: حَتَّى تَأْتِيَ لَيْلَةُ
الْجُمُعَةِ] .
فَلَمَّا دَخَلَ يَعْقُوبُ وَوَلَدُهُ وَأَهَالِيهِمْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ
أَبَوَيْهِ، وَكَانَ دُخُولُهُمْ عَلَيْهِ قَبْلَ دُخُولِهِمْ مِصْرَ- فِيمَا
قِيلَ- لأَنَّ يُوسُفَ تَلَقَّاهُمْ حَدَّثَنَا ابْنُ وكيع، قال: حدثنا عمرو، عن
أسباط، عن السُّدِّيِّ، قَالَ: حملوا إليه أهليهم وعيالهم، فلما بلغوا مصر كلم
يوسف الملك الذي فوقه فخرج هو والملك يتلقونهم، فلما بلغوا مصر قَالَ: «ادْخُلُوا
مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ» .
فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه
(1/361)
حدثني الحارث، قال: حدثنا عبد
العزيز، قال: حَدَّثَنَا جعفر بن سليمان، عن فرقد السبخي، قَالَ: لما ألقي القميص
على وجهه ارتد بصيرا، وقال: ائتوني بأهلكم أجمعين، فحمل يعقوب وإخوة يوسف، فلما
دنا يعقوب أخبر يوسف أنه قد دنا منه، فخرج يتلقاه قَالَ: وركب معه أهل مصر- وكانوا
يعظمونه- فلما دنا أحدهما من صاحبه- وكان يعقوب يمشي وهو يتوكأ على رجل من ولده،
يقال له يهوذا- قَالَ: فنظر يعقوب إلى الخيل والناس، فقال: يا يهوذا، هذا فرعون
مصر، فقال: لا، هذا ابنك يوسف، قَالَ: فلما دنا كل واحد منهما من صاحبه ذهب يوسف
يبدؤه بالسلام، فمنع ذلك، وكان يعقوب أحق بذلك منه وأفضل فقال: السلام عليك يا
مذهب الأحزان، فلما أن دخلوا مصر رفع أبويه على السرير وأجلسهما عليه.
وقد اختلف في اللذين رفعهما يوسف على العرش، وأجلسهما عليه، فقال بعضهم: كان أحدهما
أبوه يعقوب، والآخر أمه راحيل وقال آخرون: بل كان الآخر خالته ليا وكانت أمه راحيل
قد كانت ماتت قبل ذلك وخر له يعقوب وأمه وولد يعقوب سجدا.
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن عبد الأعلى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ
مَعْمَرٍ، عَنِ قتادة:
«وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً» قَالَ: كانت تحية الناس أن يسجد بعضهم لبعض، وقال يوسف
لأبيه: «يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي
حَقًّا» ، يعني بذلك: هذا السجود منكم، يدل على تأويل رؤياي التي رأيتها من قبل،
صنع اخوتى بي ما صنعوا، وتلك الكواكب الأحد عشر والشمس والقمر «قَدْ جَعَلَها
رَبِّي حَقًّا» يقول: قد حقق الرؤيا بمجيء تأويلها.
وقيل كان بين أن أري يوسف رؤياه هذه ومجيء تأويلها أربعون سنة.
ذكر بعض من قال ذلك:
(1/362)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ، عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، قَالَ: كَانَ بَيْنَ
رُؤْيَا يُوسُفَ إِلَى أَنْ رَأَى تَأْوِيلَهَا أَرْبَعُونَ سَنَةً.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ بَيْنَ ذَلِكَ ثَمَانُونَ سَنَةً.
ذكر بعض من قَالَ ذَلِكَ:
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ
الثَّقَفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: كَانَ مُنْذُ
فَارَقَ يُوسُفُ يَعْقُوبَ إِلَى أَنِ الْتَقَيَا ثَمَانُونَ سَنَةً، لَمْ
يُفَارِقِ الْحُزْنُ قَلْبَهُ وَدُمُوعُهُ تَجْرِي عَلَى خَدَّيْهِ، وَمَا عَلَى
الأَرْضِ يَوْمَئِذٍ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ يَعْقُوبَ.
حَدَّثَنَا الحسن بن مُحَمَّد، قَالَ: حَدَّثَنَا داود بن مهران، قَالَ:
حَدَّثَنَا عبد الواحد بن زياد، عن يونس، عن الحسن، قَالَ: ألقي يوسف في الجب وهو
ابن سبع عشرة سنة، وكان بين ذلك وبين لقائه يعقوب ثمانون سنة، وعاش بعد ذلك ثلاثا
وعشرين سنة، ومات وهو ابن عشرين ومائة سنة.
حدثني الحارث، قال: حدثنا عبد العزيز، قال: حَدَّثَنَا مبارك بن فضالة، عن الحسن،
قَالَ: ألقي يوسف في الجب، وهو ابن سبع عشرة سنة، فغاب عَنْ أَبِيهِ ثمانين سنة،
ثم عاش بعد ما جمع الله شمله، ورأى تأويل رؤياه ثلاثا وعشرين سنة، فمات وهو ابن
عشرين ومائة سنة.
وقال بعض أهل الكتاب: دخل يوسف مصر وله سبع عشرة سنة، فأقام في منزل العزيز ثلاث
عشرة سنة، فلما تمت له ثلاثون سنة استوزره فرعون ملك مصر، واسمه الريان بن الوليد
بن ثروان بن أراشة بن قاران بن عمرو بن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح، وأن هذا
الملك آمن، ثم مات، ثم ملك بعده قابوس بن مصعب بن معاوية بن نمير بن السلواس بن
قاران بن عمرو ابن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح وكان كافرا، فدعاه يوسف إلى
الإيمان بالله فلم يستجب إليه، وأن يوسف أوصى إلى أخيه يهوذا، ومات وقد أتت له
مائة وعشرون سنة، وأن فراق يعقوب إياه كان اثنتين وعشرين سنة، وأن
(1/363)
مقام يعقوب معه بمصر كان بعد
موافاته بأهله سبع عشرة سنة، وأن يعقوب لما حضرته الوفاة أوصى إلى يوسف- وكان دخول
يعقوب مصر في سبعين إنسانا من أهله وتقدم إلى يوسف عند وفاته أن يحمل جسده حتى
يدفنه بجنب أبيه إسحاق، ففعل يوسف ذلك به ومضى به حتى دفنه بالشام، ثم انصرف إلى
مصر، وأوصى يوسف أن يحمل جسده حتى يدفن إلى جنب آبائه، فحمل موسى تابوت جسده عند
خروجه من مصر معه.
وحَدَّثَنَا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ:
ذكر لي- والله أعلم- أن غيبة يوسف عن يعقوب كانت ثماني عشرة سنة.
قَالَ: وأهل الكتاب يزعمون أنها كانت أربعين سنة أو نحوها، وأن يعقوب بقي مع يوسف
بعد أن قدم عليه مصر سبع عشرة سنة، ثم قبضه الله إليه قَالَ:
وقبر يوسف- كما ذكر لي في- صندوق من مرمر في ناحية من النيل في جوف الماء.
وقال بعضهم: عاش يوسف بعد موت أبيه ثلاثا وعشرين سنة، ومات وهو ابن مائة وعشرين
سنة قَالَ: وفي التوراة أنه عاش مائة سنة وعشر سنين.
وولد ليوسف أفراييم بن يوسف ومنشا بن يوسف، فولد لإفراييم نون، فولد لنون بن
إفراييم يوشع بن نون وهو فتى موسى، وولد لمنشا موسى بن منشا.
وقيل: ان موسى بن منشا نبى قبل موسى بن عمران.
ويزعم أهل التوراة أنه الذي طلب الخضر
(1/364)
قصة الخضر وخبره وخبر موسى
وفتاه يوشع ع
قَالَ أبو جعفر: كان الخضر ممن كان في أيام أفريدون الملك بن أثفيان في قول عامة
أهل الكتاب الأول، وقبل موسى بن عمران صلى الله عليه وسلم وقيل إنه كان على مقدمة
ذي القرنين الأكبر، الذي كان أيام إبراهيم خليل الرحمن ص، وهو الذي قضى له ببئر
السبع- وهي بئر كان إبراهيم احتفرها لماشيته في صحراء الأردن- وإن قوما من أهل
الأردن ادعوا الأرض التي كان احتفر بها إبراهيم بئره، فحاكمهم إبراهيم إلى ذي
القرنين الذي ذكر أن الخضر كان على مقدمته أيام سيره في البلاد، وأنه بلغ مع ذي
القرنين نهر الحياة، فشرب من مائه وهو لا يعلم، ولا يعلم به ذو القرنين ومن معه،
فخلد، فهو حي عندهم إلى الآن.
وزعم بعضهم أنه من ولد من كان آمن بإبراهيم خليل الرحمن، واتبعه على دينه، وهاجر
معه من أرض بابل حين هاجر إبراهيم منها وقال: اسمه بليا بن ملكان بن فالغ بن عابر
بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح، قَالَ:
وكان أبوه ملكا عظيما.
وقال آخرون: ذو القرنين الذى كان على عهد ابراهيم ص هو أفريدون بن أثفيان، قَالَ:
وعلى مقدمته كان الخضر.
وقال عبد الله بن شوذب فيه، ما حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عَبْدِ الحكم المصري قال: حدثنا مُحَمَّد بن المتوكل، قَالَ: حَدَّثَنَا
ضَمْرَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، عَنْ عَبْدِ الله بن شوذب، قَالَ: الخضر من ولد فارس،
وإلياس من بني إسرائيل، يلتقيان في كل عام بالموسم.
وقال ابن إسحاق فيه ما حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال:
حدثني ابن إسحاق، قَالَ: بلغني أنه استخلف الله عز وجل في بني إسرائيل
(1/365)
رجلا منهم، يقال له ناشية بن
أموص، فبعث الله عز وجل لهم الخضر نبيا.
قَالَ: واسم الخضر- فيما كان وهب بن منبه يزعم عن بني إسرائيل- أورميا بن خلقيا،
وكان من سبط هارون بن عمران وبين هذا الملك الذي ذكره ابن إسحاق وبين أفريدون أكثر
من ألف عام.
وقول الذي قَالَ: إن الخضر كان في أيام افريدون وذي القرنين الاكبر وقبل موسى بن
عمران أشبه بالحق إلا أن يكون الأمر كما قاله من قَالَ إنه كان على مقدمة ذي
القرنين صاحب إبراهيم، فشرب ماء الحياة، فلم يبعث في أيام ابراهيم ص نبيا، وبعث
أيام ناشية بن أموص، وذلك أن ناشية بن أموص الذي ذكر ابن إسحاق أنه كان ملكا على
بني إسرائيل، كان في عهد بشتاسب بن لهراسب، وبين بشتاسب وبين أفريدون من الدهور
والأزمان ما لا يجهله ذو علم بأيام الناس وأخبارهم، وسأذكر مبلغ ذلك إذا انتهينا
إلى خبر بشتاسب إن شاء الله تعالى.
وإنما قلنا: قول من قَالَ: كان الخضر قبل موسى بن عمران ص أشبه بالحق من القول
الذي قاله ابن إسحاق وحكاه عن وهب بن منبه، للخبر الذى روى عن رسول الله ص أبي بن
كعب، أن صاحب موسى بن عمران- وهو العالم الذي أمره الله تبارك تعالى بطلبه إذ ظن
أنه لا أحد في الأرض أعلم منه- هو الخضر، ورسول الله ص كان أعلم خلق الله بالكائن
من الأمور الماضية، والكائن منها الذي لم يكن بعد.
والذي روى أبي بن كعب في ذلك عنه ص مَا حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ،
عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدٍ، قَالَ: قُلْتُ لابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ
نَوْفًا يَزْعُمُ أَنَّ الخضر ليس
(1/366)
بِصَاحِبِ مُوسَى، فَقَالَ:
كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ، حَدَّثَنَا ابى بن كعب عن [رسول الله ص قال: ان موسى
قَامَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ خَطِيبًا فَقِيلَ: أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟
فَقَالَ: أَنَا، فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ حِينَ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ
إِلَيْهِ، فَقَالَ: بَلْ عَبْدٌ لِي عِنْدَ مَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ، فَقَالَ: يَا
رب، كيف به؟ قال: تأخذ حوتا فتجعله في مكتل فحيث تفقده فَهُوَ هُنَاكَ قَالَ:
فَأَخَذَ حُوتًا فَجَعَلَهُ فِي مِكْتَلٍ، ثُمَّ قَالَ لِفَتَاهُ: إِذَا فَقَدْتَ
هَذَا الْحُوتَ فَأَخْبِرْنِي فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ
حَتَّى أَتَيَا صَخْرَةً، فَرَقَدَ موسى فَاضْطَرَبَ الْحُوتُ فِي الْمِكْتَلِ،
فَخَرَجَ فَوَقَعَ فِي الْبَحْرِ، فَأَمْسَكَ اللَّهُ عَنْهُ جِرْيَةَ الْمَاءِ
فَصَارَ مِثْلَ الطَّاقِ، فَصَارَ لِلْحُوتِ سَرَبًا، وَكَانَ لَهُمَا عَجَبًا
ثُمَّ انْطَلَقَا، فَلَمَّا كَانَ حِينُ الْغَدَاءِ قَالَ موسى لِفَتَاهُ: «آتِنا
غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً» قَالَ: وَلَمْ يَجِدْ موسى
النَّصَبَ حَتَّى جَاوَزَ حَيْثُ أَمَرَهُ اللَّهُ، قَالَ: فَقَالَ: «أَرَأَيْتَ
إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ
إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً»
قَالَ: فَقَالَ: «ذلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً»
قَالَ: يَقُصَّانِ آثَارَهُمَا قَالَ: فَأَتَيَا الصَّخْرَةَ، فَإِذَا رَجُلٌ
نَائِمٌ مُسَجًّى بِثَوْبِهِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ موسى فَقَالَ: وَأَنَّى
بِأَرْضِنَا السَّلامُ! قَالَ: أَنَا موسى، قال: موسى بنى إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ:
نَعَمْ، قَالَ: يَا موسى، إِنِّي عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ، عَلَّمَنِيهِ
اللَّهُ لا تَعْلَمُهُ، وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَكَهُ
اللَّهُ لا أَعْلَمُهُ، قَالَ: فَإِنِّي أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي
مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا.
«قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ
مِنْهُ ذِكْراً» .
فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ عَلَى السَّاحِلِ، فَإِذَا بِمَلاحٍ فِي سَفِينَةٍ،
فَعَرَفَ الْخَضِرَ، فَحَمَلَهُ
(1/367)
بِغَيْرِ نَوْلٍ، فَجَاءَ
عُصْفُورٌ فَوَقَعَ عَلَى حَرْفِهَا فنقر- او فنقد- فِي الْمَاءِ، فَقَالَ
الْخَضِرُ لِموسى: مَا يُنْقِصُ عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إِلا
مِقْدَارَ مَا نَقَرَ- أَوْ نَقَدَ- هَذَا الْعُصْفُورُ مِنَ الْبَحْرِ] .
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: أَنَا أَشُكُّ، وَهُوَ في كتابي هذا نقر قال: فبينما هُمْ
فِي السَّفِينَةِ لَمْ يَفْجَأْ موسى إِلا وَهُوَ يَتِدُ وَتِدًا أَوْ يَنْزِعُ
تَخْتًا مِنْهَا، فَقَالَ لَهُ موسى:
حُمِلْنَا بِغَيْرِ نَوْلٍ وَتَخْرِقُهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا! «لَقَدْ جِئْتَ
شَيْئاً إِمْراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً قالَ
لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ» - قَالَ:
فَكَانَتِ الأُولَى مِنْ موسى نِسْيَانًا- قَالَ: ثُمَّ خَرَجَا فَانْطَلَقَا
يَمْشِيَانِ، فَأَبْصَرَا غُلامًا يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، فَأَخَذَ
بِرَأْسِهِ فَقَتَلَهُ، فَقَالَ لَهُ موسى: «أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً
بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ
لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا
تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً» .
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أهلها، فَلَمْ
يَجِدَا أَحَدًا يُطْعِمُهُمْ وَلا يَسْقِيهِمْ، «فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ
أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ» بيده- قَالَ: مَسَحَهُ بِيَدِهِ- فَقَالَ لَهُ موسى:
لَمْ يُضَيِّفُونَا وَلَمْ يُنْزِلُونَا، «لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ
أَجْراً» .
«قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ» قال: [فقال رسول الله ص: لَوَدِدْتُ أَنَّهُ
كَانَ صَبَرَ حَتَّى يَقُصَّ عَلَيْنَا قَصَصَهُمْ] .
حَدَّثَنِي الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي قَالَ:
حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ،
(1/368)
قَالَ: حَدَّثَنِي
الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ
مَسْعُودٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ تَمَارَى هُوَ وَالْحُرُّ بْنُ قَيْسِ
بْنِ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ فِي صَاحِبِ مُوسَى، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ
الْخَضِرُ، فَمَرَّ بِهِمَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، فَدَعَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ
فَقَالَ: إِنِّي تَمَارَيْتُ أَنَا وَصَاحِبِي هَذَا فِي صَاحِبِ موسى ع الَّذِي
سَأَلَ السَّبِيلَ إِلَى لِقَائِهِ، فَهَلْ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ يَذْكُرُ
شَأْنَهُ؟ قَالَ: [نَعَمْ إِنِّي سمعت رسول الله ص يقول: بينا موسى ع فِي مَلإٍ
مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: تَعْلَمُ مَكَانَ أَحَدٍ
أَعْلَمَ مِنْكَ؟ قَالَ مُوسَى:
لا، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى مُوسَى: بلى عَبْدُنَا الْخَضِرُ، فَسَأَلَ مُوسَى
السَّبِيلَ إِلَى لِقَائِهِ، فَجَعَلَ اللَّهُ الْحُوتَ آيَةً، وَقَالَ لَهُ:
إِذَا افْتَقَدْتَ الْحُوتَ فَارْجِعْ فَإِنَّكَ سَتَلْقَاهُ، فَكَانَ مُوسَى
يَتَّبِعُ أَثَرَ الْحُوتِ، فِي الْبَحْرِ، فَقَالَ فَتَى مُوسَى لِمُوسَى:
«أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ» ، قَالَ
موسى: «ذلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً» ، فَوَجَدَا
الْخَضِرَ، فَكَانَ مِنْ شَأْنِهِمَا مَا قَصَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ] .
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مَرْزُوقٍ قَالَ، حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ
الْمِنْهَالِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ النُّمَيْرِيُّ، عَنْ
يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ يُحَدِّثُ قَالَ: أَخْبَرَنِي
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:
أَنَّهُ تَمَارَى هُوَ وَالْحُرُّ بْنُ قَيْسِ بْنِ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ فِي
صَاحِبِ مُوسَى، فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ الْعَبَّاسِ عَنْ أَبِيهِ.
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي
عَمِّي، قَالَ:
حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ: «وَإِذْ قالَ
مُوسى لِفَتاهُ
(1/369)
لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ
مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ» الآية، قَالَ: لَمَّا ظَهَرَ مُوسَى وَقَوْمُهُ عَلَى
مِصْرَ نَزَلَ قَوْمُهُ مِصْرَ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّتْ بِهِمُ الدَّارُ، أَنْزَلَ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ: أَنْ ذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ فَخَطَبَ
قَوْمَهُ، فَذَكَرَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنَ الْخَيْرِ وَالنِّعْمَةِ،
وَذَكَّرَهُمْ إِذْ أَنْجَاهُمُ اللَّهُ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، وَذَكَّرَهُمْ
هَلَاكَ عَدُوِّهِمْ، وَمَا اسْتَخْلَفَهُمُ اللَّهُ فِي الْأَرْضِ، فَقَالَ:
وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى نَبِيَّكُمْ تَكْلِيمًا، وَاصْطَفَانِي لِنَفْسِهِ،
وَأَنْزَلَ عَلَيَّ مَحَبَّةً مِنْهُ، وَآتَاكُمُ اللَّهُ مِنْ كُلِّ مَا
سَأَلْتُمُوهُ، فَنَبِيُّكُمْ أَفْضَلُ أَهْلِ الْأَرْضِ وَأَنْتُمْ تَقْرَءُونَ
التَّوْرَاةَ فَلَمْ يَتْرُكْ نِعْمَةً أَنْعَمَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ إِلَّا
ذَكَرَهَا وَعَرَّفَهَا إِيَّاهُمْ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ:
هُوَ كَذَلِكَ يا نبى الله، وقد عَرَفْنَا الَّذِي تَقُولُ، فَهَلْ عَلَى الْأَرْضِ
أَحَدٌ أَعْلَمُ مِنْكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ: لا، فبعث الله عز وجل جبرئيل
ع الى موسى ع فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: وَمَا يُدْرِيكَ أَيْنَ
أَضَعُ عِلْمِي؟ بَلَى إِنَّ عَلَى شَطِّ الْبَحْرِ رَجُلًا أَعْلَمُ مِنْكَ-
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الْخِضْرُ- فَسَأَلَ مُوسَى رَبَّهُ أَنْ يُرِيَهُ
إِيَّاهُ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنِ ائْتِ الْبَحْرَ، فَإِنَّكَ تَجِدُ
عَلَى شَطِّ الْبَحْرِ حُوتًا فَخُذْهُ فَادْفَعْهُ إِلَى فَتَاكَ ثُمَّ الْزَمْ
شَطَّ الْبَحْرِ، فَإِذَا نَسِيتَ الْحُوتَ وَهَلَكَ مِنْكَ، فَثَمَّ تَجِدُ
الْعَبْدَ الصَّالِحَ الَّذِي تَطْلُبُ.
فَلَمَّا طَالَ سَفَرُ موسى نبى الله ص وَنَصِبَ فِيهَ، سَأَلَ فَتَاهُ عَنِ
الْحُوتَ، فَقَالَ لَهُ فَتَاهُ وَهُو غُلَامُهُ: «أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى
الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ
أَذْكُرَهُ» لَكَ قَالَ الْفَتَى: لَقَدْ رَأَيْتُ الْحُوتَ حِينَ اتَّخَذَ
سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا فَأَعْجَبَ ذَلِكَ مُوسَى فَرَجَعَ حَتَّى أَتَى
الصَّخْرَةَ فَوَجَدَ الْحُوتَ، فَجَعَلَ الْحُوتُ يَضْرِبُ فِي الْبَحْرِ
وَيَتْبَعُهُ مُوسَى، وَجَعَلَ مُوسَى يُقَدِّمُ عَصَاهُ يُفْرِجُ بِهَا عَنْهُ
الْمَاءَ، يَتْبَعُ الْحُوتَ، وَجَعَلَ الْحُوتُ لَا يَمَسُّ شَيْئًا مِنَ
الْمَاءِ إِلَّا يَبِسَ حَتَّى يَكُونَ صخره، فجعل نبى الله ص يَعْجَبُ مِنْ
ذَلِكَ حَتَّى انْتَهَى بِهِ الْحُوتُ إِلَى جَزِيرَةٍ مِنْ جَزَائِرِ الْبَحْرِ،
فَلَقِيَ الْخِضْرَ بها، فسلم
(1/370)
عَلَيْهِ، فَقَالَ الْخِضْرُ:
وَعَلَيْكَ السَّلَامُ، وَأَنَّى يَكُونُ هَذَا السَّلَامُ بِهَذِهِ الْأَرْضِ!
وَمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا مُوسَى، فَقَالَ لَهُ: الْخِضْرُ صَاحِبُ بَنِي
إِسْرَائِيلَ؟
قَالَ: نَعَمْ، فَرَحَّبَ بِهِ وَقَالَ: مَا جَاءَ بِكَ؟ قَالَ: جِئْتُ عَلَى أَنْ
تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا، قَالَ: «إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ
صَبْراً» ، يَقُولُ: لا تُطِيقُ ذَلِكَ، قَالَ مُوسَى: «سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ
اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً» .
قَالَ: فَانْطَلَقَ بِهِ، وَقَالَ لَهُ: لَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ أَصْنَعُهُ
حَتَّى أُبَيِّنَ لَكَ شَأْنَهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: «حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ
ذِكْراً» فَرَكِبَا فِي السَّفِينَةِ يُرِيدَانِ أَنْ يَتَعَدَّيَا إِلَى
الْبَرِّ، فَقَامَ الْخَضِرُ، فَخَرَقَ السَّفِينَةَ فَقَالَ لَهُ مُوسَى:
«أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً» ثُمَّ ذَكَرَ
بَقِيَّةَ الْقِصَّةِ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ الْقُمِّيُّ،
عَنْ هَارُونَ بْنِ عَنْتَرَةَ عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: [سال
موسى ع رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ:
أَيْ رَبِّ، أَيُّ عِبَادِكَ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الَّذِي يَذْكُرُنِي وَلا
يَنْسَانِي، قَالَ:
فَأَيُّ عِبَادِكَ أَقْضَى؟ قَالَ: الَّذِي يَقْضِي بِالْحَقِّ وَلا يَتَّبِعُ
الْهَوَى، قَالَ أَيْ رَبِّ، أَيُّ عِبَادِكَ أَعْلَمُ؟ قَالَ: الَّذِي يَبْتَغِي
عِلْمَ النَّاسِ إِلَى عِلْمِهِ، عَسَى أَنْ يُصِيبَ كَلِمَةً تَهْدِيهِ إِلَى
هُدًى، أَوْ تَرُدُّهُ عَنْ رَدًى، قَالَ: رَبِّ فَهَلْ فِي الأَرْضِ أَحَدٌ-
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ أَظُنُّهُ قَالَ: أَعْلَمُ مِنِّي؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ:
رَبِّ، فَمَنْ هُوَ؟ قَالَ: الْخَضِرُ، قَالَ: وَأَيْنَ أَطْلُبُهُ؟ قَالَ: عَلَى
السَّاحِلِ، عِنْدَ الصَّخْرَةِ الَّتِي يَنْفَلِتُ عِنْدَهَا الْحُوتُ،] قَالَ:
فَخَرَجَ موسى يَطْلُبُهُ حَتَّى كَانَ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
وَانْتَهَى موسى إِلَيْهِ عِنْدَ الصَّخْرَةِ، فَسَلَّمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
عَلَى صَاحِبِهِ، فَقَالَ لَهُ موسى: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَسْتَصْحِبَنِي، قَالَ:
لَنْ تَطِيقَ
(1/371)
صُحْبَتِي، قَالَ: بَلَى،
قَالَ: فَإِنْ صَحِبْتَنِي «فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ
مِنْهُ ذِكْراً فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ
أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً قالَ أَلَمْ
أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ
وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً.
فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زاكية
بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً» ، الى قوله: «لَاتَّخَذْتَ
عَلَيْهِ أَجْراً» .
قَالَ: فَكَانَ قَوْلُ موسى فِي الْجِدَارِ لِنَفْسِهِ وَلِطَلَبِ شَيْءٍ مِنَ
الدُّنْيَا، وَكَانَ قَوْلُهُ فِي السَّفِينَةِ وَفِي الْغُلامِ لِلَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ «قالَ هَذَا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ
تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً» ، فاخبره بما قال الله:
«أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ الآيَةَ، وَأَمَّا الْغُلامُ» الآيَةَ،
«وَأَمَّا الْجِدارُ» الآيَةَ قَالَ: فَسَارَ بِهِ فِي الْبَحْرِ حَتَّى انْتَهَى
بِهِ إِلَى مَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ، وَلَيْسَ فِي الأَرْضِ مَكَانٌ أَكْثَرَ مَاءً
مِنْهُ، قَالَ:
وَبَعَثَ رَبُّكَ الْخُطَّافَ، فَجَعَلَ يَسْتَقِي مِنْهُ بِمِنْقَارِهِ، فَقَالَ
لِموسى: كَمْ تَرَى هَذَا الْخُطَّافَ رَزَأَ مِنْ هَذَا الْمَاءِ؟ قَالَ: مَا
أَقَلَّ مَا رَزَأَ! قَالَ: يَا موسى فَإِنَّ عِلْمِي وَعِلْمَكَ فِي عِلْمِ
اللَّهِ كَقَدْرِ مَا اسْتَقَى هَذَا الْخُطَّافُ مِنْ هذا الماء وكان موسى ع قَدْ
حَدَّثَ نَفْسَهُ أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ أَعْلَمَ مِنْهُ، أَوْ تَكَلَّمَ بِهِ،
فَمِنْ ثَمَّ أُمِرَ أَنْ يَأْتِيَ الْخَضِرَ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إِسْحَاقَ،
عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، عَنْ سَعِيدِ
بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ:
جَلَسْتُ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِنْدَهُ نَفَرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ،
فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَا أَبَا الْعَبَّاسِ إِنَّ نَوْفًا ابْنَ امْرَأَةِ كَعْبٍ،
ذَكَرَ عَنْ كَعْبٍ ان موسى النبي ع
(1/372)
الَّذِي طَلَبَ الْعَالِمَ
إِنَّمَا هُوَ مُوسَى بْنُ منشا قَالَ سَعِيدٌ: فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
أَنَوْفٌ يَقُولُ هَذَا؟ قَالَ سَعِيدٌ: فَقُلْتُ لَهُ: نَعَمْ، أَنَا سَمِعْتُ
نَوْفًا يَقُولُ ذَلِكَ، قَالَ: أَنْتَ سَمِعْتَهُ يَا سَعِيدُ؟ قَالَ: قُلْتُ:
نَعَمْ، قَالَ: كَذَبَ نَوْفٌ ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حَدَّثَنِي أُبَيُّ بن
كعب عن رسول الله ص ان موسى بنى إِسْرَائِيلَ سَأَلَ رَبَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى
فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، إِنْ كَانَ فِي عِبَادِكَ أَحَدٌ هُوَ أَعْلَمُ مِنِّي
فَادْلُلْنِي عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: نَعَمْ فِي عِبَادِي مَنْ هُوَ أَعْلَمُ
مِنْكَ، ثُمَّ نَعَتَ لَهُ مَكَانَهُ، وَأَذِنَ لَهُ فِي لِقَائِهِ، فخرج موسى ع
وَمَعَهُ فَتَاهُ، وَمَعَهُ حُوتٌ مَلِيحٌ قَدْ قِيلَ لَهُ: إِذَا حَيِيَ هَذَا
الْحُوتُ فِي مَكَانٍ فَصَاحِبُكَ هُنَالِكَ، وَقَدْ أَدْرَكْتَ حَاجَتَكَ
فَخَرَجَ مُوسَى ومعه فتاه، ومعه ذلك الْحُوتُ يَحْمِلانِهِ، فَسَارَ حَتَّى
جَهَدَهُ السَّيْرُ، وَانْتَهَى إِلَى الصَّخْرَةِ وَإِلَى ذَلِكَ الْمَاءِ وَذَلِكَ
الْمَاءُ، مَاءُ الْحَيَاةِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ خُلِّدَ، وَلا يُقَارِبُهُ شَيْءٌ
مَيِّتٌ إِلا أَدْرَكَتْهُ الْحَيَاةُ وَحَيِيَ فَلَمَّا نَزَلا مَنْزِلا وَمَسَّ
الْحُوتُ الْمَاءَ حَيِيَ، فاتخذ سبيله في البحر سربا، فانطلق فلما جاوزا
بِمِنْقَلَةٍ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ: «آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ
سَفَرِنا هذا نَصَباً» قَالَ الْفَتَى وَذَكَرَ: «أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى
الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ
أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً» قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
وَظَهَرَ مُوسَى عَلَى الصَّخْرَةِ حتى انتهيا اليه، فإذا رجل متلفف فِي كِسَاءٍ
لَهُ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ مُوسَى، فَرَدَّ ع، ثُمَّ قَالَ لَهُ: وَمَنْ أَنْتَ؟
قَالَ: أَنَا موسى ابن عِمْرَانَ، قَالَ: صَاحِبُ بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ:
نَعَمْ أَنَا ذَلِكَ، قَالَ: وَمَا جَاءَ بِكَ إِلَى هذه الارض، ان لك في قومك
لشغل! قَالَ لَهُ مُوسَى: جِئْتُكَ لِتُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا،
قَالَ: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا، وَكَانَ رَجُلا يَعْمَلُ عَلَى
الْغَيْبِ قَدْ عَلِمَ ذَلِكَ، فَقَالَ مُوسَى: بَلَى، قَالَ: «وَكَيْفَ تَصْبِرُ
عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ
(1/373)
خُبْراً» ، أَيْ إِنَّمَا
تَعْرِفُ ظَاهِرَ مَا تَرَى مِنَ الْعَدْلِ وَلَمْ تُحِطْ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ
بِمَا أَعْلَمُ «قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ
أَمْراً» وَإِنْ رَأَيْتُ مَا يُخَالِفُنِي.
قَالَ: «فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ
مِنْهُ ذِكْراً» ، أَيْ فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ وَإِنْ أَنْكَرْتَهُ حَتَّى
أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا، أَيْ خَبَرًا.
فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ يَتَعَرَّضَانِ النَّاسَ،
يَلْتَمِسَانِ مَنْ يَحْمِلُهُمَا حَتَّى مَرَّتْ بِهِمَا سَفِينَةٌ جَدِيدَةٌ
وَثِيقَةٌ، لَمْ يَمُرَّ بِهِمَا شَيْءٌ مِنَ السفن احسن ولا اجمل وَلا أَوْثَقُ
مِنْهَا، فَسَأَلا أَهْلَهَا أَنْ يَحْمِلُوهُمَا، فَحَمَلُوهُمَا، فَلَمَّا
اطْمَأَنَّا فِيهَا، وَلَجَّجَتْ بِهِمَا مَعَ أَهْلِهَا، أَخْرَجَ مِنْقَارًا
لَهُ وَمِطْرَقَةً، ثُمَّ عَمَدَ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنْهَا فَضَرَبَ فِيهَا
بِالْمِنْقَارِ حَتَّى خَرَقَهَا، ثُمَّ أَخَذَ لَوْحًا فَطَبَّقَهُ عَلَيْهَا،
ثُمَّ جَلَسَ عَلَيْهَا يُرَقِّعُهَا، قَالَ لَهُ مُوسَى: فَأَيُّ أَمْرٍ أَفْظَعُ
مِنْ هَذَا! «أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً» !
حَمَلُونَا وَآوَوْنَا إِلَى سَفِينَتِهِمْ، وَلَيْسَ فِي الْبَحْرِ سَفِينَةٌ
مِثْلُهَا، فَلِمَ خَرَقْتَهَا! قَالَ: «أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ
مَعِيَ صَبْراً قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ» ، أَيْ بِمَا تَرَكْتُ مِنْ
عَهْدِكَ «وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً» ثُمَّ خَرَجَا مِنَ
السَّفِينَةِ، فَانْطَلَقَا حَتَّى أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ، فَإِذَا غِلْمَانٌ
يَلْعَبُونَ، فِيهِمْ غُلامٌ لَيْسَ فِي الْغِلْمَانِ غُلامٌ أَظْرَفُ وَلا
أَتْرَفُ وَلا أَوْضَأُ مِنْهُ، فَأَخَذَ بِيَدِهِ، وَأَخَذَ حَجَرًا فَضَرَبَ
بِهِ رَأْسَهُ حَتَّى دَمَغَهُ فَقَتَلَهُ قَالَ: فَرَأَى مُوسَى أَمْرًا فَظِيعًا
لا صَبْرَ عَلَيْهِ، صبى صغير قَتَلَهُ بِغَيْرِ جِنَايَةٍ وَلا ذَنْبٍ لَهُ!
فَقَالَ: «أَقَتَلْتَ نَفْساً زاكية بِغَيْرِ نَفْسٍ» ، أَيْ صَغِيرَةً بِغَيْرِ
نَفْسٍ، «لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً. قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ
تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً.
قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ
لَدُنِّي عُذْراً» ، أَيْ قَدْ أُعْذِرْتَ فِي شَأْنِي «فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا
أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما
فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ» ، فَهَدَمَهُ ثُمَّ
قَعَدَ يَبْنِيهِ،
(1/374)
فَضَجَرَ مُوسَى مِمَّا رَآهُ
يَصْنَعُ مِنَ التَّكَلُّفِ لِمَا لَيْسَ عَلَيْهِ صَبْرٌ، فَقَالَ: «لَوْ شِئْتَ
لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً» أَيْ قَدِ اسْتَطْعَمْنَاهُمْ فَلَمْ
يُطْعِمُونَا، وَاسْتَضَفْنَاهُمْ فَلَمْ يضيفونا، ثم قعدت تعمل في غير صنيعه، ولو
شئت لأعطيت عليه اجرا في عمله «قالَ هَذَا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ
سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً. أَمَّا
السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ
أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ- وَفِي قِرَاءَةِ
أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ:
كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ- غَصْباً» ، وَإِنَّمَا عِبْتُهَا لأَرُدَّهُ عَنْهَا،
فَسَلِمَتْ مِنْهُ حِينَ رَأَى الْعَيْبَ الَّذِي صَنَعْتُ بِهَا «وَأَمَّا
الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً
وَكُفْراً. فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً
وَأَقْرَبَ رُحْماً وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي
الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً» - الى- «ما
لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً» .
فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: مَا كَانَ الْكَنْزُ إِلَّا عِلْمًا حَدَّثَنَا
ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن الْحَسَنِ
بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: قِيلَ لابْنِ عَبَّاسٍ:
لَمْ نَسْمَعْ لِفَتَى مُوسَى بِذِكْرٍ مِنْ حَدِيثٍ وَقَدْ كَانَ مَعَهُ! فَقَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَا يَذْكُرُ مِنْ حَدِيثِ الْفَتَى، قَالَ: شَرِبَ الْفَتَى
مِنْ مَاءِ الْخُلْدِ فَخُلِّدَ، فَأَخَذَهُ الْعَالِمُ فَطَابَقَ بِهِ سَفِينَةً،
ثُمَّ أَرْسَلَهُ فِي الْبَحْرِ، فَإِنَّهَا لَتَمُوجُ بِهِ إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَشْرَبَ مِنْهُ فَشَرِبَ.
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، عن شعبة، عن قتادة،
قوله:
«فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما» ، ذكر لنا ان نبى الله
موسى لما قطع البحر وأنجاه الله من آل فرعون، جمع بني إسرائيل فخطبهم فقال:
(1/375)
أنتم خير أهل الأرض وأعلمهم قد
أهلك الله عدوكم، وأقطعكم البحر وأنزل عليكم التوراة، قال: فقيل له: ان هاهنا رجلا
هو أعلم منك قَالَ: فانطلق هو وفتاه يوشع بن نون يطلبانه، فتزودا مملوحة في مكتل
لهما، وقيل لهما: إذا نسيتما ما معكما لقيتما رجلا عالما يقال له الخضر، فلما أتيا
ذلك المكان، رد الله إلى الحوت روحه فسرب له من الجد حتى أفضى إلى البحر، ثم سلك
فجعل لا يسلك فيه طريقا إلا صار ماء جامدا، قَالَ: ومضى موسى وفتاه، يقول الله عز
وجل: «فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا
هَذَا نَصَباً- الى قوله-: وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً» ، فلقيا رجلا
عالما يقال له الخضر، فذكر لنا ان نبى الله قَالَ: إنما سمي الخضر خضرا لأنه قعد
على فروة بيضاء فاهتزت به خضراء.
فهذه الاخبار التي ذكرناها عن رسول الله ص وعن السلف من أهل العلم تنبئ عن أن
الخضر كان قبل موسى وفي أيامه، ويدل على خطإ قول من قَالَ: إنه أورميا بن خلقيا،
لأن أورميا كان في ايام بختنصر، وبين عهدي موسى وبختنصر من المدة ما لا يشكل قدرها
على أهل العلم بأيام الناس وأخبارهم، وإنما قدمنا ذكره وذكر خبره لأنه كان في عهد
أفريدون فيما قيل، وإن كان قد أدرك على هذه الأخبار التي ذكرت من أمره وأمر موسى
وفتاه أيام منوشهر وملكه، وذلك ان موسى انما نبئ في عهد منوشهر، وكان ملك منوشهر
بعد ما ملك جده أفريدون، فكل ما ذكرنا من أخبار من ذكرنا أخباره من عهد ابراهيم
الى الخبر عن الخضر ع، فإن ذلك كله- فيما ذكر- كان في ملك بيوراسب وأفريدون، وقد
ذكرنا فيما مضى قبل أخبار أعمارهما ومبلغهما ومدة كل واحد منهما.
ونرجع الآن إلى الخبر عن:
(1/376)
منوشهر وأسبابه والحوادث
الكائنة في زمانه
ثم ملك بعد أفريدون بن أثفيان بركاو منوشهر، وهو من ولد إيرج بن أفريدون.
وقد زعم بعضهم أن فارس سميت فارس بمنوشهر هذا، وهو منوشهر كيازيه- فيما يقول نسابة
الفرس- بن منشخورنر بن منشخواربغ ابن ويرك بن سروشنك بن ابوك بن بتك بن فرزشك بن
زشك ابن فركوزك بن كوزك بن إيرج بن أفريدون بن أثفيان بركاو.
وقد ينطق بهذه الأسماء بخلاف هذه الألفاظ.
وقد يزعم بعض المجوس ان افريدون وطيء ابنة لابنه إيرج، يقال لها كوشك، فولدت له
جاريه يقال لها فركوشك، ثم وطيء فركوشك هذه فولدت له جارية يقال لها زوشك، ثم وطيء
زوشك هذه، فولدت له جارية يقال لها فرزوشك، ثم وطيء فرزوشك هذه فولدت له جارية
يقال لها بيتك،
(1/377)
ثم وطيء بيتك هذه فولدت له
جارية يقال لها ايرك، ثم وطيء ايرك فولدت له ايزك، ثم وطيء ايزك فولدت له ويرك، ثم
وطيء ويرك فولدت له منشخرفاغ.
ويقول بعضهم: منشخواربغ وجاريه يقال لها: منشجرك، وان منشخرفاغ وطيء منشجرك فولدت
له منشخرنر، وجاريه يقال لها منشراروك، وان منشخرنر وطيء منشراروك فولدت له منوشهر.
فيقول بعضهم كان مولده بدنباوند.
ويقول بعض: كان مولده بالري، وإن منشخرنر ومنشراروك لما ولد لهما منوشهر أسرا أمره
خوفا من طوج وسلم عليه، وإن منوشهر لما كبر صار إلى جده أفريدون، فلما دخل عليه
توسم فيه الخير، وجعل له ما كان جعل لجده إيرج من المملكة، وتوجه بتاجه.
وقد زعم بعض أهل الأخبار أن منوشهر هذا هو منوشهر بن منشخرنر ابن أفريقيس بن إسحاق
بن إبراهيم، وأنه انتقل إليه الملك بعد أفريدون وبعد أن مضى الف سنه وتسعمائة سنة
واثنتان وعشرون سنة، من عهد جيومرت، واستشهد لحقيقة ذلك بأبيات لجرير بن عطية، وهو
قوله.
وأبناء إسحاق الليوث إذا ارتدوا ... حمائل موت لابسين السنورا
إذا انتسبوا عدوا الصبهبذ منهم ... وكسرى وعدوا الهرمزان وقيصرا
وكان كتاب فيهم ونبوة ... وكانوا بإصطخر الملوك وتسترا
(1/378)
فيجمعنا والغر أبناء فارس ...
أب لا نبالي بعده من تأخرا
أبونا خليل الله، والله ربنا ... رضينا بما أعطى الإله وقدرا
وأما الفرس فإنها تنكر هذا النسب، ولا تعرف لها ملكا إلا في أولاد أفريدون، ولا
تقر بالملك لغيرهم، وترى أن داخلا إن كان دخل عليهم في ذلك من غيرهم في قديم
الأيام قبل الإسلام، فإنه دخل فيه بغير حق.
وحدثت عن هشام ابن مُحَمَّد، قَالَ: ملك طوج وسلم الأرض بينهما بعد قتلهما اخاهما
ايرج ثلاثمائة سنة، ثم ملك منوشهر بن إيرج بن أفريدون مائة وعشرين سنة، ثم إنه وثب
به ابن لابن طوج التركى على راس ثمانين سنه فنفاه عن بلاد العراق ثنتي عشرة سنة،
ثم أديل منه منوشهر، فنفاه عن بلاده، وعاد إلى ملكه، وملك بعد ذلك ثمانيا وعشرين
سنة.
قَالَ: وكان منوشهر يوصف بالعدل والإحسان، وهو أول من خندق الخنادق، وجمع آلة
الحرب، وأول من وضع الدهقنة فجعل لكل قرية دهقانا، وجعل أهلها له خولا وعبيدا،
وألبسهم لباس المذلة، وأمرهم بطاعته.
قَالَ: ويقال ان موسى النبي ص ظهر في سنة ستين من ملكه.
وذكر غير هشام أن منوشهر لما ملك توج بتاج الملك وقال يوم ملك:
نحن مقوون مقاتلينا، ومعدوهم للانتقام لأسلافنا، ودفع العدو عن بلادنا.
وأنه سار نحو بلاد الترك طالبا بدم جده إيرج بن أفريدون، فقتل طوج بن أفريدون
وأخاه سلما، وأدرك ثأره وانصرف، وأن فراسياب بن فشنج ابن رستم بن ترك- الذي تنسب
إليه الأتراك، بن شهراسب ويقال: ابن
(1/379)
إرشسب بن طوج بن أفريدون الملك
وقد يقال لفشك فشنج بن زاشمين- حارب منوشهر، بعد أن مضى لقتله طوجا وسلما ستون
سنه، وحاصره بطبرستان.
ثم ان منوشهر وفراسياب اصطلحا على أن يجعلا حد ما بين مملكتيهما منتهى رمية سهم
رجل من أصحاب منوشهر يدعى ارشباطير- وربما خفف اسمه بعضهم فيقول: إيرش- فحيث ما
وقع سهمه من موضع رميته تلك مما يلي بلاد الترك فهو الحد بينهما لا يجاوز ذلك واحد
منهما إلى الناحية الاخرى وان ارشباطير نزع بسهم في قوسه، ثم أرسله- وكان قد أعطي
قوة وشدة- فبلغت رميته من طبرستان إلى نهر بلخ ووقع السهم هنالك، فصار نهر بلخ حد
ما بين الترك وولد طوج وولد إيرج وعمل الفرس، فانقطع بذلك من رميه ارشباطير حروب
ما بين فراسياب ومنوشهر.
وذكروا أن منوشهر اشتق من الصراة ودجلة ونهر بلخ أنهارا عظاما.
وقيل إنه هو الذي كرا الفرات الأكبر، وأمر الناس بحراثة الأرض وعمارتها، وزاد في
مهنة المقاتلة الرمى، وجعل الرياسة في ذلك لارشباطير لرميته التي رماها وقالوا: إن
منوشهر لما مضى من ملكه خمس وثلاثون سنة تناولت الترك من أطراف رعيته، فوبخ قومه
وقال لهم: أيها الناس، إنكم لم تلدوا الناس كلهم، وإنما الناس ناس ما عقلوا من
أنفسهم ودفعوا العدو عنهم، وقد نالت الترك من أطرافكم، وليس ذلك إلا من ترككم جهاد
عدوكم، وقلة المبالاة، وإن الله تبارك وتعالى أعطانا هذا الملك ليبلونا أنشكر
فيزيدنا، أم نكفر فيعاقبنا! ونحن اهل بيت عز ومعدن الملك لله، فإذا كان غدا
فاحضروا، قَالُوا: نعم واعتذروا، فقال: انصرفوا، فلما كان من الغد أرسل إلى أهل
المملكة وأشراف
(1/380)
الأساورة، فدعاهم وأدخل الرؤساء من الناس، ودعا موبذ موبذان، فأقعد على كرسي مقابل سريره، ثم قام على سريره، وقام أشراف أهل بيت المملكة وأشراف الأساورة على أرجلهم، فقال: اجلسوا فإني إنما قمت لأسمعكم كلامي فجلسوا فقال: أيها الناس، إنما الخلق للخالق، والشكر للمنعم، والتسليم للقادر، ولا بد مما هو كائن، وإنه لا أضعف من مخلوق طالبا كان أو مطلوبا، ولا أقوى من خالق، ولا أقدر ممن طلبته في يده، ولا أعجز ممن هو في يد طالبه، وإن التفكر نور، والغفلة ظلمة، والجهالة ضلالة، وقد ورد الأول ولا بد للآخر من اللحاق بالأول، وقد مضت قبلنا أصول نحن فروعها، فما بقاء فرع بعد ذهاب أصله! وإن الله عز وجل أعطانا هذا الملك فله الحمد، ونسأله إلهام الرشد والصدق واليقين، وإن للملك على أهل مملكته حقا، ولأهل مملكته عليه حقا، فحق الملك على أهل المملكة أن يطيعوه ويناصحوه ويقاتلوا عدوه، وحقهم على الملك أن يعطيهم أرزاقهم في أوقاتها، إذ لا معتمد لهم على غيرها، وإنها تجارتهم وحق الرعية على الملك أن ينظر لهم، ويرفق بهم، ولا يحملهم على ما لا يطيقون، وإن أصابتهم مصيبه تنقص من ثمارهم من آفة من السماء أو الأرض أن يسقط عنهم خراج ما نقص، وإن اجتاحتهم مصيبة أن يعوضهم ما يقويهم على عماراتهم، ثم يأخذ منهم بعد ذلك على قدر ما لا يجحف بهم في سنة أو سنتين، وأمر الجند للملك بمنزلة جناحي الطائر، فهم أجنحة الملك متى قص من الجناح ريشة كان ذلك نقصانا منه، فكذلك الملك إنما هو بجناحه وريشه ألا وإن الملك ينبغي أن يكون فيه ثلاث خصال: أولها أن يكون صدوقا لا يكذب، وأن يكون سخيا لا يبخل، وأن يملك نفسه عند الغضب، فإنه مسلط ويده مبسوطة، والخراج يأتيه، فينبغي ألا يستأثر عن جنده ورعيته بما هم أهل له، وأن يكثر العفو، فإنه لا ملك أبقى من ملك فيه العفو، ولا أهلك من ملك فيه العقوبة ألا
(1/381)
وإن المرء إن يخطئ في العفو
فيعفو، خير من أن يخطئ في العقوبة فينبغي للملك أن يتثبت في الأمر الذي فيه قتل النفس
وبوارها وإذا رفع إليه من عامل من عماله ما يستوجب به العقوبة فلا ينبغي له أن
يحابيه، وليجمع بينه وبين المتظلم، فإن صح عليه للمظلوم حق خرج اليه منه، وان عجز
عنه أدى عنه الملك ورده إلى موضعه، وأخذه بإصلاح ما أفسد، فهذا لكم علينا.
ألا ومن سفك دما بغير حق، أو قطع يدا بغير حق، فإني لا أعفو عن ذلك إلا أن يعفو
عنه صاحبه فخذوا هذا عني وإن الترك قد طمعت فيكم فاكفونا، فإنما تكفون أنفسكم، وقد
أمرت لكم بالسلاح والعدة وأنا شريككم في الرأي، وإنما لي من هذا الملك اسمه مع
الطاعة منكم ألا وإن الملك ملك إذا أطيع، فإذا خولف فذلك مملوك ليس بملك ومهما
بلغنا من الخلاف فإنا لا نقبله من المبلغ له حتى نتيقنه، فإذا صحت معرفة ذلك وإلا
أنزلناه منزلة المخالف ألا وإن أكمل الأداة عند المصيبات الأخذ بالصبر والراحة إلى
اليقين، فمن قتل في مجاهدة العدو رجوت له الفوز برضوان الله وأفضل الأمور التسليم
لأمر الله والراحة إلى اليقين والرضا بقضائه، وأين المهرب مما هو كائن! وإنما
يتقلب في كف الطالب، وإنما هذه الدنيا سفر لأهلها لا يحلون عقد الرحال إلا في
غيرها، وإنما بلغتهم فيها بالعواري، فما أحسن الشكر للمنعم والتسليم لمن القضاء
له! ومن أحق بالتسليم لمن فوقه ممن لا يجد مهربا إلا إليه، ولا معولا إلا عليه!
فثقوا بالغلبة إذا كانت نياتكم أن النصر من الله، وكونوا على ثقة من درك الطلبة
إذا صحت نياتكم واعلموا أن هذا الملك لا يقوم إلا بالاستقامة وحسن الطاعة وقمع
العدو وسد الثغور والعدل للرعية وإنصاف المظلوم، فشفاؤكم عندكم، والدواء الذي لا
داء فيه الاستقامة، والأمر بالخير والنهى عن الشر، ولا قوه الا بالله انظروا
للرعية فإنها مطعمكم ومشربكم، ومتى عدلتم فيها رغبوا في العمارة، فزاد ذلك في
خراجكم، وتبين في زيادة أرزاقكم، وإذا خفتم على الرعية زهدوا في العمارة، وعطلوا
أكثر الأرض فنقص ذلك
(1/382)
من خراجكم، وتبين في نقص
أرزاقكم، فتعاهدوا الرعية بالإنصاف، وما كان من الأنهار والبثوق مما نفقة ذلك من
السلطان فأسرعوا فيه قبل أن يكثر، وما كان من ذلك على الرعية فعجزوا عنه فأقرضوهم
من بيت مال الخراج، فإذا حان أوقات خراجهم، فخذوا من خراج غلاتهم على قدر ما لا
يجحف ذلك بهم، ربع في كل سنة أو ثلث أو نصف، لكيلا يشق ذلك عليهم هذا قولي وامرى
يا موبذ موبذان، الزم هذا القول، وخذ في هذا الذي سمعت في يومك، أسمعتم أيها
الناس! فقالوا: نعم، قد قلت فأحسنت، ونحن فاعلون إن شاء الله: ثم أمر بالطعام فوضع
فأكلوا وشربوا، ثم خرجوا وهم له شاكرون.
وكان ملكه مائة وعشرين سنة.
وقد زعم هشام بن الكلبى فيما حدثت عنه أن الرائش بن قيس بن صيفي ابن سبأ بن يشجب
بن يعرب بن قحطان كان من ملوك اليمن بعد يعرب بن قحطان بن عابر بن شالخ وإخوته،
وأن الرائش كان ملكه باليمن أيام ملك منوشهر، وأنه إنما سمي الرائش- واسمه الحارث
بن ابى شدد- لغنيمة غنمها من قوم غزاهم فأدخلها اليمن، فسمي لذلك الرائش، وأنه غزا
الهند فقتل بها وسبى وغنم الأموال، ورجع إلى اليمن ثم سار منها، فخرج على جبلي
طيّئ ثم على الأنبار، ثم على الموصل، وأنه وجه منها خيله وعليها رجل من أصحابه،
يقال له: شمر بن العطاف، فدخل على الترك أرض أذربيجان وهي في أيديهم يومئذ، فقتل
المقاتلة وسبى الذرية، وزبر ما كان من مسيره في حجرين، فهما معروفان ببلاد
أذربيجان قَالَ: وفي ذلك يقول امرؤ القيس:
ألم يخبرك أن الدهر غول ... ختور العهد يلتقم الرجالا
(1/383)
أزال عن المصانع ذا رياش ...
وقد ملك السهولة والجبالا
وأنشب في المخالب ذا منار ... وللزراد قد نصب الحبالا
قَالَ: وذو منار الذي ذكره الشاعر هو ذو منار بن رائش، الملك بعد أبيه، واسمه
أبرهة بن الرائش، قَالَ: وإنما سمي ذا منار لأنه غزا بلاد المغرب فوغل فيها برا
وبحرا، وخاف على جيشه الضلال عند قفوله، فبنى المنار ليهتدوا بها.
قَالَ: ويزعم أهل اليمن أنه كان وجه ابنه العبد بن أبرهة في غزوته هذه إلى ناحية
من أقاصي بلاد المغرب، فغنم وأصاب مالا وقدم عليه بنسناس لهم خلق وحشيه منكرة،
فذعر الناس منهم، فسموه ذا الأذعار.
قَالَ: فأبرهة أحد ملوكهم الذين توغلوا في الأرض، وإنما ذكرت من ذكرت من ملوك
اليمن في هذا الموضع لما ذكرت من قول من زعم أن الرائش كان ملكا باليمن أيام
منوشهر، وأن ملوك اليمن كانوا عمالا لملوك فارس بها، ومن قبلهم كانت ولايتهم بها
(1/384)
ذكر نسب موسى بن عمران وأخباره
وما كان في عهده وعهد منوشهر بن منشخورنر الملك من الأحداث قد ذكرنا أولاد يعقوب
إسرائيل الله وعددهم وموالدهم فحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا
سَلَمَةُ بْنُ الفضل، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثُمَّ إِنَّ لاوى بن
يعقوب نكح نابتة ابنة ماري بن يشخر، فولدت له عرشون بن لاوى ومرزى بن لاوى ومردى
بن لاوى وقاهث ابن لاوى فنكح قاهث بن لاوى فاهى ابنة مسين بن بتويل بن إلياس.
فولدت له يصهر بن قاهث فتزوج يصهر شميث ابنه بناديت بن بركيا ابن يقسان بن إبراهيم
فولدت له عمران بن يصهر، وقارون بن يصهر، فنكح عمران يحيب ابنة شمويل بن بركيا بن
يقسان بن إبراهيم فولدت له هارون بن عمران وموسى بن عمران.
وقال غير ابن إسحاق: كان عمر يعقوب بن إسحاق مائة وسبعا وأربعين سنة، وولد لاوي
له، وقد مضى من عمره تسع وثمانون سنة، وولد للاوي قاهث بعد أن مضى من عمر لاوي ست
وأربعون سنة، ثم ولد لقاهث يصهر، ثم ولد ليصهر عمرم- وهو عمران- وكان عمر يصهر
مائة وسبعا وأربعين سنة، وولد له عمران بعد أن مضى من عمره ستون سنة، ثم ولد
لعمران موسى، وكانت أمه يوخابد- وقيل: كان اسمها باختة- وامرأته صفورا ابنة يترون،
وهو
(1/385)
شعيب النبي ص وولد موسى جرشون
وإيليعازر، وخرج إلى مدين خائفا وله إحدى وأربعون سنة، وكان يدعو الى دين ابراهيم،
وتراءى الله بطور سيناء، وله ثمانون سنة.
وكان فرعون مصر في أيامه قابوس بن مصعب بن معاوية صاحب يوسف الثاني، وكانت امرأته
آسية ابنة مزاحم بن عبيد بن الريان بن الوليد، فرعون يوسف الأول فلما نودي موسى
أعلم أن قابوس بن مصعب قد مات، وقام أخوه الوليد بن مصعب مكانه، وكان أعتى من
قابوس وأكفر وأفجر، وأمر بأن يأتيه هو وأخوه هارون بالرسالة.
قَالَ: ويقال إن الوليد تزوج آسية ابنة مزاحم بعد أخيه وكان عمر عمران مائة سنة
وسبعا وثلاثين سنة، وولد موسى وقد مضى من عمر عمران سبعون سنة، ثم صار موسى إلى
فرعون رسولا مع هارون، وكان من مولد موسى إلى أن خرج ببني إسرائيل عن مصر ثمانون
سنة، ثم صار إلى التيه بعد أن عبر البحر، فكان مقامهم هنالك إلى أن خرجوا مع يوشع بن
نون أربعين سنة، فكان ما بين مولد موسى إلى وفاته في التيه مائة وعشرين سنة.
وَأَمَّا ابْنُ إِسْحَاقَ فَإِنَّهُ قَالَ فِيمَا حَدَّثَنَا ابن حميد، قال:
حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، قَالَ: قبض الله يوسف، وهلك الملك الذي كان معه
الريان بن الوليد، وتوارثت الفراعنة من العماليق ملك مصر، فنشر الله بها بني
إسرائيل، وقبر يوسف حين قبض- كما ذكر لي- في صندوق من مرمر في ناحية من النيل في
جوف الماء، فلم يزل بنو إسرائيل تحت أيدي الفراعنة وهم على بقايا من دينهم مما كان
يوسف ويعقوب وإسحاق وإبراهيم شرعوا فيهم
(1/386)
من الإسلام، متمسكين، به حتى
كان فرعون موسى الذي بعثه الله إليه، ولم يكن منهم فرعون أعتى منه على الله ولا
أعظم قولا ولا أطول عمرا في ملكه منه.
وكان اسمه- فيما ذكروا لي- الوليد بن مصعب، ولم يكن من الفراعنة فرعون أشد غلظة،
ولا أقسى قلبا، ولا أسوأ ملكة لبني إسرائيل منه، يعذبهم فيجعلهم خدما وخولا،
وصنفهم في أعماله، فصنف يبنون، وصنف يحرثون، وصنف يزرعون له، فهم في أعماله، ومن
لم يكن منهم في صنعة له من عمله فعليه الجزية، فسامهم كما قَالَ الله: «سُوءَ
الْعَذابِ*» ، وفيهم مع ذلك بقايا من أمر دينهم لا يريدون فراقه، وقد استنكح منهم
امرأة يقال لها آسيه ابنه مزاحم، من خيار النساء المعدودات، فعمر فيهم وهم تحت
يديه عمرا طويلا يسومهم سوء العذاب، فلما أراد الله أن يفرج عنهم وبلغ موسى الأشد
أعطي الرسالة.
قَالَ: وذكر لي أنه لما تقارب زمان موسى أتى منجمو فرعون وحزاته إليه، فقالوا: تعلم
أنا نجد في علمنا أن مولودا من بني إسرائيل قد أظلك زمانه الذي يولد فيه، يسلبك
ملكك، ويغلبك على سلطانك، ويخرجك من أرضك، ويبدل دينك فلما قَالُوا له ذلك أمر
بقتل كل مولود يولد من بني إسرائيل من الغلمان وأمر بالنساء يستحيين، فجمع القوابل
من نساء أهل مملكته فقال لهن: لا يسقطن على أيديكن غلام من بني إسرائيل إلا
قتلتموه، فكن يفعلن ذلك، وكان يذبح من فوق ذلك من الغلمان، ويأمر بالحبالى فيعذبن
حتى يطرحن ما في بطونهن.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي
نجيح، عن مجاهد، قَالَ: لقد ذكر لي أنه كان يأمر بالقصب فيشق حتى يجعل أمثال
الشفار، ثم يصف بعضه إلى بعض، ثم يأتي بالحبالى من بني إسرائيل فيوقفهن عليه فيحز
أقدامهن، حتى إن المرأة منهن لتمصع بولدها فيقع بين رجليها، فتظل تطؤه تتقي به حز
القصب عن رجليها، لما بلغ من جهدها، حتى أسرف في ذلك، وكاد يفنيهم، فقيل له: أفنيت
(1/387)
الناس، وقطعت النسل، وإنهم
خولك وعمالك فأمر أن يقتل الغلمان عاما ويستحيوا عاما، فولد هارون في السنة التي
يستحيا فيها الغلمان، وولد موسى في السنة التي فيها يقتلون، فكان هارون أكبر منه
بسنة وَأَمَّا السُّدِّيُّ فَإِنَّهُ قَالَ مَا حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ هَارُونَ،
قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس-
وعن مرة الهمداني عن ابْنِ مَسْعُودٍ- وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ الله ص
أَنَّهُ كَانَ مِنْ شَأْنِ فِرْعَوْنَ أَنَّهُ رَأَى رُؤْيَا فِي مَنَامِهِ أَنَّ
نَارًا أَقْبَلَتْ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ حَتَّى اشْتَمَلَتْ عَلَى بُيُوتِ
مِصْرَ، فَأَحْرَقَتِ الْقِبْطَ وَتَرَكَتْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَخْرَبَتْ
بُيُوتَ مِصْرَ، فَدَعَا السَّحَرَةَ وَالْكَهَنَةَ وَالْقَافَةَ وَالْحَازَةَ،
فَسَأَلَهُمْ عَنْ رُؤْيَاهُ فَقَالُوا لَهُ: يَخْرُجُ مِنْ هَذَا الْبَلَدِ
الَّذِي جَاءَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْهُ- يَعْنُونَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ- رَجُلٌ
يَكُونُ عَلَى وَجْهِهِ هَلاكُ مِصْرَ فَأَمَرَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلا يُولَدَ
لَهُمْ غُلامٌ إِلا ذَبَحُوهُ، وَلا يُولَدَ لَهُمْ جَارِيَةٌ إِلا تُرِكَتْ
وَقَالَ لِلْقِبْطِ:
انْظُرُوا مَمْلُوكِيكُمُ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ خَارِجًا فَأَدْخِلُوهُمْ
وَاجْعَلُوا بَنِي إِسْرَائِيلَ يَلُونَ تِلْكَ الأَعْمَالَ الْقَذِرَةَ فَجَعَلَ
بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي أَعْمَالِ غِلْمَانِهِمْ وَأَدْخَلُوا غِلْمَانَهُمْ.
فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ الله: «إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ» يَقُولُ:
تَجَبَّرَ فِي الأَرْضِ، «وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً» - يَعْنِي بَنِي
إِسْرَائِيلَ حِينَ جَعَلَهُمْ فِي الأَعْمَالِ القذره- «يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً
مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ» ، فَجَعَلَ لا يُولَدُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ
مَوْلُودٌ إِلا ذُبِحَ، فَلا يَكْبُرُ الصَّغِيرُ، وَقَذَفَ اللَّهُ فِي
مَشْيَخَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْمَوْتَ، فَأَسْرَعَ فِيهِمْ، فَدَخَلَ رُءُوسُ
الْقِبْطِ عَلَى فِرْعَوْنَ فَكَلَّمُوهُ، فَقَالُوا: إِنَّ هَؤُلاءِ الْقَوْمَ
قَدْ وَقَعَ فِيهِمُ الْمَوْتُ، فَيُوشِكُ أَنْ يَقَعَ الْعَمَلُ عَلَى
غِلْمَانِنَا نُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ فلا يبلغ الصغار، ويفنى الْكِبَارَ، فَلَوْ
أَنَّكَ تُبْقِي مِنْ أَوْلادِهِمْ! فَأَمَرَ أَنْ يُذْبَحُوا سَنَةً وَيُتْرَكُوا
سَنَةً، فَلَمَّا كَانَ فِي السَّنَةِ الَّتِي لا يُذْبَحُونَ فِيهَا وُلِدَ
هَارُونُ فَتُرِكَ، فَلَمَّا كَانَ فِي السَّنَةِ الَّتِي يُذْبَحُونَ فِيهَا
حَمَلَتْ أُمُّ مُوسَى بِمُوسَى فَلَمَّا ارادت وضعه
(1/388)
حَزِنَتْ مِنْ شَأْنِهِ،
فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهَا: «أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ
فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَهُوَ النِّيلُ، وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا
رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ» فَلَمَّا وَضَعَتْهُ
أَرْضَعَتْهُ، ثُمَّ دَعَتْ لَهُ نَجَّارًا فَجَعَلَ لَهُ تَابُوتًا، وَجَعَلَ
مِفْتَاحَ التَّابُوتِ مِنْ دَاخِلٍ، وَجَعَلَتْهُ فِيهِ وَأَلْقَتْهُ فِي
الْيَمِّ، «وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ» تَعْنِي قُصِّي أَثَرَهُ «فَبَصُرَتْ
بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» ، أَنَّهَا أُخْتُهُ فَأَقْبَلَ
الْمَوْجُ بِالتَّابُوتِ يَرْفَعُهُ مَرَّةً، وَيَخْفِضُهُ أُخْرَى، حَتَّى
أَدْخَلَهُ بَيْنَ أَشْجَارٍ عِنْدَ بَيْتِ فِرْعَوْنَ، فَخَرَجَ جَوَارِي آسِيَةَ
امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ يغتسلن، فوجدن التابوت فادخلنه الى آسيه، وظننن أَنَّ فِيهِ
مَالا، فَلَمَّا نَظَرَتْ إِلَيْهِ آسِيَةُ وَقَعَتْ عَلَيْهِ رَحْمَتُهَا
وَأَحَبَّتْهُ فَلَمَّا أَخْبَرَتْ بِهِ فِرْعَوْنَ أَرَادَ أَنْ يَذْبَحَهُ،
فَلَمْ تَزَلْ آسِيَةُ تُكَلِّمُهُ حَتَّى تَرَكَهُ لَهَا، قَالَ: إِنِّي أَخَافُ
أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَنْ يَكُونَ هَذَا الَّذِي عَلَى
يَدَيْهِ هَلاكُنَا، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: «فَالْتَقَطَهُ آلُ
فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً» فَأَرَادُوا لَهُ
الْمُرْضِعَاتِ، فَلَمْ يَأْخُذْ مِنْ أَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ، وَجَعَلَ
النِّسَاءُ يَطْلُبْنَ ذَلِكَ لِيَنْزِلْنَ عِنْدَ فِرْعَوْنَ فِي الرَّضَاعِ،
فَأَبَى أَنْ يَأْخُذَ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ: «وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ
الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ» أُخْتُهُ «هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ
يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ» ، فَأَخَذُوهَا، وَقَالُوا: إِنَّكِ
قَدْ عَرَفْتِ هَذَا الْغُلامَ فَدُلِّينَا عَلَى أَهْلِهِ فَقَالَتْ:
مَا أَعْرِفُهُ، وَلَكِنِّي إِنَّمَا قُلْتُ: هُمْ لِلْمَلِكِ نَاصِحُونَ.
وَلَمَّا جَاءَتْ أُمُّهُ أَخَذَ مِنْهَا ثَدْيَهَا فَكَادَتْ أَنْ تَقُولَ: هُوَ
ابْنِي! فَعَصَمَهَا
(1/389)
اللَّهُ، فَذَلِكَ قَوْلُ
اللَّهِ: «إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها
لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ موسى لأَنَّهُمْ وَجَدُوهُ
فِي مَاءٍ وشجر، والماء بالقبطية مو والشجر شا فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ:
«فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ» فَاتَّخَذَهُ
فِرْعَوْنُ وَلَدًا فَدُعِيَ ابْنَ فِرْعَوْنَ فَلَمَّا تَحَرَّكَ الْغُلامُ
أَرَتْهُ أُمُّهُ آسِيَةُ صَبِيًّا، فَبَيْنَمَا هِيَ تُرَقِّصُهُ وَتَلْعَبُ بِهِ
إِذْ نَاوَلَتْهُ فِرْعَوْنَ، وَقَالَتْ: خُذْهُ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ، قَالَ
فِرْعَوْنُ:
هُوَ قُرَّةُ عَيْنٍ لَكِ وَلا لِي قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ
أَنَّهُ قَالَ: وَهُوَ لِي قُرَّةُ عَيْنٍ إِذًا لآمَنَ بِهِ، وَلَكِنَّهُ أَبَى،
فَلَمَّا أَخَذَهُ إِلَيْهِ أَخَذَ موسى بِلِحْيَتِهِ فَنَتَفَهَا، فَقَالَ
فِرْعَوْنُ: عَلَيَّ بِالذَّبَّاحِينَ، هَذَا هُوَ! قَالَتْ آسِيَةُ: «لا
تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً» ، انما هُوَ صَبِيٌّ
لا يَعْقِلُ، وَإِنَّمَا صَنَعَ هَذَا مِنْ صِبَاهُ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ
لَيْسَ فِي أَهْلِ مِصْرَ امْرَأَةٌ أَحْلَى مِنِّي، أَنَا أَضَعُ له حليا مِنَ
الْيَاقُوتِ، وَأَضَعُ لَهُ جَمْرًا، فَإِنْ أَخَذَ الْيَاقُوتَ فَهُوَ يَعْقِلُ
فَاذْبَحْهُ، وَإِنْ أَخَذَ الْجَمْرَ فَإِنَّمَا هُوَ صَبِيٌّ، فَأَخْرَجَتْ لَهُ
يَاقُوتَهَا فَوَضَعَتْ له طستا من جمر، فجاء جبرئيل فَطَرَحَ فِي يَدِهِ جَمْرَةً
فَطَرَحَهَا موسى فِي فِيهِ فَأَحْرَقَ لِسَانَهُ، فَهُوَ الَّذِي يَقُولُ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ: «وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي» فَزَالَتْ
عَنْ مُوسَى مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَكَبُرَ مُوسَى فَكَانَ يَرْكَبُ مَرَاكِبَ
فِرْعَوْنَ، وَيَلْبَسُ مِثْلَ ما يلبس، وكان انما يدعى موسى بن فِرْعَوْنَ ثَمَّ
إِنَّ فِرْعَوْنَ رَكِبَ مَرْكَبًا وَلَيْسَ عِنْدَهُ مُوسَى، فَلَمَّا جَاءَ
مُوسَى قِيلَ لَهُ: إِنَّ فِرْعَوْنَ قَدْ رَكِبَ، فَرَكِبَ فِي أَثَرِهِ
فَأَدْرَكَهُ الْمَقِيلُ بِأَرْضٍ يُقَالُ لَهَا مَنْفُ، فَدَخَلَهَا نصف النهار،
(1/390)
وقد تعلقت أَسْوَاقُهَا
وَلَيْسَ فِي طُرُقِهَا أَحَدٌ وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: «وَدَخَلَ
الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ
يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ يَقُولُ: هَذَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهذا
مِنْ عَدُوِّهِ يقول: من القبط فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى
الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ
الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي
فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ قالَ رَبِّ بِما
أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ
خائِفاً يَتَرَقَّبُ» خَائِفًا أَنْ يُؤْخَذَ، «فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ
بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ» يَقُولُ: يَسْتَغِيثُهُ «قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ
لَغَوِيٌّ مُبِينٌ» ثُمَّ أَقْبَلَ مُوسَى لِيَنْصُرَهُ فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى
مُوسَى قَدْ أَقْبَلَ نَحْوَهُ لِيَبْطِشَ بِالرَّجُلِ الَّذِي يُقَاتِلُ
الإِسْرَائِيلِيَّ، قَالَ الإِسْرَائِيلِيُّ- وَفَرَقَ مِنْ مُوسَى أَنْ يَبْطِشَ
بِهِ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ أَغْلَظَ الْكَلامَ- يَا مُوسَى «أَتُرِيدُ أَنْ
تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ
جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ» .
فَتَرَكَهُ وَذَهَبَ الْقِبْطِيُّ، فَأَفْشَى عَلَيْهِ أَنَّ مُوسَى هُوَ الَّذِي
قَتَلَ الرَّجُلَ، فَطَلَبَهُ فِرْعَوْنُ وَقَالَ: خُذُوهُ فَإِنَّهُ صَاحِبُنَا،
وَقَالَ لِلَّذِينَ يَطْلُبُونَهُ: اطْلُبُوهُ فِي بُنَيَّاتِ الطَّرِيقِ، فَإِنَّ
مُوسَى غُلامٌ لا يَهْتَدِي إِلَى الطَّرِيقِ، وَأَخَذَ مُوسَى فِي بُنَيَّاتِ
الطَّرِيقِ وَجَاءَهُ الرَّجُلُ وَأَخْبَرَهُ «إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ
لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً
يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» فَلَمَّا أَخَذَ
مُوسَى فِي بُنَيَّاتِ الطَّرِيقِ جَاءَهُ مَلَكٌ عَلَى فَرَسٍ بِيَدِهِ عَنَزَةٌ،
فَلَمَّا رَآهُ مُوسَى سَجَدَ لَهُ مِنَ الْفَرَقِ، فَقَالَ: لا تَسْجُدْ لِي،
وَلَكِنِ اتَّبِعْنِي، فَاتَّبَعَهُ فَهَدَاهُ نَحْوَ مَدْيَنَ، وَقَالَ مُوسَى
وَهُوَ مُتَوَجِّهٌ نَحْوَ مَدْيَنَ:
«عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ» ، فَانْطَلَقَ بِهِ الْمَلَكُ
حَتَّى انْتَهَى بِهِ إِلَى مدين
(1/391)
حَدَّثَنِي الْعَبَّاسُ بْنُ
الْوَلِيدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ قَالَ:
حَدَّثَنَا أَصْبَغُ بْنُ زَيْدٍ الْجُهَنِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ
قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ ابن جُبَيْرٍ، قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ
عن قول الله موسى: «وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً» ، فَسَأَلْتُهُ عَنِ الْفُتُونِ مَا
هِيَ؟ فَقَالَ لِي: استأنف النهار يا بن جُبَيْرٍ، فَإِنَّ لَهَا حَدِيثًا
طَوِيلًا، قَالَ: فَلَمَّا أَصْبَحْتُ غَدَوْتُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ لأَنْتَجِزَ
مِنْهُ ما وعدني قال: فقال ابْنُ عَبَّاسٍ: تَذَاكَرَ فِرْعَوْنُ وَجُلَسَاؤُهُ
مَا وَعَدَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ مِنْ أَنْ يَجْعَلَ فِي ذُرِّيَّتِهِ أَنْبِيَاءَ
وَمُلُوكًا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَيَنْتَظِرُونَ ذَلِكَ
مَا يَشُكُّونَ، وَلَقَدْ كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّهُ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ،
فَلَمَّا هَلَكَ قَالُوا: لَيْسَ هَكَذَا كَانَ اللَّهُ وَعَدَ إِبْرَاهِيمَ،
قَالَ فِرْعَوْنُ: فَكَيْفَ تَرَوْنَ؟
قَالَ: فَائْتَمَرُوا بَيْنَهُمْ، وَأَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ
رِجَالًا مَعَهُمُ الشِّفَارُ، يَطُوفُونَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَا يَجِدُونَ
مَوْلُودًا ذَكَرًا إِلَّا ذَبَحُوهُ، فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّ الْكِبَارَ مِنْ
بَنِي إِسْرَائِيلَ يَمُوتُونَ بِآجَالِهِمْ، وَأَنَّ الصِّغَارَ يُذْبَحُونَ
قَالُوا: تُوشِكُونَ أَنْ تُفْنُوا بَنِي إِسْرَائِيلَ فَتَصِيرُوا إِلَى أَنْ
تُبَاشِرُوا مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْخِدْمَةِ الَّتِي كَانُوا يَكْفُونَكُمْ،
فَاقْتُلُوا عَامًا كُلَّ مَوْلُودٍ ذَكَرٍ، فَيَقِلَّ أَبْنَاؤُهُمْ، وَدَعُوا
عَامًا لَا تَقْتُلُوا مِنْهُمْ أَحَدًا، فَيَشِبَّ الصِّغَارُ مَكَانَ مَنْ
يَمُوتُ مِنَ الْكِبَارِ، فَإِنَّهُمْ لَنْ يَكْثُرُوا بِمَنْ تَسْتَحْيُونَ
مِنْهُمْ فَتَخَافُوا مُكَاثَرَتَهُمْ إِيَّاكُمْ، وَلَنْ يَقِلُّوا بِمَنْ
تَقْتُلُونَ فَأَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ عَلَى ذَلِكَ فَحَمَلَتْ أُمُّ مُوسَى
بِهَارُونَ فِي الْعَامِ الَّذِي لَا يُذْبَحُ فِيهِ الْغِلْمَانُ فَوَلَدَتْهُ
عَلَانِيَةً آمِنَةً حَتَّى إِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ حَمَلَتْ بِمُوسَى
فَوَقَعَ فِي قلبها الهم والحزن- وذلك من الفتون يا بن جُبَيْرٍ- مِمَّا دَخَلَ
عَلَيْهِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ مما يراد به، فاوحى الله إليها:
«الا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ
الْمُرْسَلِينَ» وَأَمَرَهَا إِذَا وَلَدَتْهُ أَنْ تَجْعَلَهُ فِي تَابُوتٍ،
ثُمَّ تُلْقِيَهُ فِي الْيَمِّ فَلَمَّا وَلَدَتْهُ فَعَلَتْ مَا أُمِرَتْ بِهِ،
حَتَّى إِذَا تَوَارَى عَنْهَا ابْنُهَا أَتَاهَا إِبْلِيسُ، فَقَالَتْ فِي
نَفْسِهَا: مَا صَنَعْتُ بِابْنِي؟
لَوْ ذُبِحَ عِنْدِي فَوَارَيْتُهُ وَكَفَّنْتُهُ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ
أُلْقِيَهُ بِيَدِي الى حيتان
(1/392)
الْبَحْرِ ودَوَابِّهِ
فَانْطَلَقَ بِهِ الْمَاءُ حَتَّى أَوْفَى بِهِ عِنْدَ فُرْضَةِ مُسْتَقَى
جَوَارِي آلِ فِرْعَوْنَ، فَرَأَيْنَهُ فَأَخَذْنَهُ، فَهَمَمْنَ أَنْ يَفْتَحْنَ
التَّابُوتَ، فَقَالَ بَعْضُهُنَّ لِبَعْضٍ: إِنَّ فِي هَذَا مَالًا، وَإِنَّا
إِنْ فَتَحْنَاهُ لَمْ تُصَدِّقْنَا امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ بِمَا وَجَدْنَا فِيهِ،
فَحَمَلْنَهُ كَهَيْئَتِهِ لَمْ يُحَرِّكْنَ مِنْهُ شيئا حتى دفعنه إليها، فلما
فتحته رَأَتْ فِيهِ الْغُلَامَ، فَأُلْقِيَ عَلَيْهِ مِنْهَا مَحَبَّةً لَمْ
يُلْقَ مِثْلُهَا مِنْهَا عَلَى أَحَدٍ مِنَ الناس، «وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ
مُوسى فارِغاً» مِنْ ذِكْرِ كُلِّ شَيْءٍ، إِلَّا مِنْ ذِكْرِ مُوسَى.
فَلَمَّا سَمِعَ الذَّبَّاحُونَ بِأَمْرِهِ أَقْبَلُوا إِلَى امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ
بِشِفَارِهِمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَذْبَحُوهُ- وَذَلِكَ من الفتون يا بن جُبَيْرٍ-
فَقَالَتْ: لِلذَّبَّاحِينَ: انْصَرِفُوا، فَإِنَّ هَذَا الْوَاحِدَ لَا يَزِيدُ
فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَآتِي فِرْعَوْنَ فَأَسْتَوْهِبُهُ إِيَّاهُ، فَإِنْ
وَهَبَهُ لِي كُنْتُمْ قَدْ أَحْسَنْتُمْ وَأَجْمَلْتُمْ، وَإِنْ أَمَرَ
بِذَبْحِهِ لَمْ أَلُمْكُمْ فلما أتت به فرعون قالت: «قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ
لَا تَقْتُلُوهُ» ، قَالَ فِرْعَوْنُ: يَكُونُ لَكِ، فَأَمَّا أَنَا فَلَا حَاجَةَ
لِي فيه، [فقال رسول الله ص: وَالَّذِي يَحْلِفُ بِهِ، لَوْ أَقَرَّ فِرْعَوْنُ
أَنْ يَكُونَ لَهُ قُرَّةَ عَيْنٍ كَمَا أَقَرَّتْ بِهِ لَهَدَاهُ اللَّهُ بِهِ،
كَمَا هَدَى بِهِ امْرَأَتَهُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ حَرَمَهُ ذَلِكَ] .
فَأَرْسَلَتْ إِلَى مَنْ حَوْلَهَا مِنْ كُلِّ أُنْثَى لَهَا لَبَنٌ لِتَخْتَارَ
لَهُ ظِئْرًا، فَجَعَلَ كُلَّمَا أَخَذَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ لِتُرْضِعَهُ
لَمْ يَقْبَلْ ثَدْيَهَا، حَتَّى أَشْفَقَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ أَنْ يَمْتَنِعَ
مِنَ اللَّبَنِ فَيَمُوتَ، فَحَزَّنَهَا ذَلِكَ، فَأَمَرَتْ بِهِ فَأُخْرِجَ إِلَى
السُّوقِ،
(1/393)
مَجْمَعِ النَّاسِ تَرْجُو
أَنْ تُصِيبَ لَهُ ظِئْرًا يَأْخُذُ مِنْهَا، فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْ أَحَدٍ،
وَأَصْبَحَتْ أُمُّ مُوسَى فَقَالَتْ لِأُخْتِهِ: قُصِّيهِ وَاطْلُبِيهِ هَلْ
تَسْمَعِينَ لَهُ ذِكْرًا! أَحِيٌّ ابْنِي أَمْ قَدْ أَكَلَتْهُ دَوَابُّ
الْبَحْرِ وَحِيتَانُهُ؟ وَنَسِيَتِ الَّذِي كَانَ اللَّهُ وَعَدَهَا، فَبَصُرَتْ
بِهِ أُخْتُهُ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، فَقَالَتْ مِنَ الْفَرَحِ حِينَ
أَعْيَاهُمُ الظُّئُورَاتُ:
«هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ
ناصِحُونَ» فَأَخَذُوهَا فَقَالُوا: وَمَا يُدْرِيكِ مَا نُصْحُهُمْ لَهُ! هَلْ
تَعْرِفِينَهُ؟ حَتَّى شَكُّوا فِي ذَلِكَ- وَذَلِكَ من الفتون يا بن جبير- فقالت:
نصحهم له، وشفقتهم عَلَيْهِ، وَرَغْبَتُهُمْ فِي ظُئُورَةِ الْمَلِكِ، وَرَجَاءُ
مَنْفَعَتِهِ فَتَرَكُوهَا، فَانْطَلَقَتْ إِلَى أُمِّهَا فَأَخْبَرَتْهَا
الْخَبَرَ، فَجَاءَتْ فَلَمَّا وَضَعَتْهُ فِي حِجْرِهَا نَزَا إِلَى ثَدْيِهَا
حَتَّى امْتَلَأَ جَنْبَاهُ، فَانْطَلَقَ الْبُشَرَاءُ إِلَى امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ
يُبَشِّرُونَهَا أَنْ قَدْ وَجَدْنَا لِابْنِكَ ظِئْرًا، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهَا
فَأُتِيَتْ بِهَا وَبِهِ، فَلَمَّا رَأَتْ مَا يَصْنَعُ بِهَا قَالَتِ: امْكُثِي
عِنْدِي تُرْضِعِينَ ابْنِي هَذَا فَإِنِّي لَمْ أُحِبَّ حُبَّهُ شَيْئًا قَطُّ
قَالَ: فَقَالَتْ: لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَدَعَ بَيْتِي وَوَلَدِي فَيَضِيعَ،
فَإِنْ طَابَتْ نَفْسُكِ أَنْ تُعْطِينِيهِ فَأَذْهَبَ بِهِ إِلَى بَيْتِي،
فَيَكُونَ مَعِي لا آلُوهُ خَيْرًا فَعَلْتِ، وَإِلَّا فَإِنِّي غَيْرُ تَارِكَةٍ
بَيْتِي وَوَلَدِي وَذَكَرَتْ أُمُّ مُوسَى مَا كَانَ اللَّهُ وَعَدَهَا،
فَتَعَاسَرَتْ عَلَى امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ، وَأَيْقَنَتْ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ
وَجَلَّ مُنْجِزٌ وَعْدَهُ، فَرَجَعَتْ بِابْنِهَا إِلَى بَيْتِهَا مِنْ
يَوْمِهَا، فَأَنْبَتَهُ اللَّهُ نَبَاتًا حَسَنًا، وَحَفِظَهُ لِمَا قَضَى فِيهِ،
فَلَمْ تَزَلْ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَهُمْ مُجْتَمِعُونَ فِي نَاحِيَةِ
الْمَدِينَةِ يَمْتَنِعُونَ بِهِ مِنَ الظُّلْمِ وَالسُّخْرِ الَّتِي كَانَتْ
فِيهِمْ، فَلَمَّا تَرَعْرَعَ قَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ لِأُمِّ مُوسَى: أُرِيدُ
أَنْ تُرِينِي مُوسَى، فَوَعَدَتْهَا يَوْمًا تُرِيهَا إِيَّاهُ فِيهِ، فَقَالَتْ
لِحَوَاضِنِهَا وَظُئُورِهَا وَقَهَارِمَتِهَا: لا يَبْقَيَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ
إِلَّا اسْتَقْبَلَ ابْنِي بِهَدِيَّةٍ وَكَرَامَةٍ، لِيَرَى ذَلِكَ، وَأَنَا
بَاعِثَةٌ أَمِينَةً تُحْصِي مَا يَصْنَعُ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ فَلَمْ تَزَلِ
الْهَدِيَّةُ وَالْكَرَامَةُ وَالتُّحَفُ تَسْتَقْبِلُهُ
(1/394)
مِنْ حِينِ خَرَجَ مِنْ بَيْتِ
أُمِّهِ إِلَى أَنْ دَخَلَ عَلَى امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهَا
بَجَّلَتْهُ وَأَكْرَمَتْهُ وَفَرِحَتْ بِهِ وَأَعْجَبَهَا مَا رَأَتْ مِنْ حُسْنِ
أَثَرِهَا عَلَيْهِ، وَقَالَتِ:
انْطَلِقْنَ بِهِ إِلَى فِرْعَوْنَ فَلْيُبَجِّلْهُ وَلْيُكْرِمْهُ فَلَمَّا
دَخَلْنَ بِهِ عَلَى فِرْعَوْنَ وَضَعْنَهُ فِي حِجْرِهِ، فَتَنَاوَلَ مُوسَى
لِحْيَةَ فِرْعَوْنَ حَتَّى مَدَّهَا، فَقَالَ: عَدُوٌّ مِنْ أَعْدَاءِ اللَّهِ!
أَلَا تَرَى مَا وَعَدَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ سَيَصْرَعُكَ وَيَعْلُوكَ!
فَأَرْسَلَ إِلَى الذباحين ليذبحوه- وذلك من الفتون يا بن جُبَيْرٍ- بَعْدَ كُلِّ
بَلَاءٍ ابْتُلِيَ بِهِ وَأُرِيدَ بِهِ فَجَاءَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ تَسْعَى
إِلَى فِرْعَوْنَ فَقَالَتْ: مَا بَدَا لَكَ فِي هَذَا الصَّبِيِّ الَّذِي
وَهَبْتَهُ لِي؟ قَالَ:
أَلَا تَرَيْنَهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ سَيَصْرَعُنِي وَيَعْلُونِي! فَقَالَتِ:
اجْعَلْ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَمْرًا يُعْرَفُ فِيهِ الْحَقُّ، ائْتِ
بِجَمْرَتَيْنِ وَلُؤْلُؤَتَيْنِ فَقَرِّبْهُنَّ إِلَيْهِ، فَإِنْ بَطَشَ
بِاللُّؤْلُؤَتَيْنِ وَاجْتَنَبَ الْجَمْرَتَيْنِ عَلِمْتُ أَنَّهُ يَعْقِلُ،
وَإِنْ تَنَاوَلَ الْجَمْرَتَيْنِ وَلَمْ يُرِدِ اللُّؤْلُؤَتَيْنِ فَاعْلَمْ
أَنَّ أَحَدًا لَا يُؤْثِرُ الْجَمْرَتَيْنِ عَلَى اللُّؤْلُؤَتَيْنِ وَهُوَ
يَعْقِلُ، فَقَرَّبَ ذَلِكَ إِلَيْهِ فَتَنَاوَلَ الْجَمْرَتَيْنِ فَنَزَعُوهُمَا
مِنْهُ مَخَافَةَ أَنْ تُحْرِقَا يَدَهُ، فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: أَلَا تَرَى!
فَصَرَفَهُ اللَّهُ عَنْهُ بَعْدَ مَا كَانَ قَدْ هَمَّ بِهِ، وَكَانَ اللَّهُ
بَالِغًا فِيهِ أَمْرَهُ، فَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَكَانَ مِنَ الرِّجَالِ لَمْ
يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَخْلُصُ إِلَى أَحَدٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ
بِظُلْمٍ وَلَا سُخْرَةٍ، حَتَّى امْتَنَعُوا كُلَّ امْتِنَاعٍ، فَبَيْنَمَا هُوَ
يَمْشِي ذَاتَ يَوْمٍ فِي نَاحِيَةِ الْمَدِينَةِ إِذَا هُوَ بِرَجُلَيْنِ
يَقْتَتِلانِ، أَحَدُهُمَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَالآخَرُ مِنْ آلِ
فِرْعَوْنَ، فَاسْتَغَاثَهُ الإِسْرَائِيلِيُّ عَلَى الْفِرْعَوْنِيِّ، فَغَضِبَ
مُوسَى وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ لِأَنَّهُ تَنَاوَلَهُ وَهُوَ يَعْلَمُ مَنْزِلَةَ
مُوسَى مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَحِفْظَهُ لَهُمْ، وَلَا يَعْلَمُ النَّاسُ
إِلَّا أَنَّمَا ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ الرَّضَاعَةِ غَيْرَ أُمِّ مُوسَى، إِلَّا
أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَطْلَعَ مُوسَى مِنْ ذلك على ما لم يُطْلِعُ
عَلَيْهِ غَيْرَهُ، فَوَكَزَ مُوسَى الْفِرْعَوْنِيَّ فَقَتَلَهُ، وَلَيْسَ
يَرَاهُمَا إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَالْإِسْرَائِيلِيُّ، فَقَالَ مُوسَى
حِينَ قَتَلَ الرَّجُلَ: «هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ
(1/395)
إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ
مُبِينٌ» ، ثُمَّ قَالَ: «رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ
لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» فاصبح في المدينة خائفا يترقب
الْأَخْبَارَ، فَأَتَى فِرْعَوْنَ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ
قَتَلُوا رَجُلًا مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ فَخُذْ لَنَا بِحَقِّنَا، وَلَا تُرَخِّصْ
لَهُمْ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: ابْغُونِي قَاتِلَهُ، وَمَنْ يَشْهَدُ عَلَيْهِ،
لِأَنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ أَنْ نَقْضِيَ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلَا ثَبْتٍ
فَطَلَبُوا لَهُ ذَلِكَ، فَبَيْنَمَا هُمْ يَطُوفُونَ لَا يَجِدُونَ بَيِّنَةً،
إِذْ مَرَّ مُوسَى مِنَ الْغَدِ، فَرَأَى ذَلِكَ الْإِسْرَائِيلِيَّ يُقَاتِلُ
فِرْعَوْنِيًّا، فَاسْتَغَاثَهُ الْإِسْرَائِيلِيُّ عَلَى الْفِرْعَوْنِيِّ،
فَصَادَفَ مُوسَى وَقَدْ نَدِمَ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ بِالْأَمْسِ، وَكَرِهَ الَّذِي
رَأَى، فَغَضِبَ مُوسَى فَمَدَّ يَدَهُ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْطِشَ
بِالْفِرْعَوْنِيِّ، فَقَالَ لِلْإِسْرَائِيلِيِّ لِمَا فعل بالأمس واليوم:
«إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ» .
فَنَظَرَ الْإِسْرَائِيلِيُّ إِلَى مُوسَى بَعْدَ مَا قَالَ مَا قَالَ، فَإِذَا
هُوَ غَضْبَانُ كَغَضَبِهِ بِالْأَمْسِ الَّذِي قَتَلَ فِيهِ الْفِرْعَوْنِيَّ،
فَخَافَ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ مَا قَالَ لَهُ: «إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ» ، أَنْ
يَكُونَ إِيَّاهُ أَرَادَ- وَلَمْ يَكُنْ أَرَادَهُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ
الْفِرْعَوْنِيَّ- فَخَافَ الْإِسْرَائِيلِيُّ فَحَاجَزَ الْفِرْعَوْنِيَّ، وقال:
يَا مُوسَى «أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ» !
وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ مَخَافَةَ أَنْ يَكُونَ إِيَّاهُ أَرَادَ مُوسَى
لِيَقْتُلَهُ، فَتَتَارَكَا، فَانْطَلَقَ الْفِرْعَوْنِيُّ إِلَى قَوْمِهِ
فَأَخْبَرَهُمْ بِمَا سَمِعَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيِّ مِنَ الْخَبَرِ، حِينَ
يَقُولُ: «أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ» !
فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ الذَّبَّاحِينَ، وَسَلَكَ مُوسَى الطَّرِيقَ الْأَعْظَمَ
وَطَلَبُوهُ وَهُمْ لَا يَخَافُونَ أَنْ يَفُوتَهُمْ، وَكَانَ رَجُلٌ مِنْ شِيعَةِ
مُوسَى مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ، فَاخْتَصَرَ طَرِيقًا قَرِيبًا حَتَّى
سَبَقَهُمْ إِلَى مُوسَى، فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، وَذَلِكَ مِنَ الفتون يا بن
جُبَيْرٍ.
ثُمَّ رَجَعَ الْحَدِيثُ إِلَى حَدِيثِ السُّدِّيِّ قال: «فلما وَرَدَ ماءَ
مَدْيَنَ وَجَدَ
(1/396)
عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ
النَّاسِ يَسْقُونَ» يَقُولُ: كَثْرَةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ.
وقد حَدَّثَنَا أبو عمار المروزي، قَالَ: حَدَّثَنَا الفضل بن موسى، عن الأعمش، عن
المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، قَالَ: خرج موسى من مصر إلى مدين، وبينهما
مسيرة ثمان ليال- قَالَ: وكان يقال نحو من الكوفة إلى البصرة- ولم يكن له طعام إلا
ورق الشجر، فخرج حافيا، فما وصل إليها حتى وقع خف قدمه حَدَّثَنَا أبو كريب،
قَالَ: حَدَّثَنَا عثام، قَالَ: حَدَّثَنَا الأعمش، عن المنهال، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بنحوه.
رجع الحديث إلى حديث السدي «وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ»
يقول: تحبسان غنمهما، فسألهما: «مَا خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ
الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ» ، فرحمهما موسى فأتى البئر فاقتلع صخرة على
البئر، كان النفر من أهل مدين يجتمعون عليها حتى يرفعوها، فسقى لهما موسى دلوا
فأروتا غنمهما، فرجعتا سريعا، وكانتا إنما تسقيان من فضول الحياض، ثم تولى موسى
إلى ظل شجرة من السمر فقال:
«رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ» ، قَالَ: قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ:
لقد قَالَ موسى، ولو شاء إنسان أن ينظر إلى خضرة أمعائه من شدة الجوع ما يسأل الله
إلا أكلة.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَكَّامُ بْنُ سَلْمٍ، عَنْ
عَنْبَسَةَ، عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: «وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ» ، قَالَ:
وَرَدَ الْمَاءَ وَإِنَّهُ لَيَتَرَاءَى خَضِرَةَ الْبَقْلِ فِي بَطْنِهِ مِنَ
(1/397)
الْهُزَالِ فَقَالَ: «رَبِّ
إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ» قَالَ: شُبْعَةٌ.
رَجَعَ الْحَدِيثُ إِلَى حَدِيثِ السُّدِّيِّ فَلَمَّا رَجَعَتِ الْجَارِيَتَانِ
إِلَى أَبِيهِمَا سَرِيعًا، سَأَلَهُمَا فَأَخْبَرَتَاهُ خَبَرَ مُوسَى،
فَأَرْسَلَ إِحْدَاهُمَا فَأَتَتْهُ «تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ وَهِيَ تَسْتَحْيِي
مِنْهُ، قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا»
فَقَامَ مَعَهَا، وَقَالَ لَهَا: امْضِي، فَمَشَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَضَرَبَتْهَا
الرِّيَاحُ فَنَظَرَ إِلَى عَجِيزَتِهَا، فَقَالَ لَهَا مُوسَى: امْشِي خَلْفِي
وَدُلِّينِي عَلَى الطَّرِيقِ إِنْ أَخْطَأْتُ، فَلَمَّا أَتَى الشَّيْخَ «وَقَصَّ
عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.
قالَتْ إِحْداهُما يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ
الْقَوِيُّ الْأَمِينُ» .
وَهِيَ الْجَارِيَةُ الَّتِي دَعَتْهُ قَالَ الشَّيْخُ: هَذِهِ الْقُوَّةُ قَدْ
رَأَيْتِ حِينَ اقْتَلَعَ الصَّخْرَةَ، أَرَأَيْتِ أَمَانَتَهُ مَا يُدْرِيكِ مَا
هِيَ؟ قَالَتْ: إِنِّي مَشَيْتُ قُدَّامَهُ فَلَمْ يُحِبَّ أَنْ يُخَوِّنَنِي فِي
نَفْسِي، وَأَمَرَنِي أَنْ أَمْشِيَ خَلْفَهُ، قَالَ لَهُ الشَّيْخُ: «إِنِّي
أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي» -
إلى- «أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ» ، إِمَّا ثَمَانِيًا وَإِمَّا عَشْرًا،
«وَاللَّهُ عَلى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ» .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْجَارِيَةُ الَّتِي دَعَتْهُ هِيَ الَّتِي تَزَوَّجَ
بِهَا فَأَمَرَ إِحْدَى ابْنَتَيْهِ أَنْ تَأْتِيَهُ بِعَصًا فَأَتَتْهُ بِعَصًا،
وَكَانَتْ تِلْكَ الْعَصَا عَصًا اسْتَوْدَعَهَا إِيَّاهُ مَلَكٌ فِي صُورَةِ
رَجُلٍ، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ فَدَخَلَتِ الْجَارِيَةُ فَأَخَذَتِ الْعَصَا
فَأَتَتْهُ بِهَا، فَلَمَّا رَآهَا الشَّيْخُ قَالَ لَهَا: لا، ايتيه بِغَيْرِهَا،
فَأَلْقَتْهَا، فَأَخَذَتْ تُرِيدُ أَنْ تَأْخُذَ غَيْرَهَا فَلا يَقَعُ فِي
يَدِهَا إِلَّا هِيَ، وَجَعَلَ يُرَدِّدُهَا، فَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَخْرُجُ فِي
يَدِهَا غَيْرَهَا، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عَمَدَ إِلَيْهَا فَأَخْرَجَهَا معه،
فرعى بها ثم ان الشيخ قدم وَقَالَ:
كَانَتْ وَدِيعَةً فَخَرَجَ يَتَلَقَّى مُوسَى فَلَمَّا لقيه قال: أعطني العصا،
فقال موسى:
(1/398)
هِيَ عَصَاي، فَأَبَى أَنْ
يُعْطِيَهُ، فَاخْتَصَمَا بَيْنَهُمَا ثُمَّ تَرَاضِيَا أَنْ يَجْعَلَا
بَيْنَهُمَا أَوَّلَ رَجُلٍ يَلْقَاهُمَا، فَأَتَاهُمَا مَلَكٌ يَمْشِي فَقَضَى
بَيْنَهُمَا فَقَالَ: ضَعَاهَا فِي الْأَرْضِ فَمَنْ حَمَلَهَا فَهِيَ لَهُ،
فَعَالَجَهَا الشَّيْخُ فَلَمْ يُطِقْهَا، وَأَخَذَهَا مُوسَى بِيَدِهِ فَرَفَعَهَا،
فَتَرَكَهَا لَهُ الشَّيْخُ، فَرَعَى لَهُ عَشْرَ سِنِينَ.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ مُوسَى أَحَقَّ بِالْوَفَاءِ.
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الطوسى، قال: حدثنا الحميدى عبد الله ابن
الزُّبَيْرِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ
يَحْيَى بْنِ أَبِي يَعْقُوبَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، [أَنَّ رَسُولَ الله ص قال: سالت جبرئيل: أَيُّ الأَجَلَيْنِ
قَضَى مُوسَى؟ قَالَ: أَتَمَّهُمَا وَأَكْمَلَهُمَا] .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حَدَّثَنِي ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ حَكِيمِ
بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: قَالَ لِي يَهُودِيٌّ
بِالْكُوفَةِ- وَأَنَا أَتَجَهَّزُ لِلْحَجِّ-: إِنِّي أَرَاكَ رَجُلا يَتْبَعُ
الْعِلْمَ، أَخْبِرْنِي أَيَّ الأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى؟ قُلْتُ: لا أَعْلَمُ
وَأَنَا الْآنَ قَادِمٌ عَلَى حَبْرِ الْعَرَبِ- يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ-
فَسَأَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا قَدِمْتُ مَكَّةَ سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ
عَنْ ذَلِكَ وَأَخْبَرْتُهُ بِقَوْلِ الْيَهُودِيِّ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
قَضَى أَكْثَرَهُمَا وَأَطْيَبَهُمَا، إِنَّ النَّبِيَّ إِذَا وَعَدَ لَمْ
يُخْلِفْ قَالَ سَعِيدٌ: فَقَدِمْتُ الْعِرَاقَ فَلَقِيتُ الْيَهُودِيَّ
فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: صَدَقَ، وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى هَذَا
وَاللَّهُ الْعَالِمُ.
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا
الأَصْبَغُ بْنُ زَيْدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
جُبَيْرٍ، قَالَ: سَأَلَنِي رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ النَّصْرَانِيَّةِ: أَيُّ
الْأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى؟ قُلْتُ: لَا أَعْلَمُ- وَأَنَا يَوْمَئِذٍ لَا
أَعْلَمُ- فَلَقِيتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَذَكَرْتُ لَهُ الَّذِي سَأَلَنِي عَنْهُ
النَّصْرَانِيُّ، فَقَالَ: أَمَا كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ ثَمَانِيًا وَاجِبَةً
عَلَيْهِ، لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ لِيَنْقُصُ مِنْهَا شَيْئًا، وَتَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ
كَانَ قَاضِيًا عَنْ مُوسَى عِدَّتَهُ الَّتِي وَعَدَهُ، فَإِنَّهُ قَضَى عَشْرَ
سِنِينَ
(1/399)
حدثنا القاسم بن الحسن، قال:
حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني وهب بن سليمان الذماري،
عن شعيب الجبائي قَالَ: اسم الجاريتين ليا وصفورة، وامرأة موسى صفورة ابنة يترون،
كاهن مدين، والكاهن حبر.
حَدَّثَنِي أبو السائب، قَالَ: حَدَّثَنَا أبو معاويه، عن الاعمش، عن عمرو ابن
مرة، عن أبي عبيدة، قَالَ: كان الذي استأجر موسى يترون، ابن أخي شعيب النبي.
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْعَلاءُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ،
عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:
الَّذِي اسْتَأْجَرَ مُوسَى اسْمُهُ يَثْرَى صَاحِبُ مَدْيَنَ.
حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْهَيْثَمِ أَبُو الْعَالِيَةِ، قَالَ: حَدَّثَنَا
ابو قتيبة، عن حماد ابْنَ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،
قَالَ: اسْمُ أَبِي امْرَأَةِ مُوسَى يثرَى.
رَجَعَ الْحَدِيثُ إِلَى حَدِيثِ السُّدِّيِّ «فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ
وَسارَ بِأَهْلِهِ» فَضَلَّ الطَّرِيقَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ
فِي الشِّتَاءِ، وَرُفِعَتْ لَهُ نَارٌ، فَلَمَّا ظَنَّ أَنَّهَا نَارٌ- وَكَانَتْ
مِنْ نُورِ اللَّهِ- «قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي
آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ» ، فَإِنْ لَمْ أَجِدْ خَبَرًا أَتَيْتُكُمْ مِنْهَا
بِشِهَابٍ قبس، «لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ» - قَالَ: مِنَ الْبَرْدِ- «فَلَمَّا
أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ
مِنَ الشَّجَرَةِ» «أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها» فَلَمَّا
سَمِعَ مُوسَى النِّدَاءَ فَزِعَ وَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
فَنُودِيَ: «يَا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ» «وَما تِلْكَ
بِيَمِينِكَ يَا مُوسى قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها
عَلى غَنَمِي» ، يقول
(1/400)
اضْرِبْ بِهَا الْوَرَقَ،
فَيَقَعُ لِلْغَنَمِ مِنَ الشَّجَرِ «وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى» ، يَقُولُ:
حَوَائِجُ أُخْرَى أَحْمِلُ عَلَيْهَا الْمِزْوَدَ وَالسِّقَاءَ، فَقَالَ لَهُ:
«أَلْقِها يَا مُوسى فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى» «فَلَمَّا رَآها
تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ» ، يَقُولُ: لَمْ
يَنْتَظِرْ فَنُودِيَ: «يَا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ
الْمُرْسَلُونَ» «أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ» ، «وَاضْمُمْ
إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ» الْعَصَا
وَالْيَدُ آيَتَانِ، فَذَلِكَ حِينَ يَدْعُو مُوسَى رَبَّهُ، فَقَالَ: «رَبِّ
إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ وَأَخِي هارُونُ هُوَ
أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي» ، يَقُولُ:
كَيْمَا يُصَدِّقُنِي «إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ» قَالَ: «وَلَهُمْ عَلَيَّ
ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ» - يَعْنِي بِالْقَتِيلِ- «قالَ سَنَشُدُّ
عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً» - وَالسُّلْطَانُ الْحُجَّةُ-
«فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا
الْغالِبُونَ» ، «ْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ
» .
حَدَّثَنَا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة: «فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ» ،
خرج- فيما ذكر لي ابن إسحاق، عن وهب بن منبه اليماني- فيما ذكر له- عنه، ومعه غنم
له، ومعه زند له وعصاه في يده يهش بها على غنمه نهاره، فإذا أمسى اقتدح بزنده
نارا، فبات عليها هو وأهله وغنمه، فإذا أصبح غدا بأهله وبغنمه يتوكأ على عصاه،
وكانت- كما وصف لي عن وهب بن منبه- ذات شعبتين في رأسها، ومحجن في طرفها.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم من
أصحابه، أن كعب الأحبار قدم مكة وبها عبد الله بن عمرو بن العاص،
(1/401)
فقال كعب: سلوه عن ثلاث، فإن
أخبركم فإنه عالم، سلوه عن شيء من الجنة وضعه الله للناس في الأرض، وسلوه ما أول
ما وضع في الأرض؟ وما أول شجرة غرست في الأرض؟ فسئل عبد الله عنها فقال: أما الشيء
الذي وضعه الله للناس في الأرض من الجنة فهو هذا الركن الأسود، وأما أول ما وضع في
الأرض فبرهوت باليمن يرده هام الكفار، وأما أول شجرة غرسها الله في الأرض فالعوسجة
التي اقتطع منها موسى عصاه فلما بلغ ذلك كعبا قَالَ:
صدق الرجل، عالم والله! قَالَ: فلما كانت الليلة التي أراد الله بموسى كرامته،
وابتدأه فيها بنبوته وكلامه، أخطأ فيها الطريق حتى لا يدري أين يتوجه، فأخرج زنده
ليقدح نارا لأهله ليبيتوا عليها حتى يصبح، ويعلم وجه سبيله، فأصلد عليه زنده فلا
يوري له نارا، فقدح حتى إذا أعياه لاحت النار فرآها، «فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا
إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى
النَّارِ هُدىً» ، بقبس تصطلون، وهدى: عن علم الطريق الذي أضللنا بنعت من خبير
فخرج نحوها، فإذا هي في شجرة من العليق وبعض أهل الكتاب يقول:
في عوسجة، فلما دنا استأخرت عنه، فلما رأى استئخارها رجع عنها، وأوجس في نفسه منها
خيفة، فلما أراد الرجعة دنت منه، ثم كلم من الشجرة، فلما سمع الصوت استأنس، وقال
الله: يا موسى «اخلع نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً» فالقاهما
ثم قال: «ما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسى قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها
وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى» ، أي منافع أخرى، «قالَ
أَلْقِها يَا مُوسى فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى» قد صار شعبتاها فمها
وصار محجنها عرفا لها، في ظهر تهتز، لها أنياب، فهي كما شاء الله أن تكون فرأى
(1/402)
أمرا فظيعا فولى مدبرا ولم
يعقب، فناداه ربه: أن يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ، «سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا
الْأُولى» ، أي سيرتها عصا كما كانت قَالَ: فلما اقبل قال: «خُذْها وَلا تَخَفْ» ،
أدخل يدك في فمها، وعلى موسى جبة من صوف، فلف يده بكمه وهو لها هائب، فنودي أن ألق
كمك عن يدك، فألقاه عنها، ثم أدخل يده بين لحييها، فلما أدخلها قبض عليها فإذا هي
عصاه في يده، ويده بين شعبتيها حيث كان يضعها، ومحجنها بموضعه الذي كان لا ينكر
منها شيئا ثم قيل: «أَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ
سُوءٍ» اى من غير برص- وكان موسى ع رجلا آدم أقنى جعدا طوالا- فأدخل يده في جيبه
ثم أخرجها بيضاء مثل الثلج، ثم ردها في جيبه، فخرجت كما كانت على لونه، ثم قَالَ:
«فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا
قَوْماً فاسِقِينَ قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ
يَقْتُلُونِ وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي
رِدْءاً يُصَدِّقُنِي» ، أي يبين لهم عني ما أكلمهم به، فإنه يفهم عني ما لا
يفهمون «قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا
يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ» .
رجع الحديث إلى حديث السدي فأقبل موسى إلى أهله فسار بهم نحو مصر حتى أتاها ليلا،
فتضيف على أمه وهو لا يعرفهم، فأتاهم في ليلة كانوا يأكلون فيها الطفيشل، فنزل في
جانب الدار، فجاء هارون فلما أبصر ضيفه سأل عنه أمه فأخبرته أنه ضيف، فدعاه فأكل
معه، فلما أن قعدا تحدثا، فسأله هارون: من أنت؟ قَالَ: أنا موسى، فقام كل واحد
منهما إلى صاحبه فاعتنقه، فلما أن تعارفا قَالَ له موسى: يا هارون
(1/403)
انطلق معي إلى فرعون، إن الله
قد أرسلنا إليه، فقال هارون:
سمع وطاعة، فقامت أمهما فصاحت وقالت: أنشدكما الله ألا تذهبا إلى فرعون فيقتلكما
فأبيا فانطلقا إليه ليلا، فأتيا الباب فضرباه ففزع فرعون، وفزع البواب، وقال
فرعون: من هذا الذي يضرب بابي في هذه الساعة؟ فأشرف عليهما البواب، فكلمهما، فقال
له موسى: «إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ» ففزع البواب فأتى فرعون فأخبره
فقال: إن هاهنا إنسانا مجنونا يزعم أنه رسول رب العالمين، قَالَ: أدخله، فدخل
فقال: إني رسول رب العالمين، أن أرسل معي بني إسرائيل، فعرفه فرعون فقال: «أَلَمْ
نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ
فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ» .
معنا على ديننا هذا الذي تعيب! «قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ
فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً» - والحكم
النبوة- «وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ
أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ» وربيتني قبل وليدا! «قالَ فِرْعَوْنُ وَما
رَبُّ الْعالَمِينَ» «فَمَنْ رَبُّكُما يَا مُوسى قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى
كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى» يَقُولُ: أَعْطَى كُلَّ دَابَّةٍ زَوْجَهَا
ثُمَّ هَدَى لِلنِّكَاحِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: «إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ
بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» ، وَذَلِكَ بَعْدَ مَا قَالَ لَهُ مِنَ
الْكَلامِ ما ذكر الله تعالى قَالَ مُوسَى: «أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ
قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ.
فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ» - وَالثُّعْبَانُ الذَّكَرُ مِنَ
الْحَيَّاتِ- فَاتِحَةً
(1/404)
فَاهَا، وَاضِعَةً لَحْيَهَا
الأَسْفَلَ فِي الأَرْضِ وَالأَعْلَى عَلَى سُورِ الْقَصْرِ، ثُمَّ تَوَجَّهَتْ
نَحْوَ فِرْعَوْنَ لِتَأْخُذَهُ، فَلَمَّا رَآهَا ذُعِرَ مِنْهَا وَوَثَبَ، فأحدث-
ولم يكن يحدث قبل ذلك- وصاح: يَا موسى خذها وانا أومن بك وأرسل معك بني إسرائيل فأخذها
موسى فعادت عصا ثم نزع يده وأخرجها من جيبه، فإذا هي بيضاء للناظرين فخرج موسى من
عنده على ذلك، وأبى فرعون أن يؤمن به، او يرسل معه بنى إسرائيل، وقال لقومه: «يا
أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا
هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ
مُوسى» فلما بنى له الصرح ارتقى فوقه، فأمر بنشابة فرمى بها نحو السماء فردت إليه،
وهي ملطخة دما، فقال: قد قتلت إله موسى.
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «فَأَوْقِدْ لِي يَا هامانُ عَلَى الطِّينِ»
، قَالَ: كان أول من طبخ الآجُرَّ يبني به الصرح.
وأما ابن إسحاق، فإنه قَالَ ما حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عَنِ
ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: خرج موسى لما بعثه الله عز وجل حتى قدم مصر على فرعون هو
وأخوه هارون، حتى وقفا على باب فرعون يلتمسان الإذن عليه، وهما يقولان: إنا رسولا
رب العالمين، فآذنوا بنا هذا الرجل فمكثا- فيما بلغنا- سنتين يغدوان على بابه،
ويروحان لا يعلم بهما، ولا يجترئ أحد على أن يخبره بشأنهما، حتى دخل عليه بطال له
يلعبه ويضحكه، فقال له: أيها الملك، إن على الباب رجلا يقول قولا عجيبا، يزعم أن
له إلها غيرك، قَالَ:
أدخلوه، فدخل ومعه هارون أخوه، وبيده عصاه، فلما وقف على فرعون قَالَ له: إني رسول
رب العالمين، فعرفه فرعون فقال: «أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ
فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ
(1/405)
مِنَ الْكافِرِينَ قالَ
فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ» أي خطأ لا أريد ذلك ثم أقبل عليه
موسى ينكر عليه ما ذكر من يده عنده، فقال: «وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ
أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ» ! أي اتخذتهم عبيدا تنزع أبناءهم من أيديهم،
فتسترق من شئت، وتقتل من شئت إني إنما صيرني إلى بيتك وإليك ذلك «قالَ فِرْعَوْنُ
وَما رَبُّ الْعالَمِينَ» ، أي يستوصفه إلهه الذي أرسله إليه، أي ما الهك هذا!
«قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ
قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ» من ملئه «أَلا تَسْتَمِعُونَ» أي إنكارا لما قَالَ: ليس له
إله غيرى «قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ» الذي خلق آباءكم
الأولين وخلفكم من آبائكم قَالَ فرعون: «إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ
إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ» ، أي ما هذا بكلام صحيح إذ يزعم أن لكم إلها غيري، «قالَ
رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ» أي
خالق المشرق والمغرب وما بينهما من الخلق إن كنتم تعقلون «قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ
إِلهَاً غَيْرِي» لتعبد غيري وتترك عبادتي «لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ
قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ» ، أي بما تعرف بها صدقي وكذبك وحقي
وباطلك! «لَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا
هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ
» ، فملأت ما بين سماطي فرعون، فاتحة فاها، قد صار محجنها عرفا على ظهرها فارفض
عنها الناس، وحال فرعون عن سريره ينشده بربه.
ثم أدخل يده في جيبه فأخرجها بيضاء مثل الثلج، ثم ردها كهيئتها، وأدخل موسى يده في
جيبه فصارت عصا في يده، يده بين شعبتيها، ومحجنها في أسفلها كما كانت، وأخذ فرعون
بطنه، وكان فيما يزعمون يمكث الخمس والست ما يلتمس المذهب- يريد الخلاء- كما
يلتمسه الناس، وكان ذلك مما زين له أن
(1/406)
يقول ما يقول: إنه ليس من
الناس بشبه فحَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قَالَ:
حدثت عن وهب بن منبه اليماني، قَالَ: فمشى بضعا وعشرين ليلة، حتى كادت نفسه أن
تخرج، ثم استمسك فقال لملئه: «إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ» اى ما ساحر اسحر منه،
«يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ»
أقتله؟ فقال مؤمن من آل فرعون- العبد الصالح وكان اسمه فيما يزعمون حبرك:
«أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ
بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ» بعصاه ويده! ثم خوفهم عقاب الله وحذرهم ما أصاب
الأمم قبلهم، وقال: «يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي
الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ مَا
أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ» وقال الملا
من قومه- وقد وهنهم من سلطان الله ما وهنهم:
«أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ
سَحَّارٍ عَلِيمٍ» ، أي كاثره بالسحرة لعلك أن تجد في السحرة من جاء بمثل ما جاء
به وقد كان موسى وهارون خرجا من عنده حين أراهم من سلطان الله ما أراهم، وبعث
فرعون مكانه في مملكته، فلم يترك في سلطانه ساحرا إلا أُتي به، فذكر لي- والله أعلم-
أنه جمع له خمسة عشر ألف ساحر، فلما اجتمعوا إليه أمرهم أمره، فقال لهم: قد جاءنا
ساحر ما رأينا مثله قط، وإنكم إن غلبتموه أكرمتكم وفضلتكم وقربتكم على أهل مملكتي،
قَالُوا: إن لنا ذلك عليك إن
(1/407)
غلبناه! قَالَ: نعم، قَالُوا: فعد لنا موعدا نجتمع نحن وهو، فكان رءوس السحرة الذين جمع فرعون لموسى: ساتور، وعادور، وحطحط، ومصفى، أربعة، وهم الذين آمنوا حين رأوا ما رأوا من سلطان الله، فآمنت السحرة جميعا وقالوا لفرعون حين توعدهم القتل والصلب: «لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى مَا جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قاضٍ» فبعث فرعون الى موسى: ان اجعل «بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ» ، يَوم عيد كان فرعون يخرج إليه، «وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى» ، حتى يحضروا أمري وأمرك، فجمع فرعون الناس لذلك الجمع، ثم أمر السحرة فقال: «ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى» ، أي قد أفلح من استعلى اليوم على صاحبه فصف خمسة عشر ألف ساحر، مع كل ساحر حباله وعصيه، وخرج موسى ومعه أخوه يتكئ على عصاه، حتى أتى الجمع وفرعون في مجلسه ومعه أشراف أهل مملكته، وقد استكف له الناس، فقال موسى للسحرة حين جاءهم: «وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى» ، فتراد السحره بينهم، وقال بعضهم لبعض: ما هذا بقول ساحر، ثم قالوا واشار بعضهم الى بعض بتناج: «إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى» ثم قَالُوا: «يَا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ
(1/408)
وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى» فكان أول ما اختطفوا بسحرهم بصر موسى وبصر فرعون، ثم أبصار الناس بعد، ثم ألقى كل رجل منهم ما في يده من العصي والحبال، فإذا هي حيات كأمثال الجبال، قد ملأت الوادي يركب بعضها بعضا «فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى» ، وقال: والله إن كانت لعصيا في أيديهم، ولقد عادت حيات، وما تعدو عصاي هذه- أو كما حدث نفسه- فأوحى الله إليه: «وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى» وفرج عن موسى فألقى عصاه من يده، فاستعرضت ما ألقوا من حبالهم وعصيهم- وهي حيات في عين فرعون وأعين الناس تسعى- فجعلت تلقفها، تبتلعها حية حية، حتى ما يرى في الوادي قليل ولا كثير مما ألقوا، ثم أخذها موسى فإذا هي عصاه في يده كما كانت، ووقع السحرة سجدا «قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى» ، لو كان هذا سحرا ما غلبنا قَالَ لهم فرعون- وأسف ورأى الغلبة البينة: «آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ» ، أي لعظيم السحار الذي علمكم «فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ» - إلى قوله- «فَاقْضِ مَا أَنْتَ قاضٍ» ، اى لن نؤثرك على الله وعلى ما جاءنا من الحجج مع نبيه فاقض ما أنت قاض، أي فاصنع ما بدا لك، «إِنَّما تَقْضِي هذِهِ
(1/409)
الْحَياةَ الدُّنْيا» التي ليس
لك سلطان إلا فيها، ثم لا سلطان لك بعدها، «إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ
لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ
وَأَبْقى» ، أي خير منك ثوابا، وأبقى عقابا فرجع عدو الله مغلوبا ملعونا ثم أبى
إلا الإقامة على الكفر، والتمادي في الشر، فتابع الله عليه بالآيات، وأخذه
بالسنين، فأرسل عليه الطوفان.
رجع الحديث إلى حديث السدي وأما السدي فإنه قَالَ في خبره: ذكر أن الآيات التي
ابتلى الله بها قوم فرعون كانت قبل اجتماع موسى والسحرة، وقال:
لما رجع اليه السهم ملطخا بالدم قَالَ: قد قتلنا إله موسى ثم إن الله أرسل عليهم
الطوفان- وهو المطر- فغرق كل شيء لهم، فقالوا: يا موسى ادع لنا ربك يكشف عنا، ونحن
نؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل فكشفه الله عنهم، ونبتت زروعهم، فقالوا: ما يسرنا
أنا لم نمطر فبعث الله عليهم الجراد فأكل حروثهم، فسألوا موسى أن يدعو ربه فيكشفه
ويؤمنوا به، فدعا فكشفه، وقد بقي من زروعهم بقية، فقالوا: لن نؤمن وقد بقي لنا من
زروعنا بقية، فبعث الله عليهم الدبا- وهو القمل-، فلحس الأرض كلها، وكان يدخل بين
ثوب أحدهم وبين جلده فيعضه، وكان أحدهم يأكل الطعام فيمتلئ دبا حتى إن أحدهم ليبني
الأسطوانة بالجص والآجر، فيزلقها حتى لا يرتقي فوقها شيء من الذباب، ثم يرفع فوقها
الطعام، فإذا صعد إليه ليأكله وجده ملآن دبا، فلم يصبهم بلاء كان أشد عليهم من
الدبا، وهو الرجز الذي ذكره الله في القرآن أنه وقع عليهم فسألوا موسى أن يدعو ربه
فيكشفه عنهم ويؤمنوا به، فلما كشف عنهم أبوا أن يؤمنوا، فأرسل الله عليهم الدم،
فكان الاسرائيلى
(1/410)
ياتى هو والقبطى فيستقيان من
ماء واحد، فيخرج ماء هذا القبطي دما، ويخرج للإسرائيلي ماء فلما اشتد ذلك عليهم
سألوا موسى أن يكشفه ويؤمنوا به فكشف ذلك عنهم، فأبوا أن يؤمنوا، فذلك حين يقول
الله: «فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ» ما أعطوا من
العهود، وهو حين يقول:
«وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ» - وهو الجوع- «وَنَقْصٍ مِنَ
الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ» .
ثم ان الله عز وجل اوحى الى موسى وهارون أن: «قولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ
يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى» ، فأتياه فقال له موسى: هل لك يا فرعون في أن أعطيك
شبابك ولا تهرم، وملكك لا ينزع منك، ويرد إليك لذة المناكح والمشارب والركوب، فإذا
مت دخلت الجنة؟ تؤمن بي! فوقعت في نفسه هذه الكلمات، وهي اللينة، فقال: كما أنت
حتى يأتي هامان فلما جاء هامان قال له: اشعرت إن ذلك الرجل أتاني؟ قَالَ: من هو؟ -
وكان قبل ذلك إنما يسميه الساحر، فلما كان ذلك اليوم لم يسمه الساحر- قَالَ فرعون:
موسى، قَالَ: وما قَالَ لك؟ قَالَ: قال لي: كذا وكذا، قَالَ هامان: وما رددت عليه؟
قَالَ: قلت: حتى يأتي هامان فأستشيره، فعجزه هامان وقال: قد كان ظني بك خيرا من
هذا، تصير عبدا يعبد بعد أن كنت ربا يعبد! فذلك حين خرج عليهم فقال لقومه وجمعهم
فقال: «أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى» وكان بين كلمته «مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ
إِلهٍ غَيْرِي» وبين قوله:
(1/411)
«أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى»
أربعون سنة وقال لقومه: «إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ
مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ
وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ» قَالَ
فرعون: «أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يَا مُوسى
فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا
نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً» - يقول: عدلا، قَالَ موسى:
«مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى» - وذلك يوم عيد
لهم- «فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى» وأرسل فرعون في
المدائن حاشرين، فحشروا عليه السحرة، وحشروا الناس ينظرون، يقول: «هَلْ أَنْتُمْ
مُجْتَمِعُونَ لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ» -
الى قوله: «أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ» - يقول: عطية
تعطينا- «قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ» فقال لهم موسى:
«وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ» ،
يقول: يهلككم بعذاب «فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى»
من دون موسى وهارون، وقالوا في نجواهم: «إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ
يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى»
، يقول: يذهبا بأشراف قومكم.
فالتقى موسى وأمير السحرة، فقال له موسى: أرأيتك إن غلبتك أتؤمن بي وتشهد أن ما
جئت به حق؟ قَالَ: نعم، قَالَ الساحر: لآتين غدا بسحر لا يغلبه سحر، فو الله لئن
غلبتني لأومنن بك، ولأشهدن أنك على حق- وفرعون ينظر إليهما- وهو قول فرعون: «إِنَّ
هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ» ،
(1/412)
إذ التقيتما لتتظاهرا
«لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها» فقالوا: «يَا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا
أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ» ، قال لهم موسى: القوا فألقوا حبالهم وعصيهم-
وكانوا بضعة وثلاثين ألف رجل، ليس منهم رجل إلا ومعه حبل وعصا- «فَلَمَّا
أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ» يقول: فرقوهم.
«فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى» ، فأوحى الله إليه: ألا تخف، «وَأَلْقِ
مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا» فألقى موسى عصاه فأكلت كل حية لهم، فلما
رأوا ذلك سجدوا، وقالوا: «آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ*» .
قَالَ فرعون: «فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ
وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ» فقتلهم وقطعهم- كما قَالَ عبد الله
بن عباس- حين قَالُوا:
«رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ» قَالَ: كانوا في أول
النهار سحرة، وفي آخر النهار شهداء.
ثم أقبل على بني إسرائيل فقال له قومه: «أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا
فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ» ، وآلهته- فيما زعم ابْنُ عَبَّاسٍ- كانت
البقر، كانوا إذا رأوا بقرة حسناء أمرهم أن يعبدوها، فلذلك أخرج لهم عجلا بقرة.
ثم إن الله تعالى ذكره أمر موسى أن يخرج ببني إسرائيل فقال: «أَنْ أَسْرِ
بِعِبادِي» لَيْلا «إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ» فأمر موسى بني إسرائيل أن يخرجوا،
وأمرهم
(1/413)
أن يستعيروا الحلي من القبط، وأمر
ألا ينادي إنسان صاحبه، وأن يسرجوا في بيوتهم حتى الصبح، وأن من خرج إذا قَالَ:
موسى، قَالَ: عمرو وأمر من خرج يلطخ بابه بكف من دم حتى يعلم أنه قد خرج وإن الله
أخرج كل ولد زنا في القبط من بني إسرائيل إلى بني إسرائيل، وأخرج كل ولد زنا في
بني إسرائيل من القبط إلى القبط، حتى أتوا آباءهم.
ثم خرج موسى ببني إسرائيل ليلا والقبط لا يعلمون، وقد دعوا قبل ذلك على القبط،
فقال موسى: «رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا
فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» الى قوله: «حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ» ، فقال
الله تعالى: «قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما» فزعم السدي أن موسى هو الذي دعا وامن
هارون، فذلك حين يقول الله: «قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما» .
وقوله: «رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ» فذكر أن طمس الأموال أنه جعل دراهمهم
ودنانيرهم حجارة، ثم قَالَ لهما استقيما، فخرجا في قومهما، وألقي على القبط الموت،
فمات كل بكر رجل، فأصبحوا يدفنونهم، فشغلوا عن طلبهم حتى طلعت الشمس، فذلك حين
يقول الله:
«فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ» .
وكان موسى على ساقة بني إسرائيل، وكان هارون أمامهم يقدمهم، فقال المؤمن لموسى: يا
نبي الله، أين أمرت؟ قَالَ: البحر، فأراد أن يقتحم فمنعه موسى وخرج موسى في ستمائه
ألف وعشرين ألف مقاتل، لا يعدون ابن العشرين لصغره ولا ابن الستين لكبره، وإنما
عدوا ما بين ذلك سوى الذرية، وتبعهم فرعون، وعلى مقدمته هامان، في الف الف
وسبعمائة ألف حصان، ليس فيها ماذيانة، وذلك حين يقول الله: «فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ
فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ
لَنا لَغائِظُونَ» - يعنى بنى إسرائيل- «وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ» ، يقول: قد
حذرنا فاجمعنا امرنا،
(1/414)
«فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ»
، فنظرت بنو إسرائيل إلى فرعون قد ردفهم، قالوا:
«إِنَّا لَمُدْرَكُونَ» قَالُوا: يا موسى، أوذينا من قبل أن تأتينا، كانوا يذبحون
أبناءنا، ويستحيون نساءنا، ومن بعد ما جئتنا اليوم يدركنا فرعون فيقتلنا! إنا
لمدركون، البحر من بين أيدينا وفرعون من خلفنا، قَالَ موسى: «كَلَّا إِنَّ مَعِي
رَبِّي سَيَهْدِينِ» ، يقول: سيكفيني، «قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ
عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ»
فتقدم هارون فضرب البحر فأبى البحر أن ينفتح، وقال:
من هذا الجبار الذي يضربني! حتى أتاه موسى فكناه أبا خالد، وضربه، «فَانْفَلَقَ
فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ» ، يقول: كالجبل العظيم، فدخلت بنو
إسرائيل، وكان في البحر اثنا عشر طريقا، في كل طريق سبط، وكأن الطرق إذا انفلقت
بجدران فقال كل سبط: قد قتل أصحابنا، فلما رأى ذلك موسى دعا الله فجعلها لهم قناطر
كهيئة الطيقان، فنظر آخرهم إلى أولهم، حتى خرجوا جميعا، ثم دنا فرعون وأصحابه،
فلما نظر فرعون إلى البحر منفلقا قَالَ: ألا ترون البحر فرق مني، وقد تفتح لي حتى
أدرك أعدائي فأقتلهم! فذلك قول الله: «وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ» ، يقول:
قربنا ثم الآخرين، هم آل فرعون.
فلما قام فرعون على أفواه الطرق أبت خيله ان تقتحم، فنزل جبرئيل على ماذيانه، فشمت
الحصن ريح الماذيانة فاقتحمت في أثرها حتى إذا هم أولهم أن يخرج ودخل آخرهم، أمر
البحر أن يأخذهم فالتطم عليهم،
(1/415)
وتفرد جبرئيل بفرعون بمقلة من
مقل البحر، فجعل يدسها في فيه، فقال حين أدركه الغرق: «آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ
إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ» ،
فبعث الله اليه ميكائيل يعيره، قال: «آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ
الْمُفْسِدِينَ» فقال جبرئيل: يا مُحَمَّد، ما أبغضت أحدا من الخلق ما أبغضت
رجلين: أما أحدهما فمن الجن وهو إبليس حين أبى أن يسجد لآدم، وأما الآخر فهو فرعون
حين قَالَ: «أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى» ، ولو رأيتني يا مُحَمَّد، وأنا آخذ مقل
البحر فأدخله في فم فرعون مخافة أن يقول كلمة يرحمه الله بها! وقالت بنو إسرائيل:
لم يغرق فرعون، الآن يدركنا فيقتلنا، فدعا الله موسى: فاخرج فرعون في ستمائه ألف
وعشرين ألفا، عليهم الحديد فأخذته بنو إسرائيل يمثلون به، وذلك قول الله لفرعون:
«فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً» ، يقول:
لبنى إسرائيل آيه فلما أرادوا أن يسيروا ضرب عليهم تيه، فلم يدروا أين يذهبون،
فدعا موسى مشيخة بني إسرائيل فسألهم: ما بالنا؟ فقالوا له: إن يوسف لما مات بمصر
أخذ على إخوته عهدا ألا تخرجوا من مصر حتى تخرجوني معكم، فذلك هذا الأمر، فسألهم:
أين موضع قبره؟ فلم يعلموا، فقام موسى ينادي: أنشد الله كل من كان يعلم أين موضع
قبر يوسف إلا أخبرني به، ومن لم يعلم فصمت أذناه عن قولي! وكان يمر بين الرجلين
ينادي فلا يسمعان صوته، حتى سمعته عجوز لهم فقالت:
أرأيتك إن دللتك على قبره أتعطيني كل ما سألتك؟ فأبى عليها وقال: حتى أسأل ربي،
فأمره الله عز وجل أن يعطيها، فأتاها فأعطاها، فقالت: إني أريد ألا تنزل غرفة من
الجنة إلا نزلتها معك، قَالَ: نعم، قالت:
إني عجوز كبيرة لا أستطيع أن أمشي فاحملني، فحملها، فلما دنا من النيل، قالت: إنه
في جوف الماء، فادع الله أن يحسر عنه الماء، فدعا الله فحسر الماء عن القبر،
فقالت: احفره، ففعل فحمل عظامه، ففتح
(1/416)
لهم الطريق، فساروا، «فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ» - يقول: مهلك ما هم فيه- «وَباطِلٌ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ» فأما ابْنُ إِسْحَاقَ، فَإِنَّهُ قَالَ- فِيمَا حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة عنه- فتابع الله عليه بالآيات- يعني على فرعون- وأخذه بالسنين إذ أبى أن يؤمن بعد ما كان من أمره وأمر السحرة ما كان، فأرسل عليه الطوفان، ثم الجراد، ثم القمل، ثم الضفادع، ثم الدم آيات مفصلات، أي آية بعد آية، يتبع بعضها بعضا، فأرسل الطوفان وهو الماء، ففاض على وجه الأرض ثم ركد، لا يقدرون على أن يحرثوا، ولا يعملوا شيئا، حتى جهدوا جوعا فلما بلغهم ذلك قَالُوا: يَا مُوسَى ادْعُ لنا ربك، «لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ» فدعا موسى ربه فكشفه عنهم فلم يفوا له بشيء مما قَالُوا، فأرسل الله عليهم الجراد فأكل الشجر- فيما بلغني حتى إنه كان ليأكل مسامير الأبواب من الحديد حتى تقع دورهم ومساكنهم، فقالوا مثل ما قَالُوا، فدعا ربه فكشفه عنهم فلم يفوا له بشيء مما قالوا، فأرسل الله عليهم القمل فذكر لي أن موسى أمر أن يمشي إلى كثيب فيضربه بعصاه فمشى إلى كثيب أهيل عظيم فضربه بها فانثال عليهم قملا حتى غلب على البيوت والأطعمة، ومنعهم النوم والقرار، فلما جهدهم قَالُوا له مثل ما قَالُوا، فدعا ربه فكشف عنهم فلم يفوا له بشيء مما قَالُوا، فأرسل الله عليهم الضفادع، فملأت البيوت والأطعمة والآنية فلا يكشف أحد منهم ثوبا ولا طعاما ولا إناء إلا وجد فيه الضفادع قد غلبت عليه، فلما جهدهم ذلك قَالُوا له مثل ما قَالُوا، فدعا ربه فكشف عنهم فلم يفوا له بشيء مما قَالُوا، فأرسل الله
(1/417)
عليهم الدم فصارت مياه آل
فرعون دما، لا يستقون من بئر ولا نهر ولا يغترفون من إناء إلا عادت دما عبيطا.
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ:
فحَدَّثَنِي مُحَمَّد بن إسحاق، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كعب القرظي أنه حدث أن المرأة
من آل فرعون كانت تأتي المرأة من بني إسرائيل حين جهدهم العطش، فتقول: اسقيني من
مائك، فتغرف لها من جرتها أو تصب لها من قربتها، فيعود في الإناء دما، حتى إن كانت
لتقول لها: اجعليه في فيك ثم مجيه في في، فتأخذ في فيها ماء، فإذا مجته في فيها
صار دما، فمكثوا في ذلك سبعة أيام، فقالوا: «ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ
عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ
مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ» فلما كشف عنهم الرجز نكثوا ولم يفوا بشيء مما قَالُوا،
فأمر الله موسى أن يسير، وأخبره أنه منجيه ومن معه، ومهلك فرعون وجنوده، وقد دعا
موسى عليهم بالطمسة، فقال: «رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ
زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ»
- إلى- «وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» فمسخ الله أموالهم
حجارة: النخل والرقيق والأطعمة، فكانت احدى الآيات التي اراهن الله فرعون.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن بريده ابن سفيان
بن فروة الأسلمي، عن محمد بن كعب القرظي، قَالَ: سألني عمر بن عبد العزيز عن التسع
الآيات التي أراهن الله فرعون، فقلت: الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم،
وعصاه، ويده، والطمسة، والبحر.
فقال عمر: فأنى عرفت أن الطمسة إحداهن؟ قلت: دعا عليهم موسى وأمن هارون، فمسخ الله
أموالهم حجارة، فقال: كيف يكون الفقه إلا هكذا! ثم
(1/418)
دعا بخريطة فيها أشياء مما كان
أصيب لعبد العزيز بن مروان بمصر، إذ كان عليها من بقايا أموال آل فرعون، فأخرج
البيضة مقشورة نصفين، وإنها لحجر، والجوزة مقشورة وإنها لحجر، والحمصة، والعدسة.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عَنْ مُحَمَّدٍ، عن رجل من أهل
الشام كان بمصر، قَالَ: قد رأيت النخلة مصروعة، وإنها لحجر، وقد رأيت إنسانا ما
شككت أنه إنسان وإنه لحجر، من رقيقهم، فيقول الله عز وجل:
«وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ» إلى قوله «مَثْبُوراً» يقول:
شقيا.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ
يَحْيَى بْنِ عروة بْن الزبير، عَنْ أَبِيهِ، أن الله حين أمر موسى بالمسير ببني
إسرائيل أمره أن يحتمل يوسف معه حتى يضعه بالأرض المقدسة، فسأل موسى عمن يعرف موضع
قبره، فما وجد إلا عجوزا من بني إسرائيل، فقالت: يا نبي الله، أنا أعرف مكانه إن
أنت أخرجتني معك، ولم تخلفني بأرض مصر دللتك عليه قَالَ: أفعل، وقد كان موسى وعد
بني إسرائيل أن يسير بهم إذا طلع الفجر، فدعا ربه أن يؤخر طلوعه حتى يفرغ من أمر
يوسف، ففعل، فخرجت به العجوز حتى أرته إياه في ناحية من النيل في الماء، فاستخرجه
موسى صندوقا من مرمر، فاحتمله معه قَالَ عروة: فمن ذلك تحمل اليهود موتاها من كل
أرض إلى الأرض المقدسة.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: كان- فيما ذكر لي-
أن موسى قَالَ لبني إسرائيل فيما أمره الله به: استعيروا منهم الأمتعة والحلي
والثياب فإني منفلكم أموالهم مع هلاكهم، فلما أذن فرعون في الناس كان مما يحرض به
على بني إسرائيل أن قَالَ حين ساروا: لم يرضوا أن خرجوا بأنفسهم حتى ذهبوا
بأموالكم معهم
(1/419)
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال:
حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد ابن كعب القرظي، عن عبد الله بن شداد بن
الهاد، قَالَ: لقد ذكر لي أنه خرج فرعون في طلب موسى على سبعين ألفا من دهم الخيل
سوى ما في جنده من شيات الخيل، وخرج موسى حتى إذا قابله البحر ولم يكن عنه منصرف
طلع فرعون في جنده من خلفهم، «فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى
إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ» ، أي للنجاة،
وقد وعدني ذلك ولا خلف لموعوده.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن
إسحاق قَالَ: فأوحى الله تبارك وتعالى- فيما ذكر لي- إلى البحر: إذا ضربك موسى
بعصاه فانفلق له، فبات البحر يضرب بعضه بعضا فرقا من الله وانتظارا لأمره، فأوحى
الله عز وجل الى موسى: ان اضرب بعصاك البحر، فضربه بها وفيها سلطان الله الذي
أعطاه، «فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ» ، أي كالجبل على
نشز من الأرض يقول الله لموسى ع: «فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ
يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى» فلما استقر له البحر على طريق قائمة يبس
سلك فيه موسى ببني إسرائيل، واتبعه فرعون بجنوده.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، قال: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كعب القرظي، عن عبد الله بن شداد بن الهاد الليثي،
قَالَ:
حدثت أنه لما دخلت بنو إسرائيل فلم يبق منهم أحد أقبل فرعون وهو على حصان له من
الخيل، حتى وقف على شفير البحر وهو قائم على حاله، فهاب الحصان ان يتقدم، فعرض له
جبرئيل على فرس أنثى وديق، فقربها منه
(1/420)
فشمها الفحل، ولما شمها قدمها،
فتقدم معه الحصان عليه فرعون، فلما رأى جند فرعون ان فرعون قد دخل دخلوا معه،
وجبرئيل أمامه، فهم يتبعون فرعون، وميكائيل على فرس خلف القوم يشحذهم يقول: الحقوا
بصاحبكم، حتى إذا فصل جبرئيل من البحر ليس أمامه أحد ووقف ميكائيل على الناحية
الأخرى ليس خلفه أحد، طبق عليهم البحر، ونادى فرعون حين رأى من سلطان الله وقدرته
ما رأى، وعرف ذله وخذلته نفسه، نادى: أن لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ
بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَأَنَا مِنَ المسلمين.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الْبَصْرِيُّ، عَنْ
حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ
عَنِ ابن عباس، قال: جاء جبرئيل الى النبي ع فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، لَقَدْ
رَأَيْتُنِي وَأَنَا أَدُسُّ مِنْ حَمَإِ الْبَحْرِ فِي فَمِ فِرْعَوْنَ مَخَافَةَ
ان تدركه الرحمه! يقول الله: «آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ
الْمُفْسِدِينَ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ» ، اى سواء لَمْ يَذْهَبْ
مِنْكَ شَيْءٌ، «لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً» أَيْ عِبْرَةً وَبَيِّنَةً
فَكَانَ يُقَالُ:
لَوْ لَمْ يُخْرِجْهُ اللَّهُ بِبَدَنِهِ حَتَّى عَرَفُوهُ لَشَكَّ فِيهِ بَعْضُ
النَّاسِ.
وَلَمَّا جَاوَزَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ أَتَوْا عَلَى قَوْمٍ
يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ، «قالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما
لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا
هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ
إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ» وَوَعَدَ اللَّهُ مُوسَى حِينَ
أَهْلَكَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ وَنَجَّاهُ وَقَوْمَهُ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً.
رَجَعَ الْحَدِيثُ إِلَى حديث السدى ثم ان جبرئيل أَتَى مُوسَى يَذْهَبُ بِهِ
إِلَى
(1/421)
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ،
فَأَقْبَلَ عَلَى فَرَسٍ فَرَآهُ السَّامِرِيُّ فَأَنْكَرَهُ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ
فَرَسُ الْحَيَاةِ، فَقَالَ حِينَ رَآهُ: إِنَّ لِهَذَا لَشَأْنًا، فَأَخَذَ مِنْ
تُرْبَةِ الْحَافِرِ حَافِرِ الْفَرَسِ، فَانْطَلَقَ مُوسَى وَاسْتَخْلَفَ
هَارُونَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَوَاعَدَهُمْ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً،
وَأَتَمَّهَا اللَّهُ بِعَشْرٍ، فَقَالَ لَهُمْ هَارُونُ: يَا قوم، إِنَّ
الْغَنِيمَةَ لَا تَحِلُّ لَكُمْ، وَإِنَّ حُلِيَّ الْقِبْطِ إِنَّمَا هُوَ
غَنِيمَةٌ، فَاجْمَعُوهَا جَمِيعًا فَاحْفِرُوا لَهَا حُفْرَةً فَادْفِنُوهَا فِيهَا،
فَإِنْ جَاءَ مُوسَى فَأَحَلَّهَا أَخَذْتُمُوهَا، وَإِلَّا كَانَ شَيْئًا لَمْ
تَأْكُلُوهُ، فَجَمَعُوا ذَلِكَ الْحُلِيَّ فِي تِلْكَ الْحُفْرَةِ، وَجَاءَ
السامرى بتلك القبضه فقذفها، فاخرج الله مِنَ الْحُلِيِّ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ
خُوَارٌ، وَعَدَّتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ مَوْعِدَ مُوسَى، فَعَدُّوا اللَّيْلَةَ
يَوْمًا واليوم يوما، فلما كان العشر خرج لهم العجل فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالَ
لَهُمُ السَّامِرِيُّ: «هَذَا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ» يقول: ترك موسى
إلهه هاهنا، وَذَهَبَ يَطْلُبُهُ فَعَكَفُوا عَلَيْهِ يَعْبُدُونَهُ، وَكَانَ
يَخُورُ وَيَمْشِي، فَقَالَ لَهُمْ هَارُونُ: «يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنَّما
فُتِنْتُمْ بِهِ» يَقُولُ: إِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ بِهِ، يَقُولُ: بِالْعِجْلِ،
«وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي» ، فَأَقَامَ
هَارُونُ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا يُقَاتِلُونَهُمْ،
وَانْطَلَقَ مُوسَى إِلَى إِلَهِهِ يُكَلِّمُهُ، فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ لَهُ:
«وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسى قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي
وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ
بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ» فَلَمَّا أَخْبَرَهُ خَبَرَهُمْ قَالَ
مُوسَى: يَا رَبِّ هَذَا السَّامِرِيُّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَتَّخِذُوا الْعِجْلَ،
أَرَأَيْتَ الرُّوحَ مَنْ نَفَخَهَا فِيهِ؟ قَالَ الرَّبُّ: أَنَا قَالَ: رَبِّ
أَنْتَ إِذًا أَضْلَلْتَهُمْ.
ثُمَّ إِنَّ موسى لما كلمه ربه أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ، «قالَ رَبِّ
أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ
فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ
(1/422)
فَسَوْفَ تَرانِي» ، فحف حَوْلَ
الْجَبَلِ الْمَلَائِكَةَ، وَحَفَّ حَوْلَ الْمَلَائِكَةِ بِنَارٍ، وَحَفَّ حَوْلَ
النَّارِ بِمَلَائِكَةٍ، وَحَوْلَ الْمَلَائِكَةِ بِنَارٍ، ثُمَّ تَجَلَّى رَبُّهُ
لِلْجَبَلِ فَحَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال:
حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، قَالَ: حَدَّثَنِي السُّدِّيُّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ:
تَجَلَّى مِنْهُ مِثْلُ طَرَفِ الْخِنْصَرِ، فَجَعَلَ الْجَبَلَ دَكًّا وَخَرَّ
مُوسَى صَعِقًا، فَلَمْ يَزَلْ صَعِقًا مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَنَّهُ أَفَاقَ
فَقَالَ: «سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ» ، يَعْنِي
أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالَ: «يَا مُوسى إِنِّي
اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ
وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ
مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ» من الحلال والحرام «فَخُذْها بِقُوَّةٍ»
، يَعْنِي بِجِدٍّ وَاجْتِهَادٍ «وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها» أَيْ
بِأَحْسَنِ مَا يَجِدُونَ فِيهَا فَكَانَ مُوسَى بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَسْتَطِيعُ
أَحَدٌ أَنْ يَنْظُرَ فِي وَجْهِهِ، وَكَانَ يَلْبِسُ وَجْهَهُ بِحَرِيرَةٍ،
فَأَخَذَ الْأَلْوَاحَ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ «غَضْبانَ أَسِفاً» يَقُولُ:
حَزِينًا «قالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً» - إلى-
«قالُوا مَا أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا» يَقُولُونَ: بِطَاقَتِنَا،
«وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ» يَقُولُ: مِنْ حَلِيِّ
الْقِبْطِ «فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ» ، ذَلِكَ حِينَ قَالَ
لَهُمْ هَارُونُ: احْفِرُوا لِهَذَا الْحُلِيِّ حُفْرَةً، وَاطْرَحُوهُ فِيهَا،
فَطَرَحُوهُ فَقَذَفَ السَّامِرِيُّ تُرْبَتَهُ، فَأَلْقَى مُوسَى الْأَلْوَاحَ
وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يجره اليه، «لَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي
وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ
وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي
» فَتَرَكَ مُوسَى هَارُونَ، وَمَالَ إِلَى السَّامِرِيِّ، فَقَالَ:
(1/423)
«فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ»
، قَالَ السَّامِرِيُّ: «بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ» الى: «فِي الْيَمِّ
نَسْفاً» ثُمَّ أَخَذَهُ فَذَبَحَهُ، ثُمَّ حَرَّفَهُ بِالْمِبْرَدِ ثُمَّ ذَرَاهُ
فِي الْبَحْرِ، فَلَمْ يَبْقَ بَحْرٌ يَجْرِي إِلَّا وَقَعَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْهُ،
ثُمَّ قَالَ لَهُمْ مُوسَى:
اشْرَبُوا مِنْهُ فَشَرِبُوا، فَمَنْ كَانَ يُحِبُّهُ خَرَجَ عَلَى شَارِبِهِ
الذَّهَبُ، فَذَلِكَ حِينَ يقول: «وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ
بِكُفْرِهِمْ» فَلَمَّا سَقَطَ فِي أَيْدِي بَنِي إِسْرَائِيلَ حِينَ جَاءَ مُوسَى
«وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا
وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ» فَأَبَى اللَّهُ أَنْ يَقْبَلَ
تَوْبَةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا بِالْحَالِ الَّتِي كَرِهُوا أَنْ
يُقَاتِلُوهُمْ حِينَ عَبَدُوا الْعِجْلَ، فَقَالَ لَهُمْ مُوسَى:
«يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ
فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ» ، فَاجْتَلَدَ الَّذِينَ
عَبَدُوهُ وَالَّذِينَ لَمْ يَعْبُدُوهُ بِالسِّيُوفِ، فَكَانَ مَنْ قُتِلَ مِنَ
الْفَرِيقَيْنِ شَهِيدًا، حَتَّى كَثُرَ الْقَتْلُ حَتَّى كَادُوا أَنْ
يَهْلَكُوا، حَتَّى قُتِلَ بَيْنَهُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا، حَتَّى دَعَا مُوسَى
وَهَارُونُ: رَبَّنَا هَلَكَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ! رَبَّنَا الْبَقِيَّةَ
الْبَقِيَّةَ! فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَضَعُوا السِّلَاحَ، وَتَابَ عَلَيْهِمْ،
فَكَانَ مَنْ قُتِلَ كَانَ شَهِيدًا، وَمَنْ بَقِيَ كَانَ مُكَفَّرًا عَنْهُ،
فَذَلِكَ قَوْلُهُ: «فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ
حَكِيمِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:
كَانَ السَّامِرِيُّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ بَاجَرْمَا، وَكَانَ مِنْ قَوْمٍ
يَعْبُدُونَ الْبَقَرَ، فَكَانَ حب عباده
(1/424)
الْبَقَرِ فِي نَفْسِهِ،
وَكَانَ قَدْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَلَمَّا فَصَلَ
هَارُونُ فِي بنى إسرائيل، وفصل موسى معهم إِلَى رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى
قَالَ لَهُمْ هَارُونُ:
انكم قد تحملتم أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ آلِ فِرْعَوْنَ، وَأَمْتِعَةً
وَحُلِيًّا، فَتَطَهَّرُوا مِنْهَا فَإِنَّهَا نَجِسٌ، وَأَوْقَدَ لَهُمْ نَارًا،
وَقَالَ: اقْذِفُوا مَا كَانَ مَعَكُمْ مِنْ ذَلِكَ فِيهَا، قَالُوا: نَعَمْ،
فَجَعَلُوا يَأْتُونَ بِمَا كَانَ فِيهِمْ مِنْ تِلْكَ الْحُلِيِّ وَتِلْكَ
الْأَمْتِعَةِ فَيَقْذِفُونَ بِهِ فِيهَا، حَتَّى إِذَا انْكَسَرَتِ الْحُلِيُّ
فيها، راى السامرى اثر فرس جبرئيل، فَأَخَذَ تُرَابًا مِنْ أَثَرِ حَافِرِهِ،
ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَى الْحُفْرَةِ فَقَالَ لِهَارُونَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ،
أُلْقِي مَا فِي يَدِي؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلا يَظُنُّ هَارُونُ إِلَّا أَنَّهُ
كَبَعْضِ مَا جَاءَ بِهِ غَيْرُهُ مِنْ تِلْكَ الْأَمْتِعَةِ وَالْحُلِيِّ،
فَقَذَفَهُ فِيهَا، وَقَالَ: كُنْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ، فَكَانَ لِلْبَلَاءِ
وَالْفِتْنَةِ، فَقَالَ: هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى، فَعَكَفُوا عَلَيْهِ
وَأَحَبُّوهُ حُبًّا لَمْ يُحِبُّوا مِثْلَهُ شَيْئًا قَطُّ، فَقَالَ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ: «فَنَسِيَ» ، أَيْ تَرَكَ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِسْلَامِ، -
يَعْنِي السَّامِرِيَّ- «أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا
يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً» .
قَالَ: وَكَانَ اسْمُ السَّامِرِيِّ مُوسَى بْنُ ظُفْرٍ، وَقَعَ فِي أَرْضِ
مِصْرَ، فَدَخَلَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَلَمَّا رَأَى هَارُونُ مَا وَقَعُوا
فِيهِ قَالَ: «يَا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ» - إلى قوله- «حَتَّى يَرْجِعَ
إِلَيْنا مُوسى» فَأَقَامَ هَارُونُ فِيمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ
لَمْ يُفْتَتَنْ، وَأَقَامَ مَنْ يَعْبُدُ الْعِجْلَ عَلَى عِبَادَةِ الْعِجْلِ،
وَتَخَوَّفَ هَارُونُ إِنْ سَارَ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقُولَ
لَهُ مُوسَى: «َّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي
» ، وَكَانَ لَهُ هَائِبًا مُطِيعًا، وَمَضَى مُوسَى بِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى
الطُّورِ، وَكَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَعَدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ حِينَ
أَنْجَاهُمْ وَأَهْلَكَ عَدُوَّهُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنِ، وَكَانَ مُوسَى
حِينَ سَارَ ببني إسرائيل
(1/425)
مِنَ الْبَحْرِ قَدِ
احْتَاجُوا إِلَى الْمَاءِ، فَاسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ، فَأُمِرَ أَنْ
يَضْرِبَ بِعَصَاهُ الْحَجَرَ، فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا،
لِكُلِّ سِبْطٍ عَيْنٌ يَشْرَبُونَ مِنْهَا قَدْ عَرَفُوهَا، فَلَمَّا كَلَّمَ
اللَّهُ مُوسَى طَمِعَ فِي رُؤْيَتِهِ، فَسَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ،
فَقَالَ لَهُ:
إِنَّكَ «لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ» إِلَى قَوْلِهِ: «وَأَنَا
أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ» ثُمَّ قَالَ اللَّهُ لِمُوسَى: «إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ
عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ» إِلَى قوله:
«سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ» وَقَالَ لَهُ:
«وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسى» إِلَى قَوْلِهِ: «فَرَجَعَ مُوسى إِلى
قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً» ، وَمَعَهُ عَهْدُ اللَّهِ فِي أَلْوَاحِهِ.
وَلَمَّا انْتَهَى مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ فَرَأَى مَا هُمْ فِيهِ مِنْ عِبَادَةِ
الْعِجْلِ أَلْقَى الْأَلْوَاحَ مِنْ يَدِهِ، وَكَانَتْ- فِيمَا يَذْكُرُونَ- مِنْ
زَبَرْجَدٍ أَخْضَرَ، ثُمَّ أَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ وَلِحْيَتِهِ وَيَقُولُ: «مَا
مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ» الى قوله: «لَمْ تَرْقُبْ
قَوْلِي
» فقال: «يا ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي
فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» ،
فَارْعَوَى مُوسَى وَقَالَ: «رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي
رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» .
وَأَقْبَلَ عَلَى قَوْمِهِ فَقَالَ: «يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ
وَعْداً حَسَناً» الى قوله:
«عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ» واقبل عَلَى السَّامِرِيِّ فَقَالَ: «فَما خَطْبُكَ
يَا سامِرِيُّ قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ» إِلَى قوله: «وَسِعَ
كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً» ثم
(1/426)
أَخَذَ الْأَلْوَاحَ، يَقُولُ
اللَّهُ: «أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ
لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ» .
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن صدقه ابن يَسَارٍ،
عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ اللَّهُ تَعَالَى
قَدْ كَتَبَ لِمُوسَى فِيهَا مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى
وَرَحْمَةً، فَلَمَّا أَلْقَاهَا رَفَعَ اللَّهُ سِتَّةَ أَسْبَاعِهَا وَأَبْقَى
سُبُعًا، يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ
لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ» ، ثُمَّ أَمَرَ مُوسَى بِالْعِجْلِ
فَأُحْرِقَ، حَتَّى رَجَعَ رَمَادًا، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَقُذِفَ فِي الْبَحْرِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَسَمِعْتُ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ: إِنَّمَا
كَانَ أَحْرَقَهُ ثُمَّ سَحَلَهُ ثُمَّ ذَرَاهُ فِي الْبَحْرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ اخْتَارَ مُوسَى مِنْهُمْ سَبْعِينَ رَجُلًا: الْخَيِّرَ فَالْخَيِّرَ،
وَقَالَ: انْطَلِقُوا إِلَى اللَّهِ فَتُوبُوا إِلَيْهِ مِمَّا صَنَعْتُمْ وسلوه
التوبة عَلَى مَنْ تَرَكْتُمْ وَرَاءَكُمْ مِنْ قَوْمِكِمْ، صُومُوا وَتَطَهَّرُوا
وَطَهِّرُوا ثِيَابَكُمْ، فَخَرَجَ بِهِمْ إِلَى طُورِ سَيْنَاءَ لِمِيقَاتٍ
وَقَّتَهُ لَهُ رَبُّهُ، وَكَانَ لَا يَأْتِيهِ إِلَّا بِإِذْنٍ مِنْهُ وَعِلْمٍ،
فَقَالَ لَهُ السَّبْعُونَ- فِيمَا ذُكِرَ لِي- حِينَ صَنَعُوا مَا أَمَرَهُمْ
بِهِ، وَخَرَجُوا مَعَهُ لِلِقَاءِ رَبِّهِ: اطْلُبْ لَنَا نَسْمَعْ كَلَامَ
رَبِّنَا، فَقَالَ: أَفْعَلُ، فَلَمَّا دَنَا مُوسَى مِنَ الْجَبَلِ وَقَعَ
عَلَيْهِ عَمُودُ الْغَمَامِ حَتَّى تَغَشَّى الْجَبَلُ كُلُّهُ، وَدَنَا مُوسَى
فَدَخَلَ فِيهِ، وَقَالَ لِلْقَوْمِ: ادْنُوا، وَكَانَ مُوسَى إِذَا كَلَّمَهُ
وَقَعَ عَلَى جَبْهَتِهِ نُورٌ سَاطِعٌ لا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ
أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ فَضَرَبَ دُونَهُ بِالْحِجَابِ، وَدَنَا الْقَوْمُ حَتَّى
إِذَا دَخَلُوا فِي الْغَمَامِ وَقَعُوا سُجُودًا، فَسَمِعُوهُ وَهُوَ يُكَلِّمُ
مُوسَى يَأْمُرُهُ وَيَنْهَاهُ: افْعَلْ وَلَا تَفْعَلْ، فَلَمَّا فَرِغَ إِلَيْهِ
مِنْ أَمْرِهِ انْكَشَفَ عَنْ مُوسَى الْغَمَامُ، فَأَقْبَلَ إِلَيْهِمْ فَقَالُوا
لِمُوسَى: «لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً» ، «فَأَخَذَتْهُمُ
الرَّجْفَةُ*» ، وَهِيَ الصَّاعِقَةُ، فَانْفَلَتَتْ أَرْوَاحُهُمْ فَمَاتُوا
جَمِيعا،
(1/427)
وَقَامَ مُوسَى يُنَاشِدُ
رَبَّهُ وَيَدْعُوهُ، وَيَرْغَبُ إِلَيْهِ وَيَقُولُ: «رَبِّ لَوْ شِئْتَ
أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ» قد سفهوا، افتهلك مَنْ وَرَائِي مِنْ
بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا فَعَلَ السفهاء منا! ان هذا هلاك لهم اخْتَرْتُ مِنْهُمْ
سَبْعِينَ رَجُلًا الْخَيِّرَ فَالْخَيِّرَ، أَرْجِعُ إِلَيْهِمْ وَلَيْسَ مَعِي
رَجُلٌ وَاحِدٌ، فَمَا الَّذِي يُصَدِّقُونَنِي بِهِ! فَلَمْ يَزَلْ مُوسَى
يُنَاشِدُ رَبَّهُ، وَيَسْأَلُهُ وَيَطْلَبُ إِلَيْهِ حَتَّى رَدَّ إِلَيْهِمْ
أَرْوَاحَهُمْ، وَطَلَبَ إِلَيْهِ التَّوْبَةَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ
عِبَادَةِ الْعِجْلِ، فَقَالَ: لا، إِلَّا أَنْ يَقْتُلُوا أَنْفُسَهُمْ وَقَالَ:
فَبَلَغَنِي أَنَّهُمْ قَالُوا لِمُوسَى: نَصْبِرُ لِأَمْرِ اللَّهِ، فَأَمَرَ
مُوسَى مَنْ لَمْ يَكُنْ عَبَدَ الْعِجْلَ أَنْ يَقْتُلَ مَنْ عَبَدَهُ،
فَجَلَسُوا بِالأَفْنِيَةِ، وَأَصْلَتَ عَلَيْهِمُ الْقَوْمُ السُّيُوفَ،
فَجَعَلُوا يَقْتُلُونَهُمْ، وَبَكَى مُوسَى وَبَهَشَ إِلَيْهِ الصِّبْيَانُ
وَالنِّسَاءُ يَطْلُبُونَ الْعَفْوَ عَنْهُمْ، فَتَابَ عَلَيْهِمْ وَعَفَا
عَنْهُمْ، وَأَمَرَ مُوسَى أَنْ يَرْفَعَ عَنْهُمُ السَّيْفَ.
وَأَمَّا السُّدِّيُّ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي خَبَرِهِ الَّذِي ذَكَرْتُ إِسْنَادَهُ
قَبْلُ أَنَّ مَصِيرَ مُوسَى إِلَى رَبِّهِ بِالسَّبْعِينَ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ
مِنْ قَوْمِهِ بَعْدَ مَا تَابَ اللَّهُ عَلَى عَبَدَةِ الْعِجْلِ مِنْ قَوْمِهِ،
وَذَلِكَ أَنَّهُ ذَكَرَ بَعْدَ الْقِصَّةِ الَّتِي قَدْ ذَكَرْتُهَا عَنْهُ بعد
قوله: «إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» قَالَ: ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ أَمَرَ
مُوسَى أَنْ يَأْتِيَهُ فِي نَاسٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ
مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ، وَوَعَدَهُمْ مَوْعِدًا، فَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ
سَبْعِينَ رَجُلًا عَلَى عَيْنِهِ، ثُمَّ ذَهَبَ بِهِمْ لِيَعْتَذِرُوا، فَلَمَّا
أَتَوْا ذَلِكَ الْمَكَانَ قَالُوا: «لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ
جَهْرَةً» ، فَإِنَّكَ قَدْ كَلَّمْتَهُ فَأَرِنَاهُ، فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ
فَمَاتُوا، فَقَامَ مُوسَى يَبْكِي وَيَدْعُو اللَّهَ وَيَقُولُ: رَبِّ مَاذَا
أَقُولُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِذَا أَتَيْتُهُمْ وَقَدْ أَهْلَكْتُ خِيَارَهُمْ!
رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ، أَتُهْلِكُنَا بِمَا
فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا! فأوحى الله عز وجل إلى موسى: أن هَؤُلَاءِ
السَّبْعِينَ مِمَّنِ اتَّخَذَ الْعِجْلَ، فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ مُوسَى: «إِنْ
هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ» إلى
قوله: «إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ» ، يقول:
(1/428)
تُبْنَا إِلَيْكَ، وَذَلِكَ
قَوْلُهُ تَعَالَى: «وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى
اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ» ، وَالصَّاعِقَةُ نَارٌ ثُمَّ
إِنَّ اللَّهَ أَحْيَاهُمْ، فَقَامُوا وَعَاشُوا رَجُلًا رَجُلًا، يَنْظُرُ
بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ: كَيْفَ يَحْيَوْنَ؟ فَقَالُوا:
يَا مُوسَى، أَنْتَ تَدْعُو اللَّهَ فَلَا تَسْأَلُهُ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاكَ،
فَادْعُهُ يَجْعَلْنَا أَنْبِيَاءَ، فَدَعَا اللَّهُ فَجَعَلَهُمْ أَنْبِيَاءَ،
فَذَلِكَ قوله: «ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ» ، وَلَكِنَّهُ
قَدَّمَ حَرْفًا وَأَخَّرَ حَرْفًا.
ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِالسَّيْرِ إِلَى أَرِيحَا، وَهِيَ أَرْضُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ،
فَسَارُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا قَرِيبًا مِنْهَا بَعَثَ مُوسَى اثْنَيْ عَشَرَ
نَقِيبًا مِنْ جَمِيعِ أَسْبَاطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَسَارُوا يُرِيدُونَ أَنْ
يَأْتُوهُ بِخَبَرِ الْجَبَّارِينَ، فَلَقِيَهُمْ رَجُلٌ مِنَ الْجَبَّارِينَ
يُقَالُ لَهُ عَاج، فَأَخَذَ الاثْنَيْ عَشَرَ فَجَعَلَهُمْ فِي حُجْزَتِهِ
وَعَلَى رَأْسِهِ حَمْلَةُ حَطَبٍ، فَانْطَلَقَ بِهِمْ إِلَى امْرَأَتِهِ فَقَالَ:
انْظُرِي إِلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ
أَنْ يُقَاتِلُونَا، فَطَرَحَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهَا، فَقَالَ: أَلَا أَطْحَنُهُمْ
بِرِجْلِي! فَقَالَتِ امْرَأَتُهُ:
لَا، بَلْ خَلِّ عَنْهُمْ حَتَّى يُخْبِرُوا قَوْمَهُمْ بِمَا رَأَوْا، فَفَعَلَ
ذَلِكَ، فَلَمَّا خَرَجَ الْقَوْمُ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: يَا قَوْمُ، إِنَّكُمْ
إِنْ أَخْبَرْتُمْ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِخَبَرِ الْقَوْمِ ارْتَدُّوا عَنْ نَبِيِّ
اللَّهِ، وَلَكِنِ اكْتُمُوهُمْ وَأَخْبِرُوا نَبِيَّ اللَّهِ، فَيَكُونَانِ هُمَا
يُرِيَانِ رَأْيَهُمَا، فَأَخَذَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ الْمِيثَاقَ بِذَلِكَ
لِيَكْتُمُوهُ، ثُمَّ رَجَعُوا فَانْطَلَقَ عَشَرَةٌ فَنَكَثُوا الْعَهْدَ،
فَجَعَلَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يُخْبِرُ أَخَاهُ وَأَبَاهُ بِمَا رَأَوْا مِنْ
أَمْرِ عَاج، وَكَتَمَ رَجُلانِ مِنْهُمْ، فَأَتَوْا مُوسَى وَهَارُونَ
فَأَخْبَرُوهُمَا الْخَبَرَ، فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ اللَّهِ: «وَلَقَدْ أَخَذَ
اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً»
فقال لهم موسى: «يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ
فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً» ، يَمْلِكُ الرَّجُلُ مِنْكُمْ نَفْسَهُ
وَأَهْلَهُ وَمَالَهُ «يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي
كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ» ، يَقُولُ: الَّتِي أَمَرَكُمُ اللَّهُ بِهَا
(1/429)
«وَلا تَرْتَدُّوا عَلى
أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ قالُوا» مِمَّا سَمِعُوا مِنَ الْعَشَرَةِ:
«إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا
مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ
يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا» ، وَهُمَا اللَّذَانِ كَتَمَا، وَهُمَا
يُوشَعُ بْنُ نُونٍ فَتَى مُوسَى وَكَالُوبُ بْنُ يوفنَةَ- وَقِيلَ: كِلَابُ بْنُ
يوفنَةَ خَتَنُ مُوسَى- فَقَالَا:
يَا قَوْمِ «ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ» «قالُوا يَا مُوسى إِنَّا لَنْ
نَدْخُلَها أَبَداً مَا دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا
هاهُنا قاعِدُونَ» فَغَضِبَ مُوسَى، فَدَعَا عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: «رَبِّ إِنِّي
لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ
الْفاسِقِينَ» وَكَانَتْ عَجَلَةً مِنْ مُوسَى عَجَلَهَا، فَقَالَ اللَّهُ:
«فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ»
فَلَمَّا ضُرِبَ عَلَيْهِمُ التِّيهُ، نَدِمَ مُوسَى وَأَتَاهُ قَوْمُهُ الَّذِينَ
كَانُوا مَعَهُ يُطِيعُونَهُ، فَقَالُوا لَهُ: مَا صَنَعْتَ بِنَا يَا مُوسَى؟
فَلَمَّا نَدِمَ أَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ: أَلَا تَأْسَ، أَيْ لَا
تَحْزَنْ عَلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ سَمَّيْتَهُمْ فَاسِقِينَ فَلَمْ يَحْزَنْ،
فَقَالُوا: يَا مُوسَى، فكيف لنا بماء هاهنا؟ أَيْنَ الطَّعَامُ؟ فَأَنْزَلَ
اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى، فَكَانَ يَسْقُطُ عَلَى الشَّجَرِ
التَّرَنْجَبِينُ وَالسَّلْوَى- وَهُوَ طَيْرٌ يُشْبِهُ السُّمَانَى- فَكَانَ
يَأْتِي أَحَدُهُمْ فَيَنْظُرُ إِلَى الطَّيْرِ، فَإِنْ كَانَ سَمِينًا ذَبَحَهُ
وَإِلَّا أَرْسَلَهُ، فَإِذَا سَمِنَ أَتَاهُ، فَقَالُوا: هَذَا الطَّعَامُ
فَأَيْنَ الشَّرَابُ؟ فَأَمَرَ مُوسَى فَضَرَبَ بِعَصَاهُ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ
مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا، يَشْرَبُ كُلُّ سِبْطٍ مِنْ عَيْنٍ فَقَالُوا:
هَذَا الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ، فَأَيْنَ الظِّلُّ؟ فَظَلَّلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ
الْغَمَامَ، فَقَالُوا: هَذَا الظِّلُّ، فَأَيْنَ
(1/430)
اللِّبَاسُ؟ فَكَانَتْ
ثِيَابُهُمْ تَطُولُ مَعَهُمْ كَمَا تَطُولُ الصِّبْيَانُ، وَلَا يَتَخَرَّقُ
لَهُمْ ثَوْبٌ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: «وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ
وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى» .
وَقَوْلُهُ: «وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ
الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ
أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ» ، فَأَجْمَعُوا ذَلِكَ، فَقَالُوا:
«يَا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا
مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها» - وهي الحنطة-
«وَعَدَسِها وَبَصَلِها» .
قال: «أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا
مِصْراً» من الأمصار، «فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ» فَلَمَّا خَرَجُوا مِنَ
التِّيهِ رُفِعَ الْمَنُّ وَالسَّلْوَى، وَأَكَلُوا الْبُقُولَ، وَالْتَقَى مُوسَى
وَعَاج فَنَزَا مُوسَى فِي السَّمَاءِ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ، وَكَانَتْ عَصَاهُ
عَشَرَةَ أَذْرُعٍ، وَكَانَ طُولُهُ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ، فَأَصَابَ كَعْبَ عَاجٍ
فَقَتَلَهُ.
حَدَّثَنَا ابن بشار، قَالَ: حَدَّثَنَا مؤمل، قال: حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن
نوف، قال: كان طول عوج ثمانمائه ذراع، وكان طول موسى عشرة أذرع، وعصاه عشرة أذرع،
ثم وثب في السماء عشرة أذرع، فضرب عوجا فأصاب كعبه فسقط ميتا، فكان جسرا للناس
يمرون عليه.
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ عَطِيَّةَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا
قَيْسٌ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،
قَالَ: كَانَتْ عَصَا مُوسَى عَشَرَةَ أَذْرُعٍ، وَوَثْبَتُهُ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ،
وَطُولُهُ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ، فَأَصَابَ كَعْبَ عوجَ فَقَتَلَهُ، فَكَانَ جسرا
لأهل النيل وقيل ان عوجَ عَاشَ ثَلَاثَةَ آلَافِ سَنَةٍ
(1/431)
ذكر وفاه موسى وهارون ابنى
عمران ع
حدثنا موسى بن هارون الهمداني، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال:
حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس- وعن
مرة الهمداني عن عبد الله بن مسعود- وعن ناس من اصحاب النبي ص: ثُمَّ إِنَّ
اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَوْحَى إِلَى مُوسَى، أَنِّي مُتَوَفِّ هَارُونَ،
فَأْتِ بِهِ جَبَلَ كَذَا وَكَذَا فَانْطَلَقَ مُوسَى وَهَارُونَ نَحْوَ ذَلِكَ
الْجَبَلِ، فَإِذَا هُمَا بِشَجَرَةٍ لَمْ يُرَ مِثْلُهَا، وَإِذَا هُمَا بِبَيْتٍ
مَبْنِيٍّ، وَإِذَا هُمَا فِيهِ بِسَرِيرٍ عَلَيْهِ فرْشٌ، وَإِذَا فِيهِ رِيحٌ
طَيِّبَةٌ، فَلَمَّا نَظَرَ هَارُونُ إِلَى ذَلِكَ الْجَبَلِ وَالْبَيْتِ وَمَا
فِيهِ أَعْجَبَهُ، فَقَالَ: يَا مُوسَى إِنِّي لَأُحِبُّ أَنْ أَنَامَ عَلَى هَذَا
السَّرِيرِ، قَالَ لَهُ مُوسَى: فَنَمْ عَلَيْهِ، قَالَ: إِنِّي أَخَافَ أَنْ
يَأْتِيَ رَبُّ هَذَا الْبَيْتِ فَيَغْضَبَ عَلَيَّ، قَالَ لَهُ مُوسَى: لَا
تَرْهَبْ أَنَا أَكْفِيكَ رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ فَنَمْ، قَالَ:
يَا مُوسَى بَلْ نَمْ مَعِي، فَإِنْ جَاءَ رَبُّ الْبَيْتِ غَضِبَ عَلَيَّ
وَعَلَيْكَ جَمِيعًا، فَلَمَّا نَامَا أَخَذَ هارون الموت، فلما وَجَدَ حِسَّهُ
قَالَ: يَا مُوسَى خَدَعْتَنِي، فَلَمَّا قُبِضَ رُفِعَ ذَلِكَ الْبَيْتُ
وَذَهَبَتْ تِلْكَ الشَّجَرَةُ وَرُفِعَ السَّرِيرُ إِلَى السَّمَاءِ، فَلَمَّا
رَجَعَ مُوسَى إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَيْسَ مَعَهُ هَارُونُ قَالُوا: فان
مُوسَى قَتَلَ هَارُونَ وَحَسَدَهُ لِحُبِّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَهُ، وَكَانَ
هَارُونُ أَكَفَّ عَنْهُمْ وَأَلْيَنَ لَهُمْ مِنْ مُوسَى، وَكَانَ فِي مُوسَى
بَعْضُ الْغِلَظِ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا بَلَغَهُ ذَلِكَ قَالَ لَهُمْ: وَيْحَكُمْ!
كَانَ أَخِي، أَفَتَرَوْنَنِي أَقْتُلُهُ! فَلَمَّا أَكْثَرُوا عَلَيْهِ قَامَ
فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ دَعَا اللَّهَ فَنَزَلَ بِالسَّرِيرِ حَتَّى نَظَرُوا
إِلَيْهِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَصَدَّقُوهُ ثُمَّ إِنَّ مُوسَى
بَيْنَمَا هُوَ يَمْشِي وَيُوشَعُ فَتَاهُ إِذَا أَقْبَلَتْ رِيحٌ سَوْدَاءُ،
فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهَا يُوشَعُ ظَنَّ أَنَّهَا السَّاعَةُ وَالْتَزَمَ مُوسَى،
وَقَالَ: تَقُومُ السَّاعَةُ وَأَنَا مُلْتَزِمُ مُوسَى نَبِيَّ اللَّهِ،
فَاسْتَلَّ مُوسَى مِنْ تَحْتِ الْقَمِيصِ وَتَرَكَ الْقَمِيصَ فِي يَدِ يُوشَعَ،
فَلَمَّا جَاءَ يُوشَعُ بِالْقَمِيصِ أَخَذَتْهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَقَالُوا:
قَتَلْتَ نَبِيَّ اللَّهِ! قَالَ: لا وَاللَّهِ مَا قَتَلْتُهُ، وَلَكِنَّهُ
اسْتَلَّ مِنِّي، فَلَمْ يُصَدِّقُوهُ وَأَرَادُوا قَتْلَهُ قَالَ: فَإِذَا لَمْ
تُصَدِّقُونِي فَأَخِّرُونِي ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَدَعَا اللَّهَ فَأُتِيَ كُلُّ
(1/432)
رَجُلٍ مِمَّنْ كَانَ
يَحْرُسُهُ فِي الْمَنَامِ، فَأُخْبِرَ أَنْ يُوشَعَ لَمْ يَقْتُلْ مُوسَى،
وَأَنَّا قَدْ رَفَعْنَاهُ إِلَيْنَا، فَتَرَكُوهُ وَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِمَّنْ
أَبَى أَنْ يَدْخُلَ قَرْيَةَ الْجَبَّارِينَ مَعَ مُوسَى إِلَّا مَاتَ، وَلَمْ
يَشْهَدِ الْفَتْحَ.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، قَالَ: كان صفي الله قد
كره الموت وأعظمه، فلما كرهه أراد الله تعالى أن يجب إليه الموت ويكره إليه
الحياة، فحولت النبوة إلى يوشع بن نون، فكان يغدو عليه ويروح، فيقول له موسى: يا
نبي الله، ما أحدث الله إليك؟ فيقول له يوشع بن نون: يا نبي الله، ألم أصحبك كذا
وكذا سنة، فهل كنت أسألك عن شيء مما أحدث الله إليك حتى تكون أنت الذي تبتدئ به
وتذكره؟ فلا يذكر له شيئا، فلما رأى موسى ذلك كره الحياة وأحب الموت.
قَالَ ابْنُ حُمَيْدٍ: قَالَ سَلَمَةُ: قَالَ ابْنُ إسحاق: وكان صفي الله- فيما
ذكر لي وهب بن منبه- انما يستظل في عريش ويأكل ويشرب في نقير من حجر، إذا أراد أن
يشرب بعد أن أكل كرع كما تكرع الدابة في ذلك النقير، تواضعا لله حين أكرمه الله
بما أكرمه به من كلامه.
قَالَ وهب: فذكر لي أنه كان من أمر وفاته أن صفي الله خرج يوما من عريشه ذلك لبعض
حاجته لا يعلم به أحد من خلق الله، فمر برهط من الملائكة يحفرون قبرا فعرفهم وأقبل
إليهم، حتى وقف عليهم، فإذا هم يحفرون قبرا لم ير شيئا قط أحسن منه، ولم ير مثل ما
فيه من الخضرة والنضرة والبهجة، فقال لهم: يا ملائكة الله لمن تحفرون هذا القبر؟
قَالُوا: نحفره لعبد كريم على ربه، قَالَ: إن هذا العبد من الله لبمنزل! ما رأيت
كاليوم مضجعا ولا مدخلا! وذلك حين حضر من أمر الله ما حضر من قبضه، فقالت له
الملائكة: يا صفي الله، أتحب أن يكون لك؟ قَالَ: وددت قَالُوا:
فانزل فاضطجع فيه، وتوجه إلى ربك، ثم تنفس أسهل تنفس تنفسته قط
(1/433)
فنزل فاضطجع فيه، وتوجه إلى
ربه، ثم تنفس فقبض الله تعالى روحه، ثم سوت عليه الملائكة، وكان صفي الله زاهدا في
الدنيا راغبا فيما عند الله.
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُصْعَبُ بْنُ الْمِقْدَامِ، عَنْ
حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ، مَوْلَى بَنِي
هَاشِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قال: [قال رسول الله ص: إِنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ
كَانَ يَأْتِي النَّاسَ عِيَانًا حَتَّى أَتَى موسى فَلَطَمَهُ فَفَقَأَ عَيْنَهُ،
قَالَ: فَرَجَعَ فَقَالَ: يَا رَبِّ، إِنَّ عَبْدَكَ موسى فَقَأَ عَيْنِي،
وَلَوْلا كَرَامَتُهُ عَلَيْكَ لَشَقَقْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: ائْتِ عَبْدِي موسى،
فَقُلْ لَهُ: فَلْيَضَعْ كَفَّهُ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ، فَلَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ
وَارَتْ يَدُهُ سَنَةٌ، وَخَيِّرْهُ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ أَنْ يَمُوتَ الآنَ،
قَالَ: فَأَتَاهُ فَخَيَّرَهُ، فَقَالَ لَهُ موسى: فَمَا بَعْدَ ذَلِكَ؟ قَالَ:
الْمَوْتُ، قَالَ: فَالآنَ إِذًا، قَالَ: فَشَمَّهُ شَمَّةً قَبَضَ رُوحَهُ.
قَالَ: فَجَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى النَّاسِ خفيه] .
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن أبي سنان الشيباني، عن أبي إسحاق،
عن عمرو بن ميمون، قَالَ: مات موسى وهارون جميعا في التيه، مات هارون قبل موسى،
وكانا خرجا جميعا في التيه إلى بعض الكهوف، فمات هارون، فدفنه موسى، وانصرف موسى
إلى بني إسرائيل، فقالوا: ما فعل هارون؟ قَالَ: مات، قَالُوا: كذبت ولكنك قتلته
لحبنا إياه، وكان محببا في بني إسرائيل، فتضرع موسى إلى ربه، وشكا ما لقي من بني
إسرائيل، فأوحى الله إليه أن انطلق بهم إلى موضع قبره، فإني باعثه حتى يخبرهم أنه
مات موتا ولم تقتله قَالَ: فانطلق بهم إلى قبر هارون، فنادى: يا هارون، فخرج من
قبره ينفض رأسه، فقال: أنا قتلتك؟ قَالَ: لا والله، ولكني مت، قَالَ: فعد إلى
مضجعك، وانصرفوا.
فكان جميع مده عمر موسى ع كلها مائة وعشرين سنة، عشرون من ذلك في ملك أفريدون،
ومائة منها في ملك منوشهر، وكان ابتداء أمره من لدن بعثه الله نبيا إلى أن قبضه
إليه في ملك منوشهر
(1/434)
ذكر يوشع بن نون ع
ثم ابتعث الله عز وجل بعد موسى ع يوشع بن نون بن افراييم ابن يوسف بن يعقوب بن
إسحاق بن إبراهيم نبيا، وأمره بالمسير إلى أريحا لحرب من فيها من الجبارين فاختلف
السلف من أهل العلم في ذلك، وعلى يد من كان ذلك؟ ومتى سار يوشع إليها؟ في حياة
موسى بن عمران كان مسيره إليها أم بعد وفاته؟
فقال بعضهم: لم يسر يوشع إلى أريحا، ولا أمر بالمسير إليها إلا بعد موت موسى، وبعد
هلاك جميع من كان أبى المسير إليها مع موسى بن عمران، حين أمرهم الله تعالى بقتال
من فيها من الجبارين، وقالوا: مات موسى وهارون جميعا في التيه قبل خروجهما منه.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ:
حَدَّثَنِي عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ الْهَيْثَمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ
بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: قَالَ أَبُو سَعِيدٍ، عَنْ
عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
لَمَّا دَعَا مُوسَى- يَعْنِي بِدُعَائِهِ قَوْلِهِ: «رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ
إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ قالَ
فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ»
قَالَ: فَدَخَلُوا التِّيهَ، فَكُلُّ مَنْ دَخَلَ التِّيهَ مِمَّنْ جَاوَزَ
الْعِشْرِينَ سَنَةً مَاتَ فِي التِّيهِ، قَالَ: فَمَاتَ مُوسَى فِي التِّيهِ،
وَمَاتَ هَارُونُ قَبْلَهُ قَالَ:
فَلَبِثُوا فِي تِيهِهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَنَاهَضَ يُوشَعُ بِمَنْ بَقِيَ
مَعَهُ مَدِينَةَ الْجَبَّارِينَ فَافْتَتَحَ يُوشَعُ الْمَدِينَةَ
(1/435)
حدثنا بشر، قَالَ: حَدَّثَنَا
يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سعيد عن قتادة قَالَ: قَالَ الله تعالى:
«انها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً» الآية، حرمت عليهم القرى،
فكانوا لا يهبطون قرية، ولا يقدرون على ذلك أربعين سنة.
وذكر لنا أن موسى مات في الأربعين سنة، ولم يدخل بيت المقدس منهم إلا أبناؤهم،
والرجلان اللذان قالا ما قالا.
حَدَّثَنِي موسى بن هارون الهمداني، قال: حدثنا عمرو، قَالَ: حَدَّثَنَا أسباط، عن
السدي في الخبر الذي ذكرت إسناده فيما مضى: لم يبق أحد ممن أبى أن يدخل مدينة
الجبارين مع موسى إلا مات، ولم يشهد الفتح.
ثم إن الله عز وجل لما انقضت الأربعون سنة بعث يوشع بن نون نبيا فأخبرهم أنه نبي
وأن الله قد أمره أن يقاتل الجبارين، فبايعوه وصدقوه، فهزم الجبارين، واقتحموا
عليهم، فقتلوهم، فكانت العصابة من بني إسرائيل يجتمعون على عنق الرجل يضربونها لا
يقطعونها.
حَدَّثَنَا ابن بشار، قَالَ: حَدَّثَنَا سليمان بن حرب، عن هلال، عن قتادة في قول
الله تعالى: «فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ» ، قَالَ: أبدا.
حَدَّثَنِي المثنى قَالَ: حَدَّثَنَا مسلم بن إبراهيم، عن هارون النحوي، عن الزبير
بن الخريت، عن عكرمة في قوله: «فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ
سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ» ، قَالَ: التحريم التيه.
وقال آخرون: إنما فتح أريحا موسى، ولكن يوشع كان على مقدمة موسى حين سار إليهم.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذلك:
(1/436)
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال:
حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما نشأت النواشي من ذراريهم- يعني من ذراري
الذين أبوا قتال الجبارين مع موسى- وهلك آباؤهم، وانقضت الأربعون سنة التي
تُيِّهُوا فيها، سار بهم موسى ومعه يوشع بن نون، وكلاب بن يوفنة، وكان فيما يزعمون
على مريم ابنة عمران أخت موسى وهارون، فكان لهم صهرا، فلما انتهوا إلى أرض كنعان،
وبها بلعم بن باعور العروف، وكان رجلا قد آتاه الله علما، وكان فيما أوتي من العلم
اسم الله الأعظم- فيما يذكرون- الذي إذا دعي الله به أجاب، وإذا سئل به أعطى.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إسحاق، عن سالم
أبي النضر، أنه حدث أن موسى لما نزل أرض بني كنعان من أرض الشام، وكان بلعم
ببالعة- قرية من قرى البلقاء- فلما نزل موسى ببني إسرائيل ذلك المنزل، أتى قوم
بلعم إلى بلعم، فقالوا له: يا بلعم، هذا موسى بن عمران في بني إسرائيل قد جاء
يخرجنا من بلادنا، ويقتلنا ويحلها بني إسرائيل، ويسكنها، وإنا قومك وليس لنا منزل،
وأنت رجل مجاب الدعوة، فاخرج فادع الله عليهم، فقال: ويلكم! نبي الله معه الملائكة
والمؤمنون! كيف أذهب أدعو عليهم، وأنا أعلم من الله ما أعلم! قَالُوا: ما لنا من
منزل، فلم يزالوا به يرققونه، ويتضرعون إليه حتى فتنوه، فافتتن فركب حمارة له
متوجها إلى الجبل الذي يطلعه على عسكر بني إسرائيل، وهو جبل حسبان، فما سار عليها
غير قليل، حتى ربضت به، فنزل عنها فضربها حتى اذلقها فقامت فركبها، فلم تسر به
كثيرا حتى ربضت به، ففعل بها مثل ذلك، فقامت فركبها، فلم تسر به كثيرا حتى ربضت
به، فضربها حتى إذا أذلقها أذن الله لها فكلمته حجة عليه، فقالت: ويحك يا بلعم!
أين تذهب! ألا ترى الملائكة أمامي تردني عن وجهي هذا! أتذهب إلى نبي الله
والمؤمنين تدعو
(1/437)
عليهم! فلم ينزع عنها يضربها،
فخلى الله سبيلها حين فعل بها ذلك، فانطلقت حتى إذا أشرفت به على جبل حسبان، على
عسكر موسى وبني إسرائيل، جعل يدعو عليهم، فلا يدعو عليهم بشيء إلا صرف الله لسانه
إلى قومه، ولا يدعو لقومه بخير إلا صرف لسانه إلى بني إسرائيل، فقال له قومه:
أتدري يا بلعم ما تصنع؟ إنما تدعو لهم، وتدعو علينا، قَالَ: فهذا ما لا أملك، هذا
شيء قد غلب الله عليه، واندلع لسانه فوقع على صدره، فقال لهم: قد ذهبت الآن مني
الدنيا والآخرة، فلم يبق إلا المكر والحيلة، فسأمكر لكم وأحتال، جملوا النساء
وأعطوهن السلع، ثم أرسلوهن إلى العسكر يبعنها فيه، ومروهن فلا تمنع امرأة نفسها من
رجل أرادها، فإنه إن زنى رجل واحد منهم كفيتموهم، ففعلوا، فلما دخل النساء العسكر
مرت امرأة من الكنعانيين اسمها كستي ابنة صور- رأس أمته وبني أبيه من كان منهم في
مدين، هو كان كبيرهم- برجل من عظماء بني إسرائيل، وهو زمرى بن شلوم، رأس سبط شمعون
بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، فقام إليها فأخذ بيدها حين أعجبه جمالها، ثم أقبل
حتى وقف بها على موسى، فقال: إني أظنك ستقول:
هذه حرام عليك! قَالَ: أجل هي حرام عليك لا تقربها، قَالَ: فو الله لا نطيعك في
هذا، ثم دخل بها قبته فوقع عليها، فأرسل الله الطاعون في بني إسرائيل وكان فنحاص
بن العيزار بن هارون صاحب أمر موسى، وكان رجلا قد أعطي بسطة في الخلق، وقوة في
البطش، وكان غائبا حين صنع زمرى بن شلوم ما صنع، فجاء والطاعون يحوس في بني
إسرائيل، فأخبر الخبر، فأخذ حربته- وكانت من حديد كلها- ثم دخل عليهما القبة وهما
متضاجعان فانتظمهما بحربته، ثم خرج بهما رافعهما إلى السماء، والحربة قد أخذها
بذراعه، واعتمد بمرفقه على خاصرته، وأسند الحربة إلى لحيته- وكان بكر العيزار-
فجعل يقول: اللهم هكذا نفعل بمن يعصيك! ورفع الطاعون فحسب من يهلك من بني إسرائيل
في الطاعون- فيما بين أن أصاب زمرى المرأة إلى أن قتله
(1/438)
فنحاص- فوجدوا قد هلك منهم
سبعون ألفا، والمقلل لهم يقول: عشرون ألفا، في ساعة من النهار، فمن هنالك تعطي بنو
إسرائيل ولد فنحاص بن العيزار بن هارون من كل ذبيحة ذبحوها القبة والذراع واللحى،
لاعتماده بالحربة على خاصرته، وأخذه إياها بذراعه، وإسناده إياها إلى لحيته،
والبكر من كل أموالهم وأنفسهم، لأنه كان بكر العيزار، ففي بلعم بن باعور، أنزل
الله تعالى على مُحَمَّد ص: «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا
فَانْسَلَخَ مِنْها» - يعنى بلعم بن باعور، «فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ» الى قوله:
«لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» يعني بني إسرائيل، إني قد جئتهم بخبر ما كان فيهم
مما يخفون عليك لعلهم يتفكرون فيعرفون أنه لم يأت بهذا الخبر عما مضى فيهم إلا نبي
يأتيه خبر من السماء.
ثم إن موسى قدم يوشع بن نون إلى أريحا في بني إسرائيل فدخلها بهم، وقتل بها
الجبابرة الذين كانوا فيها، وأصاب من أصاب منهم، وبقيت منهم بقية في اليوم الذي
أصابهم فيه، وجنح عليهم الليل، وخشي إن لبسهم الليل أن يعجزوه، فاستوقف الشمس،
ودعا الله أن يحبسها، ففعل عز وجل حتى استأصلهم، ثم دخلها موسى ببني إسرائيل،
فأقام فيها ما شاء الله أن يقيم، ثم قبضه الله إليه، لا يعلم بقبره أحد من
الخلائق.
فأما السدي في الخبر الذي ذكرت عنه إسناده فيما مضى، فإنه ذكر في خبره ذلك أن الذي
قاتل الجبارين يوشع بن نون بعد موت موسى وهارون، وقص من أمره وأمرهم ما أنا ذاكره،
وهو أنه ذكر فيه أن الله بعث يوشع نبيا بعد أن انقضت الأربعون سنة، فدعا بني
إسرائيل فأخبرهم أنه نبي، وأن الله قد أمره أن يقاتل الجبارين، فبايعوه وصدقوه،
وانطلق رجل من بني إسرائيل يقال له: بلعم- وكان عالما، يعلم الاسم الأعظم المكتوم-
فكفر
(1/439)
وأتى الجبارين، فقال: لا
ترهبوا بني إسرائيل، فإني إذا خرجتم تقاتلونهم أدعو عليهم دعوة فيهلكون، فكان
عندهم فيما شاء من الدنيا، غير أنه كان لا يستطيع أن يأتي النساء من عظمهن، فكان
ينكح أتانا له، وهو الذي يقول اللَّه عَزَّ وَجَلَّ:
«وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا» أي فبصر «فَانْسَلَخَ
مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ» إلى قوله: «وَلكِنَّهُ
أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ
تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ» ، فكان بلعم يلهث كما يلهث
الكلب، فخرج يوشع يقاتل الجبارين في الناس، وخرج بلعم مع الجبارين على أتانه، وهو
يريد أن يلعن بني إسرائيل، فكلما أراد أن يدعو على بني إسرائيل جاء على الجبارين،
فقال الجبارون: إنك إنما تدعو علينا، فيقول: إنما أردت بني إسرائيل، فلما بلغ باب
المدينة أخذ ملك بذنب الأتان فأمسكها، وجعل يحركها فلا تتحرك، فلما أكثر ضربها
تكلمت، فقالت: أنت تنكحني بالليل وتركبني بالنهار! ويلي منك! ولو أني أطقت الخروج
لخرجت بك، ولكن هذا الملك يحبسني، فقاتلهم يوشع يوم الجمعة قتالا شديدا حتى أمسوا
وغربت الشمس، ودخل السبت فدعا الله فقال للشمس: إنك في طاعة الله وأنا في طاعة
الله، اللهم اردد علي الشمس، فردت عليه الشمس، فزيد له في النهار يومئذ ساعة، فهزم
الجبارين واقتحموا عليهم يقتلونهم، فكانت العصابة من بني إسرائيل يجتمعون على عنق
الرجل يضربونها لا يقطعونها وجمعوا غنائمهم، وأمرهم يوشع أن يقربوا الغنيمه
فقربوها، فلم تزل النار تأكلها، فقال يوشع: يا بني إسرائيل ان لله عز وجل عندكم
طلبة، هلموا فبايعوني، فبايعوه فلصقت يد رجل منهم بيده، فقال: هلم ما عندك! فأتاه
برأس ثور من ذهب مكلل بالياقوت والجوهر، كان قد غله، فجعله في القربان، وجعل الرجل
معه، فجاءت النار فأكلت الرجل والقربان
(1/440)
وأما أهل التوراة، فإنهم يقولون: هلك هارون وموسى في التيه، وإن الله أوحى إلى يوشع بعد موسى، وأمره أن يعبر الأردن إلى الأرض التي أعطاها بني إسرائيل، ووعدها إياهم، وأن يوشع جد في ذلك ووجه إلى أريحا من تعرف خبرها، ثم سار ومعه تابوت الميثاق، حتى عبر الأردن، وصار له ولأصحابه فيه طريق، فأحاط بمدينة أريحا سته أشهر، فلما كان السابع نفخوا في القرون، وضج الشعب ضجة واحدة، فسقط سور المدينة فأباحوها وأحرقوها، وما كان فيها ما خلا الذهب والفضة وآنية النحاس والحديد، فإنهم أدخلوه بيت المال ثم إن رجلا من بني إسرائيل غل شيئا، فغضب الله عليهم وانهزموا، فجزع يوشع جزعا شديدا، فأوحى الله إلى يوشع أن يقرع بين الأسباط، ففعل حتى انتهت القرعة إلى الرجل الذي غل، فاستخرج غلوله من بيته، فرجمه يوشع وأحرق كل ما كان له بالنار، وسموا الموضع باسم صاحب الغلول، وهو عاجر فالموضع الى هذا اليوم غور عاجر ثم نهض بهم يوشع إلى ملك عايي وشعبه، فأرشدهم الله إلى حربه، وأمر يوشع أن يكمن لهم كمينا ففعل، وغلب على عايي وصلب ملكها على خشبة، وأحرق المدينة وقتل من أهلها اثني عشر ألفا من الرجال والنساء، واحتال اهل عماق وجيعون ليوشع حتى جعل لهم أمانا، فلما ظهر على خديعتهم دعا الله عليهم أن يكونوا حطابين وسقائين، فكانوا كذلك، وأن يكون بازق ملك أورشليم يتصدق، ثم أرسل ملوك الأرمانيين، وكانوا خمسه بعضهم الى بعض، وجمعوا كلمتهم على جيعون، فاستنجد اهل جيعون يوشع، فأنجدهم وهزموا أولئك الملوك حتى حدروهم إلى هبطة حوران، ورماهم الله بأحجار البرد، فكان من قتله البرد أكثر ممن قتله بنو إسرائيل بالسيف، وسأل يوشع الشمس أن تقف والقمر أن يقوم حتى ينتقم من أعدائه قبل دخول السبت، ففعلا ذلك وهرب الخمسة ملوك فاختفوا في غار، فأمر يوشع فسد باب الغار حتى فرغ من الانتقام
(1/441)
من أعدائه، ثم أمر بهم فأخرجوا،
فقتلهم وصلبهم ثم أنزلهم من الخشب، وطرحهم في الغار الذي كانوا فيه، وتتبع سائر
الملوك بالشام، فاستباح منهم أحدا وثلاثين ملكا، وفرق الأرض التي غلب عليها ثم مات
يوشع، فلما مات دفن في جبل أفراييم، وقام بعده سبط يهوذا وسبط شمعون بحرب
الكنعانيين، فاستباحوا حريمهم، وقتلوا منهم عشرة آلاف ببازق، وأخذوا ملك بازق
فقطعوا إبهامي يديه ورجليه، فقال عند ذلك ملك بازق: قد كان يلقط الخبز من تحت
مائدتي سبعون ملكا مقطعي الأباهيم، فقد جزاني الله بصنيعي، وأدخلوا ملك بازق
أورشليم، فمات بها وحارب بنو يهوذا سائر الكنعانيين واستولوا على أرضهم، وكان عمر
يوشع مائة سنة وستا وعشرين سنة وتدبيره أمر بني إسرائيل منذ توفي موسى إلى أن توفي
يوشع بن نون سبعا وعشرين سنة.
وقد قيل إن أول من ملك من ملوك اليمن، ملك كان لهم في عهد موسى بن عمران من حمير،
يقال له: شمير بن الأملول، وهو الذي بنى مدينة ظفار باليمن، وأخرج من كان بها من
العماليق، وإن شمير بن الأملول الحميري هذا كان من عمال ملك الفرس يومئذ على اليمن
ونواحيها.
وزعم هشام بن مُحَمَّد الكلبي أن بقية بقيت من الكنعانيين بعد ما قتل يوشع من قتل
منهم، وأن إفريقيس بن قيس بن صيفي بن سبا بن كعب ابن زيد بن حمير بن سبإ بن يشجب
بن يعرب بن قحطان مر بهم متوجها إلى إفريقية، فاحتملهم من سواحل الشام، حتى أتى
بهم إفريقية، فافتتحها وقتل ملكها جرجيرا، وأسكنها البقية التي كانت بقيت من
الكنعانيين الذين كان احتملهم معه من سواحل الشام قَالَ: فهم البرابرة، قَالَ: وإنما
سموا بربرا، لأن إفريقيس قَالَ لهم: ما أكثر بربرتكم! فسموا لذلك بربرا، وذكر أن
إفريقيس قَالَ في ذلك من أمرهم شعرا، وهو قوله:
بربرت كنعان لما سقتها ... من أراضي الهلك للعيش العجب
قَالَ: وأقام من حمير في البربر صنهاجة وكتامة، فهم فيهم إلى اليوم
(1/442)
ذكر أمر قارون بن يصهر بن قاهث
وكان قارون ابن عم موسى ع حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن
ابن جريج، قوله: «إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى» ، قال: ابن عمه، أخي ابيه
فان: قارون ابن يصفر- هكذا قَالَ القاسم، وإنما هو يصهر- بن قاهث، وموسى بن عرمر
بن قاهث، وعرمر بالعربية عمران، هكذا قَالَ القاسم، وإنما هو عمرم.
وأما ابن إسحاق فإنه قَالَ مَا حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا
سلمة، عنه: تزوج يصهر بن قاهث شميت ابنه تباويت بن بركيا ابن يقسان بن إبراهيم
فولدت له عمران بن يصهر وقارون بن يصهر، فقارون- على ما قَالَ ابن إسحاق- عم موسى
أخو أبيه لأبيه وأمه.
واما أهل العلم من سلف أمتنا ومن أهل الكتابين فعلى ما قَالَ ابن جريج.
ذكر من حضرنا ذكره ممن قَالَ ذلك من علمائنا الماضين:
حَدَّثَنَا أبو كريب، قَالَ: حَدَّثَنَا جابر بن نوح، قال: أخبرنا اسماعيل ابن أبي
خالد، عن إبراهيم في قوله: «إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى» ، قال:
كان ابن عم موسى.
حدثنا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حدثنا عن
سفيان، عن سماك بن حرب، عن إبراهيم، قَالَ: «إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ
مُوسى» ، كان قارون ابن عم موسى
(1/443)
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ،
قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ سفيان، عن سماك، عن ابراهيم: «إِنَّ قارُونَ كانَ
مِنْ قَوْمِ مُوسى» ، قَالَ: كان ابن عمه فبغى عليه.
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يحيى بن سعيد القطان، عن سماك بن
حرب، عن إبراهيم، قَالَ: كان قارون ابن عم موسى.
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أبو معاوية، عن ابن أبي خالد، عن
إبراهيم، قَالَ: «إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى» ، قَالَ: كان ابن عمه.
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قال: حدثنا سعيد، عن
قتادة، قوله:
«إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى» ، كنا نحدث أنه كان ابن عمه أخي أبيه،
وكان يسمى المنور من حسن صورته في التوراة، ولكن عدو الله نافق كما نافق السامري،
فأهلكه البغي.
حَدَّثَنِي بشر بن هلال الصواف، قَالَ: حَدَّثَنَا جعفر بن سليمان الضبعي، عن مالك
بن دينار، قَالَ: بلغني أن موسى بن عمران كان ابن عم قارون، وكان الله قد آتاه
مالا كثيرا، كما وصفه الله عز وجل، فقال: «وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ
مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ» ، يعني بقوله: «تنوء»
تثقل.
وذكر أن مفاتيح خزائنه كانت كالذي حَدَّثَنَا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا جرير،
عن منصور، عن خيثمة في قوله: «ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي
الْقُوَّةِ» قَالَ: نجد مكتوبا في الإنجيل: مفاتيح قارون وقر ستين بغلا غرا محجلة،
ما يزيد مفتاح منها على إصبع، لكل مفتاح منها كنز.
حَدَّثَنِي أبو كريب، قَالَ: حَدَّثَنَا هشيم، قَالَ: أخبرنا إسماعيل بن
(1/444)
سالم، عَنْ أَبِي صَالِحٍ: «ما
إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ» ، قَالَ: كانت مفاتيح خزائنه تحمل على
أربعين بغلا.
حَدَّثَنَا أبو كريب، قَالَ: حَدَّثَنَا جابر بن نوح، قال: أخبرنا الأعمش عن
خيثمة، قَالَ: كانت مفاتيح قارون تحمل على ستين بغلا، كل مفتاح منها لباب كنز
معلوم، مثل الإصبع، من جلود.
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ الأعمش، عن خيثمة، قَالَ:
كانت مفاتيح قارون من جلود، كل مفتاح مثل الإصبع، كل مفتاح على خزانة على حدة،
فإذا ركب حملت المفاتيح على ستين بغلا أغر محجل.
فبغى عدو الله لما أراد الله به من الشقاء والبلاء على قومه بكثرة ماله.
وقيل إن بغيه عليهم كان بأن زاد عليهم في الثياب شبرا كذلك حدثنى علي بن سعيد
الكندي وأبو السائب وابن وكيع، قالوا: حدثنا حفص ابن غياث، عن ليث، عن شهر بن
حوشب.
فوعظه قومه على ما كان من بغيه ونهوه عنه، وأمروه بإنفاق ما أعطاه الله في سبيله
والعمل فيه بطاعته، كما أخبر الله عز وجل عنهم أنهم قَالُوا له فقال: «إِذْ قالَ لَهُ
قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وَابْتَغِ فِيما
آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا
وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ
إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ» وعنى بقوله: «وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ
مِنَ الدُّنْيا» : لا تنس في دنياك أن تأخذ نصيبك فيها لآخرتك، فكان جوابه إياهم
جهلا منه، واغترارا بحلم الله عنه، ما ذكر الله تعالى في كتابه أن قَالَ لهم: إنما
أوتيت ما أوتيت من هذه الدنيا عَلَى علم عندي فقيل: معنى ذلك: على خير عندي، كذلك
روي ذلك عن قتادة.
وقال غيره: عنى بذلك: لولا رضاء الله عني ومعرفته بفضلي ما أعطاني
(1/445)
هذا، قَالَ الله عز وجل مكذبا
قيله: «أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ
الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً» للأموال ولو كان
الله إنما يعطي الأموال والدنيا من يعطيه إياها لرضاه عنه، وفضله عنده، لم يهلك من
أهلك من أرباب الأموال الكثيرة قبله، مع كثرة ما كان أعطاهم منها، فلم يردعه عن
جهله، وبغيه على قومه بكثرة ماله عظة من وعظه، وتذكير من ذكره بالله ونصيحته إياه،
ولكنه تمادى في غيه وخسارته، حتى خرج على قومه في زينته راكبا برذونا أبيض مسرجا
بسرج الأرجوان، قد لبس ثيابا معصفرة، قد حمل معه من الجواري بمثل هيئته وزينته على
مثل برذونه ثلاثمائة جارية وأربعة آلاف من أصحابه.
وقال بعضهم: كان الذين حملهم على مثل هيئته وزينته من أصحابه.
سبعين ألفا.
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أبو خالد الأحمر، عن عثمان بن
الأسود، عن مجاهد: «فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ» ، قَالَ: على براذين
بيض، عليها سروج الأرجوان، عليهم المعصفرة فتمنى أهل الخسار من الذين خرج عليهم في
زينته مثل الذي أوتيه، فقالوا: «يَا لَيْتَ لَنا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قارُونُ
إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ» ، فأنكر ذلك من قوله عليهم أهل العلم بالله فقالوا
لهم: ويلكم أيها المتمنون مثل ما أوتي قارون! اتقوا الله، واعملوا بما أمركم الله به،
وانتهوا عما نهاكم عنه، فإن ثواب الله وجزاءه أهل طاعته خير لمن آمن به وبرسله،
وعمل بما أمره به من صالح الأعمال، يقول الله: «وَلا يُلَقَّاها إِلَّا
الصَّابِرُونَ» ، يقول: لا يلقى مثل هذه الكلمة إلا الذين صبروا عن طلب زينة
الحياة الدنيا، وآثروا جزيل ثواب الله على صالح الأعمال على لذات الدنيا وشهواتها،
فعملوا له بما يوجب لهم ذلك
(1/446)
فلما عتا الخبيث وتمادى في
غيه، وبطر نعمة ربه ابتلاه الله عز وجل من الفريضة في ماله والحق الذي ألزمه فيه
ما ساق إليه شحه به أليم عقابه، وصار به عبرة للغابرين وعظة للباقين.
فَحَدَّثَنَا أَبُو كريب، قال: حدثنا جابر بن نوح، قال: أَخْبَرَنَا الْأَعْمَشُ،
عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتِ الزَّكَاةُ أَتَى قَارُونَ مُوسَى فَصَالَحَهُ
عَنْ كُلِّ أَلْفِ دِينَارٍ دِينَارًا، وَعَلَى كُلِّ أَلْفِ دِرْهَمٍ دِرْهَمًا،
وَعَلَى كُلِّ أَلْفِ شَيْءٍ شَيْئًا، أَوْ قَالَ: وَكُلِّ أَلْفِ شَاةٍ شاه- قال
ابو جعفر الطبرى: انا أشد- قَالَ: ثُمَّ أَتَى بَيْتَهُ فَحَسَبَهُ فَوَجَدَهُ
كَثِيرًا فَجَمَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالَ: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، إِنَّ
مُوسَى قَدْ أَمَرَكُمْ بِكُلِّ شَيْءٍ فَأَطَعْتُمُوهُ، وَهُوَ الآنَ يُرِيدُ
أَنْ يَأْخُذَ أَمْوَالَكُمْ فَقَالُوا لَهُ: أَنْتَ كَبِيرُنَا وَسَيِّدُنَا،
فَمُرْنَا بِمَا شِئْتَ، فَقَالَ: آمُرُكُمْ أَنْ تَجِيئُوا بِفُلَانَةَ
الْبَغِيِّ فَتَجْعَلُوا لَهَا جُعْلًا فَتَقْذِفُهُ بِنَفْسِهَا فَدَعَوْهَا
فَجَعَلُوا لَهَا جُعْلًا عَلَى أَنْ تَقْذِفَهُ بِنَفْسِهَا، ثُمَّ أَتَى موسى
فقال: إِنَّ قَوْمَكَ قَدِ اجْتَمَعُوا لِتَأْمُرَهُمْ وَتَنْهَاهُمْ، فَخَرَجَ
إِلَيْهِمْ وَهُمْ فِي بَرَاحٍ مِنَ الْأَرْضِ، فَقَالَ: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ،
مَنْ سَرَقَ قَطَعْنَا يَدَهُ، ومن افترى جلدناه ثمانين، ومن زنا وليس له امراه
جلدناه مائه، ومن زنا وَلَهُ امْرَأَةٌ جَلَدْنَاهُ حَتَّى يَمُوتَ- أَوْ قَالَ:
رَجَمْنَاهُ حَتَّى يَمُوتَ- قَالَ أَبُو جَعْفَرَ أَنَا أَشُكُّ- فَقَالَ لَهُ
قَارُونُ: وَإِنْ كُنْتَ أَنْتَ؟ قَالَ: وَإِنْ كُنْتُ أَنَا قَالَ:
وَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ فَجَرْتَ بِفُلَانَةَ، فَقَالَ:
ادْعُوهَا، فَإِنْ قَالَتْ فَهُوَ كَمَا قَالَتْ، فَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ قَالَ
لَهَا مُوسَى: يَا فُلَانَةُ، قَالَتْ: لَبَّيْكَ! قَالَ:
أَنَا فَعَلْتُ بِكِ مَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ؟ قَالَتْ: لَا، وَكَذَبُوا، وَلَكِنْ
جَعَلُوا إِلَيَّ جُعْلًا عَلَى أَنْ أَقْذِفَكَ بِنَفْسِي، فَوَثَبَ فَسَجَدَ
وَهُوَ بَيْنَهُمْ، فَأُوحِيَ إِلَيْهِ: مُرِ الْأَرْضَ بِمَا شِئْتَ، قَالَ: يَا
أَرْضُ خُذِيهِمْ، فَأَخَذَتْهُمْ إِلَى أَقْدَامِهِمْ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَرْضُ
خُذِيهِمْ فَأَخَذَتْهُمْ إِلَى رُكَبِهِمْ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَرْضُ خُذِيهِمْ،
فَأَخَذَتْهُمْ إِلَى أَعْنَاقِهِمْ،
(1/447)
قال: فجعلوا يقولون: يَا مُوسَى،
وَيَتَضَرَّعُونَ إِلَيْهِ، قَالَ: يَا أَرْضُ خذيهم، فاطبقت عليهم، فاوحى الله
اليه: يا موسى يَقُولُ لَكَ عِبَادِي: يَا مُوسَى يَا مُوسَى، فَلا تَرْحَمُهُمْ،
أَمَا لَوْ إِيَّايَ دَعُوا لَوَجَدُونِي قَرِيبًا مُجِيبًا، قَالَ: فَذَلِكَ
قَوْلُهُ:
«فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ» ، وَكَانَتْ زِينَتُهُ أَنَّهُ خَرَجَ
عَلَى دَوَابٍّ شَقِرٍ عَلَيْهَا سُرُوجُ أَرْجِوَانٍ، عَلَيْهَا ثِيَابٌ
مُصْبَغَةٌ بِالْبَهْرَمَانِ،: «قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا
يَا لَيْتَ لَنا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قارُونُ» إِلَى قَوْلِهِ: «لا يُفْلِحُ
الْكافِرُونَ» يا مُحَمَّدُ «تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا
يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» .
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عِيسَى، عَنِ
الْأَعْمَشِ، عَنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ رَجُلٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِنَحْوِهِ،
وَزَادَنِي فِيهِ: قَالَ: فَأَصَابَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ ذَلِكَ شِدَّةٌ
وَجُوعٌ شَدِيدٌ، فَأَتَوْا مُوسَى فَقَالُوا: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ، قَالَ:
فَدَعَا لَهُمْ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: يَا مُوسَى، أَتُكَلِّمُنِي فِي
قَوْمٍ قَدْ أَظْلَمَ مَا بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ مِنْ خَطَايَاهُمْ، وَقَدْ دَعَوكَ
فَلَمْ تُجِبْهُمْ أَمَا لَوْ إِيَّايَ دَعَوْا لَأَجَبْتُهُمْ.
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ
بْنُ هَاشِمِ ابْنُ الْبُرَيْدِ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ المنهال، عَنْ سَعِيدِ
بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: «إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ
قَوْمِ مُوسى» ، قَالَ: كَانَ ابْنَ عَمِّهِ، وَكَانَ مُوسَى يَقْضِي فِي
نَاحِيَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقَارُونُ فِي نَاحِيَةٍ، قَالَ: فَدَعَا بَغِيَّةً
كَانَتْ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَجَعَلَ لَهَا جُعْلًا عَلَى أَنْ تَرْمِيَ
مُوسَى بِنَفْسِهَا، فَتَرَكَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمَ يَجْتَمِعُ فِيهِ
بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى مُوسَى أَتَاهُ قَارُونُ فَقَالَ: يَا مُوسَى، مَا حَدُّ
مَنْ سَرَقَ؟ قَالَ: أَنْ تُقْطَعَ يَدُهُ، قَالَ: فَإِنْ كُنْتَ أَنْتَ؟ قَالَ
نَعَمْ، قَالَ: فَمَا حَدُّ مَنْ زنا؟ قَالَ: أَنْ يُرْجَمَ، قَالَ: وَإِنْ كُنْتَ
أَنْتَ؟ قال: نعم،
(1/448)
قَالَ: فَإِنَّكَ قَدْ
فَعَلَتْ، قَالَ: وَيْلَكَ! بِمَنْ؟ قَالَ: بِفُلَانَةَ، فَدَعَاهَا مُوسَى
فَقَالَ:
أَنْشُدُكِ بِالَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ، أَصَدَقَ قَارُونُ؟ قَالَتِ:
اللَّهُمَّ إِذْ نَشَدْتَنِي، فَإِنِّي أَشْهَدُ أَنَّكَ بَرِيءٌ، وَأَنَّكَ
رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَّ عَدُوَّ اللَّهِ قَارُونَ جَعَلَ لِي جُعْلًا عَلَى أَنْ
أَرْمِيَكَ بِنَفْسِي، قَالَ: فَوَثَبَ مُوسَى فَخَرَّ سَاجِدًا، فَأَوْحَى
اللَّهُ إِلَيْهِ أَنِ ارْفَعْ رَأْسَكَ فَقَدْ أَمَرْتُ الْأَرْضَ أَنْ
تُطِيعَكَ، فَقَالَ مُوسَى: خُذِيهِمْ، فَأَخَذَتْهُمْ حَتَّى بَلَغُوا الْحِقْوَ،
قَالَ: يَا مُوسَى، قَالَ: خُذِيهِمْ فَأَخَذَتْهُمْ حَتَّى بَلَغُوا الصُّدُورَ،
قَالَ: يَا مُوسَى، قَالَ: خُذِيهِمْ، قَالَ: فَذَهَبُوا، قَالَ:
فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: يَا مُوسَى، اسْتَغَاثَ بِكَ فَلَمْ تُغِثْهُ، أَمَا
لَوِ استغاث بي، لأجبته ولأغثته.
حَدَّثَنَا بشر بن هلال الصواف، قَالَ: حَدَّثَنَا جعفر بن سليمان الضبعي، قَالَ:
حَدَّثَنَا علي بن زيد بن جدعان، قَالَ: خرج عبد الله بن الحارث من الدار، ودخل
المقصورة فلما خرج منها جلس وتساند عليها وجلسنا اليه، فذكر سليمان بن داود و
«قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ
يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ» الى قوله: «فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ» قَالَ: ثم
سكت عن حديث سليمان، فقال: «إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى
عَلَيْهِمْ» ، وكان قد أوتي من الكنوز ما ذكره الله في كتابه: «ما إِنَّ
مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ» فقال: انما أوتيته على علم
عندي قَالَ: وعاد موسى وكان مؤذيا له، فكان موسى يصفح عنه، ويعفو للقرابة حتى بنى
دارا، وجعل باب داره من ذهب، وضرب على جدر داره صفائح الذهب، وكان الملأ من بني
إسرائيل يغدون عليه ويروحون، فيطعمهم الطعام ويحدثونه ويضحكونه، فلم تدعه شقوته
والبلاء حتى أرسل إلى امرأة من بني إسرائيل مشهورة بالخنا مشهورة بالسب، فجاءت قال
لها: هل لك أن أمولك وأعطيك وأخلطك
(1/449)
بنسائي، على أن تأتيني والملأ
من بني إسرائيل عندي فتقولي: يا قارون ألا تنهى عني موسى! قالت: بلى، فلما جلس
قارون، وجاءه الملأ من بني إسرائيل أرسل إليها فجاءت، فقامت بين يديه، فقلب الله
قلبها، وأحدث لها توبة، فقالت في نفسها: لا أجد اليوم توبة أفضل من ألا أوذي رسول
الله وأعذب عدو الله، فقالت: إن قارون قَالَ لي: هل لك أن أمولك وأعطيك وأخلطك
بنسائي على أن تأتيني والملأ من بني إسرائيل عندي، فتقولي: يا قارون ألا تنهى عني
موسى! فلم أجد توبة أفضل من ألا أوذي رسول الله، وأعذب عدو الله فلما تكلمت بهذا
الكلام سقط في يدي قارون، ونكس رأسه، وسكت عن الملأ، وعرف انه قد وقع في هلكة، فشاع
كلامها في الناس، حتى بلغ موسى، فلما بلغ موسى اشتد غضبه فتوضأ من الماء وصلى
وبكى، وقال:
يا رب عدوك لي مؤذ، أراد فضيحتي وشيني، يا رب سلطني عليه فأوحى الله إليه أن مر
الأرض بما شئت تطعك، فجاء موسى إلى قارون، فلما دخل عليه عرف الشر في وجه موسى له،
فقال له: يا موسى ارحمني، قال: يا أرض خذيهم، قال: فاضطربت داره، وساخت بقارون
وأصحابه إلى الكعبين، وجعل يقول: يا موسى ارحمني، قال: يا أرض خذيهم، فاضطربت داره
وساخت، وخسف بقارون وأصحابه إلى ركبهم وهو يتضرع إلى موسي:
يا موسي، ارحمني! قَالَ: يا أرض خذيهم، فاضطربت داره، وساخت وخسف بقارون وأصحابه
إلى سررهم، وهو يتضرع إلى موسي: يا موسي، ارحمني! قال: يا أرض خذيهم، فخسف به
وبداره وأصحابه، قَالَ:
وقيل لموسى: يا موسى، ما أفظك، أما وعزتي لو إياي نادى لأجبته! حَدَّثَنَا بشر
بْنُ هِلالٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عن أبي عمران الجوني،
قَالَ: بلغني أنه قيل لموسى: لا أعبد الأرض لأحد بعدك أبدا.
حَدَّثَنَا بشر، قَالَ: حَدَّثَنَا يزيد، قَالَ: حَدَّثَنَا سعيد عن قتادة،
«فَخَسَفْنا
(1/450)
بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ» ،
ذكر لنا أنه يخسف به كل يوم قامة، وأنه يتجلجل فيها لا يبلغ قعرها الى يوم
القيامه.
قال ابو جعفر: فلما نزلت نقمة الله بقارون حمد الله على ما أنعم به عليهم المؤمنون
الذين وعظوه وأنذروه بأمر الله، ونصحوا له من المعرفة بحقه والعمل بطاعته، وندم
الذين كانوا يتمنون ما هو فيه من كثرة المال، والسعة في العيش على أمنيتهم، وعرفوا
خطأ أنفسهم في أمنيتها، فقالوا ما أخبر الله عز وجل عنهم في كتابه:
«وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ
لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا» ، فصرف عنا ما ابتلى به قارون وأصحابه مما
كنا نتمناه بالأمس لخسف بنا كما خسف به وبهم فنجى الله تعالى من كل هول وبلاء نبيه
موسى والمؤمنين به المتمسكين بعهده من بني إسرائيل، وفتاه يوشع بن نون المتبعين له
بطاعتهم ربهم، واهلك اعدائه واعدائهم: فرعون وهامان وقارون والكنعانيين بكفرهم
وتمردهم عليه وعتوهم، بالغرق بعضا، وبالخسف بعضا، وبالسيف بعضا، وجعلهم عبرا لمن
اعتبر بهم، وعظة لمن اتعظ بهم، مع كثرة أموالهم وكثرة عدد جنودهم، وشدة بطشهم،
وعظم خلقهم وأجسامهم، فلم تغن عنهم أموالهم ولا أجسامهم ولا قواهم ولا جنودهم
وأنصارهم عنهم من الله شيئا، إذ كانوا يجحدون بآيات الله، ويسعون في الأرض فسادا،
ويتخذون عباد الله لأنفسهم خولا، وحاق بهم ما كانوا منه آمنين، نعوذ بالله من عمل
يقرب من سخطه، ونرغب إليه في التوفيق لما يدني من محبته، ويزلف الى رحمته! وروى عن
النبي ص مَا حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَهْبٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنِي الْمَاضِي بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي
سُلَيْمَانَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ
الْخَوْلانِيِّ، عَنْ ابى ذر، قال: [قال رسول الله ص: أَوَّلُ أَنْبِيَاءِ بَنِي
إِسْرَائِيلَ موسى وَآخِرُهُمْ عِيسَى
(1/451)
قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، مَا كَانَ فِي صُحُفِ موسى؟ قَالَ: كَانَتْ عِبَرًا كُلَّهَا، عَجِبْتُ
لِمَنْ أَيْقَنَ بِالنَّارِ ثُمَّ يَضْحَكُ، عَجِبْتُ لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْمَوْتِ
ثُمَّ يَفْرَحُ، عَجِبْتُ لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْحِسَابِ غَدًا ثُمَّ لَمْ يَعْمَلْ!]
وَكَانَ تَدْبِيرُ يُوشَعَ أَمْرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ لَدُنْ مَاتَ مُوسَى،
إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ يُوشَعُ، كُلُّهُ فِي زَمَانِ منُوشهرَ عِشْرِينَ سَنَةً،
وَفِي زَمَانِ فراسياب سَبْعَ سِنِينَ.
ونرجع الآن إلى:
(1/452)
ذكر القائم بالملك ببابل من
الفرس بعد منوشهر إذ كان التاريخ إنما تدرك صحته على سياق مدة أعمار ملوكهم.
ولما هلك منوشهر الملك بن منشخورنر، قهر فراسياب بن فشنج ابن رستم بن ترك على
خنيارث ومملكة أهل فارس، وصار- فيما قيل- إلى أرض بابل، فكان يكثر المقام ببابل
وبمهرجان قذق، فأكثر الفساد في مملكة أهل فارس.
وقيل: إنه قَالَ حين غلب على مملكتهم: نحن مسرعون في إهلاك البرية، وإنه عظم جوره
وظلمه، وخرب ما كان عامرا من بلاد خنيارث، ودفن الأنهار والقني، وقحط الناس في سنة
خمس من ملكه، إلى أن خرج عن مملكة أهل فارس، ورد إلى بلاد الترك، فغارت المياه في
تلك السنين، وحالت الأشجار المثمرة.
ولم يزل الناس منه في أعظم البلية، إلى أن ظهر زو بن طهماسب وقد يلفظ باسم زو بغير
ذلك فيقول بعضهم: زاب بن طهماسفان، ويقول بعضهم: زاغ، ويقول بعضهم: راسب بن طهماسب
بن كانجو بن زاب بن أرفس بن هراسف بن ونديج بن اريج بن نوذوجوش ابن منسوا- بن نوذر
بن منوشهر.
وأم زو ما دول ابنة وامن بن واذرجا بن قود بن سلم بن أفريدون.
وقيل: إن منوشهر كان وجد في أيام ملكه على طهماسب بسبب جناية جناها، وهو مقيم في
حدود الترك لحرب فراسياب، فأراد منوشهر قتله بسبب ذلك، فكلمه في الصفح عنه عظماء
أهل مملكته وكان من عدل
(1/453)
منوشهر- فيما ذكر- أنه قد كان
يسوي بين الشريف والوضيع، والقريب والبعيد في العقوبة، إذا استوجبها بعض رعيته على
ذنب أتاه- فأبى إجابتهم إلى ما سألوه من ذلك، وقال لهم: هذا في الدين وهن، ولكنكم
إذ أبيتم علي، فإنه لا يسكن في شيء من مملكتي، ولا يقيم به، فنفاه عن مملكته فشخص
إلى بلاد الترك، فوقع إلى ناحية وامن، فاحتال لابنته وهي محبوسة في قصر من أجل أن
المنجمين كانوا ذكروا لوامن أبيها أنها تلد ولدا يقتله، حتى أخرجها من القصر الذي
كانت محبوسة فيه، بعد أن حملت منه بزو.
ثم ان منوشهر اذن طهماسب بعد أن انقضت أيام عقوبته في العود الى خينارث مملكة
فارس، فأخرج مادول ابنة وامن بالحيلة منها ومنه في إخراجها من قصرها من بلاد الترك
إلى مملكة أهل فارس، فولدت له زوا بعد العود إلى بلاد إيرانكرد، ثم إن زوا- فيما
ذكر- قتل جده، وامن في بعض مغازيه الترك، وطرد فراسياب عن مملكة أهل فارس، حتى رده
إلى الترك بعد حروب جرت بينه وبينه وقتال، فكانت غلبه فراسياب اهل فارس على إقليم
بابل اثنتى عشره سنة، من لدن توفي منوشهر إلى أن طرده عنه، وأخرجه زو بن طهماسب
إلى تركستان.
وذكر أن طرد زو فراسياب عما كان عليه من مملكة أهل فارس في روز ابان من شهر
آبانماه، فاتخذ العجم هذا اليوم عيدا لما رفع عنهم فيه من شر فراسياب وعسفه وجعلوه
الثالث من أعيادهم النوروز والمهرجان.
وكان زو محمودا في ملكه، محسنا إلى رعيته، فأمر بإصلاح ما كان فراسياب أفسد من
بلاد خنيارث، ومملكة بابل وبناء ما كان هدم من حصون ذلك، ونثل ما كان طم وغور من
الأنهار والقنى، وكرى ما كان اندفن من المياه حتى أعاد كل ذلك- فيما ذكر- الى احسن
ما كان عليه، ووضع
(1/454)
عن الناس الخراج سبع سنين،
ودفعه عنهم، فعمرت بلاد فارس في ملكه، وكثرت المياه فيها، ودرت معايش أهلها،
واستخرج بالسواد نهرا وسماه الزاب، وأمر فبنيت على حافتيه مدينة وهي التي تسمى
المدينة العتيقة، وكورها كورة، وسماها الزوابي، وجعل لها ثلاثة طساسيج: منها طسوج
الزاب الأعلى، ومنها طسوج الزاب الأوسط، ومنها طسوج الزاب الأسفل، وأمر بحمل بزور
الرياحين من الجبال إليها وأصول الأشجار، وبذر ما يبذر من ذلك، وغرس ما يغرس منه،
وكان أول من اتخذ له ألوان الطبيخ وأمر بها وبأصناف الأطعمة، وأعطى جنوده مما غنم
من الخيل والركاب، مما أوجف عليه من أموال الترك وغيرهم وقال يوم ملك وعقد التاج
على رأسه: نحن متقدمون في عماره ما اخر به الساحر فراسياب.
وكان له كرشاسب بن أثرط بن سهم بن نريمان بن طورك بن شيراسب بن أروشسب بن طوج بن
أفريدون الملك.
وقد نسبه بعض نسابي الفرس غير هذا النسب فيقول: هو كرشاسف بن أشناس بن طهموس بن
اشك بن ترس بن رحر بن دودسرو بن منوشهر الملك- مؤازرا له على ملكه.
ويقول بعضهم: كان زو وكرشاسب مشتركين في الملك، والمعروف من أمرهما أن الملك كان
لزو بن طهماسب وأن كرشاسب كان له مؤازرا وله معينا
(1/455)
وكان كرشاسب عظيم الشأن في أهل
فارس، غير أنه لم يملك، فكان جميع ملك زو إلى أن انقضى ومات- فيما قيل- ثلاث سنين.
ثم ملك بعد زو كيقباذ، وهو كيقباذ بن زاغ بن نوحياه بن منشو بن نوذر بن منوشهر
وكان متزوجا بفرتك ابنه تدرسا التركى، وكان تدرسا من رءوس الأتراك وعظمائهم، فولدت
له كي إفنه، وكي كاوس، وكي أرش، وكيبه أرش، وكيفاشين وكيبية، وهؤلاء هم الملوك
الجبابرة وآباء الملوك الجبابرة.
وقيل إن كيقباذ قَالَ يوم ملك وعقد التاج على رأسه: نحن مدوخون بلاد الترك
ومجتهدون في إصلاح بلادنا، حدبون عليها، وأنه قدر مياه الأنهار والعيون لشرب
الأرضين، وسمى البلاد بأسمائها، وحدها بحدودها، وكور الكور، وبين حير كل كورة منها
وحريمها، وأمر الناس باتخاذ الأرض، وأخذ العشر من غلاتها لأرزاق الجند، وكان- فيما
ذكر- كيقباذ يشبه في حرصه على العمارة، ومنعه البلاد من العدو، وتكبره في نفسه
بفرعون.
وقيل ان الملوك الكييه وأولادهم من نسله، وجرت بينه وبين الترك وغيرهم حروب كثيرة،
وكان مقيما في حد ما بين مملكة الفرس والترك بالقرب من نهر بلخ، لمنع الترك من
تطرق شيء من حدود فارس، وكان ملكه مائة سنة، والله أعلم.
ونرجع الآن إلى:
(1/456)
ذكر أمر بني إسرائيل والقوام
الذين كانوا بأمرهم بعد يوشع ابن نون والأحداث التي كانت في عهد زو وكيقباذ
ولا خلاف بين أهل العلم بأخبار الماضين وأمور الأمم السالفين من أمتنا وغيرهم أن
القيم بأمور بني إسرائيل بعد يوشع كان كالب بن يوفنا، ثم حزقيل بن بوذى من بعده،
وهو الذي يقال له ابن العجوز.
فحَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إِسْحَاقَ، قَالَ: إنما سمي حزقيل
بن بوزي ابن العجوز، أنها سألت الله الولد، وقد كبرت وعقمت، فوهبه الله لها، فبذلك
قيل له: ابن العجوز، وهو الذي دعا للقوم الذين ذكر الله في الكتاب عليه السلام كما
بلغنا: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ
حَذَرَ الْمَوْتِ» .
حدثني محمد بن سهل بن عسكر، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال: حدثني عبد
الصمد بن معقل، أنه سمع وهب بن منبه يقول: أصاب ناسا من بني إسرائيل بلاء وشدة من
الزمان، فشكوا ما أصابهم فقالوا: يا ليتنا قدمتنا فاسترحنا مما نحن فيه! فأوحى
الله إلى حزقيل: إن قومك صاحوا من البلاء، وزعموا أنهم ودوا لو ماتوا فاستراحوا،
وأي راحة لهم في الموت! أيظنون أني لا أقدر على أن أبعثهم بعد الموت! فانطلق إلى
جبانة كذا كذا فإن فيها أربعة آلاف- قَالَ وهب: وهم الذين قَالَ الله تعالى:
«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ
الْمَوْتِ» - فقم فيهم فنادهم، وكانت عظامهم قد تفرقت، فرقتها الطير والسباع،
فناداها حزقيل، فقال: يا أيتها العظام النخرة، إن الله عز وجل
(1/457)
يأمرك أن تجتمعي فاجتمع عظام
كل إنسان منهم معا، ثم نادى ثانية حزقيل فقال: أيتها العظام، إن الله يأمرك أن
تكتسي اللحم، فاكتست اللحم، وبعد اللحم جلدا، فكانت أجسادا، ثم نادى حزقيل الثالثة
فقال: أيتها الارواح، ان الله يأمرك ان تعودي في أجسادك فقاموا بإذن الله، وكبروا
تكبيرة واحدة.
حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، في
خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس- وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود-
وعن ناس من اصحاب النبي ص «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ
وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ»
كَانَتْ قَرْيَةً يُقَالُ لَهَا دَاوِرْدَانَ قَبْلَ وَاسِطَ، فَوَقَعَ بِهَا
الطَّاعُونُ، فَهَرَبَ عَامَّةُ أَهْلِهَا فَنَزَلُوا نَاحِيَةً مِنْهَا، فَهَلَكَ
أَكْثَرُ مَنْ بَقِيَ فِي الْقَرْيَةِ وَسَلِمَ الآخَرُونَ، فَلَمْ يَمُتْ
مِنْهُمْ كَثِيرٌ، فَلَمَّا ارْتَفَعَ الطَّاعُونُ رَجَعُوا سَالِمِينَ، فَقَالَ
الَّذِينَ بَقَوْا: أَصْحَابُنَا هَؤُلَاءِ كَانُوا أَحْزَمَ مِنَّا، لَوْ
صَنَعْنَا كَمَا صَنَعُوا بَقِينَا! وَلَئِنْ وَقَعَ الطَّاعُونُ ثَانِيَةً
لَنَخْرُجَنَّ مَعَهُمْ فَوَقَعَ فِي قَابِلَ فَهَرَبُوا وَهُمْ بِضْعَةٌ
وَثَلاثُونَ أَلْفًا، حَتَّى نَزَلُوا ذَلِكَ الْمَكَانَ، وَهُوَ وَادٍ أَفْيَحُ،
فَنَادَاهُمْ مَلَكٌ مِنْ أَسْفَلِ الْوَادِي، وَآخَرُ مِنْ أَعْلَاهُ: أَنْ
مُوتُوا، فَمَاتُوا حَتَّى هَلَكُوا، وَبَلِيَتْ أَجْسَادُهُمْ، فَمَرَّ بِهِمْ
نبى يقال له هزقيل، فَلَمَّا رَآهُمْ وَقَفَ عَلَيْهِمْ فَجَعَلَ يَتَفَكَّرُ
فِيهِمْ، يَلْوِي شِدْقَهُ وَأَصَابِعَهُ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: يَا هزقيل،
أَتُرِيدُ أَنْ أُرِيكَ كَيْفَ أُحْيِيهِمْ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَإِنَّمَا كَانَ
تَفَكُّرُهُ أَنَّهُ تَعَجَّبَ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ:
نَعَمْ، فَقِيلَ لَهُ: نَادِ، فنادى يا أيتها الْعِظَامُ، إِنَّ اللَّهَ
يَأْمُرُكِ أَنْ تَجْتَمِعِي، فَجَعَلَتِ الْعِظَامُ يَطِيرُ بَعْضُهَا إِلَى
بَعْضٍ، حَتَّى كَانَتْ أَجْسَادًا مِنْ عِظَامٍ، ثُمَّ أَوْحَى اللَّهُ أَنْ ناد:
يأتيها الْعِظَامُ، إِنَّ اللَّهُ يَأْمُرُكِ أَنْ تَكْتَسِيَ لَحْمًا فَاكْتَسَتْ
لَحْمًا وَدَمًا وَثِيَابَهَا الَّتِي مَاتَتْ فِيهَا، وَهِيَ عَلَيْهَا، ثُمَّ
قِيلَ لَهُ: نَادِ،
(1/458)
فنادى: يا أيتها الْأَجْسَادُ،
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكِ أَنْ تَقُومِي، فَقَامُوا حَدَّثَنِي موسى، قَالَ:
حَدَّثَنَا عمرو، قَالَ: حَدَّثَنَا أسباط، قَالَ: فزعم منصور بن المعتمر عن مجاهد
أنهم قَالُوا حين أحيوا: سبحانك ربنا وبحمدك لا إله إلا أنت، فرجعوا إلى قومهم
أحياء يعرفون أنهم كانوا موتى، سحنة الموت على وجوههم، لا يلبسون ثوبا إلا عاد
دسما مثل الكفن، حتى ماتوا لآجالهم التي كتبت لهم.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا حكام، عن عنبسة، عن أشعث، عن سالم النصري،
قَالَ: بينما عمر بن الخطاب يصلي ويهوديان خلفه، وكان عمر إذا أراد أن يركع خوى،
فقال أحدهما لصاحبه: أهو هو؟ قَالَ:
فلما انفتل عمر قَالَ: أرأيت قول أحدكما لصاحبه: أهو هو؟ فقالا: إنا نجد في كتابنا
قرنا من حديد يعطى ما أعطى حزقيل الذي أحيا الموتى بإذن الله، فقال عمر: ما نجد في
كتابنا حزقيل، ولا أحيا الموتى بإذن الله إلا عيسى ابن مريم، فقالا: أما تجد في
كتاب الله «وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ» ، فقال عمر: بلى، قالا وأما
إحياء الموتى فسنحدثك إن بني إسرائيل وقع فيهم الوباء، فخرج منهم قوم حتى إذا
كانوا على رأس ميل أماتهم الله، فبنوا عليهم حائطا، حتى إذا بليت عظامهم بعث الله
حزقيل فقام عليهم، فقال: ما شاء الله! فبعثهم الله له، فأنزل الله في ذلك: «أَلَمْ
تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ»
، الآيَةَ.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن إسحاق،
(1/459)
عن وهب بن منبه: أن كالب بن
يوفنا لما قبضه الله بعد يوشع، خلف فيهم- يعني في بني إسرائيل- حزقيل بن بوذى، وهو
ابن العجوز، وهو الذي دعا للقوم الذين ذكر الله في الكتاب لمُحَمَّد ص كما بلغنا:
«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ» الآية.
قَالَ ابْنُ حُمَيْدٍ: قَالَ سَلَمَةُ قَالَ ابْنُ إسحاق: فبلغني أنه كان من
حديثهم أنهم خرجوا فرارا من بعض الأوباء من الطاعون، أو من سقم كان يصيب الناس
حذرا من الموت وهم ألوف، حتى إذا نزلوا بصعيد من البلاد قَالَ الله لهم: موتوا،
فماتوا جميعا، فعمد أهل تلك البلاد فحظروا عليهم حظيرة دون السباع، ثم تركوهم
فيها، وذلك أنهم كثروا عن أن يغيبوا، فمرت بهم الأزمان والدهور، حتى صاروا عظاما
نخرة، فمر بهم حزقيل بن بوذى، فوقف عليهم، فتعجب لأمرهم، ودخلته رحمة لهم، فقيل
له: أتحب أن يحييهم الله؟ فقال: نعم، فقيل له: فقل: أيتها العظام الرميم، التي قد
رمت وبليت، ليرجع كل عظم إلى صاحبه فناداهم بذلك، فنظر إلى العظام تتواثب يأخذ
بعضها بعضا، ثم قيل له: قل أيها اللحم والعصب والجلد، اكس العظام بإذن ربك، قَالَ
فنظر إليها والعصب يأخذ العظام، ثم اللحم والجلد والأشعار، حتى استووا خلقا ليست
فيهم الأرواح، ثم دعا لهم بالحياة، فتغشاه من السماء شيء كربه، حتى غشي عليه منه،
ثم أفاق والقوم جلوس يقولون: سبحان الله فقد أحياهم الله! فلم يذكر لنا مدة مكث
حزقيل في بنى إسرائيل
(1/460)
الياس واليسع عليهما السلام
ولما قبض الله حزقيل كثرت الأحداث- فيما ذكر- في بني إسرائيل، وتركوا عهد الله
الذي عهد إليهم في التوراة، وعبدوا الأوثان، فبعث الله إليهم فيما قيل: إلياس بن
ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران.
فحَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق:
ثم إن الله عز وجل قبض حزقيل، وعظمت في بني إسرائيل الأحداث، ونسوا ما كان من عهد
الله إليهم، حتى نصبوا الأوثان وعبدوها من دون الله، فبعث الله إليهم إلياس بن
ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران نبيا، وإنما كانت الأنبياء من بني
إسرائيل بعد موسى يبعثون إليهم بتجديد ما نسوا من التوراة فكان إلياس مع ملك من
ملوك بني إسرائيل يقال له أحاب، وكان اسم امرأته أزبل، وكان يسمع منه ويصدقه، وكان
إلياس يقيم له أمره، وكان سائر بني إسرائيل قد اتخذوا صنما يعبدونه من دون الله،
يقال له: بعل قَالَ ابن إسحاق: وقد سمعت بعض أهل العلم يقول: ما كان بعل إلا امرأة
يعبدونها من دون الله يقول الله لمحمد «وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ
إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ» - الى قوله:
«اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ» - فجعل الياس يدعوهم الى
الله، وجعلوا لا يسمعون منه شيئا إلا ما كان من ذلك الملك، والملوك متفرقة بالشام،
كل ملك له ناحية منها يأكلها، فقال ذلك الملك، الذي كان إلياس معه، يقوم له بأمره،
ويراه على هدى من بين أصحابه يوما يا إلياس، والله
(1/461)
ما أرى ما تدعو إليه إلا
باطلا، والله ما أرى فلانا وفلانا فعد ملوكا من ملوك بني إسرائيل قد عبدوا الأوثان
من دون الله إلا على مثل ما نحن عليه، يأكلون ويشربون ويتنعمون، مملكين، ما ينقص
دنياهم أمرهم الذي تزعم أنه باطل، وما نرى لنا عليهم من فضل.
فيزعمون- والله أعلم- أن إلياس استرجع وقام شعر رأسه وجلده، ثم رفضه وخرج عنه ففعل
ذلك الملك فعل أصحابه، عبد الأوثان، وصنع ما يصنعون فقال إلياس: اللهم إن بني
إسرائيل قد أبوا إلا الكفر بك، والعبادة لغيرك، فغير ما بهم من نعمتك أو كما قال.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بن إسحاق، قَالَ: ذكر
لي أنه أوحي إليه: إنا قد جعلنا أمر أرزاقهم بيدك وإليك، حتى تكون أنت الذي تأمر
في ذلك فقال إلياس: اللهم فأمسك عنهم المطر فحبس عنهم ثلاث سنين حتى هلكت الماشية
والدواب والهوام والشجر، وجهد الناس جهدا شديدا.
وكان إلياس- فيما يذكرون- حين دعا بذلك على بني إسرائيل قد استخفى شفقا على نفسه
منهم، وكان حيث ما كان وضع له رزق، فكانوا إذا وجدوا ريح الخبز في دار أو بيت
قَالُوا: لقد دخل إلياس هذا المكان، فطلبوه، ولقي أهل ذلك المنزل منهم شرا ثم إنه
أوى ليلة إلى امرأة من بني إسرائيل، لها ابن يقال له اليسع بن أخطوب، به ضر، فآوته
وأخفت أمره، فدعا إلياس لابنها فعوفي من الضر الذي كان به، واتبع اليسع فآمن به
وصدقه ولزمه، فكان يذهب معه حيثما ذهب، وكان إلياس قد أسن وكبر، وكان اليسع غلاما
شابا فيزعمون- والله أعلم- أن الله أوحى إلى إلياس أنك قد أهلكت كثيرا من الخلق
ممن لم يعص، سوى بني إسرائيل ممن لم أكن أريد هلاكه بخطايا
(1/462)
بني إسرائيل من البهائم
والدواب والطير والهوام والشجر، بحبس المطر عن بني إسرائيل فيزعمون- والله أعلم-
أن إلياس قَالَ: أي رب، دعني أكن أنا الذي أدعو لهم به، وأكن أنا الذي آتيهم
بالفرج مما هم فيه من البلاء الذي أصابهم، لعلهم أن يرجعوا وينزعوا عما هم عليه من
عبادة غيرك قيل له نعم، فجاء إلياس إلى بني إسرائيل، فقال لهم: إنكم قد هلكتم
جهدا، وهلكت البهائم والدواب والطير والهوام والشجر بخطاياكم، وإنكم على باطل
وغرور- أو كما قَالَ لهم- فإن كنتم تحبون أن تعلموا ذلك وتعلموا أن الله عليكم
ساخط فيما أنتم عليه، وأن الذي أدعوكم إليه الحق، فاخرجوا بأصنامكم هذه التي
تعبدون وتزعمون أنها خير مما أدعوكم إليه، فإن استجابت لكم فذلك كما تقولون، وإن
هي لم تفعل علمتم أنكم على باطل فنزعتم، ودعوت الله ففرج عنكم ما أنتم فيه من
البلاء قَالُوا: أنصفت، فخرجوا بأوثانهم وما يتقربون به إلى الله من أحداثهم التي
لا يرضى، فدعوها فلم تستجب لهم، ولم تفرج عنهم ما كانوا فيه من البلاء، حتى عرفوا
ما هم فيه من الضلالة والباطل، - ثم قَالُوا لإلياس: يا إلياس، إنا قد هلكنا، فادع
الله لنا، فدعا لهم إلياس بالفرج مما هم فيه، وأن يسقوا، فخرجت سحابة مثل الترس
بإذن الله على ظهر البحر، وهم ينظرون، ثم ترامى إليه السحاب، ثم أدجنت، ثم أرسل
الله المطر فأغاثهم، فحييت بلادهم، وفرج عنهم ما كانوا فيه من البلاء، فلم ينزعوا
ولم يرجعوا وأقاموا على أخبث ما كانوا عليه فلما رأى ذلك إلياس من كفرهم دعا ربه
أن يقبضه إليه فيريحه منهم، فقيل له- فيما يزعمون: انظر يوم كذا وكذا فاخرج فيه
إلى بلد كذا وكذا، فما جاءك من شيء فاركبه ولا تهبه، فخرج إلياس، وخرج معه اليسع
بن أخطوب حتى إذا كان بالبلد الذي ذكر له في المكان الذي أمر به أقبل فرس من نار،
حتى وقف بين يديه فوثب عليه، فانطلق به فناداه اليسع: يا إلياس، يا إلياس، ما
تأمرني؟
فكان آخر عهدهم به، فكساه الله الريش وألبسه النور، وقطع عنه لذة
(1/463)
المطعم، والمشرب، وطار في
الملائكة، فكان إنسيا ملكيا أرضيا سمائيا.
ثم قام بعد إلياس بأمر بني إسرائيل- فيما حَدَّثَنَا ابن حميد، قال:
حَدَّثَنَا سلمة عن ابن إسحاق، قال: كما ذكر لي عن وهب بن منبه قَالَ:
ثم نبئ فيهم- يعني في بني إسرائيل- بعده يعني بعد إلياس- اليسع، فكان فيهم ما شاء
الله أن يكون، ثم قبضه الله إليه، وخلفت فيهم الخلوف، وعظمت فيهم الخطايا، وعندهم
التابوت يتوارثونه كابرا عن كابر، فيه السكينة وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون،
فكانوا لا يلقاهم عدو فيقدمون التابوت ويزحفون به معهم إلا هزم الله ذلك العدو.
والسكينة فيما ذكر ابن إسحاق عن وهب بن منبه عن بعض أهل العلم من بني إسرائيل رأس
هرة ميتة، فإذا صرخت في التابوت بصراخ هر أيقنوا بالنصر، وجاءهم الفتح.
ثم خلف فيهم ملك يقال له إيلاف، وكان الله قد بارك لهم في جبلهم من إيليا، لا
يدخله عليهم عدو، ولا يحتاجون معه إلى غيره، فكان أحدهم- فيما يذكرون- يجمع التراب
على الصخرة، ثم ينبذ فيه الحب، فيخرج الله له ما يأكل منه سنه وهو وعياله، ويكون
لأحدهم الزيتونة فيعتصر منها ما يأكل، هو وعياله سنة، فلما عظمت أحداثهم، وتركوا
عهد الله إليهم، نزل بهم عدو فخرجوا إليه وأخرجوا التابوت كما كانوا يخرجونه، ثم
زحفوا به فقوتلوا حتى استلب من أيديهم، فأتى ملكهم إيلاف، فأخبر أن التابوت قد أخذ
واستلب، فمالت عنقه فمات كمدا عليه، فمرج أمرهم بينهم واختلف ووطئهم عدوهم حتى
أصيب من أبنائهم ونسائهم، فمكثوا على اضطراب من أمرهم، واختلاف من أحوالهم يتمادون
أحيانا في غيهم وضلالهم، فسلط الله عليهم من ينتقم به منهم، ويراجعون التوبة
أحيانا فيكفيهم الله عند
(1/464)
ذلك شر من بغاهم سوءا، حتى بعث
الله فيهم طالوت ملكا، ورد عليهم تابوت الميثاق.
وكانت مدة ما بين وفاة يوشع بن نون- التي كان أمر بني إسرائيل في بعضها إلى القضاة
منهم والساسة، وفي بعضها إلى غيرهم ممن يقهرهم فيتملك عليهم من غيرهم إلى أن ثبت
الملك فيهم، ورجعت النبوه اليهم بشمويل بن بالي- أربعمائة سنة وستين سنة فكان أول
من سلط عليهم فيما قيل رجل من نسل لوط، يقال له: كوشان، فقهرهم وأذلهم ثماني سنين،
ثم تنقذهم من يده أخ لكالب الأصغر يقال له عتنيل بن قيس- فقام بأمرهم فيما قيل-
اربعين سنه، سلط عليهم ملك يقال له جعلون فملكهم ثماني عشرة سنة، ثم تنقذهم منه-
فيما قيل- رجل من سبط بنيامين يقال له أهود بن جيرا الأشل اليمنى، فقام بأمرهم
ثمانين سنة، ثم سلط عليهم ملك من الكنعانيين يقال له يافين، فملكهم عشرين سنة، ثم
تنقذهم- فيما قيل- امرأة نبية من أنبيائهم يقال لها دبورا فدبر أمرهم- فيما قيل-
رجل من قبلها يقال له باراق أربعين سنة، ثم سلط عليهم قوم من نسل لوط كانت منازلهم
في تخوم الحجاز فملكوهم سبع سنين، ثم تنقذهم منهم رجل من ولد نفثالي بن يعقوب يقال
له جدعون بن يواش، فدبر أمرهم أربعين سنة، ثم دبر أمرهم من بعد جدعون ابنه أبيملك
بن جدعون ثلاث سنين، ثم دبرهم من بعد ابيملك تولغ بن فوا بن خال أبيملك وقيل إنه
ابن عمه- ثلاثا وعشرين سنة، ثم دبر
(1/465)
أمرهم بعد تولغ رجل من بني إسرائيل يقال له: يائير اثنتين وعشرين سنة، ثم ملكهم بنو عمون، وهم قوم من أهل فلسطين ثماني عشرة سنة، ثم قام بأمرهم رجل منهم يقال له يفتح ست سنين، ثم دبرهم من بعده يجشون، وهو رجل من بني إسرائيل سبع سنين، ثم دبرهم بعده الون عشر سنين، ثم من بعده كيرون- ويسميه بعضهم عكرون- ثماني سنين، ثم قهرهم أهل فلسطين وملوكهم أربعين سنة، ثم وليهم شمسون وهو من بني إسرائيل عشرين سنة، ثم بقوا بغير رئيس ولا مدبر لأمرهم بعد شمسون- فيما قيل- عشر سنين، ثم دبر أمرهم بعد ذلك عالي الكاهن، وفي أيامه غلب أهل غزة وعسقلان على تابوت الميثاق، فلما مضى من وقت قيامه بامرهم اربعين سنه، بعث سمويل نبيا فدبر شمويل أمرهم- فيما ذكر- عشر سنين ثم سألوا شمويل حين نالهم بالذل والهوان بمعصيتهم ربهم أعداؤهم، أن يبعث لهم ملكا يجاهدون معه في سبيل الله، فقال لهم شمويل ما قد قص الله في كتابه العزيز
(1/466)
ذكر خبر شمويل بن بالي بن
علقمة بن يرخام بن اليهو ابن تهو بن صوف، وطالوت وجالوت
كان من خبر شمويل بن بالي أن بني إسرائيل لما طال عليهم البلاء، وأذلتهم الملوك من
غيرهم، ووطئت بلادهم، وقتلوا رجالهم، وسبوا ذراريهم، وغلبوهم على التابوت الذي فيه
السكينة والبقية مما ترك آل موسى وآل هارون، وبه كانوا ينصرون إذا لقوا العدو،
ورغبوا إلى الله عز وجل في أن يبعث لهم نبيا يقيم أمرهم.
فَحَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ الهمداني، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا
أسباط عن السدي، في خبر ذكره عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَأَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ- وَعَنْ مُرَّةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ- وَعَنْ ناس من اصحاب رسول الله ص:
كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ يُقَاتِلُونَ الْعَمَالِقَةَ، وَكَانَ مَلِكَ
الْعَمَالِقَةِ جَالُوتُ، وَأَنَّهُمْ ظَهَرُوا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ
فَضَرَبُوا عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةَ، وَأَخَذُوا تَوْرَاتَهُمْ، فَكَانَتْ بَنُو
إِسْرَائِيلَ يَسْأَلُونَ اللَّهَ أَنْ يَبْعَثَ لَهُمْ نَبِيًّا يُقَاتِلُونَ
مَعَهُ، وَكَانَ سِبْطُ النُّبُوَّةِ قَدْ هَلَكُوا، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ
إِلَّا امْرَأَةٌ حُبْلَى فَأَخَذُوهَا فَحَبَسُوهَا فِي بَيْتٍ، رَهْبَةً أَنْ
تَلِدَ جَارِيَةً فتبدله بِغُلَامٍ، لِمَا تَرَى مِنْ رَغْبَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ
فِي وَلَدِهَا، فَجَعَلَتِ الْمَرْأَةُ تَدْعُو اللَّهَ أَنْ يرزقها غلاما، فولدت
غلاما فسمته سمعون، تَقُولُ: اللَّهُ سَمِعَ دُعَائِيَ فَكَبُرَ الْغُلَامُ،
فَأَسْلَمَتْهُ يَتَعَلَّمُ التَّوْرَاةَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَكَفَّلَهُ
شَيْخٌ مِنْ عُلَمَائِهِمْ، وَتَبَنَّاهُ، فَلَمَّا بَلَغَ الْغُلَامُ أَنْ
يَبْعَثَهُ اللَّهُ نَبِيًّا، أَتَاهُ جِبْرِيلُ وَالْغُلَامُ نَائِمٌ الى جنب
الشيخ، وكان لا يامن عَلَيْهِ أَحَدًا غَيْرَهُ فَدَعَاهُ بِلَحْنِ الشَّيْخِ: يَا
شَمُوِيلُ، فَقَامَ الْغُلَامُ فَزِعًا إِلَى الشَّيْخِ، فَقَالَ: يا أبتاه،
(1/467)
دَعَوْتَنِي! فَكَرِهَ
الشَّيْخُ أَنْ يَقُولَ: لَا فَيُفْزَعَ الْغُلامُ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، ارْجِعْ
فَنَمْ، فَرَجَعَ الْغُلَامُ فَنَامَ ثُمَّ دَعَاهُ الثَّانِيَةَ فَلَبَّاهُ
الْغُلَامُ أَيْضًا، فَقَالَ: دَعَوْتَنِي! فَقَالَ ارْجِعْ فَنَمْ، فَإِنْ
دَعَوْتُكَ الثَّالِثَةَ فَلا تُجِبْنِي، فَلَمَّا كَانَتِ الثَّالِثَةَ ظهر له
جبرئيل ع فَقَالَ: اذْهَبْ إِلَى قَوْمِكَ فَبَلِّغْهُمْ رِسَالَةَ رَبِّكَ، فان
الله قد بعثك فِيهِمْ نَبِيًّا فَلَمَّا أَتَاهُمْ كَذَّبُوهُ وَقَالُوا:
اسْتَعْجَلْتَ بالنبوة ولم يألك وَقَالُوا: إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَابْعَثْ لَنَا
مَلِكًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، آيَةً مِنْ نُبُوَّتِكَ، قال لهم سمعون:
عَسَى إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا.
قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ الله وقد أخرجنا من ديارنا
وأبنائنا بِأَدَاءِ الْجِزْيَةِ، فَدَعَا اللَّهَ فَأُتِيَ بِعَصًا، تَكُونُ
مِقْدَارًا عَلَى طُولِ الرَّجُلِ الَّذِي يُبْعَثُ فِيهِمْ مَلِكًا، فَقَالَ:
إِنَّ صَاحِبَكُمْ يَكُونُ طُولُهُ طُولَ هَذِهِ الْعَصَا، فَقَاسُوا أَنْفُسَهُمْ
بِهَا، فَلَمْ يَكُونُوا مِثْلَهَا، وَكَانَ طَالُوتُ رَجُلًا سَقَّاءً يَسْتَقِي
عَلَى حِمَارٍ لَهُ، فَضَلَّ حِمَارَهُ، فَانْطَلَقَ يَطْلُبُهُ فِي الطَّرِيقِ،
فَلَمَّا رَأَوْهُ دَعَوْهُ فَقَاسُوهُ بِهَا فَكَانَ مِثْلَهَا، وَقَالَ لَهُمْ
نَبِيُّهُمْ: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً» قَالَ
الْقَوْمُ: مَا كُنْتَ قَطُّ أَكْذَبَ مِنْكَ السَّاعَةَ، وَنَحْنُ مِنْ سِبْطِ
الْمَمْلَكَةِ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ سِبْطِ الْمَمْلَكَةِ، وَلَمْ يُؤْتَ أَيْضًا
سَعَةً مِنَ الْمَالِ فَنَتَّبِعَهُ لِذَلِكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ: «إِنَّ اللَّهَ
اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ» ، فَقَالُوا:
فَإِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَأْتِنَا بِآيَةِ أَنَّ هَذَا مَلِكٌ، قَالَ: «إِنَّ
آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ
وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ» .
وَالسَّكِينَةُ طَسْتٌ مِنْ ذَهَبٍ يُغْسَلُ فِيهَا قُلُوبُ الأنبياء، أعطاها الله
مُوسَى، وَفِيهَا وَضَعَ الْأَلْوَاحَ، وَكَانَتِ الْأَلْوَاحُ- فِيمَا بَلَغَنَا-
مِنْ دُرٍّ وَيَاقُوتَ وَزَبَرْجَدٍ، وَأَمَّا الْبَقِيَّةُ فَإِنَّهَا عَصَا
مُوسَى وَرُضَاضَةُ الْأَلْوَاحِ، فَأَصْبَحَ التَّابُوتُ وَمَا فِيهِ فِي دَارِ
(1/468)
طالوت، فآمنوا بنبوة سمعون،
وَسَلَّمُوا الْمُلْكَ لِطَالُوتَ.
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج،
قال: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جَاءَتِ الْمَلائِكَةُ بِالتَّابُوتِ تَحْمِلُهُ
بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، وَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ حَتَّى وَضَعَتْهُ
عِنْدَ طَالُوتَ.
حَدَّثَنِي يونس، قَالَ: أخبرنا ابن وهب، قَالَ: قَالَ ابن زيد: نزلت الملائكة
بالتابوت نهارا ينظرون إليه عيانا، حتى وضعوه بين أظهرهم، قَالَ:
فأقروا غير راضين، وخرجوا ساخطين.
رجع الحديث إلى حديث السدي فخرجوا معه وهم ثمانون ألفا، وكان جالوت من اعظم الناس
واشدهم بأسا، يخرج يسير بين يدي الجند، ولا يجتمع إليه أصحابه حتى يهزم هو من لقي،
فلما خرجوا قَالَ لهم طالوت:
«إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي
وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي» وهو نهر فلسطين، فشربوا منه هيبة من
جالوت، فعبر معه منهم أربعة آلاف ورجع ستة وسبعون ألفا، فمن شرب منه عطش، ومن لم
يشرب منه إلا غرفة روي، فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه، فنظروا إلى جالوت رجعوا
أيضا وقالوا: «لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ
يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ» ، الذين يستيقنون «كَمْ مِنْ فِئَةٍ
قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ
الصَّابِرِينَ» فرجع عنه أيضا ثلاثة آلاف وستمائه وبضعه وثمانون، وخلص في ثلاثمائة
وتسعة عشر عدة أهل بدر حَدَّثَنِي المثنى، قال، حدثنا إسحاق بن الحجاج، قال: حدثنا
اسماعيل ابن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد بن معقل: أنه سمع وهب بن منبه يقول:
كان لعيلى الذي ربى شمويل ابنان شابان، أحدثا في القربان
(1/469)
شيئا لم يكن فيه كان مسوط
القربان الذي كانوا يسوطونه به كلابين، فما أخرجا كان للكاهن الذي يسوطه، فجعله
ابناه كلاليب، وكانا إذا جاءت النساء يصلين في القدس يتشبثان بهن فبينما أشمويل
نائم قبل البيت الذي كان ينام فيه عيلى إذ سمع صوتا يقول: أشمويل! فوثب إلى عيلى
فقال: لبيك، فقال: مالك دعوتني؟ قَالَ: لا! ارجع، فنم فنام، ثم سمع صوتا آخر يقول:
أشمويل! فوثب إلى عيلى أيضا، فقال: لبيك، ما لك دعوتني؟ فقال:
لم أفعل، ارجع فنم، فإن سمعت شيئا فقل: لبيك مكانك، مرني فافعل، فرجع فنام فسمع
صوتا أيضا يقول: أشمويل، فقال: لبيك، أنا هذا فمرني أفعل، قَالَ: انطلق إلى عيلى،
فقل له: منعه حب الولد من أن يزجر ابنيه أن يحدثا في قدسي وقرباني، وأن يعصياني،
فلأنزعن منه الكهانة ومن ولده، ولأهلكنه وإياهما، فلما أصبح سأله عيلى فأخبره،
ففزع لذلك فزعا شديدا، فسار إليهم عدو ممن حوله فأمر ابنيه أن يخرجا بالناس
ويقاتلا ذلك العدو، فخرجا وأخرجا معهم التابوت الذي فيه الألواح وعصا موسى
لينتصروا به فلما تهيئوا للقتال هم وعدوهم جعل عيلي يتوقع الخبر: ماذا صنعوا؟
فجاءه رجل يخبره وهو قاعد على كرسيه: أن ابنيك قد قتلا، وأن الناس قد انهزموا،
قَالَ: فما فعل التابوت؟ قَالَ: ذهب به العدو قال فشهق ووقع على قفاه من كرسيه
فمات، وذهب الذين سبوا التابوت حتى وضعوه في بيت آلهتهم، ولهم صنم يعبدونه، فوضعوه
تحت الصنم والصنم من فوقه، فأصبح من الغد الصنم تحته، وهو فوق الصنم، ثم أخذوه
فوضعوه فوقه، وسمروا قدميه في التابوت.
فأصبح من الغد قد قطعت يد الصنم ورجلاه، وأصبح ملقى تحت التابوت،.
فقال بعضهم لبعض: أليس قد علمتم أن إله بني إسرائيل لا يقوم له شيء! فأخرجوه من
بيت آلهتكم فأخرجوا التابوت فوضعوه في ناحية من قريتهم، فأخذ أهل تلك الناحية التي
وضعوا فيها التابوت وجع في أعناقهم، فقالوا:
ما هذا؟ فقالت لهم جارية كانت عندهم من سني بني إسرائيل: لا تزالون
(1/470)
ترون ما تكرهون! ما كان هذا
التابوت فيكم، فأخرجوه من قريتكم قَالُوا:
كذبت، قالت: إن آية ذلك أن تأتوا ببقرتين، لهما أولاد لم يوضع عليهما نير قط، ثم
تضعوا وراءهما العجل، ثم تضعوا التابوت على العجل وتسيروهما وتحبسوا أولادهما،
فإنهما تنطلقان به مذعنتين، حتى إذا خرجتا من أرضكم ووقعتا في أدنى أرض بني
إسرائيل كسرتا نيرهما، وأقبلتا إلى أولادهما، ففعلوا ذلك، فلما خرجتا من أرضهم،
ووقعتا في أدنى أرض بني إسرائيل، كسرتا نيرهما وأقبلتا إلى أولادهما، ووضعتاه في
خربة فيها حصاد من بني إسرائيل، ففزع إليه بنو إسرائيل، وأقبلوا إليه فجعل لا يدنو
منه أحد إلا مات، فقال لهم نبيهم اشمويل اعترضوا، فمن آنس من نفسه قوة فليدن منه،
فعرضوا عليه الناس، فلم يقدر أحد على أن يدنو منه، إلا رجلان من بني إسرائيل، أذن
لهما بأن يحملاه إلى بيت أمهما، وهي أرملة، فكان في بيت أمهما، حتى ملك طالوت،
فصلح أمر بني إسرائيل مع أشمويل فقالت بنو إسرائيل: لأشمويل: ابعث لنا ملكا يقاتل
في سبيل الله، قَالَ: قد كفاكم الله القتال، قَالُوا إنا نتخوف من حولنا، فيكون
لنا ملك نفزع إليه، فأوحى الله إلى أشمويل: أن ابعث لهم طالوت ملكا وادهنه بدهن
القدس، فضلت حمر لأبي طالوت، فأرسله وغلاما له يطلبانها فجاءا إلى أشمويل يسألانه
عنها، فقال إن الله قد بعثك ملكا على بني إسرائيل، قَالَ: انا! قال: نعم، قال اوما
علمت أن سبطي أدنى أسباط بني إسرائيل! قَالَ: بلى، قَالَ أفما علمت أن قبيلتي أدنى
قبائل سبطي! قَالَ: بلى، قَالَ: أما علمت أن بيتي أدنى بيوت قبيلتي؟ قَالَ: بلى،
قَالَ: فبأية آية؟
قَالَ: بآية أنك ترجع وقد وجد أبوك حمره، وإذا كنت في مكان كذا وكذا نزل عليك
الوحي فدهنه بدهن القدس، وقال لبني إسرائيل: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ
طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُ
(1/471)
بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ» رجع الحديث إلى حديث السدي «وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً» فعبر يومئذ أبو داود فيمن عبر في ثلاثة عشر ابنا له، وكان داود أصغر بنيه وإنه أتاه ذات يوم فقال: يا أبتاه، ما أرمي بقذافتي شيئا إلا صرعته، قَالَ: أبشر يا بني، إن الله قد جعل رزقك في قذافتك، ثم أتاه مرة أخرى فقال: يا أبتاه لقد دخلت بين الجبال فوجدت أسدا رابضا فركبت عليه وأخذت بأذنيه فلم يهجني، فقال: أبشر يا بني، فإن هذا خير يعطيكه الله، ثم أتاه يوما آخر، فقال: يا أبتاه إني لأمشي بين الجبال فأسبح فلا يبقى جبل إلا سبح معي، فقال: أبشر يا بني، فإن هذا خير أعطاكه الله- وكان داود راعيا، وكان أبوه خلفه يأتي إلى أبيه وإلى اخوته بالطعام- فاتى النبي ع بقرن فيه دهن وتنور من حديد، فبعث به الى طالوت، قال: إن صاحبكم الذي يقتل جالوت يوضع هذا القرن على رأسه، فيغلي حتى يدهن منه ولا يسيل على وجهه، ويكون على رأسه كهيئة الإكليل، ويدخل في هذا التنور فيملأه فدعا طالوت بني إسرائيل، فجربهم به فلم يوافقه منهم أحد، فلما فرغوا قَالَ طالوت لأبي داود: هل بقي لك ولد لم يشهدنا؟ قَالَ: نعم، بقي ابني داود، وهو يأتينا بطعام، فلما أتاه داود مر في الطريق بثلاثة أحجار فكلمنه وقلن له: خذنا يا داود تقتل بنا جالوت، قَالَ: فأخذهن وجعلهن في مخلاته، وكان طالوت قد قَالَ: من قتل جالوت زوجته ابنتي، وأجريت خاتمه في ملكي، فلما جاء داود وضعوا القرن على رأسه، فغلى حتى ادهن منه ولبس التنور فملأه، وكان رجلا مسقاما مصفارا، ولم يلبسه أحد إلا تقلقل فيه، فلما لبسه داود تضايق التنور عليه حتى تنقض، ثم مشى إلى جالوت، وكان جالوت من أجسم الناس واشدهم،
(1/472)
فلما نظر إلى داود قذف في قلبه
الرعب منه، فقال له: يا فتى، ارجع فإني أرحمك أن أقتلك، فقال داود: لا بل أنا
أقتلك فأخرج الحجارة فوضعها في القذافة، كلما رفع منها حجرا سماه، فقال: هذا باسم
أبي إبراهيم، والثاني باسم أبي إسحاق، والثالث باسم أبي إسرائيل، ثم أدار القذافة
فعادت الأحجار حجرا واحدا، ثم أرسله فصك به بين عيني جالوت فنقبت رأسه، ثم قتلته،
فلم تزل تقتل كل إنسان تصيبه تنفذ فيه، حتى لم يكن بحيالها أحد، فهزموهم عند ذلك،
وقتل داود جالوت، ورجع طالوت فأنكح داود ابنته، وأجرى خاتمه في ملكه، فمال الناس
إلى داود وأحبوه.
فلما رأى ذلك طالوت وجد في نفسه وجسده، وأراد قتله، فعلم داود أنه يريده بذلك،
فسجى له زق خمر في مضجعه فدخل طالوت إلى منام داود وقد هرب داود، فضرب الزق ضربة
فخرقه، فسالت الخمر منه، فوقعت قطره من خمر في فيه، فقال: يرحم الله داود، ما كان
أكثر شربه للخمر! ثم إن داود أتاه من القابلة في بيته وهو نائم، فوضع سهمين عند
رأسه، وعند رجليه وعن يمينه وعن شماله سهمين سهمين، ثم نزل فلما استيقظ طالوت بصر
بالسهام فعرفها فقال: يرحم الله داود، هو خير، مني، ظفرت به فقتلته وظفر بي فكف
عني! ثم إنه ركب يوما فوجده يمشي في البرية، وطالوت على فرس، فقال طالوت: اليوم
أقتل داود- وكان داود إذا فزع لم يدرك- فركض على أثره طالوت، ففزع داود، فاشتد
فدخل غارا، فأوحى الله إلى العنكبوت فضربت عليه بيتا، فلما انتهى طالوت إلى الغار
نظر إلى بناء العنكبوت، فقال: لو كان دخل هاهنا لخرق بيت العنكبوت، فخيل إليه
فتركه.
وطعن العلماء على طالوت في شأن داود، فجعل طالوت لا ينهاه أحد عن داود إلا قتله،
وأغراه الله بالعلماء يقتلهم، فلم يكن يقدر في بني إسرائيل على عالم يطيق قتله إلا
قتله، حتى أتي بامرأة تعلم اسم الله الأعظم، فامر الخباز ان يقتلها،
(1/473)
فرحمها الخباز، وقال: لعلنا
نحتاج إلى عالم فتركها، فوقع في قلب طالوت التوبة وندم، وأقبل على البكاء حتى رحمه
الناس، وكان كل ليلة يخرج إلى القبور فيبكي، وينادي: أنشد الله عبدا علم أن لي
توبة إلا أخبرني بها! فلما أكثر عليهم ليالي ناداه مناد من القبور: أن يا طالوت،
أما ترضى أن قتلتنا أحياء حتى تؤذينا أمواتا! فازداد بكاء وحزنا، فرحمه الخباز
فكلمه فقال: مالك؟ فقال: هل تعلم لي في الأرض عالما أسأله: هل لي من توبة؟
فقال له الخباز: هل تدري ما مثلك؟ إنما مثلك مثل ملك نزل قرية عشاء فصاح الديك،
فتطير منه فقال: لا تتركوا في القرية ديكا إلا ذبحتموه، فلما أراد أن ينام قَالَ:
إذا صاح الديك فأيقظونا حتى ندلج، فقالوا له: وهل تركت ديكا يسمع صوته! ولكن هل
تركت عالما في الأرض! فازداد حزنا وبكاء، فلما راى الخباز منه الجد، قَالَ: أرأيتك
إن دللتك على عالم لعلك أن تقتله! قَالَ: لا، فتوثق عليه الخباز، فاخبره ان المرأة
العالمه عنده، قال:
انطلق بي إليها أسألها هل لي من توبة؟ وكان إنما يعلم ذلك الاسم أهل بيت، إذا فنيت
رجالهم علمت النساء، فقال: إنها إن رأتك غشي عليها، وفزعت منك، فلما بلغ الباب
خلفه خلفه، ثم دخل عليها الخباز، فقال لها: ألست أعظم الناس منة عليك؟ أنجيتك من
القتل، وآويتك عندي قالت: بلى، قَالَ: فإن لي إليك حاجة، هذا طالوت يسألك: هل له
من توبة؟ فغشي عليها من الفرق، فقال لها: إنه لا يريد قتلك، ولكن يسألك: هل له من
توبة؟
قالت: لا، والله ما أعلم لطالوت توبة، ولكن هل تعلمون مكان قبر نبي؟
قَالُوا: نعم، هذا قبر يوشع بن نون، فانطلقت وهما معها إليه، فدعت، فخرج يوشع بن
نون ينفض رأسه من التراب، فلما نظر إليهم ثلاثتهم قَالَ: ما لكم؟
أقامت القيامة؟ قالت: لا، ولكن طالوت يسألك: هل له من توبة؟ قَالَ يوشع: ما أعلم
لطالوت من توبة إلا أن يتخلى من ملكه، ويخرج هو وولده فيقاتلون بين يديه في سبيل
الله، حتى إذا قتلوا شد هو فقتل، فعسى أن يكون
(1/474)
ذلك له توبة، ثم سقط ميتا في
القبر.
ورجع طالوت أحزن ما كان، رهبة ألا يتابعه ولده، فبكى حتى سقطت أشفار عينيه، ونحل
جسمه، فدخل عليه بنوه وهم ثلاثة عشر رجلا فكلموه وسألوه عن حاله، فأخبرهم خبره،
وما قيل له في توبته، فسألهم أن يغزوا معه، فجهزهم فخرجوا معه، فشدوا بين يديه حتى
قتلوا، ثم شد بعدهم هو فقتل، وملك داود بعد ذلك، وجعله الله نبيا، فذلك قوله عز
وجل:
«وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ» ، قيل: هي النبوة، آتاه نبوة شمعون
وملك طالوت.
واسم طالوت بالسريانية شاول بن قيس بن أبيال بن ضرار بن بحرت بن أفيح بن أيش بن
بنيامين بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.
وقال ابن إسحاق: كان النبي الذي بعث لطالوت من قبره حتى أخبره بتوبته اليسع بن
أخطوب، حَدَّثَنَا بذلك ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابْنِ إِسْحَاقَ.
وزعم أهل التوراة أن مدة ملك طالوت من أولها إلى أن قتل في الحرب مع ولده كانت
أربعين سنة
(1/475)
ذكر خبر داود بن إيشى بن عويد
بن باعز بن سلمون بن نحشون بن عمي نادب بن رام بن حصرون بن فارص بن يهوذا بن يعقوب
بن إسحاق بن ابراهيم
وكان داود ع- فيما حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة عن ابن إسحاق، عن
بعض أهل العلم، عن وهب بن منبه- قصيرا أزرق قليل الشعر، طاهر القلب نقيه.
حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابن وهب، قال:
حَدَّثَنِي ابن زيد في قول الله: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ
دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ» إلى قوله: «وَاللَّهُ عَلِيمٌ
بِالظَّالِمِينَ» قَالَ: أوحى الله إلى نبيهم أن في ولد فلان رجلا يقتل الله به
جالوت، ومن علامته هذا القرن يضعه على رأسه فيفيض ماء، فأتاه فقال: إن الله عز وجل
أوحى إلي أن في ولدك رجلا يقتل الله به جالوت فقال: نعم يا نبي الله، قَالَ: فأخرج
له اثني عشر رجلا امثال السواري، وفيهم رجل بارع عليهم، فجعل يعرضهم على القرن فلا
يرى شيئا، فيقول لذلك الجسيم: ارجع، فيردده عليه، فأوحى الله إليه:
إنا لا نأخذ الرجال على صورهم، ولكنا نأخذهم على صلاح قلوبهم، قَالَ: يا رب، قد
زعم أنه ليس له ولد غيره، فقال: كذب، فقال: إن ربي قد كذبك، وقال: إن لك ولدا
غيرهم قَالَ: قد صدق يا نبي الله، إن لي ولدا قصيرا استحييت أن يراه الناس فجعلته
في الغنم، قَالَ: فأين هو؟ قَالَ: في شعب كذا وكذا، من جبل كذا وكذا، فخرج إليه
فوجد الوادي قد سال بينه وبين البقعة التي كان يريح إليها قَالَ: ووجده يحمل شاتين
شاتين، يجيز بهما السيل ولا يخوض بهما السيل فلما رآه قَالَ: هذا هو، لا شك فيه، هذا
(1/476)
يرحم البهائم، فهو بالناس
أرحم! قَالَ: فوضع القرن على رأسه ففاض.
حَدَّثَنِي المثنى، قَالَ: حَدَّثَنَا إسحاق، قَالَ، حَدَّثَنَا إسماعيل بن عبد
الكريم، قال: حدثني عبد الصمد بن معقل، عن وهب بن منبه قَالَ:
لما سلمت بنو إسرائيل الملك لطالوت، أوحى الله إلى نبي بني إسرائيل: أن قل لطالوت:
فليغز أهل مدين، فلا يترك فيها حيا إلا قتله، فإني سأظهره عليهم، فخرج بالناس حتى
أتى مدين، فقتل من كان فيها، إلا ملكهم فإنه أسره، وساق مواشيهم، فأوحى الله إلى
أشمويل: ألا تعجب من طالوت إذ أمرته بأمري فاختل فيه، فجاء بملكهم أسيرا، وساق
مواشيهم! فالقه فقل له: لأنزعن الملك من بيته، ثم لا يعود فيه إلى يوم القيامة،
فإني إنما أكرم من أطاعني، وأهين من هان عليه أمري.
فلقيه فقال له: ما صنعت! لم جئت بملكهم أسيرا، ولم سقت مواشيهم؟
قَالَ: إنما سقت المواشي لأقربها، قَالَ له أشمويل: إن الله قد نزع من بيتك الملك
ثم لا يعود فيه إلى يوم القيامة، فأوحى الله إلى أشمويل: انطلق إلى إيشى فيعرض
عليك بنيه، فادهن الذي آمرك بدهن القدس، يكن ملكا على بني إسرائيل فانطلق حتى أتى
إيشى، فقال: اعرض علي بنيك، فدعا إيشى أكبر ولده، فأقبل رجل جسيم حسن المنظر، فلما
نظر إليه أشمويل أعجبه، فقال: الحمد لله، إن الله بصير بالعباد! فأوحى الله إليه:
إن عينيك تبصران ما ظهر، وإني أطلع على ما في القلوب، ليس بهذا! فقال: ليس بهذا،
اعرض علي غيره فعرض عليه ستة، في كل ذلك يقول:
ليس بهذا، اعرض علي غيره، فقال: هل لك من ولد غيرهم؟ فقال:
بلى، لي غلام أمغر وهو راع في الغنم قَالَ: أرسل إليه، فلما أن جاء داود، جاء غلام
أمغر، فدهنه بدهن القدس، وقال لأبيه: اكتم هذا،
(1/477)
فإن طالوت لو يطلع عليه قتله
فسار جالوت في قومه إلى بني إسرائيل فعسكر، وسار طالوت ببني إسرائيل وعسكر،
وتهيئوا للقتال، فأرسل جالوت إلى طالوت:
لم يقتل قومي وقومك؟ ابرز لي، أو أبرز لي من شئت، فإن قتلتك كان الملك لي، وإن
قتلتني كان الملك لك فأرسل طالوت في عسكره صائحا:
من يبرز جالوت! ثم ذكر قصة طالوت وجالوت وقتل داود إياه، وما كان من طالوت إلى
داود.
قَالَ أبو جعفر: وفي هذا الخبر بيان أن داود قد كان الله حول الملك له قبل قتله
جالوت، وقبل أن يكون من طالوت إليه ما كان من محاولته قتله، وأما سائر من روينا
عنه قولا في ذلك، فإنهم قَالُوا: إنما ملك داود بعد ما قتل طالوت وولده.
وقد حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال، حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إِسْحَاقَ- فيما ذكر
لي بعض أهل العلم- عن وهب بن منبه قَالَ: لما قتل داود جالوت، وانهزم جنده قَالَ
الناس: قتل داود جالوت وخلع طالوت، وأقبل الناس على داود مكانه حتى لم يسمع لطالوت
بذكر.
قَالَ: ولما اجتمعت بنو إسرائيل على داود أنزل الله عليه الزبور، وعلمه صنعة
الحديد، وألانه له، وأمر الجبال والطير أن يسبحن معه إذا سبح، ولم يعط الله- فيما
يذكرون- أحدا من خلقه مثل صوته، كان إذا قرأ الزبور- فيما يذكرون- ترنو له الوحوش
حتى يؤخذ بأعناقها، وإنها لمصيخة تسمع لصوته، وما صنعت الشياطين المزامير والبرابط
والصنوج إلا على أصناف صوته، وكان شديد الاجتهاد، دائب العبادة، كثير البكاء، وكان
كما وصفه الله عز وجل لنبيه محمد ع فقال: «وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ
(1/478)
ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ
أَوَّابٌ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ
وَالْإِشْراقِ» ، يعني بذلك ذا القوة.
وقد حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قال: حدثنا سعيد،
عن قتادة: «وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ» ، قَالَ:
أعطي قوة في العبادة، وفقها في الاسلام وقد ذكر لنا ان داود ع كان يقوم الليل
ويصوم نصف الدهر وكان يحرسه- فيما ذكر- في كل يوم وليلة أربعة آلاف.
حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ
الْمُفَضَّلِ، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، في قوله: «وَشَدَدْنا مُلْكَهُ» ، قَالَ:
كان يحرسه كل يوم وليلة أربعة آلاف.
وذكر أنه تمنى يوما من الأيام على ربه منزلة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وسأله
أن يمتحنه بنحو الذي كان امتحنهم، ويعطيه من الفضل نحو الذي كان أعطاهم.
فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بن المفضل،
قَالَ:
حَدَّثَنَا أسباط، قَالَ: قَالَ السدي: كان داود قد قسم الدهر ثلاثة أيام:
يوما يقضي فيه بين الناس، ويوما يخلو فيه لعبادة ربه، ويوما يخلو فيه لنسائه، وكان
له تسع وتسعون امرأة، وكان فيما يقرأ من الكتب أنه كان يجد فيه فضل إبراهيم وإسحاق
ويعقوب، فلما وجد ذلك فيما يقرأ من الكتب، قَالَ: يا رب أرى الخير كله قد ذهب به
آبائي الذين كانوا قبلي، فأعطني مثل ما أعطيتهم، وافعل بي مثل ما فعلت بهم قَالَ:
فأوحى الله إليه أن آباءك ابتلوا ببلايا لم تبتل بها، ابتلي إبراهيم بذبح ابنه،
وابتلي إسحاق بذهاب بصره، وابتلي يعقوب بحزنه على ابنه يوسف، وإنك لم تبتل من ذلك
بشيء قَالَ: يا رب ابتلني بمثل ما ابتليتهم به، وأعطني مثل ما اعطيتهم قال:
(1/479)
فأوحى إليه إنك مبتلى فاحترس
قَالَ: فمكث بعد ذلك ما شاء الله أن يمكث إذ جاءه الشيطان قد تمثل في صورة حمامة
من ذهب، حتى وقع عند رجليه وهو قائم يصلي، قَالَ: فمد يده ليأخذه فتنحى فتبعه،
فتباعد حتى وقع في كوة، فذهب ليأخذه، فطار من الكوة، فنظر: أين يقع فيبعث في أثره،
قَالَ: فأبصر امرأة تغتسل على سطح لها، فرأى امرأة من أجمل النساء خلقا، فحانت
منها التفاتة فأبصرته، فألقت شعرها فاستترت به، قَالَ: فزاده ذلك فيها رغبة،
قَالَ: فسأل عنها فأخبر أن لها زوجا، وأن زوجها غائب بمسلحة كذا وكذا، قَالَ: فبعث
إلى صاحب المسلحة يأمره أن يبعث أهريا إلى عدو كذا وكذا قَالَ: فبعثه ففتح له،
قَالَ: وكتب إليه بذلك، فكتب إليه أيضا: أن ابعثه إلى عدو كذا وكذا، أشد منهم
بأسا.
قَالَ: فبعثه ففتح له أيضا، قَالَ: فكتب إلى داود بذلك، قَالَ: فكتب إليه أن ابعثه
إلى عدو كذا وكذا قَالَ: فبعثه، قَالَ: فقتل المرة الثالثة، قَالَ: وتزوج داود
امرأته، فلما دخلت عليه لم تلبث عنده إلا يسيرا حتى بعث الله ملكين في صورة إنسيين
فطلبا أن يدخلا عليه، فوجداه في يوم عبادته، فمنعهما الحرس أن يدخلا عليه، فتسورا
عليه المحراب، قَالَ:
فما شعر وهو يصلي إذا هو بهما بين يديه جالسين، قَالَ: ففزع منهما، فقالا: لا تخف،
إنما نحن «خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا
تُشْطِطْ» يقول: لا تحف، «وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ» إلى عدل القضاء قَالَ:
قصا علي قصتكما، قَالَ: فقال أحدهما:
«إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ» .
فهو يريد أن يأخذ نعجتي، فيكمل بها نعاجه مائة، قَالَ: فقال للآخر:
(1/480)
ما تقول؟ فقال: إن لي تسعا
وتسعين نعجة، ولأخي هذا نعجة واحدة، فأنا أريد أن آخذها منه، فأكمل بها نعاجي
مائة، قَالَ: وهو كاره! قَالَ:
وهو كاره، قَالَ: إذا لا ندعك وذاك، قَالَ: ما أنت على ذلك بقادر! قَالَ: فإن ذهبت
تروم ذلك أو تريد ذلك، ضربنا منك هذا وهذا- وفسر أسباط طرف الأنف والجبهة- فقال:
يا داود، أنت أحق أن يضرب منك هذا وهذا، حيث لك تسع وتسعون امرأة، ولم يكن لاهريا
إلا امرأة واحدة فلم تزل به تعرضه للقتل حتى قتل، وتزوجت امرأته قَالَ: فنظر فلم
ير شيئا، قَالَ: فعرف ما قد وقع فيه، وما ابتلي به، قَالَ: فخر ساجدا فبكى، قَالَ:
فمكث يبكي ساجدا أربعين يوما لا يرفع رأسه إلا لحاجة لا بد منها، ثم يقع ساجدا
يبكي، ثم يدعو حتى نبت العشب من دموع عينيه، قَالَ: فأوحى الله عز وجل إليه بعد
اربعين يوما: يا داود، ارفع راسك فقد غفرت لك، فقال: يا رب، كيف أعلم أنك قد غفرت
لي وأنت حكم عدل لا تحيف في القضاء، إذا جاء اهريا يوم القيامة آخذا رأسه بيمينه
أو بشماله تشخب أوداجه دما في قبل عرشك: يقول: يا رب، سل هذا فيم قتلني! قَالَ:
فأوحى الله اليه: إذا كان ذلك دعوت اهريا فأستوهبك منه، فيهبك لي فأثيبه بذلك
الجنة قَالَ: رب الآن علمت أنك قد غفرت لي، قَالَ: فما استطاع أن يملأ عينيه من
السماء حياء من ربه حتى قبض حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْن سهل، قَالَ: حَدَّثَنَا
الْوَلِيد بن مسلم، عن عبد الرحمن ابن يزيد بن جابر، قَالَ: حَدَّثَنِي عطاء
الخراساني، قَالَ: نقش داود خطيئته في كفه لكيلا ينساها، فكان إذا رآها خفقت يده
واضطربت.
وقد قيل: إن سبب المحنة بما امتحن به، أن نفسه حدثته أنه يطيق قطع يوم من الأيام
بغير مقارفة سوء، فكان اليوم الذي عرض له فيه ما عرض، اليوم الذي ظن أنه يقطعه
بغير اقتراف سوء
(1/481)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ:
حَدَّثَنَا بشر، قَالَ: حَدَّثَنَا يزيد، قَالَ: حَدَّثَنَا سعيد، عن مطر، عن
الحسن، أن داود جزأ الدهر أربعة أجزاء: يوما لنسائه، ويوما لعبادته، ويوما لقضاء
بني إسرائيل، ويوما لبني إسرائيل، يذاكرهم ويذاكرونه، ويبكيهم ويبكونه فلما كان
يوم بني إسرائيل، ذكروا فقالوا: هل يأتي على الإنسان يوم لا يصبب فيه ذنبا! فأضمر
داود في نفسه أنه سيطيق ذلك، فلما كان يوم عبادته غلق أبوابه، وأمر ألا يدخل عليه
أحد، وأكب على التوراة، فبينما هو يقرؤها إذا حمامة من ذهب، فيها من كل لون حسن،
قد وقعت بين يديه، فأهوى إليها ليأخذها، قَالَ: فطارت فوقعت غير بعيد، من غير أن
تؤيسه من نفسها، قَالَ: فما زال يتبعها حتى أشرف على امرأة تغتسل، فأعجبه خلقها
وحسنها، فلما رأت ظله في الأرض جللت نفسها بشعرها، فزاده ذلك أيضا إعجابا بها،
وكان قد بعث زوجها على بعض جيوشه، فكتب إليه أن يسير إلى مكان كذا وكذا مكان إذا
سار إليه لم يرجع قَالَ: ففعل فأصيب، فخطبها فتزوجها- قَالَ: وقال قتادة بلغنا
أنها أم سليمان- قَالَ: فبينما هو في المحراب إذ تسور الملكان عليه، وكان الخصمان
إذا أتوه يأتونه من باب المحراب، ففزع منهم حين تسوروا المحراب، فَقَالُوا: «لا
تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ» حتى بلغ «وَلا تُشْطِطْ» أي ولا تمل
«وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ» أي أعدله وخيره، «إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ
تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً» - وكان لداود تسع وتسعون امرأة- «وَلِيَ نَعْجَةٌ
واحِدَةٌ» قَالَ: وإنما كان للرجل امرأة واحدة «فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي
فِي الْخِطابِ» ، أي ظلمني وقهرني «قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى
نِعاجِهِ» - الى «وَظَنَّ داوُدُ» ، فعلم أنما أضمر له، أي عني بذلك، «ف خَرَّ
راكِعاً وَأَنابَ»
(1/482)
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ إدريس، قَالَ: سمعت ليثا يذكر عن مجاهد،
قَالَ: لما أصاب داود الخطيئة، خر لله ساجدا أربعين يوما، حتى نبت من دموع عينيه
من البقل ما غطى رأسه، ثم نادى: يا رب قرح الجبين، وجمدت العين! وداود لم يرجع
إليه في خطيئته شيء فنودي:
أجائع فتطعم؟ أم مريض فتشفى؟ أم مظلوم فينتصر لك! قَالَ: فنحب نحبة هاج كل شيء كان
نبت، فعند ذلك غفر له وكانت خطيئته مكتوبة بكفه يقرؤها، وكان يؤتى بالإناء ليشرب
فلا يشرب إلا ثلثه أو نصفه، وكان يذكر خطيئته فينتحب النحبه تكاد مفاصله يزول
بعضها عن بعض، ثم ما يتم شربه حتى يملأ الإناء من دموعه وكان يقال: إن دمعة داود تعدل
دمعة الخلائق، ودمعة آدم تعدل دمعة داود ودمعة الخلائق قَالَ: وهو يجيء يوم
القيامة خطيئته مكتوبة بكفه فيقول: رب ذنبي قدمني! قَالَ:
فيقدم فلا يأمن، فيقول: رب أخرني، قَالَ: فيؤخر فلا يأمن.
حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابن وَهْبٍ، قَالَ:
أَخْبَرَنِي ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي صَخْرٍ، عَنْ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ،
عَنْ أَنَسِ بْنِ مالك يقول:
[سمعت رسول الله ص يقول: ان داود النبي ع حين نظر الى المرأة فَأُهِمَّ، قَطَعَ
عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْثًا، فَأَوْصَى صَاحِبَ الْبَعْثِ، فَقَالَ: إِذَا
حَضَرَ الْعَدُوُّ فَقَرِّبْ فُلانًا بَيْنَ يَدَيِ التَّابُوتِ، وَكَانَ
التَّابُوتُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ يُسْتَنْصَرُ بِهِ مَنْ قَدِمَ بَيْنَ يَدَيِ
التَّابُوتِ لَمْ يَرْجِعْ حَتَّى يُقْتَلَ أَوْ يَنْهَزِمَ عَنْهُ الْجَيْشُ،
فَقُتِلَ زَوْجُ الْمَرْأَةِ، وَنَزَلَ الْمَلَكَانِ عَلَى دَاوُدَ يَقُصَّانِ
عَلَيْهِ قِصَّتَهُ، فَفَطِنَ دَاوُدُ فَسَجَدَ، فَمَكَثَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً
سَاجِدًا، حَتَّى نَبَتَ الزَّرْعُ مِنْ دُمُوعِهِ عَلَى رَأْسِهِ، وَأَكَلَتِ
الأَرْضُ مِنْ جَبِينِهِ، وَهُوَ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ-
(1/483)
فَلَمْ أُحْصِ مِنَ
الرَّقَاشِيِّ إِلا هَؤُلاءِ الْكَلِمَاتِ: رَبِّ زَلَّ دَاوُدُ زَلَّةً أَبْعَدَ
مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ! رَبِّ إِنْ لَمْ تَرْحَمْ ضَعْفَ
دَاوُدَ، وَتَغْفِرْ ذَنْبَهُ جَعَلْتَ ذَنْبَهُ حَدِيثًا فِي الخلوف من بعده
فجاءه جبرئيل مِنْ بَعْدِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَقَالَ:
يَا دَاوُدُ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ الْهَمَّ الَّذِي هَمَمْتَ بِهِ،
فَقَالَ دَاوُدُ: قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَغْفِرَ لِيَ
الْهَمَّ الَّذِي هَمَمْتُ بِهِ، وَقَدْ عَرَفْتُ أَنَّ اللَّهَ عَدْلٌ لا
يَمِيلُ، فَكَيْفَ بِفُلانٍ إِذَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَقَالَ: يَا رَبِّ
دَمِي الَّذِي عند داود! فقال جبرئيل: مَا سَأَلْتُ رَبَّكَ عَنْ ذَلِكَ، وَلَئِنْ
شِئْتَ لافعلن، قال: نعم، قال: فعرج جبرئيل وَسَجَدَ دَاوُدُ، فَمَكَثَ مَا شَاءَ
اللَّهُ ثُمَّ نَزَلَ، فَقَالَ: قَدْ سَأَلْتُ اللَّهَ يَا دَاوُدُ عَنِ الَّذِي
أَرْسَلْتَنِي فِيهِ فَقَالَ: قُلْ لَهُ: يَا دَاوُدُ، إِنَّ اللَّهَ
يَجْمَعُكُمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ: هَبْ لِي دَمَكَ الَّذِي عِنْدَ
دَاوُدَ، فَيَقُولُ: هُوَ لَكَ يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: فَإِنَّ لَكَ فِي الْجَنَّةِ
مَا شِئْتَ وَمَا اشْتَهَيْتَ عِوَضًا] .
وَيَزْعُمُ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنَّ دَاوُدَ لَمْ يَزَلْ قَائِمًا بِالْمُلْكِ
بَعْدَ طَالُوتَ إِلَى أَنْ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ وَأَمْرِ امْرَأَةِ أُورِيَا مَا
كَانَ، فَلَمَّا وَاقَعَ مَا وَاقَعَ مِنَ الْخَطِيئَةِ اشْتَغَلَ بِالتَّوْبَةِ
مِنْهَا- فِيمَا زَعَمُوا- وَاسْتَخَفَّ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَوَثَبَ
عَلَيْهِ ابْنٌ لَهُ يُقَالُ له ايشى، فَدَعَا إِلَى نَفْسِهِ فَاجْتَمَعَ
إِلَيْهِ أَهْلُ الزَّيْغِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، قَالُوا: فَلَمَّا تَابَ
اللَّهُ عَلَى دَاوُدَ ثَابَتْ إِلَيْهِ ثَائِبَةٌ مِنَ النَّاسِ، فَحَارَبَ
ابْنَهُ حَتَّى هَزَمَهُ، وَوَجَّهَ فِي طَلَبِهِ قَائِدًا مِنْ قُوَّادِهِ،
وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ أَنْ يَتَوَقَّى حَتْفَهُ، وَيَتَلَطَّفَ لأَسْرِهِ،
فَطَلَبَهُ الْقَائِدُ وَهُوَ مُنْهَزِمٌ، فَاضْطَرَّهُ إِلَى شَجَرَةٍ فَرَكَضَ
فِيهَا- وَكَانَ ذَا جُمَّةٍ- فَتَعَلَّقَ بَعْضُ أَغْصَانِ الشَّجَرَةِ
بِشَعْرِهِ فَحَبَسَهُ، وَلَحِقَهُ الْقَائِدُ فَقَتَلَهُ مُخَالِفًا لأَمْرِ
دَاوُدَ، فَحَزِنَ دَاوُدُ عَلَيْهِ حُزْنًا شَدِيدًا، وَتَنَكَّرَ لِلْقَائِدِ،
وَأَصَابَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي زَمَانِهِ طَاعُونٌ جَارِفٌ، فَخَرَجَ بِهِمْ إِلَى
مَوْضِعِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ يَدْعُونَ اللَّهَ وَيَسْأَلُونَهُ كَشْفَ ذَلِكَ
الْبَلاءِ عَنْهُمْ، فَاسْتُجِيبَ لَهُمْ، فَاتَّخَذُوا ذَلِكَ الْمَوْضِعَ
مَسْجِدًا، وَكَانَ ذَلِكَ- فِيمَا قِيلَ- لإِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً مَضَتْ مِنْ
مُلْكِهِ وَتُوُفِّيَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَتِمَّ بِنَاءَهُ، فَأَوْصَى
(1/484)
إِلَى سُلَيْمَانَ
بِاسْتِتْمَامِهِ، وَقَتْلِ الْقَائِدِ الَّذِي قَتَلَ أَخَاهُ، فَلَمَّا دَفَنَهُ
سُلَيْمَانُ نَفَّذَ لأَمْرِهِ فِي الْقَائِدِ وَقَتَلَهُ، وَاسْتَتَمَّ بِنَاءَ
الْمَسْجِدِ.
وَقِيلَ فِي بِنَاءِ دَاوُدَ ذَلِكَ الْمَسْجِدِ ما حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن سهل بن
عسكر، قَالَ: حَدَّثَنِي إسماعيل بن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد بن معقل:
أنه سمع وهب بن منبه يقول: إن داود أراد أن يعلم عدد بني إسرائيل كم هم؟
فبعث لذلك عرفاء ونقباء، وأمرهم أن يرفعوا إليه ما بلغ عددهم، فعتب الله عليه ذلك،
وقال: قد علمت أني وعدت إبراهيم أن أبارك فيه وفي ذريته حتى أجعلهم كعدد نجوم
السماء، وأجعلهم لا يحصى عددهم، فأردت أن تعلم عدد ما قلت: إنه لا يحصى عددهم،
فاختاروا بين أن أبتليكم بالجوع ثلاث سنين، أو أسلط عليكم العدو ثلاثة أشهر، أو
الموت ثلاثة أيام! فاستشار داود في ذلك بني إسرائيل فقالوا: ما لنا بالجوع ثلاث
سنين صبر، ولا بالعدو ثلاثة أشهر، فليس لهم بقية، فإن كان لا بد فالموت بيده لا
بيد غيره فذكر وهب بن منبه أنه مات منهم في ساعة من نهار ألوف كبيره، لا يدرى ما
عددهم، فلما رأى ذلك داود، شق عليه ما بلغه من كثرة الموت، فتبتل إلى الله ودعاه
فقال: يا رب، أنا آكل الحماض وبنو إسرائيل يضرسون! أنا طلبت ذلك فأمرت به بني
إسرائيل، فما كان من شيء فبي واعف عن بني إسرائيل فاستجاب الله له ورفع عنهم
الموت، فرأى داود الملائكة سالين سيوفهم يغمدونها، يرتقون في سلم من ذهب من الصخرة
إلى السماء، فقال داود: هذا مكان ينبغي أن يبنى فيه مسجد، فأراد داود أن يأخذ في
بنائه، فأوحى الله إليه أن هذا بيت مقدس، وإنك قد صبغت يديك في الدماء، فلست
ببانيه، ولكن ابن لك أملكه بعدك أسميه سليمان، أسلمه من الدماء.
فلما ملك سليمان بناءه وشرفه، وكان عمر داود- فيما وردت به الاخبار عن رسول الله
ص- مائة سنة.
وأما بعض أهل الكتب، فإنه زعم أن عمره كان سبعا وسبعين سنة، وأن مدة ملكه كانت
أربعين سنة
(1/485)
ذكر خبر سليمان بن داود ع
ثم ملك سليمان بن داود بعد أبيه داود أمر بني إسرائيل، وسخر الله له الجن والإنس
والطير والريح، وآتاه مع ذلك النبوة، وسأل ربه أن يؤتيه ملكا لا ينبغي لأحد من
بعده، فاستجاب الله له فاعطاه ذلك.
كان فيما حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن بعض
أهل العلم، عن وهب بن منبه: إذا خرج من بيته إلى مجلسه عكفت عليه الطير، وقام له
الإنس والجن، حتى يجلس على سريره، وكان- فيما يزعمون- أبيض جسيما وضيئا، كثير
الشعر يلبس من الثياب البياض، وكان أبوه في أيام ملكه بعد أن بلغ سليمان مبلغ
الرجال يشاوره- فيما ذكر- في أموره.
وكان من شأنه وشأن أبيه داود الحكم في الغنم التي نفشت في حرث القوم، الذين قص
الله في كتابه خبرهم وخبرهما فقال: «وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي
الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ
فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً» .
فَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ وَهَارُونُ بْنُ إِدْرِيسَ الْأَصَمُّ، قَالَا:
حَدَّثَنَا الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ مُرَّةَ،
عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ:
«وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ
الْقَوْمِ» ، قَالَ: كَرْمٌ قَدْ أَنْبَتَتْ عَنَاقِيدُهُ فَأَفْسَدَتْهُ، قَالَ:
فَقَضَى دَاوُدُ بِالْغَنَمِ لِصَاحِبِ الْكَرْمِ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ: غَيْرَ
هَذَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: تَدْفَعُ الْكَرْمَ إِلَى
صَاحِبِ الْغَنَمِ فَيَقُومُ عَلَيْهِ حَتَّى يَعُودَ كَمَا كَانَ، وَتَدْفَعُ
الْغَنَمِ إِلَى صَاحِبِ الْكَرْمِ فَيُصِيبُ مِنْهَا، حَتَّى إِذَا كَانَ
الْكَرْمُ كَمَا كَانَ، دَفَعْتَ الْكَرْمَ الى
(1/486)
صَاحِبِهِ، وَدَفَعْتَ
الْغَنَمِ إِلَى صَاحِبِهَا فَذَلِكَ قَوْلُهُ: «فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ»
وَكَانَ رَجُلًا غَزَّاءً لَا يَكَادُ يَقْعُدُ عَنِ الْغَزْوِ، وَكَانَ لَا
يَسْمَعُ بِمَلِكٍ فِي نَاحِيَةٍ مِنَ الْأَرْضِ إِلَّا أَتَاهُ حَتَّى يُذِلَّهُ
وكان فيما حَدَّثَنَا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ-
فيما يزعمون- إذا اراد الغز وامر بعسكره فضرب له بخشب، ثم نصب له على الخشب، ثم
حمل عليه الناس والدواب وآلة الحرب كلها، حتى إذا حمل معه ما يريد، أمر العاصف من
الريح فدخلت تحت ذلك الخشب، فاحتملته حتى إذا استقلت به أمر الرخاء فمر به شهرا في
روحته، وشهرا في غدوته إلى حيث أراد يقول الله عز وجل: «فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ
تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ» ، اى حيث اراد، وقال: «وَلِسُلَيْمانَ
الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ» .
قَالَ: وذكر لي أن منزلا بناحية دجلة مكتوب فيه: كتاب كتبه بعض أصحاب سليمان، إما
من الجن، وإما من الإنس: نحن نزلناه وما بيناه، ومبنيا وجدناه، غدونا من إصطخر
فقلناه، ونحن رائحون منه إن شاء الله، فبائتون بالشام.
قَالَ: وكان- فيما بلغني- لتمر بعسكره الريح، والرخاء تهوي به إلى ما أراد، وإنها
لتمر بالمزرعة فما تحركها.
وقد حَدَّثَنَا القاسم بن الحسن، قَالَ: حَدَّثَنِي الحسين، قَالَ: حَدَّثَنِي
حجاج، عن أبي معشر، عن محمد بن كعب القرظي، قَالَ: بلغنا أن سليمان كان عسكره مائة
فرسخ، خمسة وعشرون منها للإنس، وخمسة وعشرون للجن، وخمسة وعشرون للوحش، وخمسة
وعشرون للطير، وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب، فيها ثلاثمائة صريحه،
وسبعمائة سريه، فامر الريح العاصف
(1/487)
فرفعته وامر الرخاء فسيرته،
فأوحى الله إليه وهو يسير بين السماء والأرض:
إني قد زدت في ملكك، أنه لا يتكلم أحد من الخلائق إلا جاءت به الريح وأخبرتك.
حَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ، قَالَ: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن المنهال
بْنِ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قال: كان سليمان
ابن داود يوضع له ستمائه كُرْسِيٍّ، ثُمَّ يَجِيءُ أَشْرَافُ الْإِنْسِ
فَيَجْلِسُونَ مِمَّا يَلِيهِ، ثُمَّ يَجِيءُ أَشْرَافُ الْجِنِّ فَيَجْلِسُونَ
مِمَّا يَلِي الْإِنْسَ، قَالَ: ثُمَّ يَدْعُو الطَّيْرَ فَتُظِلُّهُمْ، ثُمَّ
يَدْعُو الرِّيحَ فَتَحْمِلُهُمْ، قَالَ: فَتَسِيرُ فِي الْغَدَاةِ الْوَاحِدَةِ
مَسِيرَةَ شَهْرٍ
(1/488)
ذكر ما انتهى إلينا من مغازي
سليمان ع
فمن ذلك غزوته التي راسل فيها بلقيس- وهي فيما يقول أهل الأنساب- يلمقة ابنة
اليشرح- ويقول بعضهم: ابنة إيلي شرح، ويقول بعضهم: ابنة ذي شرح- بن ذي جدن بن أيلي
شرح بن الحارث بن قيس بن صيفي بن سبا ابن يشجب بن يعرب بن قحطان ثم صارت إليه سلما
بغير حرب ولا قتال.
وكان سبب مراسلته إياها- فيما ذكر- أنه فقد الهدهد يوما في مسير كان يسيره، واحتاج
إلى الماء فلم يعلم من حضره بعده، وقيل له علم ذلك عند الهدهد، فسأل عن الهدهد فلم
يجده وقال بعضهم: بل إنما سأل سليمان عن الهدهد لإخلاله بالنبوة.
فكان من حديثه وحديث مسيره ذلك وحديث بلقيس، ما حدثنى العباس ابن الْوَلِيدِ
الآمُلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَطَاءُ
بْنُ السَّائِبِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُجَاهِدٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ
سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ إِذَا سَافَرَ أَوْ أَرَادَ سَفَرًا قَعَدَ عَلَى سَرِيرِهِ،
وَوُضِعَتِ الْكَرَاسِيُّ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَيَأْذَنُ لِلإِنْسِ، ثُمَّ
يَأْذَنُ لِلْجِنِّ عَلَيْهِ بَعْدَ الإِنْسِ، فَيَكُونُونَ خَلْفَ الْإِنْسِ،
ثُمَّ يَأْذَنُ لِلشَّيَاطِينِ بَعْدَ الْجِنِّ فَيَكُونُونَ خَلْفَ الْجِنِّ،
ثُمَّ يُرْسِلُ إِلَى الطَّيْرِ فَتُظِلُّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ، ثُمَّ يُرْسِلُ
إِلَى الرِّيحِ فَتَحْمِلُهُمْ وَهُوَ عَلَى سَرِيرِهِ، وَالنَّاسُ عَلَى
الْكَرَاسِيِّ فَتَسِيرُ بِهِمْ، غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شهر، رَخَاءً
حَيْثُ أَصَابَ، لَيْسَ بِالْعَاصِفِ وَلا اللَّيِّنِ، وَسَطًا بَيْنَ ذَلِكَ
فَبَيْنَمَا سُلَيْمَانُ يَسِيرُ- وَكَانَ سُلَيْمَانُ اخْتَارَ مِنْ كُلِّ طَيْرٍ
طَيْرًا، فَجَعَلَهُ رَأْسَ تِلْكَ الطَّيْرِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُسَائِلَ
شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الطَّيْرِ عَنْ شَيْءٍ سَأَلَ رَأْسَهَا- فَبَيْنَمَا سُلَيْمَانُ
يَسِيرُ إِذْ نَزَلَ مَفَازَةً فسال عن بعد الماء هاهنا، فَقَالَ الْإِنْسُ: لَا
نَدْرِي، فَسَأَلَ الْجِنَّ فَقَالُوا: لا تدرى، فَسَأَلَ الشَّيَاطِينَ،
فَقَالُوا: لا نَدْرِي فَغَضِبَ سُلَيْمَانُ فَقَالَ: لَا أَبْرَحُ حَتَّى
أَعْلَمَ كَمْ بُعْدُ مسافة الماء هاهنا! قَالَ: فَقَالَتْ لَهُ الشَّيَاطِينُ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا تَغْضَبْ، فَإِنْ يَكُ شَيْئًا يُعْلَمُ فَالْهُدْهُدُ
يَعْلَمُهُ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ: عَلَيَّ بِالْهُدْهُدِ، فَلَمْ يُوجَدْ، فغضب
(1/489)
سُلَيْمَانُ فَقَالَ: «مَا
لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً
شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ» ،
يَقُولُ: بِعُذْرٍ مُبِينٍ لِمَ غَابَ عَنْ مَسِيرِي هَذَا؟ وَكَانَ عِقَابُهُ
لِلطَّيْرِ أَنْ يَنْتِفَ رِيشَهُ وَيُشَمِّسَهُ فَلا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَطِيرَ،
وَيَكُونُ مِنْ هَوَامِ الْأَرْضِ إِنْ أَرَادَ ذَلِكَ، أَوْ يَذْبَحَهُ، فَكَانَ
ذَلِكَ عَذَابَهُ.
قَالَ: وَمَرَّ الْهُدْهُدُ عَلَى قَصْرِ بِلْقِيسَ، فَرَأَى بُسْتَانًا لَهَا
خَلْفَ قَصْرِهَا، فَمَالَ إِلَى الْخَضِرَةِ فَوَقَعَ عَلَيْهَا، فَإِذَا هُوَ
بِهُدْهُدٍ لَهَا فِي الْبُسْتَانِ، فَقَالَ هُدْهُدُ سُلَيْمَانَ:
اين أنت عن سليمان؟ وما تصنع هاهنا؟ قَالَ لَهُ هُدْهُدُ بِلْقِيسَ: وَمَنْ
سُلَيْمَانُ؟
فَقَالَ: بَعَثَ اللَّهُ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ سُلَيْمَانُ رَسُولًا، وَسَخَّرَ
لَهُ الرِّيحَ وَالْجِنَّ وَالْإِنْسَ وَالطَّيْرَ قَالَ: فَقَالَ لَهُ هُدْهُدُ
بِلْقِيسَ: أَيَّ شَيْءٍ تَقُولُ! قَالَ: أَقُولُ لَكَ مَا تَسْمَعُ، قَالَ: إِنَّ
هَذَا لَعَجَبٌ، وَأَعْجَبُ مِنْ ذَاكَ أَنَّ كَثْرَةَ هؤلاء القوم تملكهم امراه،
«أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ» ، جَعَلُوا الشُّكْرَ
لِلَّهِ أَنْ يَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ: وَذَكَرَ
الْهُدْهُدُ سُلَيْمَانَ فَنَهَضَ عَنْهُ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى الْعَسْكَرِ
تَلَقَتْهُ الطَّيْرُ وَقَالُوا: تَوَعَّدَكَ رَسُولُ اللَّهِ، فَأَخْبَرُوهُ
بِمَا قَالَ قَالَ: وَكَانَ عَذَابُ سُلَيْمَانَ لِلطَّيْرِ أَنْ يَنْتِفَ رِيشَهُ
وَيُشَمِّسَهُ فَلَا يَطِيرُ أَبَدًا، فَيَصِيرُ مِنْ هَوَامِ الْأَرْضِ، أَوْ
يَذْبَحَهُ فَلَا يَكُونُ لَهُ نسل ابدا قال: فقال الهدهد:
او ما اسْتَثْنَى رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالُوا: بَلْ قَالَ: أَوْ لَيَأْتِيَنِّي
بِعُذْرٍ مُبِينٍ، قَالَ:
فَلَمَّا أَتَى سُلَيْمَانُ، قَالَ: مَا غَيَّبَكَ عَنْ مَسِيرِي؟ قَالَ:
«أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ» حتى
بلغ «فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ» .
قَالَ: فَاعْتَلَّ لَهُ بِشَيْءٍ، وَأَخْبَرَهُ عَنْ بِلْقِيسَ وَقَوْمِهَا مَا
أَخْبَرَهُ الْهُدْهُدُ، فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ: قَدِ اعْتَلَلْتَ، «سَنَنْظُرُ
أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ
إِلَيْهِمْ» ، قَالَ: فَوَافَقَهَا وَهِيَ فِي قَصْرِهَا، فَأَلْقَى إِلَيْهَا
(1/490)
الْكِتَابَ فَسَقَطَ فِي
حِجْرِهَا أَنَّهُ كِتَابٌ كَرِيمٌ، وَأَشْفَقَتْ مِنْهُ، فَأَخَذَتْهُ وَأَلْقَتْ
عَلَيْهِ ثِيَابَهَا، وَأَمَرَتْ بِسَرِيرِهَا فَأُخْرِجَ، فَخَرَجَتْ فَقَعَدَتْ
عَلَيْهِ، وَنَادَتْ فِي قومها، فقالت لهم: «يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي
أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ»
وَلَمْ أَكُنْ لِأَقْطَعَ أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونَ، «قالُوا نَحْنُ أُولُوا
قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا
تَأْمُرِينَ» - الى- «وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ» ، فَإِنْ
قَبِلَهَا فَهَذَا مَلِكٌ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا وَأَنَا أَعَزُّ مِنْهُ وَأَقْوَى،
وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْهَا فَهَذَا شَيْءٌ مِنَ اللَّهِ.
فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ الْهَدِيَّةُ قَالَ لَهُمْ سُلَيْمَانُ:
«أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ» - إِلَى
قَوْلِهِ: «وَهُمْ صاغِرُونَ» ، يَقُولُ: وَهُمْ غَيْرُ مَحْمُودِينَ قَالَ:
بَعَثَتْ إِلَيْهِ بِخَرَزَةٍ غَيْرِ مَثْقُوبَةٍ، فَقَالَتِ: اثْقُبْ هَذِهِ،
قَالَ:
فَسَأَلَ سُلَيْمَانُ الْإِنْسَ فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ عِلْمُ ذَاكَ، ثُمَّ
سَأَلَ الْجِنَّ فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ عِلْمُ ذَاكَ، قَالَ: فَسَأَلَ
الشَّيَاطِينَ، فَقَالُوا: تُرْسِلُ إِلَى الْأَرَضَةِ، فَجَاءَتِ الْأَرَضَةُ
فَأَخَذَتْ شَعْرَةً فِي فِيهَا فَدَخَلَتْ فِيهَا فَنَقَبَتْهَا بَعْدَ حِينٍ،
فَلَمَّا رَجَعَ إِلَيْهَا رَسُولُهَا خَرَجَتْ فَزِعَةً فِي أَوَّلِ النَّهَارِ
مِنْ قَوْمِهَا وَتَبِعَهَا قَوْمُهَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَكَانَ مَعَهَا
أَلْفُ قَيْلٍ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَهْلُ الْيَمَنِ يُسَمُّونَ الْقَائِدَ قَيْلًا، مَعَ
كُلِّ قَيْلٍ عَشَرَةُ آلافٍ قَالَ العباس: قَالَ عَلِيٌّ: عَشَرَةُ آلافِ أَلْفٍ.
قَالَ الْعَبَّاسُ: قَالَ عَلِيٌّ: فَأَخْبَرَنَا حُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ، قال:
فاقبلت بلقيس الى سليمان ومعها ثلاثمائة قَيْلٍ وَاثْنَا عَشَرَ قَيْلًا، مَعَ
كُلِّ قَيْلٍ عَشَرَةُ آلافٍ.
قَالَ عَطَاءٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَكَانَ سُلَيْمَانُ رَجُلًا
مَهِيبًا لا يبتدأ بِشَيْءٍ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي يَسْأَلُ عَنْهُ،
فَخَرَجَ يَوْمَئِذٍ فَجَلَسَ عَلَى سَرِيرِهِ،
(1/491)
فَرَأَى رَهْجًا قَرِيبًا
مِنْهُ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: بِلْقِيسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ:
وَقَدْ نَزَلَتْ مِنَّا بِهَذَا الْمَكَانِ! قَالَ مُجَاهِدٌ: فَوَصَفَ لَنَا
ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَحَزَرْتُهُ مَا بَيْنَ الْكُوفَةِ وَالْحِيرَةِ قَدْرَ
فَرْسَخٍ، قَالَ: فَأَقْبَلَ عَلَى جُنُودِهِ فقال:
«أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قالَ
عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ»
الَّذِي أَنْتَ فِيهِ إِلَى الْحِينِ الَّذِي تَقُومُ إِلَى غَدَائِكَ قَالَ:
قَالَ سُلَيْمَانُ: مَنْ يَأْتِينِي بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ؟
«قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ
يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ» ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ سُلَيْمَانُ، فَلَمَّا قَطَعَ
كَلَامَهُ رَدَّ سُلَيْمَانُ بَصَرَهُ عَلَى الْعَرْشِ، فَرَأَى سَرِيرَهَا قَدْ
خَرَجَ وَنَبَعَ مِنْ تَحْتِ كُرْسِيِّهِ، «فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ
قالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ» إِذْ أَتَانِي بِهِ
قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيَّ طرفي «أَمْ أَكْفُرُ» إِذْ جَعَلَ مَنْ تَحْتَ
يَدَيَّ أَقْدَرَ عَلَى الْمَجِيءِ بِهِ مِنِّي قَالَ:
فَوَضَعُوا لَهَا عَرْشَهَا، قَالَ: فَلَمَّا جَاءَتْ قَعَدَتْ إِلَى سُلَيْمَانَ،
قِيلَ لها:
«أَهكَذا عَرْشُكِ» ؟ فنظرت اليه فقالت: «كَأَنَّهُ هُوَ» ! ثُمَّ قَالَتْ:
لَقَدْ تَرَكْتُهُ فِي حُصُونِي، وَتَرَكْتُ الْجُنُودَ مُحِيطَةً بِهِ، فَكَيْفَ
جِيءَ بِهَذَا يَا سُلَيْمَانُ! إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْ شَيْءٍ
فَأَخْبِرْنِيهِ، قَالَ: سَلِي، قَالَتْ: أَخْبِرْنِي عَنْ مَاءٍ رَوَاءٍ، لا مِنْ
سَمَاءٍ وَلا مِنْ أَرْضٍ- قَالَ: وَكَانَ إِذَا جَاءَ سُلَيْمَانَ شَيْءٌ لا
يَعْلَمُهُ بَدَأَ فَسَأَلَ الْإِنْسَ عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ عِنْدَ الْإِنْسِ
فِيهِ عِلْمٌ وَإِلَّا سَأَلَ الْجِنَّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْجِنِّ
عِلْمٌ بِهِ سَأَلَ الشَّيَاطِينَ- قَالَ: فَقَالَتْ لَهُ الشَّيَاطِينُ: مَا
أَهْوَنَ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ! مُرِ الْخَيْلَ فَلْتَجْرِ ثُمَّ تَمْلَأِ
الآنِيَةَ مِنْ عَرَقِهَا، فَقَالَ لَهَا سُلَيْمَانُ: عَرَقُ الْخَيْلِ، قَالَتْ:
صَدَقْتَ قَالَتْ: أَخْبِرْنِي عَنْ لَوْنِ الرَّبِّ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
فَوَثَبَ سُلَيْمَانُ عَنْ سَرِيرِهِ فَخَرَّ سَاجِدًا قال العباس: قال على:
فأخبرني عمر بْنُ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: صُعِقَ فَغُشِيَ عَلَيْهِ،
فَخَرَّ عَنْ سَرِيرِهِ.
ثُمَّ رَجَعَ، إِلَى حَدِيثِهِ قَالَ: فَقَامَتْ عَنْهُ، وَتَفَرَّقَتْ عَنْهُ
جُنُودُهُ، وجاءه
(1/492)
الرَّسُولُ فَقَالَ: يَا
سُلَيْمَانُ، يَقُولُ لَكَ رَبُّكَ: مَا شَأْنُكَ؟ قَالَ: سَأَلْتِنِي عَنْ أَمْرٍ
يُكَابِرُنِي- أَوْ يُكَابِدُنِي- أَنْ أُعِيدَهُ، قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ
يَأْمُرُكَ أَنْ تَعُودَ إِلَى سَرِيرِكَ فَتَقْعُدَ عَلَيْهِ، وَتُرْسِلَ
إِلَيْهَا وَإِلَى مَنْ حَضَرَهَا مِنْ جُنُودِهَا، وَتُرْسِلَ إِلَى جَمِيعِ
جُنُودِكَ الَّذِينَ حَضَرُوا فَيَدْخُلُوا عَلَيْكَ فَتَسْأَلَهَا وَتَسْأَلَهُمْ
عَمَّا سَأَلَتْكَ عَنْهُ قَالَ:
ففعل، فلما دخلوا عَلَيْهِ جَمِيعًا، قَالَ لَهَا: عَمَّ سَأَلْتِنِي؟ قَالَتْ:
سَأَلْتُكَ عَنْ مَاءٍ رَوَاءٍ، لا مِنْ سَمَاءٍ وَلا مِنْ أَرْضٍ، قَالَ: قُلْتُ
لَكِ: عَرَقُ الْخَيْلِ، قَالَتْ: صَدَقْتَ، قَالَ: وَعَنْ أَيِّ شَيْءٍ
سَأَلْتِنِي؟ قَالَتْ: مَا سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ غَيْرَ هَذَا قَالَ: قَالَ
لَهَا سُلَيْمَانُ، فَلِأَيِّ شَيْءٍ خَرَرْتُ عَنْ سَرِيرِي؟
قَالَتْ: قَدْ كَانَ ذَاكَ لِشَيْءٍ لَا أَدْرِي مَا هُوَ- قَالَ الْعَبَّاسُ:
قَالَ عَلِيٌّ: نُسِّيَتْهُ- قَالَ: فَسَأَلَ جُنُودَهَا فَقَالُوا مِثْلَ مَا
قَالَتْ، قَالَ: فَسَأَلَ جُنُودَهُ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالطَّيْرِ
وَكُلِّ شَيْءٍ كَانَ حَضَرَهُ مِنْ جُنُودِهِ، فَقَالُوا: مَا سَأَلَتْكَ يَا
رَسُولَ اللَّهِ إِلَّا عَنْ مَاءٍ رَوَاءٍ، قَالَ- وَقَدْ كَانَ قَالَ لَهُ
الرَّسُولُ: يَقُولُ اللَّهُ لَكَ: عُدْ إِلَى مَكَانِكَ فَإِنِّي قَدْ
كَفَيْتُكَهُمْ- قَالَ: وَقَالَ سُلَيْمَانُ: لِلشَّيَاطِينِ: ابْنُوا لِي صَرْحًا
تَدْخُلُ عَلَيَّ فِيهِ بِلْقِيسُ، قَالَ: فَرَجَعَ الشَّيَاطِينُ بَعْضُهُمْ
إِلَى بَعْضٍ، فَقَالُوا:
سُلَيْمَانُ رَسُولُ اللَّهِ قَدْ سَخَّرَ اللَّهُ لَهُ مَا سَخَّرَ، وَبِلْقِيسُ
مَلِكَةُ سَبَأَ يَنْكِحُهَا فَتَلِدُ لَهُ غُلَامًا، فَلا نَنْفَكُّ مِنَ
الْعُبُودِيَّةِ أَبَدًا.
قَالَ: وَكَانَتِ امْرَأَةً شَعْرَاءَ السَّاقَيْنِ، فَقَالَتِ الشَّيَاطِينُ:
ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا لِيَرَى ذَلِكَ مِنْهَا، فَلا يَتَزَوَّجُهَا، فَبَنَوْا
لَهُ صَرْحًا مِنْ قَوَارِيرَ أَخْضَرَ، وَجَعَلُوا لَهُ طَوَابِيقَ مِنْ
قَوَارِيرَ كَأَنَّهُ الْمَاءُ، وَجَعَلُوا فِي بَاطِنِ الطَّوَابِيقِ كُلَّ
شَيْءٍ يَكُونُ مِنَ الدَّوَابِّ فِي الْبَحْرِ مِنَ السَّمَكِ وَغَيْرِهِ، ثُمَّ
أَطْبَقُوهُ، ثُمَّ قَالُوا لِسُلَيْمَانَ: ادْخُلِ الصَّرْحَ، قَالَ: فَأُلْقِيَ
لِسُلَيْمَانَ كُرْسِيٌّ فِي أَقْصَى الصَّرْحِ، فَلَمَّا دَخَلَهُ وَرَأَى مَا
رَأَى أَتَى الْكُرْسِيَّ، فَقَعَدَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَدْخِلُوا عَلَيَّ
بِلْقِيسَ، فَقِيلَ لَهَا: ادْخُلِي الصَّرْحَ، فَلَمَّا ذَهَبَتْ تَدْخُلُهُ
رَأَتْ صُورَةَ السَّمَكِ وَمَا يَكُونُ فِي الْمَاءِ مِنَ الدَّوَابِّ،
فَحَسِبَتْهُ لُجَّةً حسبته ماء وكشفت عن ساقيها لِتَدْخُلَ، وَكَانَ شَعْرُ
سَاقَيْهَا مُلْتَوِيًا عَلَى سَاقَيْهَا، فَلَمَّا رَآهَا سُلَيْمَانُ،
نَادَاهَا- وَصَرَفَ بَصَرَهُ عَنْهَا: انه صرح ممرد من
(1/493)
قوارير، فالقت ثوبها فقالت:
«ِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ
الْعالَمِينَ
» قَالَ: فَدَعَا سُلَيْمَانُ الْإِنْسَ فَقَالَ: مَا أَقْبَحَ هَذَا! مَا
يُذْهِبُ هَذَا؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْمُوسَى قَالَ: الْمَوَاسِي
تَقْطَعُ سَاقَيِ الْمَرْأَةِ قَالَ: ثُمَّ دَعَا الْجِنَّ فَسَأَلَهُمْ
فَقَالُوا: لا نَدْرِي، ثُمَّ دَعَا الشَّيَاطِينَ فَقَالَ:
مَا يُذْهِبُ هذا؟ قالوا مثل ذلك: الموسى، فقال: الْمَوَاسِي تَقْطَعُ سَاقَيِ
الْمَرْأَةِ قَالَ: فَتَلَكَّئُوا عَلَيْهِ، ثُمَّ جَعَلُوا لَهُ النُّورَةَ-
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَإِنَّهُ لَأَوَّلُ يَوْمٍ رُئِيَتْ فِيهِ النُّورَةُ-
فَاسْتَنْكَحَهَا سُلَيْمَانُ.
حَدَّثَنَا ابن حميد: قَالَ، حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم، عن
وهب ابن منبه، قَالَ: لما رجعت الرسل إلى بلقيس بما قَالَ سليمان، قالت: قد والله
عرفت ما هذا بملك، وما لنا به من طاقة، وما نصنع بمكاثرته شيئا، وبعثت إليه أني
قادمة عليك بملوك قومي حتى أنظر ما أمرك، وما تدعو إليه من دينك ثم أمرت بسرير
ملكها الذي كانت تجلس عليه- وكان من ذهب مفصص بالياقوت والزبرجد واللؤلؤ- فجعل في
سبعة أبيات بعضها في بعض، ثم أقفلت على الأبواب، وكانت إنما تخدمها النساء، معها
ستمائه امرأة تخدمها ثم قالت لمن خلفت على سلطانها: احتفظ بما قبلك، وسرير ملكي
فلا يخلص إليه أحد ولا يرينه حتى آتيك ثم شخصت إلى سليمان في اثني عشر ألف قيل
معها من ملوك اليمن، تحت يد كل قيل منهم ألوف كثيرة، فجعل سليمان يبعث الجن
فيأتونه بمسيرها ومنتهاها كل يوم وليلة، حتى إذا دنت جمع من عنده من الجن والإنس
ممن تحت يديه، فقال: «يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها
قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ
» .
قَالَ: وأسلمت فحسن إسلامها قَالَ: فزعم أن سليمان قَالَ لها حين أسلمت وفرغ من
أمرها: اختاري رجلا من قومك أزوجكه، قالت: ومثلي يا نبي الله ينكح الرجال، وقد كان
لي في قومي من الملك والسلطان ما كان لي! قَالَ: نعم، إنه
(1/494)
لا يكون في الإسلام إلا ذلك،
ولا ينبغي لك أن تحرمي ما أحل الله لك، فقالت: زوجني إن كان لا بد ذا تبع ملك
همدان، فزوجه إياها، ثم ردها إلى اليمن، وسلط زوجها ذا تبع على اليمن، ودعا زوبعة
أمير جن اليمن فقال: اعمل لذى تبع ما استعملك لقومه قال: فصنع لذى تبع الصنائع
باليمن، ثم لم يزل بها ملكا يعمل له فيها ما أراد، حتى مات سليمان ابن داود ع.
فلما حال الحول وتبينت الجن موت سليمان أقبل رجل منهم، فسلك تهامة حتى إذا كان في
جوف اليمن صرخ بأعلى صوته: يا معشر الجن، إن الملك سليمان قد مات فارفعوا أيديكم
قَالَ: فعمدت الشياطين إلى حجرين عظيمين، فكتبوا فيهما كتابا بالمسند: نحن بنينا
سلحين، سبعة وسبعين خريفا دائبين، وبنينا صرواح ومراح وبينون برحاضه ايدين، وهنده
وهنيدة، وسبعة أمجلة بقاعة، وتلثوم بريدة، ولولا صارخ بتهامة، لتركنا بالبون إمارة
قَالَ: وسلحين وصرواح ومراح وبينون وهنده وهنيدة وتلثوم حصون كانت باليمن، عملتها
الشياطين لذى تبع، ثم رفعوا أيديهم، ثم انطلقوا، وانقضى ملك ذي تبع وملك بلقيس مع
ملك سليمان بن داود ع
(1/495)
ذكر غزوته أبا زوجته جرادة
وخبر الشيطان الذي أخذ خاتمه
حَدَّثَنَا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن بعض العلماء،
قَالَ: قَالَ وهب بن منبه: سمع سليمان بمدينة في جزيرة من جزائر البحر، يقال لها
صيدون، بها ملك عظيم السلطان لم يكن للناس اليه سبيل، لمكانه في البحر، وكان الله
قد آتى سليمان في ملكه سلطانا لا يمتنع منه شيء في بر ولا بحر، إنما يركب إليه إذا
ركب على الريح، فخرج إلى تلك المدينة تحمله الريح على ظهر الماء، حتى نزل بها
بجنوده من الجن والإنس، فقتل ملكها واستفاء ما فيها، وأصاب فيما أصاب ابنة لذلك
الملك لم ير مثلها حسنا وجمالا، فاصطفاها لنفسه، ودعاها إلى الإسلام فأسلمت على
جفاء منها وقلة ثقة، وأحبها حبا لم يحبه شيئا من نسائه، ووقعت نفسه عليها، فكانت
على منزلتها عنده لا يذهب حزنها، ولا يرقأ دمعها، فقال لها، لما رأى ما بها وهو يشق
عليه من ذلك ما يرى: ويحك، ما هذا الحزن الذي لا يذهب، والدمع الذي لا يرقأ! قالت:
إن أبي أذكره وأذكر ملكه وما كان فيه وما أصابه، فيحزنني ذلك، قَالَ: فقد ابد لك
الله به ملكا هو أعظم من ملكه، وسلطانا هو أعظم من سلطانه، وهداك للإسلام وهو خير
من ذلك كله، قالت: إن ذلك لكذلك، ولكني إذا ذكرته أصابني ما قد ترى من الحزن، فلو
أنك أمرت الشياطين، فصوروا صورة أبي في داري التي أنا فيها، أراها بكرة وعشيا
لرجوت أن يذهب ذلك حزني، وأن يسلي عني بعض ما أجد في نفسي، فأمر سليمان الشياطين،
فقال: مثلوا لها صوره أبيها في دارها حتى ما تنكر منه شيئا، فمثلوه لها حتى نظرت
إلى أبيها في نفسه،
(1/496)
إلا أنه لا روح فيه، فعمدت
إليه حين صنعوه لها فأزرته وقمصته وعممته وردته بمثل ثيابه التي كان يلبس، مثل ما
كان يكون فيه من هيئة، ثم كانت إذا خرج سليمان من دارها تغدو عليه في ولائدها حتى
تسجد له ويسجدن له، كما كانت تصنع به في ملكه، وتروح كل عشية بمثل ذلك، لا يعلم
سليمان بشيء من ذلك أربعين صباحا، وبلغ ذلك آصف بن برخيا- وكان صديقا، وكان لا يرد
عن أبواب سليمان أي ساعة أراد دخول شيء من بيوته دخل، حاضرا كان سليمان أو غائبا-
فأتاه فقال: يا نبي الله، كبرت سني، ودق عظمي، ونفد عمري، وقد حان منى ذهاب! وقد
أحببت أن أقوم مقاما قبل الموت أذكر فيه من مضى من أنبياء الله، وأثني عليهم بعلمي
فيهم، وأعلم الناس بعض ما كانوا يجهلون من كثير من أمورهم، فقال:
افعل، فجمع له سليمان الناس، فقام فيهم خطيبا، فذكر من مضى من أنبياء الله، فأثنى
على كل نبي بما فيه، وذكر ما فضله الله به، حتى انتهى الى سليمان وذكره، فقال: ما
كان احملك في صغرك، وأورعك في صغرك، وأفضلك في صغرك، وأحكم أمرك في صغرك، وأبعدك
من كل ما يكره في صغرك! ثم انصرف فوجد سليمان في نفسه حتى ملأه غضبا، فلما دخل سليمان
داره أرسل إليه، فقال: يا آصف، ذكرت من مضى من أنبياء الله فأثنيت عليهم خيرا في
كل زمانهم، وعلى كل حال من أمرهم، فلما ذكرتني جعلت تثني علي بخير في صغري، وسكت
عما سوى ذلك من أمري في كبري، فما الذي أحدثت في آخر أمري؟ قَالَ: إن غير الله
ليعبد في دارك منذ أربعين صباحا في هوى امرأة، فقال: في دارى! فقال: في دارك،
قَالَ:
إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! لقد عرفت أنك ما قلت إلا عن شيء
بلغك، ثم رجع سليمان إلى داره فكسر ذلك الصنم، وعاقب تلك المرأة وولائدها، ثم أمر
بثياب الطهرة فأتي بها، وهي ثياب لا يغزلها إلا الأبكار، ولا ينسجها الا
(1/497)
الأبكار، ولا يغسلها إلا
الأبكار، ولا تمسها امرأة قد رأت الدم، فلبسها ثم خرج إلى فلاة من الأرض وحده،
فأمر برماد ففرش له، ثم أقبل تائبا إلى الله حتى جلس على ذلك الرماد، فتمعك فيه
بثيابه تذللا لله جل وعز وتضرعا إليه، يبكي ويدعو ويستغفر مما كان في داره، ويقول
فيما يقول- فيما ذكر لي والله أعلم: رب ماذا ببلائك عند آل داود أن يعبدوا غيرك،
وأن يقروا في دورهم وأهاليهم عبادة غيرك! فلم يزل كذلك يومه حتى أمسى، يبكي إلى
الله ويتضرع إليه ويستغفره، ثم رجع إلى داره- وكانت أم ولد له يقال لها:
الأمينة، كان إذا دخل مذهبه، أو أراد إصابة امرأة من نسائه وضع خاتمه عندها حتى
يتطهر، وكان لا يمس خاتمه إلا وهو طاهر، وكان ملكه في خاتمه، فوضعه يوما من تلك
الأيام عندها كما كان يضعه ثم دخل مذهبه، وأتاها الشيطان صاحب البحر- وكان اسمه
صخرا- في صورة سليمان لا تنكر منه شيئا، فقال: خاتمي يا أمينة! فناولته إياه،
فجعله في يده، ثم خرج حتى جلس على سرير سليمان، وعكفت عليه الطير والجن والإنس،
وخرج سليمان فأتى الأمينة، وقد غيرت حالته وهيئته عند كل من رآه، فقال: يا أمينة،
خاتمي! فقالت: ومن أنت؟ قَالَ: أنا سليمان بن داود، فقالت: كذبت، لست بسليمان بن
داود، وقد جاء سليمان فأخذ خاتمه، وهو ذاك جالس على سريره في ملكه فعرف سليمان أن
خطيئته قد أدركته، فخرج فجعل يقف على الدار من دور بني إسرائيل، فيقول:
أنا سليمان بن داود، فيحثون عليه التراب ويسبونه، ويقولون: انظروا إلى هذا المجنون،
أي شيء يقول! يزعم أنه سليمان بن داود، فلما رأى سليمان ذلك عمد إلى البحر، فكان
ينقل الحيتان لأصحاب البحر إلى السوق، فيعطونه كل يوم سمكتين، فإذا أمسى باع إحدى
سمكتيه بأرغفة وشوى الأخرى، فأكلها، فمكث بذلك أربعين صباحا، عدة ما عبد ذلك الوثن
في داره،
(1/498)
فأنكر آصف بن برخيا وعظماء بني
إسرائيل حكم عدو الله الشيطان في تلك الأربعين صباحا، فقال آصف: يا معشر بني
إسرائيل، هل رأيتم من اختلاف حكم ابن داود ما رأيت! قَالُوا: نعم، قَالَ: أمهلوني
حتى أدخل على نسائه فأسألهن: هل أنكرن منه في خاصة أمره ما أنكرنا في عامة أمر
الناس وعلانيته؟ فدخل على نسائه فقال: ويحكن! هل أنكرتن من أمر ابن داود ما
أنكرنا؟ فقلن: اشده ما يدع امرأة منا في دمها، ولا يغتسل من جنابة، فقال: إِنَّا
لِلَّهِ وَإِنَّا اليه راجعون! ان هذا لهو البلاء المبين، ثم خرج إلى بني إسرائيل،
فقال ما في الخاصة أعظم مما في العامة، فلما مضى أربعون صباحا طار الشيطان عن
مجلسه، ثم مر بالبحر، فقذف الخاتم فيه، فبلعته سمكة، وبصر بعض الصيادين فأخذها وقد
عمل له سليمان صدر يومه ذلك، حتى إذا كان العشي أعطاه سمكتيه، فأعطى السمكة التي
أخذت الخاتم، ثم خرج سليمان بسمكتيه فيبيع التي ليس في بطنها الخاتم بالأرغفة، ثم
عمد إلى السمكة الأخرى فبقرها ليشويها فاستقبله خاتمه في جوفها، فأخذه فجعله في
يده ووقع ساجدا لله، وعكف عليه الطير والجن، وأقبل عليه الناس وعرف أن الذي دخل
عليه لما كان أحدث في داره، فرجع إلى ملكه، وأظهر التوبة من ذنبه، وأمر الشياطين
فقال: ائتوني به، فطلبته له الشياطين حتى أخذوه، فأتى به، فجاب له صخرة، فأدخله
فيها، ثم سد عليه بأخرى، ثم أوثقها بالحديد والرصاص، ثم أمر به فقذف في البحر.
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ
الْمُفَضَّلِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ في قوله: «وَلَقَدْ
فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً» ، قَالَ: الشيطان حين
جلس على كرسيه أربعين يوما، قال:
(1/499)
كان لسليمان مائة امرأة، وكانت
امرأة منهن يقال لها جرادة، وهي آثر نسائه عنده، وآمنهن عنده، وكان إذا أجنب أو
أتى حاجة نزع خاتمه، ولا يأتمن عليه أحدا من الناس غيرها، فجاءته يوما من الأيام
فقالت له: إن أخي بينه وبين فلان خصومة، وأنا أحب أن تقضي له إذا جاءك، فقال: نعم،
ولم يفعل، فابتلي فأعطاها خاتمه، ودخل المحرج فخرج الشيطان في صورته، فقال: هاتي
الخاتم، فأعطته، فجاء حتى جلس على مجلس سليمان، وخرج سليمان بعد فسألها أن تعطيه
خاتمه، فقالت: ألم تأخذه قبل؟ قَالَ: لا، وخرج من مكانه تائها، قَالَ: ومكث
الشيطان يحكم بين الناس أربعين يوما.
قَالَ: فأنكر الناس أحكامه، فاجتمع قراء بني إسرائيل وعلماؤهم، وجاءوا حتى دخلوا
على نسائه فقالوا: إنا قد أنكرنا هذا، فإن كان سليمان، فقد ذهب عقله، وأنكرنا
أحكامه! قَالَ: فبكى النساء عند ذلك، قَالَ: فأقبلوا يمشون حتى أتوه، فأحدقوا به
ثم نشروا فقرءوا التوراة، قَالَ: فطار من بين أيديهم حتى وقع على شرفة والخاتم معه،
ثم طار حتى ذهب إلى البحر، فوقع الخاتم منه في البحر، فابتلعه حوت من حيتان البحر،
قَالَ: وأقبل سليمان في حاله التي كان فيها حتى انتهى إلى صياد من صيادي البحر وهو
جائع، وقد اشتد جوعه، فاستطعمه من صيدهم، وقال: انى انا سليمان، فقام اليه بعضهم
فضربه بعضا فشجه، قَالَ: فجعل يغسل دمه وهو على شاطئ البحر، فلام الصيادون صاحبهم
الذي ضربه وقالوا: بئس ما صنعت حيث ضربته! قَالَ: انه زعم انه سليمان، قال: فأعطوه
سمكتين مما قد ضرب عندهم، فلم يشغله ما كان به من الضرب، حتى قام على شط البحر،
فشق بطونهما، وجعل يغسلهما، فوجد خاتمه في بطن إحداهما، فأخذه فلبسه، فرد الله
عليه بهاءه وملكه، وجاءت الطير حتى حامت عليه، فعرف القوم أنه سليمان، فقام القوم
يعتذرون مما صنعوا، فقال: ما أحمدكم على
(1/500)
عذركم، ولا ألومكم على ما كان
منكم، كان هذا الأمر لا بد منه.
قَالَ: فجاء حتى أتى ملكه، فأرسل إلى الشيطان فجيء به، وسخرت له الريح والشياطين
يومئذ، ولم تكن سخرت له قبل ذلك، وهو قوله:
«وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ
الْوَهَّابُ» .
وبعث إلى الشيطان فأتى به، فأمر به فجعل في صندوق من حديد، ثم أطبق عليه، وأقفل
عليه بقفل، وختم عليه بخاتمه، ثم أمر به فألقي في البحر، فهو فيه حتى تقوم الساعة،
وكان اسمه حبقيق.
قال ابو جعفر: ثم لبث سليمان بن داود في ملكه بعد أن رده الله إليه، تعمل له الجن
مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات، وغير ذلك من أعماله،
ويعذب من الشياطين من شاء، ويطلق من أحب منهم إطلاقه، حتى إذا دنا أجله، وأراد
الله قبضه إليه، كان من أمره- فيما بلغني- ما حَدَّثَنِي بِهِ أَحْمَدُ بْنُ
مَنْصُورٍ، قَالَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ مَسْعُودٍ أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ:
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ
سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، [عن النبي ص قَالَ: كَانَ
سُلَيْمَانُ نَبِيُّ اللَّهِ إِذَا صَلَّى رَأَى شَجَرَةً نَابِتَةً بَيْنَ
يَدَيْهِ، فَيَقُولُ لَهَا: ما اسمك؟ فيقول: كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ:
لِأَيِّ شَيْءٍ أَنْتِ؟ فَإِنْ كانت لغرس غرست، ان كَانَتْ لِدَوَاءٍ كُتِبَتْ،
فَبَيْنَمَا هُوَ يُصَلِّي ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ رَأَى شَجَرَةً بَيْنَ يَدَيْهِ،
فَقَالَ لَهَا: مَا اسْمُكِ؟ قَالَتِ:
الْخَرُّوبُ، قَالَ: لِأَيِّ شَيْءٍ أَنْتِ؟ قَالَتْ: لِخَرَابِ هَذَا الْبَيْتِ،
فَقَالَ سُلَيْمَانُ: اللَّهُمَّ عَمِّ عَلَى الْجِنِّ مَوْتِي حَتَّى يَعْلَمَ
الْإِنْسُ أَنَّ الْجِنَّ لَا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ، فَنَحَتَهَا عَصًا،
فَتَوَكَّأَ عَلَيْهَا حَوْلًا مَيِّتًا، وَالْجِنُّ تعمل، فأكلتها الأرضة فسقط، ف
تَبَيَّنَتِ الْإِنْسُ أَنَّ الْجِنَّ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما
لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ] .
قَالَ: وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَؤُهَا حَوْلًا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ
قَالَ: فَشَكَرَتِ الْجِنُّ الْأَرَضَةَ، فَكَانَتْ تأتيها بالماء
(1/501)
حدثني موسى بن هارون، قال:
حدثنا عمرو بْنُ حَمَّادٍ، عَنْ أَسْبَاطٍ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي حَدِيثٍ ذَكَرَهُ
عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَعَنْ أَبِي صالح، عن ابن عباس- وعن مرة الهمداني، عن ابن
مسعود- وعن ناس من أصحاب النبي ص قَالَ: كَانَ سُلَيْمَانُ يَتَجَرَّدُ فِي بَيْتِ
الْمَقْدِسِ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ، وَالشَّهْرَ وَالشَّهْرَيْنِ، وَأَقَلَّ
مِنْ ذَلِكَ وَأَكْثَرَ، يُدْخِلُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ، فَأَدْخَلَهُ فِي
الْمَرَّةِ الَّتِي مَاتَ فِيهَا، فَكَانَ بَدْءُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ
يَوْمٌ يُصْبِحُ فِيهِ إِلَّا نَبَتَتْ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ شَجَرَةٌ،
فَيَأْتِيهَا، فَيَسْأَلُهَا: مَا اسْمُكِ؟ فَتَقُولُ الشَّجَرَةُ:
اسْمِي كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ لَهَا: لِأَيِّ شَيْءٍ نَبَتِّ؟ فَتَقُولُ:
نَبَتُّ لِكَذَا وَكَذَا فَيَأْمُرُ بِهَا فَتُقْطَعُ، فَإِنْ كَانَتْ نَبَتَتْ
لِغَرْسٍ غَرَسَهَا، وَإِنْ كَانَتْ نَبَتَتْ دَوَاءً قَالَتْ:
نَبَتُّ دَوَاءً لِكَذَا وَكَذَا، فَيَجْعَلُهَا لِذَلِكَ، حَتَّى نَبَتَتْ
شَجَرَةٌ يُقَالُ لَهَا الْخَرُّوبَةُ فَسَأَلَهَا: مَا اسْمُكِ؟ قَالَتْ: أَنَا
الْخَرُّوبَةُ، قَالَ: وَلِأَيِّ شَيْءٍ نَبَتِّ؟ قَالَتْ:
نَبَتُّ لِخَرَابِ هَذَا الْمَسْجِدِ قَالَ سُلَيْمَانُ: مَا كَانَ اللَّهُ
لِيُخْرِبَهُ وَأَنَا حَيٌّ، أَنْتِ الَّتِي عَلَى وَجْهِكِ هَلَاكِي وَخَرَابُ
بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَنَزَعَهَا وَغَرَسَهَا فِي حَائِطٍ لَهُ، ثُمَّ دَخَلَ
الْمِحْرَابَ فَقَامَ يُصَلِّي مُتَّكِئًا عَلَى عَصَاهُ فَمَاتَ، وَلا تَعْلَمُ
بِهِ الشَّيَاطِينُ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ يَعْمَلُونَ لَهُ يَخَافُونَ أَنْ يَخْرُجَ
فَيُعَاقِبَهُمْ، وَكَانَتِ الشَّيَاطِينُ تَجْتَمِعُ حَوْلَ الْمِحْرَابِ،
وَكَانَ الْمِحْرَابُ لَهُ كُوًى بَيْنَ يَدَيْهِ وَخَلْفَهُ، فَكَانَ
الشَّيْطَانُ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَخْلَعَ يَقُولُ: أَلَسْت جَلِيدًا إِنْ
دَخَلْتُ فَخَرَجْتُ مِنْ ذَلِكَ الْجَانِبِ؟
فَيَدْخُلُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنَ الْجَانِبِ الآخِرِ، فَدَخَلَ شَيْطَانٌ مِنْ
أُولَئِكَ، فَمَرَّ- وَلَمْ يَكُنْ شَيْطَانٌ يَنْظُرُ إِلَى سُلَيْمَانَ فِي
الْمِحْرَابِ إِلَّا احْتَرَقَ- وَلَمْ يَسْمَعْ صَوْتَ سُلَيْمَانَ، ثُمَّ رَجَعَ
فَلَمْ يَسْمَعْ، ثُمَّ رَجَعَ فَلَمْ يَسْمَعْ ثُمَّ رَجَعَ فَوَقَفَ فِي
الْبَيْتِ فَلَمْ يَحْتَرِقْ، وَنَظَرَ إِلَى سُلَيْمَانَ قَدْ سَقَطَ مَيِّتًا،
فَخَرَجَ فَأَخْبَرَ النَّاسَ أَنَّ سُلَيْمَانَ قَدْ مَاتَ، فَفَتَحُوا عَنْهُ
فَأَخْرَجُوهُ، وَوَجَدُوا مِنْسَأَتَهُ- وَهِيَ الْعَصَا بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ-
قَدْ أَكَلَتْهَا الْأَرَضَةُ، وَلَمْ يَعْلَمُوا مُنْذُ كَمْ مَاتَ، فَوَضَعُوا
الْأَرَضَةَ عَلَى الْعَصَا، فَأَكَلَتْ مِنْهَا يَوْمًا وَلَيْلَةً، ثُمَّ
حَسَبُوا عَلَى ذَلِكَ النَّحْوِ فَوَجَدُوهُ قَدْ مَاتَ مُنْذُ سَنَةٍ، وَهِيَ
فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مسعود: فمكثوا يدينون لَهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ حَوْلًا
كَامِلًا، فَأَيْقَنَ النَّاسُ عِنْدَ ذَلِكَ أَنَّ الْجِنَّ كَانُوا
يَكْذِبُونَهُمْ، وَلَوْ أَنَّهُمْ عَلِمُوا الْغَيْبَ لَعَلِمُوا مَوْتَ
(1/502)
سُلَيْمَانَ، وَلَمْ
يَلْبَثُوا فِي الْعَذَابِ سَنَةً يَعْمَلُونَ لَهُ، وَذَاكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ:
«مَا دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ» - إِلَى قوله- «فِي
الْعَذابِ الْمُهِينِ» يَقُولُ: بُيِّنَ أَمْرُهُمْ لِلنَّاسِ أَنَّهُمْ كَانُوا
يَكْذِبُونَهُمْ ثُمَّ إِنَّ الشَّيَاطِينَ قَالُوا لِلْأَرَضَةِ:
لَوْ كُنْتِ تَأْكُلِينَ الطَّعَامَ أَتَيْنَاكِ بِأَطْيَبِ الطَّعَامِ، وَلَوْ كُنْتِ
تَشْرَبِينَ الشَّرَابَ سَقَيْنَاكِ أَطْيَبَ الشَّرَابِ، وَلَكِنَّا سَنَنْقُلُ
إِلَيْكِ الْمَاءَ وَالطِّينَ قَالَ: فَهُمْ يَنْقُلُونَ إِلَيْهَا ذَلِكَ حَيْثُ
كَانَتْ قَالَ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الطِّينِ الَّذِي يَكُونُ فِي جَوْفِ الْخَشَبِ
فَهُوَ مَا يَأْتِيهَا بِهِ الشَّيَاطِينُ شُكْرًا لَهَا! وَكَانَ جَمِيعُ عُمْرِ
سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ فِيمَا ذُكِرَ نَيِّفًا وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَفِي
سَنَةِ أَرْبَعٍ مِنْ مُلْكِهِ ابْتَدَأَ بِبِنَاءِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فِيمَا
ذُكِرَ
(1/503)
ذكر من ملك إقليم بابل والمشرق
من ملوك الفرس بعد كيقباذ
قَالَ أبو جعفر: ونرجع الآن إلى الخبر عمن ملك إقليم بابل والمشرق من ملوك الفرس
بعد كيقباذ.
وملك بعد كيقباذ بن زاغ بن يوجياه كيقاوس بن كيبية بن كيقباذ الملك.
فذكر أنه قَالَ يوم ملك: إن الله تعالى إنما خولنا الأرض وما فيها لنسعى فيها
بطاعته، وأنه قتل جماعة من عظماء البلاد التي حوله، وحمى بلاده ورعيته ممن حواليهم
من الأعداء أن يتناولوا منها شيئا، وأنه كان يسكن بلخ، وأنه ولد له ابن لم ير مثله
في عصره في جماله وكماله وتمام خلقه، فسماه سياوخش، وضمه إلى رستم الشديد بن دستان
بن نريمان بن جودنك ابن كرشاسب بن أثرط بن سهم بن نريمان.
وكان اصبهبذ سجستان وما يليه من قبله يربيه ويكفله، وأوصاه به فأخذه منه رستم،
فمضى به معه إلى موضع عمله سجستان، فرباه رستم ولم يزل في حجره يجمع له وهو طفل
الحواضن والمرضعات، ويتخيرهن له،
(1/504)
حتى إذا ترعرع جمع له المعلمين، فتخير له منهم من اختاره لتعليمه، حتى إذا قدر على الركوب علمه الفروسية حتى إذا تكاملت فيه فنون الآداب، وفاق في الفروسية قدم به على والده رجلا كاملا، فامتحنه والده كيقاوس، فوجده نافذا في كل ما أراد بارعا، فسر به، وكان كيقاوس تزوج- فيما ذكر- ابنه فراسياب ملك الترك، وقيل: بل إنها بنت ملك اليمن، وكان يقال لها سوذابة، وكانت ساحرة، فهويت سياوخش، ودعته إلى نفسها، وأنه امتنع عليها، وذكرت لها ولسياوخش قصة يطول بذكرها الكتاب، غير أن آخر أمرهما صار في ذلك- فيما ذكر لي- أن سوذابة لم تزل لما رأت من امتناع سياوخش عليها فيما أرادت منه من الفاحشة بأبيه كيقاوس حتى أفسدته عليه، وتغير لابنه سياوخش، فسأل سياوخش رستم أن يسأل أباه كيقاوس توجيهه لحرب فراسياب لسبب منعه بعض ما كان ضمن له عند إنكاحه ابنته إياه، وصلح جرى بينه وبينه، مريدا بذلك سياوخش البعد عن والده كيقاوس، والتنحى عما تكيد به عنده زوجته سوذابة، ففعل ذلك رستم، واستأذن له أباه فيما سأله، وضم إليه جندا كثيفا، فشخص إلى بلاد الترك للقاء فراسياب، فلما صار إليه سياوخش، جرى بينهما صلح، وكتب بذلك سياوخش إلى أبيه يعلمه ما جرى بينه وبين فراسياب من الصلح، فكتب اليه والده يأمره بمناهضه فراسياب ومناجزته الحرب، إن هو لم يذعن له بالوفاء بما كان فارقه عليه فرأى سياوخش أن في فعله ما كتب به إليه أبوه من محاربه فراسياب بعد الذي جرى بينه وبينه من الصلح والهدنة من غير نقض فراسياب شيئا من أسباب ذلك عليه عارا ومنقصة ومأثما، فامتنع من إنفاذ أمر أبيه في ذلك، ورأى في نفسه أنه يؤتى في كل ذلك من زوجة أبيه التي دعته إلى نفسها فامتنع عليها، ومال إلى الهرب
(1/505)
من ابيه، فراسل فراسياب في أخذ
الأمان لنفسه منه، واللحاق به، وترك والده، فأجابه فراسياب إلى ذلك- وكان السفير
بينهما في ذلك- فيما قيل- رجلا من الترك من عظمائهم يقال له: فيران بن ويسغان-
فلما فعل ذلك سياوخش انصرف عنه من كان معه من جند أبيه كيقاوس.
فلما صار سياوخش الى فراسياب بوأه وأكرمه وزوجه ابنة له يقال لها:
وسفافريد، وهي أم كيخسرونة، ثم لم يزل له مكرما حتى ظهر له أدب سياوخش وعقله
وكماله وفروسيته ونجدته ما أشفق على ملكه منه، فأفسده ذلك عنده، وزاده فسادا عليه
سعي ابنين له وأخ يقال له: كندر بن فشنجان عليه بإفساد أمر سياوخش عنده، حسدا منهم
له، وحذرا على ملكهم منه، حتى مكنهم من قتله، فذكر في سبب وصولهم إلى قتله أمر
يطول بشرحه الخطب، إلا أنهم قتلوه ومثلوا به وامرأته ابنة فراسياب حامل منه بابنه
كيخسرونة، فطلبوا الحيلة لإسقاطها ما في بطنها فلم يسقط، وأن فيران الذى سعى في
عقد الصلح بين فراسياب وسياوخش لما صح عنده ما فعل فراسياب من قتله سياوخش، أنكر
ذلك من فعله، وخوفه عاقبة الغدر، وحذره الطلب بالثأر من والده كيقاوس ومن رستم،
وسأله دفع ابنته وسفافريد إليه لتكون عنده إلى أن تضع ما في بطنها ثم يقتله.
ففعل ذلك فراسياب، فلما وضعت رق فيران لها وللمولود، فترك قتله وستر أمره، حتى بلغ
المولود، فوجه- فيما ذكر- كيقاوس إلى بلاد الترك بي بن جوذرز، وأمره بالبحث عن
المولود الذي ولدته زوجة ابنه سياوخش، والتأتي لإخراجه إليه، إذا وقف على خبره مع
أمه، وأن بيا شخص لذلك، فلم يزل يفحص عن أمر ذلك المولود، متنكرا حينا من الزمان
فلا يعرف له خبر، ولا يدله عليه أحد.
ثم وقف بعد ذلك على خبره، فاحتال فيه وفي أمه حتى أخرجهما من أرض الترك إلى
كيقاوس، وقد كان كيقاوس- فيما ذكر- حين اتصل به
(1/506)
قتل ابنه أشخص جماعة من رؤساء
قواده، منهم رستم بن دستان الشديد، وطوس بن نوذران، وكانا ذوي بأس ونجدة، فأثخنا
الترك قتلا واسرا، وحاربا فراسياب حربا شديدة وأن رستم قتل بيده شهر وشهره ابنى
فراسياب وان طوسا قتل بيده كندر أخا فراسياب.
وذكر أن الشياطين كانت مسخرة لكيقاوس، فزعم بعض أهل العلم بأخبار المتقدمين أن
الشياطين الذين كانوا سخروا له إنما كانوا يطيعونه عن أمر سليمان بن داود إياهم
بطاعته، وأن كيقاوس أمر الشياطين فبنوا له مدينة سماها كنكدر، ويقال: قيقذون، وكان
طولها- فيما زعموا- ثمانمائه فرسخ، وأمرهم فضربوا عليها سورا من صفر، وسورا من
شبه، وسورا من نحاس، وسورا من فخار، وسورا من فضة، وسورا من ذهب وكانت الشياطين
تنقلها ما بين السماء والأرض وما فيها من الدواب والخزائن والأموال والناس وذكروا
أن كيقاوس كان لا يحدث وهو يأكل ويشرب.
ثم إن الله تعالى بعث إلى المدينة التي بناها كذلك من يخربها فأمر كيقاوس شياطينه
بمنع من قصد لتخريبها، فلم يقدروا على ذلك، فلما رأى كيقاوس الشياطين لا تطيق
الدفع عنها، عطف عليها، فقتل رؤساءها وكان كيقاوس- فيما ذكر- مظفرا لا يناوئه أحد
من الملوك إلا ظفر عليه وقهره، ولم يزل ذلك أمره حتى حدثته نفسه- لما كان أتي من
العز والملك، وأنه لا يتناول شيئا إلا وصل إليه- بالصعود إلى السماء.
فحدثت عن هشام بن مُحَمَّد أنه شخص من خراسان حتى نزل بابل، وقال: ما بقي شيء من
الأرض إلا وقد ملكته، ولا بد من أن أعرف أمر السماء والكواكب وما فوقها، وأن الله
أعطاه قوة ارتفع بها ومن معه في الهواء حتى انتهوا إلى السحاب، ثم إن الله سلبهم
تلك القوة فسقطوا فهلكوا، وأفلت بنفسه وأحدث يومئذ، وفسد عليه ملكه، وتمزقت الأرض،
وكثرت الملوك في النواحي، فصار يغزوهم ويغزونه، فيظفر مرة وينكب اخرى
(1/507)
قَالَ: فغزا بلاد اليمن-
والملك بها يومئذ ذو الاذعار بن أبرهة ذي المنار ابن الرائش- فلما ورد بلاد اليمن
خرج عليه ذو الأذعار بن أبرهة وكان قد أصابه الفالج، فلم يكن يغزو قبل ذلك بنفسه
قال: فلما اظله كيقاوس ووطيء بلاده في جموعه خرج بنفسه في جموع حمير وولد قحطان،
فظفر بكيقاوس، فأسره، واستباح عسكره، وحبسه في بئر، وأطبق عليه طبقا قَالَ: وخرج
من سجستان رجل يقال له رستم، كان جبارا قويا فيمن أطاعه من الناس قال: فزعمت الفرس
انه دخل بلاد اليمن، واستخرج قبوس من محبسه وهو كيقاوس قَالَ: وزعم أهل اليمن أنه
لما بلغ ذا الأذعار إقبال رستم خرج اليه في جنوده وعدده، وخندق كل واحد منهما على
عسكره، وأنهما أشفقا على جنديهما من البوار، وتخوفا ان تزاحفا ألا تكون لهما بقية،
فاصطلحا على دفع كيقاوس إلى رستم، ووضع الحرب، فانصرف رستم بكيقوس إلى بابل، وكتب
كيقاوس لرستم عتقا من عبودة الملك، وأقطعه سجستان وزابلستان، وأعطاه قلنسوة منسوجة
بالذهب وتوجه، وأمره أن يجلس على سرير من فضة، قوائمه من ذهب، فلم تزل تلك البلاد
بيد رستم حتى هلك كيقاوس وبعده دهرا طويلا.
قَالَ: وكان ملكه مائة وخمسين سنة.
وزعم علماء الفرس أن أول من سود لباسه على وجه الحداد شادوس بن جودرز على سياوخش،
وأنه فعل ذلك يوم ورد على كيقاوس نعي ابنه سياوخش وقتل فراسياب إياه، وغدره به،
وأنه دخل على كيقاوس، وقد لبس السواد، فاعلمه أنه فعل ذلك لأن يومه يوم إظلام
وسواد.
وقد حقق ما ذكر ابن الكلبي من أسر صاحب اليمن قابوس الحسن بن هانئ في شعر له فقال:
(1/508)
وقاظ قابوس في سلاسلنا ...
سنين سبعا وفت لحاسبها
ثم ملك من بعد كيقاوس ابن ابنه كيخسرو بن سياوخش بن كيقاوس ابن كيبية بن كيقباذ.
وكان كيقاوس حين صار به وبامه وسفافريد ابنه فراسياب- وربما قيل وسففره- بي بن
جوذرز إليه من بلاد الترك ملكه، فلما قام بالملك بعد جده كيقاوس، وعقد التاج على
رأسه خطب رعيته خطبة بليغه، أعلمهم فيها أنه على الطلب بدم أبيه سياوخش قبل
فراسياب التركي، ثم كتب إلى جوذرز الأصبهبذ- كان- بأصبهان ونواحي خراسان- يأمره
بالمصير إليه، فلما صار إليه أعلمه ما عزم عليه من الطلب بثأره من قتل والده،
وأمره بعرض جنده، وانتخاب ثلاثين الف جل منهم، وضمهم إلى طوس بن نوذران، ليتوجه
بهم إلى بلاد الترك، ففعل ذلك جوذرز، وضمهم إلى طوس، وكان فيمن أشخص معه برزافره
بن كيقاوس، عم كيخسرو وبي بن جوذرز،
(1/509)
وجماعه كثيره من اخوته، وتقدم كيخسرو الى طوس، ان يكون قصده لفراسياب وطراخنته، وألا يمر بناحية من بلاد الترك، وكان فيها أخ له يقال له فروذ بن سياوخش، من امرأة يقال لها برزا فريد، كان سياوخش تزوجها في بعض مدائن الترك ايام سار الى فراسياب، ثم شخص عنها وهي حبلى، فولدت فروذ فأقام بموضعه، إلى أن شب فغلط طوس في أمر فروذ- فيما قيل- وذلك أنه لما صار بحذاء المدينة التي كان فيها فروذ هاج بينه وبينه حرب ببعض الأسباب، فهلك فروذ فيها، فلما اتصل خبره بكيخسرو كتب إلى برزافره عمه كتابا غليظا، يعلمه فيه ما ورد عليه من خبر طوس ابن نوذران ومحاربته فروذ أخاه، وأمره بتوجيه طوس إليه مقيدا مغلولا، وتقدم إليه في القيام بأمر العسكر والنفوذ به لوجهه، فلما وصل الكتاب إلى برزافره، جمع رؤساء الأجناد والمقاتلة فقرأه عليهم، وأمر بغل طوس وتقييده، ووجهه مع ثقات من رسله إلى كيخسرو، وتولى امر العسكر، وعبر النهر المعروف بكاسبروذ، وانتهى الخبر الى فراسياب، فوجه إلى برزافره جماعة من إخوته وطراخنته محاربته، فالتقوا بموضع من بلاد الترك يقال له واشن، وفيهم فيران بن ويسغان واخوته طراسيف بن جوذرز صهر فراسياب، وهماسف ابن فشنجان، وقاتلوا قتالا شديدا، وظهر من برزافره في ذلك اليوم فشل لما رأى من شدة الأمر وكثرة القتلى، حتى انحاز بالعلم إلى رءوس الجبال واضطرب على ولد جوذرز أمرهم، فقتل منهم في تلك الملحمة في وقعة واحدة سبعون رجلا، وقتل من الفريقين بشر كثير، وانصرف برزافره ومن كان معه إلى كيخسرو، وبهم من الغم والمصيبة ما تمنوا معه الموت، فكان خوفهم من سطوة كيخسرو أشد، فلما دخلوا على كيخسرو أقبل على برزافره بلائمة شديدة، وقال: أتيتم في وجهكم لترككم وصيتي ومخالفة وصية الملوك، تورد مورد السوء، وتورث الندامة، وبلغ ما أصيبوا به من كيخسرو حتى رئيت الكآبة في وجهه، ولم يلتذ طعاما ولا نوما فلما مضت لموافاتهم أيام أرسل إلى جوذرز فلما دخل عليه أظهر التوجع له، فشكا إليه جوذرز برزافره، وأعلمه أنه كان
(1/510)
السبب للهزيمة بالعلم وخذلانه
ولده، فقال له كيخسرو: إن حقك بخدمتك لآبائنا لازم لنا، وهذه جنودنا وخزائننا
مبذولة لك في مطالبة ترتك، وامره بالتهيؤ والاستعداد والتوجه الى فراسياب، والعمل
في قتله وتخريب بلاده، فلما سمع جوذرز مقالة كيخسرو نهض مبادرا فقبل يده، وقال:
أيها الملك المظفر، نحن رعيتك وعبيدك، فإن كانت آفة أو نازلة، فلتكن بالعبيد دون
ملوكها، وأولادي المقتولون فداؤك، ونحن من وراء الانتقام من فراسياب والاشتفاء من
مملكة الترك، فلا يغمن الملك ما كان، ولا يدعن لهوه، فإن الحرب دول، وأعلمه أنه
على النفوذ لأمره وخرج من عنده مسرورا.
فلما كان من الغد أمر كيخسرو أن يدخل عليه رؤساء أجناده والوجوه من أهل مملكته،
فلما دخلوا عليه أعلمهم ما عزم عليه من محاربة الأتراك، وكتب إلى عماله في الآفاق
يعلمهم ذلك، ويأمر بموافاتهم في صحراء تعرف بشاه أسطون، من كورة بلخ، في وقت وقته
لهم فتوافت رؤساء الأجناد في ذلك الموضع، وشخص إليه كيخسرو بإصبهبذته وأصحابهم،
وفيهم برزافره عمه وأهل بيته، وجوذرز وبقية ولده فلما تكاملت الملحمة، واجتمعت
المرازبة، تولى كيخسرو بنفسه عرض الجند حتى عرف مبلغهم، وفهم أحوالهم، ثم دعا
بجوذرز بن جشوادغان، وميلاذ بن جرجين وأغص بن بهذان- وأغص ابن وصيفة كانت لسياوخش،
يقال لها: شوماهان- فأعلمهم أنه قد أراد إدخال العساكر على الترك من أربعة أوجه،
حتى يحيطوا بهم برا وبحرا، وأنه قد قود على تلك العساكر، وجعل أعظمها إلى جوذرز،
وصير مدخله من ناحية خراسان، وجعل فيمن ضم إليه برزافره عمه وبي بن جوذرز وجماعة
من الأصبهبذين كثيرة، ودفع إليه يومئذ العلم الأكبر الذي كانوا يسمونه درفش
كابيان، وزعموا أن ذلك العلم لم يكن دفعه أحد من الملوك إلى أحد من القواد قبل
ذلك، وإنما كانوا يسيرونه مع أولاد الملوك إذا وجهوهم في
(1/511)
الأمور العظام وأمر ميلاذ
بالدخول مما يلي الصين، وضم إليه جماعة كثيرة دون من ضم إلى جوذرز، وأمر أغص
بالدخول من ناحية الخزر في مثل من ضم إلى ميلاذ، وضم إلى شومهان إخوتها وبني عمها
وتمام ثلاثين ألف رجل من الجند، وأمرها بالدخول من طريق بين طريق جوذرز وميلاذ.
ويقال: إن كيخسرو إنما غزا شومهان لخاصتها بسياوخش، وكانت نذرت أن تطالب بدمه فمضى
جميع هؤلاء لوجههم، ودخل جوذرز بلاد الترك من ناحية خراسان، وبدأ بفيران بن
ويسغان، فالتحمت بينهما حرب شديدة مذكورة، وهي الحرب التي قتل فيها بيزن بن بي
خمان بن ويسغان مبارزة، وقتل جوذرز فيران أيضا، ثم قصد جوذرز فراسياب، وألحت عليه
العساكر الثلاثة، كل عسكر من الوجه الذي دخل منه، واتبع القوم بعد ذلك كيخسرو
بنفسه، وجعل قصده للوجه الذي كان فيه جوذرز، وصير مدخله منه، فوافى عسكر جوذرز،
وقد أثخن في الترك، وقتل فيران رئيس اصبهبذى فراسياب، والمرشح للملك من بعده،
وجماعة كثيرة من أخوته، مثل خمان، واوستهن، وجلباد، وسيامق، وبهرام، وفرشخاذ،
وفرخلاد.
ومن ولده، مثل روين بن فيران، وكان مقدما عند فراسياب، وجماعه من اخوه فراسياب،
مثل: رتدراى، وأندرمان، وأسفخرم، وأخست.
وأسر بروا بن فشنجان قاتل سياوخش، ووجد جوذرز قد أحصى القتلى والأسرى، وما غنم من
الكراع والأموال، فوجد مبلغ ما في يده من الأسرى ثلاثين ألفا، ومن القتلى خمسمائة
ألف ونيفا وستين ألف رجل، ومن الكراع والورق والأموال ما لا يحصى كثرة، وأمر كل
واحد من الوجوه الذين كانوا معه أن يجعل أسيره أو قتيله من الأتراك عند علمه لينظر
كيخسرو إلى ذلك عند موافاته.
فلما وافى كيخسرو العسكر وموضع الملحمة اصطفت له الرجال، وتلقاه جوذرز وسائر
الإصبهبذين، فلما دخل العسكر جعل يمر بعلم علم، فكان أول قتيل رآه جثة فيران عند
علم جوذرز، فلما نظر إليها وقف ثم قال:
(1/512)
أيها الجبل الصعب الذرا المنيع
الأركان! ألم أنهك عن هذه المحاربة، وعن نصب نفسك لنا دون فراسياب في هذه
المطالبة! ألم أبذل لك نفسي، وأعرض عليك ملكي فلم تحسن الاختيار! ألست الصدوق
اللسان، الحافظ للإخوان، الكاتم للأسرار! ألم اعلمك مكر فراسياب وقلة وفائه فلم
تفعل ما أمرتك بل مضيت في نومك حتى احتوشتك الليوث من مقاتلتنا وأبناء مملكتنا! ما
اغنى عنك فراسياب، وقد فارقت الدنيا وأفنيت آل ويسغان! فويل لحلمك وفهمك! وويل
لسخائك وصدقك! إنا بك اليوم لموجعون! ولم يزل كيخسرو يرثي فيران حتى صار إلى علم
بي بن جوذرز، فلما وقف عليه وجد بروا بن فشنجان حيا أسيرا في يدي بي، فسأل عنه
فأخبر أنه بروا قاتل سياوخش الماثل به عند قتله إياه فقرب منه كيخسرو، ثم طأطأ
رأسه بالسجود شكرا لربه، ثم قَالَ: الحمد لله الذي أمكنني منك يا بروا! أنت الذي
قتلت سياوخش، ومثلت به! وأنت الذي سلبته زينته وتكلفت من بين الأتراك إبارته،
فغرست لنا بفعلك هذه الشجرة من العداوة، وهيجت بيننا هذه المحاربة، وأشعلت في كلا
الفريقين نارا موقدة! أنت الذي جرى على يديك تبديل صورته، وتوهين قوته! أما تهيبت
أيها التركي جماله! ألا أبقيت عليه للنور الساطع على وجهه! أين نجدتك وقوتك اليوم!
وأين أخوك الساحر عن نصرتك! لست أقتلك لقتلك إياه، بل لكلفتك وتوليك ما كان صلاحا
لك ألا تتولاه، وسأقتل من قتله ببغيه وجرمه.
ثم أمر أن تقطع أعضاؤه حيا ثم يذبح ففعل ذلك به بي، ولم يزل كيخسرو يمر بعلم علم،
وأصبهبذ أصبهبذ، فإذا صار إلى الواحد منهم قَالَ له نحو ما ذكرنا، ثم صار إلى
مضاربه، فلما استقر فيها دعا ببرزافره عمه، فلما دخل عليه أجلسه عن يمينه، وأظهر
له السرور بقتله جلباذ بن ويسغان مبارزة، ثم أجزل جائزته وملكه على كرمان ومكران
ونواحيها، ثم دعا بجوذرز، فلما
(1/513)
دخل عليه قَالَ له: أيها
الأصبهبذ الرشيد، والكهل الشفيق، إنه مهما كان من هذا الفتح العظيم فمن ربنا عز
وجل، وعن غير حيلة منا ولا قوة، ثم برعايتك حقنا، وبذلك نفسك وأولادك لنا، وذلك
مذخور لك عندنا، وقد حبوناك بالمرتبة التي يقال لها بزرجفرمذار، وهي الوزارة،
وجعلنا لك أصبهان وجرجان وجبالهما، فأحسن رعاية أهلها فشكر جوذرز ذلك، وخرج من
عنده بهجا مسرورا، ثم أمر بالوجوه من أصبهبذته الذين كانوا مع جوذرز ممن حسن
بلاؤه، وتولى قتل طراخنة الأتراك، ولد فشنجان وويسغان، مثل جرجين بن ميلاذان، وبي،
وشادوس ولخام، وجدمير بن جوذرز، وبيزن بن بي، وبرازه بن بيفغان، وفروذه بن فامدان
وزنده بن شابريغان، وبسطام بن كزدهمان، وفرته بن تفارغان فدخلوا عليه رجلا رجلا،
فمنهم من ملكه على البلدان الشريفة، ومنهم من خصه بأعمال من أعمال حضرته، ثم لم
يلبث أن وردت عليه الكتب من ميلاذ وأغص وشومهان بإثخانهم في بلاد الترك، وأنهم قد
هزموا فراسياب عسكرا بعد عسكر، فكتب إليهم أن يجدوا في محاربة القوم، وأن يوافوه
بموضع سماه لهم من بلاد الترك.
فزعموا أن العساكر الأربعة لما أحاطت بفراسياب، وأتاه من قتل من قتل، وأسر من أسر،
وخراب ما خرب ما أتاه، ضاقت عليه المذاهب، ولم يبق معه من ولده إلا شيده- وكان
ساحرا- فوجهه نحو كيخسرو بالعدة والعتاد، فلما وافى كيخسرو أعلم أن أباه إنما وجهه
للاحتيال عليه، فجمع أصبهبذته وتقدم إليهم في الاحتراس من غيلته.
وقيل: ان كيخسرو واشفق يومئذ من شيده وهابه، وظن ألا طاقة له به، وأن القتال اتصل
بينهما أربعة أيام، وإن رجلا من خاصة كيخسرو يقال له جرد بن جرهمان عبى يومئذ
أصحاب كيخسرو، فأحسن تعبيتهم، فكثرت القتلى بينهم واستماتت رجال خنيارث وجدت،
وايقن شيده الا طاقة له بهم فانهزم، واتبعه كيخسرو بمن معه، ولحقه جرد فضربه على
هامته بالعمود ضربة خر منها ميتا، ووقف كيخسرو على جيفته، فعاين منها سماجة شنعة،
وغنم كيخسرو ما كان من عسكرهم، وبلغ الخبر فراسياب، فاقبل بجميع
(1/514)
طراخنته، فلما التقى وكيخسرو،
ونشبت بينهما حرب شديدة لا يقال إن مثلها كان على وجه الأرض قبلها، فاختلط رجال
خنيارث برجال الترك، وامتد الأمر بينهم حتى لم تقع العين يومئذ إلا على الدماء،
والاسر من جوذرز ولده وجرجين وجرد وبسطام، ونظر فراسياب وهم يحمون كيخسرو كأنهم
اسود ضاربه، فانهزم موليا على وجهه هاربا، فأحصيت القتلى فيما ذكر يومئذ، فبلغت
عدتهم مائة ألف، وجد كيخسرو واصحابه في طلب فراسياب، وقد تجرد للهرب فلم يزل يهرب
من بلد إلى بلد حتى أتى أذربيجان، فاستتر في غدير هناك يعرف ببئر خاسف، ثم ظفر به،
فلما أتى كيخسرو استوثق منه بالحديد، ثم أقام للاستراحة بموضعه ثلاثة أيام، ثم
دعاه، فسأله عن عذره في أمر سياوخش، فلم يكن له عذر ولا حجة، فأمر بقتله، فقام
إليه بي بن جوذرز، فذبحه كما ذبح سياوخش، ثم أتى كيخسرو بدمه، فغمس فيه يده، وقال
هذا بترة سياوخش، وظلمكم اياه واعتدائكم عليه ثم انصرف من أذربيجان ظافرا غانما
بهجا.
وذكر أن عدة من أولاد كيبيه جد كيخسرو الأكبر وأولادهم كانوا مع كيخسرو في حرب
الترك، وأن ممن كان معه كي أرش بن كيبيه، وكان مملكا على خوزستان وما يليها من
بابل وكي به أرش، وكان مملكا على كرمان ونواحيها، وكي أوجي بن كيمنوش بن كيفاشين
بن كيبيه، وكان مملكا على فارس، وكي أوجي هذا هو ابو كي لهراسف الملك، ويقال ان
أخا لفراسياب كان يقال له: كي شراسف، صار إلى بلاد الترك بعد قتل كيخسرو أخاه،
فاستولى على ملكها، وكان له ابن يقال له خرزاسف، فملك البلاد بعد أبيه، وكان جبارا
عاتيا، وهو ابن أخي فراسياب ملك الترك الذي كان حارب منوشهر، وجوذرز هو ابن
جشواغان بن يسحره بن قرحين بن حبر بن رسود بن أورب بن تاج بن رشيك بن أرس بن وندح
بن رعر بن نودراحاه بن مسواغ بن نوذر بن منوشهر.
فلما فرغ كيخسرو من المطالبة بوتره، واستقر في مملكته زهد في الملك، وتنسك، وأعلم
الوجوه من أهله وأهل مملكته أنه على التخلي من الأمر، فاشتد
(1/515)
لذلك جزعهم، وعظمت له وحشتهم،
واستغاثوا إليه، وطلبوا وتضرعوا، وراودوه على المقام بتدبير ملكهم، فلم يجدوا عنده
في ذلك شيئا، فلما يئسوا قَالُوا بأجمعهم: فإذا قمت على ما أنت عليه فسم للملك
رجلا نقلده إياه، وكان لهراسف حاضرا، فأشار بيده إليه، وأعلمهم أنه خاصته ووصيه،
فأقبل الناس إلى لهراسف، وذلك بعد قبوله الوصية وفقد كيخسرو، فبعض يقول: إنه غاب
للنسك فلا يدرى أين مات، ولا كيف كانت ميتته، وبعض يقول غير ذلك.
وتقلد لهراسف الملك بعده على الرسم الذي رسم له، وولد كيخسرو:
جاماس، وأسبهر، ورمى، ورمين.
وكان ملك كيخسرو ستين سنه
(1/516)
امر إسرائيل بعد سليمان بن
داود ع
رجع الحديث الى الخبر عن امر بنى إسرائيل بعد سليمان بن داود ع.
ثم ملك بعد سليمان بن داود على جميع بني إسرائيل ابنه رحبعم بن سليمان، وكان ملكه-
فيما قيل- سبع عشرة سنة ثم افترقت ممالك بني إسرائيل فيما ذكر بعد رحبعم، فكان
أبيا بن رحبعم ملك سبط يهوذا وبنيامين، دون سائر الأسباط، وذلك أن سائر الأسباط
ملكوا عليهم يوربعم بن نابط، عبد سليمان، لسبب القربان الذي كانت زوجة سليمان
قربته في داره، وكانت قربت فيها جرادة لصنم، فتوعده الله بإزالة بعض الملك عن
ولده، فكان ملك رحبعم إلى أن توفي- فيما ذكر- ثلاث سنين.
ثم ملك أسا بن أبيا أمر السبطين اللذين كان أبوه يملك أمرهما- وهما سبط يهوذا وسبط
بنيامين- إلى أن توفي، إحدى وأربعين سنة
. ذكر خبر أسا بن أبيا وزرح الهندي
حَدَّثَنِي مُحَمَّد بن سهل بن عسكر، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال:
حدثني عبد الصمد بن معقل، أنه سمع وهب بن منبه يقول: إن ملكا من ملوك بنى إسرائيل
يقال له أسا بن أبيا، كان رجلا صالحا، وكان أعرج، وكان ملك من ملوك الهند يقال له
زرح، وكان ملكا جبارا فاسقا يدعو الناس
(1/517)
إلى عبادته، وكان أبيا عابد
أصنام، له صنمان يعبدهما من دون الله، ويدعو الناس إلى عبادتهما، حتى أضل عامة بني
إسرائيل، وكان يعبد الأصنام حتى توفي ثم ملك ابنه أسا من بعده، فلما ملكهم بعث
فيهم مناديا ينادي:
ألا إن الكفر قد مات وأهله، وعاش الإيمان وأهله، وانتكست الأصنام وعبادتها، وظهرت
طاعة الله وأعمالها، فليس كافر من بني إسرائيل يطلع رأسه بعد اليوم بكفر في ولايتي
ودهري، إلا أني قاتله فإن الطوفان لم يغرق الدنيا وأهلها، ولم يخسف بالقرى، ولم
تمطر الحجارة والنار من السماء إلا بترك طاعة الله، وإظهار معصيته، فمن أجل ذلك ينبغي
لنا ألا نقر لله معصية يعمل بها، ولا نترك طاعة لله إلا أظهرناها جهدنا، حتى نطهر
الأرض من نجسها، وننقيها من دنسها، ونجاهد من خالفنا في ذلك بالحرب والنفي من
بلادنا.
فلما سمع ذلك قومه ضجوا وكرهوا، فأتوا أم أسا الملك فشكوا إليها فعل ابنها بهم
وبآلهتهم، ودعاءه إياهم إلى مفارقة دينهم، والدخول في عبادة ربهم، فتحملت لهم أمه
أن تكلمه وتصرفه إلى عبادة أصنام والده، فبينا الملك قاعد وعنده أشراف قومه
ورءوسهم وذوو طاعتهم، إذ اقبلت أم الملك فقام لها الملك من مجلسه، وأمرها أن تجلس
فيه، معرفة بحقها، وتوقيرا لها فأبت عليه وقالت:
لست ابني إن لم تجبني إلى ما أدعوك إليه، وتضع طاعتك في يدي حتى تفعل ما آمرك به،
وتجيبني إلى أمر، إن أطعتني فيه رشدت وأخذت بحظك، وإن عصيتني فحظك بخست، ونفسك
ظلمت إنه بلغني يا بني أنك بدأت قومك بالعظيم، دعوتهم إلى مخالفة دينهم، والكفر
بآلهتهم، والتحول عما كان عليه آباؤهم، وأحدثت فيهم سنة، وأظهرت فيهم بدعة، أردت
بذلك- فيما زعمت- تعظيما لوقارك، ومعرفة بمكانك، وتشديدا لسلطانك، وفي التقصير يا
بني دخلت، وبالشين أخذت ودعوت جميع الناس إلى حربك، وانتدبت لقتالهم وحدك، أردت
بذلك أن تعيد الأحرار لك عبيدا، والضعيف
(1/518)
لك شديدا، سفهت بذلك رأي
العلماء، وخالفت الحكماء، واتبعت رأي السفهاء ولعمري ما حملك على ذلك يا بني إلا
كثرة طيشك، وحداثة سنك، وقلة علمك، فإن أنت رددت علي كلامي، ولم تعرف حقي، فلست من
نسل والدك، ولا ينبغي الملك لمثلك يا بني بأي شيء تدل على قومك؟
لعلك أوتيت من الحروف مثل ما اتى موسى إلى فرعون، أن غرقه وأنجى قومه من الظلمة أو
لعلك أوتيت من القوة ما أوتي داود، أن قتل الأسد لقومه، ولحق الذئب فشق شدقه، وقتل
جالوت الجبار وحده أو لعلك أوتيت من الملك والحكمة أفضل مما أوتي سليمان بن داود
رأس الحكماء، إذ صارت حكمته مثلا للباقين بعده! يا بني إنه ما يأتك من حسنة فأنا
أحظى الناس بها، وإن تكن الأخرى فأنا أشقاهم بشقوتك.
فلما سمعها الملك اشتد غضبه، وضاق صدره، فقال لها: يا أمه! إنه لا ينبغي أن آكل
على مائدة واحدة مع حبيبي وعدوي، كذلك لا ينبغي أن أعبد غير ربي هلمي إلى أمر إن
أطعتني فيه رشدت، وإن تركته غويت، أن تعبدي الله وتكفري بكل آلهة دونه، فإنه ليس
أحد يرد هذا علي إلا هو لله عدو، وأنا ناصره لأني عبده.
قالت له: ما كنت لأفارق أصنامي، ولا دين آبائي وقومي ولا أترك ذلك لقولك، ولا أعبد
الرب الذي تدعوني إليه.
فقال لها الملك: حينئذ يا أمه، إن قولك هذا قد قطع فيما بيني وبينك رحمي.
وأمر بها الملك عند ذلك فأخرجوها وغربوها، ثم أوصى إلى صاحب شرطته وبابه أن يقتلها
إن هي ألمت بمكانه.
فلما سمع ذلك منه الأسباط الذين كانوا حوله وقعت في قلوبهم المهابة،
(1/519)
فأذعنوا له بالطاعة، وانقطعت
فيما بينهم وبينه كل حيلة، وقالوا: قد فعل هذا بأمه، فأين نقع نحن منه إذا خالفنا
في أمره، ولم نجبه إلى دينه! فاحتالوا له كل حيلة، فحفظه الله وأباد مكرهم فلما لم
يكن لهم عن ذلك صبر، ولا على فراق دينهم قوام، ائتمروا بأن يهربوا من بلاده،
ويسكنوا بلادا غيرها، فخرجوا متوجهين الى زرح ملك الهند يطلبون أن يستحملوه على
أسا ومن اتبعه، فلما دخلوا على زرح سجدوا له، فقال لهم: من أنتم؟ قَالُوا: نحن
عبيدك، قَالَ: وأي عبيدي أنتم؟ قَالُوا: نحن من أرضك أرض الشام، وأنا كنا نعتز
بملك، حتى ظهر فينا ملك صبي حديث السن سفيه، فغير ديننا، وسفه رأينا، وكفر آباءنا،
وهان عليه سخطنا، فأتيناك لنعلمك ذلك، فتكون أنت أولى بملكنا، ونحن رءوسهم، وهي
أرض كثير مالها، ضعيف أهلها، طيبة معيشتها، كثيرة أنضارها، وفيهم الكنوز وملك
ثلاثين ملكا، وهم الذين كان يوشع بن نون خليفة موسى سار بهم في البحر هو وقومه،
فنحن وأرضنا لك، وبلادنا بلادك، وليس أحد فيها يناصبك، هم دافعون أيديهم إليك بغير
قتال، بأموالهم وانفسهم مسالمه.
قال: لهم زرح: لعمري، ما كنت لأجيبكم إلى ما دعوتموني إليه، ولا أستجيب إلى مقاتلة
قوم لعلهم أطوع لي منكم، حتى أبعث إليهم من قومي أمناء، فإن وقع الأمر على ما
تكلمتم به قدامي نفعكم ذلك عندي، وجعلتكم عليها ملوكا، وإن كان كلامكم كذبا فإني
منزل بكم العقوبة التي تنبغي لمن كذبني.
قَالَ القوم: تكلمت بالعدل، وحكمت بالقسط، ونحن به راضون.
فأمر عند ذلك بالأرزاق فأجريت عليهم، واختار من قومه أمناء ليبعثهم جواسيس،
فأوصاهم بوصيته، وخوفهم وحذرهم بطشه إن هم كذبوه،
(1/520)
ووعدهم المعروف ان هم صدقوه
وقال زرح: إني مرسلكم لأمانتكم، وشحكم على دينكم، وحسن رأيكم في قومكم، لتطالعوا
لي أرضا من أرضي، وتبحثوا لي عن شأنها، وتعلموني علم أهلها وملكها وجنودها وعددها
وعدد مياهها، وفجاجها وطرقها، ومداخلها ومخارجها، وسهولتها وصعوبتها، حتى كأني
شاهد ذلك وعالمه، وحاضر ذلك وخابره وخذوا معكم من الخزائن من الياقوت والمرجان
والكسوة ما يفرغون إليه إذا رأوه، ويشترون منكم إذا نظروا إليه.
فأمكنهم من خزائنه حتى أخذوا منها، فجهزهم لبرهم وبحرهم، ووصف لهم القوم الذين
أتوهم الطرق، ودلوهم على مقاصدها، فساروا كالتجار، حتى نزلوا ساحل البحر، ثم ركبوا
منه حتى ارسوا على ساحل إيلياء، ثم ساروا حتى دخلوها، فخلفوا أثقالهم فيها،
وأظهروا أمتعتهم وبضاعتهم، ودعوا الناس إلى أن يشتروا منهم، فلم يفرغوا لبضاعتهم،
وكسدت تجارتهم، فجعلوا يعطون بالشيء القليل الشيء الكثير، لكيلا يخرجوهم من
قريتهم، حتى يعلموا أخبارهم، ويحقوا شأنهم ويستخرجوا ما أمرهم به ملكهم من
أخبارهم.
وكان أسا الملك قد تقدم إلى نساء بني إسرائيل ألا يقدر على امرأة لا زوج لها بهيئة
امرأة لها زوج إلا قتلها أو نفاها من بلاده إلى جزائر البحار، فإن إبليس لم يدخل
على أهل الدين في دينهم بمكيدة هي أشد من النساء، فكانت المرأة التي لا زوج لها لا
تخرج إلا منتقبة في رثة الثياب لئلا تعرف، فلما بذل هؤلاء الأمناء بضاعتهم ما ثمنه
مائة درهم بدرهم، جعل نساء بني إسرائيل يشترين خفية بالليل سرا، لا يعلم بهن أحد
من أهل دينهن، حتى أنفقوا بضاعتهم واشتروا بها حاجتهم، واستوعبوا خبر مدينتهم
وحصونهم، وعدد مياههم، وكانوا قد كتموا رءوس بضاعتهم ومحاسنها من اللؤلؤ والمرجان
والياقوت هدية للملك، وجعل الأمناء يسألون من رأوا من أهل القرية عن خبر الملك
(1/521)
وشأنه إذ لم يشتر منهم شيئا،
وقالوا: ما شأن الملك لا يشتري منا شيئا! ان كان غنيا فان عندنا من طرائف البضاعات
فنعطيه ما شاء مما لم يدخل مثله في خزائنه، وإن كان محتاجا فما يمنعه أن يشهدنا
فنعطيه ما شاء بغير ثمن! قَالَ لهم من حضرهم من أهل القرية: ان له من الغنى
والخزائن وفنون المتاع ما لم يقدر على مثله، إنه استفرغ الخزائن التي كان موسى سار
بها من مصر، والحلي الذي كان بنو إسرائيل أخذوا، وما جمع يوشع بن نون خليفة موسى،
وما جمع سليمان رأس الحكماء والملوك، من الغنى الكثير والآنية التي لا يقدر على
مثلها قَالَ الأمناء: فما قتاله؟ وبأي شيء عظمته؟ وما جنوده؟ أرأيتم لو أن ملكا
انحرف عليه ففتق ملكه ما كان إذا قتاله إياه؟ وما عدته وعدد جنوده؟ أم بأي الخيل
والفرسان غلبته؟ أم من أجل كثرة جمعه وخزائنه وقعت في قلوب الرجال هيبته! فأجابهم
القوم وقالوا: إن أسا الملك قليلة عدته، ضعيفة قوته، غير أن له صديقا لو دعاه
واستعان به على أن يزيل الجبال أزالها، فإذا كان معه صديقه فليس شيء من الخلق
يطيقه.
قَالَ لهم الأمناء: ومن صديق أسا؟ وكم عدد جنوده؟ وكيف مواجهته وقتاله؟ وكم عدد
عساكره ومراكبه؟ وأين قراره ومسكنه؟
فأجابهم القوم: أما مسكنه ففوق السموات العلا، مستو على عرشه، لا يحصى عدد جنوده،
وكل شيء من الخلق له عبد، لو أمر البحر لطم على البر، ولو أمر الأنهار لغارت في
عنصرها، لا يرى ولا يعرف قراره، وهو صديق أسا وناصره
(1/522)
فجعل الأمناء يكتبون كل شيء
أخبروا به من أمر أسا وقضية أمره، فدخل بعض هؤلاء الأمناء عليه فقالوا: يا ايها
الملك، إن معنا هدية نريد أن نهديها لك من طرائف بلادنا، أو تشتري منا فنرخصه
عليك.
قَالَ لهم: ائتوني بذلك حتى أنظر إليه، فلما أتوه به قَالَ لهم: هل يبقى هذا لأهله
ويبقون له؟ قَالُوا: بل يفنى هذا ويفنى أهله قَالَ لهم أسا:
لا حاجة لي فيه، إنما طلبتي ما تبقى بهجته لأهله، لا تزول ولا يزولون عنه.
فخرجوا من عنده، ورد عليهم هديتهم، فساروا من بيت المقدس متوجهين إلى زرح الهندي
ملكهم فلما أتوه نشروا له كتاب خبرهم وأنبئوه بما انتهى إليهم من أمر ملكهم، وأخبروه
بصديق اسا فلما سمع زرح كلامهم استحلفهم بعزته، وبالشمس والقمر اللذين يعبدونهما
ولهما يصلون ألا يكتموه من خبر ما رأوا في بني إسرائيل شيئا فصدقوه.
فلما فرغوا من خبرهم وخبر أسا ملكهم وصديقه، قال لهم زرح: إن بني إسرائيل لما
علموا أنكم جواسيس، وأنكم قد اطلعتم على عوراتهم ذكروا لكم صديق أسا وهم كاذبون،
أرادوا بذلك ترهيبكم إن صديق أسا لا يطيق أن يأتي بأكثر من جندي، ولا بأكمل من
عدتي، ولا بأقسى قلوبا ولا أجرأ على القتال من قومي، إن لقيني بألف لقيته بأكثر من
ذلك.
ثم عمد زرح عند ذلك فكتب إلى كل من في طاعته أن يجهزوا من كل مخلاف جندا بعدتهم
حتى استمد يأجوج ومأجوج والترك وفارس مع
(1/523)
من سواهم من الأمم ممن جرت
عليه لزرح طاعه، كتب:
من زرح الجبار الهندي ملك الأرضين، إلى من بلغته كتبي: أما بعد فإن لي أرضا قد دنا
حصادها وأينع ثمرها، وأردت أن تبعثوا إلي بعمال أغنمهم ما حصدوا منها، وهم قوم
قصوا عني، وغلبوا على أطراف من أرضي وقهروا من تحت أيديهم من رقيقي، وقد منحتهم من
نهض إليهم معي، فإن قصرت بكم قوة فعندي قوتكم، فإنه لا تتعطل خزائني.
فاجتمعوا إليه من كل ناحية، وأمدوه بالخيل والفرسان والرجالة والعدة، فلما اجتمعوا
عنده أمكنهم من السلاح والجهاز من خزائنه، ثم أمر بإحصاء عددهم وتعبيتهم، فبلغ
عددهم الف الف ومائه الف سوى اهل بلادهم.
وأمر بمائة مركب، فقرن له البغال، كل أربعة أبغل جميعا عليها سرير وقبة، وفي كل
قبة منها جارية، ومع كل مركب عشرة من الخدم، وخمسة أفيال من فيلته، فبلغ في كل
عسكر من عساكره مائة ألف، وجعل خاصته الذين يركبون معه مائة من رءوسهم، وجعل في كل
عسكر عرفاء، وخطبهم وحرضهم على القتال، فلما نظر إليهم وسار فيهم تعزز وتعظم شأنه
في قلوب من حضره، ثم قال زرح: أين صديق أسا؟ هل يستطيع أن يعصمه مني؟ أو من يطيق
غلبتي؟ فلو أن أسا وصديقه ينظران إلي وإلى جندي ما اجترءا على قتالي، لأن عندي بكل
واحد من جنده ألفا من جنودي، ليدخلن أسا أرضي أسيرا، ولأقدمن بقومه سبيا في جنودي.
فجعل زرح ينتقص اسا ويقول فيه ما لا ينبغى، فبلغ اسا صنيع زرح وجمعه عليه، فدعا
ربه فقال: اللهم أنت الذي بقوتك خلقت السموات والأرض ومن فيهن حتى صار جميع ذلك في
قبضتك، أنت ذو الاناه
(1/524)
الرفيقة والغضب الشديد، أسألك
ألا تذكرنا بخطايانا فيما بيننا وبينك، ولا تعمدنا ولا تجزينا على معصيتك، ولكن
تذكرنا برحمتك التي جعلتها للخلائق، فانظر إلى ضعفنا وقوة عدونا، وانظر إلى قلتنا
وكثرة عدونا، وانظر إلى ما نحن فيه من الضيق والغم، وانظر إلى ما فيه عدونا من
الفرح والراحة، فغرق زرحا وجنوده في اليم بالقدرة التي غرقت بها فرعون وجنوده،
وأنجيت موسى وقومه وأسألك أن تحل على زرح وقومه عذابك بغتة! فأري أسا في المنام-
والله أعلم- أني قد سمعت كلامك، ووصل الى جوارك، وانى على عرشي، وانى ان غرقت زرحا
الهندي وقومه، لم يعلم بنو إسرائيل ولا من كان بحضرتهم كيف صنعت بهم، ولكن ساظهر
في زرح وقومه لك ولمن اتبعك قدرة من قدرتي، حتى اكفيك مؤنتهم، وأهب لك غنيمتهم،
وأضع في أيديكم عساكرهم، حتى يعلم أعداؤك أن صديق أسا لا يطاق وليه، ولا يهزم
جنده، ولا يخيب مطيعه، فأنا أتمهل له حتى يفرغ من حاجته، ثم أسوقه إليك عبدا،
وعساكره لك ولقومك خولا.
فسار زرح ومن معه حتى حلوا على ساحل ترشيش، فلم يكن إلا محلة يوم حتى دفنوا
أنهارها، ومحوا مروجها، حتى كان الطير ينقصف عليهم، والوحش لا تستطيع الهرب منهم،
فساروا حتى كانوا على مرحلتين من إيلياء، ففرق زرح عساكره منها الى إيلياء،
وامتلأت منهم تلك الأرض: جبالها وسهولها، وامتلأت قلوب أهل الشام منهم رعبا،
وعاينوا هلكتهم.
فسمع بهم أسا الملك، فبعث إليهم طليعة من قومه، وأمرهم أن يخبروه بعددهم وهيئتهم
فسار القوم الذين بعثهم أسا حتى نظروا إليهم من رأس تل، ثم رجعوا إلى اسا فاخبروه
انه لم تر عيون بني آدم، ولا سمعت آذانهم مثلهم ومثل أفيالهم وخيولهم وفرسانهم،
وما ظننا أن في الناس مثلهم كثرة وعدة، فلت من إحصائهم عقولنا، وفلت من قتالهم
حيلتنا، وانقطع فيما بيننا وبينهم رجاؤنا
(1/525)
فسمع بذلك أهل القرية فشقوا
ثيابهم، وذروا التراب على رءوسهم، وعجوا بالعويل في أزقتهم وأسواقهم، وجعل بعضهم
يودع بعضا ثم ساروا حتى أتوا الملك فقالوا: نحن خارجون بأجمعنا إلى هؤلاء القوم
فدافعون إليهم أيدينا، لعلهم أن يرحمونا فيقرونا في بلادنا قَالَ لهم أسا الملك:
معاذ الله أن نلقي بأيدينا في أيدي الكفرة، وأن نخلي بيت الله وكتابه للفجرة!
قَالُوا: فاحتل لنا حيلة، واطلب إلى صديقك وربك الذي كنت تعدنا بنصره، وتدعونا إلى
الإيمان به، فإن هو كشف عنا هذا البلاء، وإلا وضعنا أيدينا في أيدي عدونا لعلنا
نتخلص بذلك من القتل.
قَالَ لهم أسا: إن ربي لا يطاق إلا بالتضرع والتبتل والاستكانة قَالُوا: فأبرز له
لعله أن يجيبك فيرحم ضعفنا، فإن الصديق لا يسلم صديقه على مثل هذا فدخل اسا لمصلى،
ووضع تاجه من راسه، وخلى ثيابه، ولبس المسوح وافترش الرماد، ثم مد يده يدعو ربه
بقلب حزين، وتضرع كثير، ودموع سجال، وهو يقول: اللهم رب السموات السبع ورب العرش
العظيم، إله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، أنت المستخفي من خلقك حيث
شئت، لا يدرك قرارك، ولا يطاق كنه عظمتك، أنت اليقظان الذي لا تنام، والجديد الذي
لا تبليك الليالي والأيام، أسألك بالمسألة التي سألك بها إبراهيم خليلك فأطفأت بها
عنه النار، وألحقته بها بالأبرار، وبالدعاء الذي دعاك به نجيك موسى فأنجيت بني
إسرائيل من الظلمة، وأعتقتهم به من العبودية، وسيرتهم في البر والبحر، وغرقت فرعون
ومن اتبعه وبالتضرع الذى تضرع لك عبدك داود فرفعته، ووهبت له من بعد الضعف القوة،
ونصرته على جالوت الجبار، وهزمته وبالمسألة التي سألك بها سليمان نبيك فمنحته
الحكمة، ووهبت له الرفعة، وملكته على كل دابة أنت محيي الموتى، ومفني الدنيا،
وتبقى
(1/526)
وحدك خالدا لا تفنى، وجديدا لا
تبلى أسألك يا إلهي أن ترحمني بإجابة دعوتي، فإني أعرج مسكين من أضعف عبادك،
وأقلهم حيله، وقد حل بنا كرب عظيم، وحزب شديد، لا يطيق كشفه غيرك، ولا حول ولا قوة
لنا إلا بك، فارحم ضعفنا بما شئت، فإنك ترحم من تشاء بما تشاء.
وجعل علماء بني إسرائيل يدعون الله خارجا وهم يقولون: اللهم أجب اليوم عبدك، فإنه
قد اعتصم بك وحدك، ولا تخل بينه وبين عدوك، واذكر حبه إياك، وفراقه أمه وجميع
الخلائق إلا من أطاعك.
فألقى الله على أسا النوم وهو في مصلاه ساجدا، ثم أتاه من الله آت- والله أعلم-
فقال: يا أسا، إن الحبيب لا يسلم حبيبه، وإن الله عز وجل يقول:
إني قد ألقيت عليك محبتي، ووجب لك نصري، فأنا الذي أكفيك عدوك، فإنه لا يهون من
توكل علي، ولا يضعف من تقوى بي كنت تذكرني في الرخاء، وأسلمك عند الشدائد، وكنت
تدعوني آمنا، وأنا أسلمك خائفا، إن الله القوي يقول: أنا أقسم ان لو كايدتك
السموات والأرض بمن فيهن لجعلت لك من جميع ذلك مخرجا، فأنا الذي أبعث طرفا من
زبانيتي يقتلون أعدائي، فإني معك، ولن يخلص إليك ولا إلى من معك أحد.
فخرج أسا من مصلاه وهو يحمد الله، مسفرا وجهه، فأخبرهم بما قيل له، فأما المؤمنون
فصدقوه، وأما المنافقون فكذبوه، وقال بعضهم لبعض:
إن أسا دخل أعرج وخرج أعرج، ولو كان صادقا أن الله قد أجابه إذا لأصلح رجله، ولكن
يغرنا ويمنينا، حتى تقع الحرب فينا فيهلكنا! فبينا الملك يخبرهم عن صنع الله بهم
إذ قدم رسل من زرح فدخلوا إيلياء ومعهم كتب من زرح إلى أسا، فيها شتم له ولقومه،
وتكذيب بالله،
(1/527)
وكتب فيها: أن ادع صديقك الذي
أضللت به قومك فليبارزني بجنوده، وليظهر لي مع ما أني أعلم أنه لن يطيقني هو ولا
غيره، لانى انا زرح الهندي الملك.
فلما قرأ أسا الكتب التي قدم بها عليه هملت عيناه بالبكاء، ثم دخل مصلاه، ونشر تلك
الكتب بين يدي الله، ثم قَالَ: اللهم ليس لي شيء من الأشياء أحب إلي من لقائك، غير
أني أتخوف أن يطفأ هذا النور الذي أظهرته في أيامي هذه، وقد حضرت هذه الصحائف
وعلمت ما فيها، ولو كنت المراد بها كان ذلك يسيرا، غير أن عبدك زرحا بكايدك
ويتناولك، فخر بغير فخر، وتكلم بغير صدق، وأنت حاضر ذلك وشاهده.
فأوحى الله إلى أسا- والله أعلم- أنه لا تبديل لكلماتي، ولا خلف لموعدي، ولا تحويل
لأمري، فأخرج من مصلاك، ثم مر خيلك أن تجتمع، ثم اخرج بهم وبمن اتبعك حتى تقفوا
على نشز من الأرض.
فخرج أسا فأخبرهم بما قيل له، فخرج اثنا عشر رجلا من رؤسائهم، مع كل رجل منهم رهط
من قومه، فلما أن خرجوا، ودعوا أهاليهم بألا يرجعوا الى الدنيا فوقفوا لزرح على
رابيه من الارض فابصروا منها زرحا وقومه، فلما ابصرهم زرح نفض رأسه ليسخر منهم،
وقال: إنما نهضت من بلادي، وأنفقت أموالي لمثل هؤلاء! ودعا عند ذلك بالنفر الذين
كانوا نعتوا عنده أسا وقومه، فقال: كذبتموني وزعمتم أن قومكم كثير عددهم! فأمر بهم
وبالأمناء الذين كان بعثهم ليخبروه خبرهم، فقتلوا جميعا، وأسا في ذلك كثير تضرعه،
معتصم بربه، فقال زرح: ما أدري ما أفعل
(1/528)
بهؤلاء القوم؟ وما أدري ما قدر
قلتهم في كثرتنا؟ إني لأستقلهم عن المحاربة، وأرى الا اقاتلهم.
فأرسل زرح إلى أسا فقال له: أين صديقك الذي كنت تعدنا به، وتزعم أنه يخلصك مما يحل
بكم من سطواتي! أفتضعون أيديكم في يدي فأمضي فيكم حكمي، أو تلتمسون قتالي! فأجابه
أسا فقال: يا شقي، إنك لست تعلم ما تقول، ولست تدري! أتريد أن تغالب ربك بضعفك، أم
تريد أن تكاثره بقلتك؟ هو أعز شيء وأعظمه، وأغلب شيء وأقهره، وعباده أذل وأضعف
عنده من أن ينظروا إليه معاينة هو معي في موقفي هذا، ولن يغلب أحد كان الله معه.
فاجتهد يا شقي بجهدك حتى تعلم ماذا يحل بك.
فلما اصطف قوم زرح وأخذوا مراتبهم، امر زرح الرماة من قومه أن يرموهم بنشابهم فبعث
الله ملائكة من كل سماء- والله أعلم- عونا لأسا وقومه، ومادة له، فوقفهم أسا في
مواقفهم، فلما رموا نشابهم، حال المشركون بين ضوء الشمس وبين الأرض، كأنها سحابة
طلعت فنحتها الملائكة عن أسا وقومه، ثم رمت بها الملائكة قوم زرح فأصابت كل رجل منهم
نشابته التي رمى بها، فقتل رماتهم بها كلها وأسا وقومه في كل ذلك يحمدون الله
كثيرا، ويعجون إليه بالتسبيح، وتراءت الملائكة لهم- والله أعلم- فلما رآهم الشقي
زرح وقع الرعب في قلبه، وسقط في يده، وقال: إن أسا لعظيم كيده، ماض سحره، وكذلك
بنو إسرائيل، حيث كانوا لا يغلب سحرهم ساحر، ولا يطيق مكرهم عالم، وإنما تعلموه من
مصر، وبه ساروا في البحر، ثم نادى الهندي في قومه: أن سلوا سيوفكم، ثم احملوا
عليهم حملة واحدة.
فدقوهم.
فسلوا سيوفهم ثم حملوا على الملائكة فقتلتهم الملائكة، فلم يبق منهم غير زرح
ونسائه ورقيقه
(1/529)
فلما راى ذلك زرح ولى مدبرا
فارا هو ومن معه، وهو يقول: إن أسا ظهر علانية، وأهلكني صديقه سرا، وإني كنت أنظر
إلى أسا ومن معه واقفين لا يقاتلون والحرب واقعة في قومى فلما راى اسا ان زرحا قد
ولى مدبرا قال: اللهم ان زرحا قد ولى مدبرا، وانك ان لم تحل بيني وبينه استنفر
علينا قومه ثانية فأوحى الله إلى أسا: إنك لم تقتل من قتل منهم ولكني قتلتهم، فقف
مكانك، فإني لو خليت بينك وبينهم أهلكوكم جميعا، إنما يتقلب زرح في قبضتي، ولن
ينصره أحد مني، وأنا لزرح بالمكان الذي لا يستطيع صدودا عنه ولا تحويلا، وإني قد
وهبت لك ولقومك عساكره وما فيها من فضة ومتاع ودابة، فهذا اجرك إذ اعتصمت بي، ولا
ألتمس منك أجرا على نصرتك! فسار زرح حتى أتى البحر يريد بذلك الهرب، ومعه مائة
ألف، فهيئوا سفنهم ثم ركبوا فيها، فلما ساروا في البحر بعث الله الرياح من أطراف
الأرضين والبحار إلى ذلك البحر واضطربت من كل ناحية أمواجه، وضربت السفن بعضها
بعضا حتى تكسرت، فغرق زرح ومن كان معه، واضطربت بهم الأمواج حتى فزع لذلك أهل
القرى حولهم، ورجفت الأرض، فبعث أسا من يعلمه علم ذلك، فأوحى الله إليه- والله
أعلم- أن اهبط أنت وقومك أهل قراكم، فخذوا ما غنمكم الله بقوة، وكونوا فيه من
الشاكرين، فإني قد سوغت كل من أخذ من هذه العساكر شيئا ما أخذه فهبطوا يحمدون الله
ويقدسونه، فنقلوا تلك العساكر إلى قراهم ثلاثة أشهر والله أعلم.
ثم ملك بعده يهوشافاظ بن أسا إلى أن هلك خمسا وعشرين سنة
(1/530)
ثم ملكت عتليا وتسمى غزليا
ابنة عمرم أم أخزيا، وكانت قتلت أولاد ملوك بني إسرائيل، فلم يبق منهم إلا يواش بن
أخزيا، فإنه ستر عنها، ثم قتلها يواش وأصحابه، وكان ملكها سبع سنين.
ثم ملك يواش بن أخزيا إلى أن قتله أصحابه، وهو الذي قتل جدته، فكان ملكه أربعين
سنة.
ثم ملك أموصيا بن يواش إلى أن قتله أصحابه تسعا وعشرين سنة، ثم ملك عوزيا بن
أموصيا- وقد يقال لعوزيا: غوزيا- إلى أن توفي، اثنتين وخمسين سنة.
ثم ملك يوتام بن عوزيا إلى أن توفي، ست عشرة سنة.
ثم ملك أحاز بن يوتام إلى أن توفي، ست عشرة سنة.
ثم ملك حزقيا بن أحاز إلى أن توفي وقيل إنه صاحب شعيا الذي أعلمه شعيا انقضاء
عمره، فتضرع إلى ربه فزاده وأمهله، وأمر شعيا بإعلامه ذلك.
وأما مُحَمَّد بن إسحاق فإنه قَالَ: صاحب شعيا الذي هذه القصة قصته اسمه صديقة
(1/531)
ذكر صاحب قصة شعيا من ملوك بني
إسرائيل، وسنحاريب
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الفضل، قَالَ:
حَدَّثَنِي ابن إسحاق، قَالَ: كان فيما أنزل الله على موسى في خبره عن بني إسرائيل
وأحداثهم وما هم فاعلون بعده، قَالَ: «وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي
الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا
كَبِيراً» - إلى- «وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً» ، فكانت بنو
إسرائيل وفيهم الأحداث والذنوب، وكان الله في ذلك متجاوزا عنهم، متعطفا عليهم،
محسنا إليهم، وكان مما أنزل الله بهم في ذنوبهم ما كان قدم إليهم في الخبر عنهم
على لسان موسى.
فكان أول ما أنزل بهم من تلك الوقائع، أن ملكا منهم كان يدعى صديقة، وكان الله إذا
ملك الملك عليهم، بعث نبيا يسدده ويرشده، فيكون فيما بينه وبين الله، يحدث إليه في
أمرهم لا ينزل عليهم الكتب، إنما يؤمرون باتباع التوراة والأحكام التي فيها،
وينهونهم عن المعصية، ويدعونهم إلى ما تركوا من الطاعة.
فلما ملك ذلك الملك بعث الله معه شعيا بن أمصيا، وذلك قبل مبعث عيسى وزكرياء ويحيى
وشعيا الذي بشر بعيسى ومُحَمَّد، فملك ذلك الملك بني إسرائيل وبيت المقدس زمانا،
فلما انقضى ملكه، وعظمت فيهم الأحداث، وشعيا معه، بعث الله عليهم سنحاريب ملك بابل
معه ستمائه ألف راية، فأقبل سائرا حتى نزل حول بيت المقدس والملك مريض، في ساقه
قرحة، فجاءه النبي شعيا، فقال له: يا ملك بني إسرائيل، إن سنحاريب ملك بابل، قد
نزل بك هو وجنوده في ستمائه ألف راية، وقد هابهم الناس وفرقوا منهم.
فكبر ذلك على الملك، فقال: يا نبي الله، هل أتاك وحي من الله فيما حدث فتخبرنا به
كيف يفعل الله بنا وبسنحاريب وجنوده؟ فقال له النبي ع:
(1/532)
لم يأتني وحي حدث إلي في شأنك.
فبينما هم على ذلك أوحى الله إلى شعيا النبي: أن ائت ملك بني إسرائيل فأمره ان
يوصى بوصيته، ويستخلف على ملكه من يشاء من أهل بيته فأتى النبي شعيا ملك بني
إسرائيل صديقة، فقال له: إن ربك قد أوحى إلي أن آمرك توصي وصيتك، وتستخلف من شئت
على الملك من أهل بيتك، فإنك ميت.
فلما قَالَ ذلك شعيا لصديقة: أقبل على القبلة، فصلى وسبح، ودعا وبكى، وقال وهو
يبكي ويتضرع إلى الله بقلب مخلص، وتوكل وصبر، وظن صادق: اللهم رب الأرباب، وإله
الآلهة، القدوس المتقدس، يا رحمن يا رحيم، المترحم، الرءوف الذي لا تأخذه سنة ولا
نوم اذكرني بعملي وفعلي وحسن قضائي على بني إسرائيل، وذلك كله كان منك، فأنت أعلم
به من نفسي وسري وعلانيتي لك وإن الرحمن استجاب له وكان عبدا صالحا.
فأوحى الله إلى شعيا، فأمره أن يخبر صديقة الملك أن ربه قد استجاب له وقبل منه
ورحمه، وقد راى بكاءه، وقد اخر اجله خمس عشره سنه، وانجاه من عدوه سنحاريب ملك
بابل وجنوده فلما قَالَ له ذلك، ذهب عنه الوجع، وانقطع عنه الشر والحزن، وخر
ساجدا، وقال: يا إلهي وإله آبائي، لك سجدت وسبحت، وكرمت وعظمت أنت الذي تعطي الملك
من تشاء، وتنزعه مِمَّنْ تَشَاءُ، وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ، وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ،
عالم الغيب والشهادة، أنت الأول والآخر، والظاهر والباطن، وأنت ترحم وتستجيب دعوة
المضطرين، أنت الذي أجبت دعوتي، ورحمت تضرعي.
فلما رفع رأسه أوحى الله إلى شعيا: أن قل للملك صديقة، فيأمر عبدا من عبيده،
فيأتيه بماء التين فيجعله على قرحته فيشفى ويصبح وقد برئ ففعل ذلك فشفي وقال الملك
لشعيا النبي: سل ربك أن يجعل لنا علما بما هو صانع بعدونا هذا فقال الله لشعيا
النبي: قل له إني قد كفيتك عدوك، وأنجيتك منهم، وإنهم سيصبحون موتى كلهم إلا
سنحاريب وخمسة من كتابه
(1/533)
فلما أصبحوا جاءه صارخ فصرخ
على باب المدينة: يا ملك بني إسرائيل، إن الله قد كفاك عدوك فاخرج، فإن سنحاريب
ومن معه قد هلكوا فلما خرج الملك التمس سنحاريب فلم يوجد في الموتى، فبعث الملك في
طلبه، فأدركه الطلب في مغارة وخمسة من كتابه أحدهم بختنصر، فجعلوهم في الجوامع، ثم
أتوا بهم ملك بني إسرائيل، فلما رآهم خر ساجدا من حين طلعت الشمس حتى كانت العصر،
ثم قَالَ لسنحاريب: كيف ترى فعل ربنا بكم؟ ألم يقتلكم بحوله وقوته ونحن وأنتم
غافلون! فقال سنحاريب له:
قد أتاني خبر ربكم ونصره إياكم، ورحمته التي رحمكم بها قبل أن أخرج من بلادي، فلم
أطع مرشدا ولم يلقني في الشقوة إلا قلة عقلي، ولو سمعت أو عقلت ما غزوتكم، ولكن
الشقوة غلبت علي وعلى من معي فقال ملك بني إسرائيل: الحمد لله رب العزة الذي
كفاناكم بما شاء، إن ربنا لم يبقك ومن معك لكرامة لك عليه، ولكنه إنما أبقاك ومن
معك إلى ما هو شر لك ولمن معك لتزدادوا شقوة في الدنيا، وعذابا في الآخرة،
ولتخبروا من وراءكم بما رأيتم من فعل ربنا، ولتنذروا من بعدكم، ولولا ذلك ما
أبقاكم ولدمك ودم من معك أهون على الله من دم قراد لو قتلته!.
ثم إن ملك بني إسرائيل أمر أمير حرسه فقذف في رقابهم الجوامع، وطاف بهم سبعين يوما
حول بيت المقدس، وكان يرزقهم كل يوم خبزتين من شعير، لكل رجل منهم، فقال سنحاريب
لملك بني إسرائيل: القتل خير مما تفعل بنا، فافعل ما أمرت فأمر بهم الملك إلى سجن
القتل، فأوحى الله إلى شعيا النبي: أن قل لملك بني إسرائيل يرسل سنحاريب ومن معه
لينذروا من وراءهم، وليكرمهم وليحملهم حتى يبلغوا بلادهم فبلغ النبي شعيا الملك
ذلك، ففعل، فخرج سنحاريب ومن معه حتى قدموا بابل، فلما قدموا جمع الناس فأخبرهم
كيف فعل الله بجنوده فقال له كهانه وسحرته: يا ملك
(1/534)
بابل، قد كنا نقص عليك خبر
ربهم وخبر نبيهم ووحي الله إلى نبيهم، فلم تطعنا، وهي أمة لا يستطيعها أحد من
ربهم، فكان أمر سنحاريب مما خوفوا به، ثم كفاهم الله إياه تذكرة وعبرة، ثم لبث
سنحاريب بعد ذلك سبع سنين ثم مات.
وقد زعم بعض أهل الكتاب أن هذا الملك من بني إسرائيل الذي سار إليه سنحاريب كان
أعرج، وكان عرجه من عرق النسا، وأن سنحاريب إنما طمع في مملكته لزمانته وضعفه،
وأنه قد كان سار إليه قبل سنحاريب ملك من ملوك بابل، يقال له ليفر، وكان بختنصر
ابن عمه كاتبه، وأن الله أرسل عليه ريحا أهلكت جيشه، وأفلت هو وكاتبه، وأن هذا
البابلي قتله ابن له، وأن بختنصر غضب لصاحبه، فقتل ابنه الذي قتل أباه، وأن
سنحاريب سار بعد ذلك إليه، وكان مسكنه بنينوى مع ملك أذربيجان يومئذ، وكان يدعى
سلمان الأعسر، وأن سنحاريب وسلمان اختلفا، فتحاربا حتى تفانى جنداهما، وصار ما كان
معهما غنيمة لبني إسرائيل.
وقال بعضهم: بل الذي غزا حزقيا صاحب شعيا سنحاريب ملك الموصل، وزعم انه لما احاط
ببيت المقدس بجنوده بعث الله ملكا، فقتل من أصحابه في ليلة واحدة مائة ألف وخمسة
وثمانين ألف رجل وكان ملكه إلى أن توفي تسعا وعشرين سنة.
ثم ملك بعده- فيما قيل- أمرهم منشا بن حزقيا إلى أن توفي، خمسا وخمسين سنة.
ثم ملك بعده أمون بن منشا إلى أن قتله أصحابه، اثنتي عشرة سنة
(1/535)
ثم ملك بعده يوشيا بن أمون إلى
أن قتله فرعون الأجدع المقعد ملك مصر، إحدى وثلاثين سنة.
ثم ياهواحاز بن يوشيا، وكان فرعون الأجدع قد غزاه وأسره وأشخصه إلى مصر، وملك
فرعون الأجدع يوياقيم بن ياهواحاز على ما كان عليه أبوه، ووظف عليه خراجا يؤديه
إليه، فكان يوياقيم يجبي ذلك- فيما زعموا- من بني إسرائيل، ويحمله- فيما زعموا-
اثنتي عشرة سنة.
ثم ملك أمرهم من بعده يوياحين بن يوياقيم، فغزاه بختنصر، فأسره وأشخصه إلى بابل
بعد ثلاثة أشهر من ملكه وملك مكانه متنيا عمه وسماه صديقيا فخالفه، فغزاه فظفر به،
فأوثقه وحمله إلى بابل بعد أن ذبح ولده بين يديه، وسمل عينيه وخرب المدينة
والهيكل، وسبى بني إسرائيل، وحملهم إلى بابل، فمكثوا بها إلى أن ردهم إلى بيت
المقدس كيرش بن جاماسب ابن أسب، من أجل القرابة التي كانت بينه وبينهم، وذلك أن
أمه أشتر ابنة جاويل- وقيل: حاويل- الإسرائيلي، فكان جميع ما ملك صديقيا مع
الثلاثة الأشهر التي ملك فيها يوياحين- فيما قيل- إحدى عشرة سنة وثلاثة أشهر.
ثم صار ملك بيت المقدس والشام لأشتاسب بن لهراسب، وعامله على ذلك كله بختنصر.
وذكر مُحَمَّد بْن إسحاق، فيما حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حدثنا سلمة عنه:
أن صديقة ملك بني إسرائيل الذي قد ذكرنا خبره، لما قبضه الله مرج
(1/536)
أمر بني إسرائيل، وتنافسوا
الملك، حتى قتل بعضهم بعضا عليه، ونبيهم شعيا معهم، لا يرجعون إليه ولا يقبلون منه
فلما فعلوا ذلك قَالَ الله- فيما بلغنا- لشعيا: قم في قومك أوح على لسانك، فلما
قام أنطق الله لسانه بالوحي، فوعظهم وذكرهم وخوفهم الغير، بعد أن عدد عليهم نعم
الله عليهم، وتعرضهم للغير.
قَالَ: فلما فرغ شعيا إليهم من مقالته عدوا عليه- فيما بلغني- ليقتلوه، فهرب منهم،
فلقيته شجرة، فانفلقت له، فدخل فيها وأدركه الشيطان، فأخذ بهدبة من ثوبه فأراهم
إياها، فوضعوا المنشار في وسطها، فنشروها حتى قطعوها وقطعوه في وسطها.
وقد حَدَّثَنِي بقصة شعيا وقومه من بني إسرائيل وقتلهم إياه، مُحَمَّد بن سهل
البخاري، قَالَ: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد بن معقل، عن
وهب بن منبه
(1/537)
ذكر خبر لهراسب وابنه بشتاسب
وغزو بختنصر بني إسرائيل وتخريبه بيت المقدس
ثم ملك بعد كيخسرو من الفرس لهراسب بن كيوجي بن كيمنوش بن كيفاشين، باختيار كيخسرو
إياه، فلما عقد التاج على رأسه قَالَ: نحن مؤثرون البر على غيره واتخذ سريرا من
ذهب مكللا بأنواع الجواهر للجلوس عليه، وأمر فبنيت له بأرض خراسان مدينة بلخ،
وسماها الحسناء، ودون الدواوين، وقوى ملكه بانتخابه لنفسه الجنود، وعمر الأرض
واجتبى الخراج لأرزاق الجنود، ووجه بختنصر، وكان اسمه بالفارسية- فيما قيل-
بخترشه.
فحدثت عن هشام بن مُحَمَّد قَالَ: ملك لهراسب- وهو ابن أخي قبوس- فبنى مدينة بلخ،
فاشتدت شوكة الترك في زمانه، وكان منزله ببلخ يقاتل الترك قَالَ: وكان بختنصر في
زمانه، وكان أصبهبذ ما بين الأهواز إلى أرض الروم من غربي دجلة، فشخص حتى أتى
دمشق، فصالحه أهلها ووجه قائدا له، فأتى بيت المقدس فصالح ملك بني إسرائيل، وهو
رجل من ولد داود، وأخذ منه رهائن وانصرف فلما بلغ طبرية وثبت بنو إسرائيل على
ملكهم فقتلوه، وقالوا: راهنت أهل بابل وخذلتنا! واستعدوا للقتال، فكتب قائد بختنصر
إليه بما كان، فكتب إليه يأمره أن يقيم بموضعه حتى يوافيه، وأن يضرب أعناق الرهائن
الذين معه، فسار بختنصر حتى أتى بيت المقدس، فأخذ المدينة عنوة، فقتل المقاتلة،
وسبى الذرية.
قَالَ: وبلغنا أنه وجد في سجن بني إسرائيل إرميا النبي، وكان الله تعالى بعثه
نبيا- فيما بلغنا- إلى بني إسرائيل يحذرهم ما حل بهم من بختنصر،
(1/538)
ويعلمهم أن الله مسلط عليهم من
يقتل مقاتلتهم، ويسبي ذراريهم، إن لم يتوبوا وينزعوا عن سيئ أعمالهم فقال له
بختنصر: ما خطبك؟ فأخبره أن الله بعثه إلى قومه ليحذرهم الذي حل بهم، فكذبوه
وحبسوه فقال بختنصر:
بئس القوم قوم عصوا رسول ربهم! وخلى سبيله، وأحسن إليه فاجتمع إليه من بقي من
ضعفاء بني إسرائيل، فقالوا: إنا قد أسأنا وظلمنا، ونحن نتوب إلى الله مما صنعنا،
فادع الله أن يقبل توبتنا فدعا ربه فأوحى إليه أنهم غير فاعلين، فإن كانوا صادقين
فليقيموا معك بهذه البلدة، فأخبرهم بما أمرهم الله به، فقالوا: كيف نقيم ببلدة قد
خربت وغضب الله على أهلها! فأبوا أن يقيموا، فكتب بختنصر إلى ملك مصر: إن عبيدا لي
هربوا مني إليك، فسرحهم إلي، وإلا غزوتك وأوطأت بلادك الخيل فكتب إليه ملك مصر: ما
هم بعبيدك، ولكنهم الأحرار أبناء الأحرار، فغزاه بختنصر فقتله، وسبى أهل مصر، ثم
سار في أرض المغرب، حتى بلغ أقصى تلك الناحية، ثم انطلق بسبي كثير من أهل فلسطين
والأردن، فيهم دانيال وغيره من الأنبياء.
قَالَ: وفي ذلك الزمان تفرقت بنو إسرائيل، ونزل بعضهم أرض الحجاز بيثرب ووادي
القرى، وغيرها.
قَالَ: ثم أوحى الله إلى إرميا- فيما بلغنا: إني عامر بيت المقدس فاخرج إليها،
فانزلها فخرج إليها حتى قدمها وهي خراب، فقال في نفسه: سبحان الله! أمرني الله أن
أنزل هذه البلدة، وأخبرني أنه عامرها، فمتى يعمر هذه، ومتى يحييها الله بعد موتها!
ثم وضع رأسه فنام ومعه حماره وسلة فيها طعام، فمكث في نومه سبعين سنة، حتى هلك
بختنصر والملك الذي فوقه،
(1/539)
وهو لهراسب الملك الأعظم وكان
ملك لهراسب مائة وعشرين سنة وملك بعده بشتاسب ابنه، فبلغه عن بلاد الشام أنها
خراب، وأن السباع قد كثرت في أرض فلسطين، فلم يبق بها من الإنس أحد، فنادى في أرض
بابل في بني إسرائيل: إن من شاء أن يرجع إلى الشام فليرجع وملك عليهم رجلا من آل
داود، وأمره أن يعمر بيت المقدس ويبني مسجدها، فرجعوا فعمروها، وفتح الله لإرميا
عينيه، فنظر إلى المدينة كيف تعمر وتبنى، ومكث في نومه ذلك، حتى تمت له مائة سنة،
ثم بعثه الله وهو لا يظن أنه نام أكثر من ساعة، وقد عهد المدينة خرابا يبابا، فلما
نظر إليها قَالَ: أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ على كل شيء قدير قَالَ: وأقام بنو
إسرائيل ببيت المقدس ورد إليهم أمرهم، وكثروا بها حتى غلبت عليهم الروم في زمان
ملوك الطوائف، فلم يكن لهم بعد ذلك جماعة.
قَالَ هشام: وفي زمان بشتاسب ظهر زرادشت، الذي تزعم المجوس انه نبيهم، وكان
زرادشت- فيما زعم قوم من علماء أهل الكتاب- من أهل فلسطين، خادما لبعض تلامذة
إرميا النبي خاصا به، أثيرا عنده، فخانه فكذب عليه، فدعا الله عليه، فبرص فلحق
ببلاد أذربيجان، فشرع بها دين المجوسية، ثم خرج منها متوجها نحو بشتاسب، وهو ببلخ،
فلما قدم عليه وشرح له دينه أعجبه فقسر الناس على الدخول فيه، وقتل في ذلك من
رعيته مقتلة عظيمة، ودانوا به، فكان ملك بشتاسب مائة سنة واثنتي عشرة سنة.
وأما غيره من أهل الأخبار والعلم بأمور الأوائل فإنه ذكر أن كي لهراسب
(1/540)
كان محمودا في أهل مملكته،
شديد القمع للملوك المحيطة بايران شهر، شديد التفقد لأصحابه، بعيد الهمة كثير
الفكر في تشييد البنيان، وشق الأنهار، وعمارة البلاد، فكانت ملوك الروم والمغرب
والهند وغيرهم يحملون إليه في كل سنة وظيفة معروفة وإتاوة معلومة، ويكاتبونه
بالتعظيم ويقرون له أنه ملك الملوك هيبة له وحذرا.
قَالَ: ويقال: إن بختنصر حمل اليه من اوريشلم خزائن وأموالا، فلما أحس بالضعف من
قوته ملك ابنه بشتاسب، واعتزل الملك وفوضه إليه، وكان ملك لهراسب- فيما ذكر- مائة
سنة وعشرين سنة.
وزعم أن بختنصر هذا الذي غزا بني إسرائيل اسمه بخترشه، وأنه رجل من العجم، من ولد
جوذرز، وأنه عاش دهرا طويلا جاوزت مدته ثلاثمائة سنة، وأنه كان في خدمة لهراسب
الملك، أبي بشتاسب، وأن لهراسب وجهه إلى الشام وبيت المقدس ليجلي عنها اليهود فسار
إليها ثم انصرف، وأنه لم يزل من بعد لهراسب في خدمة ابنه بشتاسب، ثم في خدمة بهمن
من بعده، وأن بهمن كان مقيما بمدينة بلخ- وهي التي كانت تسمى الحسناء- وأنه أمر
بخترشه بالتوجه إلى بيت المقدس ليجلي اليهود عنها، وأن السبب في ذلك وثوب صاحب بيت
المقدس على رسل كان بهمن وجههم إليه، وقتله بعضهم فلما ورد الخبر على بهمن دعا
بخترشه فملكه على بابل، وأمره بالمسير إليها، والنفوذ منها إلى الشام وبيت المقدس،
والقصد إلى اليهود حتى يقتل مقاتلتهم، ويسبي ذراريهم، وبسط يده فيمن يختار من
الأشراف والقواد، فاختار من أهل بيت المملكة داريوش بن مهرى، من ولد ماذي بن يافث
بن نوح، وكان ابن أخت بخترشه واختار كيرش كيكوان من ولد غيلم بن سام،
(1/541)
وكان خازنا على بيت مال بهمن،
وأخشويرش بن كيرش بن جاماسب الملقب بالعالم، وبهرام بن كيرش بن بشتاسب فضم بهمن
إليه من أهله وخاصته هؤلاء الأربعة، وضم إليه من وجوه الأساورة ورؤسائهم ثلاثمائة
رجل، ومن الجند خمسين ألف رجل، وأذن له في أن يفرض ما احتاج إليه، وفي إثباتهم ثم
أقبل بهم حتى صار إلى بابل، فأقام بها للتجهز والاستعداد سنة، والتفت إليه جماعة
عظيمة، وكان فيمن سار إليه رجل من ولد سنحاريب، الملك الذي كان غزا حزقيا بن أحاز
الملك، الذي كان بالشام وببيت المقدس من ولد سليمان بن داود صاحب شعيا، يقال له
بختنصر بن نبوزراذان بن سنحاريب، صاحب الموصل وناحيتها، بن داريوش بن عبيرى بن
تيرى بن روبا ابن راببا بن سلامون بن داود بن طامي بن هامل بن هرمان بن فودي بن
همول بن درمى بن قمائل بن صاما بن رغما بن نمرود بن كوش بن حام بن نوح ع.
وكان مسيره إليه بسبب ما كان آتى حزقيا وبنو إسرائيل إلى جده سنحاريب عند غزوه
إياهم، وتوسل إليه بذلك، فقدمه في جماعة كثيرة، ثم اتبعه، فلما توافت العساكر ببيت
المقدس، نصر بخترشه على بني إسرائيل لما أراد الله بهم من العقوبة، فسباهم، وهدم
البيت وانصرف إلى بابل، ومعه يوياحن بن يوياقيم ملك بني إسرائيل في ذلك الوقت، من
ولد سليمان بعد أن ملك متنيا عم يوحينا، وسماه صدقيا
(1/542)
فلما صار بختنصر ببابل خالفه
صدقيا، فغزاه بختنصر ثانية فظفر به، وأخرب المدينة والهيكل، وأوثق صدقيا، وحمله
إلى بابل بعد أن ذبح ولده، وسمل عينيه فمكث بنو إسرائيل ببابل إلى أن رجعوا إلى
بيت المقدس، فكان غلبة بختنصر- المسمى بخترشه- على بيت المقدس إلى أن مات- في قول
هذا الذي حكينا قوله- أربعين سنة.
ثم قام من بعده ابن يقال له او لمرودخ فملك الناحية ثلاثا وعشرين سنة، ثم هلك وملك
مكانه ابن يقال له بلتشصر بن او لمرودخ سنة، فلما ملك بلتشصر خلط في أمره، فعزله
بهمن وملك مكانه على بابل وما يتصل بها من الشام وغيرها داريوش الماذوي، المنسوب
إلى ماذي بن يافث بن نوح ع حين صار إلى المشرق، فقتل بلتشصر، وملك بابل وناحية
الشام ثلاث سنين ثم عزله بهمن وولى مكانه كيرش الغيلمي، من ولد غيلم بن سام ابن
نوح، الذي كان نزع إلى جامر مع ماذي عند ما مضى جامر إلى المشرق.
فلما صار الأمر إلى كيرش كتب بهمن أن يرفق ببني إسرائيل، ويطلق لهم النزول حيث
أحبوا، والرجوع إلى أرضهم، وأن يولى عليهم من يختارونه، فاختاروا دانيال النبي ع،
فولي أمرهم، وكان ملك كيرش على بابل وما يتصل بها ثلاث سنين، فصارت هذه السنون- من
وقت غلبة بختنصر إلى انقضاء أمره وأمر ولده وملك كيرش الغيلمي- معدودة من خراب بيت
المقدس، منسوبة إلى بختنصر، ومبلغها سبعون سنة.
ثم ملك بابل وناحيتها من قبل بهمن رجل من قرابته، يقال له اخشوارش ابن كيرش بن
جاماسب، الملقب بالعالم، من الأربعة الوجوه الذين اختارهم بخترشه عند توجهه إلى
الشام من قبل بهمن، وذلك أن أخشوارش انصرف إلى بهمن من عند بختنصر محمودا، فولاه
ذلك الوقت بابل وناحيتها، وكان السبب في ولايته- فيما زعم- أن رجلا كان يتولى
لبهمن ناحية السند والهند
(1/543)
يقال له كراردشير بن دشكال خالفه، ومعه من الاتباع ستمائه ألف، فولى بهمن أخشويرش الناحية، وأمره بالمسير إلى كراردشير، ففعل ذلك وحاربه، فقتله وقتل أكثر أصحابه، فتابع له بهمن الزيادة في العمل، وجمع له طوائف من البلاد، فلزم السوس، وجمع الأشراف، وأطعم الناس اللحم، وسقاهم الخمر، وملك بابل إلى ناحية الهند والحبشة وما يلي البحر، وعقد لمائة وعشرين قائدا في يوم واحد الألوية، وصير تحت يد كل قائد ألف رجل من أبطال الجند الذين يعدل الواحد منهم في الحرب بمائة رجل، وأوطن بابل، وأكثر المقام بالسوس، وتزوج من سبي بني إسرائيل امرأة يقال لها أشتر ابنة أبي جاويل، كان رباها ابن عم لها يقال له مردخى، وكان أخاها من الرضاعة، لأن أم مردخى أرضعت أشتر، وكان السبب في تزوجه إياها قتله امرأة كانت له جليلة جميلة خطيرة، يقال لها وشتا، فأمرها بالبروز ليراها الناس، ليعرفوا جلالتها وجمالها، فامتنعت من ذلك فقتلها، فلما قتلها جزع لقتلها جزعا شديدا، فأشير عليه باعتراض نساء العالم، ففعل ذلك، وحببت إليه أشتر صنعا لبني إسرائيل، فتزعم النصارى أنها ولدت له عند مسيره إلى بابل ابنا فسماه كيرش، وأن ملك أخشويرش كان أربع عشرة سنة، وقد علمه مردخى، التوراة، ودخل في دين بني إسرائيل، وفهم عن دانيال النبي ع ومن كان معه حينئذ، مثل حننيا وميشايل وعازريا، فسألوه بأن يأذن لهم في الخروج إلى بيت المقدس فأبى وقال: لو كان معي منكم ألف نبي ما فارقني منكم واحد ما دمت حيا وولى دانيال القضاء، وجعل إليه جميع أمره، وأمره أن يخرج كل شيء في الخزائن مما كان بختنصر أخذه من بيت المقدس ويرده، وتقدم في بناء بيت المقدس، فبني وعمر في أيام
(1/544)
كيرش بن أخشويرش وكان ملك
كيرش، مما دخل في ملك بهمن وخماني اثنتين وعشرين سنة.
ومات بهمن لثلاث عشرة سنة مضت من ملك كيرش، وكان موت كيرش لأربع سنين مضين من ملك
خماني، فكان جميع ملك كيرش بن أخشويرش اثنتين وعشرين سنة.
فهذا ما ذكر أهل السير والأخبار في أمر بختنصر وما كان من أمره وأمر بني إسرائيل.
وأما السلف من أهل العلم فإنهم قَالُوا في أمرهم أقوالا مختلفة، فمن ذلك ما
حَدَّثَنِي القاسم بن الحسن، قَالَ: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج عن ابن جريج،
قَالَ: حَدَّثَنِي يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، أنه سمعه يقول:
كان رجل من بني إسرائيل يقرأ، حتى إذا بلغ: بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا
أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ بكى، وفاضت عيناه، ثم أطبق المصحف، فقال:
ذلك ما شاء الله من الزمان! ثم قَالَ: أي رب، أرني هذا الرجل الذي جعلت هلاك بني
إسرائيل على يديه فأري في المنام مسكينا ببابل يقال له بختنصر، فانطلق بمال وأعبد
له- وكان رجلا موسرا- فقيل له: أين تريد؟ فقال:
أريد التجارة، حتى نزل دارا ببابل فاستكراها، ليس فيها أحد غيره، فجعل يدعو
المساكين ويلطف بهم حتى لا يأتيه أحد إلا أعطاه، فقال:
هل بقي مسكين غيركم؟ فقالوا: نعم مسكين بفج آل فلان مريض، يقال له بختنصر، فقال
لغلمته: انطلقوا بنا، فانطلق حتى أتاه فقال: ما اسمك؟
قَالَ: بختنصر، فقال لغلمته: احتملوه فنقله إليه فمرضه حتى برئ، وكساه وأعطاه
نفقة، ثم أذن الإسرائيلي بالرحيل، فبكى بختنصر، فقال الإسرائيلي:
ما يبكيك؟ قَالَ: أبكي أنك فعلت بي ما فعلت، ولا أجد شيئا اجزيك!
(1/545)
قَالَ: بلى شيئا يسيرا، إن
ملكت أطعتني فجعل الآخر يتبعه ويقول:
تستهزئ بي! ولا يمنعه أن يعطيه ما سأله إلا أنه يرى أنه يستهزئ به فبكى الإسرائيلي
وقال: لقد علمت ما يمنعك أن تعطيني ما سألتك، إلا أن الله عز وجل يريد أن ينفذ ما
قضى وكتب في كتابه.
وضرب الدهر من ضربه، فقال صيحون، وهو ملك فارس ببابل:
لو أنا بعثنا طليعة إلى الشام! قَالُوا: وما ضرك لو فعلت! قَالَ: فمن ترون؟
قَالُوا: فلان، فبعث رجلا، واعطاه مائه والف، وخرج بختنصر في مطبخه لا يخرج إلا
ليأكل في مطبخه، فلما قدم الشام رأى صاحب الطليعة أكثر أرض الله فرسا ورجلا جلدا،
فكسره ذلك في ذرعه، فلم يسأل، فجعل بختنصر يجلس مجالس أهل الشام فيقول: ما يمنعكم
أن تغزوا بابل؟ فلو غزوتموها، فما دون بيت مالها شيء قَالُوا: لا نحسن القتال ولا
نقاتل حتى تنفذ مجالس أهل الشام، ثم رجعوا فأخبر متقدم الطليعة ملكهم بما رأى،
وجعل بختنصر يقول لفوارس الملك: لو دعاني الملك لأخبرته غير ما أخبره فلان فرفع
ذلك إليه، فدعاه فأخبره الخبر، وقال: إن فلانا لما رأى أكثر أرض الله كراعا ورجلا
جلدا، كسر ذلك في ذرعه، ولم يسألهم عن شيء، وإني لم أدع مجلسا بالشام إلا جالست
أهله، فقلت لهم كذا وكذا، فقالوا لي كذا وكذا- للذي ذكر سعيد بن جبير أنه قَالَ
لهم- فقال متقدم الطليعة لبختنصر:
فضحتني! لك مائة ألف وتنزع عما قلت قَالَ: لو أعطيتني بيت مال بابل ما نزعت وضرب
الدهر من ضربه، فقال الملك: لو بعثنا جريدة خيل إلى الشام، فإن وجدوا مساغا ساغوا،
وإلا امتشوا ما قدروا عليه قَالُوا: ما ضرك
(1/546)
لو فعلت! قَالَ: فمن ترون؟
قَالُوا: فلان، قَالَ: بل الرجل الذي أخبرني بما أخبرني، فدعا بختنصر، فأرسله
وانتخب معه أربعة آلاف من فرسانهم، فانطلقوا فجاسوا خلال الديار، فسبوا ما شاء
الله ولم يخربوا ولم يقتلوا، ورمي في جنازة صيحون، قَالُوا: استخلفوا رجلا،
قَالُوا: على رسلكم حتى يأتي أصحابكم، فإنهم فرسانكم، أن ينغصوا عليكم شيئا!
فأمهلوا حتى جاء بختنصر بالسبي وما معه، فقسمه في الناس فقالوا: ما رأينا أحدا أحق
بالملك من هذا! فملكوه.
وقال آخرون منهم: إنما كان خروج بختنصر إلى بني إسرائيل لحربهم حين قتلت بنو
إسرائيل يحيى بن زكرياء.
ذكر بعض من قَالَ ذلك منهم:
حَدَّثَنِي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي،
في الحديث الذي ذكرنا إسناده قبل: أن بختنصر بعثه صيحائين لحرب بني إسرائيل حين
قتل ملكهم يحيى بن زكرياء ع، وبلغ صيحائين قَتَلَهُ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ،
قَالَ- فيما بلغني: استخلف الله عز وجل على بني إسرائيل بعد شعيا رجلا منهم يقال
له ياشيه بن اموص، فبعث الله لهم الخضر نبيا، واسم الخضر- فيما كان وهب بن منبه
يزعم عن بني إسرائيل- إرميا بن حلقيا، وكان من سبط هارون.
وأما وهب بن منبه فإنه قَالَ فيه ما حَدَّثَنِي مُحَمَّد بن سهل بن عسكر البخاري،
قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد بن معقل، قال: سمعت وهب
بن منبه يقول:
(1/547)
وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق عمن لا يتهم عن وهب بن منبه اليماني أنه كان يقول: قَالَ الله عز وجل لإرميا حين بعثه نبيا إلى بني إسرائيل: يا إرميا، من قبل أن أخلقك اخترتك، ومن قبل أن أصورك في بطن أمك قدستك، ومن قبل أن أخرجك من بطن أمك طهرتك، ومن قبل أن تبلغ السعي نبيتك، ومن قبل أن تبلغ الأشد اختبرتك، ولأمر عظيم اجتبيتك فبعث الله عز وجل إرميا إلى ذلك الملك من بني إسرائيل يسدده ويرشده، ويأتيه بالخبر من قبل الله فيما بينه وبين الله عز وجل قال: ثم عظمت الأحداث في بني إسرائيل، وركبوا المعاصي، واستحلوا المحارم، ونسوا ما كان الله صنع بهم، وما نجاهم من عدوهم سنحاريب وجنوده، فأوحى الله عز وجل إلى إرميا: أن ائت قومك من بني إسرائيل، فاقصص عليهم ما آمرك به، وذكرهم نعمي عليهم، وعرفهم أحداثهم فقال إرميا: إني ضعيف إن لم تقوني، عاجز إن لم تبلغني، مخطئ إن لم تسددني، مخذول إن لم تنصرني، ذليل إن لم تعزني قَالَ الله عز وجل: ألم تعلم أن الأمور كلها تصدر عن مشيئتي، وأن القلوب كلها والألسن بيدي، أقلبها كيف شئت فتطيعني! وأني أنا الله الذي لا شيء مثلي، قامت السموات والأرض وما فيهن بكلمتي، وأنا كلمت البحار ففهمت قولي، وأمرتها فعقلت أمري، وحددت عليها بالبطحاء فلا تعدى حدي، تأتي بأمواج كالجبال، حتى إذا بلغت حدي ألبستها مذلة طاعتي خوفا واعترافا لأمري، إني معك ولن يصل إليك شيء معي، وإني بعثتك إلى خلق عظيم من خلقي لتبلغهم رسالاتي، ونستحق بذلك مثل أجر من اتبعك منهم، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، وإن تقصر به عنها تستحق بذلك مثل وزر من تركت في عماه، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا انطلق إلى قومك فقل: إن الله ذكر
(1/548)
بكم صلاح آبائكم، فحمله ذلك
على أن يستتيبكم يا معشر الأبناء.
وسلهم كيف وجد آباءهم مغبة طاعتي وكيف وجدوا هم مغبة معصيتي! وهل علموا أن أحدا
قبلهم أطاعني فشقي بطاعتي، أو عصاني فسعد بمعصيتي! وأن الدواب مما تذكر أوطانها
الصالحة تنتابها، وأن هؤلاء القوم رتعوا في مروج الهلكة أما أحبارهم ورهبانهم
فاتخذوا عبادي خولا يتعبدونهم دوني، ويحكمون فيهم بغير كتابي، حتى أجهلوهم أمري،
وأنسوهم ذكري، وغروهم مني.
وأما أمراؤهم وقادتهم فبطروا نعمتي، وأمنوا مكري، ونبذوا كتابي، ونسوا عهدي،
وغيروا سنتي، وادان لهم عبادي بالطاعة التي لا تنبغي إلا لي، فهم يطيعونهم في
معصيتي، ويتابعونهم على البدع التي يبتدعون في ديني، جرأة علي وغرة، وفرية علي
وعلى رسلي فسبحان جلالي وعلو مكاني وعظمة شأني! وهل ينبغي لبشر أن يطاع في معصيتي!
وهل ينبغي أن أخلق عبادا أجعلهم أربابا من دوني! وأما قراؤهم وفقهاؤهم فيتعبدون في
المساجد، ويتزينون بعمارتها لغيري لطلب الدنيا بالدين، ويتفقهون فيها لغير العلم،
ويتعلمون فيها لغير العمل وأما أولاد الأنبياء فمكثورون مقهورون مغترون، يخوضون مع
الخائضين، فيتمنون علي مثل نصرة آبائهم، والكرامة التي أكرمتهم بها، ويزعمون أن لا
أحد أولى بذلك منهم مني بغير صدق ولا تفكر ولا تدبر ولا يذكرون كيف نصر آبائهم لي،
وكيف كان جدهم في أمري، حين غير المغيرون، وكيف بذلوا أنفسهم ودماءهم، فصبروا
وصدقوا حتى عز أمري، وظهر ديني، فتأنيت بهؤلاء القوم لعلهم يستجيبون، فأطولت لهم،
وصفحت عنهم لعلهم يرجعون، واكثرت ومددت لهم في العمر لعلهم يتفكرون، فأعذرت وفي كل
ذلك أمطر عليهم السماء، وأنبت لهم الأرض، وألبسهم
(1/549)
العافية، وأظهرهم على العدو،
فلا يزدادون إلا طغيانا وبعدا مني فحتى متى هذا! أبي يتمرسون! أم إياي يخادعون!
فإني أحلف بعزتي لأقيضن لهم فتنة يتحير فيها الحليم، ويضل فيها رأي ذي الرأي وحكمة
الحكيم ثم لأسلطن عليهم جبارا قاسيا عاتيا، ألبسه الهيبة، وأنزع من صدره الرأفة
والرحمة والليان، يتبعه عدد مثل سواد الليل المظلم، له عساكر مثل قطع السحاب، ومراكب
أمثال العجاج، كأن خفيق راياته طيران النسور، وكأن حملة فرسانه كرير العقبان.
ثم أوحى الله عز وجل إلى إرميا أني مهلك بني إسرائيل بيافث- ويافث أهل بابل، فهم
من ولد يافث بن نوح ع- فلما سمع إرميا وحي ربه صاح وبكى وشق ثيابه، ونبذ الرماد
على رأسه، فقال: ملعون يوم ولدت فيه، ويوم لقنت فيه التوراة، ومن شر أيامي يوم
ولدت فيه، فما أبقيت آخر الأنبياء إلا لما هو شر علي، لو أراد بي خيرا ما جعلني
آخر الأنبياء من بني إسرائيل، فمن أجلي تصيبهم الشقوة والهلاك! فلما سمع الله عز
وجل تضرع الخضر وبكاءه، وكيف يقول، ناداه:
يا إرميا، أشق عليك ما أوحيت لك! قَالَ: نعم يا رب، أهلكني قبل أن أرى في بني
إسرائيل ما لا أسر به، فقال الله تعالى: وعزتي وجلالي لا أهلك بيت المقدس وبني
إسرائيل حتى يكون الأمر من قبلك في ذلك ففرح عند ذلك إرميا لما قَالَ له ربه،
وطابت نفسه وقال: لا، والذي بعث موسى وأنبياءه بالحق، لا آمر ربي بهلاك بني
إسرائيل أبدا.
ثم أتى ملك بني إسرائيل فأخبره بما أوحى الله إليه فاستبشر وفرح، وقال:
إن يعذبنا ربنا فبذنوب كثيرة قدمناها لأنفسنا، وإن عفا عنا فبقدرته.
ثم إنهم لبثوا بعد هذا الوحي ثلاث سنين لم يزدادوا إلا معصية وتماديا في الشر،
وذلك حين اقترب هلاكهم، فقل الوحي حين لم يكونوا يتذكرون الآخرة، وأمسك عنهم حين
ألهتهم الدنيا وشأنها، فقال لهم ملكهم:
(1/550)
يا بني إسرائيل، انتهوا عما
أنتم عليه قبل أن يمسكم بأس الله، وقبل أن يبعث الله عليكم قوما لا رحمة لهم بكم،
فإن ربكم قريب التوبة مبسوط اليدين بالخير، رحيم بمن تاب إليه فأبوا عليه أن
ينزعوا عن شيء مما هم عليه وإن الله ألقى في قلب بختنصر بن نبوزراذان بن سنحاريب
بن دارياس بن نمرود بن فالغ ابن عابر- ونمرود صاحب ابراهيم ع، الذي حاجه في ربه-
أن يسير إلى بيت المقدس، ثم يفعل فيه ما كان جده سنحاريب أراد أن يفعل فخرج في
ستمائه ألف راية يريد أهل بيت المقدس، فلما فصل سائرا أتى ملك بني إسرائيل الخبر
أن بختنصر قد أقبل هو وجنوده يريدكم، فأرسل الملك إلى إرميا، فجاءه فقال: يا
إرميا، أين ما زعمت لنا أن ربك أوحى إليك ألا يهلك أهل بيت المقدس حتى يكون منك
الأمر في ذلك! فقال إرميا للملك:
إن ربي لا يخلف الميعاد، وأنا به واثق.
فلما اقترب الأجل ودنا انقطاع ملكهم، وعزم الله تعالى على هلاكهم، بعث الله عز وجل
ملكا من عنده، فقال له: اذهب إلى إرميا واستفته.
وأمره بالذي يستفتيه فيه فأقبل الملك إلى إرميا، وقد تمثل له رجلا من بني إسرائيل
فقال له إرميا: من أنت؟ قَالَ: أنا رجل من بني إسرائيل أستفتيك في بعض أمري، فأذن
له، فقال له الملك: يا نبي الله، أتيتك أستفتيك في أهل رحمي، وصلت أرحامهم بما
أمرني الله به، لم آت إليهم إلا حسنا، ولم آلهم كرامة، فلا تزيدهم كرامتي إياهم
إلا إسخاطا لي، فأفتني فيهم يا نبي الله! فقال له: أحسن فيما بينك وبين الله، وصل
ما أمرك الله أن تصل، وأبشر بخير قَالَ: فانصرف عنه الملك، فمكث أياما ثم أقبل
إليه في صورة ذلك الرجل الذي كان جاءه، فقعد بين يديه، فقال له إرميا: من أنت؟
قَالَ أنا الرجل الذي أتيتك أستفتيك في شأن أهلي، فقال له نبي الله:
اوما طهرت لك أخلاقهم بعد، ولم تر منهم الذي تحب! قَالَ: يا نبي الله، والذي بعثك
بالحق ما أعلم كرامة يأتيها أحد من الناس إلى أهل رحمه
(1/551)
إلا وقد أتيتها إليهم وأفضل من
ذلك فقال النبي: ارجع إلى أهلك فأحسن إليهم، واسأل الله الذي يصلح عباده الصالحين
أن يصلح ذات بينكم، وأن يجمعكم على مرضاته، ويجنبكم سخطه فقام الملك من عنده فلبث
أياما وقد نزل بختنصر وجنوده حول بيت المقدس بأكثر من الجراد، ففزع منهم بنو
إسرائيل فزعا شديدا، وشق ذلك على ملك بني إسرائيل فدعا إرميا فقال:
يا نبي الله، أين ما وعدك الله؟ فقال: إني بربي واثق ثم إن الملك أقبل إلى إرميا
وهو قاعد على جدار بيت المقدس يضحك ويستبشر بنصر ربه الذي وعده، فقعد بين يديه،
فقال له إرميا: من أنت؟ قَالَ: أنا الذي كنت أتيتك في شأن أهلي مرتين، فقال له
النبي: أولم يأن لهم أن يفيقوا من الذي هم فيه! فقال الملك: يا نبي الله، كل شيء
كان يصيبني منهم قبل اليوم كنت أصبر عليه، وأعلم أن مآلهم في ذلك سخطي، فلما
أتيتهم اليوم رأيتهم في عمل لا يرضاه الله ولا يحبه، قَالَ له النبي: على أي عمل
رأيتهم؟
قَالَ: يا نبي الله، رأيتهم على عمل عظيم من سخط الله، فلو كانوا على مثل ما كانوا
عليه قبل اليوم، لم يشتد غضبي عليهم، وصبرت لهم ورجوتهم، ولكني غضبت اليوم لله
ولك، فأتيتك لأخبرك خبرهم، وإني أسألك بالله الذي هو بعثك بالحق إلا ما دعوت عليهم
أن يهلكهم الله قَالَ إرميا: يا ملك السموات والأرض، إن كانوا على حق وصواب
فأبقهم، وإن كانوا على سخطك وعمل لا ترضاه فأهلكهم.
فلما خرجت الكلمة من في إرميا أرسل الله عز وجل صاعقة من السماء في بيت المقدس
فالتهب مكان القربان، وخسف بسبعة أبواب من أبوابها.
فلما رأى ذلك إرميا صاح وشق ثيابه، ونبذ التراب على رأسه، وقال: يا ملك السماء ويا
أرحم الراحمين، أين ميعادك الذي وعدتني! فنودي: يا إرميا، إنه لم يصبهم الذي
أصابهم إلا بفتياك التي أفتيت بها رسولنا فاستيقن النبي أنها
(1/552)
فتياه التي أفتى بها ثلاث
مرات، وأنه رسول ربه.
وطار إرميا حتى خالط الوحوش، ودخل بختنصر وجنوده بيت المقدس، فوطئ الشام، وقتل بني
إسرائيل حتى أفناهم، وخرب بيت المقدس، ثم أمر جنوده أن يملأ كل رجل منهم ترسه
ترابا ثم يقذفه في بيت المقدس، فقذفوا فيه التراب حتى ملئوه ثم انصرف راجعا إلى
أرض بابل، واحتمل معه سبايا بني إسرائيل، وأمرهم أن يجمعوا من كان في بيت المقدس كلهم،
فاجتمع عنده كل صغير وكبير من بني إسرائيل، فاختار منهم مائه الف صبى، فلما خرجت
غنائم جنده، وأراد أن يقسمها فيهم، قالت له الملوك الذين كانوا معه: أيها الملك،
لك غنائمنا كلها واقسم بيننا هؤلاء الصبيان الذين اخترتهم من بني إسرائيل ففعل
فأصاب كل رجل منهم أربعة غلمة- وكان من أولئك الغلمان: دانيال، وحنانيا، وعزاريا،
وميشايل- وسبعة آلاف من أهل بيت داود، وأحد عشر ألفا من سبط يوسف بن يعقوب وأخيه
بنيامين، وثمانية آلاف من سبط أشر بن يعقوب وأربعة عشر ألفا من سبط زبالون ابن
يعقوب، ونفثالي بن يعقوب، وأربعة آلاف من سبط روبيل ولاوى ابني يعقوب، وأربعة آلاف
من سبط يهوذا بن يعقوب ومن بقي من بني إسرائيل.
وجعلهم بختنصر ثلاث فرق، فثلثا أقر بالشام، وثلثا سبى، وثلثا قتل وذهب بآنية بيت
المقدس حتى أقدمها بابل، وذهب بالصبيان السبعين الألف حتى أقدمهم بابل، وكانت هذه
الوقعه الاولى التي أنزلها الله ببني إسرائيل بإحداثهم وظلمهم.
فلما ولى بختنصر عنهم راجعا إلى بابل بمن معه من سبايا بني إسرائيل أقبل إرميا على
حمار له معه عصير من عنب في ركوه وسله تين، حتى غشى إيلياء فلما وقف عليها ورأى ما
بها من الخراب دخله شك، فقال: أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا!
فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ، وحماره وعصيره وسلة تينه عنده حيث أماته
(1/553)
الله وأمات حماره معه، وأعمى
الله عنه العيون فلم يره أحد ثم بعثه الله فقال له:
«كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ
مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ» - يقول لم
يتغير- «وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى
الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً» .
فنظر إلى حماره يتصل بعض إلى بعض- وقد كان مات معه- بالعروق والعصب، ثم كيف كسى
ذلك منه اللحم حتى استوى، ثم جرى فيه الروح، فقام ينهق ثم نظر إلى عصيره وتينه،
فإذا هو على هيئته حين وضعه لم يتغير فلما عاين من قدرة الله ما عاين، قَالَ:
«أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ثم عمر الله إرميا بعد ذلك،
فهو الذي يرى بفلوات الأرض والبلدان.
ثم إن بختنصر أقام في سلطانه ما شاء الله أن يقيم، ثم رأى رؤيا، فبينما هو قد
أعجبه ما رأى إذ رأى شيئا أصابه فأنساه الذي كان رأى، فدعا دانيال، وحنانيا
وعزاريا، وميشايل من ذراري الأنبياء، فقال: أخبروني عن رؤيا رأيتها، ثم أصابني شيء
فأنسانيها، وقد كانت أعجبتني ما هي؟ قَالُوا له: أخبرنا بها نخبرك بتأويلها،
قَالَ: ما أذكرها، وإن لم تخبروني بتأويلها لأنزعن أكتافكم فخرجوا من عنده، فدعوا
الله واستغاثوا وتضرعوا إليه، وسألوه أن يعلمهم إياها، فأعلمهم الذي سألهم عنه،
فجاءوه فقالوا له: رأيت تمثالا؟ قَالَ: صدقتم، قَالُوا: قدماه وساقاه من فخار،
وركبتاه وفخذاه من نحاس، وبطنه من فضة، وصدره من ذهب، ورأسه وعنقه من حديد.
قَالَ: صدقتم قَالُوا: فبينما أنت تنظر إليه قد أعجبك، فأرسل الله عليه صخرة من
السماء فدقته، فهي التي أنستكها قَالَ: صدقتم، فما تأويلها؟ قَالُوا:
تأويلها أنك أريت ملك الملوك، فكان بعضهم ألين ملكا من بعض، وبعضهم كان أحسن ملكا
من بعض، وبعضهم كان أشد ملكا من بعض،
(1/554)
فكان أول الملك الفخار وهو
أضعفه وألينه ثم كان فوقه النحاس وهو أفضل منه وأشد، ثم كان فوق النحاس الفضة وهي
أفضل من ذلك وأحسن، ثم كان فوق الفضة الذهب، فهو أحسن من الفضة وأفضل، ثم كان
الحديد ملكك، فهو كان أشد الملوك وأعز مما كان قبله، وكانت الصخرة التي رأيت أرسل
الله عليه من السماء فدقته، نبيا يبعثه الله من السماء فيدق ذلك أجمع، ويصير الأمر
إليه.
ثم إن أهل بابل قَالُوا لبختنصر: أرأيت هؤلاء الغلمان من بني إسرائيل الذين كنا
سألناك أن تعطيناهم ففعلت! فإنا والله لقد أنكرنا نساءنا منذ كانوا معنا، لقد
رأينا نساءنا علقن بهم وصرفن وجوههن إليهم، فأخرجهم من بين أظهرنا أو اقتلهم،
قَالَ: شأنكم بهم، فمن أحب منكم أن يقتل من كان في يده فليفعل، فأخرجوهم فلما
قربوهم للقتل تضرعوا إلى الله فقالوا:
يا ربنا، أصابنا البلاء بذنوب غيرنا، فتحنن الله عليهم برحمته، فوعدهم أن يحييهم
بعد قتلهم، فقتلوا إلا من استبقى بختنصر منهم، وكان ممن استبقى منهم: دانيال،
وحنانيا، وعزاريا، وميشايل.
ثم إن الله تبارك وتعالى حين أراد هلاك بختنصر، انبعث فقال لمن كان في يديه من بني
إسرائيل: أرأيتم هذا البيت الذي أخربت، وهؤلاء الناس الذين قتلت، من هم؟ وما هذا
البيت؟ قَالُوا: هذا بيت الله ومسجد من مساجده، وهؤلاء أهله كانوا من ذراري
الأنبياء، فظلموا وتعدوا وعصوا فسلطت عليهم بذنوبهم، وكان ربهم رب السموات والأرض،
ورب الخلق كلهم يكرمهم ويمنعهم ويعزهم، فلما فعلوا ما فعلوا أهلكهم الله وسلط
عليهم غيرهم.
قَالَ: فأخبروني ما الذي يطلع بي إلى السماء العليا، لعلي أطلع إليها فأقتل من
فيها وأتخذها ملكا، فإني قد فرغت من الأرض ومن فيها، قَالُوا له:
ما تقدر على ذلك وما يقدر على ذلك أحد من الخلائق، قَالَ: لتفعلن أو لأقتلنكم عن
آخركم، فبكوا إلى الله وتضرعوا إليه، فبعث الله بقدرته- ليريه
(1/555)
ضعفه وهو انه عليه- بعوضة
فدخلت في منخره ثم ساخت في دماغه حتى عضت بأم دماغه، فما كان يقر ولا يسكن حتى
يوجأ له رأسه على أم دماغه، فلما عرف الموت قَالَ لخاصته من أهله: إذا مت فشقوا
رأسي، فانظروا ما هذا الذي قتلني؟ فلما مات شقوا رأسه، فوجدوا البعوضة عاضة بأم
دماغه ليري الله العباد قدرته وسلطانه، ونجى الله من كان بقي في يديه من بني
إسرائيل وترحم عليهم وردهم إلى الشام والى إيلياء المسجد المقدس، فبنوا فيه وربلوا
وكثروا، حتى كانوا على أحسن ما كانوا عليه.
فيزعمون- والله أعلم- أن الله أحيا أولئك الموتى الذين قتلوا فلحقوا بهم.
ثم إنهم لما دخلوا الشام دخلوها وليس معهم عهد من الله، كانت التوراة قد استبيت منهم
فحرقت وهلكت وكان عزيز من السبايا الذين كانوا ببابل فرجع إلى الشام يبكي عليها
ليله ونهاره، قد خرج من الناس فتوحد منهم، وإنما هو ببطون الأودية وبالفلوات يبكي،
فبينما هو كذلك في حزنه على التوراة وبكائه عليها، إذ أقبل إليه رجل وهو جالس،
فقال: يا عزير ما يبكيك؟
قَالَ: أبكي على كتاب الله وعهده، كان بين أظهرنا فبلغت بنا خطايانا، وغضب ربنا
علينا أن سلط علينا عدونا، فقتل رجالنا، وأخرب بلادنا، وأحرق كتاب الله الذي بين
أظهرنا، الذي لا يصلح دنيانا وآخرتنا غيره- أو كما قَالَ- فعلام أبكي إذا لم أبك
على هذا! قَالَ: أفتحب ان يرد ذلك عليك؟
قَالَ: وهل إلى ذلك من سبيل؟ قَالَ: نعم ارجع فصم وتطهر وطهر ثيابك، ثم موعدك هذا
المكان غدا فرجع عزير فصام وتطهر وطهر ثيابه، ثم عمد إلى المكان الذي وعده، فجلس
فيه، فأتاه ذلك الرجل بإناء فيه ماء- وكان ملكا بعثه الله إليه- فسقاه من ذلك الإناء،
فمثلت التوراة في صدره، فرجع إلى بني إسرائيل، فوضع لهم التوراة يعرفونها بحلالها
وحرامها وسننها وفرائضها
(1/556)
وحدودها، فأحبوه حبا لم يحبوه
شيئا قط، وقامت التوراة بين أظهرهم، وصلح بها أمرهم، واقام بين اظهرهم عزيز مؤديا
لحق الله، ثم قبضه الله على ذلك، ثم حدثت فيهم الأحداث حتى قَالُوا لعزيز: هو ابن
الله، وعاد الله عليهم فبعث فيهم نبيا كما كان يصنع بهم، يسدد أمرهم، ويعلمهم
ويأمرهم بإقامة التوراة وما فيها.
وقال جماعة أخر عن وهب بن منبه في أمر بختنصر وبني إسرائيل وغزوه إياهم أقوالا غير
ذلك، تركنا ذكرها كراهة إطالة الكتاب بذكرها
(1/557)
ذكر خبر غزو بختنصر للعرب
حدثت عن هشام بن مُحَمَّد، قَالَ: كان بدء نزول العرب ارض العراق وثبوتهم فيها،
واتخاذهم الحيرة والأنبار منزلا- فيما ذكر لنا والله أعلم- أن الله عز وجل أوحى
الى برخيا بن احنيا بن زر بابل بن شلتيل من ولد يهوذا- قَالَ هشام: قَالَ الشرقي:
وشلتيل أول من اتخذ الطفشيل- أن ائت بختنصر وأمره أن يغزو العرب الذين لا أغلاق
لبيوتهم ولا أبواب، ويطأ بلادهم بالجنود، فيقتل مقاتلتهم ويستبيح أموالهم، وأعلمه
كفرهم بي، واتخاذهم الآلهة دوني، وتكذيبهم أنبيائي ورسلي.
قال: فاقبل برخيا من نجران حتى قدم على بختنصر ببابل- وهو نبوخذ نصر، فعربته
العرب- وأخبره بما أوحى الله إليه وقص عليه ما أمره به، وذلك في زمان معد بن عدنان
قَالَ: فوثب بختنصر على من كان في بلاده من تجار العرب، وكانوا يقدمون عليهم
بالتجارات والبياعات.
ويمتارون من عندهم الحب والتمر والثياب وغيرها.
فجمع من ظفر به منهم، فبنى لهم حيرا على النجف وحصنه، ثم ضمهم فيه ووكل بهم حرسا
وحفظة، ثم نادى في الناس بالغزو، فتأهبوا لذلك وانتشر الخبر فيمن يليهم من العرب
فخرجت إليه طوائف منهم مسالمين مستأمنين، فاستشار بختنصر فيهم برخيا، فقال: إن
خروجهم إليك من بلادهم قبل نهوضك إليهم رجوع منهم عما كانوا عليه فاقبل منهم،
فأحسن إليهم قَالَ: فأنزلهم بختنصر السواد على شاطئ الفرات، فابتنوا موضع عسكرهم
بعد فسموه الأنبار قال: وحلى عن اهل الحير، فاتخذوها منزلا حياة
(1/558)
بختنصر، فلما مات انضموا إلى
أهل الأنبار، وبقي ذلك الحير خرابا.
وأما غير هشام من أهل العلم بأخبار الماضين فإنه ذكر أن معد بن عدنان لما ولد،
ابتدأت بنو إسرائيل بأنبيائهم فقتلوهم، فكان آخر من قتلوا يحيى بن زكرياء، وعدا
أهل الرس على نبيهم فقتلوه، وعدا أهل حضور على نبيهم فقتلوه، فلما اجترءوا على
أنبياء الله أذن الله في فناء ذلك القرن الذين معد بن عدنان من أنبيائهم، فبعث
الله بختنصر على بني إسرائيل، فلما فرغ من إخراب المسجد الأقصى والمدائن وانتسف
بني إسرائيل نسفا، فأوردهم أرض بابل أري فيما يرى النائم- أو أمر بعض الأنبياء أن
يأمره- أن يدخل بلاد العرب فلا يستجبى فيها إنسيا ولا بهيمة، وأن ينتسف ذلك نسفا،
حتى لا يبقي لهم أثرا فنظم بختنصر ما بين إيلة والأبلة خيلا ورجلا، ثم دخلوا على
العرب فاستعرضوا كل ذي روح أتوا عليه وقدروا عليه وأن الله تعالى أوحى إلى إرميا
وبرخيا أن الله قد أنذر قومكما، فلم ينتهوا، فعادوا بعد الملك عبيدا، وبعد نعيم
العيش عالة يسألون الناس، وقد تقدمت إلى أهل عربة بمثل ذلك فأبوا إلا لحاجة، وقد
سلطت بختنصر عليهم لأنتقم منهم فعليكما بمعد بن عدنان، الذى من ولده محمد الذي
أخرجه في آخر الزمان، أختم به النبوة، وأرفع به من الضعة.
فخرجا تطوى لهما الأرض حتى سبقا بختنصر، فلقيا عدنان قد تلقاهما، فطوياه إلى معد،
ولمعد يومئذ اثنتا عشرة سنة، فحمله برخيا على البراق، وردف خلفه، فانتهيا إلى حران
من ساعتهما، وطويت الأرض لإرميا فأصبح بحران، فالتقى عدنان وبختنصر بذات عرق، فهزم
بختنصر عدنان، وسار في بلاد العرب، حتى قدم إلى حضور واتبع عدنان، فانتهى بختنصر
إليها،
(1/559)
وقد اجتمع أكثر العرب من أقطار
من عربة إلى حضور، فخندق الفريقان، وضرب بختنصر كمينا- وذلك أول كمين كان فيما
زعم- ثم نادى مناد من جو السماء: يا لثارات الأنبياء! فأخذتهم السيوف من خلفهم ومن
بين أيديهم، فندموا على ذنوبهم، فنادوا بالويل، ونهي عدنان عن بختنصر ونهي بختنصر
عن عدنان، وافترق من لم يشهد حضور، ومن أفلت قبل الهزيمة فرقتين: فرقة أخذت إلى
ريسوب وعليهم عك، وفرقة قصدت لوبار وفرقة حضر العرب، قَالَ: وإياهم عنى الله
بقوله: «وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً» ، كافرة الأهل، فإن
العذاب لما نزل بالقرى وأحاط بهم في آخر وقعة ذهبوا ليهربوا فلم يطيقوا الهرب،
«فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا» انتقامنا منهم «إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ»
يهربون، قد أخذتهم السيوف من بين أيديهم ومن خلفهم «لا تَرْكُضُوا» لا تهربوا
«وَارْجِعُوا إِلى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ» الى العيشه على النعم المكفورة
«وَمَساكِنِكُمْ» مصيركم «لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ» .
فلما عرفوا أنه واقع بهم أقروا بالذنوب، فقالوا: «يَا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا
ظالِمِينَ فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ»
، موتى وقتلى بالسيف فرجع بختنصر إلى بابل بما جمع من سبايا عربة فألقاهم
بالأنبار، فقيل أنبار العرب، وبذلك سميت الأنبار، وخالطهم بعد ذلك النبط فلما رجع
بختنصر مات عدنان وبقيت بلاد العرب خرابا حياة بختنصر، فلما مات بختنصر خرج معد بن
عدنان معه الأنبياء، أنبياء بني إسرائيل صلوات الله عليهم حتى أتى مكة فأقام
أعلامها، فحج وحج الأنبياء معه، ثم خرج معد حتى أتى ريسوب فاستخرج أهلها، وسأل عمن
بقي من ولد الحارث بن مضاض الجرهمي، وهو الذي قاتل دوس العتق، فأفنى أكثرهم جرهم على
يديه، فقيل له: بقي جوشم بن جلهمة، فتزوج معد ابنته معانة، فولدت له نزار بن معد
(1/560)
رجع الخبر إلى قصة بشتاسب وذكر
ملكه والحوادث التي كانت في أيام ملكه التي جرت على يديه ويد غيره من عماله في
البلاد خلا ما جرى من ذلك على يد بختنصر
ذكر العلماء بأخبار الأمم السالفة من العجم والعرب، أن بشتاسب بن كي لهراسب لما
عقد له التاج، قَالَ يوم ملك: نحن صارفون فكرنا وعملنا وعلمنا إلى كل ما ينال به
البر وقيل: إنه ابتنى بفارس مدينة فسا، وببلاد الهند وغيرها بيوتا للنيران، ووكل
بها الهرابذة، وإنه رتب سبعة نفر من عظماء أهل مملكته مراتب، وملك كل واحد منهم
ناحية جعلها له، وان زرادشت ابن أسفيمان ظهر بعد ثلاثين سنة من ملكه فادعى النبوة،
وأراده على قبول دينه، فامتنع من ذلك ثم صدقه، وقبل ما دعاه إليه وأتاه به من كتاب
ادعاه وحيا، فكتب في جلد اثني عشرة ألف بقرة حفرا في الجلود، ونقشا بالذهب، وصير
بشتاسب ذلك في موضع من إصطخر، يقال له دزنبشت، ووكل به الهرابذة، ومنع تعليمه
العامة وكان بشتاسب في ايامه تلك مهادنا لحرزاسف بن كي سواسف، أخي فراسياب ملك
الترك على ضرب من الصلح، وكان من شرط ذلك الصلح أن يكون لبشتاسب بباب خرزاسف دابة
موقوفة بمنزلة الدواب التي تنوب على أبواب الملوك، فأشار زرادشت على بشتاسب
بمفاسدة ملك الترك، فقبل ذلك منه، وبعث إلى الدابة والموكل بها، فصرفهما إليه،
وأظهر الخبر لخرزاسف، فغضب من ذلك- وكان ساحرا عاتيا- فأجمع على محاربة بشتاسب،
وكتب إليه كتابا غليظا عنيفا، أعلمه فيه أنه أحدث حدثا عظيما، وأنكر قبوله ما قبل
من زرادشت، وأمره بتوجيهه إليه، وأقسم إن امتنع أن يغزوه حتى يسفك دمه، ودماء اهل
بيته
(1/561)
فلما ورد الرسول بالكتاب على
بشتاسب، جمع إليه أهل بيته وعظماء أهل مملكته، وفيهم جاماسف عالمهم وحاسبهم، وزرين
بن لهراسب فكتب بشتاسب إلى ملك الترك كتابا غليظا جواب كتابه، آذنه فيه بالحرب،
وأعلمه أنه غير ممسك عنه إن أمسك فسار بعضهما إلى بعض، مع كل واحد منهما من
المقاتلة ما لا يحصى كثرة، ومع بشتاسب يومئذ زرين اخوه ونسطور ابن زرين وإسفنديار
وبشوتن ابنا بشتاسب، وآل لهراسب جميعا، ومع خرزاسف وجوهرمز وأندرمان أخواه وأهل
بيته، وبيدرفش الساحر، فقتل في تلك الحروب زرين، واشتد ذلك على بشتاسب، فأحسن
الغناء عنه ابنه إسفنديار، وقتل بيدرفش مبارزة، فصارت الدبرة على الترك، فقتلوا
قتلا ذريعا، ومضى خرزاسف هاربا، ورجع بشتاسب إلى بلخ، فلما مضت لتلك الحروب سنون
سعى على إسفنديار رجل يقال له قرزم، فأفسد قلب بشتاسب عليه، فندبه لحرب بعد حرب،
ثم أمر بتقييده وصيره في الحصن الذي فيه حبس النساء، وشخص بشتاسب إلى ناحية كرمان
وسجستان، وصار منها الى جبل يقال له طميذر لدراسة دينه والنسك هناك، وخلف لهراسب
أباه مدينة بلخ شيخا قد أبطله الكبر، وترك خزائنه وأمواله ونساءه مع خطوس امرأته،
فحملت الجواسيس الخبر الى خزاسف، فلما عرف جمع جنودا لا يحصون كثرة، وشخص من بلاده
نحو بلخ، وقد أمل أن يجد فرصة من بشتاسب ومملكته فلما انتهى إلى تخوم ملك فارس قدم
أمامه جوهرمز أخاه- وكان مرشحا للملك بعده في جماعة من المقاتلة كثيرة- وأمره أن
يغذ السير حتى يتوسط المملكة ويوقع بأهلها، ويغير على القرى والمدن، ففعل ذلك
جوهرمز، وسفك الدماء واستباح من الحرم ما لا يحصى، واتبعه خرزاسف فأحرق الدواوين،
وقتل لهراسف والهرابذة، وهدم بيوت النيران، واستولى على الأموال والكنوز، وسبى
ابنتين لبشتاسب، يقال لإحداهما:
خماني، وللأخرى باذافره، وأخذ- فيما أخذ- العلم الأكبر الذي كانوا يسمونه
(1/562)
درفش كابيان، وشخص متبعا
لبشتاسب، وهرب منه بشتاسب حتى تحصن في تلك الناحية مما يلى فارس في الجبل الذى
يعرف بطميذر، ونزل ببشتاسب ما ضاق به ذرعا، فيقال إنه لما اشتد به الأمر وجه إلى
إسفنديار جاماسب حتى استخرجه من محبسه، ثم صار به إليه، فلما أدخل عليه اعتذر
إليه، ووعده عقد التاج على رأسه، وأن يفعل به مثل الذي فعل لهراسب به، وقلده
القيام بأمر عسكره، ومحاربة خرزاسف.
فلما سمع إسفنديار كلامه كفر له خاشعا، ثم نهض من عنده، فتولى عرض الجند وتمييزهم،
وتقدم فيما احتاج إلى التقدم فيه، وبات ليلته مشغولا بتعبئته، فلما أصبح أمر بنفخ
القرون، وجمع الجنود، ثم سار بهم نحو عسكر الترك، فلما رأت الترك عسكره خرجوا في
وجوههم يتسابقون، وفي القوم جوهرمز وأندرمان، فالتحمت الحرب بينهم، وانقض إسفنديار
وفي يده الرمح كالبرق الخاطف، حتى خالط القوم، وأكب عليهم بالطعن، فلم يكن إلا
هنيهة حتى ثلم في العسكر ثلمة عظيمة، وفشا في الترك أن إسفنديار قد أطلق من الحبس،
فانهزموا لا يلوون على شيء، وانصرف إسفنديار، وقد ارتجع العلم الأعظم، وحمله معه
منشورا، فلما دخل على بشتاسب استبشر بظفره، وأمره باتباع القوم، وكان مما أوصاه به
أن يقتل خرزاسف إن قدر عليه بلهراسف، ويقتل جوهرمز وأندرمان بمن قتل من ولده،
ويهدم حصون الترك ويحرق مدنها، ويقتل أهلها بمن قتلوا من حملة الدين، ويستنقذ السبايا
ووجه معه ما احتاج إليه من القواد والعظماء.
فذكروا أن إسفنديار دخل بلاد الترك من طريق لم يرمه أحد قبله، وأنه قام- من حراسة
جنده، وقتل ما قتل من السباع، ورمي العنقاء المذكورة- بما لم يقم به أحد قبله،
ودخل مدينة الترك التي يسمونها دزروئين- وتفسيرها بالعربية الصفرية- عنوة حتى قتل
الملك وإخوته ومقاتلته، واستباح أمواله وسبى نساءه، واستنقذ أختيه، وكتب بالفتح
إلى أبيه، وكان أعظم الغناء
(1/563)
في تلك المحاربة بعد إسفنديار
لفشوتن أخيه وأدرنوش ومهرين ابن ابنته.
ويقال إنهم لم يصلوا إلى المدينة حتى قطعوا أنهارا عظيمة مثل كاس روذ، ومهر روذ،
ونهرا آخر لهم عظيما، وإن إسفنديار دخل أيضا مدينه كانت لفراسياب، يقال لها
وهشكند، ودوخ البلاد وصار إلى آخر حدودها، وإلى التبت وباب صول، ثم قطع البلاد
وصير كل ناحية منها إلى رجل من وجوه الترك بعد أن آمنهم، ووظف على كل واحد منهم خراجا
يحمله إلى بشتاسب في كل سنة، ثم انصرف إلى بلخ.
ثم إن بشتاسب حسد ابنه إسفنديار لما ظهر منه، فوجهه إلى رستم بسجستان، فحدثت عن
هشام بن مُحَمَّد الكلبي أنه قَالَ: قد كان بشتاسب جعل الملك من بعده لابنه
إسفنديار، وأغزاه الترك، فظفر بهم، وانصرف إلى أبيه، فقال له: هذا رستم متوسطا
بلادنا، وليس يعطينا الطاعة لادعائه ما جعل له قابوس من العتق من رق الملك، فسر
إليه فأتني به، فسار إسفنديار إلى رستم فقاتله، فقتله رستم ومات بشتاسب، وكان ملكه
مائة سنة واثنتي عشرة سنة.
وذكر بعضهم أن رجلا من بني إسرائيل، يقال له سمي كان نبيا، وأنه بعث إلى بشتاسب
فصار إليه إلى بلخ، ودخل مدينتها، فاجتمع هو وزرادشت صاحب المجوس، وجاماسب العالم
بن فخد، وكان سمي يتكلم بالعبرانية ويعرف زرادشت ذلك بتلقين، ويكتب بالفارسية ما
يقول سمي بالعبرانية، ويدخل جاماسب معهما في ذلك، وبهذا السبب سمي جاماسب العالم.
وزعم بعض العجم أن جاماسب هو ابن فخد بن هو بن حكاو بن نذكاو بن فرس بن رج بن
خوراسرو بن منوشهر الملك، وان زرادشت بن يوسيسف ابن فردواسف بن أرنجد بن منجدسف بن
جخشنش بن فيافيل بن الحدى ابن هردان بن سفمان بن ويدس بن أدرا بن رج بن خوراسرو بن
منوشهر.
وقيل إن بشتاسب وأباه لهراسب كانا على دين الصابئين، حتى أتاه سمى
(1/564)
وزرداشت بما أتياه به، وأنهما
أتياه بذلك لثلاثين سنة مضت من ملكه.
وقال هذا القائل: كان ملك بشتاسب مائة وخمسين سنة، فكان ممن رتب بشتاسب من النفر
السبعة المراتب الشريفه، وسماهم عظماء بهكا بهند ومسكنه دهستان من ارض جرجان،
وقارن الفهلوى ومسكنه ماه نهاوند، وسورين الفهلوي ومسكنه سجستان، وإسفنديار
الفلهوي ومسكنه الري.
وقال آخرون: كان ملك بشتاسب مائة وعشرين سنة
(1/565)
ذكر الخبر عن ملوك اليمن في
أيام قابوس وبعده إلى عهد بهمن بن إسفنديار
قَالَ أبو جعفر: قد مضى ذكرنا الخبر عمن زعم أن قابوس كان في عهد سليمان بن داود
ع، ومضى ذكرنا من كان في عهد سليمان من ملوك اليمن والخبر عن بلقيس بنت إيليشرح.
فحدثت عن هشام بن مُحَمَّد الكلبي أن الملك باليمن صار بعد بلقيس إلى ياسر بن عمرو
بن يعفر الذي كان يقال له ياسر انعم قال: وانما سموه ياسر انعم لإنعامه عليهم بما
قوى من ملكهم، وجمع من أمرهم.
قَالَ: فزعم أهل اليمن أنه سار غازيا نحو المغرب حتى بلغ واديا يقال له وادي
الرمل، ولم يبلغه أحد قبله، فلما انتهى إليه لم يجد وراءه مجازا لكثرة الرمل،
فبينما هو مقيم عليه إذا انكشف الرمل، فأمر رجلا من أهل بيته- يقال له عمرو- أن
يعبر هو وأصحابه، فعبروا فلم يرجعوا فلما رأى ذلك أمر بصنم نحاس فصنع، ثم نصب على
صخرة على شفير الوادي، وكتب في صدره بالمسند: هذا الصنم لياسر انعم الحميري، وليس
وراءه مذهب، فلا يتكلفن ذلك أحد فيعطب.
قَالَ: ثم ملك من بعده تبع، وهو تبان أسعد، وهو أبو كرب بن ملكي كرب تبع بن زيد بن
عمرو بن تبع، وهو ذو الأذعار بن أبرهة تبع ذي المنار ابن الرائش بن قيس بن صيفي بن
سبأ قَالَ: وكان يقال له الرائد.
قَالَ: فكان تبع هذا في أيام بشتاسب وأردشير بهمن بن إسفنديار بن بشتاسب، وأنه شخص
متوجها من اليمن في الطريق الذي سلكه الرائش، حتى خرج على جبلي طيّئ، ثم سار يريد
الأنبار، فلما انتهى إلى الحيرة- وذلك ليلا- تحير، فأقام مكانه وسمي ذلك الموضع
الحيرة، ثم سار وخلف به قوما من الأزد ولخم وجذام وعاملة وقضاعة، فبنوا وأقاموا
به، ثم انتقل إليهم بعد
(1/566)
ذلك ناس من طيّئ وكلب والسكون
وبلحارث بن كعب وإياد ثم توجه إلى الأنبار ثم إلى الموصل، ثم إلى أذربيجان، فلقي
الترك بها فهزمهم، فقتل المقاتلة، وسبى الذرية، ثم انكفأ راجعا إلى اليمن فأقام
بها دهرا، وهابته الملوك وعظمته وأهدت إليه فقدم عليه رسول ملك الهند بالهدايا
والتحف، من الحرير والمسك والعود وسائر طرف بلاد الهند، فرأى ما لم ير مثله، فقال:
ويحك! أكل ما أرى في بلادكم! فقال: أبيت اللعن! أقل ما ترى في بلادنا، وأكثره في
بلاد الصين، ووصف له بلاد الصين وسعتها وخصبها وكثرة طرفها، فالى بيمين ليغزونها
فسار بحمير مساحلا، حتى أتى الركائك وأصحاب القلانس السود، ووجه رجلا من أصحابه،
يقال له ثابت نحو الصين، في جمع عظيم فأصيب، فسار تبع حتى دخل الصين، فقتل
مقاتلها، واكتسح ما وجد فيها قَالَ: ويزعمون أن مسيره كان إليها ومقامه بها ورجعته
منها في سبع سنين، وأنه خلف بالتبت اثني عشر ألف فارس من حمير، فهم أهل التبت، وهم
اليوم يزعمون أنهم عرب، وخلقهم وألوانهم خلق العرب وألوانها.
حَدَّثَنِي عبد الله بن أحمد المروزي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي
سُلَيْمَانُ، قَالَ: قَرَأْتُ على عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ يَحْيَى،
عَنْ موسى بن طلحة: أن تبعا خرج في العرب يسير، حتى تحيروا بظاهر الكوفة، وكان
منزلا من منازله، فبقي فيها من ضعفة الناس، فسميت الحيرة لتحيرهم، وخرج تبع سائرا،
فرجع إليهم وقد بنوا وأقاموا، وأقبل تبع إلى اليمن وأقاموا هم، ففيهم من قبائل
العرب كلها من بنى لحيان، وهذيل وتميم، وجعفي وطيّئ، وكلب
(1/567)
ذكر خبر أردشير بهمن وابنته
خماني
ثم ملك بعد بشتاسب ابن ابنه أردشير بهمن، فذكر أنه قَالَ يوم ملك وعقد التاج على
رأسه: نحن محافظون على الوفاء، ودائنون رعيتنا بالخير، فكان يدعى أردشير الطويل
الباع، وإنما لقب بذلك- فيما قيل- لتناوله كل ما مد إليه يده من الممالك التي
حوله، حتى ملك الأقاليم كلها وقيل إنه ابتنى بالسواد مدينة، وسماها آباد أردشير هي
القرية المعروفة بهمينا من الزاب الأعلى، وابتنى بكور دجلة مدينة وسماها بهمن
أردشير، وهي الأبلة، وسار إلى سجستان طالبا بثأر أبيه، فقتل رستم وأباه دستان
وأخاه إزواره وابنه فرمرز، واجتبى الناس لأرزاق الجند ونفقات الهرابذة وبيوت
النيران وغير ذلك أموالا عظيمة، وهو أبو دارا الأكبر، وأبو ساسان أبي ملوك الفرس
الأخر أردشير بن بابك وولده، وأم دارا خماني بنت بهمن.
فحدثت عن هشام بن مُحَمَّد قَالَ: ملك بعد بشتاسب أردشير بهمن بن إسفنديار بن
بشتاسب، وكان- فيما ذكروا- متواضعا مرضيا فيهم، وكانت كتبه تخرج من أردشير: عبد
الله وخادم الله، السائس لأمركم قَالَ:
ويقال إنه غزا الرومية الداخلة في ألف ألف مقاتل.
وقال غير هشام: هلك بهمن ودارا في بطن أمه، فملكوا خماني شكرا لأبيها بهمن، ولم
تزل ملوك الأرض تحمل إلى بهمن الإتاوة والصلح، وكان من أعظم ملوك الفرس- فيما
قَالُوا- شأنا، وأفضلهم تدبيرا، وله كتب ورسائل تفوق كتب أردشير وعهده، وكانت أم
بهمن أستوريا، وهي
(1/568)
أستار بنت يائير بن شمعى بن
قيس بن ميشا بن طالوت الملك بن قيس ابن أبل بن صارور بن بحرث بن أفيح بن إيشى بن
بنيامين بن يعقوب بن إسحاق بن ابراهيم خليل الرحمن ع وكانت أم ولده راحب بنت فنحس
من ولد رحبعم بن سليمان بن داود ع وكان بهمن ملك أخاها زر بابل بن شلتايل على بني
إسرائيل، وصير له رياسة الجالوت، ورده إلى الشام بمسألة راحب أخته إياه ذلك، فتوفي
بهمن يوم توفي وله من الولد: ابناه دارا الأكبر وساسان، وبناته: خماني التي ملكت
بعده، وفرنك وبهمن دخت، وتفسير بهمن بالعربية الحسن النية، وكان ملكه مائة واثنتي
عشرة سنة.
فأما ابن الكلبي هشام فإنه قَالَ: كان ملكه ثمانين سنة.
ثم ملكت خماني بنت بهمن، وكانوا ملكوها حبا لأبيها بهمن، وشكرا لإحسانه ولكمال
عقلها وبهائها وفروسيتها ونجدتها- فيما ذكره بعض أهل الأخبار- فكانت تلقب بشهرازاد
وقال بعضهم: إنما ملكت خماني بعد أبيها بهمن أنها حين حملت منه دارا الأكبر سألته
أن يعقد التاج له في بطنها ويؤثره بالملك، ففعل ذلك بهمن بدارا، وعقد عليه التاج
حملا في بطنها، وساسان ابن بهمن في ذلك الوقت رجل يتصنع للملك لا يشك فيه، فلما
رأى ساسان ما فعل أبوه من ذلك لحق بإصطخر، فتزهد وخرج من الحلية الأولى وتعبد فلحق
برءوس الجبال يتعبد فيها، واتخذ غنيمة، فكان يتولى ماشيته بنفسه، واستشنعت العامة
ذلك من فعله، وفظعت به، وقالوا: صار ساسان راعيا، فكان ذلك سبب نسبة الناس إياه
إلى الرعي، وأم ساسان ابنه شالتيال ابن يوحنا بن أوشيا بن أمون بن منشى بن حازقيا
بن أحاذ بن يوثام بن عوزيا ابن يورام بن يوشافط بن أبيا بن رحبعم بن سليمان بن
داود.
وقيل: إن بهمن هلك وابنه دارا في بطن خماني، وأنها ولدته بعد أشهر من
(1/569)
ملكها وأنفت من إظهار ذلك،
فجعلته في تابوت، وصيرت معه جوهرا نفيسا، وأجرته في نهر الكر من إصطخر وقال بعضهم:
بل نهر بلخ، وإن التابوت صار إلى رجل طحان من أهل إصطخر، كان له ولد صغير فهلك،
فلما وجده الرجل أتى به امرأته، فسرت به لجماله ونفاسة ما وجد معه، فحضنوه، ثم
أظهر أمره حين شب، وأقرت خماني بإساءتها إليه وتعريضها إياه للتلف، فلما تكامل
امتحن فوجد على غاية ما يكون عليه أبناء الملوك، فحولت التاج عن رأسها إليه، وتقلد
أمر المملكة، وتنقلت خماني وصارت إلى فارس وبنت مدينة إصطخر، وأغزت الروم جيشا بعد
جيش، وكانت قد أوتيت ظفرا، فقلعت الأعداء، وشغلتهم عن تطرف شيء من بلادها، ونال
رعيتها في ملكها رفاهة وخفضا وكانت خماني حين أغزت أرض الروم سبي لها منها بشر كثير،
وحملوا إلى بلادها، فأمرت من فيهم من بنائي الروم، فبنوا لها في كل موضع من حيز
مدينة إصطخر بنيانا على بناء الروم منيفا معجبا، أحد ذلك البنيان في مدينة إصطخر،
والثاني على المدرجة التي تسلك فيها الى دارابجرد، على فرسخ من هذه المدينة،
والثالث على أربعة فراسخ منها في المدرجة التي تسلك فيها إلى خراسان وأنها أجهدت
نفسها في طلب مرضاة الله عز وجل، فأوتيت الظفر والنصر، وخففت عن رعيتها في الخراج.
وكان ملكها ثلاثين سنة.
ثم نرجع الآن الى:
(1/570)
ذكر خبر بني إسرائيل ومقابلة
تأريخ مدة أيامهم إلى حين تصرمها بتأريخ مدة من كان في أيامهم من ملوك الفرس
قد ذكرنا فيما مضى قبل سبب انصراف من انصرف إلى بيت المقدس من سبايا بني إسرائيل
الذين كان بختنصر سباهم وحملهم معه إلى أرض بابل، وأن ذلك كان في أيام كيرش بن
أخشويرش وملكه ببابل من قبل بهمن بن إسفنديار في حياته وأربع سنين بعد وفاته في
ملك ابنته خماني، وأن خماني عاشت بعد هلاك كيرش بن أخشويرش ستا وعشرين سنة في
ملكها، تمام ثلاثين سنة وكانت مدة خراب بيت المقدس من لدن خربه بختنصر إلى أن عمر-
فيما ذكره أهل الكتب القديمة والعلماء بالأخبار- سبعين سنة، كل ذلك في أيام بهمن
بن إسفنديار بن بشتاسب بن لهراسب بعضه، وبعضه في أيام خماني، على ما قد بين في هذا
الكتاب.
وقد زعم بعضهم أن كيرش هو بشتاسب، وأنكر ذلك من قيله بعضهم، وقال: كي أرش إنما هو
عم لجد بشتاسب، وقال: هو كي إرش أخو كيقاوس ابن كيبيه بن كيقباذ الأكبر، وبشتاسب
الملك هو ابن كيلهراسب بن كيوجى ابن كيمنوش بن كيقاوس بن كيبيه بن كيقباذ الأكبر
قَالَ: ولم يملك كي أرش قط، وإنما كان مملكا على خوزستان وما يتصل بها من أرض بابل
من قبل كيقاوس، ومن قبل كيخسرو بن سياوخش بن كيقاوس، ومن قبل لهراسف من بعده وكان
طويل العمر، عظيم الشأن، ولما عمر بيت المقدس ورجع إليه أهله من بني إسرائيل كان
فيهم عزير- وقد وصفت ما كان من أمره وأمر بني إسرائيل- وكان الملك عليهم بعد ذلك
من قبل الفرس، إما رجل منهم وإما رجل من بني إسرائيل، إلى أن صار الملك بناحيتهم
لليونانية والروم بسبب غلبة الإسكندر على تلك الناحية حين قتل دارا بن دارا وكانت
جملة مدة ذلك- فيما قيل- ثمانيا وثمانين سنة.
ونذكر الآن:
(1/571)
خبر دارا الأكبر وابنه دارا
الأصغر ابن دارا الأكبر وكيف كان هلاكه مع خبر ذي القرنين
وملك دارا بن بهمن بن إسفنديار بن بشتاسب، وكان ينبه بجهرازاد- يعني به كريم
الطبع- فذكروا أنه نزل بابل، وكان ضابطا لملكه، قاهرا لمن حوله من الملوك، يؤدون
إليه الخراج، وأنه ابتنى بفارس مدينة سماها دارابجرد، وحذف دواب البرد ورتبها،
وكان معجبا بابنه دارا، وأنه من حبه إياه سماه باسم نفسه، وصير له الملك من بعده،
وأنه كان له وزير يسمى رستين محمودا في عقله، وأنه شجر بينه وبين غلام تربى مع
دارا الأصغر، يقال له برى شر وعداوة، فسعى رستين عليه عند الملك، فقيل: إن الملك
سقى برى شربه مات منها، واضطغن دارا على رستين الوزير وجماعة من القواد، كانوا
عاونوه على برى ما كان منهم، وكان ملك دارا اثنتي عشرة سنة.
ثم ملك من بعده ابنه دارا بن دارا بن بهمن، وكانت أمه ماهيا هند بنت هزار مرد بن
بهرادمه، فلما عقد التاج على رأسه قَالَ: لن ندفع أحدا في مهوى الهلكة، ومن تردى
فيها لم نكففه عنها وقيل إنه بنى بأرض الجزيرة مدينة دارا، واستكتب أخا برى
واستوزره لأنسه كان به وبأخيه، فأفسد قلبه على أصحابه، وحمله على قتل بعضهم،
فاستوحشت لذلك منه الخاصة والعامة، ونفروا عنه، وكان شابا غرا حميا حقودا جبارا.
وحدثت عن هشام بن مُحَمَّد قَالَ: ملك من بعد دارا بن أردشير دارا ابن دارا أربع
عشرة سنة، فأساء السيرة في رعيته، وقتل رؤساءهم، وغزاه الإسكندر على تئفة ذلك، وقد
مله أهل مملكته وسئموه، وأحبوا الراحة منه، فلحق كثير من وجوههم وأعلامهم
بالإسكندر، فأطلعوه على عورة دارا، وقووه عليه،
(1/572)
فالتقيا ببلاد الجزيرة،
فاقتتلا سنة ثم إن رجالا من أصحاب دارا وثبوا به فقتلوه، وتقربوا برأسه إلى
الإسكندر، فأمر بقتلهم، وقال: هذا جزاء من اجترأ على ملكه وتزوج ابنته روشنك بنت
دارا، وغزا الهند ومشارق الأرض، ثم انصرف وهو يريد الإسكندرية، فهلك بناحية
السواد، فحمل إلى الإسكندرية في تابوت من ذهب، وكان ملكه أربع عشرة سنة، واجتمع
ملك الروم، وكان قبل الإسكندر متفرقا، وتفرق ملك فارس وكان قبل الإسكندر مجتمعا.
قَالَ: وذكر غير هشام أن دارا بن دارا لما ملك أمر فبنيت له بأرض الجزيرة مدينة
واسعة وسماها دارنوا، وهي التي تسمى اليوم دارا، وانه عمرها وشحنها من كل ما يحتاج
إليه فيها، وأن فيلفوس أبا الإسكندر اليوناني من أهل بلدة من بلاد اليونانيين تدعى
مقدونية، كان ملكا عليها وعلى بلاد أخرى احتازها إليها، كان صالح دارا على خراج
يحمله إليه في كل سنة، وأن فيلفوس هلك، فملك بعده ابنه الإسكندر، فلم يحمل إلى
دارا ما كان يحمله إليه أبوه من الخراج، فأسخط ذلك عليه دارا، وكتب إليه يؤنبه
بسوء صنيعه في تركه حمل ما كان أبوه يحمل إليه من الخراج وغيره، وأنه إنما دعاه
إلى حبس ما كان أبوه يحمل إليه من الخراج الصبا والجهل، وبعث إليه بصولجان وكرة
وقفيز من سمسم، وأعلمه فيما كتب إليه أنه صبي، وأنه إنما ينبغي له أن يلعب
بالصولجان والكرة اللذين بعث بهما إليه، ولا يتقلد الملك، ولا يتلبس به، وأنه إن
لم يقتصر على ما أمره به من ذلك، وتعاطى الملك واستعصى عليه، بعث إليه من يأتيه به
في وثاق، وأن عدة جنوده كعدة حب السمسم الذي بعث به إليه.
فكتب إليه الإسكندر في جواب كتابه ذلك، أن قد فهم ما كتب، وأن قد نظر إلى ما ذكر
في كتابه إليه من إرساله الصولجان والكرة، وتيمن به لإلقاء
(1/573)
الملقي الكرة إلى الصولجان،
واحترازه إياها، وشبه الأرض بالكرة، وأنه محتاز ملك دارا إلى ملكه، وبلاده إلى
حيزه من الأرض، وأن نظره إلى السمسم الذي بعث به إليه كنظره إلى الصولجان والكرة
لدسمه وبعده من المرارة والحرافة وبعث إلى دارا مع كتابه بصرة من خردل، وأعلمه في
ذلك الجواب أن ما بعث به إليه قليل، غير أن ذلك مثل الذي بعث به في الحرافة
والمرارة والقوة، وأن جنوده في كل ما وصف به منه.
فلما وصل إلى دارا جواب كتاب الإسكندر، جمع إليه جنده، وتأهب لمحاربة الإسكندر،
وتأهب الإسكندر وسار نحو بلاد دارا.
وبلغ ذلك دارا، فزحف إليه فالتقى الفئتان، واقتتلا أشد القتال، وصارت الدبرة على
جند دارا، فلما رأى ذلك رجلان من حرس دارا، يقال إنهما كانا من أهل همذان، طعنا
دارا من خلفه فأردياه من مركبه، وأرادا بطعنهما إياه الحظوة عند الإسكندر،
والوسيلة إليه، ونادى الإسكندر أن يؤسر دارا أسرا ولا يقتل، فأخبر بشأن دارا، فسار
الإسكندر حتى وقف عنده، فرآه يجود بنفسه، فنزل الاسكندر عن دابته حتى حبس عند
رأسه، وأخبره أنه لم يهم قط بقتله، وأن الذي أصابه لم يكن عن رايه، وقال له: سلني
ما بدا لك فأسعفك فيه، فقال له دارا: لي إليك حاجتان: إحداهما أن تنتقم لي من
الرجلين اللذين فتكا بي- وسماهما وبلادهما- والأخرى أن تتزوج ابنتي روشنك فأجابه
إلى الحاجتين، وأمر بصلب الرجلين اللذين انتهكا من دارا ما انتهكا، وتزوج روشنك
وتوسط بلاد دارا، وكان ملكه له.
وزعم بعض أهل العلم بأخبار الأولين أن الإسكندر هذا الذي حارب دارا الأصغر، هو أخو
دارا الأصغر الذي حاربه، وأن أباه دارا الأكبر كان تزوج أم الإسكندر، وأنها ابنة
ملك الروم واسمها هلاي، وأنها حملت
(1/574)
إلى زوجها دارا الأكبر، فلما
وجد نتن ريحها وعرقها وسهكها، أمر أن يحتال لذلك منها، فاجتمع رأي أهل المعرفة في
مداواتها على شجرة يقال لها بالفارسية سندر، فطبخت لها فغسلت بها وبمائها، فأذهب
ذلك كثيرا من ذلك النتن، ولم يذهب كله، وانتهت نفسه عنها لبقية ما بها، وعافها
وردها إلى أهلها، وقد علقت منه فولدت غلاما في أهلها، فسمته باسمها واسم الشجرة
التي غسلت بها، حتى أذهبت عنها نتنها: هلاي سندروس، فهذا أصل الإسكندروس.
قَالَ: وهلك دارا الأكبر، وصار الملك إلى ابنه دارا الأصغر، وكانت ملوك الروم تؤدي
الخراج إلى دارا الأكبر في كل سنة، فهلك أبو هلاي ملك الروم جد الإسكندر لأمه،
فلما صار الملك لابن ابنته بعث دارا الأصغر إليه للعادة: إنك أبطأت علينا بالخراج
الذي كنت تؤديه ويؤديه من كان قبلك، فابعث إلينا بخراج بلادك وإلا نابذناك
المحاربة فرجع إليه جوابه: أني قد ذبحت الدجاجة، وأكلت لحمها، ولم يبق لها بقية،
وقد بقيت الأطراف، فإن أحببت وادعناك، وإن أحببت ناجزناك فعند ذلك نافره دارا
وناجزه القتال، وجعل الإسكندر لحاجبي دارا حكمها على الفتك به، فاحتكما شيئا، ولم
يشترطا أنفسهما، فلما التقوا للحرب، طعن حاجبا دارا دارا في الوقعة، فلحقه
الإسكندر صريعا، فنزل إليه وهو بآخر رمق، فمسح التراب عن وجهه ووضع رأسه في حجره،
ثم قَالَ له: إنما قتلك حاجباك، ولقد كنت أرغب بك يا شريف الأشراف وحر الأحرار
وملك الملوك، عن هذا المصرع، فأوصني بما أحببت فأوصاه دارا أن يتزوج ابنته روشنك،
ويتخذها لنفسه ويستبقي أحرار فارس، ولا يولى عليهم غيرهم فقبل وصيته وعمل بأمره،
وجاء اللذان قتلا دارا إلى الإسكندر فدفع إليهما حكمهما، ووفى لهما ثم قَالَ لهما:
قد وفيت لكما كما اشترطتما ولم تكونا اشترطتما أنفسكما، فأنا قاتلكما، فإنه ليس
ينبغي لقتلة الملوك أن يستبقوا إلا بذمة لا تخفر فقتلهما
(1/575)
وذكر بعضهم أن ملك الروم في
أيام دارا الأكبر كان يؤدي إلى دارا الإتاوة فهلك، وملك الروم الإسكندر، وكان رجلا
ذا حزم وقوة ومكر، فيقال إنه غزا بعض ملوك المغرب فظفر به، وآنس لذلك من نفسه
القوة فنشز على دارا الأصغر، وامتنع من حمل ما كان أبوه يحمله من الخراج، فحمي
دارا لذلك، وكتب إليه كتبا عنيفة، ففسد ما بينهما وسار كل واحد منهما إلى صاحبه
وقد احتشدا والتقيا في الحد واختلفت بينهما الكتب والرسائل، ووجل الإسكندر من
محاربة دارا، ودعاه إلى الموادعة، فاستشار دارا أصحابه في أمره، فزينوا له الحرب
لفساد قلوبهم عليه وقد اختلفوا في الحد وموضع التقائهما، فذكر بعضهم ان التقائهما
كان بناحية خراسان مما يلي الخزر، فاقتتلوا قتالا شديدا حتى خلص إليهما السلاح،
وكان تحت الإسكندر يومئذ فرس له عجيب يقال له بوكفراسب، ويقال إن رجلا من أهل فارس
حمل ذلك اليوم حتى تخرق الصفوف، وضرب الإسكندر ضربة بالسيف خيف عليه منها، وإنه
تعجب من فعله وقال: هذا من فرسان فارس الذين كانت توصف شدتهم، وتحركت على دارا
ضغائن أصحابه، وكان في حرسه رجلان من أهل همذان، فراسلا الإسكندر والتمسا الحيلة
لدارا حتى طعناه، فكانت منيته من طعنهما إياه، ثم هربا.
فقيل إنه لما وقعت الصيحة، وانتهى الخبر إلى الإسكندر ركب في أصحابه، فلما انتهى
إلى دارا وجده يجود بنفسه، فكلمه ووضع رأسه في حجره، وبكى عليه، وقال له: أتيت من
مأمنك، وغدر بك ثقاتك، وصرت بين أعدائك وحيدا، فسلني حوائجك فإني على المحافظة على
القرابة بيننا- يعني القرابة بين سلم وهيرج ابني أفريذون- فيما زعم هذا القائل- وأظهر
الجزع لما أصابه، وحمد ربه حين لم يبتله بأمره، فسأله دارا أن يتزوج ابنته روشنك،
ويرعى لها حقها، ويعظم قدرها، وأن يطلب بثأره، فأجابه الإسكندر إلى ذلك
(1/576)
ثم أتاه الرجلان اللذان وثبا
على دارا يطلبان الجزاء، فأمر بضرب رقابهما وصلبهما، وأن ينادى عليهما: هذا جزاء
من اجترأ على ملكه، وغش أهل بلده.
ويقال: إن الإسكندر حمل كتبا وعلوما كانت لأهل فارس من علوم ونجوم وحكمة، بعد أن
نقل ذلك إلى السريانية ثم إلى الرومية.
وزعم بعضهم أن دارا قتل وله من الولد الذكور: أشك بن دارا وبنو دارا وأردشير وله
من البنات روشنك، وكان ملك دارا أربع عشرة سنة.
وذكر بعضهم أن الإتاوة التي كان أبو الإسكندر يؤديها إلى ملوك الفرس كانت بيضا من
ذهب، فلما ملك الإسكندر بعث إليه دارا يطلب ذلك الخراج، فبعث إليه: إني قد ذبحت
تلك الدجاجة التي كانت تبيض ذلك البيض، وأكلت لحمها فأذن بالحرب ثم ملك الإسكندر
بعد دارا بن دارا.
وقد ذكرت قول من يقول: هو أخو دارا بن دارا من أبيه دارا الأكبر.
وأما الروم وكثير من أهل الأنساب فإنهم يقولون: هو الاسكندر بن فيلفوس، وبعضهم
يقول: هو ابن بيلبوس بن مطريوس، ويقال: ابن مصريم ابن هرمس بن هردس بن ميطون بن
رومى بن ليطى بن يونان بن يافث بن ثوبه بن سرحون بن رومية بن زنط بن توقيل بن رومي
بن الأصفر بن اليفز ابن العيص بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن ع فجمع بعد مهلك
دارا ملك دارا إلى ملكه، فملك العراق والروم والشام ومصر، وعرض جنده بعد هلاك دارا
فوجدهم- فيما قيل- الف الف وأربعمائة رجل، منهم من جنده ثمانمائه الف، ومن جند
دارا ستمائه ألف.
وذكر أنه قَالَ يوم جلس على سريره: قد أدالنا الله من دارا، ورزقنا خلاف ما كان
يتوعدنا به، وأنه هدم ما كان في بلاد الفرس من المدن والحصون وبيوت النيران، وقتل
الهرابذة، وأحرق كتبهم ودواوين دارا، واستعمل على مملكة دارا رجالا من أصحابه،
وسار قدما إلى أرض الهند، فقتل ملكها وفتح مدينتها، ثم سار منها إلى الصين، فصنع
بها كصنيعه بأرض الهند، ودانت
(1/577)
له عامة الأرضين، وملك التبت
والصين، ودخل الظلمات مما يلي القطب الشمالي والشمس جنوبية في أربعمائة رجل يطلب
عين الخلد، فسار فيها ثمانية عشر يوما، ثم خرج ورجع إلى العراق، وملك ملوك
الطوائف، ومات في طريقه بشهرزور.
وكان عمره ستا وثلاثين سنة في قول بعضهم، وحمل إلى أمه بالإسكندرية.
وأما الفرس فإنها تزعم أن ملك الإسكندر كان أربع عشرة سنة، والنصارى تزعم أن ذلك
كان ثلاث عشرة سنة وأشهرا، ويزعمون أن قتل دارا كان في أول السنة الثالثة من ملكه.
وقيل إنه أمر ببناء مدن فبنيت اثنتا عشرة مدينة، وسماها كلها إسكندرية، منها مدينه
بأصبهان يقال جى، بنيت على مثال الحيه، وثلاث مدائن بخراسان، منهن مدينة هراة
ومدينة مرو ومدينة سمرقند، وبأرض بابل مدينة لروشنك بنت دارا، وبأرض اليونانية في
بلاد هيلاقوس مدينة للفرس، ومدنا أخر غيرها.
ولما مات الإسكندر عرض الملك من بعده على ابنه الإسكندروس، فأبى واختار النسك
والعبادة، فملكت اليونانية عليهم- فيما قيل- بطلميوس بن لوغوس، وكان ملكه ثمانيا
وثلاثين سنة، فكانت المملكة أيام اليونانية بعد الإسكندر وحياة الإسكندر إلى أن
تحول الملك إلى الروم المصاص لليونانية، ولبني إسرائيل ببيت المقدس ونواحيها
الديانة والرياسة على غير وجه الملك إلى أن خربت بلادهم الفرس والروم، وطردوهم
عنها بعد قتل يحيى بن زكرياء ع.
ثم كان الملك ببلاد الشام ومصر ونواحي المغرب بعد بطليموس بن لوغوس لبطلميوس
دينايوس أربعين سنة.
ثم من بعده لبطلميوس أورغاطس أربعا وعشرين سنة.
ثم من بعده لبطلميوس فيلافطر إحدى وعشرين سنة.
ثم من بعده لبطلميوس أفيفانس اثنتين وعشرين سنة.
ثم من بعده لبطلميوس أورغاطس تسعا وعشرين سنة.
ثم من بعده لبطلميوس ساطر سبع عشرة سنه
(1/578)
ثم من بعده لبطلميوس الأحسندر
إحدى عشرة سنة.
ثم من بعده لبطلميوس الذي اختفى عن ملكه ثماني سنين.
ثم من بعده لبطلميوس دونسيوس ست عشرة سنة.
ثم من بعده لبطلميوس قالوبطري سبع عشرة سنة.
فكل هؤلاء كانوا يونانيين، فكل ملك منهم بعد الإسكندر كان يدعى بطلميوس، كما كانت
ملوك الفرس يدعون أكاسرة، وهم الذين يقال لهم المفقانيون.
ثم ملك الشام بعد قالوبطري- فيما ذكر الروم- المصاص، فكان أول من ملك منهم جايوس
يوليوس خمس سنين ثم ملك الشام بعده اغوسطوس ستا وخمسين سنه فلما مضى من ملكه
اثنتان وأربعون سنة ولد عيسى بن مريم ع، وبين مولده وقيام الاسكندر ثلاثمائة سنه
وثلاث سنين
(1/579)
ذكر اخبار ملوك الفرس بعد
الاسكندر وهم ملوك الطوائف
ونرجع الآن إلى ذكر خبر الفرس بعد مهلك الإسكندر لسياق التأريخ على ملكهم.
فاختلف أهل العلم بأخبار الماضين في الملك الذي كان بسواد العراق بعد الإسكندر،
وفي عدد ملوك الطوائف الذين كانوا ملكوا إقليم بابل بعده إلى أن قام بالملك أردشير
بابكان.
فأما هشام بن مُحَمَّد فإنه قَالَ- فيما حدثت عنه: ملك بعد الإسكندر يلاقس سلقيس،
ثم أنطيحس قَالَ: وهو الذي بنى مدينة أنطاكية قَالَ:
وكان في أيدي هؤلاء الملوك سواد الكوفة، قَالَ: وكانوا يتطرقون الجبال وناحية
الأهواز وفارس، حتى خرج رجل يقال له أشك، وهو ابن دارا الأكبر، وكان مولده ومنشؤه
بالري، فجمع جمعا كثيرا وسار يريد أنطيحس، فزحف إليه أنطيحس، فالتقيا ببلاد الموصل
فقتل أنطيحس، وغلب أشك على السواد، فصار في يده من الموصل إلى الري وأصبهان، وعظمه
سائر ملوك الطوائف لنسبه، وشرفه فيهم ما كان من فعله، وعرفوا له فضله، وبدءوا به
في كتبهم، وكتب إليهم فبدأ بنفسه، وسموه ملكا، وأهدوا إليه من غير أن يعزل أحدا
منهم أو يستعمله.
ثم ملك بعده جوذرز بن أشكان قَالَ: وهو الذي غزا بنى إسرائيل المرة الثانية، وكان
سبب تسليط الله إياه عليهم- فيما ذكر أهل العلم- قتلهم يحيى بن زكرياء، فأكثر
القتل فيهم، فلم تعد لهم جماعة كجماعتهم الأولى، ورفع الله عنهم النبوة وأنزل بهم
الذل قَالَ: وقد كانت الروم غزت بلاد فارس، يقودها ملكها الأعظم يلتمس أن يدرك
بثأرها في فارس لقتل أشك ملك بابل أنطيحس، وملك بابل يومئذ بلاش ابو اردوان، الذى
قتله أردشير
(1/580)
ابن بابك، فكتب بلاش إلى ملوك
الطوائف يعلمهم ما اجتمعت عليه الروم من غزو بلادهم، وإنه قد بلغه من حشدهم وجمعهم
ما لا كفاء له عنده، وإنه إن ضعف عنهم ظفروا بهم جميعا فوجه كل ملك من ملوك
الطوائف إلى بلاش من الرجال والسلاح والمال بقدر قوته، حتى اجتمع عنده أربعمائة
ألف رجل، فولى عليهم صاحب الحضر- وكان ملكا من ملوك الطوائف يلي ما بين انقطاع
السواد إلى الجزيرة- فسار بهم حتى لقي ملك الروم فقتله واستباح عسكره، وذلك هيج
الروم على بناء القسطنطينية ونقل الملك من رومية إليها فكان الذي ولى إنشاءها
الملك قسطنطين، وهو أول ملوك الروم تنصر، وهو أجلى من بقي من بني إسرائيل عن
فلسطين والأردن لقتلهم- بزعمه- عيسى بن مريم، فأخذ الخشبة التي وجدهم يزعمون أنهم
صلبوا المسيح عليها، فعظمها الروم، فأدخلوها خزائنهم، فهي عندهم إلى اليوم.
قَالَ: ولم يزل ملك فارس متفرقا حتى ملك أردشير فذكر هشام ما ذكرت عنه، ولم يبين
مدة ملك القوم.
وقال غيره من أهل العلم بأخبار فارس: ملك بعد الإسكندر ملك دارا أناس من غير ملوك
الفرس، غير أنهم كانوا يخضعون لكل من يملك بلاد الجبل ويمنحونه الطاعة.
قَالَ: وهم الملوك الأشغانون الذين يدعون ملوك الطوائف قَالَ: فكان ملكهم مائتي
سنة وستا وستين سنة.
فملك من هذه السنين أشك بن أشجان عشر سنين ثم ملك بعده سابور بن أشغان ستين سنة، وفي
سنة إحدى وأربعين من ملكه ظهر عيسى بن مريم بأرض فلسطين وإن ططوس بن أسفسيانوس ملك
رومية غزا بيت المقدس بعد ارتفاع عيسى بن مريم بنحو من أربعين سنة، فقتل من في
مدينة بيت المقدس، وسبى ذراريهم، وأمرهم فنسفت مدينة بيت المقدس، حتى لم يترك بها
حجرا على حجر
(1/581)
ثم ملك جوذرز بن أشغانان
الأكبر، عشر سنين.
ثم ملك بيزن الأشغاني، إحدى وعشرين سنة.
ثم ملك جوذرز الأشغاني، تسع عشرة سنة.
ثم ملك نرسي الأشغاني، أربعين سنة.
ثم ملك هرمز الأشغاني، سبع عشرة سنة.
ثم ملك أردوان الأشغاني، اثنتي عشرة سنة.
ثم ملك كسرى الأشغاني، أربعين سنة.
ثم ملك بلاش الأشغاني، أربعا وعشرين سنة.
ثم ملك أردوان الأصغر الأشغاني، ثلاث عشرة سنة.
ثم ملك أردشير بن بابك.
وقال بعضهم: ملك بلاد الفرس بعد الإسكندر ملوك الطوائف الذين فرق الإسكندر المملكة
بينهم، وتفرد بكل ناحية من ملك عليها من حين ملكه، ما خلا السواد، فإنها كانت
أربعا وخمسين سنة بعد هلاك الإسكندر في يد الروم وكان في ملوك الطوائف رجل من نسل
الملوك مملكا على الجبال وأصبهان، ثم غلب ولده بعد ذلك على السواد، فكانوا ملوكا
عليها وعلى الماهات والجبال وأصبهان، كالرئيس على سائر ملوك الطوائف، لأن السنة جرت
بتقديمه وتقديم ولده، ولذلك قصد لذكرهم في كتب سير الملوك، فاقتصر على تسميتهم دون
غيرهم.
قال: ويقال ان عيسى بن مريم ع ولد باورشليم بعد إحدى وخمسين سنة من ملوك الطوائف،
فكانت سنو ملكهم من لدن الإسكندر إلى وثوب أردشير بن بابك وقتله أردوان واستواء
الأمر له، مائتين وستا وستين سنة.
قَالَ: فمن الملوك الذين ملكوا الجبال ثم تهيأت لأولادهم بعد ذلك الغلبه
(1/582)
على السواد اشك بن حره بن
رسبيان بن أرتشاخ بن هرمز بن ساهم بن رزان بن إسفنديار بن بشتاسب قَالَ: والفرس
تزعم أنه أشك بن دارا وقال بعضهم:
أشك بن أشكان الكبير، وكان من ولد كيبيه بن كيقباذ، وكان ملكه عشر سنين.
ثم ملك من بعده أشك بن أشك بن أشكان، إحدى وعشرين سنة.
ثم ملك سابور بن أشك بن أشكان، إحدى وعشرين سنة.
ثم ملك سابور بن أشك بن أشكان، ثلاثين سنة.
ثم ملك جوذرز الأكبر بن سابور بن أشكان، عشر سنين.
ثم ملك بيرن بن جوذرز، إحدى وعشرين سنة.
ثم جوذرز الأصغر بن بيزن، تسع عشرة سنة.
ثم نرسه بن جوذرز الأصغر، أربعين سنة.
ثم هرمز بن بلاش بن أشكان، سبع عشرة سنة.
ثم أردوان الأكبر وهو أردوان بن أشكان، اثنتي عشرة سنة.
ثم كسرى بن اشكان، اربعين سنه.
ثم بها فريد الأشكاني، تسع سنين.
ثم بلاش الأشكاني، أربعا وعشرين سنة.
ثم أردوان الأصغر وهو أردوان بن بلاش بن فيروز بن هرمز بن بلاشر بن سابور بن أشك
بن أشكان الأكبر، وكان جده كيبيه بن كيقباذ ويقال:
إنه كان أعظم الأشكانية ملكا، وأظهرهم عزا، واسناهم ذكرا، واشدهم قهرا الملوك
الطوائف، وأنه كان قد غلب على كورة إصطخر لاتصالها بأصبهان، ثم تخطى إلى جور
وغيرها من فارس، حتى غلب عليها، ودانت له ملوكها لهيبة ملوك الطوائف كانت له، وكان
ملكه ثلاث عشرة سنة.
ثم ملك أردشير.
وقال بعضهم: ملك العراق وما بين الشام ومصر بعد الإسكندر تسعون ملكا على تسعين
طائفة كلهم يعظم من يملك المدائن، وهم الاشكانيون قال:
(1/583)
فملك من الاشكانيين افقور شاه
بن بلاش بن سابور بن اشكان بن أرش الجبار بن سياوش بن كيقاوس الملك، اثنتين وستين
سنة.
ثم سابور بن أفقور- وعلى عهده كان المسيح ويحيى ع- ثلاثا وخمسين سنة.
ثم جوذرز بن سابور بن أفقور الذي غزا بني إسرائيل طالبا بثار يحيى ابن زكرياء، ملك
تسعا وخمسين سنة.
ثم ابن أخيه أبزان بن بلاش بن سابور، سبعا وأربعين سنة.
ثم جوذرز بن أبزان بن بلاش، إحدى وثلاثين سنة.
ثم أخوه نرسى بن أبزان، أربعا وثلاثين سنة.
ثم عمه الهرمزان بن بلاش، ثمانيا وأربعين سنة.
ثم ابنه الفيروزان بن الهرمزان بن بلاش، تسعا وثلاثين سنة.
ثم ابنه كسرى بن الفيروزان، سبعا وأربعين سنة.
ثم ابنه اردوان بن بلاش، وهو آخرهم، قتله أردشير بن بابك، خمسا وخمسين سنة.
قَالَ: وكان ملك الإسكندر وملك سائر ملوك الطوائف في النواحي خمسمائة وثلاثا وعشرين
سنة
(1/584)
ذكر الأحداث التي كانت في أيام
ملوك الطوائف
فكان من ذلك- فيما زعمته الفرس- لمضي خمس وستين سنة من غلبة الإسكندر على أرض
بابل، ولإحدى وخمسين سنة من ملك الأشكانيين- ولادة مريم بنت عمران عيسى بن مريم ع.
فأما النصارى فإنها تزعم أن ولادتها إياه كانت لمضى ثلاثمائة سنة وثلاث سنين من
وقت غلبة الإسكندر على أرض بابل وزعموا أن مولد يحيى بن زكرياء كان قبل مولد عيسى
ع بستة أشهر وذكروا أن مريم حملت بعيسى ولها ثلاث عشرة سنة، وأن عيسى عاش إلى أن
رفع اثنتين وثلاثين سنة وأياما، وأن مريم بقيت بعد رفعه ست سنين، وكان جميع عمرها
نيفا وخمسين سنة.
قَالَ: وزعموا أن يحيى اجتمع هو وعيسى بنهر الأردن وله ثلاثون سنة، وأن يحيى قتل
قبل أن يرفع عيسى وكان زكرياء بن برخيا أبو يحيى بن زكرياء وعمران بن ماثان أبو
مريم متزوجين بأختين، إحداهما عند زكرياء وهي أم يحيى، والأخرى منهما عند عمران بن
ماثان، وهي أم مريم، فمات عمران بن ماثان وأم مريم حامل بمريم، فلما ولدت مريم
كفلها زكرياء بعد موت أمها، لأن خالتها أخت أمها كانت عنده واسم أم مريم حنة بنت
فاقود ابن قبيل، واسم أختها أم يحيى الأشباع ابنة فاقود وكفلها زكرياء، وكانت
مسماة بيوسف بن يعقوب بن ماثان بن اليعازار بن اليوذ بن أحين بن صادوق بن عازور بن
الياقيم بن أبيوذ بن زربابل بن شلتيل بن يوحنيا بن يوشيا بن أمون بن منشا بن حزقيا
بن أحاز بن يوثام بن عوزيا بن يورام بن يهوشافاظ بن أسا بن أبيا بن رحبعم بن
سليمان بن داود، ابن عم مريم.
وأما ابن حميد، فإنه حَدَّثَنَا عن سلمة، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، أنه قَالَ:
(1/585)
مريم- فيما بلغني عن نسبها-
ابنة عمران بن ياشهم بن أمون بن منشا بن حزقيا ابن احزيق بن يوثام بن عزريا بن
أمصيا بن ياوش بن أحزيهو بن يارم بن يهشافاط بن أسا بن أبيا بن رحبعم بن سليمان
فولد لزكرياء يحيى ابن خالة عيسى بن مريم، فنبئ صغيرا، فساح، ثم دخل الشام يدعو
الناس، ثم اجتمع يحيى وعيسى، ثم افترقا بعد أن عمد يحيى عيسى.
وقيل: إن عيسى بعث يحيى بن زكرياء في اثني عشر من الحواريين يعلمون الناس: قال:
وكان فيما نهوهم عنه نكاح بنات الأخ، فَحَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عن الأعمش، عن المنهال، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: بَعَثَ عِيسَى بن مَرْيَمَ يَحْيَى بْنَ
زَكَرِيَّاءَ، فِي اثْنَيْ عَشَرَ مِنَ الْحَوَارِيِّينَ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ،
قَالَ: فَكَانَ فِيمَا نَهَوْهُمْ عَنْهُ نِكَاحُ ابْنَةِ الأَخِ قَالَ: وَكَانَ
لِمَلِكِهِمُ ابْنَةُ أَخٍ تُعْجِبُهُ، يُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، وَكَانَتْ
لَهَا كُلَّ يَوْمٍ حَاجَةٌ يَقْضِيهَا، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ أُمَّهَا قَالَتْ
لَهَا: إِذَا دَخَلْتِ عَلَى الْمَلَكِ، فَسَأَلَكِ حَاجَتَكِ فَقُولِي: حَاجَتِي
أَنْ تَذْبَحَ لِي يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّاءَ فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ
سَأَلَهَا حَاجَتَهَا، قَالَتْ: حَاجَتِي أَنْ تَذْبَحَ لِي يَحْيَى بْنَ
زَكَرِيَّاءَ، فَقَالَ:
سَلِينِي غَيْرَ هَذَا، قَالَتْ: مَا أَسْأَلُكَ إِلَّا هَذَا، قَالَ: فَلَمَّا
أَبَتْ عَلَيْهِ دَعَا يَحْيَى، وَدَعَا بِطَسْتٍ فذبحه، فندرت قَطْرَةٌ مِنْ
دَمِهِ عَلَى الْأَرْضِ فَلَمْ تَزَلْ تَغْلِي حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ
بُخْتَنَصَّرَ عَلَيْهِمْ، فَجَاءَتْهُ عَجُوزٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ،
فَدَلَّتْهُ عَلَى ذَلِكَ الدَّمِ، قَالَ: فَأَلْقَى اللَّهُ فِي قَلْبِهِ أَنْ
يَقْتُلَ عَلَى ذَلِكَ الدَّمِ مِنْهُمْ حَتَّى يَسْكُنَ، فَقَتَلَ سَبْعِينَ
أَلْفًا مِنْهُمْ مِنْ سِنٍّ وَاحِدَةٍ، فَسَكَنَ.
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ هَارُونَ الْهَمْدَانِيُّ، قَالَ: حدثنا عمرو بن حماد،
قال:
حدثنا أسباط، عن السدي، في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس- وعن
مرة الهمداني، عن ابن مسعود- وعن ناس من اصحاب النبي ص، إِنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي
إِسْرَائِيلَ، رَأَى فِي النَّوْمِ أَنَّ خَرَابَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَهَلاكَ
بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى يَدَيْ غُلَامٍ يَتِيمٍ، ابْنِ أَرْمَلَةٍ مِنْ أَهْلِ
بَابِلَ، يُدْعَى بُخْتَنَصَّرَ، وَكَانُوا يَصْدُقُونَ فَتَصْدُقَ رُؤْيَاهُمْ،
فَأَقْبَلَ يَسْأَلُ عَنْهُ، حَتَّى نَزَلَ عَلَى أُمِّهِ وَهُوَ يَحْتَطِبُ،
فَلَمَّا جَاءَ وَعَلَى راسه حزمه
(1/586)
حَطَبٍ أَلْقَاهَا، ثُمَّ
قَعَدَ فِي جَانِبِ الْبَيْتِ، فَكَلَّمَهُ، ثُمَّ أَعْطَاهُ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ،
فَقَالَ: اشْتَرِ بِهَذِهِ طَعَامًا وَشَرَابًا، فَاشْتَرَى بِدِرْهَمٍ لَحْمًا،
وَبِدِرْهَمٍ خُبْزًا، وَبِدِرْهَمٍ خَمْرًا، فَأَكَلُوا وَشَرِبُوا، حَتَّى إِذَا
كَانَ الْيَوْمُ الثَّانِي فَعَلَ بِهِ ذَلِكَ، حَتَّى إِذَا كَانَ الْيَوْمُ
الثَّالِثُ فَعَلَ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: إِنِّي أُحِبُّ أَنْ تَكْتُبَ لِي
أَمَانًا إِنْ أَنْتَ مَلَكْتَ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ، قَالَ: تَسْخَرُ بِي! قَالَ:
إِنِّي لَا أَسْخَرُ بِكَ، وَلَكِنْ مَا عَلَيْكَ أَنْ تَتَّخِذَ بِهَا عِنْدِي
يَدًا! فَكَلَّمَتْهُ أُمُّهُ، فَقَالَتْ: وَمَا عَلَيْكَ إِنْ كَانَ، وَإِلَّا
لَمْ يُنْقِصْكَ شَيْئًا! فَكَتَبَ لَهُ أَمَانًا، فَقَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ
جِئْتُ وَالنَّاسُ حَوْلَكَ، قَدْ حَالُوا بَيْنِي وَبَيْنَكَ! فَاجْعَلْ لِي
آيَةً تَعْرِفْنِي بِهَا، قَالَ:
تَرْفَعُ صَحِيفَتَكَ عَلَى قَصَبَةٍ فَأَعْرِفُكَ بِهَا فَكَسَاهُ وَأَعْطَاهُ
ثُمَّ إِنَّ مَلِكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ يُكْرِمُ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّاءَ،
وَيُدْنِي مَجْلِسَهُ، وَيَسْتَشِيرُهُ فِي أَمْرِهِ، وَلا يَقْطَعُ أَمْرًا
دُونَهُ، وَإِنَّهُ هَوِيَ أَنْ يَتَزَوَّجَ ابْنَةَ امْرَأَةٍ لَهُ، فَسَأَلَ
يَحْيَى عَنْ ذَلِكَ، فَنَهَاهُ عَنْ نِكَاحِهَا، وَقَالَ: لَسْتُ أَرْضَاهَا
لَكَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أُمَّهَا فَحَقَدَتْ عَلَى يَحْيَى حِينَ نَهَاهُ أَنْ
يَتَزَوَّجَ ابْنَتَهَا، فَعَمَدَتْ إِلَى الْجَارِيَةِ حِينَ جَلَسَ الْمَلِكُ
عَلَى شَرَابِهِ، فَأَلْبَسَتْهَا ثِيَابًا رِقَاقًا حُمْرًا، وَطَيَّبَتْهَا،
وَأَلْبَسَتْهَا مِنَ الْحُلِيِّ، وَأَلْبَسَتْهَا فَوْقَ ذَلِكَ كِسَاءً أَسْوَدَ،
فَأَرْسَلَتْهَا إِلَى الْمَلِكِ، وَأَمَرَتْهَا أَنْ تَسْقِيَهُ، وَأَنْ تَعْرِضَ
لَهُ، فَإِنْ أَرَادَهَا عَلَى نَفْسِهَا أَبَتْ عَلَيْهِ، حَتَّى يُعْطِيَهَا مَا
سَأَلَتْهُ، فَإِذَا أَعْطَاهَا ذَلِكَ سَأَلَتْهُ أَنْ تُؤْتَى بِرَأْسِ يَحْيَى
بْنِ زَكَرِيَّاءَ فِي طَسْتٍ، فَفَعَلَتْ فَجَعَلَتْ تَسْقِيهِ وَتَعْرِضُ لَهُ،
فَلَمَّا أَخَذَ فِيهِ الشَّرَابُ أَرَادَهَا عَلَى نَفْسِهَا، فَقَالَتْ: لا
أَفْعَلُ حَتَّى تُعْطِيَنِي مَا أَسْأَلُكَ، قَالَ: مَا تَسْأَلِينِي؟
قَالَتْ: أَسْأَلُكَ أَنْ تَبْعَثَ إِلَى يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّاءَ، فَأُوتَى
بِرَأْسِهِ فِي هَذَا الطَّسْتِ، فَقَالَ: وَيْحَكِ! سَلِينِي غَيْرَ هَذَا!
قَالَتْ: مَا أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ إِلَّا هَذَا.
قَالَ: فَلَمَّا أَبَتْ عَلَيْهِ، بَعَثَ إِلَيْهِ فَأُتِيَ بِرَأْسِهِ،
وَالرَّأْسُ يَتَكَلَّمُ، حَتَّى وُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَهُوَ يَقُولُ: لَا
تَحِلُّ لَكَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ إِذَا دَمُهُ يَغْلِي، فَأَمَرَ بِتُرَابٍ
فَأُلْقِيَ عَلَيْهِ، فَرَقَى الدَّمُ فَوْقَ التُّرَابِ يَغْلِي، فَأُلْقِيَ
عَلَيْهِ التُّرَابُ أَيْضًا، فَارْتَفَعَ الدَّمُ فَوْقَهُ، فَلَمْ يَزَلْ
يُلْقَى عَلَيْهِ التُّرَابُ حَتَّى بَلَغَ سُورَ الْمَدِينَةِ،
(1/587)
وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَغْلِي،
وَبَلَغَ صيحائين فَنَادَى فِي النَّاسِ، وَأَرَادَ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِمْ
جَيْشًا، وَيُؤَمِّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا، فَأَتَاهُ بُخْتَنَصَّرُ، فَكَلَّمَهُ،
وَقَالَ: إِنَّ الَّذِي كُنْتَ أَرْسَلْتَ تِلْكَ الْمَرَّةَ ضَعِيفٌ، فَإِنِّي
قَدْ دَخَلْتُ الْمَدِينَةَ، وَسَمِعْتُ كَلَامَ أَهْلِهَا، فَابْعَثْنِي،
فَبَعَثَهُ فَسَارَ بُخْتَنَصَّرَ، حَتَّى إِذَا بَلَغُوا ذَلِكَ الْمَكَانَ
تَحَصَّنُوا مِنْهُ فِي مَدَائِنِهِمْ، فَلَمْ يُطِقْهُمْ، فَلَمَّا اشْتَدَّ
عَلَيْهِ الْمُقَامُ، وَجَاعَ أَصْحَابُهُ اراد الرُّجُوعَ، فَخَرَجَتْ إِلَيْهِ
عَجُوزٌ مِنْ عَجَائِزِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالَتْ:
أَيْنَ أَمِيرُ الْجُنْدِ؟ فَأُتِيَ بِهِ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ: إِنَّهُ بَلَغَنِي
أَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَرْجِعَ بِجُنْدِكَ قَبْلَ أَنْ تَفْتَحَ هَذِهِ
الْمَدِينَةَ قَالَ: نَعَمْ، قَدْ طَالَ مُقَامِي، وَجَاعَ أَصْحَابِي، فَلَسْتُ
أَسْتَطِيعُ الْمُقَامَ فَوْقَ الَّذِي كَانَ مِنِّي، فَقَالَتْ: أَرَأَيْتُكَ
إِنْ فُتِحَتْ لَكَ الْمَدِينَةُ، أَتُعْطِينِي مَا أَسْأَلُكَ، فَتَقْتُلُ مَنْ
أَمَرْتُكَ بِقَتْلِهِ، وَتَكُفُّ إِذَا أَمَرْتُكَ أَنْ تَكُفَّ؟ قَالَ لَهَا:
نَعَمْ، قَالَتْ: إِذَا أَصْبَحْتَ فَاقْسِمْ جُنْدَكَ أَرْبَعَةَ أَرْبَاعٍ،
ثُمَّ أَقِمْ عَلَى كُلِّ زَاوِيَةٍ رُبْعًا، ثُمَّ ارْفَعُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى
السَّمَاءِ، فَنَادَوْا: إِنَّا نَسْتَفْتِحُكَ يَا اللَّهِ بِدَمِ يَحْيَى بْنِ
زَكَرِيَّاءَ، فَإِنَّها سَوْفَ تَتَسَاقَطُ فَفَعَلُوا، فَتَسَاقَطَتِ
الْمَدِينَةُ، وَدَخَلُوا مِنْ جَوَانِبِهَا، فَقَالَتْ لَهُ: كُفَّ يَدَكَ، اقْتُلْ
عَلَى هَذَا الدَّمِ حَتَّى يَسْكُنَ، فَانْطَلَقَتْ بِهِ إِلَى دَمِ يَحْيَى
وَهُوَ عَلَى تُرَابٍ كَثِيرٍ، فَقَتَلَ عَلَيْهِ حَتَّى سَكَنَ، فَقَتَلَ
سَبْعِينَ أَلْفَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ، فَلَمَّا سَكَنَ الدَّمُ، قَالَتْ لَهُ:
كُفَّ يَدَكَ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا قُتِلَ نَبِيٌّ لَمْ يَرْضَ
حَتَّى يُقْتَلَ مَنْ قَتَلَهُ وَمَنْ رَضِيَ قَتْلَهُ فَأَتَاهُ صَاحِبُ
الصَّحِيفَةِ بِصَحِيفَتِهِ، فَكَفَّ عَنْهُ وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَخَرَّبَ
بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَأَمَرَ بِهِ أَنْ تُطْرَحَ فِيهِ الْجِيَفُ، وَقَالَ: مَنْ
طَرَحَ فِيهِ جِيفَةً فَلَهُ جِزْيَتُهُ تِلْكَ السَّنَةَ، وَأَعَانَهُ عَلَى
خَرَابِهِ الرُّومُ مِنْ أَجْلِ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَتَلُوا يَحْيَى بْنَ
زَكَرِيَّاءَ، فَلَمَّا خَرَّبَهُ بُخْتَنَصَّرُ ذَهَبَ مَعَهُ بِوُجُوهِ بَنِي
إِسْرَائِيلَ وَسَرَاتِهِمْ، وَذَهَبَ بِدَانْيَالَ وَعليَا وعزريَا
وَمِيشَائِيلَ، هَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ مِنْ أَوْلَادِ الْأَنْبِيَاءِ، وَذَهَبَ
مَعَهُ بِرَأْسِ الْجَالُوتِ، فَلَمَّا قَدِمَ أَرْضَ بَابِلَ
(1/588)
وَجَدَ صيحَائينَ قَدْ مَاتَ،
فَمَلَكَ مَكَانَهُ، وَكَانَ أَكْرَمَ النَّاسِ عَلَيْهِ دَانْيَالُ
وَأَصْحَابُهُ، فَحَسَدَهُمُ الْمَجُوسُ، فَوَشَوْا بِهِمْ إِلَيْهِ، فَقَالُوا:
إِنَّ دَانْيَالَ وَأَصْحَابَهُ لا يَعْبُدُونَ إِلَهَكَ، وَلا يَأْكُلُونَ مِنْ
ذَبِيحَتِكَ، فَدَعَاهُمْ فَسَأَلَهُمْ فَقَالُوا: أَجَلْ إِنَّ لَنَا رَبًّا
نَعْبُدُهُ، وَلَسْنَا نَأْكُلُ مِنْ ذَبِيحَتِكُمْ، وَأَمَرَ بِخَدٍّ فَخُدَّ،
فَأُلْقُوا فِيهِ وَهُمْ سِتَّةٌ، وَأُلْقِيَ مَعَهُمْ سَبُعٌ ضَارٍ
لِيَأْكُلَهُمْ، فَقَالُوا: انْطَلِقُوا فَلْنَأْكُلْ وَلْنَشْرَبْ، فَذَهَبُوا،
فَأَكَلُوا وَشَرِبُوا، ثُمَّ رَاحُوا فَوَجَدُوهُمْ جُلُوسًا، وَالسَّبُعُ
مُفْتَرِشٌ ذِرَاعَيْهِ بَيْنَهُمْ لَمْ يَخْدِشْ مِنْهُمْ أَحَدًا، وَلَمْ
يَنْكَأْهُ شَيْئًا، فَوَجَدُوا مَعَهُمْ رَجُلًا، فَعَدُّوهُمْ فَوَجَدُوهُمْ
سَبْعَةً، فَقَالَ: مَا بَالُ هَذَا السَّابِعِ؟ إِنَّمَا كَانُوا سِتَّةً!
فَخَرَجَ إِلَيْهِ السَّابِعُ- وَكَانَ مَلَكًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ- فَلَطَمَهُ
لَطْمَةً فَصَارَ فِي الْوَحْشِ، فَكَانَ فِيهِمْ سَبْعُ سِنِينَ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا الْقَوْلُ- الَّذِي رُوِيَ عَمَّنْ ذَكَرْتُ فِي
هَذِهِ الْأَخْبَارِ الَّتِي رَوَيْتُ وَعَمَّنْ لَمْ يُذْكَرْ فِي هَذَا
الْكِتَابِ، مِنْ أَنَّ بُخْتَنَصَّرَ، هُوَ الَّذِي غَزَا بَنِي إِسْرَائِيلَ
عِنْدَ قَتْلِهِمْ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّاءَ- عِنْدَ أَهْلِ السِّيَرِ
وَالْأَخْبَارِ وَالْعِلْمِ بِأُمُورِ الْمَاضِينَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَعِنْدَ
غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ غَلَطٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ بِأَجْمَعِهِمْ
مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ بُخْتَنَصَّرَ إِنَّمَا غَزَا بَنِي إِسْرَائِيلَ عِنْدَ
قَتْلِهِمْ نَبِيَّهُمْ شَعْيَا فِي عَهْدِ إِرْمِيَا بْنِ حلقِيَا، وَبَيْنَ عَهْدِ
إِرْمِيَا وَتَخْرِيبِ بُخْتَنَصَّرَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى مَوْلِدِ يَحْيَى
بن زكرياء أربعمائة سَنَةٍ وَإِحْدَى وَسِتُّونَ سَنَةً فِي قَوْلِ الْيَهُودِ
وَالنَّصَارَى وَيَذْكُرُونَ أَنَّ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ فِي كُتُبِهِمْ
وَأَسْفَارِهِمْ مُبَيَّنٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَعُدُّونَ مِنْ لَدُنْ تَخْرِيبِ
بُخْتَنَصَّرَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى حِينِ عُمْرَانِهَا فِي عَهْدِ كيرشَ بْنِ
أَخْشويرشَ أَصْبهبذَ بَابِلَ مِنْ قِبَلِ أَرْدِشِيرَ بهمن بْنِ إِسْفندِيَارِ
بْنِ بشتَاسبَ، ثُمَّ مِنْ قِبَلِ ابْنَتِهِ خماني سَبْعِينَ سَنَةً، ثُمَّ مِنْ
بَعْدِ عُمْرَانِهَا إِلَى ظُهُورِ الإِسْكَنْدَرِ عَلَيْهَا وَحِيَازَةِ
مَمْلَكَتِهَا إِلَى مَمْلَكَتِهِ ثَمَانِيًا وَثَمَانِينَ سَنَةً، ثُمَّ مِنْ
بَعْدِ مَمْلَكَةِ الإِسْكَنْدَرِ لها الى مولد يحيى بن زكرياء ثلاثمائة سنه وثلاث
سنين، فذلك على قولهم أربعمائة سَنَةٍ وَإِحْدَى وَسِتُّونَ سَنَةً
(1/589)
وَأَمَّا الْمَجُوسُ
فَإِنَّهَا تُوَافِقُ النَّصَارَى وَالْيَهُودَ فِي مُدَّةِ خَرَابِ بَيْتِ
الْمَقْدِسِ، وَأَمْرِ بُخْتَنَصَّرَ، وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ وَأَمْرِ بَنِي
إِسْرَائِيلَ إِلَى غَلَبَةِ الإِسْكَنْدَرِ عَلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَالشَّامِ
وَهَلاكِ دارا، وَتُخَالِفُهُمْ فِي مُدَّةِ مَا بَيْنَ مُلْكِ الإِسْكَنْدَرِ
وَمَوْلِدِ يَحْيَى، فَتَزْعُمُ أَنَّ مُدَّةَ ذَلِكَ إِحْدَى وَخَمْسُونَ سَنَةً
فَبَيْنَ الْمَجُوسِ وَالنَّصَارَى مِنَ الاخْتِلَافِ فِي مُدَّةِ مَا بَيْنَ
مُلْكِ الإِسْكَنْدَرِ وَمَوْلِدِ يَحْيَى وَعِيسَى مَا ذَكَرْتُ.
وَالنَّصَارَى تَزْعُمُ أَنَّ يَحْيَى وُلِدَ قَبْلَ عِيسَى بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ،
وَأَنَّ الَّذِي قَتَلَهُ مَلِكٌ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ يُقَالُ لَهُ هِيردُوسُ،
بِسَبَبِ امْرَأَةٍ يُقَالُ لَهَا هِيرُوذيَا، كَانَتِ امْرَأَةَ أَخٍ لَهُ،
يُقَالُ لَهُ فيلفُوسُ، عَشِقَهَا فَوَافَقَتْهُ عَلَى الْفُجُورِ، وَكَانَ لَهَا
ابْنَةٌ يُقَالُ لَهَا دمنَى فَأَرَادَ هِيردُوسُ أَنْ يَطَأَ امْرَأَةَ أَخِيهِ
الْمُسَمَّاةَ هِيروذيَا، فَنَهَاهُ يَحْيَى وَأَعْلَمَهُ أَنَّهُ لا تَحِلُّ
لَهُ، فَكَانَ هِيرُدوسُ مُعْجَبًا بِالابْنَةِ، فَأَلْهَتْهُ يَوْمًا، ثُمَّ
سَأَلَتْهُ حَاجَةً فَأَجَابَهَا إِلَيْهَا، وَأَمَرَ صَاحِبًا لَهُ بِالنُّفُوذِ
لِمَا تَأْمُرُهُ بِهِ، فَأَمَرَتْهُ أَنْ يَأْتِيَهَا بِرَأْسِ يَحْيَى،
فَفَعَلَ، فَلَّما عَرَفَ هِيردُوسُ الْخَبَرَ أُسْقِطَ فِي يَدِهِ، وَجَزَعَ
جَزَعًا شَدِيدًا.
وَأَمَّا مَا قَالَ فِي ذَلِكَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالأَخْبَارِ وَأُمُورِ أَهْلِ
الْجَاهِلِيَّةِ فَقَدْ حَكَيْتُ مِنْهُ مَا قَالَهُ هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدٍ
الْكَلْبِيُّ.
وأما ما قَالَ ابن إسحاق فيه، فهو مَا حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بن إسحاق، قَالَ: عمرت بنو إسرائيل بعد ذلك-
يعني بعد مرجعهم من أرض بابل إلى بيت المقدس- يحدثون الأحداث، ويعود الله عليهم ويبعث
فيهم الرسل، ففريقا يكذبون وفريقا يقتلون، حتى كان آخر من بعث فيهم من أنبيائهم
زكرياء ويحيى بن زكرياء وعيسى بن مريم، وكانوا من بيت آل داود ع وهو يحيى بن
زكرياء بن ادى ابن مسلم بن صدوق بن نحشان بن داود بن سليمان بن مسلم بن صديقة بن
برخية بن شفاطية بن فاحور بن شلوم بن يهفاشاط بن اسا بن أبيا بن رحبعم
(1/590)
ابن سليمان بن داود.
قَالَ: فلما رفع الله عيسى ع من بين أظهرهم، وقتلوا يحيى بن زكرياء ع- وبعض الناس
يقول: وقتلوا زكرياء- ابتعث الله عليهم ملكا من ملوك بابل يقال له خردوس، فسار
إليهم بأهل بابل، حتى دخل عليهم الشام، فلما ظهر عليهم أمر رأسا من رءوس جنوده
يدعى نبوزراذان، صاحب القتل، فقال له: انى كنت حلفت بالله:
لئن أنا ظهرت على أهل بيت المقدس لأقتلنهم حتى تسيل دماؤهم في وسط عسكري، إلى ألا
أجد أحدا أقتله، فأمره أن يقتلهم، حتى يبلغ ذلك منهم وإن نبوزراذان دخل بيت
المقدس، فقام في البقعة التي كانوا يقربون فيها قربانهم، فوجد فيها دما يغلي،
وسألهم، فقال: يا بني إسرائيل، ما شأن هذا الدم يغلي؟ أخبروني خبره ولا تكتموني
شيئا من أمره، فقالوا: هذا دم قربان كان لنا كنا قربناه فلم يقبل منا، فلذلك هو
يغلي كما تراه، ولقد قربنا منذ ثمانمائه سنة القربان، فيقبل منا إلا هذا القربان
قَالَ: ما صدقتموني الخبر، قَالُوا له: لو كان كأول زماننا لقبل منا، ولكنه قد
انقطع منا الملك والنبوة والوحي، فلذلك لم يقبل منا فذبح منهم نبوزراذان على ذلك
الدم سبعمائة وسبعين روحا من رءوسهم فلم يهدأ، فأمر فاتى بسبعمائة غلام من
غلمانهم، فذبحوا على الدم فلم يهدأ، فامر بسبعه آلاف من بنيهم وأزواجهم فذبحهم على
الدم فلم يبرد، فلما رأى نبوزراذان الدم لا يهدأ قَالَ لهم: يا بني إسرائيل،
ويلكم! اصدقوني واصبروا على أمر ربكم، فقد طالما ملكتم في الأرض تفعلون فيها ما شئتم،
قبل ألا أترك منكم نافخ نار، أنثى ولا ذكرا إلا قتلته! فلما رأوا الجهد وشدة القتل
صدقوه الخبر فقالوا: إن هذا دم نبي منا كان ينهانا عن أمور كثيرة من سخط الله، فلو
أطعناه فيها لكان أرشد لنا، وكان يخبرنا بأمركم فلم نصدقه فقتلناه، فهذا دمه فقال
لهم نبوزراذان:
ما كان اسمه؟ قَالُوا: يحيى بن زكرياء، قَالَ: الآن صدقتموني، لمثل هذا ينتقم ربكم
منكم فلما رأى نبوزراذان أنهم قد صدقوه خر ساجدا، وقال لمن حوله: أغلقوا أبواب
المدينة، وأخرجوا من كان هاهنا من جيش خردوس
(1/591)
وخلا في بني إسرائيل ثم قَالَ:
يا يحيى بن زكرياء، قد علم ربي وربك ما قد أصاب قومك من أجلك، وما قتل منهم من
أجلك، فاهدأ بإذن الله قبل ألا أبقي من قومك أحدا، فهدأ دم يحيى بإذن الله، ورفع
نبوزراذان عنهم القتل، وقال: آمنت بما آمنت به بنو إسرائيل، وصدقت به وأيقنت أنه
لا رب غيره، ولو كان معه آخر لم يصلح، لو كان معه شريك لم تستمسك السموات والأرض،
ولو كان له ولد لم يصلح، فتبارك وتقدس وتسبح وتكبر وتعظم! ملك الملوك الذي يملك
السموات السبع بعلم وحكم وجبروت وعزة، الذي بسط الأرض وألقى فيها رواسي لا تزول،
فكذلك ينبغي لربي أن يكون ويكون ملكه فأوحى إلى رأس من رءوس بقية الأنبياء أن
نبوزراذان حبور صدوق- والحبور بالعبرانية حديث الإيمان- وأن نبوزراذان قَالَ لبني
إسرائيل: إن عدو الله خردوس أمرني أن أقتل منكم حتى تسيل دماؤكم وسط عسكره وإني
فاعل، لست أستطيع أن أعصيه قَالُوا له: افعل ما أمرت به، فأمرهم فحفروا خندقا،
وأمر بأموالهم من الخيل والبغال والحمير والبقر والغنم والإبل فذبحها، حتى سال
الدم في العسكر، وأمر بالقتلى الذين كانوا قتلوا قبل ذلك فطرحوا على ما قتل من
مواشيهم، حتى كانوا فوقهم، فلم يظن خردوس إلا أن ما كان في الخندق من بني إسرائيل.
فلما بلغ الدم عسكره أرسل إلى نبوزراذان: ارفع عنهم، فقد بلغني دماؤهم، وقد انتقمت
منهم بما فعلوا ثم انصرف عنهم إلى أرض بابل، وقد أفنى بني إسرائيل أو كاد، وهي
الوقعة الأخيرة التي أنزل الله ببني إسرائيل، يقول الله تعالى لنبيه محمد ص:
«وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ» إلى قوله: «وَجَعَلْنا
جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً» .
وعسى من الله حق، فكانت الوقعه الأولى بختنصر وجنوده، ثم رد
(1/592)
الله لهم الكرة عليهم، ثم كانت
الوقعة الأخيرة خردوس وجنوده، وهي كانت أعظم الوقعتين، فيها كان خراب بلادهم وقتل
رجالهم وسبي ذراريهم ونسائهم، يقول الله عز وجل: «وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا
تَتْبِيراً» .
رجع الحديث الى حديث عيسى بن مريم وأمه عليهما السلام.
قَالَ: وكانت مريم ويوسف بن يعقوب ابن عمها يليان خدمة الكنيسة، فكانت مريم إذا
نفد ماؤها- فيما ذكر- وماء يوسف أخذ كل واحد منهما قلته، فانطلق إلى المغارة التي
فيها الماء الذي يستعذبانه، فيملأ قلته، ثم يرجعان إلى الكنيسة فلما كان اليوم
الذي لقيها فيه جبرئيل- وكان أطول يوم في السنة وأشده حرا- نفد ماؤها، فقالت: يا
يوسف، ألا تذهب بنا نستقي! قَالَ: إن عندي لفضلا من ماء أكتفي به يومي هذا إلى غد،
قالت:
لكني والله ما عندي ماء، فأخذت قلتها، ثم انطلقت وحدها، حتى دخلت المغارة، فتجد
عندها جبرئيل، قد مثله الله لها بشرا سويا: فقال لها:
يا مريم، إن الله قد بعثني إليك لأهب لك غلاما زكيا، قالت:
«إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا
» ، وهي تحسبه رجلا من بني آدم فقال: انما انا رسول ربك، قالت: «أَنَّى يَكُونُ
لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا قالَ كَذلِكِ قالَ
رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا
وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا» ، أي أن الله قد قضى أن ذلك كائن فلما قَالَ ذلك
استسلمت لقضاء الله، فنفخ في جيبها، ثم انصرف عنها، وملأت قلتها.
قال: فحَدَّثَنِي مُحَمَّد بن سهل بن عسكر البخاري، قال حدثنا اسماعيل ابن عبد
الكريم، قال: حدثني عبد الصمد بن معقل، ابن أخي وهب،
(1/593)
قَالَ: سمعت وهبا قال: لما
أرسل الله عز وجل جبرئيل إلى مريم، تمثل لها بشرا سويا فقالت: «إِنِّي أَعُوذُ
بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا
» ، ثم نفخ في جيب درعها حتى وصلت النفخة إلى الرحم، واشتملت على عيسى قَالَ: وكان
معها ذو قرابة لها يقال له يوسف النجار، وكانا منطلقين إلى المسجد الذي عند جبل
صهيون، وكان ذلك المسجد يومئذ من أعظم مساجدهم، وكانت مريم ويوسف يخدمان في ذلك
المسجد في ذلك الزمان، وكان لخدمته فضل عظيم، فرغبا في ذلك، فكانا يليان معالجته
بأنفسهما وتجميره وكناسته وطهوره، وكل عمل يعمل فيه، فكان لا يعلم من أهل زمانهما
أحد أشد اجتهادا وعبادة منهما، وكان أول من أنكر حمل مريم صاحبها يوسف، فلما رأى
الذي بها استعظمه، وعظم عليه، وفظع به، ولم يدر على ماذا يضع أمرها! فإذا أراد
يوسف أن يتهمها ذكر صلاحها وبراءتها، وأنها لم تغب عنه ساعة قط، وإذا أراد أن
يبرئها رأى الذي ظهر بها فلما اشتد عليه ذلك كلمها، فكان أول كلامه إياها أن قَالَ
لها: إنه قد وقع في نفسي من أمرك أمر قد حرصت على أن أميته، وأكتمه في نفسي،
فغلبني ذلك، فرأيت أن الكلام فيه أشفى لصدري، قالت: فقل قولا جميلا، قَالَ: ما كنت
لأقول إلا ذلك، فحدثيني: هل ينبت زرع بغير بذر؟
قالت: نعم، قَالَ: فهل تنبت شجرة من غير غيث يصيبها؟ قالت: نعم، قَالَ: فهل يكون
ولد من غير ذكر؟ قالت: نعم، ألم تعلم أن الله أنبت الزرع يوم خلقه من غير بذر،
والبذر إنما كان من الزرع الذي أنبته الله من غير بذر! أولم تعلم أن الله أنبت
الشجر من غير غيث، وأنه جعل بتلك القدرة الغيث حياة للشجر بعد ما خلق كل واحد
منهما وحده! أو تقول لم يقدر الله على أن ينبت الشجر، حتى استعان عليه بالماء،
ولولا ذلك لم يقدر على إنباته! قَالَ لها يوسف: لا أقول ذلك، ولكني أعلم أن الله
بقدرته على ما يشاء يقول لذلك: كن فيكون قالت له مريم: أولم تعلم أن الله عز وجل
(1/594)
خلق آدم وامرأته من غير ذكر
ولا أنثى؟ قَالَ: بلى، فلما قالت له ذلك وقع في نفسه أن الذي بها شيء من الله عز
وجل، وأنه لا يسعه أن يسألها عنه، وذلك لما رأى من كتمانها لذلك ثم تولى يوسف خدمة
المسجد، وكفاها كل عمل كانت تعمل فيه، وذلك لما رأى من رقة جسمها واصفرار لونها،
وكلف وجهها، ونتوء بطنها، وضعف قوتها، ودأب نظرها، ولم تكن مريم قبل ذلك كذلك،
فلما دنا نفاسها أوحى الله إليها أن اخرجي من أرض قومك، فإنهم إن ظفروا بك عيروك
وقتلوا ولدك فأفضت عند ذلك إلى أختها- وأختها حينئذ حبلى، وقد بشرت بيحيى- فلما
التقيا وجدت أم يحيى ما في بطنها خر لوجهه ساجدا معترفا بعيسى، فاحتملها يوسف إلى
أرض مصر على حمار له، ليس بينها حين ركبت الحمار وبين الإكاف شيء، فانطلق يوسف
بها، حتى إذا كان متاخما لأرض مصر في منقطع بلاد قومها أدرك مريم النفاس، وألجأها
إلى أري حمار- يعني مزود الحمار- في أصل نخلة، وذلك في زمان الشتاء، فاشتد على
مريم المخاض، فلما وجدت منه شدة التجأت إلى النخلة، فاحتضنتها واحتوشتها الملائكة،
قاموا صفوفا محدقين بها.
فلما وضعت وهي محزونة، قيل لها: «أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ
سَرِيًّا» إلى «إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ
إِنْسِيًّا» ، فكان الرطب يتساقط عليها، وذلك في الشتاء.
فأصبحت الأصنام التي كانت تعبد من دون الله حين ولدت بكل أرض مقلوبة منكوسة على
رءوسها، ففزعت الشياطين وراعها، فلم يدروا ما سبب ذلك، فساروا عند ذلك مسرعين، حتى
جاءوا إبليس، وهو على عرش له، في لجة خضراء، يتمثل بالعرش يوم كان على الماء
ويحتجب، يتمثل بحجب النور التي من دون الرحمن، فاتوه وقد خلاست ساعات من النهار،
فلما
(1/595)
رأى إبليس جماعتهم، فزع من
ذلك، ولم يرهم جميعا منذ فرقهم قبل تلك الساعة، إنما كان يراهم أشتاتا، فسألهم
فأخبروه أنه قد حدث في الأرض حدث أصبحت الأصنام منكوسة على رءوسها، ولم يكن شيء
أعون على هلاك بني آدم منها، كنا ندخل في أجوافها فنكلمهم، وندبر أمرهم فيظنون
أنها التي تكلمهم، فلما أصابها هذا الحدث صغرها في أعين بني آدم، وأذلها وأدناها،
ذلك وقد خشينا ألا يعبدوها بعد هذا أبدا واعلم أنا لم نأتك حتى أحصينا الأرض،
وقلبنا البحار وكل شيء قوينا عليه، فلم نزدد بما أردنا إلا جهلا قَالَ لهم إبليس:
إن هذا لأمر عظيم، لقد علمت بأني كتمته، وكونوا على مكانكم هذا فطار إبليس عند
ذلك، فلبث عنهم ثلاث ساعات، فمر فيهن بالمكان الذي ولد فيه عيسى، فلما رأى
الملائكة محدقين بذلك المكان، علم أن ذلك الحدث فيه، فأراد إبليس أن يأتيه من
فوقه، فإذا فوقه رءوس الملائكة ومناكبهم عند السماء ثم أراد أن يأتيه من تحت
الأرض، فإذا أقدام الملائكة راسية أسفل مما أراد إبليس ثم أراد أن يدخل من بينهم
فنحوه عن ذلك.
ثم رجع إبليس إلى أصحابه فقال لهم: ما جئتكم حتى أحصيت الأرض كلها مشرقها ومغربها،
وبرها وبحرها، والخافقين، والجو الأعلى، وكل هذا بلغت في ثلاث ساعات، وأخبرهم
بمولد المسيح، وقال لهم: لقد كتمت شأنه، وما اشتملت قبله رحم أنثى على ولد إلا
بعلمي، ولا وضعته قط، إلا وأنا حاضرها، وأني لأرجو أن أضل به أكثر مما يهتدي به،
وما كان نبي قبله أشد علي وعليكم منه.
وخرج في تلك الليلة قوم يؤمونه من أجل نجم طلع أنكروه، وكان قبل ذلك يتحدثون أن
مطلع ذلك النجم من علامات مولود في كتاب دانيال.
فخرجوا يريدونه، ومعهم الذهب والمر واللبان، فمروا بملك من ملوك الشام، فسألهم:
أين يريدون؟ فأخبروه بذلك، قَالَ: فما بال الذهب والمر واللبان اهديتموه له من بين
الأشياء كلها؟ قَالُوا: تلك أمثاله: لأن الذهب هو سيد المتاع كله، وكذلك هذا النبي
هو سيد أهل زمانه، ولأن المر يجبر به
(1/596)
الجرح والكسر، وكذلك هذا النبي
يشفي به الله كل سقيم ومريض، ولأن اللبان ينال دخانه السماء ولا ينالها دخان غيره،
كذلك هذا النبي يرفعه الله إلى السماء لا يرفع في زمانه أحد غيره.
فلما قَالُوا ذلك لذلك الملك حدث نفسه بقتله، فقال: اذهبوا، فإذا علمتم مكانه
فأعلموني ذلك، فإني أرغب في مثل ما رغبتم فيه من أمره فانطلقوا حتى دفعوا ما كان
معهم من تلك الهدية إلى مريم، وأرادوا أن يرجعوا إلى هذا الملك ليعلموه مكان عيسى،
فلقيهم ملك فقال لهم: لا ترجعوا إليه، ولا تعلموه بمكانه، فإنه إنما أراد بذلك
ليقتله، فانصرفوا في طريق آخر، واحتملته مريم على ذلك الحمار ومعها يوسف، حتى وردا
أرض مصر، فهي الربوة التي قَالَ الله:
«وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ» .
فمكثت مريم اثنتي عشرة سنة تكتمه من الناس، لا يطلع عليه أحد، وكانت مريم لا تأمن
عليه ولا على معيشته أحدا، كانت تلتقط السنبل من حيث ما سمعت بالحصاد، والمهد في
منكبها والوعاء الذي تجعل فيه السنبل في منكبها الآخر، حتى تم لعيسى ع اثنتا عشرة
سنة، فكان أول آية رآها الناس منه أن أمه كانت نازلة في دار دهقان من أهل مصر،
فكان ذلك الدهقان قد سرقت له خزانة، وكان لا يسكن في داره إلا المساكين، فلم
يتهمهم، فحزنت مريم لمصيبة ذلك الدهقان، فلما أن رأى عيسى حزن أمه بمصيبة صاحب
ضيافتها، قَالَ لها: يا أمه، أتحبين أن أدله على ماله؟
قالت: نعم يا بني، قَالَ: قولي له يجمع لي مساكين داره، فقالت مريم للدهقان ذلك، فجمع
له مساكين داره، فلما اجتمعوا عمد إلى رجلين منهم:
أحدهما أعمى والآخر مقعد، فحمل المقعد على عاتق الأعمى، ثم قَالَ له:
قم به، قَالَ الأعمى: أنا أضعف من ذلك، قَالَ عيسى ع:
فكيف قويت على ذلك البارحة؟ فلما سمعوه يقول ذلك، بعثوا الأعمى، حتى قام به، فلما
استقل قائما حاملا هوي المقعد إلى كوة الخزانة قَالَ عيسى:
هكذا احتالا لمالك البارحة، لأنه استعان الأعمى بقوته، والمقعد بعينيه، فقال
(1/597)
المقعد والأعمى: صدق، فردا على
الدهقان ماله ذلك، فوضعه الدهقان في خزانته، وقال: يا مريم خذي نصفه، قالت: إني لم
أخلق لذلك، قَالَ الدهقان: فأعطيه ابنك، قالت: هو أعظم مني شأنا، ثم لم يلبث
الدهقان أن أعرس ابن له فصنع له عيدا فجمع عليه أهل مصر كلهم، فلما انقضى ذلك زاره
قوم من أهل الشام لم يحذرهم الدهقان، حتى نزلوا به، وليس عنده يومئذ شراب، فلما
رأى عيسى اهتمامه بذلك دخل بيتا من بيوت الدهقان، فيه صفان من جرار، فأمر عيسى يده
على أفواهها، وهو يمشي، فكلما أمر يده على جرة امتلأت شرابا، حتى أتى عيسى على
آخرها، وهو يومئذ ابن اثنتي عشرة سنة، فلما فعل ذلك عيسى فزع الناس لشأنه وما
أعطاه الله من ذلك، فأوحى الله عز وجل إلى أمه مريم، أن اطلعي به إلى الشام، ففعلت
الذي أمرت به، فلم تزل بالشام حتى كان ابن ثلاثين سنة، فجاءه الوحي على ثلاثين
سنة، وكانت نبوته ثلاث سنين ثم رفعه الله إليه، فلما رآه إبليس يوم لقيه على
العقبة لم يطلق منه شيئا، فتمثل له برجل ذي سن وهيئة، وخرج معه شيطانان ماردان
متمثلين كما تمثل إبليس، حتى خالطوا جماعة الناس.
وزعم وهب أنه ربما اجتمع على عيسى من المرضى في الجماعة الواحدة خمسون ألفا، فمن
أطاق منهم أن يبلغه بلغه، ومن لم يطق ذلك منهم أتاه عيسى ع يمشي إليه، وإنما كان
يداويهم بالدعاء إلى الله عز وجل، فجاءه إبليس في هيئة يبهر الناس حسنها وجمالها،
فلما رآه الناس فرغوا له، ومالوا نحوه، فجعل يخبرهم بالأعاجيب، فكان في قوله: إن
شأن هذا الرجل لعجب، تكلم في المهد، وأحيا الموتى، وأنبأ عن الغيب، وشفى المريض،
فهذا الله قَالَ أحد صاحبيه: جهلت أيها الشيخ، وبئس ما قلت! لا ينبغي لله أن يتجلى
للعباد، ولا يسكن الأرحام، ولا تسعه أجواف النساء، ولكنه ابن الله وقال الثالث:
بئس ما قلتما، كلا كما قد أخطأ وجهل، ليس ينبغي لله أن يتخذ ولدا، ولكنه إله معه،
ثم غابوا حين فرغوا
(1/598)
من قولهم، فكان ذلك آخر العهد
منهم.
حدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر
ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس- وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود-
وعن ناس من اصحاب النبي ص، قَالَ: خَرَجَتْ مَرْيَمُ إِلَى جَانِبِ الْمِحْرَابِ
لِحَيْضٍ أَصَابَهَا فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا مِنَ الْجُدْرَانِ، وهو
قوله: «ف انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا فَاتَّخَذَتْ مِنْ
دُونِهِمْ حِجاباً
» فِي شَرْقِ الْمِحْرَابِ، فَلَمَّا طَهُرَتْ إِذَا هِيَ بِرَجُلٍ مَعَهَا،
وَهُوَ قَوْلُهُ: «فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا
» فهو جبرئيل «فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا
» فَلَمَّا رَأَتْهُ فَزِعَتْ مِنْهُ وَقَالَتْ:
«إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا قالَ إِنَّما أَنَا
رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ
وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا
» - تَقُولُ زَانِيَةً- «قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ
وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا»
فَخَرَجَتْ، عَلَيْهَا جِلْبَابُهَا، فَأَخَذَ بِكُمَّيْهَا، فَنَفَخَ فِي جَيْبِ
دِرْعِهَا- وَكَانَ مَشْقُوقًا مِنْ قُدَّامِهَا- فَدَخَلَتِ النَّفْخَةُ فِي
صَدْرِهَا، فَحَمَلَتْ، فَأَتَتْهَا أُخْتُهَا امْرَأَةُ زَكَرِيَّاءَ لَيْلَةً
تَزُورُهَا، فَلَمَّا فَتَحَتْ لَهَا الْبَابَ الْتَزَمَتْهَا، فَقَالَتِ
امْرَأَةُ زَكَرِيَّاءَ: يَا مَرْيَمُ أَشَعَرْتِ أَنِّي حُبْلَى.
قَالَتْ مَرْيَمُ: أَشَعَرْتِ أَنِّي أَيْضًا حُبْلَى قَالَتِ امْرَأَةُ
زَكَرِيَّاءَ: فَإِنِّي وَجَدْتُ مَا فِي بَطْنِي يَسْجُدُ لِمَا فِي بَطْنِكِ،
فَذَلِكَ قوله: «مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ» .
فَوَلَدَتِ امْرَأَةُ زَكَرِيَّاءَ يَحْيَى، وَلَمَّا بَلَغَ أَنْ تَضَعَ
مَرْيَمُ، خَرَجَتْ إِلَى جَانِبِ الْمِحْرَابِ الشَّرْقِيِّ مِنْهُ، فَأَتَتْ
أَقْصَاهُ: «فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ» يَقُولُ: أَلْجَأَهَا
الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ، «قالَتْ» : وَهِيَ تطلقُ مِنَ الْحَبْلِ
اسْتِحْيَاءً مِنَ النَّاسِ: «يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً
مَنْسِيًّا»
(1/599)
تَقُولُ: نَسِيًّا: نُسِيَ
ذِكْرِي، وَمَنْسِيًّا، تَقُولُ: نُسِيَ أَثَرِي، فَلا يُرَى لِي أَثَرٌ وَلا
عَيْنٌ «فَناداها» ، جبرئيل: «مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ
تَحْتَكِ سَرِيًّا» ، وَالسَّرِيُّ هُوَ النَّهْرُ «وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ
النَّخْلَةِ» ، وَكَانَ جِذْعًا مِنْهَا مَقْطُوعًا فَهَزَّتْهُ، فَإِذَا هُوَ
نَخْلَةٌ، وَأَجْرَى لَهَا فِي الْمِحْرَابِ نَهْرًا فَتَسَاقَطَتِ النخله رطبا
جنيا، فقال لها: كلى وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا، «فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ
الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ
الْيَوْمَ إِنْسِيًّا» ، فَكَانَ مَنْ صَامَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ لَمْ
يَتَكَلَّمْ حَتَّى يُمْسِيَ، فَقِيلَ لَهَا:
لا تَزِيدِي عَلَى هَذَا، فَلَمَّا وَلَدَتْهُ ذَهَبَ الشَّيْطَانُ فَأَخْبَرَ
بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّ مَرْيَمَ قَدْ وَلَدَتْ، فَأَقْبَلُوا يَشْتَدُّونَ،
فَدَعَوْهَا «فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ
شَيْئاً فَرِيًّا» - يَقُولُ عَظِيمًا- «يَا أُخْتَ هارُونَ مَا كانَ أَبُوكِ
امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا» ، فَمَا بَالُكِ أَنْتِ يَا أُخْتَ
هَارُونَ! وَكَانَتْ مِنْ بَنِي هَارُونَ أَخِي مُوسَى، وَهُوَ كَمَا تَقُولُ: يَا
أَخَا بَنِي فُلانٍ، إِنَّمَا تَعْنِي قَرَابَتَهُ فَقَالَتْ لَهُمْ مَا أَمَرَهَا
اللَّهُ، فَلَمَّا أَرَادُوهَا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الْكَلَامِ، أَشَارَتْ
إِلَيْهِ- إِلَى عِيسَى- فَغَضِبُوا وَقَالُوا: لَسُخْرِيَّتُهَا بِنَا حِينَ
تَأْمُرُنَا أَنْ نُكَلِّمَ هَذَا الصَّبِيَّ أَشَدُّ عَلَيْنَا مِنْ زِنَاهَا!
«قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا» فَتَكَلَّمَ عِيسَى
فَقَالَ: «إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا
وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ» فَقَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ: مَا
أَحْبَلَهَا أَحَدٌ غَيْرُ زَكَرِيَّاءَ، هُوَ كَانَ يَدْخُلُ إِلَيْهَا،
فَطَلَبُوهُ فَفَرَّ مِنْهُمْ فَتَشَبَّهَ لَهُ الشَّيْطَانُ فِي صُورَةِ رَاعٍ،
فَقَالَ: يَا زَكَرِيَّاءُ، قَدْ أَدْرَكُوكَ، فَادْعُ اللَّهَ حَتَّى تَنْفَتِحَ
لَكَ هَذِهِ الشَّجَرَةُ فَتَدْخُلَ فِيهَا، فَدَعَا اللَّهَ فَانْفَتَحَتْ لَهُ
الشَّجَرَةُ، فَدَخَلَ فِيهَا وَبَقِيَ مِنْ رِدَائِهِ هُدْبٌ، فَمَرَّتْ بَنُو
إِسْرَائِيلَ بِالشَّيْطَانِ، فَقَالُوا:
يَا رَاعِي، هَلْ رَأَيْتَ رَجُلًا من هاهنا قَالَ: نَعَمْ سَحَرَ هَذِهِ
الشَّجَرَةَ،
(1/600)
فَانْفَتَحَتْ لَهُ، فَدَخَلَ
فِيهَا، وَهَذَا هُدْبُ رِدَائِهِ، فَعَمَدُوا فَقَطَعُوا الشَّجَرَةَ، وَهُوَ
فِيهَا بِالْمَنَاشِيرِ، وَلَيْسَ تَجِدُ يَهُودِيًّا إِلَّا تِلْكَ الْهُدْبَة
فِي رِدَائِهِ، فَلَمَّا وُلِدَ عِيسَى لَمْ يَبْقَ فِي الأَرْضِ صَنَمٌ يُعْبَدُ
مِنْ دُونِ اللَّهِ إِلَّا أَصْبَحَ سَاقِطًا لِوَجْهِهِ حَدَّثَنِي المثنى،
قَالَ: حَدَّثَنَا إسحاق بن الحجاج، قال: حدثنا اسماعيل ابن عبد الكريم، قال:
حدثني عبد الصمد بن معقل، أنه سمع وهبا يقول:
إن عيسى بن مريم ع لما أعلمه الله أنه خارج من الدنيا جزع من الموت، وشق عليه،
فدعا الحواريين، فصنع لهم طعاما، فقال:
احضروني الليلة، فإن لي إليكم حاجة، فلما اجتمعوا إليه من الليل، عشاهم وقام
يخدمهم، فلما فرغوا من الطعام أخذ يغسل أيديهم ويوضئهم بيده، ويمسح أيديهم بثيابه،
فتعاظموا ذلك وتكارهوه، فقال: ألا من رد علي شيئا الليلة مما أصنع فليس مني ولا
أنا منه! فأقروه حتى إذا فرغ من ذلك قَالَ: أما ما صنعت بكم الليلة مما خدمتكم على
الطعام، وغسلت أيديكم بيدي، فليكن لكم بي أسوة، فإنكم ترون أني خيركم، ولا يتعظم
بعضكم على بعض، وليبذل بعضكم نفسه لبعض، كما بذلت نفسي لكم وأما حاجتي التي
أستعينكم عليها، فتدعون الله لي، وتجتهدون في الدعاء أن يؤخر أجلي، فلما نصبوا
أنفسهم للدعاء، وأرادوا أن يجتهدوا، أخذهم النوم، حتى لم يستطيعوا دعاء، فجعل
يوقظهم، ويقول: سبحان الله! ما تصبرون لي ليلة واحدة تعينوني فيها! قَالُوا: والله
ما ندري ما لنا! لقد كنا نسمر فنكثر السمر، وما نطيق الليلة سمرا، وما نريد دعاء
إلا حيل بيننا وبينه! فقال: يذهب بالراعي وتتفرق الغنم وجعل يأتي بكلام نحو هذا،
ينعى به نفسه، ثم قَالَ:
الحق ليكفرن بي أحدكم، قبل ان يصيح الديك ثلاث مرات، وليبيعننى أحدكم بدراهم
يسيرة، وليأكلن ثمني فخرجوا فتفرقوا، وكانت اليهود تطلبه، فأخذوا شمعون، أحد
الحواريين، فقالوا: هذا من أصحابه، فجحد وقال:
ما أنا بصاحبه، فتركوه، ثم أخذه آخر فجحد كذلك، ثم سمع صوت ديك،
(1/601)
فبكى، فلما أصبح أتى أحد
الحواريين إلى اليهود، فقال: ما تجعلون لي إن دللتكم على المسيح؟ فجعلوا له ثلاثين
درهما، فأخذها ودلهم عليه- وكان شبه عليهم قبل ذلك- فأخذوه، فاستوثقوا منه، وربطوه
بالحبل، فجعلوا يقودونه، ويقولون: أنت كنت تحيي الموتى، وتنتهر الشيطان، وتبرئ
المجنون، أفلا تفتح نفسك من هذا الحبل! ويبصقون عليه، ويلقون عليه الشوك، حتى أتوا
به الخشبة التي أرادوا أن يصلبوه عليها، فرفعه الله إليه، وصلبوا ما شبه لهم، فمكث
سبعا ثم إن أمه والمرأة- التي كان عيسى يداويها فأبرأها الله من الجنون- جاءتا
تبكيان عند المصلوب، فجاءهما عيسى ع، فقال: على من تبكيان؟ فقالتا: عليك، فقال:
إني قد رفعني الله إليه، ولم يصبني إلا خير، وإن هذا شيء شبه لهم، فأمرا الحواريين
أن يلقوني إلى مكان كذا وكذا، فلقوه إلى ذلك المكان أحد عشر، وفقد الذي كان باعه،
ودل عليه اليهود، فسأل عنه أصحابه، فقالوا: إنه ندم على ما صنع، فاختنق وقتل نفسه،
فقال: لو تاب تاب الله عليه! ثم سألهم عن غلام يتبعهم يقال له يحيى، فقال: هو
معكم، فانطلقوا فإنه سيصبح كل إنسان منكم يحدث بلغة قوم فلينذرهم وليدعهم.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن
منبه اليماني، قال: توفى الله عيسى بن مريم ثلاث ساعات من النهار، حتى رفعه الله
إليه.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: والنصارى
يزعمون أنه توفاه الله سبع ساعات من النهار، ثم أحياه الله، فقال له: اهبط، فانزل
على مريم المجدلانية في جبلها، فإنه لم يبك عليك أحد بكاءها، ولم يحزن عليك أحد
حزنها، ثم لتجمع لك الحواريين، فبثهم في الأرض دعاة إلى الله، فإنك لم تكن فعلت
ذلك فأهبطه الله عليها، فاشتعل الجبل حين
(1/602)
هبط نورا، فجمعت له الحواريين،
فبثهم وأمرهم، أن يبلغوا الناس عنه ما أمره الله به، ثم رفعه الله إليه، فكساه
الريش، وألبسه النور، وقطع عنه لذة المطعم والمشرب، فطار في الملائكة وهو معهم حول
العرش، فكان إنسيا ملكيا سمائيا أرضيا، وتفرق الحواريون حيث أمرهم، فتلك الليلة
التي أهبط فيها الليلة التي تدخن فيها النصارى وكان ممن وجه من الحواريين والأتباع
الذين كانوا في الأرض بعدهم، فطرس الحواري ومعه بولس- وكان من الأتباع، ولم يكن من
الحواريين- إلى رومية، واندراييس ومثى إلى الأرض التي يأكل أهلها الناس- وهي فيما
نرى للأساود- وتوماس إلى أرض بابل من أرض المشرق، وفيلبس إلى القيروان وقرطاجنة،
وهي إفريقية، ويحنس إلى دفسوس، قرية الفتية أصحاب الكهف، ويعقوبس إلى أوريشلم، وهي
إيليا بيت المقدس، وابن تلما إلى العرابية، وهي أرض الحجاز، وسيمن إلى أرض البربر
دون إفريقية، ويهوذا- ولم يكن من الحواريين- إلى اريوبس، جعل مكان يوذس زكرياء
يوطا، حين أحدث ما أحدث.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عمر ابن عبد الله بن
عروة بن الزبير، عن ابن سليم الأنصاري، ثم الزرقي، قَالَ: كان على امرأة منا نذر،
لتظهرن على رأس الجماء- جبل بالعقيق من ناحية المدينة- قَالَ: فظهرت معها، حتى إذا
استوينا على رأس الجبل، إذا قبر عظيم، عليه حجران عظيمان، حجر عند رأسه، وحجر عند
رجليه، فيهما كتاب بالمسند، لا أدري ما هو! فاحتملت الحجرين معي، حتى إذا كنت ببعض
الجبل منهبطا ثقلا علي، فألقيت أحدهما وهبطت
(1/603)
بالآخر، فعرضته على أهل
السريانية: هل يعرفون كتابه؟ فلم يعرفوه، وعرضته على من يكتب بالزبور من أهل
اليمن، ومن يكتب بالمسند فلم يعرفوه قَالَ: فلما لم أجد أحدا ممن يعرفه ألقيته تحت
تابوت لنا، فمكث سنين، ثم دخل علينا ناس من أهل ماه من الفرس يبتغون الخرز، فقلت
لهم: هل لكم من كتاب؟ فقالوا: نعم، فأخرجت إليهم الحجر، فإذا هم يقرءونه، فإذا هو
بكتابهم: هذا قبر رسول الله عيسى بن مريم ع إلى أهل هذه البلاد، فإذا هم كانوا
أهلها في ذلك الزمان، مات عندهم فدفنوه على رأس الجبل.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثم
عدوا على بقية الحواريين يشمسونهم ويعذبونهم، وطافوا بهم، فسمع بذلك ملك الروم-
وكانوا تحت يديه، وكان صاحب وثن- فقيل له: إن رجلا كان في هؤلاء الناس الذين تحت
يديك من بني إسرائيل عدوا عليه فقتلوه، وكان يخبرهم أنه رسول الله، قد أراهم
العجائب، وأحيا لهم الموتى، وأبرأ لهم الأسقام، وخلق لهم من الطين كهيئة الطير،
ونفخ فيه فكان طائرا بإذن الله، وأخبرهم بالغيوب قَالَ: ويحكم! فما منعكم أن
تذكروا هذا لي من امره وامرهم! فو الله لو علمت ما خليت بينهم وبينه ثم بعث إلى
الحواريين، فانتزعهم من أيديهم، وسألهم عن دين عيسى وأمره، فأخبروه خبره، فتابعهم
على دينهم، واستنزل سرجس فغيبه، وأخذ خشبته التي صلب عليها، فأكرمها وصانها لما مسها
منه، وعدا على بني إسرائيل، فقتل منهم قتلى كثيرة، فمن هنالك كان أصل النصرانية في
الروم.
وذكر بعض أهل الأخبار أن مولد عيسى ع كان لمضي اثنتين وأربعين سنة من ملك اغوسطوس،
وان اغوسطوس عاش بعد ذلك بقية ملكه،
(1/604)
وكان جميع ملكه ستا وخمسين
سنة- قَالَ بعضهم: وأياما قَالَ: ووثبت اليهود بالمسيح، والرياسة ببيت المقدس في
ذلك الوقت لقيصر، والملك على بيت المقدس من قبل قيصر هيردوس الكبير الذي دخلت عليه
رسل ملك فارس الذين وجههم الملك الى المسيح، فصار إلى هيردوس غلطا، وأخبروه أن ملك
فارس بعث بهم ليقربوا إلى المسيح ألطافا معهم من ذهب، ومر ولبان، وأنهم نظروا إلى
نجمه قد طلع، فعرفوا ذلك بالحساب، وقربوا الألطاف إليه ببيت لحم من فلسطين فلما
عرف هيردوس خبرهم كاد المسيح، فطلبه ليقتله، فأمر الله الملك أن يقول ليوسف الذي
كان مع مريم في الكنيسة ما أراد هيردوس من قتله، وأمره أن يهرب بالغلام وأمه إلى
مصر، فلما مات هيردوس قَالَ الملك ليوسف وهو بمصر: إن هيردوس قد مات، وملك مكانه
أركلاوس ابنه، وذهب من كان يطلب نفس الغلام، فانصرف به إلى ناصرة من فلسطين ليتم
قول شعيا النبي: من مصر دعوتك ومات أركلاوس، وملك مكانه هيردوس الصغير، الذي صلب شبه
المسيح في ولايته، وكانت الرياسة في ذلك الوقت لملوك اليونانية والروم، وكان
هيردوس وولده من قبلهم، إلا أنهم كانوا يلقبون باسم الملك، وكان الملوك الكبار
يلقبون بقيصر، وكان ملك بيت المقدس في وقت الصلب لهيردوس الصغير من قبل طيباريوس
بن أغوسطوس دون القضاء، وكان القضاء لرجل رومي يقال له: فيلاطوس من قبل قيصر،
وكانت رياسة الجالوت ليونن بن بهبوثن.
قَالَ: وذكروا أن الذي شبه بعيسى وصلب مكانه رجل إسرائيلي، يقال له: أيشوع بن
فنديرا وكان ملك طيباريوس ثلاثا وعشرين سنة وأياما منها إلى وقت ارتفاع المسيح
ثماني عشرة سنة وأيام، ومنها بعد ذلك خمس سنين
(1/605)
ذكر من ملك من الروم أرض الشام
بعد رفع المسيح ع الى عهد النبي ص في قول النصارى
قَالَ أبو جعفر: زعموا أن ملك الشام من فلسطين وغيرها صار بعد طيباريوس إلى جايوس
بن طيباريوس، وأن ملكه كان أربع سنين.
ثم ملك بعده ابن له آخر، يقال له: قلوديوس أربع عشرة سنة.
ثم ملك بعده نيرون، الذي قتل فطرس وبولس، وصلبه منكسا، أربع عشرة سنة.
ثم ملك بعده بوطلايوس، أربعة أشهر.
ثم ملك بعده أسفسيانوس أبو ططوس الذي وجهه إلى بيت المقدس عشر سنين ولمضي ثلاث
سنين من ملكه وتمام أربعين سنة من وقت رفع عيسى ع وجه أسفسيانوس ابنه ططوس إلى بيت
المقدس، حتى هدمه وقتل من قتل من بني إسرائيل غضبا للمسيح ثم ملك بعده ططوس بن
اسفسيانوس، سنتين.
ثم من بعده دومطيانوس، ست عشرة سنة ثم من بعده نارواس، ست سنين.
ثم من بعده طرايانوس، تسع عشرة سنة.
ثم من بعده هدريانوس، إحدى وعشرين سنة.
ثم ملك من بعده ططورس بن بطيانوس، اثنتين وعشرين سنة.
ثم من بعده مرقوس وأولاده، تسع عشرة سنة.
ثم من بعده قوذوموس، ثلاث عشرة سنة
(1/606)
ثم من بعده فرطناجوس، ستة
أشهر.
ثم من بعده سبروس أربع عشرة سنة.
ثم من بعده انطنياوس، سبع سنين.
ثم بعده مرقيانوس، ست سنين.
ثم بعده أنطنيانوس، أربع سنين.
ثم الحسندروس، ثلاث عشرة سنة.
ثم غسميانوس، ثلاث سنين.
ثم جورديانوس، ست سنين.
ثم بعده فليفوس، سبع سنين.
ثم داقيوس، ست سنين.
ثم قالوس، ست سنين.
ثم بعده والرييانوس وقاليونس، خمس عشرة سنة.
ثم قلوديوس، سنة.
ثم من بعده قريطاليوس، شهرين.
ثم اورليانوس، خمس سنين.
ثم طيقطوس، ستة أشهر.
ثم فولوريوس، خمسة وعشرين يوما ثم فرابوس، ست سنين.
ثم قوروس وابناه، سنتين.
ثم دوقلطيانوس، ست سنين.
ثم محسميانوس، عشرين سنة.
ثم قسطنطينوس، ثلاثين سنة.
ثم قسطنطين، ثلاثين سنة.
ثم قسطنطين عشرين سنة
(1/607)
ثم اليانوس المنافق، سنتين.
ثم يويانوس، سنة.
ثم والمطيانوس وغرطيانوس، عشر سنين.
ثم خرطانوس ووالنطيانوس الصغير، سنة.
ثم تياداسيس الأكبر، سبع عشرة سنة.
ثم أرقديوس وأنوريوس، عشرين سنة.
ثم تياداسيس الاصغر والنطيانوس ست عشرة سنة.
ثم مرقيانوس، سبع سنين.
ثم لاون، ست عشرة سنة.
ثم زانون، ثماني عشرة سنة ثم أنسطاس، سبعا وعشرين سنة.
ثم يوسطنيانوس، سبع سنين.
ثم يوسطنيانوس الشيخ، عشرين سنة.
ثم يوسطينس اثنتي عشرة سنة.
ثم طيباريوس، ست سنين.
ثم مريقيس وتاذاسيس ابنه، عشرين سنة ثم فوقا الذي قتل، سبع سنين وستة أشهر.
ثم هرقل الذى كتب اليه رسول الله ص، ثلاثين سنة.
فمن لدن عمر بيت المقدس بعد تخريبه بختنصر إلى الهجرة- على قولهم- ألف سنة ونيف،
ومن ملك الإسكندر إليها تسعمائة سنة ونيف وعشرون سنة، من ذلك من وقت ظهوره الى
مولد عيسى ثلاثمائة سنة وثلاث سنين ومن مولده إلى ارتفاعه اثنتان وثلاثون سنة، ومن
وقت ارتفاعه إلى الهجره خمسمائة وخمس وثمانون سنة وأشهر.
وزعم بعض أصحاب الأخبار أن قتل بني إسرائيل يحيى بن زكرياء كان في عهد أردشير بن
بابك لثماني سنين خلت من ملكه، وأن بختنصر إنما صار إلى الشام لقتال اليهود من قبل
سابور الجنود ابن أردشير بن بابك
(1/608)
نزول قبائل العرب الحيرة
والأنبار ايام ملوك الطوائف
وكان من الأحداث أيام ملوك الطوائف إلى قيام أردشير بن بابك بالملك- فيما ذكر هشام
بن مُحَمَّد- دنو من دنا من قبائل العرب من ريف العراق ونزول من نزل منهم الحيرة
والأنبار وما حوالي ذلك.
فحدثت عن هشام بن مُحَمَّد، قَالَ: لما مات بختنصر انضم الذين كان أسكنهم الحيرة
من العرب حين أمر بقتالهم إلى أهل الأنبار وبقي الحير خرابا، فغبروا بذلك زمانا
طويلا، لا تطلع عليهم طالعة من بلاد العرب، ولا يقدم عليهم قادم، وبالأنبار أهلها
ومن انضم إليهم من أهل الحيرة من قبائل العرب من بني إسماعيل وبني معد بن عدنان،
فلما كثر اولاد معد ابن عدنان ومن كان معهم من قبائل العرب، وملئوا بلادهم من
تهامة وما يليهم، فرقتهم حروب وقعت بينهم، وأحداث حدثت فيهم، فخرجوا يطلبون المتسع
والريف فيما يليهم من بلاد اليمن ومشارف الشام، وأقبلت منهم قبائل حتى نزلوا
البحرين، وبها جماعة من الأزد كانوا نزلوها في دهر عمران بن عمرو، من بقايا بني
عامر، وهو ماء السماء بن حارثة، وهو الغطريف بن ثعلبة بن امرئ القيس بن مازن بن
الأزد.
وكان الذين أقبلوا من تهامة من العرب مالك وعمرو ابنا فهم بن تيم الله ابن أسد بن
وبرة بن تغلب بن حلوان بن عِمْرَان بن الحاف بن قضاعة، ومالك بن زهير بن عمرو بن
فهم بن تيم الله بن أسد بن وبرة، في جماعه من
(1/609)
قومهم، والحيقار بن الحيق بن
عمير بن قنص بن معد بن عدنان، في قنص كلها ولحق بهم غطفان بن عمرو بن الطمثان بن
عوذ مناه بن يقدم ابن أفصى بن دعمي بن إياد بن نزار بن معد بن عدنان، وزهر بن
الحارث بن الشلل بن زهر بن اياد وصبح، بن صبيح بن الحارث بن أفصى بن دعمي بن إياد.
فاجتمع بالبحرين جماعة من قبائل العرب، فتحالفوا على التنوخ- وهو المقام- وتعاقدوا
على التوازر والتناصر، فصاروا يدا على الناس، وضمهم اسم تنوخ، فكانوا بذلك الاسم،
كأنهم عمارة من العمائر.
قال: وتنخ عليهم بطون من نمارة بن لخم قَالَ: ودعا مالك بن زهير جذيمة الأبرش بن
مالك بن فهم بن غانم بن دوس الأزدي إلى التنوخ معه، وزوجه أخته لميس ابنة زهير،
فتنخ جذيمة بن مالك وجماعة ممن كان بها من قومهم من الأزد، فصار مالك وعمرو ابنا
فهم والأزد حلفاء دون سائر تنوخ، وكلمة تنوخ كلها واحدة.
وكان اجتماع من اجتمع من قبائل العرب بالبحرين وتحالفهم وتعاقدهم أزمان ملوك
الطوائف الذين ملكهم الإسكندر، وفرق البلدان بينهم عند قتله دارا بن دارا ملك فارس،
إلى أن ظهر أردشير بن بابك ملك فارس على ملوك الطوائف، وقهرهم ودان له الناس، وضبط
له الملك.
قَالَ: وإنما سموا ملوك الطوائف، لأن كل ملك منهم كان ملكه قليلا من الأرض، إنما
هي قصور وأبيات، وحولها خندق وعدوه قريب منه، له من الأرض مثل ذلك ونحوه، يغير
أحدهما على صاحبه ثم يرجع كالخطفة.
قَالَ: فتطلعت أنفس من كان بالبحرين من العرب إلى ريف العراق،
(1/610)
وطمعوا في غلبة الأعاجم على ما
يلي بلاد العرب منه أو مشاركتهم فيه، واهتبلوا ما وقع بين ملوك الطوائف من
الاختلاف، فأجمع رؤساؤهم بالمسير إلى العراق، ووطن جماعة ممن كان معهم على ذلك،
فكان أول من طلع منهم الحيقار بن الحيق في جماعة قومه وأخلاط من الناس، فوجدوا
الأرمانيين- وهم الذين بأرض بابل وما يليها إلى ناحية الموصل- يقاتلون
الأردوانيين، وهم ملوك الطوائف، وهم فيما بين نفر- وهي قرية من سواد العراق إلى
الأبلة وأطراف البادية- فلم تدن لهم، فدفعوهم عن بلادهم.
قَالَ: وكان يقال لعاد إرم، فلما هلكت قيل لثمود إرم، ثم سموا الأرمانيين، وهم
بقايا إرم، وهم نبط السواد ويقال لدمشق: إرم.
قَالَ: فارتفعوا عن سواد العراق وصاروا أشلاء بعد في عرب الأنبار وعرب الحيرة، فهم
أشلاء قنص بن معد، وإليهم ينسب عمرو بن عدى بن نصر ابن ربيعة بن عمرو بن الحارث بن
سعود بن مالك بن عمم بن نمارة بن لخم.
وهذا قول مضر وحماد الراوية، وهو باطل، ولم يأت في قنص ابن معد شيء أثبت من قول
جبير بن مطعم: إن النعمان كان من ولده قَالَ: وإنما سميت الأنبار أنبار لأنها كانت
تكون فيها أنابير الطعام، وكانت تسمى الأهراء، لأن كسرى يرزق أصحابه رزقهم منها.
قَالَ: ثم طلع مالك وعمرو، ابنا فهم بن تيم الله، ومالك بن زهير بن فهم بن تيم
الله، وغطفان بن عمرو بن الطمثان، وزهر بن الحارث وصبح ابن صبيح، فيمن تنخ عليهم
من عشائرهم وحلفائهم على الأنبار، على ملك الأرمانيين، فطلع نمارة بن قيس بن
نمارة، والنجدة- وهم قبيلة من العماليق يدعون الى كنده- وملكان بن كندة، ومالك
وعمرو ابنا فهم ومن حالفهم، وتنخ معهم على نفر على ملك الأردوانيين، فأنزلهم الحير
الذي كان بناه
(1/611)
بختنصر لتجار العرب الذين وجدوا
بحضرته حين أمر بغزو العرب في بلادهم، وإدخال الجيوش عليهم، فلم تزل طالعة الأنبار
وطالعة نفر على ذلك، لا يدينون للأعاجم، ولا تدين لهم الأعاجم، حتى قدمها تبع- وهو
أسعد أبو كرب بن ملكيكرب- في جيوشه، فخلف بها من لم تكن به قوة من الناس، ومن لم
يقو على المضي معه، ولا الرجوع إلى بلاده، وانضموا إلى هذا الحير، واختلطوا بهم،
وفي ذلك يقول كعب بن جعيل بن عجرة بن قمير بن ثعلبة بن عوف بن مالك بن بكر بن حبيب
بن عَمْرو بن غنم بن تغلب بن وائل:
وغزا تبع في حمير حتى ... نزل الحيرة من أهل عدن
وخرج تبع سائرا ثم رجع إليهم، وأقاموا فأقرهم على حالهم، وانصرف راجعا إلي اليمن،
وفيهم من كل القبائل من بني لحيان، وهم بقايا جرهم، وفيهم جعفي، وطيّئ، وكلب،
وتميم، وليسوا إلا بالحيرة- يعني بقايا جرهم.
قَالَ ابن الكلبي: لحيان بقايا جرهم.
ونزل كثير من تنوخ الأنبار والحيرة وما بين الحيرة إلى طف الفرات وغربيه، إلى
ناحية الأنبار وما والاها في المظال والأخبية، لا يسكنون بيوت المدر، ولا يجامعون
أهلها فيها، واتصلت جماعتهم فيما بين الأنبار والحيرة، وكانوا يسمون عرب الضاحية،
فكان أول من ملك منهم في زمان ملوك الطوائف مالك بن فهم، وكان منزله مما يلي الأنبار
ثم مات مالك، فملك من بعده أخوه عمرو بن فهم ثم هلك عمرو بن فهم، فملك من بعده
جذيمة الأبرش بن مالك بن فهم بن غنم بن دوس الأزدي.
قَالَ ابن الكلبي: دوس بن عدثان بن عبد الله بن نصر بن زهران ابن كعب بن الحارث بن
كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد بن
(1/612)
الغوث بن مالك بن زيد بن كهلان
بن سبإ.
قَالَ ابن الكلبي: ويقال إن جذيمة الأبرش من العاربة الأولى، من بني وبار بن أميم
بن لوذ بن سام بن نوح قَالَ: وكان جذيمة من أفضل ملوك العرب رأيا، وأبعدهم مغارا،
وأشدهم نكاية، وأظهرهم حزما، وأول من استجمع له الملك بأرض العراق، وضم إليه
العرب، وغزا بالجيوش، وكان به برص، فكنت العرب عنه، وهابت العرب أن تسميه به
وتنسبه إليه إعظاما له، فقيل: جذيمة الوضاح، وجذيمة الأبرش، وكانت منازله فيما بين
الحيرة والأنبار وبقة وهيت وناحيتها، وعين التمر، وأطراف البر الى الغوير والقطقطانة
وخفية وما والاها، وتجبى إليه الأموال، وتفد إليه الوفود، وكان غزا طسما وجديسا في
منازلهم من جو وما حولهم، وكانت طسم وجديس يتكلمون بالعربية، فأصاب حسان بن تبع
أسعد أبي كرب، قد أغار على طسم وجديس باليمامة، فانكفأ جذيمة راجعا بمن معه، وتأتي
خيول تبع على سرية لجذيمة فاجتاحتها، وبلغ جذيمة خبرهم، فقال جذيمة:
ربما أوفيت في علم ... ترفعن بردي شمالات
في فتو أنا كالئهم ... في بلايا غزوة باتوا
ثم أبنا غانمي نعم ... وأناس بعدنا ماتوا
نحن كنا في ممرهم ... إذ ممر القوم خوات
ليت شعري ما أماتهم ... نحن أدلجنا وهم باتوا
(1/613)
ولنا كانوا ونحن إذا ... قَالَ
منا قائل صاتوا
ولنا البيد البعاد التي ... أهلها السودان اشتات
ثبه الاخيار شاهده ... ذاكم قومى واهلاتى
قد شربت الخمر وسطهم ... ناعما في غير أصوات
فعلى ما كان من كرم ... فستبكيني بنياتي
انا رب الناس كلهم ... غير ربي الكافت الفات
يعني بالكافت الذي يكفت ارواحهم، والفات الذى يفيتهم أنفسهم، يعني الله عز وجل.
قَالَ ابن الكلبي: ثلاثة أبيات منها حق، والبقية باطل.
قال: وفي مغازيه وغاراته على الأمم الخالية من العاربة الأولى يقول الشاعر في
الجاهلية:
أضحى جذيمة في يبرين منزله ... قد حاز ما جمعت في دهرها عاد
فكان جذيمة قد تنبأ وتكهن، واتخذ صنمين، يقال لهما: الضيزنان- قَالَ: ومكان
الضيزنين بالحيرة معروف- وكان يستسقى بهما ويستنصر بهما على العدو، وكانت أياد
بعين أباغ، وأباغ رجل من العماليق، نزل بتلك العين، فكان يغازيهم، فذكر لجذيمة غلام
من لخم في أخواله من أياد يقال له عدي بن نصر بن ربيعة بن عمرو بن الحارث بن سعود
بن مالك بن عمم بن نمارة بن لخم، له جمال وظرف، فغزاهم جذيمة، فبعث أياد قوما
فسقوا سدنة الصنمين الخمر، وسرقوا الصنمين، فأصبحا في أياد، فبعث إلى جذيمة: أن
صنميك أصبحا فينا، زهدا فيك ورغبة فينا، فإن اوثقت لنا الا تغزونا رددناهما إليك.
قَالَ: وعدي بن نصر تدفعونه إلي فدفعوه إليه مع الصنمين، فانصرف
(1/614)
عنهم، وضم عديا إلى نفسه،
وولاه شرابه، فأبصرته رقاش ابنة مالك أخت جذيمة، فعشقته وراسلته، وقالت: يا عدي،
أخطبني إلى الملك، فإن لك حسبا وموضعا، فقال: لا أجترئ على كلامه في ذلك، ولا اطمع
أن يزوجنيك، قالت: إذا جلس على شرابه، وحضره ندماؤه، فاسقه صرفا، واسق القوم
مزاجا، فإذا أخذت الخمرة فيه، فاخطبني إليه، فإنه لن يردك، ولن يمتنع منك، فإذا
زوجك فاشهد القوم، ففعل الفتى ما أمرته به، فلما أخذت الخمرة مأخذها خطبها إليه،
فأملكه إياها، فانصرف إليها، فأعرس بها من ليلته، واصبح مضرجا بالخلوق، فقال له
جذيمة- وأنكر ما رأى به: ما هذه الآثار يا عدي؟ قَالَ: آثار العرس، قَالَ أي عرس!
قَالَ: عرس رقاش! قَالَ: من زوجكها ويحك! قَالَ:
زوجنيها الملك، فضرب جذيمة بيده على جبهته، وأكب على الأرض ندامة وتلهفا، وخرج عدي
على وجهه هاربا، فلم ير له أثر، ولم يسمع له بذكر، وأرسل إليها جذيمة، فقال:
حدثيني وأنت لا تكذبيني ... ابحر زنيت أم بهجين!
أم بعبد فأنت أهل لعبد ... أم بدون فأنت أهل لدون
فقالت: لا بل أنت زوجتني امرا عربيا، معروقا حسيبا، ولم تستأمرني في نفسي، ولم أكن
مالكة لأمري، فكف عنها، وعرف عذرها.
ورجع عدي بن نصر إلى أياد، فكان فيهم، فخرج ذات يوم مع فتية متصيدين، فرمى به فتى
منهم من لهب فيما بين جبلين، فتنكس فمات، واشتملت رقاش على حبل، فولدت غلاما،
فسمته عمرا ورشحته، حتى إذا ترعرع عطرته وألبسته وحلته، وأزارته خاله جذيمة، فلما
رآه أعجب به، وألقيت عليه منه مقة ومحبة، فكان يختلف مع ولده، ويكون معهم.
فخرج جذيمة متبديا بأهله وولده في سنة خصبة مكلئة، فضربت له أبنية في روضة ذات
زهرة وغدر، وخرج ولده وعمرو معهم يجتنون الكمأة،
(1/615)
فكانوا إذا أصابوا كمأة جيدة
أكلوها، وإذا أصابها عمرو خبأها في حجزته فانصرفوا إلى جذيمة يتعادون، وعمرو يقول:
هذا جناي وخياره فيه ... إذ كل جان يده إلى فيه
فضمه إليه جذيمة والتزمه، وسر بقوله وفعله، وأمر فجعل له حلي من فضة وطوق، فكان
أول عربي ألبس طوقا، فكان يسمى عمرا ذا الطوق، فبينما هو على أحسن حاله، إذ
استطارته الجن فاستهوته، فضرب له جذيمة في البلدان والآفاق زمانا لا يقدر عليه
قَالَ: وأقبل رجلان أخوان من بلقين- يقال لهما: مالك وعقيل، ابنا فارج بن مالك بن
كعب بن القين بن جسر ابن شيع الله بن أسد بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عِمْرَان بن
الحاف بن قضاعة- من الشام يريدان جذيمة، قد اهديا له طرفا ومتاعا، فلما كانا ببعض
الطريق نزلا منزلا، ومعهما قينة لهما يقال لها: أم عمرو، فقدمت إليهما طعاما،
فبينما هما يأكلان إذ أقبل فتى عريان شاحب، قد تلبد شعره، وطالت أظفاره، وساءت
حاله، فجاء حتى جلس حجره منهما، فمد يده يريد الطعام، فناولته القينة كراعا،
فأكلها ثم مد يده إليها، فقالت:
تعطي العبد كراعا فيطمع في الذراع، فذهبت مثلا، ثم ناولت الرجلين من شراب كان
معها، وأوكت زقها، فقال عمرو بن عدي:
صددت الكاس عنا أم عمرو ... وكان الكاس مجراها اليمينا
وما شر الثلاثة أم عمرو ... بصاحبك الذي لا تصحبينا!
فقال مالك وعقيل: من أنت يا فتي؟ فقال: إن تنكراني او تنكرا نسبي، فانى انا عمرو
بن عدي، ابن تنوخية، اللخمي، وغدا ما ترياني في نمارة غير معصي
(1/616)
فنهضا إليه فضماه وغسلا رأسه،
وقلما أظفاره، وأخذا من شعره وألبساه مما كان معهما من الثياب وقالا: ما كنا لنهدي
لجذيمة هدية أنفس عنده، ولا أحب إليه من ابن أخته، قد رده الله عليه بنا فخرجا به،
حتى دفعا إلي باب جذيمة بالحيرة، فبشراه، فسر بذلك سرورا شديدا، وأنكره لحال ما
كان فيه، فقالا: أبيت اللعن! إن من كان في مثل حاله يتغير.
فأرسل به إلى أمه، فمكث عندها أياما ثم أعادته إليه، فقال: لقد رأيته يوم ذهب
وعليه طوق، فما ذهب عن عيني ولا قلبي إلي الساعة، فأعادوا عليه الطوق، فلما نظر
إليه قَالَ: شب عمرو عن الطوق، فأرسلها مثلا، وقال لمالك وعقيل: حكمكما، قالا:
حكمنا منادمتك ما بقينا وبقيت! فهما ندمانا جذيمة اللذان ضربا مثلا في أشعار
العرب، وفي ذلك يقول أبو خراش الهذلي:
لعمرك ما ملت كبيشة طلعتي ... وإن ثوائي عندها لقليل
ألم تعلمي أن قد تفرق قبلنا ... نديما صفاء مالك وعقيل
وقال متمم بن نويرة:
وكنا كندماني جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
فلما تفرقنا كأني ومالكا ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
وكان ملك العرب بأرض الجزيرة ومشارف بلاد الشام عمرو بن ظرب ابن حسان بن أذينة بن
السميدع بن هوبر العملقي- ويقال العمليقي، من
(1/617)
عاملة العماليق، فجمع جذيمة جموعا
من العرب، فسار إليه يريد غزاته، وأقبل عمرو بن ظرب بجموعه من الشام، فالتقوا،
فاقتتلوا قتالا شديدا، فقتل عمرو بن ظرب، وانفضت جموعه، وانصرف جذيمة بمن معه
سالمين غانمين، فقال في ذلك الأعور بن عمرو بن هناءة بن مالك بن فهم الأزدي:
كأن عمرو بن ثربى لم يعش ملكا ... ولم تكن حوله الرايات تختفق
لاقى جذيمة في جأواء مشعلة ... فيها حراشف بالنيران ترتشق
فملكت من بعد عمرو ابنته الزباء واسمها نائلة، وقال في ذلك القعقاع بن الدرماء
الكلبي:
أتعرف منزلا بين المنقي ... وبين مجر نائلة القديم
وكان جنود الزباء بقايا من العماليق والعاربة الأولى، وتزيد وسليح ابني حلوان ابن
عمران بن الحاف بن قضاعة، ومن كان معهم من قبائل قضاعه، وكانت للزباء أخت يقال لها
زبيبة، فبنت لها قصرا حصينا على شاطئ الفرات الغربي، وكانت تشتو عند أختها، وتربع
ببطن النجار، وتصير إلى تدمر فلما أن استجمع لها أمرها، واستحكم لها ملكها، اجمعت
لغزو جذيمة الأبرش تطلب بثأر أبيها، فقالت لها أختها زبيبة- وكانت ذات رأي ودهاء
وأرب:
يا زباء، إنك إن غزوت جذيمة فإنما هو يوم له ما بعده، إن ظفرت أصبت ثارك، وإن قتلت
ذهب ملكك، والحرب سجال، وعثراتها لا تستقال، وإن كعبك لم يزل ساميا على من ناواك
وساماك، ولم تري بؤسا ولا غيرا، ولا تدرين لمن تكون العاقبة، وعلى من تكون
الدائرة! فقالت لها الزباء: قد أديت النصيحه، وأحسنت الروية، وإن الرأي ما رأيت،
والقول ما قلت.
فانصرفت عما كانت أجمعت عليه من غزو جذيمة، ورفضت ذلك، وأتت
(1/618)
أمرها من وجوه الختل والخدع
والمكر فكتبت إلى جذيمة تدعوه إلى نفسها وملكها، وأن يصل بلاده ببلادها وكان فيما
كتبت به: إنها لم تجد ملك النساء إلا إلي قبيح في السماع، وضعف في السلطان، وقلة
ضبط المملكة، وإنها لم تجد لملكها موضعا، ولا لنفسها كفئا غيرك، فأقبل إلى، فاجمع
ملكي إلى ملكك، وصل بلادي ببلادك، وتقلد أمري مع أمرك.
فلما انتهي كتاب الزباء إلى جذيمة، وقدم عليه رسلها استخفه ما دعته اليه، ورغب
فيما أطمعته فيه، وجمع إليه أهل الحجى والنهى، من ثقات أصحابه، وهو بالبقة من شاطئ
الفرات، فعرض عليهم ما دعته اليه الزباء، وعرضته عليه، واستشارهم في أمره، فأجمع
رأيهم على أن يسير إليها، ويستولي على ملكها وكان فيهم رجل يقال له قصير بن سعد بن
عمر بن جذيمة بن قيس بن ربي بن نمارة بن لخم وكان سعد تزوج أمة لجذيمة، فولدت له
قصيرا، وكان أريبا حازما، أثيرا عند جذيمة، ناصحا، فخالفهم فيما أشاروا به عليه،
وقال: رأي فاتر، وغدر حاضر، فذهبت مثلا فرادوه الكلام ونازعوه الرأي، فقال: إني
لأرى أمرا ليس بالخسا ولا الزكا، فذهبت مثلا وقال لجذيمة: أكتب إليها، فإن كانت
صادقة فلتقبل إليك، وإلا لم تمكنها من نفسك، ولم تقع في حبالها، وقد وترتها، وقتلت
أباها فلم يوافق جذيمة ما أشار به عليه قصير، فقال قصير:
إني امرؤ لا يميل العجز ترويتى ... إذا أتت دون شيء مرة الوذم
فقال جذيمة: لا ولكنك امرؤ رأيك في الكن لا في الضح، فذهبت مثلا فدعا جذيمة ابن
أخته عمرو بن عدي فاستشاره، فشجعه على المسير،
(1/619)
وقال: إن نمارة قومي مع
الزباء، ولو قدروا لصاروا معك، فأطاعه وعصي قصيرا، فقال قصير: لا يطاع لقصير أمر،
وفي ذلك يقول نهشل بن حرى ابن ضمرة بن جابر التميمي:
ومولى عصاني واستبد برأيه ... كما لم يطع بالبقتين قصير
فلما راى ما غب أمري وأمره ... وولت بأعجاز الأمور صدور
تمنى نئيشا أن يكون أطاعني ... وقد حدثت بعد الأمور أمور
وقالت العرب: ببقة أبرم الأمر، فذهبت مثلا، واستخلف جذيمة عمرو بن عدي على ملكه
وسلطانه، وجعل عمرو بن عبد الجن الجرمي معه على خيوله، وسار في وجوه أصحابه، فأخذ
على الفرات من الجانب الغربي.
فلما نزل الفرضة دعا قصيرا، فقال: ما الرأي؟ قَالَ: ببقة تركت الرأي، فذهبت مثلا،
واستقبلته رسل الزباء بالهدايا والألطاف، فقال: يا قصير، كيف ترى؟ قَالَ: خطر يسير
في خطب كبير، فذهبت مثلا، وستلقاك الخيول، فإن سارت أمامك فإن المرأة صادقة، وإن
أخذت جنبيك وأحاطت بك من خلفك، فإن القوم غادرون، فاركب العصا- وكانت فرسا لجذيمة
لا تجارى- فإني راكبها ومسايرك عليها فلقيته الخيول والكتائب، فحالت بينه وبين
العصا، فركبها قصير، ونظر إليه جذيمة موليا على متنها، فقال: ويل أمه حزما على ظهر
العصا!، فذهبت مثلا، فقال: يا ضل ما تجري به العصا! وجرت به إلى غروب الشمس ثم
نفقت، وقد قطعت أرضا بعيدة، فبنى عليها برجا يقال له برج العصا وقالت العرب:
خير ما جاءت به العصا، مثل تضربه وسار جذيمة، وقد أحاطت به الخيول، حتى دخل على
الزباء، فلما
(1/620)
/ رأته تكشفت فإذا هي مضفورة الأسب، فقالت: يا جذيمة ادأب عروس ترى!، فذهبت مثلا، فقال: بلغ المدى، وجف الثرى، وأمر غدر أرى، فقالت: أما وإلهي ما بنا من عدم مواس، ولا قلة أواس، ولكنه شيمة ما أناس فذهبت مثلا، وقالت: إني أنبئت أن دماء الملوك شفاء من الكلب، ثم أجلسته على نطع، وأمرت بطست من ذهب، فأعدته له وسقته من الخمر حتى أخذت مأخذها منه، وأمرت براهشيه فقطعا، وقدمت إليه الطست، وقد قيل لها: إن قطر من دمه شيء في غير الطست طلب بدمه- وكانت الملوك لا تقتل بضرب الأعناق إلا في قتال، تكرمه للملك- فلما ضعفت يداه سقطتا، فقطر من دمه في غير الطست، فقالت: لا تضيعوا دم الملك، فقال جذيمة: دعوا دما ضيعه اهله، فذهبت مثلا، فهلك جذيمة واستبقت الزباء دمه، فجعلته في برس قطن في ربعة لها، وخرج قصير من الحي الذي هلكت العصا بين أظهرهم، حتى قدم على عمرو ابن عدي وهو بالحيرة، فقال له قصير: أداثر أم ثائر، قال: لا، بل ثائر سائر، فذهبت مثلا، ووافق قصير الناس وقد اختلفوا، فصارت طائفة منهم مع عمرو بن عبد الجن الجرمي، وجماعة منهم مع عمرو بن عدي، فاختلف بينهما قصير حتى اصطلحا، وانقاد عمرو بن عبد الجن لعمرو بن عدي، ومال إليه الناس، فقال عمرو بن عدي في ذلك:
(1/621)
دعوت ابن عبد الجن للسلم بعد
ما ... تتايع في غرب السفاه وكلسما
فلما ارعوى عن صدنا باعترامه ... مريت هواه مرى آم روائما
فقال عمرو بن عبد الجن مجيبا له:
أما ودماء مائرات تخالها ... على قلة العزى او النسر عند ما
وما قدس الرهبان في كل هيكل ... أبيل الابيلين المسيح بن مريما
- قَالَ: هكذا وجد الشعر ليس بتام، وكان ينبغي أن يكون البيت الثالث:
لقد كان كذا وكذا-- فقال قصير لعمرو بن عدى: تهيأ واستعد، ولا تطل دم خالك.
قَالَ: وكيف لي بها وهي أمنع من عقاب الجو؟ فذهبت مثلا، وكانت الزباء سألت كاهنة
لها عن أمرها وملكها، فقالت: أرى هلاكك بسبب غلام مهين، غير أمين، وهو عمرو بن
عدي، ولن تموتي بيده، ولكن حتفك بيدك، ومن قبله ما يكون ذلك فحذرت عمرا، واتخذت
نفقا من مجلسها الذي كانت تجلس فيه إلي حصن لها داخل مدينتها، وقالت: ان فجأني أمر
دخلت النفق إلي حصني ودعت رجلا مصورا أجود أهل بلادها تصويرا، وأحسنهم عملا لذلك،
فجهزته وأحسنت إليه، وقالت له: سر حتى تقدم على عمرو بن عدي متنكرا، فتخلو بحشمه،
وتنضم إليهم، وتخالطهم وتعلمهم ما عندك من العلم بالصور والثقافة له، ثم أثبت عمرو
بن عدي معرفة، وصوره جالسا وقائما، وراكبا ومتفضلا، ومتسلحا بهيئته ولبسته وثيابه
ولونه، فإذا أحكمت ذلك، فأقبل إلي.
فانطلق المصور حتى قدم على عمرو، وصنع الذي أمرته به الزباء، وبلغ ما أوصته به، ثم
رجع إليها بعلم ما وجهته له من الصور على ما وصفت له، وأرادت أن تعرف عمرو بن عدي،
فلا تراه على حال إلا عرفته وحذرته،
(1/622)
وعلمت علمه فقال قصير لعمرو بن
عدي: اجدع أنفي واضرب ظهري، ودعني وإياها فقال عمرو: ما أنا بفاعل وما أنت لذلك
بمستحق مني! فقال قصير: خل عني إذا وخلاك ذم، فذهبت مثلا.
قَالَ ابن الكلبي: كان أبو الزباء اتخذ النفق لها ولأختها، وكان الحصن لأختها في
داخل مدينتها، قَالَ: فقال له عمرو، فأنت أبصر، فجدع قصير أنفه، وأثر بظهره، فقالت
العرب: لمكر ما جدع أنفه قصير، وفي ذلك يقول المتلمس:
ومن حذر الأوتار ما حز أنفه ... قصير وخاض الموت بالسيف بيهس
ويروى: ورام الموت وقال عدي بن زيد:
كَقَصِيرٍ إِذْ لَمْ يَجِدْ غَيْرَ أَنْ ... جَدَّعَ أَشْرَافَهُ لِشُكْرِ قَصِيرُ
فلما أن جدع قصير أنفه وأثر تلك الآثار بظهره، خرج كأنه هارب، وأظهر أن عمرا فعل
به ذلك، وأنه يزعم أنه مكر بخاله جذيمة، وغره من الزباء، فسار قصير حتى قدم على
الزباء، فقيل لها: إن قصيرا بالباب، فأمرت به فأدخل عليها، فإذا أنفه قد جدع،
وظهره قد ضرب، فقالت:
ما الذي أرى بك يا قصير؟ فقال: زعم عمرو بن عدي أني غررت خاله، وزينت له السير
إليك، وغششته ومالأتك عليه، ففعل بي ما ترين! فأقبلت إليك، وعرفت أني لا أكون مع
أحد هو أثقل عليه منك فألطفته وأكرمته، وأصابت عنده بعض ما أرادت من الحزم والرأي
والتجربة والمعرفة بامور الملوك،
(1/623)
فلما عرفت أنها قد استرسلت
إليه، ووثقت به، قَالَ لها: إن لي بالعراق أموالا كثيرة، وبها طرائف وثياب وعطر،
فابعثيني إلى العراق لأحمل مالي وأحمل إليك من بزوزها وطرائف ثيابها، وصنوف ما
يكون بها من الأمتعة والطيب والتجارات، فتصيبين في ذلك أرباحا عظاما، وبعض ما لا
غنى بالملوك عنه، فإنه لا طرائف كطرائف العراق! فلم يزل يزين لها ذلك حتى سرحته،
ودفعت معه عيرا، فقالت: انطلق إلى العراق، فبع بها ما جهزناك به، وابتع لنا من
طرائف ما يكون بها من الثياب وغيرها فسار قصير بما دفعت إليه حتى قدم العراق، وأتى
الحيرة متنكرا، فدخل على عمرو بن عدي، فأخبره بالخبر، وقال: جهزني بالبز والطرف
والأمتعة، لعل الله يمكن من الزباء فتصيب ثارك، تقتل عدوك فأعطاه حاجته، وجهزه
بصنوف الثياب وغيرها، فرجع بذلك كله إلى الزباء، فعرضه عليها، فأعجبها ما رأت،
وسرها ما أتاها به، وازدادت به ثقة، وإليه طمأنينة، ثم جهزته بعد ذلك بأكثر مما
جهزته في المرة الأولى، فسار حتى قدم العراق، ولقي عمرو بن عدي، وحمل من عنده ما
ظن أنه موافق للزباء، ولم يترك جهدا، ولم يدع طرفة ولا متاعا قدر عليه إلا حمله
إليها ثم عاد الثالثة إلى العراق فأخبر عمرا الخبر، وقال: اجمع لي ثقات أصحابك
وجندك، وهيئ لهم الغرائر والمسوح- قَالَ ابن الكلبي: وقصير أول من عمل الغرائر-
واحمل كل رجلين على بعير في غرارتين، واجعل معقد رءوس الغرائر من باطنها، فإذا
دخلوا مدينة الزباء أقمتك على باب نفقها، وخرجت الرجال من الغرائر، فصاحوا بأهل
المدينة فمن قاتلهم قتلوه، وإن أقبلت الزباء تريد النفق جللتها بالسيف.
ففعل عمرو بن عدي، وحمل الرجال في الغرائر على ما وصف له قصير، ثم وجه الإبل إلى
الزباء عليها الرجال وأسلحتهم، فلما كانوا قريبا من مدينتها، تقدم قصير إليها،
فبشرها وأعلمها كثرة ما حمل إليها من الثياب والطرائف، وسألها أن تخرج فتنظر إلى
قطرات تلك الإبل، وما عليها من الأحمال، فإني
(1/624)
جئت بما صاء وصمت فذهبت مثلا
وقال ابن الكلبي: وكان قصير يكمن النهار ويسير الليل وهو أول من كمن النهار وسار
الليل: فخرجت الزباء فأبصرت الإبل تكاد قوائمها تسوخ في الأرض من ثقل أحمالها،
فقالت:
يا قصير:
ما للجمال مشيها وئيدا! ... أجندلا يحملن أم حديدا!
أم صرفانا باردا شديدا!
فدخلت الإبل المدينة، حتى كان آخرها بعيرا مر على بواب المدينة وهو نبطى بيده
منخسة، فنخس بها الغرائر التي تليه، فتصيب خاصرة الرجل الذي فيها، فضرط فقال
البواب بالنبطية بشتابسقا يعني بقوله:
بشتابسقا: في الجوالق شر وأرعب قلبا، فذهبت مثلا، فلما توسطت الإبل المدينة أنيخت،
ودل قصير عمرا على باب النفق قبل ذلك، وأراه إياه، وخرجت الرجال من الغرائر،
وصاحوا: بأهل المدينة! ووضعوا فيهم السلاح، وقام عمرو بن عدي على باب النفق،
وأقبلت الزباء مولية مبادرة تريد النفق لتدخله، وأبصرت عمرا قائما، فعرفته بالصورة
التي كان صورها لها المصور فمصت خاتمها، وكان فيها سم- وقالت: بيدي لا بيدك يا
عمرو، فذهبت مثلا، وتلقاها عمرو بن عدي، فجللها بالسيف فقتلها، وأصاب ما أصاب من
أهل المدينة، وانكفأ راجعا إلى العراق، فقال عدي بن زيد في أمر جذيمة وقصير
والزباء وقتل عمرو بن عدي إياها قصيدته:
أبدلت المنازل أم عفينا ... تقادم عهدها أم قد بلينا
إلى آخرها.
وقال المخبل، وهو ربيعة بن عوف السعدي:
يا عمرو إني قد هويت جماعكم ... ولكل من يهوى الجماع فراق
(1/625)
بل كم رأيت الدهر زايل بينه
... من لا يزايل بينه الأخلاق
طابت به الزباء وقد جعلت لها ... دورا ومشربة لها أنفاق
حملت لها عمرا ولا بخشونة ... من آل دومة رسلة معناق
حتى تفرعها بأبيض صارم ... عضب يلوح كأنه مخراق
وأبو حذيفة يوم ضاق بجمعه ... شعب الغبيط فحومة فأفاق
وله معد والعباد وطيّئ ... ومن الجنود كتائب ورفاق
يهب النجائب والنزائع حوله ... جردا كأن متونها الإطلاق
فآتت عليه ساعة ما إن له ... مما أفاء ولا أفاد عتاق
فكأن ذلك يوم حم قضاؤه ... رفد أميل إناؤه مهراق
وقال بعض شعراء العرب:
نحن قتلنا فقحلا وابن راعن ... ونحن ختنا نبت زبا بمنجل
فلما أتتها العير قالت أبارد ... من التمر هذا أم حديد وجندل
وقال عبد باجر- واسمه بهرا من العرب العاربة، وهم عشرة أحياء: عاد، وثمود،
والعماليق، وطسم، وجديس، واميم، والمود، وجرهم، ويقطن، والسلف قَالَ: والسلف دخل
في حمير-:
(1/626)
لا ركبت رجلك من بين الدلي ...
لقد ركبت مركبا غير الوطي
على العراقي بصفا من الطوي ... إن كنت غضبي فاغضبي على الركي
وعاتبي القيم عمرو بن عدي.
فصار الملك بعد جذيمة لابن أخته عمرو بن عدي بن نصر بن ربيعة بن الحارث بن مالك بن
عمرو بن نمارة بن لخم، وهو أول من اتخذ الحيرة منزلا من ملوك العرب، وأول من مجده
أهل الحيرة في كتبهم من ملوك العرب بالعراق، وإليه ينسبون، وهم ملوك آل نصر، فلم
يزل عمرو بن عدي ملكا حتى مات وهو ابن مائة وعشرين سنة، منفردا بملكه، مستبدا
بأمره، يغزو المغازي ويصيب الغنائم، وتفد عليه الوفود دهره الأطول، لا يدين لملوك
الطوائف بالعراق، ولا يدينون له، حتى قدم أردشير بن بابك في أهل فارس.
وإنما ذكرنا في هذا الموضع ما ذكرنا من أمر جذيمة وابن أخته عمرو بن عدي لما كنا
قدمنا من ذكر ملوك اليمن، إنه لم يكن لملكهم نظام، وأن الرئيس منهم إنما كان ملكا
على مخلافه ومحجره، لا يجاوز ذلك، فإن نزع منهم نازع، أو نبغ منهم نابغ فتجاوز
ذلك- وإن بعدت مسافة سيره من مخلافه- فإنما ذلك منه عن غير ملك له موطد، ولا
لآبائه، ولا لأبنائه، ولكن كالذي يكون من بعض من يشرد من المتلصصة، فيغير على
الناحية باستغفاله أهلها، فإذا قصده الطلب لم يكن له ثبات، فكذلك كان أمر ملوك
اليمن، كان الواحد منهم بعد الواحد يخرج عن مخلافه ومحجره أحيانا فيصيب مما يمر به
ثم يتشمر عند خوف الطلب، راجعا إلى موضعه ومخلافه، من غير أن يدين له أحد من غير
أهل مخلافه بالطاعة، أو يؤدي إليه خرجا، حتى كان عمرو
(1/627)
ابن عدي الذي ذكرنا أمره، وهو
ابن أخت جذيمة الذي اقتصصنا خبره، فإنه اتصل له ولعقبه ولأسبابه الملك على ما كان
بنواحي العراق وبادية الحجاز من العرب باستعمال ملوك فارس إياهم على ذلك،
واستكفائهم أمر من وليهم من العرب، إلى أن قتل أبرويز بن هرمز النعمان بن المنذر،
ونقل ما كانت ملوك فارس يجعلونه إليهم إلى غيرهم، فذكرنا ما ذكرنا من امر جذيمة
وعمرو ابن عدي من أجل ذلك، إذ كنا نريد أن نسوق تمام التاريخ على ملك ملوك فارس،
ونستشهد على صحة ما روي من أمرهم بما وجدنا إلى الاستشهاد به عليها سبيلا وكان أمر
آل نصر بن ربيعة ومن كان من ولاة ملوك الفرس وعمالهم على ثغر العرب الذين هم
ببادية العراق عند أهل الحيرة متعالما مثبتا عندهم في كنائسهم وأسفارهم.
وقد حدثت عن هشام بن مُحَمَّد الكلبي إنه قَالَ: إني كنت استخرج أخبار العرب
وأنساب آل نصر بن ربيعة، ومبالغ أعمار من عمل منهم لآل كسرى وتاريخ سنيهم من بيع
الحيرة، وفيها ملكهم وأمورهم كلها.
فأما ابن حميد، فإنه حَدَّثَنَا في أمر ولد نصر بن ربيعة ومصيرهم إلى أرض العراق
غير الذي ذكره هشام، والذي حَدَّثَنَا به من ذلك عن سلمة، عن ابن إسحاق، عن بعض
أهل العلم: أن ربيعة بن نصر اللخمي رأى رؤيا نذكرها بعد- عند ذكر أمر الحبشة،
وغلبتهم على اليمن وتعبير سطيح وشق وجوابهما عن رؤياه- ثم ذكر في خبره ذلك أن
ربيعة بن نصر لما فرغ من مسألة سطيح وشق وجوابهما إياه، وقع في نفسه أن الذي قالا
له كائن من أمر الحبشة، فجهز بنيه وأهل بيته إلى العراق بما يصلحهم، وكتب لهم إلى
ملك من ملوك فارس يقال له سابور بن خرزاذ، فأسكنهم الحيرة قال: فمن بقية ربيعه ابن
نصر كان النعمان ملك حيرة، وهو النعمان بن المنذر بن النعمان بن المنذر ابن عمرو
بن عدي بن ربيعة بن نصر ذلك الملك في نسب أهل اليمن وعلمهم
(1/628)
ذكر طسم وجديس
قَالَ أبو جعفر: ونذكر الآن أمر طسم وجديس إذ كان أمرهم أيضا كان في أيام ملوك
الطوائف، وإن فناء جديس كان على يد حسان بن تبع، إذ كنا قدمنا فيما مضى ذكر تبايعه
حمير، الذين كانوا على عهد ملوك فارس.
وحدثت عن هشام بن مُحَمَّد وحَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق
وغيرهما من علماء العرب، أن طسما وجديسا كانوا من ساكني اليمامة، وهي إذ ذاك من
أخصب البلاد وأعمرها وأكثرها خيرا، لهم فيها صنوف الثمار ومعجبات الحدائق والقصور
الشامخة، وكان عليهم ملك من طسم ظلوم غشوم، لا ينهاه شيء عن هواه، يقال له عملوق،
مضرا بجديس، مستذلا لهم،.
وكان مما لقوا من ظلمه واستذلاله، انه امر بالا تهدى بكر من جديس إلى زوجها حتى
تدخل عليه فيفترعها، فقال رجل من جديس، يقال له الأسود بن غفار لرؤساء قومه: قد
ترون ما نحن فيه من العار والذل الذي ينبغي للكلاب أن تعافه وتمتعض منه، فأطيعوني
فإني أدعوكم إلى عز الدهر، ونفي الذل قَالُوا: وما ذاك؟ قَالَ: إني صانع للملك
ولقومه طعاما، فإذا جاءوا نهضنا إليهم بأسيافنا وانفردت به فقتلته، وأجهز كل رجل
منكم على جليسه، فأجابوه إلى ذلك، وأجمع رأيهم عليه فأعد طعاما، وأمر قومه فانتضوا
سيوفهم ودفنوها في الرمل، وقال: إذا أتاكم القوم يرفلون في حللهم، فخذوا سيوفهم،
ثم شدوا عليهم قبل أن يأخذوا مجالسهم، ثم اقتلوا الرؤساء، فإنكم إذا قتلتموهم لم
تكن السفلة شيئا، وحضر الملك فقتل وقتل الرؤساء، فشدوا على العامة منهم، فأفنوهم،
فهرب رجل من طسم يقال له رياح بن مرة، حتى أتى حسان بن تبع، فاستغاث به، فخرج حسان
في حمير،
(1/629)
فلما كان من اليمامة على ثلاث،
قَالَ له رياح: أبيت اللعن! إن لي أختا متزوجة في جديس، يقال لها: اليمامة، ليس
على وجه الأرض أبصر منها، إنها لتبصر الراكب من مسيرة ثلاث، وإني أخاف أن تنذر
القوم بك، فمر أصحابك، فليقطع كل رجل منهم شجرة فليجعلها أمامه ويسير وهي في يده،
فأمرهم حسان بذلك، ففعلوا، ثم سار فنظرت اليمامة، فأبصرتهم، فقالت لجديس: لقد سارت
حمير فقالوا: وما الذي ترين؟ قالت: أرى رجلا في شجرة، معه كتف يتعرقها، أو نعل
يخصفها فكذبوها، وكان ذلك كما قالت، وصبحهم حسان فأبادهم وأخرب بلادهم وهدم قصورهم
وحصونهم.
وكانت اليمامه تسمى إذ ذاك جوا والقرية، وأتي حسان باليمامة ابنة مرة، فأمر بها
ففقئت عيناها، فإذا فيها عروق سود، فقال لها: ما هذا السواد في عروق عينيك؟ قالت:
حجير أسود يقال له الإثمد، كنت أكتحل به.
وكانت فيما ذكروا أول من اكتحل بالإثمد، فأمر حسان بأن تسمى جو اليمامة.
وقد قالت الشعراء من العرب في حسان ومسيره هذا، فمن ذلك قول الأعشى:
كوني كمثل الذي إذ غاب وافدها ... أهدت له من بعيد نظرة جزعا
ما نظرت ذات أشفار كنظرتها ... حقا كما صدق الذئبي إذ سجعا
إذ قلبت مقلة ليست بمقرفة ... إذ يرفع الآل رأس الكلب فارتفعا
(1/630)
قالت أرى رجلا في كفه كتف ...
أو يخصف النعل، لهفى أية صنعا!
فكذبوها بما قالت فصبحهم ... ذو آل حسان يزجي الموت والشرعا
فاستنزلوا أهل جو من مساكنهم ... وهدموا شاخص البنيان فاتضعا
ومن ذلك قول النمر بن تولب العكلي:
هلا سألت بعادياء وبيته ... والخل والخمر التي لم تمنع
وفتاتهم عنز عشية آنست ... من بعد مرأى في الفضاء ومسمع
قالت أرى رجلا يقلب كفه ... أصلا وجو آمن لم يفزع
ورأت مقدمة الخميس وقبله ... رقص الركاب إلى الصياح بتبع
فكأن صالح أهل جو غدوة ... صبحوا بذيفان السمام المنقع
كانوا كأنعم من رأيت فأصبحوا ... يلوون زاد الراكب المتمتع
قالت يمامة احملوني قائما ... إن تبعثوه باركا بي أصرع
وحسان بن تبع، الذي أوقع بجديس، هو ذو معاهر، وهو تبع بن تبع تبان أسعد أبي كرب بن
ملكيكرب بن تبع بن أقرن، وهو أبو تبع بن حسان الذي يزعم أهل اليمن أنه قدم مكة،
وكسا الكعبة، وأن الشعب من المطابخ إنما سمي هذا الاسم لنصبه المطابخ في ذلك
الموضع وإطعامه الناس، وإن أجيادا إنما سمي أجيادا، لأن خيله كانت هنالك، وإنه قدم
يثرب فنزل منزلا يقال له منزل الملك اليوم، وقتل من اليهود مقتلة عظيمة بسبب شكاية
من شكاهم إليه من الأوس والخزرج بسوء الجوار، وإنه وجه ابنه حسان الى السند
(1/631)
وسمرا ذا الجناح إلى خراسان،
وأمرهما أن يستبقا إلى الصين، فمر سمر بسمرقند فأقام عليها حتى افتتحها، وقتل
مقاتلتها، وسبى وحوى ما فيها ونفذ إلى الصين، فوافي حسان بها، فمن أهل اليمن من
يزعم أنهما ماتا هنالك، ومنهم من يزعم أنهما انصرفا إلى تبع بالأموال والغنائم.
ومما كان في أيام ملوك الطوائف ما ذكره الله عز وجل في كتابه من أمر الفتية الذين
أووا إلى الكهف فضرب على آذانهم
(1/632)
الجزء الثاني
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ذكر الخبر عن أصحاب الكهف
وكان أصحاب الكهف فتية آمنوا بربهم، كما وصفهم الله عز وجل به من صفتهم في القرآن
المجيد، فقال لنبيه محمد ص:
«أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا
عَجَباً» .
والرقيم هو الكتاب الذي كان القوم الذين منهم كان الفتية، كتبوه في لوح بذكر خبرهم
وقصصهم، ثم جعلوه على باب الكهف الذي أووا إليه، أو نقروه في الجبل الذي أووا
إليه، أو كتبوه في لوح وجعلوه في صندوق خلفوه عندهم، إِذْ أَوَى الفتاه إِلَى
الْكَهْفِ.
وكان عدد الفتيه- فيما ذكر ابْنِ عَبَّاسٍ- سبعة، وثامنهم كلبهم.
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حدثنا
إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس: «ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ» ،
قال: أَنَا مِنَ الْقَلِيلِ، كَانُوا سَبْعَةً.
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قال: حدثنا يزيد، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ،
قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقُولُ: أَنَا مِنْ أُولَئِكَ
الْقَلِيلِ الَّذِينَ اسْتَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى، كَانُوا سَبْعَةً وَثامِنُهُمْ
كَلْبُهُمْ
(2/5)
قَالَ: وَكَانَ اسْمُ
أَحَدِهِمْ- وَهُوَ الَّذِي كَانَ يلى شرا الطَّعَامِ لَهُمْ، الَّذِي ذَكَرَهُ
اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ قالوا اذهبوا مِنْ رَقْدَتِهِمْ: «فَابْعَثُوا
أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى
طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ» .
حَدَّثَنِي عبد الله بن مُحَمَّد الزهري، قَالَ: حَدَّثَنَا سفيان، عن مقاتل:
«فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ» - اسمه يمنيخ.
وَأَمَّا ابْنُ إِسْحَاقَ فَإِنَّهُ قَالَ- فِيمَا حَدَّثَنَا به ابن حميد- قَالَ:
حَدَّثَنَا سلمة، عنه: اسمه يمليخا.
وكان ابن إسحاق يقول: كان عدد الفتية ثمانية، فعلى قوله كان كلبهم تاسعهم وكان-
فيما حَدَّثَنَا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق- يسميهم فيقول:
كان أحدهم- وهو أكبرهم والذي كلم الملك عن سائرهم- مكسملينا، والآخر محسملينا،
والثالث يمليخا، والرابع مرطوس، والخامس كسوطونس، والسادس بيرونس، والسابع رسمونس،
والثامن بطونس، والتاسع قالوس وكانوا أحداثا.
وقد حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد
الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، قَالَ: لقد حدثت أنه كان على بعضهم من حداثة أسنانهم
وضح الورق وكانوا من قوم يعبدون الأوثان من الروم، فهداهم الله للإسلام، وكانت
شريعتهم شريعة عيسى في قول جماعة من سلف علمائنا
(2/6)
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ،
قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ بشير، قال: حدثنا عمرو- يعنى ابْنُ قَيْسٍ
الْمُلَائِيُّ- فِي قَوْلِهِ: «أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ» ، كانت
الفتيه على دين عيسى بن مريم ص عَلَى الإِسْلَامِ، وَكَانَ مَلِكُهُمْ كَافِرًا
وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَزْعُمُ أَنَّ أَمْرَهُمْ وَمَصِيرَهُمْ إِلَى الْكَهْفِ
كَانَ قَبْلَ الْمَسِيحِ، وَإِنَّ الْمَسِيحَ أَخْبَرَ قَوْمَهُ خَبَرَهُمْ،
فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ابْتَعَثَهُمْ مِنْ رَقْدَتِهِمْ بَعْدَ مَا رَفَعَ
الْمَسِيحَ، فِي الْفَتْرَةِ بَيْنَهُ وبين محمد ص، وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَيَّ
ذَلِكَ كَانَ.
فَأَمَّا الَّذِي عَلَيْهِ عُلَمَاءُ أَهْلِ الإِسْلَامِ فَعَلَى أَنَّ أَمْرَهُمْ
كَانَ بَعْدَ الْمَسِيحِ.
فَأَمَّا أَنَّهُ كَانَ فِي أَيَّامِ مُلُوكِ الطَّوَائِفِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا
لا يَدْفَعُهُ دَافِعٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِأَخْبَارِ النَّاسِ الْقَدِيمَةِ.
وَكَانَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ مَلِكٌ يُقَالُ لَهُ: دقْيَنُوسُ، يَعْبُدُ
الأَصْنَامَ- فِيمَا ذُكِرَ عَنْهُ- فَبَلَغَهُ عَنِ الْفِتْيَةِ خِلافُهُمْ
إِيَّاهُ فِي دِينِهِ، فَطَلَبَهُمْ فَهَرَبُوا مِنْهُ بِدِينِهِمْ، حَتَّى
صَارُوا إِلَى جَبَلٍ لَهُمْ يُقَالُ لَهُ- فِيمَا حَدَّثَنَا ابن حميد، قال:
حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- نيحلوس.
وَكَانَ سَبَبُ إِيمَانِهِمْ وَخِلافِهِمْ بِهِ قَوْمَهُمْ- فِيمَا حَدَّثَنَا
الحسن بن يحيى، قال: حدثنا عبد الرزاق، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، قَالَ:
أَخْبَرَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ سَدُوسٍ، - إِنَّهُ سَمِعَ وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ
يَقُولُ: جاء حوارى عيسى بن مَرْيَمَ إِلَى مَدِينَةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ،
فَأَرَادَ أَنْ يَدْخُلَهَا، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ عَلَى بَابِهَا صَنَمًا لا
يَدْخُلُهَا أَحَدٌ إِلَّا سَجَدَ لَهُ، فَكَرِهَ أَنْ يَدْخُلَهَا، فَأَتَى
حَمَّامًا، وَكَانَ فِيهِ قَرِيبًا مِنْ تِلْكَ الْمَدِينَةِ، فَكَانَ يَعْمَلُ
فِيهِ، يُؤَاجِرُ نَفْسَهُ مِنْ صَاحِبِ الْحَمَّامِ.
وَرَأَى صَاحِبُ الْحَمَّامِ في حمامه البركه، ودر عليه الرزق، فجعل يعرض عليه
الاسلام وَجَعَلَ يَسْتَرْسِلُ إِلَيْهِ وَعَلِقَهُ فِتْيَةٌ مِنْ أَهْلِ
الْمَدِينَةِ وَجَعَلَ يُخْبِرُهُمْ
(2/7)
خَبَرَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ
وَخَبَرَ الآخِرَةِ، حَتَّى آمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ، وَكَانُوا عَلَى مِثْلِ
حَالِهِ فِي حُسْنِ الْهَيْئَةِ، وَكَانَ يَشْرُطُ عَلَى صَاحِبِ الْحَمَّامِ
أَنَّ اللَّيْلَ لِي، لا تَحُولُ بَيْنِي وَبَيْنَ الصَّلاةِ إِذَا حَضَرَتْ
فَكَانَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى جَاءَ ابْنُ الْمَلِكِ بِامْرَأَةٍ، فَدَخَلَ بِهَا
الْحَمَّامَ، فَعَيَّرَهُ الْحَوَارِيُّ، فَقَالَ: أَنْتَ ابْنُ الْمَلَكِ
وَتَدْخُلُ ومعك هذه الكذا! فاستحيا، فَذَهَبَ فَرَجَعَ مَرَّةً أُخْرَى، فَقَالَ
لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَسَبَّهُ وَانْتَهَرَهُ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ حَتَّى دَخَلَ،
وَدَخَلَتْ مَعَهُ الْمَرْأَةُ فَمَاتَا فِي الْحَمَّامِ جَمِيعًا، فَأُتِيَ
الْمَلِكُ فَقِيلَ لَهُ: قَتَلَ صَاحِبُ الْحَمَّامِ ابْنَكَ.
فَالْتُمِسَ فَلَمْ يُقْدَرْ عَلَيْهِ فَهَرَبَ قَالَ مَنْ كَانَ يَصْحَبُهُ:
فَسَمُّوا الْفِتْيَةَ، فَالْتُمِسُوا فَخَرَجُوا مِنَ الْمَدِينَةِ، فَمَرُّوا
بِصَاحِبٍ لَهُمْ فِي زَرْعٍ لَهُ، وَهُوَ عَلَى مِثْلِ أَمْرِهِمْ فَذَكَرُوا
أَنَّهُمُ الْتُمِسُوا، وَانْطَلَقَ مَعَهُمْ وَمَعَهُ الْكَلْبُ، حَتَّى آوَاهُمُ
الليل الى الكهف، فدخلوه فقالوا: نبيت هاهنا اللَّيْلَةَ ثُمَّ نُصْبِحُ إِنْ
شَاءَ اللَّهُ، فَتَرَوْنَ رَأْيَكُمْ فَضُرِبَ عَلى آذَانِهِمْ، فَخَرَجَ
الْمَلِكُ فِي أَصْحَابِهِ يَتْبَعُونَهُمْ، حَتَّى وَجَدُوهُمْ قَدْ دَخَلُوا الْكَهْفَ،
فَكُلَّمَا أَرَادَ رَجُلٌ أَنْ يَدْخُلَ أُرْعِبَ، فَلَمْ يُطِقْ أَحَدٌ أَنْ
يَدْخُلَ، فَقَالَ قَائِلٌ: أَلَيْسَ لَوْ كُنْتَ قَدَرْتَ عَلَيْهِمْ
قَتَلْتَهُمْ؟ قَالَ:
بَلَى، قَالَ: فَابْنِ عَلَيْهِمْ بَابَ الْكَهْفِ، فَدَعْهُمْ فِيهِ يموتوا
عَطَشًا وَجُوعًا.
فَفَعَلَ فَغَبَرُوا- بَعْدَ مَا بُنِيَ عَلَيْهِمْ بَابُ الْكَهْفِ- زَمَانًا
بَعْدَ زَمَانٍ.
ثُمَّ إِنَّ رَاعِيًا أَدْرَكَهُ الْمَطَرُ عِنْدَ الْكَهْفِ، فَقَالَ: لَوْ
فَتَحْتُ هَذَا الْكَهْفَ فَأَدْخَلْتُهُ غَنَمِي مِنَ الْمَطَرِ! فَلَمْ يَزَلْ
يُعَالِجُهُ حَتَّى فَتَحَ مَا أَدْخَلَ فِيهِ، وَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِمْ
أَرْوَاحَهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ مِنَ الْغَدِ حِينَ أَصْبَحُوا، فَبَعَثُوا
أَحَدَهُمْ بِوَرِقٍ يَشْتَرِي لَهُمْ طَعَامًا، فَكُلَّمَا أَتَى بَابَ
مَدِينَتِهِمْ رَأَى شَيْئًا يُنْكِرُهُ، حَتَّى دَخَلَ عَلَى رَجُلٍ، فَقَالَ:
بِعْنِي بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ طَعَامًا، قَالَ: وَمِنْ أَيْنَ لَكَ هَذِهِ
الدَّرَاهِمُ! قَالَ:
خَرَجْتُ وَأَصْحَابٌ لِي أَمْسِ، فَآوَانَا اللَّيْلُ حَتَّى أَصْبَحُوا،
فأرسلوني، فقال:
(2/8)
هَذِهِ الدَّرَاهِمُ كَانَتْ
عَلَى عَهْدِ الْمَلِكِ فُلَانٍ فَأَنَّى لَكَ بِهَا! فَرَفَعَهُ إِلَى الْمَلِكِ-
وَكَانَ مَلِكًا صَالِحًا- فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ لَكَ هَذِهِ الْوَرِقُ؟ قَالَ:
خَرَجْتُ أَنَا وَأَصْحَابٌ لِي أَمْسِ حَتَّى أَدْرَكَنَا اللَّيْلُ فِي كَهْفِ
كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ أَمَرُونِي أَنْ أَشْتَرِيَ لَهُمْ طَعَامًا قَالَ: وَأَيْنَ
أَصْحَابُكَ؟ قَالَ: فِي الْكَهْفِ، قَالَ:
فَانْطَلَقُوا مَعَهُ حَتَّى أَتَوْا بَابَ الْكَهْفِ، فَقَالَ: دَعُونِي أَدْخُلُ
إِلَى أَصْحَابِي قَبْلَكُمْ، فَلَمَّا رَأَوْهُ وَدَنَا مِنْهُمْ ضُرِبَ عَلَى
أُذُنِهِ وَآذَانِهِمْ، فَجَعَلُوا كُلَّمَا دَخَلَ رَجُلٌ أُرْعِبَ، فَلَمْ
يَقْدِرُوا عَلَى أَنْ يَدْخُلُوا إِلَيْهِمْ، فَبَنَوْا عِنْدَهُمْ كَنِيسَةً،
وَاتَّخَذُوهَا مَسْجِدًا يُصَلُّونَ فِيهِ.
حَدَّثَنَا الحسن بن يحيى، قَالَ: حَدَّثَنَا عبد الرزاق، قَالَ: أخبرنا معمر، عن
قتادة، عن عكرمة، قَالَ: كان أصحاب الكهف أبناء ملوك الروم، رزقهم الله الإسلام،
فتفردوا بدينهم، واعتزلوا قومهم، حتى انتهوا إلى الكهف، فضرب الله على سمخانهم
فلبثوا دهرا طويلا، حتى هلكت أمتهم، وجاءت أمة مسلمة، وكان ملكهم مسلما، واختلفوا
في الروح والجسد، فقال قائل: تبعث الروح والجسد جميعا، وقال قائل: تبعث الروح،
وأما الجسد فتأكله الأرض، فلا يكون شيئا فشق على ملكهم اختلافهم، فانطلق فلبس
المسوح، وجلس على الرماد، ثم دعا الله عز وجل، فقال: يا رب، قد ترى اختلاف هؤلاء،
فابعث لهم ما يبين لهم، فبعث الله أصحاب الكهف، فبعثوا أحدهم يشتري لهم طعاما،
فدخل السوق، فجعل ينكر الوجوه ويعرف الطرق، ويرى الإيمان بالمدينة ظاهرا، فانطلق
وهو مستخف، حتى أتى رجلا يشتري منه طعاما، فلما نظر الرجل إلى الورق أنكرها-
قَالَ: حسبت أنه قَالَ: كأنها أخفاف الربع- يعني الإبل الصغار- قَالَ له الفتي:
أليس ملككم فلان؟ قَالَ: بل ملكنا فلان، فلم يزل ذلك بينهما حتى رفعه إلى الملك،
فسأله فأخبره الفتى خبر أصحابه، فبعث الملك في الناس، فجمعهم فقال: إنكم قد
اختلفتم في الروح والجسد،
(2/9)
وإن الله عز وجل قد بعث لكم
آية، فهذا رجل من قوم فلان- يعني ملكهم الذي مضي- فقال الفتى: انطلقوا بي إلى
أصحابي، فركب الملك، وركب معه الناس، حتى انتهى إلى الكهف، فقال الفتى: دعوني أدخل
إلى أصحابي، فلما أبصرهم ضرب الله على أذنه وعلى آذانهم، فلما استبطئوه دخل الملك
ودخل الناس معه، فإذا أجساد لا ينكرون منها شيئا غير أنها لا أرواح فيها.
فقال الملك: هذه آية بعثها الله لكم.
قَالَ قتادة: وغزا ابْنُ عَبَّاسٍ مع حبيب بن مسلمة، فمروا بالكهف، فإذا فيه عظام،
فقال رجل: هذه عظام أصحاب الكهف، فقال ابْنُ عَبَّاسٍ:
لقد ذهبت عظامهم منذ اكثر من ثلاثمائة سنة.
قَالَ أبو جعفر: فكان منهم:
(2/10)
يونس بن متى
- فكان فيما ذكر- من أهل قرية من قرى الموصل يقال لها: نينوى، وكان قومه يعبدون
الأصنام، فبعث الله إليهم يونس بالنهي عن عبادتها، والأمر بالتوبة إلى الله من
كفرهم، والأمر بالتوحيد فكان من أمره وأمر الذين بعث إليهم ما قصه الله في كتابه،
فقال عز وجل: «فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا
قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ
الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ» وقال: «وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ
مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا
إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنا
لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ» .
وقد اختلف السلف من علماء أمة نبينا محمد ص في ذهابه لربه مغاضبا وظنه أن لن يقدر
عليه، وفي حين ذلك.
فقال بعضهم: كان ذلك منه قبل دعائه القوم الذين أرسل إليهم، وقبل إبلاغه إياهم
رسالة ربه، وذلك أن القوم الذين أرسل إليهم لما حضرهم عذاب الله أمر بالمصير
إليهم، ليعلمهم ما قد أظلهم من ذلك، لينيبوا مما هم عليه مقيمون مما يسخطه الله،
فاستنظر ربه المصير إليهم، فلم ينظره، فغضب لاستعجال الله إياه للنفوذ لأمره وترك
إنظاره
(2/11)
ذكر من قَالَ ذلك:
حدثني الحارث، قَالَ: حَدَّثَنَا الحسن الأشيب، قَالَ: سمعت أبا هلال مُحَمَّد بن
سليم، قَالَ: حَدَّثَنَا شهر بن حوشب، قال: أتاه جبريل ع- يعني يونس- وقال: انطلق
إلى أهل نينوى، فأنذرهم أن العذاب قد حضرهم قَالَ: ألتمس دابة، قَالَ: الأمر أعجل
من ذلك، قَالَ:
ألتمس حذاء، قَالَ: الأمر أعجل من ذلك، قَالَ: فغضب، فانطلق إلى السفينة فركب،
فلما ركب احتبست السفينة لا تقدم ولا تأخر قَالَ:
فساهموا قَالَ: فسهم، فجاء الحوت يبصبص بذنبه، فنودي الحوت:
أيا حوت، إنا لم نجعل يونس لك رزقا، إنما جعلناك له حرزا ومسجدا، فالتقمه الحوت،
فانطلق به من ذلك المكان حتى مر به على الأيلة، ثم انطلق حتى مر به على دجلة، ثم
انطلق به حتى ألقاه في نينوى.
حدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا أَبُو هِلالٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: إِنَّمَا كَانَتْ
رِسَالَةُ يُونُسَ بَعْدَ مَا نَبَذَهُ الْحُوتُ.
وَقَالَ آخَرُونَ: كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ بَعْدَ دُعَائِهِ مَنْ أُرْسِلَ اليهم
إِلَى مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِدُعَائِهِمْ إِلَيْهِ، وَتَبْلِيغِهِ إِيَّاهُمْ
رِسَالَةَ رَبِّهِ، وَلَكِنَّهُ وَعَدَهُمْ نُزُولَ مَا كَانَ حَذَّرَهُمْ مِنْ
بَأْسِ اللَّهِ فِي وَقْتٍ وَقَّتَهُ لَهُمْ، فَفَارَقَهُمْ إِذْ لَمْ يَتُوبُوا
وَلَمْ يُرَاجِعُوا طَاعَةَ اللَّهِ وَالإِيمَانَ، فَلَمَّا أَظَلَّ الْقَوْمَ
عَذَابُ اللَّهِ، فَغَشِيَهُمْ- كَمَا وَصَفَ اللَّهُ فِي تَنْزِيلِهِ- تَابُوا
إِلَى اللَّهِ، فَرَفَعَ اللَّهُ عَنْهُمُ الْعَذَابَ، وَبَلَغَ يُونُسَ
سَلامَتُهُمْ وَارْتِفَاعُ الْعَذَابِ الَّذِي كَانَ وَعَدَهُمُوهُ، فَغَضِبَ مِنْ
ذَلِكَ، وَقَالَ: وَعَدْتُهُمْ وَعْدًا، فَكَذَبَ وَعْدِيَ! فَذَهَبَ مُغَاضِبًا
رَبَّهُ، وَكَرِهَ الرُّجُوعَ إِلَيْهِمْ وَقَدْ جَرَّبُوا عَلَيْهِ الْكَذِبَ
(2/12)
ذكر بعض من قَالَ ذلك:
حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ
يَزِيدَ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ سَعِيدِ
بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى- يَعْنِي
يُونُسَ- إِلَى أَهْلِ قَرْيَتِهِ، فَرَدُّوا عَلَيْهِ مَا جَاءَهَمْ بِهِ،
وَامْتَنَعُوا مِنْهُ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: أَنِّي
مُرْسِلٌ عَلَيْهِمُ الْعَذَابَ فِي يَوْمِ كَذَا وَكَذَا، فَاخْرُجْ مِنْ بَيْنَ
أَظْهُرِهِمْ فَأَعْلَمَ قَوْمَهُ الَّذِي وَعَدَهُمُ اللَّهُ مِنْ عَذَابِهِ
إِيَّاهُمْ، فَقَالُوا: ارْمِقُوهُ، فَإِنْ هُوَ خَرَجَ مِنْ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ
فَهُوَ وَاللَّهِ كَائِنٌ مَا وَعَدَكُمْ فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي
وُعِدُوا العذاب في صبيحتها ادلج وراءه الْقَوْمُ، فَحَذِرُوا فَخَرَجُوا مِنَ
الْقَرْيَةِ إِلَى بَرَازٍ مِنْ أَرْضِهِمْ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ كُلِّ دَابَّةٍ
وَوَلَدِهَا، ثُمَّ عَجُّوا إِلَى اللَّهِ وَاسْتَقَالُوهُ فَأَقَالَهُمْ
وَتَنَظَّرَ يُونُسُ الْخَبَرَ عَنِ الْقَرْيَةِ وَأَهْلِهَا حَتَّى مَرَّ بِهِ
مَارٌّ، فَقَالَ: مَا فَعَلَ أَهْلُ الْقَرْيَةِ؟ فقال: فَعَلُوا أَنَّ
نَبِيَّهُمْ لَمَّا خَرَجَ مِنْ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ عَرَفُوا أَنَّهُ صَدَقَهُمْ
مَا وَعَدَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ، فَخَرَجُوا مِنْ قَرْيَتِهِمْ إِلَى بَرَازٍ مِنَ
الأَرْضِ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ كُلِّ ذَاتِ وَلَدٍ وَوَلَدِهَا، ثُمَّ عَجُّوا
إِلَى اللَّهِ وَتَابُوا إِلَيْهِ، فَقَبِلَ مِنْهُمْ، وَأَخَّرَ عَنْهُمُ
الْعَذَابَ قَالَ: فَقَالَ يُونُسُ عِنْدَ ذَلِكَ وَغَضِبَ: وَاللَّهِ لا أَرْجِعُ
إِلَيْهِمْ كَذَّابًا أَبَدًا، وَعَدْتُهُمُ الْعَذَابَ فِي يَوْمٍ، ثُمَّ رُدَّ
عَنْهُمْ! وَمَضَى عَلَى وَجْهِهِ مُغَاضِبًا لِرَبِّهِ فَاسْتَزَلَّهُ الشَّيْطَانُ.
حَدَّثَنِي المثنى بن إبراهيم، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ الْحَجَّاجِ،
قَالَ:
حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن انس، قَالَ:
حَدَّثَنَا رجل قد قرأ القرآن في صدره في إمارة عمر بن الخطاب، فحدث عن قوم يونس
حيث أنذر قومه فكذبوه، فأخبرهم أنه مصيبهم العذاب وفارقهم، فلما رأوا ذلك وغشيهم
العذاب، لكنهم خرجوا من مساكنهم، وصعدوا
(2/13)
في مكان رفيع، وإنهم جأروا إلى
ربهم، ودعوه مخلصين له الدين أن يكشف عنهم العذاب، وأن يرجع إليهم رسولهم، قَالَ:
ففي ذلك أنزل الله تعالي:
«فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ
لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ» .
فلم يكن قرية غشيها العذاب ثم أمسك عنها إلا قوم يونس خاصة، فلما رأى ذلك يونس،
لكنه ذهب عاتبا على ربه، وانطلق مغاضبا، وظن أن لن يقدر عليه، حتى ركب سفينة،
فأصاب أهلها عاصف من الريح فقالوا:
هذه بخطيئة أحدكم وقال يونس- وقد عرف أنه هو صاحب الذنب: هذه بخطيئتي، فألقوني في
البحر وإنهم أبوا عليه حتى أفاضوا بسهامهم، «فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ
» ، فقال لهم: قد أخبرتكم أن هذا الأمر بذنبي وإنهم أبوا عليه أن يلقوه في البحر،
حتى أفاضوا بسهامهم الثانية، «فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ
» فقال لهم: قد أخبرتكم أن هذا الأمر بذنبي، وإنهم أبوا عليه أن يلقوه في البحر
حتى أفاضوا بسهامهم الثالثة، «فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ
» فلما رأى ذلك ألقى نفسه في البحر، وذلك تحت الليل، فابتلعه الحوت «فَنادى فِي
الظُّلُماتِ» - وعرف الخطيئة- «أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي
كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ» وكان قد سبق له من العمل الصالح، فأنزل الله فيه فقال:
«فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ
يُبْعَثُونَ» ، وذلك أن العمل الصالح يرفع صاحبه إذا عثر، «فَنَبَذْناهُ
بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ» وألقي على ساحل البحر، وأنبت الله عليه شجرة من
يقطين- وهي فيما ذكر- شجرة القرع يتقطر عليه
(2/14)
من اللبن، حتى رجعت إليه قوته
ثم رجع ذات يوم إلى الشجرة فوجدها قد يبست، فحزن وبكى عليها، فعوتب فقيل له: أحزنت
على شجرة، وبكيت عليها ولم تحزن على مائة ألف أو زيادة أردت هلاكهم جميعا! ثم إن
الله اجتباه من الضلالة، فجعله من الصالحين، ثم أمر أن يأتي قومه ويخبرهم أن الله
قد تاب عليهم فعمد إليهم، حتى لقي راعيا، فسأله عن قوم يونس وعن حالهم، وكيف هم؟
فأخبره أنهم بخير، وأنهم على رجاء أن يرجع إليهم رسولهم، فقال له: فأخبرهم أني قد
لقيت يونس.
فقال: لا أستطيع إلا بشاهد، فسمى له عنزا من غنمه، فقال: هذه تشهد لك أنك قد لقيت
يونس، قَالَ: وماذا؟ قَالَ: وهذه البقعة التي أنت فيها تشهد لك أنك قد لقيت يونس
قَالَ: وماذا؟ قَالَ: وهذه الشجرة تشهد لك أنك قد لقيت يونس وإنه رجع الراعي إلى
قومه فاخبرهم انه لقى يونس فكذبوه وهموا به شرا، فقال: لا تعجلوا علي حتى أصبح،
فلما أصبح غدا بهم إلى البقعة التي لقى فيها يونس فاستنطقها، فاخبرته أنه لقي
يونس، وسأل العنز، فأخبرتهم أنه لقي يونس، واستنطقوا الشجرة، فأخبرتهم أنه قد لقي
يونس ثم إن يونس أتاهم بعد ذلك قَالَ:
«وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ
إِلى حِينٍ» .
حَدَّثَنِي الحسين بن عمرو بن مُحَمَّد العنقزي، قَالَ: حَدَّثَنَا أبي، عن
إسرائيل، عن أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ الأَوْدِيِّ، قَالَ:
حَدَّثَنَا ابن مسعود في بيت المال، قَالَ: إن يونس كان وعد قومه العذاب، وأخبرهم
أنه يأتيهم إلى ثلاثة أيام، ففرقوا بين كل والدة وولدها، ثم خرجوا فجأروا إلى
الله، واستغفروه، فكف الله عنهم العذاب، وغدا يونس ينتظر العذاب، فلم ير شيئا،
وكان من كذب ولم يكن له بينه قتل
(2/15)
فانطلق مغاضبا «فَنادى فِي
الظُّلُماتِ» ، قَالَ: ظلمة بطن الحوت، وظلمة الليل، وظلمة البحر.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ،
عَمَّنْ حَدَّثَهُ عَنْ عَبْدِ الله بن رافع، مولى أم سلمه زوج النبي ص، قَالَ:
سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: [قَالَ رَسُولُ الله ص: لَمَّا أَرَادَ
اللَّهُ حَبْسَ يُونُسَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى الْحُوتِ أَنْ
خُذْهُ وَلا تَخْدِشْ لَهُ لَحْمًا، وَلا تَكْسِرْ عَظْمًا، فَأَخَذَهُ، ثُمَّ
هَوَى بِهِ إِلَى مَسْكَنِهِ مِنَ الْبَحْرِ.
فَلَمَّا انْتَهَى بِهِ إِلَى أَسْفَلِ الْبَحْرِ، سَمِعَ يُونُسُ حِسًّا، فَقَالَ
فِي نَفْسِهِ: مَا هَذَا؟
فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ: أَنَّ هَذَا تَسْبِيحُ
دَوَابِّ الْبَحْرِ قَالَ:
فَسَبَّحَ وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ، قَالَ: فَسَمِعَتِ الْمَلائِكَةُ
تَسْبِيحَهُ، فَقَالُوا: يَا رَبَّنَا، إِنَّا لَنَسْمَعُ صَوْتًا ضَعِيفًا
بِأَرْضٍ غَرِيبَةٍ قَالَ: ذَلِكَ عَبْدِي يُونُسُ، عَصَانِي فَحَبَسْتُهُ فِي
بَطْنِ الْحُوتِ فِي الْبَحْرِ، قَالُوا: الْعَبْدُ الصَّالِحُ الَّذِي كَانَ
يَصْعَدُ إِلَيْكَ مِنْهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ عَمَلٌ صَالِحٌ! قَالَ:
نَعَمْ، قَالَ: فَشَفَعُوا لَهُ عِنْدَ ذَلِكَ فَأَمَرَ الْحُوتَ، فَقَذَفَهُ فِي
السَّاحِلِ كَمَا قال الله: «وَهُوَ سَقِيمٌ» ، وَكَانَ سُقْمُهُ الَّذِي وَصَفَهُ
اللَّهُ بِهِ، أَنَّهُ أَلْقَاهُ الْحُوتُ عَلَى السَّاحِلِ كَالصَّبِيِّ
الْمَنْفُوسِ، قَدْ بشر اللَّحْمَ وَالْعَظْمَ] .
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يزيد ابن
زِيَادٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: خَرَجَ بِهِ- يَعْنِي الْحُوتَ- حَتَّى لَفَظَهُ فِي
سَاحِلِ الْبَحْرِ، فَطَرَحَهُ مِثْلَ الصَّبِيِّ الْمَنْفُوسِ، لَمْ يَنْقُصْ
مِنْ خَلْقِهِ شَيْءٌ.
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو
صخر،
(2/16)
قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ
قُسَيْطٍ إِنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: طُرِحَ بِالْعَرَاءِ،
فَأَنْبَتَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَقْطِينَةً، فَقُلْنَا: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، وَمَا
الْيَقْطِينَةُ؟ قَالَ: شَجَرَةُ الدُّبَّاءِ، هَيَّأَ اللَّهُ لَهُ أُرْوِيَّةً
وحشيه، تاكل من حشاش الأَرْضِ- أَوْ هَشَاشِ الأَرْضِ- فَتَفْشَحُ عَلَيْهِ،
فَتَرْوِيهِ مِنْ لَبَنِهَا كُلَّ عَشِيَّةٍ وَبُكْرَةٍ، حَتَّى نَبَتَ.
وَمِمَّا كَانَ أَيْضًا فِي أَيَّامِ مُلُوكِ الطَّوَائِفِ:
(2/17)
إرسال الله رسله الثلاثة
الذين ذكرهم في تنزيله، فقال: «وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ
إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما
فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ» ، الآيات التي ذكر
تعالي ذكره في خبرهم.
واختلف السلف في أمرهم، فقال بعضهم: كان هؤلاء الثلاثة- الذين ذكرهم الله في هذه
الآيات، وقص فيها خبرهم- أنبياء ورسلا أرسلهم إلى بعض ملوك الروم، وهو انطيخس،
والقرية التي كان فيها هذا الملك الذي أرسل الله إليه فيها هؤلاء الرسل إنطاكية.
ذِكْرُ من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، قَالَ: كان من حديث صاحب يس- فيما
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن إسحاق- قَالَ: مما بلغه عن كعب الأحبار، وعن وهب بن منبه
اليماني، انه كان رجلا من أهل إنطاكية، وكان اسمه حبيبا وكان يعمل الحرير، وكان
رجلا سقيما قد أسرع فيه الجذام، وكان منزله عند باب من أبواب المدينة قاصيا، وكان
مؤمنا ذا صدقة، يجمع كسبه إذا أمسى- فيما يذكرون- فيقسمه نصفين، فيطعم نصفا عياله،
ويتصدق بنصف، فلم يهمه سقمه ولا عمله ولا ضعفه حين طهر قلبه، واستقامت فطرته، وكان
بالمدينة التي هو بها، مدينة إنطاكية، فرعون من الفراعنة يقال له انطيخس بن انطيخس
بن انطيخس، يعبد الأصنام، صاحب شرك
(2/18)
فبعث الله المرسلين، وهم
ثلاثة: صادق وصدوق وشلوم، فقدم الله إليه وإلي أهل مدينته منهم اثنين، فكذبوهما،
ثم عزز الله بثالث.
وقال آخرون: بل كانوا من حواريي عيسى بن مريم، ولم يكونوا رسلا لله، وإنما كانوا
رسل عيسى بن مريم، ولكن ارسال عيسى بن مريم إياهم، لما كان عن أمر الله تعالى ذكره
إياه بذلك، أضيف إرساله إياهم إلى الله، فقيل:
«إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ» .
ذكر من قال ذلك:
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قوله: «وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ
الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ
فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ»
قال: ذكر لنا ان عيسى بن مريم بعث رجلين من الحواريين إلى إنطاكية، مدينة بالروم،
فَكَذَّبُوهُمَا، فَأعَزَّهُمَا بِثَالِثٍ، «فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ
مُرْسَلُونَ» ، الآية.
رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق، فلما دعته الرسل، ونادته بأمر الله، وصدعت بالذي
أمرت به، وعابت دينهم وما هم عليه، قال اصحاب القرية لهم: «إِنَّا تَطَيَّرْنا
بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا
عَذابٌ أَلِيمٌ» قالت لهم الرسل: «طائِرُكُمْ مَعَكُمْ» ، اى اعمالكم، «أَإِنْ
ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ» فلما أجمع هو وقومه على قتل الرسل
بلغ ذلك حبيبا، وهو على باب المدينة الأقصى، فجاء يسعى إليهم
(2/19)
يذكرهم الله، ويدعوهم إلى
اتباع المرسلين، فقال: «يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ.
اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ» أي لا يسألونكم
أموالكم على ما جاءوكم به من الهدى، وهم لكم ناصحون فاتبعوهم تهتدوا بهداهم.
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ: قال: حدثنا سعيد، عن
قتادة، قَالَ: لما انتهى- يعني حبيبا- إلى الرسل، قَالَ: هل تسألون على هذا من
أجر؟ قَالُوا: لا، فقال عند ذلك: «يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ.
اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ» .
رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق: ثم ناداهم بخلاف ما هم عليه من عبادة الأصنام،
وأظهر لهم دينه وعبادة ربه، وأخبرهم أنه لا يملك نفعه ولا ضره غيره، فقال: «وَما
لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.
أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً» الى قوله: «إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ
فَاسْمَعُونِ» .
أي آمنت بربكم، الذي كفرتم به، فاسمعوا قولي فلما قال لهم ذلك وثبوا عليه وثبة رجل
واحد فقتلوه، واستضعفوه لضعفه وسقمه، ولم يكن أحد يدفع عنه.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ إِسْحَاقَ،
عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يَقُولُ:
وَطَئُوهُ بِأَرْجُلِهِمْ، حَتَّى خَرَجَ قُصْبُهُ مِنْ دُبُرِهِ.
وقال الله له: ادخل الجنه، فَدَخَلَهَا حَيًّا يُرْزَقُ فِيهَا، قَدْ أَذْهَبَ
اللَّهُ عَنْهُ سَقَمَ الدُّنْيَا وَحَزَنَهَا وَنَصَبَهَا، فَلَمَّا أَفْضَى
إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ وَجَنَّتِهِ وَكَرَامَتِهِ، قَالَ: «يَا لَيْتَ قَوْمِي
يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ» وَغَضِبَ
اللَّهُ لَهُ لاسْتِضْعَافِهِمْ إِيَّاهُ غَضْبَةً لَمْ يَبْقَ مَعَهَا مِنَ
الْقَوْمِ شَيْئًا فَعَجَّلَ لَهُمُ النِّقْمَةَ بِمَا اسْتَحَلُّوا مِنْهُ وقال:
«وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما
كُنَّا مُنْزِلِينَ» ، يَقُولُ: مَا كَابَدْنَاهُمْ بِالْجُمُوعِ،
(2/20)
أَيِ الأَمْرُ أَيْسَرُ
عَلَيْنَا مِنْ ذَلِكَ «إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ
خامِدُونَ» فَأَهْلَكَ اللَّهُ ذَلِكَ الْمَلِكَ وَأَهْلَ أَنْطَاكِيَةَ،
فَبَادُوا عَنْ وَجْهِ الأَرْضِ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ بَاقِيَةٌ.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الحسن ابن
عُمَارَةَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، عَنْ مِقْسَمٍ أَبِي الْقَاسِمِ،
مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: كَانَ اسْمُ صَاحِبِ يس
حَبِيبًا، وَكَانَ الْجُذَامُ قَدْ أَسْرَعَ فِيهِ.
حَدَّثَنَا ابن بشار، قَالَ: حَدَّثَنَا مؤمل، قَالَ: حَدَّثَنَا سفيان، عن عاصم
الأحول، عن أبي مخلد، قَالَ: كان اسم صاحب يس حبيب بن مري.
وكان فيهم:
(2/21)
شمسون
وكان من أهل قرية من قرى الروم، قد هداه الله لرشده، وكان قومه أهل أوثان يعبدونها
فكان من خبره وخبرهم- فِيمَا ذُكِرَ- مَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا سلمة، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عن المغيرة بن أبي لبيد، عن وهب بن منبه
اليماني: أن شمسون كان فيهم رجلا مسلما، وكانت أمه قد جعلته نذيرة، وكان من أهل
قرية من قراهم، كانوا كفارا يعبدون الأصنام، وكان منزله منها على أميال غير كثيرة،
وكان يغزوهم وحده ويجاهدهم في الله، فيصيب منهم وفيهم حاجته، فيقتل ويسبي، ويصيب
المال، وكان إذا لقيهم لقيهم بلحي بعير لا يلقاهم بغيره، فإذا قاتلوه وقاتلهم،
وتعب وعطش انفجر له من الحجر الذى مع اللحي ماء عذب فيشرب منه حتى يروى، وكان قد
أعطي قوة في البطش، وكان لا يوثقه حديد ولا غيره، وكان على ذلك يجاهدهم في الله
ويغزوهم، ويصيب منهم حاجته، لا يقدرون منه على شيء، حتى قَالُوا: لن تأتوه إلا من
قبل امرأته، فدخلوا على امرأته، فجعلوا لها جعلا، فقالت: نعم أنا أوثقه لكم،
فأعطوها حبلا وثيقا، وقالوا: إذا نام فأوثقي يده إلى عنقه حتى نأتيه فنأخذه فلما
نام أوثقت يده إلى عنقه بذلك الحبل، فلما هب جذبه بيده، فوقع من عنقه، فقال لها:
لم فعلت؟ فقالت: أجرب به قوتك، ما رأيت مثلك قط! فأرسلت إليهم أني قد ربطته بالحبل
فلم أغن عنه شيئا، فأرسلوا إليها بجامعة من حديد، فقالوا: إذا نام فاجعليها في
عنقه، فلما نام جعلتها في عنقه، ثم أحكمتها، فلما هب جذبها، فوقعت من يده ومن
عنقه، فقال لها: لم فعلت هذا؟ قالت: أجرب به قوتك، ما رأيت مثلك في الدنيا يا
شمسون!
(2/22)
أما في الأرض شيء يغلبك!
قَالَ: لا، إلا شيء واحد، قالت: وما هو؟
قَالَ: ما أنا بمخبرك به، فلم تزل به تسأله عن ذلك- وكان ذا شعر كثير- فقال لها:
ويحك! إن أمي جعلتني نذيرة، فلا يغلبني شيء أبدا، ولا يضبطني إلا شعري فلما نام
أوثقت يده إلى عنقه بشعر رأسه، فأوثقه ذلك، وبعثت إلى القوم، فجاءوا فأخذوه،
فجدعوا أنفه وأذنيه، وفقئوا عينيه، ووقفوه للناس بين ظهراني المئذنة- وكانت مئذنة
ذات أساطين، وكان ملكهم قد أشرف عليها بالناس لينظروا إلى شمسون، وما يصنع به-
فدعا الله شمسون حين مثلوا به ووقفوه أن يسلطه عليهم، فأمر أن يأخذ بعمودين من عمد
المئذنة التي عليها الملك والناس الذين معه فيجذبهما، فجذبهما فرد الله عليه بصره
وما أصابوا من جسده، ووقعت المئذنة بالملك ومن عليها من الناس، فهلكوا فيها هدما
(2/23)
ذكر خبر جرجيس
وكان جرجيس- فيما ذكر- عبدا لله صالحا من أهل فلسطين، ممن ادرك بقايا من حواريي
عيسى بن مريم، وكان تاجرا يكسب بتجارته ما يستغني به عن الناس، ويعود بالفضل على
أهل المسكنة وإنه تجهز مرة إلى ملك بالموصل، كما حَدَّثَنَا ابن حميد، قال:
حَدَّثَنَا سلمة، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عن وهب بن منبه وغيره من أهل العلم: أنه
كان بالموصل داذانه، وكان قد ملك الشام كله، وكان جبارا عاتيا لا يطيقه إلا الله
تعالى وكان جرجيس رجلا صالحا من أهل فلسطين، وكان مؤمنا يكتم إيمانه في عصبة معه
صالحين، يستخفون بإيمانهم، وكانوا قد أدركوا بقايا من الحواريين فسمعوا منهم،
وأخذوا عنهم وكان جرجيس كثير المال، عظيم التجارة، عظيم الصدقة، فكان يأتي عليه
الزمان يتلف ماله في الصدقة حتى لا يبقى منه شيء، حتى يصير فقيرا، ثم يضرب الضربة
فيصيب مثل ماله أضعافا مضاعفة، فكانت هذه حاله في المال وكان إنما يرغب في المال،
ويعمره ويكسبه من أجل الصدقة، لولا ذلك كان الفقر أحب إليه من الغنى.
وكان لا يأمن ولاية المشركين عليه مخافة أن يؤذوه في دينه، أو يفتنوه عنه، فخرج
يؤم ملك الموصل، ومعه مال يريد أن يهديه له، لئلا يجعل لأحد من تلك الملوك عليه
سلطانا دونه، فجاءه حين جاءه، وقد برز في مجلس له، وعنده عظماء قومه وملوكهم، وقد
أوقد نارا، وقرب أصنافا من أصناف العذاب الذي كان يعذب به من خالفه، وقد أمر بصنم
يقال له:
أفلون فنصب، فالناس يعرضون عليه، فمن لم يسجد له ألقي في تلك النار، وعذب بأصناف
ذلك العذاب فلما رأى جرجيس ما يصنع فظع به
(2/24)
وأعظمه، وحدث نفسه بجهاده،
وألقى الله في نفسه بغضه ومحاربته، فعمد إلى المال الذي أراد أن يهديه له فقسمه في
أهل ملته حتى لم يبق منه شيئا، وكره أن يجاهده بالمال، وأحب أن يلي ذلك بنفسه،
فاقبل عليه عند ما كان أشد غضبا وأسفا، فقال له: اعلم أنك عبد مملوك لا تملك لنفسك
شيئا ولا لغيرك، وأن فوقك ربا هو الذي يملكك وغيرك، وهو الذي خلقك ورزقك، وهو الذي
يحييك ويميتك، ويضرك وينفعك، وأنت قد عمدت إلى خلق من خلقه- قَالَ له: كن فكان-
أصم أبكم، لا ينطق ولا يبصر ولا يسمع، ولا يضر ولا ينفع، ولا يغني عنك من الله
شيئا، فزينته بالذهب والفضة لتجعله فتنة للناس، ثم عبدته دون الله، وأجبرت عليه
عباد الله، ودعوته ربا.
فكلم الملك جرجيس بنحو هذا، من تعظيم الله وتمجيده، وتعريفه أمر الصنم، وأنه لا
تصلح عبادته فكان من جواب الملك إياه مسألته إياه عنه، ومن هو؟ ومن أين هو؟ فأجابه
جرجيس أن قَالَ: أنا عبد الله وابن عبده وابن أمته، أذل عباده وأفقرهم إليه، من
التراب خلقت، وفيه أصير وأخبره ما الذي جاء به وحاله وإنه دعا ذلك الملك جرجيس إلى
عبادة الله ورفض عبادة الأوثان وإن الملك دعا جرجيس إلى عبادة الصنم الذي يعبده،
وقال:
لو كان ربك الذي تزعم أنه ملك الملوك كما تقول، لرئى عليك أثره كما ترى أثري على
من حولي من ملوك قومي.
فأجابه جرجيس بتمجيد الله وتعظيم أمره وقال له- فيما قَالَ: أين تجعل طرقبلينا،
وما نال بولايتك، فإنه عظيم قومك، من إلياس، وما نال إلياس بولاية الله! فإن إلياس
كان بدؤه آدميا يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق، فلم تتناه به كرامة الله حتى أنبت
له الريش، وألبسه النور،
(2/25)
فصار إنسيا ملكيا، سمائيا
أرضيا، يطير مع الملائكة وحدثني: أين تجعل مجليطيس، وما نال بولايتك: فانه عظيم
قومك، من المسيح بن مريم وما نال بولاية الله! فإن الله فضله على رجال العالمين،
وجعله وأمه آية للمعتبرين.
ثم ذكر من أمر المسيح ما كان الله خصه به من الكرامة وقال أيضا: وحدثني:
أين تجعل أم هذا الروح الطيب التي اختارها الله لكلمته، وطهر جوفها لروحه، وسودها
على إمائه؟ فأين تجعلها وما نالت بولاية الله، من أزبيل وما نالت بولايتك؟ فإنها
إذ كانت من شيعتك وملتك أسلمها الله عند عظيم ملكها إلى نفسها، حتى اقتحمت عليها
الكلاب في بيتها، فانتهشت لحمها وولغت دمها، وجرت الثعالب والضباع أوصالها! فأين
تجعلها وما نالت بولايتك من مريم ابنة عمران وما نالت بولاية الله! فقال له الملك:
إنك لتحدثنا عن أشياء ليس لنا بها علم، فأتني بالرجلين اللذين ذكرت أمرهما، حتى
أنظر إليهما، وأعتبر بهما، فإني أنكر أن يكون هذا في البشر.
فقال له جرجيس: إنما جاءك الإنكار من قبل الغرة بالله، وأما الرجلان فلن تراهما
ولن يرياك، إلا أن تعمل بعملهما، فتنزل منازلهما.
فقال له الملك: أما نحن فقد أعذرنا إليك، وقد تبين لنا كذبك، لأنك فخرت بأمور عجزت
عنها، ولم تأت بتصديقها ثم خير الملك جرجيس بين العذاب وبين السجود لأفلُّون،
فيثيبه! فقال له جرجيس: إن كان أفلون هو الذي رفع السماء- وعدد عليه أشياء من قدرة
الله- فقد أصبت ونصحت لي، وإلا فاخسأ أيها النجس الملعون! فلما سمعه الملك يسبه
ويسب آلهته غضب من قوله غضبا شديدا، وأمر بخشبة فنصبت له للعذاب، وجعلت عليه أمشاط
الحديد، فخدش بها
(2/26)
جسده حتى تقطع لحمه وجلده
وعروقه، ينضح خلال ذلك بالخل والخردل.
فلما رأى ذلك لم يقتله، أمر بستة مسامير من حديد فأحميت حتى إذا جعلت نارا، أمر
بها فسمر بها رأسه حتى سال منه دماغه فلما رأى ذلك لم يقتله، أمر بحوض من نحاس،
فأوقد عليه حتى إذا جعله نارا أمر به فأدخل في جوفه، وأطبق عليه، فلم يزل فيه حتى
برد حره.
فلما رأى ذلك لم يقتله، دعا به فقال: ألم تجد ألم هذا العذاب الذي تعذب به! فقال
له جرجيس: أما أخبرتك أن لك ربا هو أولى بك من نفسك! قَالَ: بلى قد أخبرتني،
قَالَ: فهو الذي حمل عني عذابك، وصبرني ليحتج عليك فلما قَالَ له ذلك أيقن بالشر،
وخافه على نفسه وملكه، وأجمع رأيه على أن يخلده في السجن، فقال الملأ من قومه: إنك
إن تركته طليقا يكلم الناس أوشك أن يميل بهم عليك، ولكن مر له بعذاب في السجن
يشغله عن كلام الناس فأمر فبطح في السجن على وجهه، ثم أوتد في يديه ورجليه أربعة
أوتاد من حديد، في كل ركن منها وتد، ثم أمر بأسطوان من رخام، فوضع على ظهره حمل
ذلك الأسطوان سبعة رجال فلم يقلوه، ثم أربعة عشر رجلا فلم يقلوه، ثم ثمانية عشر
رجلا فأقلوه، فظل يومه ذلك موتدا تحت الحجر.
فلما أدركه الليل أرسل الله إليه ملكا- وذلك أول ما أيد بالملائكة، وأول ما جاءه
الوحي- فقلع عنه الحجر، ونزع الأوتاد من يديه ورجليه، وأطعمه وسقاه، وبشره وعزاه،
فلما أصبح أخرجه من السجن، وقال له:
الحق بعدوك فجاهده في الله حق جهاده، فإن الله يقول لك: أبشر واصبر، فإني أبتليك
بعدوي هذا سبع سنين، يعذبك ويقتلك فيهن أربع مرار، في كل ذلك أرد إليك روحك، فإذا
كانت القتلة الرابعة تقبلت روحك وأوفيتك أجرك فلم يشعر الآخرون إلا وقد وقف جرجيس
على رؤوسهم يدعوهم إلى الله.
فقال له الملك: أجرجيس! قَالَ: نعم، قَالَ: من أخرجك من السجن؟
(2/27)
قَالَ: أخرجني الذي سلطانه فوق
سلطانك فلما قَالَ له ذلك مليء غيظا، فدعا بأصناف العذاب حتى لم يخلف منها شيئا،
فلما رآها جرجيس تصنف له، أوجس في نفسه خيفة وجزعا، ثم أقبل على نفسه يعاتبها
بأعلى صوته، وهم يسمعون فلما فرغ من عتابه نفسه مدوه بين خشبتين، ووضعوا عليه سيفا
على مفرق راسه، فوشروه حتى سقط بين رجليه، وصار جزلتين، ثم عمدوا إلى جزلتيه،
فقطعوهما قطعا وله سبعة أسد ضارية في جب، وكانت صنفا من أصناف عذابه، ثم رموا
بجسده إليها، فلما هوى نحوها أمر الله الأسد فخضعت برءوسها وأعناقها، وقامت على
براثنها، لا تألو أن تقيه الأذى، فظل يومه ذلك ميتا، فكانت أول ميتة ذاقها فلما
أدركه الليل جمع الله له جسده الذي قطعوه بعضه على بعض، حتى سواه ثم رد فيه روحه
وأرسل ملكا فأخرجه من قعر الجب، وأطعمه وسقاه، وبشره وعزاه.
فلما أصبحوا قَالَ له الملك: يا جرجيس، قَالَ: لبيك! قَالَ: اعلم أن القدرة التي
خلق آدم بها من تراب هي التي أخرجتك من قعر الجب، فالحق بعدوك ثم جاهده في الله حق
جهاده، ومت موت الصابرين.
فلم يشعر الآخرون إلا وقد أقبل جرجيس، وهم عكوف على عيد لهم قد صنعوه فرحا- زعموا
بموت جرجيس- فلما نظروا إلى جرجيس مقبلا، قَالُوا:
ما أشبه هذا بجرجيس! قَالُوا: كأنه هو؟ قَالَ الملك: ما بجرجيس من خفاء، إنه لهو!
ألا ترون إلى سكون ريحه، وقلة هيبته قَالَ جرجيس: بلى، أنا هو حقا! بئس القوم
أنتم! قتلتم ومثلتم، فكان الله- وحق له- خيرا وأرحم منكم.
أحياني ورد علي روحي هلم إلى هذا الرب العظيم الذي أراكم ما أراكم.
فلما قَالَ لهم ذلك، أقبل بعضهم على بعض، فقالوا: ساحر سحر أيديكم وأعينكم عنه
فجمعوا له من كان ببلادهم من السحرة، فلما جاء السحرة، قَالَ الملك لكبيرهم: اعرض
علي من كبير سحرك ما تسرى به عني، قَالَ له:
ادع لي بثور من البقر، فلما أتي به نفث في إحدى أذنيه فانشقت باثنتين، ثم نفث في
الأخرى، فإذا هو ثوران، ثم أمر ببذر فحرث وبذر، ونبت
(2/28)
الزرع، وأينع وحصد، ثم داس
وذري، وطحن وعجن، وخبز وأكل ذلك في ساعة واحدة كما ترون! قَالَ له الملك: هل تقدر
على أن تمسخه لي دابة؟ قَالَ الساحر: أي دابة أمسخه لك؟ قَالَ: كلبا، قَالَ: ادع
لي بقدح من ماء، فلما أتي بالقدح نفث فيه الساحر، ثم قَالَ للملك: اعزم عليه أن
يشربه، فشربه جرجيس حتى أتى على آخره، فلما فرغ منه قَالَ له الساحر: ماذا تجد؟
قَالَ: ما أجد إلا خيرا، قد كنت عطشت فلطف الله لي بهذا الشراب، فقواني به عليكم
فلما قَالَ له ذلك أقبل الساحر على الملك فقال: اعلم أيها الملك، أنك لو كنت تقاسي
رجلا مثلك إذا كنت غلبته، ولكنك تقاسي جبار السموات، وهو الملك الذي لا يرام! وقد كانت
امرأة مسكينة، سمعت بجرجيس وما يصنع من الأعاجيب، فأتته وهو في أشد ما هو فيه من
البلاء، فقالت له: يا جرجيس، إني امرأة مسكينة، لم يكن لي مال ولا عيش إلا ثور كنت
أحرث عليه فمات، وجئتك لترحمني وتدعو الله أن يحيي لي ثوري فذرفت عيناه ثم دعا
الله أن يحيي لها ثورها، وأعطاها عصا، فقال: اذهبي إلى ثورك، فاقرعيه بهذه العصا
وقولي له: احي بإذن الله فقالت: يا جرجيس مات ثوري منذ أيام، وتفرقته السباع،
وبيني وبينك أيام، فقال: لو لم تجدي منه إلا سنا واحدة ثم قرعتها بالعصا لقام بإذن
الله فانطلقت حتى أتت مصرع ثورها، فكان أول شيء بدا لها من ثورها أحد روقيه وشعر
ذنبه، فجمعت أحدهما إلى الآخر، ثم قرعتهما بالعصا التي أعطاها، وقالت كما أمرها،
فعاش ثورها، وعملت عليه حتى جاءهم الخبر بذلك.
فلما قَالَ الساحر للملك ما قَالَ، قَالَ رجل من أصحاب الملك- وكان أعظمهم بعد
الملك: اسمعوا مني أيها القوم أحدثكم، قَالُوا: نعم، فتكلم، قَالَ: إنكم قد وضعتم
أمر هذا الرجل على السحر، وزعمتم أنه سحر أيديكم عنه وأعينكم فأراكم أنكم تعذبونه،
ولم يصل إليه عذابكم! وأراكم أنكم
(2/29)
قد قتلتموه فلم يمت، فهل رأيتم
ساحرا قط قدر أن يدرأ عن نفسه الموت، أو أحيا ميتا قط! ثم قص عليهم فعل جرجيس،
وفعلهم به، وفعله بالثور وصاحبته، واحتج عليهم بذلك كله، فقالوا له: إن كلامك
لكلام رجل قد أصغى إليه، قَالَ: ما زال أمره لي معجبا منذ رأيت منه ما رأيت،
قَالُوا له: فلعله استهواك! قَالَ: بل آمنت وأشهد الله أني بريء مما تعبدون فقام
إليه الملك وصحابته بالخناجر، فقطعوا لسانه، فلم يلبث أن مات، وقالوا:
أصابه الطاعون، فأعجله الله قبل أن يتكلم فلما سمع الناس بموته أفزعهم، وكتموا
شأنه، فلما رآهم جرجيس يكتمونه برز للناس، فكشف لهم أمره، وقص عليهم كلامه، فاتبعه
على كلامه أربعة آلاف وهو ميت، فقالوا: صدق، ونعم ما قَالَ! يرحمه الله! فعمد
إليهم الملك فأوثقهم، ثم لم يزل يلون لهم العذاب ويقتلهم بالمثلات.
حتى أفناهم.
فلما فرغ منهم أقبل على جرجيس، فقال له: هلا دعوت ربك.
فأحيا لك أصحابك، هؤلاء الذين قتلوا بجريرتك! فقال له جرجيس ما خلى بينك وبينهم
حتى خار لهم فقال رجل من عظمائهم يقال له مجليطيس:
إنك زعمت يا جرجيس أن الهك هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ،
وإني سائلك أمرا إن فعله إلهك آمنت بك وصدقتك، وكفيتك قومي هؤلاء، هذه تحتنا أربعة
عشر منبرا حيث ترى، ومائدة بيننا عليها أقداح وصحاف، وكل صنع من الخشب اليابس، ثم
هو من أشجار شتى، فادع ربك ينشئ هذه الآنية وهذه المنابر، وهذه المائدة، كما بدأها
أَوَّلَ مَرَّةٍ، * حتى تعود خضرا نعرف كل عود منها بلونه وورقه وزهره وثمره.
فقال له جرجيس: قد سألت أمرا عزيزا علي وعليك، وإنه على الله لهين فدعا ربه، فما برحوا
مكانهم حتى اخضرت تلك المنابر، وتلك الآنية كلها، فساخت عروقها، وألبست اللحاء،
وتشعبت، ونبت ورقها وزهرها وثمرها، حتى عرفوا كل عود منها باسمه ولونه وزهره
وثمره.
فلما نظروا إلى ذلك انتدب له مجليطيس، الذي تمنى عليه ما تمنى،
(2/30)
فقال: أنا أعذب لكم هذا الساحر
عذابا يضل عنه كيده فعمد إلى نحاس فصنع منه صورة ثور جوفاء واسعة، ثم حشاها نفطا
ورصاصا وكبريتا وزرنيخا، ثم أدخل جرجيس مع الحشو في جوفها، ثم أوقد تحت الصورة،
فلم يزل يوقد حتى التهبت الصورة، وذاب كل شيء فيها واختلط، ومات جرجيس في جوفها
فلما مات أرسل الله ريحا عاصفا، فملأت السماء سحابا أسود مظلما، فيه رعد لا يفتر،
وبرق وصواعق متداركات، وأرسل الله إعصارا فملأت بلادهم عجاجا وقتاما، حتى اسود ما
بين السماء والأرض وأظلم، ومكثوا أياما متحيرين في تلك الظلمة، لا يفصلون بين
الليل والنهار.
وأرسل الله ميكائيل فاحتمل الصورة التي فيها جرجيس، حتى إذا أقلها ضرب بها الأرض
ضربا، فزع من روعته أهل الشام أجمعون، وكلهم يسمعه في ساعة واحدة، فخروا لوجوههم
صعقين من شدة الهول، وانكسرت الصورة، فخرج منها جرجيس حيا، فلما وقف يكلمهم انكشفت
الظلمة، وأسفر ما بين السماء والأرض، ورجعت اليهم انفسهم فقال له رجل منهم يقال له
طرقبلينا: لا ندري يا جرجيس أنت تصنع هذه العجائب أم ربك؟
فإن كان هو الذي يصنعها، فادعه يحي لنا موتانا، فإن في هذه القبور التي ترى أمواتا
من أمواتنا، منهم من نعرف ومنهم من مات قبل زماننا، فادعه يحيهم حتى يعودوا كما
كانوا ونكلمهم، ونعرف من عرفنا منهم، ومن لا نعرف أخبرنا خبره فقال له جرجيس: لقد
علمت ما يصفح الله عنكم هذا الصفح، ويريكم هذه العجائب إلا ليتم عليكم حججه،
فتستوجبوا بذلك غضبه ثم أمر بالقبور فنبشت وهي عظام ورفات ورميم ثم أقبل على
الدعاء فما برحوا مكانهم، حتى نظروا إلى سبعة عشر إنسانا: تسعة رهط وخمس نسوة
وثلاثة صبية، فإذا شيخ منهم كبير، فقال له جرجيس:
أيها الشيخ، ما اسمك؟ فقال: اسمي يوبيل، فقال: متى مت؟ قَالَ:
في زمان كذا وكذا، فحسبوا فإذا هو قد مات منذ أربعمائة عام
(2/31)
فلما نظر إلى ذلك الملك
وصحابته، قَالُوا: لم يبق من أصناف عذابكم شيء إلا قد عذبتموه، إلا الجوع والعطش،
فعذبوه بهما فعمدوا إلى بيت عجوز كبيرة فقيرة، كان حريزا، وكان لها ابن أعمى أبكم
مقعد، فحصروه في بيتها فلا يصل إليه من عند أحد طعام ولا شراب فلما بلغه الجوع،
قَالَ للعجوز: هل عندك طعام أو شراب؟ قالت: لا والذي يحلف به، ما عهدنا بالطعام
منذ كذا وكذا،، وسأخرج وألتمس لك شيئا قَالَ لها جرجيس: هل تعرفين الله؟ قالت له:
نعم، قَالَ: فإياه تعبدين؟ قالت:
لا، قَالَ: فدعاها إلى الله فصدقته، وانطلقت تطلب له شيئا، وفي بيتها دعامة من
خشبة يابسة تحمل خشب البيت، فأقبل على الدعاء، فما كان كشيء حتى اخضرت تلك
الدعامة، فأنبتت كل فاكهة تؤكل أو تعرف، أو تسمى حتى كان فيما أنبتت اللياء
واللوبياء.
قال ابو جعفر: اللياء نبت بالشام له حب يؤكل وظهر للدعامة فرع من فوق البيت أظله
وما حوله وأقبلت العجوز، وهو فيما شاء يأكل رغدا، فلما رأت الذي حدث في بيتها من
بعدها، قالت: آمنت بالذي أطعمك في بيت الجوع، فادع هذا الرب العظيم ليشفي ابني،
قَالَ: أدنيه مني، فأدنته منه، فبصق في عينيه فأبصر، فنفث في أذنيه فسمع، قالت له:
أطلق لسانه ورجليه، رحمك الله! قَالَ: أخريه، فإن له يوما عظيما وخرج الملك يسير
في مدينته، فلما نظر إلى الشجرة، قَالَ لأصحابه: إني أرى شجرة بمكان ما كنت أعرفها
به، قَالُوا له: تلك الشجرة نبتت لذلك الساحر الذي أردت أن تعذبه بالجوع، فهو فيما
شاء قد شبع منها، وشبعت الفقيرة وشفى لها ابنها فأمر بالبيت فهدم، وبالشجرة لتقطع،
فلما هموا بقطعها أيبسها الله تعالى كما كانت أول مرة، فتركوها، وأمر بجرجيس فبطح
على
(2/32)
وجهه وأوتد له أربعة أوتاد،
وأمر بعجل فأوقر أسطوانا ما حمل، وجعل في أسفل العجل خناجر وشفارا، ثم دعا بأربعين
ثورا، فنهضت بالعجل نهضة واحدة، وجرجيس تحتها، فتقطع ثلاث قطع، ثم أمر بقطعة
فأحرقت بالنار، حتى إذا عادت رمادا بعث بذلك الرماد رجالا فذروه في البحر، فلم
يبرحوا مكانهم حتى سمعوا صوتا من السماء يقول: يا بحر، إن الله يأمرك أن تحفظ ما
فيك من هذا الجسد الطيب، فإني أريد أن أعيده كما كان ثم أرسل الله الرياح فأخرجته
من البحر، ثم جمعته حتى عاد الرماد صبرة كهيئته قبل أن يذروه، والذين ذروه قيام لم
يبرحوا ثم نظروا إلى الرماد يثور كما كان، حتى خرج منه جرجيس مغبرا ينفض رأسه،
فرجعوا، ورجع جرجيس معهم، فلما انتهوا إلى الملك أخبروه خبر الصوت الذي أحياه،
والريح التي جمعته فقال له الملك: هل لك يا جرجيس فيما هو خير لي ولك! فلولا أن
يقول الناس إنك قهرتني وغلبتني لاتبعتك وآمنت بك، ولكن اسجد لأفلُّون سجدة واحدة،
أو اذبح له شاة واحدة، ثم أنا أفعل ما يسرك.
فلما سمع جرجيس هذا من قوله طمع أن يهلك الصنم حين يدخله عليه، رجاء أن يؤمن له
الملك حين يهلك صنمه، وييئس منه، فخدعه جرجيس، فقال: نعم، إذا شئت فأدخلني على
صنمك أسجد له، وأذبح له، ففرح الملك بقوله، فقام إليه فقبل يديه ورجليه ورأسه،
وقال: إني أعزم عليك ألا تظل هذا اليوم، ولا تبيت هذه الليلة إلا في بيتي وعلى
فراشي، ومع أهلي حتى تستريح ويذهب عنك وصب العذاب، فيرى الناس كرامتك علي.
فأخلى له بيته، وأخرج منه من كان فيه فظل فيه جرجيس، حتى إذا أدركه الليل، قام
يصلي، ويقرأ الزبور- وكان أحسن الناس صوتا- فلما سمعته امرأة الملك استجابت له،
ولم يشعر إلا وهي خلفه تبكي معه، فدعاها =